الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني

الشوكاني

مقدمة

- أ - بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة بقلم فضيلة العلامة القاضي محمد بن إسماعيل العمراني الأستاذ في قسم الدراسات العليا بالمعهد العالي للقضاء والأستاذ بجامعة الإيمان بصنعاء وعضو هيئة الإفتاء بدار الإفتاء في الجمهورية اليمنية إن الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. (وبعد): فهذا كتاب (الفتح الرباني) قد جمع ما تفرق من رسائل وأبحاث وفتاوى شيخ الإسلام القاضي العلامة المجتهد المطلق (محمد بن علي الشوكاني) قدس الله روحه ونور ضريحه، وكان الذي تولى جمعها واهتم بالبحث عنها هو صاحب الفضيلة الشيخ العلامة أبو مصعب (محمد صبحي حسن حلاق) الذي أخرج هذه الرسائل والأبحاث والفتاوى من عالم المخطوطات المخزونة في بعض المكاتب اليمنية والهندية إلى عالم المطبوعات، حيث بقي زمنا طويلا ينقب عنها حتى استطاع بهمته ونشاطه أن يجمع مائتين وأربعة عشر رسالة من تراث الإمام الشوكاني رحمه الله، ثم يخرجها في اثني عشر مجلدا محققة مخرجة، مطبوعة طبعا جيدا، قد حوت أبحاثا لم يقف الكثير من الباحثين على أسمائها فضلا عن أن يقفوا على بعض

- ب - نسخها بل كان بعض ممن ألف عن الشوكاني يصرح بعدم وجود بعض أجزائها لا في اليمن ولا في غيرها من الأقطار، ولكن فضيلة الشيخ (أبو مصعب) حفظه الله بهمته القعساء استطاع العثور على ما لم يستطع أحد العثور عليه من كنوز علوم الشوكاني رحمه الله، ومن ذخائر هذا الإمام العظيم الذي اشتهرت مؤلفاته القيمة في مشارق الديار الإسلامية ومغاربها، ولا سيما بعد طبع ما تأخر من مؤلفاته التي لم تر النور إلا في آخر القرن العشرين حينما اهتم بعض علماء العصر بطبعها ونشرها وعلى رأسهم فضيلة الشيخ (أبو مصعب) حفظه الله ووفقه وكتب أجره وضاعف حسناته وزاده همة وعلما ونشاطا فوق همته وعلمه ونشاطه، وزاد في العلماء العاملين من أمثاله ولا زال رمزا للعلماء العاملين ومثلا عاليا من أمثلة الحب للعلم والعشق العظيم لنشر كنوز العلماء المجددين، وذخائر الأئمة المجتهدين رضي الله عنهم. فدونك أيها القارئ الكريم هذه المجلدات العظيمة التي لم تر النور إلا في هذا العام من هذا القرن والفضل في نشرها إلى الله عز وجل أولا، ثم إلى علامتنا (أبو مصعب) ثانيا فرضي الله عنه وجزاه الله خيرا. والله سبحانه وتعالى ولي الهداية والتوفيق وسبحانه وبحمده سبحان الله العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما كثيرا. كتبه محمد بن إسماعيل العمراني وحرر بتاريخ 17 صفر سنة 1422هـ الموافق 10 مايو سنة 2001 م

مقدمة بقلم فضيلة الدكتور: عبد الوهاب بن لطف الديلمي

- ج - بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة بقلم فضيلة الدكتور: عبد الوهاب بن لطف الديلمي عضو هيئة التدريس في جامعة صنعاء ومدير جامعة الإيمان الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فعلم من أعلام الإسلام -في اليمن- هو الإمام محمد بن علي الشوكاني، الذي كان بمنهجه، وسيرته، وجهوده في خدمة الإسلام، ومؤلفاته القيمة، وأفكاره التي عادت بصاحبها إلى ما كان عليه السلف الصالح، وتحرره من ربقة التقليد ودعوته الصادقة إلى العودة إلى منابع الإسلام: الكتاب والسنة كان حقا هذه وغيرها من مزاياه التي عرفها مجددا، خاصة في جو كان مليئا بالجهل والعصبية المذهبية. وقد ترك من ورائه ثروة علمية عظيمة في فنون كثيرة، ظهر بعضها منذ فترة من الزمن، وتبنت كثير من الجامعات الإسلامية تدريس بعض مؤلفاته لما وجدت فيها من الفوائد الجمة. ولعل الله سبحانه علم من إخلاص الرجل ودفاعه عن الإسلام، وصفاء فكره، ما كان سببا في أن هيأ سبحانه من عباده الذين جاؤوا من بعده، فاعتنوا بإخراج كتبه ونشرها لتعم بها الفائدة. وكنت قد سمعت منذ فترة من الزمن، أن بعض فتاوى الشوكاني فقدت حين

- د - وقعت في بعض أيدي الذين لا يروقهم فكر الشوكاني ولا منهجه ولا أسلوبه ولا عقيدته، وهم الذين يكثرون من التحامل عليه لا لشيء، إلا لأنه أراد لنفسه أن يخرج من طوق التقليد الخانق، الذي يئد الفكر والعقل معا، ودعا غيره كذلك إلى الخلاص من أغلال التبعية العمياء، ليدركوا بالفهم الصحيح حلاوة التعلق بنصوص الوحيين. ولكن الله عز وجل الذي أبى إلا أن ينتشر علم الشوكاني، وهو سبحانه الغالب على أمره، شاءت إرادته أن يقيض من ينقب عن مواطن هذه الرسائل التي فقدت، ويهيئ له أسباب العثور على نسخ أخرى منها، كما يهيئ له التمكن من تحقيقها وطبعها ونشرها، لتعم ها الفائدة وتقوم بما فيها من الخير الحجة، وقد كان أخونا الشيخ محمد صبحي حسن حلاق وقد عشت شيئا من الوقت في مطالعة بعض هذا الجهد المشكور والذي دل على عناء كبير وجهد غير يسير بذله أخونا في إخراج النص بتحقيق يشمل: 1 - العناية بإخراج النص الأصلي للرسائل. 2 - تحقيق الأحاديث قدر الإمكان. 3 - شرح الألفاظ الغريبة. 4 - ترجمة الأعلام والفرق والطوائف. . . 5 - إيضاح بعض الأمور المهمة في الرسائل بالرجوع إلى كلام أهل العلم إلى غير ذلك مما برز جليا في الجهد المبذول. ولم يسلم هذا الجهد من بعض الملاحظات التي لا يسلم منها بشر، وقد نبهت عليها أخانا المحقق لعله يستدرك ذلك بعناية تامة، تجنب الرسائل أي خلل قد يحدث مما هو غير متعمد، والكمال المطلق لله وحده.

- هـ - وكم كنت مسرورا بإخراج هذه الرسائل ونشرها, لما فيها من فوائد جمة يستفيد منها العلماء والباحثون والطلاب على حد ساء أسأل الله عز وجل أن يبارك في جهود أخينا المحقق وأن يجزل له المثوبة وأن ينفع بهذه الرسائل عامة المسلمين إنه ولي ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين. كتبه د/ عبد الوهاب لطف الديلمي 27/ 2/1422 هـ 20/ 5/2001م

كتاب الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني المتوفى سنة 1250هـ تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه وضبط نصه ورتبه وصنع فهارسه أبو مصعب محمد صبحي بن حسن حلاق القسم الأول المقدمة: (ص1 - 116) العقيدة: (ص117 - 1102) المجلد الأول

الإهداء

الإهداء إلى المصابيح المتألقة في سماء اليمن الذين ذللوا الصعاب، وصححوا الانحراف، ونفوا عنها زغل الجهل بالقوة والصمود والمقاومة. إلى كل عالم وإمام، ومجتهد قدم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم على أقوال الرجال. إلى عدول هذه الأمة على مر الأجيال .. إلى المتمثلين بقول القائل: دين النبي محمد أخبار ... نعم المطية للفتى الآثار لا ترغبن عن الحديث وآله ... فالرأي ليل والحديث نهار 1 - الإمام نشوان بن سعيد الحمري المتوفى سنة (573 هـ/ 1177م). فقد حورب وأوذي من قبل النفوس الضعيفة، والعصبية الممقوتة، ومن أنصاف الآلهة، ولكنه لشدة شكيمته وقوة إيمانه بترهم بمقوله وسيفه البتار ودفنهم تحت الثرى وبقط العلم المنشور. 2 - الإمام المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير المتوفى سنة (840 هـ/ 1436م). وهو صاحب "العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم" (1 - 9). فقد تحداه بأذى شديد شيخه (علي بن محمد) المتوفى سنة (827هـ) وحزبه فقهره وأنزل به وبحزبه الأذى الشديد، وظل الإمام محمد نجما متألقا، وصوتا مدويا، لم يأفل نجمه ولا غاب بدره كلما تجدد الزمن تجدد ذكره في حين اختفى ذلك الصوت اللاغب المعارض، اللاهث. 3 - الإمام المجتهد صالح بن المهدي المقبلي المتوفى سنة (1085هـ/ 1674م). وهو صاحب "المنار في المختار من جواهر البحر الزخار" و "العلم الشامخ" فقد نال شئبوبا من الآلام والمصائب وطورد فنجا بجلده، فجاور بمكة المكرمة ومات فيها.

4 - الإمام المجتهد الحسن بن أحمد الجلال المتوفى سنة (1082هـ/ 1674م). وهو صاحب "ضوء النهار" (1 - 4). الذي تسلم راية الحق برتابة ووثاقة. 5 - الإمام الحافظ محمد بن إسماعيل الأمير المتوفى سنة (1182هـ/ 1768 م). مؤلف "سبل السلام الموصلة إلى بلوغ المرام" (1 - 8) وغيره. فقد صارع بقلمه ولسانه ومؤلفاته واجتهاداته التقليد الأعمى بل جهر بصوته المدوي عاليا وبكل جرأة وإيمان بالعمل بالدليل. وخاض معركة سياسية بجسارة وشكيمة فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ونشر القصائد الرنانة، والرسائل الحماسية، والخطب النارية التي ألهبت جلود الطغاة الطغام، ورقى المنابر مرشدا ومنددا وواعظا وهاديا حتى حبس وشرد شأن كل مصلح يستعذب العذاب في سبيل الحق وفي ذات الله. 6 - الإمام المجتهد محمد بن علي الشوكاني (1173هـ - 1250هـ). صاحب فتح القدير، ونيل الأوطار، ونيل الغمام، والدراري والفتح الرباني وغيرها. فقد أفرغ آلامه، وصب أوجاعه وشخص أحواله، وشرح ما عاناه وقاساه في مستهل شبيبته ومبدأ دراسته، وما جيء به من أعداء العلم والفضيلة وأسرى التقليد وخصوم السنة والقرآن، وأعان هؤلاء الزعانف قوم آخرون من ذوي السلطان والشيطان في كتابه "أدب الطلب ومنتهى الأرب". أقدم إنتاجي أبو مصعب محمد صبحي بن حسن حلاق

ترجمة مؤلف "الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني"

ترجمة مؤلف "الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني" وتحتوي على: الفصل الأول: اليمن في عصر المؤلف. ويحتوي على المباحث التالية: المبحث الأول: الحالة السياسية. المبحث الثاني: الحالة الدينية. المبحث الثالث: الحالة الاجتماعية. الفصل الثاني: حياة المؤلف. ويحتوي على المباحث التالية: المبحث الأول: نسبه وموطنه. المبحث الثاني: مولده ونشأته. المبحث الثالث: حياته العلمية. المبحث الرابع: توليه القضاء. المبحث الخامس: شيوخه وتلامذته. المبحث السادس: مؤلفاته.

الفصل الأول: اليمن في عصر المؤلف

الفصل الأول: اليمن في عصر المؤلف. ويحتوي على المباحث التالية: المبحث الأول: الحالة السياسية المبحث الثاني: الحالة الدينية المبحث الثالث: الحالة الاجتماعية

المبحث الأول: الحالة السياسية:

المبحث الأول: الحالة السياسية: كانت الدولة الإسلامية الكبرى تعاني من ضعف شديد، بلغت الصراعات المذهبية فيها درجة أشعلت الحرب بين الدولتين: العثمانية السنية، والدولة الصفوية الشيعية. وكان المغرب العربي يعاني من صراعات عرقية وقبلية سهلت اجتياح الحملات الإسبانية والبرتغالية لأجزاء من تلك البلاد. ولعبت الأسرية والقبلية والقوة الدور الحاسم في تولي الحكم والسلطة، ومن ثم تحديد طبيعة النظام الحاكم، وهو أمر مخالف لمبدأ الشورى الإسلامي. وقد أدى وجود الدويلات الإسلامية المستقلة إلى ضعف دولة الخلافة العثمانية، مما أضعف شوكتها أمام أعدائها -أعداء الإسلام-. وفي ظروف التفكك والضعف هذه، برزت إلى الوجود قوات الغزو الصليبي العسكري- الاقتصادي بشقيه: الروسي والأوروبي، مستهدفة اقتسام بلاد المسلمين، بعد الإجهاز على دولة الخلافة الإسلامية- العثمانية التي أطلق عليها يومئذ: الرجل المريض. وكانت الظروف مهيأة أمام الغزو الصليبي، فثغور المسلمين غير محصنة، وخاصة في سواحل البحر الأحمر، وبشكل أخص في بوابتيه الشمالية والجنوبية، والخليج العربي والبحر العربي (المحيط الهندي)، بالإضافة إلى تراخي المسلمين عن الجهاد. وخالفت الدول الإسلامية مبدأ أساسيا في القرآن الكريم، وهو مبدأ (الولاء) ويعني المناصرة، فكانت الدولة العثمانية توالي الإنجليز ضد الفرنسيين، وكان (محمد علي باشا) يوالي الفرنسيين ضد (الإنجليز)، وحلت العقوبة الإلهية بكل من القوتين المسلمتين، قوة العثمانيين، وقوة (محمد علي باشا)، حيث تآمرت كل من (فرنسا) و (إنجلترا) مع أربع دول أخرى على كل منهما، ومهما قيل من تحليل حول أصداء الحملة الفرنسية، فقد كانت صدمة عسكرية -صليبية- لمصر وللعالم الإسلامي، حيث اكتشف المسلمون

أنهم لم يواكبوا التطور العلمى - التقني الذي سارت في ركابه الدول الأوروبية مما أوجد فجوة كبيرة بين الطرفين ساعدت على هزائم المسلمين أمام الغزو الأوروبي المتعاضد حينا والمتنافس حينا آخر، ولو لم تكن القوى الإسلامية - مهما بلغت من التفكك - قد بعثرت ما لديها من أسباب القوة في صراعاتها العديدة لاستطاعت مواكبة الركب الأوروبي، وإليك بعض الأشكال المختلفة لتلك الصراعات: صراعا عثمانيا- صوفيا، وصراعا عثمانيا- وهابيا، وصراعا عثمانيا- مصريا، وصراعا سعوديا- مصريا، وصراعا إنجليزيا- مصريا، وصراعا عثمانيا- فرنسيا، وصراعا يمنيا- سعوديا، والصراع الأخير كان صراع مهادنة وحذر وتربص. وكانت هناك أربع قوى يمكن أن تمثل أمل التقدم والتطور لبلاد المسلمين، ويمكن أن تنتصر لو اجتمعت على الزحف الأوروبي الواسع النطاق، وهذه القوى هي: قوة (محمد بن عبد الوهاب) وأتباعه التي تركزت حول التغيير العقدي كأساس للتغيير الشامل والتقدم في كل جوانب الحياة بعد ذلك، ويمكن أن يطلق عليها: (ثورة العقيدة)، وكانت هناك قوة الحركة الإصلاحية المعاصرة للحركة الوهابية وهى حركة (محمد بن علي الشوكاني) التي تركزت في دفع المسلمين نحو التحرر من التقليد والجمود، وتحريك عجلة الاجتهاد بعيدا عن العصبيات المذهبية والسلالية فهي: (ثورة العقل) وكانت هناك حركة فتية تولى قيادها (محمد علي باشا) تركزت حول الاستفادة الجادة والسريعة من التطور العلمي- التقني الذي وصل إليه الأوروبيون، فكانت حركة (ثورة العلم والتكنولوجيا)، وكانت القوة الرابعة هي: قوة العثمانيين العسكرية التي صمدت إلى حين أمام الغزو الأوروبي- الصليبي، لولا معاناتها من الحروب الداخلية، ومن تآمر الحركة الماسونية المتمثلة يومئذ بجمعية (الاتحاد والترقي) التركية- العلمانية الاتجاه، بالإضافة إلى تآمر كل من: روسيا وإنجلترا وفرنسا واليونان والنمسا عليها وعلى (محمد علي باشا)، في نهاية مطاف (الولاء) والصداقة الكاذبة، ولو قدر لهذه القوى الأربع أن تجتمع في معسكر واحد مكللة بالإيمان لاستطاعت امتلاك المسيرة الحضارية المعاصرة،

بعيدا عن أمراضها المادية والخلقية ولتمكنت مشيئة الله من إنماء حياة المسلمين والإنسانية في كل أرجاء العالم. ولم تخل اليمن من أمراض القوى الإسلامية الكبرى، فقد وجدت صراعات داخلية في ظل نظام الحكم الزيدي الإمامي هي: صراعات أسرية على الإمامة، وصراعات فيما بين القبائل ذات الشوكة من ناحية، وفيما بينها وبين دولة الإمامة من ناحية أخرى، وصراعات بين دولة الأئمة وبين قوة الحركة الإسماعيلية الباطنية- القرمطية، المتمركزة في منطقتي (حراز) و (نجران). وكان حكم الإمامة يتسم تارة بالعدل وتارة أخرى بالجور، وأحيانا بالقوة وأحيانا بالضعف، ولأخلاقيات وزراء الإمام ودعاة الإمامة وطبيعة سلوك الإمام تأثير كبير بالإيجاب أو السلب على طبيعة النظام الحاكم. وكانت سيادة اليمن غير كاملة على كل أجزائها، فهناك الصراع ضد سلطة أشراف أبي عريش والمخلاف السليماني، وهناك سلطنات مستقلة كسلطنه (لحج) في الجنوب، وهناك سلطنة الأتراك في (زبيد)، وقد احتل الإنجليز عدن عام 1255هـ (بعد موت الشوكاني بخمس سنوات)، واحتل أنصار الدعوة الوهابية (السلفية) بلاد أبي عريش والمخلاف السليماني، وتمكنوا من الاستيلاء على الحديدة (أيام الإمام المتوكل على الله أحمد) وكانت دولة الأئمة تهادن حركة (محمد بن عبد الوهاب)، فتبادل أنصارها المكاتبات والرسل، وقاموا بتطبيق ما قام به سيدنا (علي رضي الله عنه) من تحطيم للقباب وتسوية للقبور بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سلوك أثلج صدور علماء الحركة الوهابية (السلفية) وقد قام الشوكاني بدور بارز في تلك المكاتبات والمقابلات لأولئك العلماء (الرسل) وكان له دور بارز أيضا في إقامة العلاقات الدبلوماسية الناجحة مع أشراف مكة والحجاز، وأشراف أبي عريش والمخلاف السليماني، وقوات (محمد علي باشا) عبر مكاتباته التي يسندها الأئمة إليه، وغير الرسل التي يوكل الأئمة له صلاحية اختيارهم.

وقد أبدى النظام الإمامي استعدادا طيبا لمشاركة المسلمين في صد الغزو الصليبي -الاقتصادي- العسكري, كاستعداده لمجابهة الحملة الفرنسية, وحملات البرتغاليين, ورفض إقامة قاعدة إنجليزية في باب المندب, وتولي الشوكاني بمكاتباته إعلان المواقف السياسية المتصلة بهذا الاستعداد, وكان لهذه الأوضاع آثارها الاجتماعية والاقتصادية والإدارية والفكرية (¬1) ¬

(¬1) انظر كتاب "الإمام الشوكاني. حياته وفكره" للدكتور: عبد الغني قاسم غالب الشرجبي (ص39 - 76). و (ص137 - 140). وانظر "الإمام الشوكاني مفسرا" للدكتور محمد حسن بن أحمد الغماري (ص31 - 39)

المبحث الثاني الحالة الاجتماعية

المبحث الثاني الحالة الاجتماعية عاصر الشوكاني المذاهب والفرق والطوائف الدينية المختلفة، والتي كان له معها مواقفه الخاصة، فكان ناقدا لجوانب الخطأ في مقولاتها، ومزكيا لجوانب الحق والصواب من آرائها ومناهجها. وفي ظل الحكم الإمامي الزيدي عاصر الشوكاني عصبية مذهبية وسلالية وجمودا على أقوال العلماء والأئمة، دونما بحث عن الدليل من قبل أرباب التعصب والمقلدين، فكانت للشوكاني أدواره الإيجابية في تشخيص ظاهرة التعصب، ومحاربتها بقلمه، وتدريسه، وفتاواه، وكان له رأيه السياسي في حل الفتنة العصبية التي أطلق عليها (فتنة العاصمة- صنعاء) عام 1823 م. فاستجاب إمام زمانه لمقترحاته التي طالبت بنفي رؤساء تلك الفتنة إلى سجون متعددة، بعيدة عن العاصمة. ويعد الاجتهاد- وهو شرط من شروط الإمامة في المذهب الزيدي- ميزة استطاع الشوكاني في ظله أن يصل إلى درجة الاجتهاد المطلق، وبذلك تمكن من الانخلاع عن المذهبية، فانتقد المتعصبين في كل مذاهب المسلمين، وقام بالدعوة إلى التمسك بالإسلام جملة، وإلى عدم التعصب لأقوال العلماء أو الأئمة بل الالتزام بالكتاب والسنة، اللذين أمرنا الله باتباعهما (¬1). وكان اليمنيون قبل دخول المذهب الزيدي متمذهبين بالمذهبين المالكي والشافعي، وقد انقرض المذهب المالكي، وبقي المذهب الشافعي سائدا في المناطق الوسطى والجنوبية والساحلية من اليمن، وكان الشوكاني من الأعلام الذين دعوا إلى اتباع السنة ومذهب السلف الصالح، بدون تعصب لمذهب ما من مذاهب المسلمين، وإنما هو الاقتفاء للحق والدليل فهما رائداه في كل ما يقرأ ويرجح من آراء. ¬

(¬1) انظر كتاب "القول المفيد في حكم التقليد" بتحقيقنا. الطبعة الثانية

وشهد الشوكاني صراع الأئمة الزيديين ضد الطائفة الإسماعيلية (الباطنية- القرمطية)، وأفتى بكفرها. وأما المعتزلة فقد كان عام 544 هـ أول عام دخل فيه تراثهم إلى اليمن على يد القاضي (جعفر بن أحمد بن عبد السلام- ت 573 هـ) شيخ الزيدية والمعتزلة، وقضية الاتفاق والاختلاف بين الزيدية والمعتزلة مسألة جدلية ويمكن تمثيلها بمتصل في طرفه الأول طائفة تمثل قمة الاتفاق، وفي الطرف المقابل طائفة أخرى تمثل قمة الاختلاف، وفي الوسط مواقف تتأرجح نحو هذا الطرف أو ذاك، وموقف الشوكاني من علم الكلام موقف له سمته الخاصة، فهو ينصح طالبه في كتابه: "أدب الطلب" (¬1) بدراسة هذا العلم لكي يستطيع دراسة تفسير " الكشاف " للزمخشري، ودراسة تراث المعتزلة والأشاعرة والفرق الأخرى، ويتمكن بذلك من الخروج من دائرة التقوقع على علوم المذهب ومخاصمة أهل الكلام دونما علم بمقولاتهم ومصطلحاتهم ومنطلقاتهم، ولكنه يصف تجربته الشخصية مع هذا العلم بالمرارة، وأنها تجربة جلبت له الحيرة، وأنه قد وجد أن مقولاته في نهاية الأمر مجموعة من الخزعبلات، وبناء على ذلك دعا طلابه إلى نهج السلف الصالح الذي يقوم على هجر المصطلحات الكلامية والتمسك بالكتاب والسنة. وأما الصوفية فقد اشتهر أصحابها بالتواكل وهجر الأسباب واشتهر أتباعها بتقديس زعمائها، والخضوع لأقوالهم، والاهتمام الشديد بتشييد وتزيين قبورهم، والتعلق ببعض الخرافات التي علقت بمحبتهم، فكان للشوكاني معهم جولة طويلة، خاصة في كتبه الثلاثة: (1): شرح الصدور في تحريم رفع القبور. (2): والدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد. (3): وقطر الولي على حديث الولي أو ولاية الله والطريق إليها. ¬

(¬1) (ص128 - 130) بتحقيقنا

بالإضافة إلى رسالته: " الصوارم الحداد القاطعة لعلائق أرباب الاتحاد ". وأما الرافضة فقد كشف الشوكاني النقاب عنهم، وفضح حقيقتهم فيما يتظهرون به من التشيع قائلا: "ولا غرو فأصل هذا المظهر الرافضي مظهر إلحاد وزندقة، جعله من أراد كيدا للإسلام سترا له فأظهر التشيع والمحبة لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم استجذابا لقلوب الناس، لأن هذا أمر يرغب فيه كل مسلم، وقصدا للتعزير عليهم، ثم أظهر للناس أنه لا يتم القيام بحق القرابة إلا بترك حق الصحابة، ثم جاوز ذلك إلى إخراجهم- صانهم الله- عن سبيل المؤمنين " (¬1). وهكذا بدت لنا الحالة الدينية في عصر الشوكاني رحمه الله مما دفعت به إلى حمل لواء الدعوة إلى التمسك بالكتاب والسنة على فهم السلف الصالح رضوان الله عليهم. ¬

(¬1) أدب الطلب ومنتهى الأرب (95) بتحقيقنا

المبحث الثالث الحالة الاجتماعية

المبحث الثالث الحالة الاجتماعية لقد أصيبت الحالة الاجتماعية بالتدهور فكانت هناك أنماط متعددة من الصراع بين القوى الإسلامية المختلفة: بين الأتراك واليمنيين، وبين الأتراك والمصريين، وبين الأتراك والوهابيين (السلفيين) إلخ، كل هذا أدى إلى توهين قوة المجتمع الإسلامي وتضاؤل مكانته في العلم. وعلى المستوى المحلي كان هناك صراع مرير بين المتعصبين وبين المنصفين من العلماء وبين أدعياء العلم والعامة من جهة، وبين علماء الإنصاف والاجتهاد من جهة أخرى. وتعرض المجتمع الصنعاني كثيرا لحملات القبائل التي نشرت في أحيان كثيرة المجاعة حتى الموت، من جراء مطالبها في رفع مقرراتها المالية السنوية، وإن علقت ذلك بالدفاع عن المذهب السائد للدولة. وكان (الجمود) سمة بارزة في مجتمع الشوكاني، وأما العلماء فقد قعدوا عن أداء أدوارهم الإيجابية في محو الأمية الدينية والثقافية فكانوا يدارون العامة في معتقداتهم الخاطئة، وسلوكياتهم المناقضة لتعاليم الإسلام مما أدى بالعامة وجهلة المتفقهة إلى إلحاق الأذى بالمنصفين ومعهم الإمام الشوكاني بسبب محاربتهم للعصبية والجمود. وقد تهافت الظلمة الجهلة على مناصب القضاء فأكلوا أموال الناس بالباطل وهم يعلمون. وأما الظلم الاجتماعي فقد كان سمة غالبة في المجتمع اليمني تبدت مظاهره في سلوكيات القضاة والعمال (المحافظين) والحكام بمساعدة علماء السوء ووزراء الجور. . . ومما يؤخذ على الإمام الشوكاني تأثره بالعرف الصنعاني الفاسد الذي كان ينظر من خلاله إلى أصحاب بعض الحرف نظرة متدنية، ولعل هذا ما يبرر موقفه بعد أن

ذاق مرارة حرب المتعصبين من جهلة العلماء الذين كان ينتمي بعضهم إلى تلك الحرف (¬1). . . وكانت الحرف الاقتصادية الراقية: " صناعة السيوف " " فن العمارة " " صياغة الذهب والفضة " بيد الجالية اليهودية في اليمن. ولاحظ الشوكاني سوء الأحوال الاقتصادية والاجتماعية في اليمن فحاول أن يشخص أسباب تلك الأحوال في كتابه " الدواء العاجل في دفع العدو الصائل " وقد عزا تدهورها إلى الابتعاد عن حقيقة الإسلام، وهجر ما يدعو إليه من عدالة اجتماعية. وحاول رسم سياسة اقتصادية عادلة للنظام الإمامي يحقق من خلالها العدل، ويرفع بها الظلم الاجتماعي. وما أن بدأ تطبيقها بعد اعتمادها من قبل الدولة (الإمام) حتى تكالب عليه وزراء الظلم، وعلماء السوء، وقضاة الرشوة والحيف، وأقنعوا الإمام بالعدول عنها، حتى لا تؤدي إلى تقويض الملك على حد زعمهم. وأما الأحوال الإدارية فقد كانت هي الأخرى تعكس ضعف السلطة المركزية. . . ودعا الشوكاني في كتابه المذكور سابقا إلى الإدارة المركزية بحيث تصل سلطة الدولة إلى كل قرية. ومن خلال هذه الإدارة تقوم الحكومة بتقديم خدماتها التربوية، والاقتصادية والتعليمية. . . (¬2) ¬

(¬1) انظر " أدب الطلب" (ص143 - 145) بتحقيقنا (¬2) انظر كتاب " الإمام الشوكاني. حياته وفكره " للدكتور عبد الغني قاسم غالب الشرجبي (105 - 129) و (143 - 145)

الفصل الثاني حياة المؤلف

الفصل الثاني حياة المؤلف ويحتوي على المباحث التالية: المبحث الأول: نسبه وموطنه المبحث الثاني: مولده ونشأته المبحث الثالث: حياته العلمية المبحث الرابع: توليه القضاء المبحث الخامس: شيوخه وتلامذته المبحث السادس: مؤلفاته

المبحث الأول نسبه وموطنه

المبحث الأول نسبه وموطنه ترجم الشوكاني لنفسه فقال: " محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني، ثم الصنعاني " (¬1). أما الشوكاني: فهو نسبة إلى هجرة شوكان، وهي قرية من قرى السحامية، إحدى قبائل خولان بينها وبين صنعاء دون مسافة يوم (¬2). وأما الصنعاني فنسبه إلى مدينة صنعاء التي استوطنها والده ونشأ فيها بعد ولادته في الهجرة (¬3). ¬

(¬1) البدر الطالع (2/ 214) (¬2) البدر الطالع (1/ 480) (¬3) البدر الطالع (2/ 215)

المبحث الثاني مولده ونشأته

المبحث الثاني مولده ونشأته يذكر الشوكاني في ترجمته لنفسه تاريخ مولده، نقلا عن خط والده فيقول: " ولد حسبما وجد بخط والده في وسط نهار يوم الاثنين، الثامن والعشرين من شهر ذي القعدة سنة (1173 هـ)، ثلاث وسبعين ومائة وألف " (¬1) ولا مجال للاختلاف في تاريخ مولده بعد هذا النص منه ومن والده (¬2). حفظ القرآن وجوده، وحفظ عددا كبيرا من المتون قبل أن يبدأ عهد الطلب، ولم تتعد سنه العاشرة من عمره، ثم اتصل بالمشايخ الكبار، وكان كثير الاشتغال بمطالعة التاريخ ومجامع الأدب (¬3). وإذا عرفنا أنه تصدر للإفتاء وهو في سن العشرين عرفنا كيف كانت حياة هذا التلميذ الجاد الذي لم يسمح له أبوه بالاشتغال بغير العلم كما لم يسمح له أبوه بالانتقال من صنعاء (¬4)؛ رغبة منه في تفرغه لطلب العلم. وكانت دروسه تبلغ في اليوم والليلة نحو ثلاثة عشر درسا (منها) ما يأخذه عن مشايخه (ومنها) ما يأخذه عنه تلامذته، واستمر على ذلك مدة. . . (¬5). وقد ذكر الشوكاني في البدر الطالع (¬6) الكتب التي قرأها على العلماء الأفاضل قراءة تمحيص وتحقيق، وهي كثيرة في فنون متعددة: من الفقه وأصوله والحديث، واللغة، والتفسير والأدب، والمنطق. . . ¬

(¬1) البدر الطالع (2/ 214 - 215) (¬2) مقدمة كتاب قطر الولي للدكتور إبراهيم إبراهيم هلال (ص15) (¬3) البدر الطالع (2/ 215) (¬4) البدر الطالع (2/ 218 و219) (¬5) البدر الطالع (2/ 218) (¬6) (2/ 215 - 219)

المبحث الثالث حياته العلمية

المبحث الثالث حياته العلمية بدأ الشوكاني حياته العلمية بالقراءة والمثابرة والدرس، وقد ساعدته الثقافة الواسعة وذكاؤه الخارق، إلى جانب إتقانه للحديث وعلومه، والقرآن وعلومه، والفقه وأصوله، على الاتجاه نحو الاجتهاد وخلع ربقة التقليد، وهو دون الثلاثين، وكان قبل ذلك على المذهب الزيدي، فصار علما من أعلام المجتهدين، وأكبر داعية إلى ترك التقليد، وأخذ الأحكام اجتهادا من الكتاب والسنة، فهو بذلك يعد في طليعة المجددين في العصر الحديث، ومن الذين شاركوا في إيقاظ الأمة الإسلامية في عصره. وقد أحس بوطأة الجمود، وجناية التقليد الذي ران على الأمة الإسلامية من بعد القرن الرابع الهجري وأثره في زعزعة العقيدة، وشيوع البدع، والتعلق بالخرافات وانصراف الناس عن التعاليم الدينية وانكبابهم على الموبقات والمنكرات، مما جعله يشرع قلمه ولسانه في وجه الجمود والتقليد ويقف حياته على محاولة تغيير هذه الأوضاع الفاسدة، وتطهير تلك العقائد الباطلة. . . (¬1). ويمكن أن نبين أبعاد هذه الحياة العلمية في ثلاثة أهداف: 1 - دعوته إلى الاجتهاد ونبذ التقليد. 2 - دعوته إلى العقيدة السلفية في بساطتها أيام الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم. 3 - دعوته إلى محاربة كل ما يخل بالعقيدة الإسلامية. قلت: وعلى رأس أهدافه تحكيم شرع الله في جميع مجالات الحياة (¬2). ¬

(¬1) الإمام الشوكاني مفسرا. للغماري (ص62 - 63). مع شيء من التصرف. (¬2) انظر " الدواء العاجل لدفع العدو الصائل " رقم (188) من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني

المبحث الرابع توليه القضاء

المبحث الرابع توليه القضاء في عام 1209 من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم توفي كبير قضاة اليمن القاضي يحيى بن صالح الشجري السحولي، وكان مرجع العامة والخاصة وعليه المعول في الرأي والأحكام ومستشار الإمام والوزارة (¬1). قال الشوكاني (¬2) " وكنت إذ ذاك مشتغلا بالتدريس في علوم الاجتهاد، والإفتاء والتصنيف منجمعا عن الناس لا سيما أهل الأمر وأرباب الدولة، فإني لا أتصل بأحد منهم كائنا من كان ولم يكن لي رغبة في سوى العلوم. . . فلم أشعر إلا بطلاب لي من الخليفة بعد موت القاضي المذكور بنحو أسبوع، فذهبت إلى مقامه العالي فذكر لي أنه قد رجح قيامي مقام القاضي المذكور، فاعتذرت له، بما كنت فيه من الاشتغال بالعلم، فقال: القيام بالأمرين ممكن وليس المراد إلا القيام بفصل ما يصل من الخصومات إلى ديوانه العالي في يومي اجتماع الحكام فيه، فقلت سيقع مني الاستخارة لله والاستشارة لأهل الفضل، وما اختاره الله ففيه الخير، فلما فارقته ما زلت مترددا نحو أسبوع، ولكنه وفد إلي غالب من ينتسب إلى العلم في مدينة صنعاء وأجمعوا على أن الإجابة واجبة، وأهم يخشون أن يدخل في هذا المنصب الذي إليه مرجع الأحكام الشرعية في جميع الأقطار اليمنية من لا يوثق بدينه وعلمه،. . فقبلت مستعينا بالله ومتكلا عليه. . . وأسأل الله بحوله وطوله أن يرشدني إلى مراضيه، ويحول بيني وبين معاصيه وييسر لي الخير حيث كان، ويدفع عني الشر، ويقيمني في مقام العدل ويختار لي ما فيه الخير في الدين والدنيا " ا هـ. قلت: وربما أن الشوكاني رأى في منصب القضاء فرصة لنشر السنة وإماتة البدعة، والدعوة إلى طريق السلف الصالح. . . . ¬

(¬1) البدر الطالع (2/ 334) (¬2) في البدر الطالع (1/ 464 - 466)

كما أن منصب القضاء سيصد عنه كثيرا من التيارات المعادية له، ويسمح لأتباعه بنشر آرائه السديدة، وطريقته المستقيمة. " والأئمة الثلاث الذين تولى الشوكاني القضاء الأكبر لهم ولم يعزل حتى وافته المنية هم: 1 - المنصور علي بن المهدي عباس ولد سنة 1151 هـ وتوفي سنة 1224هـ ومدة خلافته (25) سنة. 2 - ابنه المتوكل علي بن أحمد بن المنصور علي، ولد سنة 1170هـ وتوفي سنة 1231 هـ ومدة خلافته نحو (7) سنوات. 3 - المهدي عبد الله ولد سنة 1208هـ وتوفي سنة 1251هـ ومدة خلافته (20) سنة " (¬1). قلت: كان تولي الشوكاني القضاء كسبا كبيرا للحق والعدل، فقد أقام سوق العدالة بينا، وأنصف المظلوم من الظالم، وأبعد الرشوة وخفف من غلواء التعصب ودعا الناس إلى اتباع القرآن والسنة. إلا أن هذا المنصب قد منعه من التحقيق العلمي، يظهر ذلك إذا ما تتبع المرء مؤلفاته قبل توليه القضاء وبعده، تجد الفرق واضحا. ¬

(¬1) الإمام الشوكاني مفسرا. للغماري (ص 71) باختصار

المبحث الخامس شيوخه وتلامذته

المبحث الخامس شيوخه وتلامذته أولا شيوخه: 1 - العلامة أحمد بن عامر الحدائي (1127 - 1197هـ = 1715 - 1783م). 2 - السيد العلامة إسماعيل بن الحسن المهدي بن أحمد ابن الإمام القاسم بن محمد (1120 - 1206هـ). 3 - السيد الإمام عبد القادر بن أحمد الكوكباني (1135 - 1207هـ = 1723 - 1772 م). 4 - القاضي عبد الرحمن بن حسن الأكوع (1135 - 1207هـ = 1724 - 1772 م). 5 - العلامة الحسن بن إسماعيل المغربي (1140 - 1208 هـ). 6 - السيد العلامة علي بن إبراهيم بن أحمد بن عامر (1141 - 1208هـ = 1728 - 1793 م). 7 - العلامة القاسم بن يحيى الخولاني (1162 - 1209 هـ = 1714 - 1794م). 8 - والده علي بن محمد الشوكاني (ت 1211 هـ). 9 - السيد عبد الرحمن بن قاسم المداني (1121 - 1211هـ = 1709 - 1796م). 10 - العلامة عبد الله بن إسماعيل النهمي (1150 - 1228 هـ). 11 - السيد العارف يحيى بن محمد الحوثي (1160 - 1247 هـ= 1747 - 1831 م) (¬1). 12 - أحمد بن محمد الحرازي. ¬

(¬1) ذكرهم الدكتور إبراهيم إبراهيم هلال. محقق كتاب " قطر الولي" (ص41 - 42) وانظر البدر الطالع (2/ 215 - 218).

13 - علي بن هادي عرهب (1164 - 1236هـ). 14 - هادي بن حسن القارني (¬1). 15 - يوسف بن محمد بن علاء المزجاجي (1140 - 1213هـ) (¬2). 16 - أحمد بن أحمد بن مطهر القابلي (1158 - 1227هـ) (¬3). 17 - عبد الله بن الحسن بن علي بن الحسن بن علي ابن الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم (1165 - 1210هـ) (¬4). وبذلك بلغ عدد أساتذته الذين تمكن الباحث (¬5) من حصرهم - حتى الآن- سبعة عشر شيخا. وقد أخذ عنهم مختلف علوم عصره (¬6). ثانيا تلاميذه: 1 - أحمد بن عبد الله العمري الضمدي (1170 - 1212هـ). 2 - السيد أحمد بن علي بن محسن بن المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم (1150 - 1222 هـ). 3 - القاضي أحمد بن محمد الشوكاني (1229 - 1281 هـ) وهو ابن الإمام الشوكاني. 4 - أحمد بن ناصر الكبسي (1209 - 1271هـ). 5 - أحمد بن حسين الوزان الصنعاني (1186 - 1238هـ). 6 - أحمد بن زيد الكبسي الصنعاني (1209 - 1271هـ). ¬

(¬1) البدر الطالع (2/ 215 - 217) (¬2) البدر الطالع (2/ 356 - 357) (¬3) البدر الطالع (1/ 96 - 97) (¬4) البدر الطالع (1/ 380 - 381) (¬5) وهو الدكتور عبد الغني قاسم غالب الشرجبي في كتابه: " الإمام الشوكاني حياته وفكره " ص 172. (¬6) انظر المرجع السابق ص 172 - 177، لتعلم العلوم التي قرأها الشوكاني عليهم رحمهم الله جميعا.

7 - المتوكل على الله رب العالمين أحمد ابن الإمام المنصور علي ابن الإمام المهدي لدين الله العباس ابن الإمام المنصور بالله حسين ابن الإمام المتوكل على الله القاسم ابن الحسين بن أحمد بن حسين ابن الإمام القاسم (1170 - 1221 هـ). 8 - أحمد بن لطف الباري بن أحمد بن عبد القادر الورد (1191 - 1282هـ). 9 - أحمد بن علي محسن بن أحمد الطشي الصعدي أصلا، والرداعي مولدا (1190 - 1279 هـ). 10 - أحمد بن محمد بن أحمد بن مطهر القابلي الحرازي نسبة والده، الزماري مولدا، ولد في 1158هـ. 11 - السيد العلامة أحمد بن محمد بن حسين بن علي بن حسن ابن الإمام المتوكل على الله إسماعيل ابن الإمام القاسم عليهم السلام. ولد في عام 1210 هـ. 12 - أحمد بن يوسف الرباعي، ولد في صنعاء عام 1150هـ. 13 - القاضي العلامة أحمد بن علي العودي. 14 - السيد العلامة إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن يوسف ابن الإمام المهدي محمد بن الحسن ابن الإمام القاسم (1165 - 1237 هـ). 15 - القاضي العلامة إبراهيم بن أحمد بن يوسف الرباعي، ولد عام 1199 هـ. 16 - السيد العلامة الورع إسماعيل بن أحمد الكبسي الملقب " المفلس ". 17 - أحمد بن علي بن محمد بن أحمد الطشي المعدي (1190 - 1279 هـ). 18 - أحمد بن يوسف الرباعي، ولد عام 1155هـ. 19 - السيد إسماعيل بن إبراهيم (1165 - 1237 هـ). 20 - القاضي العلامة الحسين بن قاسم المجاهد (1190 - 1276هـ). 21 - حسن بن أحمد بن يوسف الرباعي الصنعاني. ولد تقريبا على رأس القرن الثاني عشر وتوفي عام 1276هـ. 22 - القاضي العلامة الحسن محمد بن صالح السحولي (1190 - 1234هـ).

23 - الحسن بن علي الغماري الصنعاني (1170 - 1225هـ) ولد ونشأ في صنعاء. 24 - القاضي العلامة الحسن بن محمد بن عبد الله العنسي الصنعاني الكوكباني ولد في 1188هـ. 25 - القاضي العلامة الحسين بن يحيى السلفي الصنعاني، ولد بعد سنة 1160 هـ. 26 - سيف بن موسى بن جعفر البحراني، وفد إلى صنعاء عام 1234هـ، وتركها عام 1234هـ. 27 - السيد شرف الدين بن أحمد (1159 - 1241هـ). 28 - الشيخ صديق المزجاجي الزبيدي (1150 - 1209هـ). 29 - القاضي العلامة صالح بن أحمد العنسي الصنعاني، ولد عام (1200 هـ). 30 - علي بن أحمد هاجر الصنعاني (1180 - 1235هـ). 31 - عبد الله بن شرف الدين المهلل (1170 - 1226هـ). 32 - عبد الله بن محسن الحيمي ثم الصنعاني (1170 - 1240هـ). 33 - السيد عبد الله بن عيسى الكوكباني (1175 - 1224 هـ). 34 - السيد عبد الوهاب بن حسين بن يحيى الديلمي الماري (1201 - 1235هـ). 35 - السيد علي بن يحيى أبو طالب (1157 - 1236هـ). 36 - العلامة عبد الرحمن بن يحيى الآنسي ثم الصنعاني (1168 - 1250هـ). 37 - الشيخ المعمر عبد الحق الهندي المتوفى في سفره للحج سنة (1286هـ). 38 - القاضي علي بن أحمد بن عطية، ولد في خبان (اليمن الأوسط) عام (1180هـ). 39 - عبد الله بن علي بن محمد بن عبد الله العنسي الصنعاني (1190 - 1231هـ). 40 - عبد الله بن محسن الحيمي الصنعاني، ولد عام (1170هـ). 41 - عبد الرحمن بن حسين الريمي الذماري ولد عام (1170هـ) أو بعدها بقليل. 42 - عبد الرحمن بن أحمد البهكلي الضمدي (1180 - 1227هـ).

43 - السيد علي بن إسماعيل بن القاسم بن أحمد ابن الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم بن محمد (1151 - 1229 أو 1230هـ). 44 - علي بن محمد بن علي الشوكاني ابن الإمام الشوكاني (1217 - 1250هـ). 45 - السيد العلامة عبد الله بن عامر الحوثي ثم الصنعاني، ولد في صنعاء عام (1196هـ). 46 - العلامة الأديب عبد الله بن علي الجلال، ولد في أوائل القرن الثالث عشر. 47 - القاضي العلامة عبد الله بن علي سهيل (1180 - 1251 هـ). 48 - القاضي العلامة عبد الحميد بن أحمد بن محمد قاطن، ولد في جمادى الأولى (1175هـ). 49 - عبد الله بن شرف الدين الجبلي، ولد في (1170هـ). 50 - السيد العلامة عبد الله بن عباس بن الحسن بن يوسف ابن الإمام المهدي محمد بن أحمد بن حسن ابن الإمام القاسم، ولد عام (1196هـ). 51 - السيد العلامة علي بن أحمد بن الحسن بن عبد الله الظفري، ولد في أوائل القرن الثالث عشر، وتوفي في صنعاء عام (1270هـ). 52 - القاضي العلامة علي عبد الله الحيمي، ولد على رأس المائة الثانية عشرة أو قبلها أو بعدها بقليل. ومات عام (1256هـ). 53 - القاضي العلامة علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني (1130 - 1211هـ). 54 - الإمام العباس بن عبد الرحمن الشهاري توفي عام (1298 هـ). 55 - عبد الرحمن بن محمد العمراني الصنعاني. 56 - السيد عبد الله بن حسين بلفقيه الحضرمي. 57 - السيد القاسم بن إبراهيم بن الحسن بن يوسف بن المهدي محمد ابن الإمام المهدي أحمد بن الحسن بن الإمام القاسم ولد بعد سنة (1165هـ أو في 1167هـ) تقريبا. وتوفي عام (1237 هـ).

58 - السيد العلامة القاسم بن أحمد نعمان بن أحمد شمس الدين ابن الإمام المهدي أحمد بن يحيى (1166 - 1223هـ). 59 - القاسم ابن أمير المؤمنين المتوكل على الله أحمد ابن أمير المؤمنين رحمه الله المنصور بالله علي بن المهدي العباس (1221 - 1239هـ). 60 - الفقيه العلامة قاسم بن لطف الجبلي ولد عام (1180هـ) تقريبا. 61 - الفقيه لطف الله بن أحمد بن لطف الله جحاف (1189 - 1243هـ). 62 - السيد محسن بن عبد الكريم بن أحمد بن إسحاق الصنعاني (1191 - 1266 هـ). 63 - محمد بن أحمد سعد السودي (1178 - 1236هـ). 64 - القاضي العلامة محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد مشحم الصنعاني (1186 - 1223 هـ). 65 - القاضي العلامة محمد بن أحمد الحرازي (1194 - 1245هـ). 66 - القاضي العلامة محسن بن الحسين بن علي بن حسن المغربي (1191 - 1252 هـ). 67 - القاضي محمد بن أحمد الشاطبي الصنعاني (1210 - 1255هـ). 68 - محمد بن إسماعيل بن الحسين الشامي (1194 - 1224هـ). 69 - القاضي العلامة محمد بن حسين السماوي ولد عام (1170هـ). 70 - القاض محمد بن حسن الشجني الذماري. صاحب (التقصار في جيد زمن علامة الأقاليم والأمصار) وقد ذكر فيه مشايخه (1200 - 1286 هـ). 71 - الفقيه العلامة محمد بن صالح العصامي الصنعاني (1188 - 1263 هـ). 72 - السيد العلامة محمد بن عز الدين النعمي التهامي (1180 - 1232هـ). 73 - السيد العلامة محمد بن الحسن المحتسب (1170 - 1257هـ). 74 - الفقيه العلامة محمد بن علي بن حسن العمراني الصنعاني (1194 - 1264هـ).

75 - الشيخ محمد الكردي, أصله من أكراد قرية مجاورة لبغداد, قدم إلى صنعاء في أوائل القرن الثالث عشر. 76 - الشيخ محمد عابد بن علي بن أحمد بن محمد بن مراد الأيوبي الأنصاري السندي المكي، تردد إلى صنعاء وأقام بها مدة طويلة. توفي عام (1257 هـ). 77 - السيد محمد بن محمد بن هاشم بن يحيى الشامي (1178 - 1251هـ). 78 - السيد العلامة محمد بن يحيى إسماعيل الأخفش الحسني الصنعاني، ولد في صنعاء عام (1210هـ) توفي في القرن الثالث عشر. 79 - القاضي العلامة محمد بن يحيى سعيد بن حسين العنسي الذماري (1200 - 1266 هـ). 80 - القاضي محمد بن علي الأرياني (1198 - 1245هـ). 81 - القاضي محمد بن لطف الورد الصنعاني. وتوفي عام (1272 هـ). 82 - القاضي محمد بن الحرازي الصنعاني. 83 - السيد محمد بن الكبسي الصنعاني. وتوفي في القرن الثالث عشر. 84 - القاضي محمد بن مهدي الضمدي الخماطي التهامي الصنعاني (1193 - تقريبا 1269 هـ). 85 - محمد بن محمد زبارة الحسيني اليمني الصنعاني، وهو من الجيل الثاني للشوكاني. وقد توفي عام (1381هـ- 1962 م). 86 - السيد محمد صديق حسن خان (1248 - 1357هـ). 87 - الفقيه العلامة هادي حسين القارني الصنعاني (1164 - 1238 هـ). 88 - السيد يحيى بن أحمد أبي أحمد الديلمي الحسني الذماري، ولد عام (1185 هـ) أو عام (1190هـ). 89 - القاضي العلامة يحيى بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني الصنعاني (1190 - 1262 أو 1267هـ).

90 - العلامة يحيى بن علي الودمي (1203 - 1279هـ). 91 - السيد العلامة يحيى بن محمد الأخفش (1206 أو 1204 أو 1205 - 1262 هـ أو 1263). 92 - السيد العلامة يحيى بن المطهر بن إسماعيل بن يحيى بن الحسين ابن الإمام القاسم بن محمد الحسيني الصنعاني (1190 - 1268هـ). ونكتفي بذكر ما سبق من تلاميذ الشوكاني وعددهم اثنان وتسعون تلميذا وإلا فهم مئات بل ألوف (¬1). ¬

(¬1) ذكر الدكتور إبراهيم إبراهيم هلال في مقدمة " قطر الولي " (ص 42 - 45) تلاميذ الشوكاني وعددهم ثلاثة عشر تلميذا. وذكر الدكتور محمد حسن الغماري صاحب كتاب " الشوكاني مفسرا " ص 74 - 81، ثلاثة وثلاثين تلميذا. وذكر الدكتور عبد الغني قاسم الشرجبي صاحب كتاب " الشوكاني حياته وفكره " (ص 238 - 266)، تلاميذ الشوكاني وعددهم اثنان وتسعون تلميذا. كما أورد عقب ترجمة كل تلميذ العلوم التي استفادها التلميذ من الشوكاني

المبحث السادس مؤلفاته وآثاره

المبحث السادس مؤلفاته وآثاره 1 - الدراري المضية شرح الدرر البهية في المسائل الفقهية. مجلدان. 2 - وبل الغمام على شفاء الأوام. مجلدان. 3 - أدب الطلب، ومنتهى الأرب. 4 - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير. عشرة مجلدات. 5 - نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار. ستة عشر مجلدا. 6 - السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار. ثلاثة مجلدات. 7 - الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة. مجلد. 8 - إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول. مجلد. 9 - البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع. مجلد. 10 - تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين من كلام سيد المرسلين. مجلد. 11 - قطر الولي على حديث الولي، أو ولاية الله والطريق إليها. مجلد. 12 - در السحابة في مناقب القرابة والصحابة. مجلدان. 13 - ديوان الشوكاني. إسلاك الجوهر والحياة الفكرية والسياسة في عصره. تحقيق ودراسة: د. حسين بن عبد الله العمري. 14 - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني. اثنا عشر مجلدا. وهو كتابنا هذا. هذا وقد أكرمني الله تعالى بتحقيق هذه الكتب والآثار القيمة والتعليق عليها

وتخريج أحاديثها ولله الحمد والمنة خدمة للعلم، وطمعا في ثواب الله ووفاء للإمام الشوكاني فريد عصره رحمه الله تعالى. المحقق أبو مصعب محمد صبحي بن حسن حلاق

ترتيب الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني كما رغبه وتمناه الإمام في مقدمة المجلد الثاني

قال الإمام محمد بن علي الشوكاني في مقدمة المجلد الثاني من " الفتح الرباني ": (الحمد لله. هذا أحد المجلدات التي سميتها " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني " والمجلد الآخر مثله جمعت فيهما الرسائل والجوابات التي حررتها وهذا المجلد فيما يختص بما هو على أبواب الفقه وفيه بعض تقديم وتأخر على ما يقتضيه الترتيب على الأبواب لعل ذلك من خلط المجلد، والمجلد الآخر فيما لا يختص بذلك وقد كنت بيضت مجلدا كبيرا قدمت فيه مسائل الفقه على أبوابه ثم غيرها بعدها، وحدث بعد جمعه مسائل كثيرة ورسائل جمة قد اشتمل عليها هذا المجلد والذي بعده وثم مسائل ورسائل تفرقت وذهبت بها أيدي الضياع وقد يعود بعضها إن شاء الله، وقد يحدث بعد هذه غيرها إذا بقي في العمر سعة وفي الأجل مهلة وربما يعين الله على ترتيب هذه الفتاوى بالجمع بين هذا المجلد والمجلد الذي بعده والمجلد الذي قد بيضته، وقد أعان الله على جمع مجلد رابع مما حدث بعد هذا التاريخ، ثم أعان سبحانه على مجلد خامس. وتقدم مسائل الفقه على أبوابه، ثم مسائل التفسير، ثم الحديث، ثم الأصول، ثم علم العربية وما يلتحق به. كتبه المؤلف محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما. في شهر جمادى الأولى سنة 1224حامدًا لله ومصليًا على رسوله وآله ومسلمًا) ا هـ.

المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (¬1)، ويحتوي على الرسائل التالية: 1 - القول المحرر في حكم لبس المعصفر وسائر أنواع الأحمر. 2 - تنبيه ذوي الحجا عن حكم بيع الرجا. 3 - بيان اختلاف الأئمة في مقدار المدة التي يقتضي الرضاع في مثلها التحريم. 4 - سؤال عن عدالة جميع الصحابة، هل هي مسلمة أم لا؟ 5 - سؤال في النفث المذكور في حديث الأذكار عند النوم. 6 - بحث في تعداد الشهداء الواردة بذكرهم الأدلة. 7 - سؤال عن حديث الأنبياء أحياء في قبورهم. 8 - بحث في حكم المولد. 9 - إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 10 - سؤال في هل يجوز قراءة كتب الحديث كالأمهات في المساجد مع استماع العوام الذين لا فطنة لهم وجواب الشوكاني. 11 - سؤال عن الفرق بين الجنس واسم الجنس وبينهما وبين علم الجنس وبين اسم الجنس واسم الجمع وبين اسم الجمع مع الجواب للشوكاني. 12 - القول المقبول في رد خبر المجهول من غير صحابة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 13 - رسالة في رضاع الكبير هل يثبت به حكم التحريم؟ 14 - رسالة تتضمن الرد على من استبعد قول العلامة أبو القاسم البلخي وهو " الكعبي " ¬

(¬1) أخي القارئ الكريم لقد توفر لنا المجلد الثاني والثالث والرابع والخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني مع تأكدنا من نسبتها إليه ولله الحمد والمنة. أما المجلد الأول لم نحصل عليه كاملا بل جمعناها من بطون المخطوطات المتناثرة فنسأل الله أن يثيبنا على ذلك. ونعتقد أنه لم يفتنا منه إلا النادر اليسر والكمال لله وحده.

من أن المباح مأمور به (¬1). 15 - بحث في مسألة الرؤية وهو المسمى: " البغية في مسألة الرؤية ". 16 - عقود الزبرجد في جيد مسائل علامة ضمد. 17 - التشكيك على التفكيك لعقود التشكيك. 18 - زهرة النسرين الفائح بفضائل المعمرين. 19 - إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع. 20 - رسالة في حكم القيام لمجرد التعظيم. 21 - قال المؤيد بالله يحيى بن حمزة: اعلم أن القول في الصحابة. 22 - جواب في حكم احتلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 23 - جواب سؤال في قوله تعالى {إلا من ظلم}. 24 - بحث في من أجبر على الطلاق. 25 - هل خص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل البيت بشيء من العلم؟ 26 - جواب سؤال ورد من أبي عريش حول الوصية بالثلث. 27 - رسالة في حكم صبيان الذميين إذا مات أبوهم. 28 - بحث في الكسوف. 29 - بحث في الماء الكائن في المحلات المملوكة. 30 - سؤال عن لحوق ثواب القراءة المهداة من الأحياء إلى الأموات. 31 - سؤال وجواب عن أرض مشتراة من جماعة لها مسقى في أرض مستوية. . . 32 - بحث في الإضرار بالجار. 33 - رفع الجناح عن نافي المباح. 34 - رسالة في حكم المخابرة. ¬

(¬1) مضمون هذه الرسالة مكرر تمامًا في الرسالة رقم (33) فلذا تم حذفها.

35 - سؤال وجواب عن أذكار النوم. 36 - بحث في " لا يبيع حاضر لباد ". 37 - سؤال وجواب عن الصلاة المأثورة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 38 - الجواب المنير على قاضي بلاد عسير. 39 - إتحاف المهرة بالكلام على حديث: " لا عدوى ولا طيرة ". 40 - جواب سؤال عن نكتة التكرار في قوله تعالى: {قل إني أمرت أن أعبد الله}. . . {المسلمين}. 41 - جواب عن سؤال كيف أن الفاء في قوله تعالى: {فانظر إلى طعامك} ... واقعة موقع الدليل. 41 - جواب السائل عن تفسير تقدير القمر منازل ويليه إشكال السائل في الجواب عن تفسير تقدير القمر. 42 - حل الإشكال في إجبار اليهود على التقاط الأزبال. 43 - توضيح وجوه الاختلال في إزالة الإشكال في إجبار اليهود على التقاط الأزبال. 45 - الإبطال لدعوى الاختلال في رسالة إجبار اليهود على التقاط الأزبال. 46 - إرسال المقال على إزالة الإشكال. 47 - تفويق النبال إلى إرسال المقال. 48 - الدراية في مسألة الوصاية. 49 - أسئلة من محروس كوكبان. وقعت فيها مراجعة بين العلامة الحسين بن عبد الله الكبسي وبين حكام كوكبان. وجواب الإمام الشوكاني عليها. 50 - بحث في لزوم الإمساك إذا علم دخول شهر رمضان أثناء النهار. 51 - سؤال في الوقف على الذرية والجواب. 52 - بحث في الطلاق الثلاث مجتمعة هل يقع أم لا؟! 52 - نثر الجوهر على حديث أبي ذر.

* المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني، ويحتوي على الرسائل التالية كما رتبها مؤلفها رحمه الله تعالى: 1 - بلوغ المنى في حكم الاستمنى. 2 - رفع الأساس لفوائد حديث ابن عباس. 3 - تحرير إيضاح الدلائل على ما يجوز بين الإمام والمؤتم من الحائل. 4 - إشراق الطلعة في عدم الاعتداد بإدراك ركعة من الجمعة. 5 - اللمعة في الاعتداد بإدراك ركعة من الجمعة. 6 - ضرب القرعة في شرطية خطبة الجمعة. 7 - الدفعة في وجه ضرب القرعة. 8 - كشف الرين في حديث ذي اليدين. 9 - بحث في تحريم الزكاة على الهاشمي. 10 - بحث في جواز امتناع الزوجة حتى يسمي لها المهر. 11 - بحث في المحاريب. 12 - بحث في الاستبراء. 13 - بحث في العمل بالرقومات. 14 - إيضاح الدلالات على أحكام الخيارات. 15 - دفع الاعتراضات على إيضاح الدلالات. 16 - بحث في نفقة الزوجة. 17 - بحث في الطلاق المشروط. 18 - بحث في " الصوم لي وأنا أجزي به ". 19 - بحث في اختلاف النقد المتعامل به. 20 - الأبحاث الحسان المتعلقة بالعارية والشركة والتأجير والرهان. 21 - بحث في بيع المشاع من غير تعيين.

22 - بحث فيمن وقف على أولاده دون زوجته. 23 - بحث في إنشاءات النساء. 24 - إقناع الباحث بدفع ما ظنه دليلا على جواز الوصية للوارث. 25 - بحث في حديث فدين الله أحق أن يقضى. 26 - بدر شعبان الطالع في سماء العرفان. 27 - المباحث الوفية في الشركة العرفية. 28 - عقد الجمان في بيان حدود البلدان. 29 - سمط الجمان فيما أشكل من مسائل عقد الجمان. 30 - إرشاد الأعيان إلى تصحيح ما في عقد الجمان. 31 - القول المقبول في فيضان الغيول والسيول. 32 - الوشي المرقوم قي تحريم التحلي بالذهب على العموم. 33 - القول الجلي في حل لبس النساء للحلي. 34 - بحث في التصوير. 35 - بحث في المخابرة. 36 - رفع منار حق الجار بالإجبار على البيع مع الضرار. 37 - كشف الأستار في حكم شفعة الجار. 38 - هداية القاضي إلى حكم تخوم الأراضي. 39 - إشراق النيرين في بيان الحكم إذا تخلف عن الوعد أحد الخصمين. 40 - رفع الخصام قي الحكم بعلم الحكام. 41 - بحث في نقض الحكم إذا لم يوافق الحق. 42 - بحث في قبول العدلة في عورات النساء. 43 - الأبحاث البديعة في وجوب الإجابة إلى حكام الشريعة. 44 - الجوابات المنيعة على الأبحاث البديعة.

45 - الذريعة إلى دفع الأجوبة المنيعة. 46 - منحة المنان في أجرة القاضي والسجان والأعوان. 47 - البحث المسفر عن تحريم كل مسكر ومفتر. 48 - بحث في قاذف الرجل وما عليه من المناقشات. 49 - بحث في حديث العين المسروقة إذا وجدها المالك. 50 - بحث في مسائل الوصايا. 51 - إيضاح القول في إثبات العول. 52 - الدرر البهية في المسائل الفقهية. ***

المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني، ويحتوي على الرسائل التالية كما رتبها مؤلفها رحمه الله تعالى: 1 - تنبيه الأعلام على تفسير المشتبهات بين الحلال والحرام. 2 - بحث في أطفال الكفار. 3 - بحث في سيحون وجيحون وما ذكره أئمة اللغة في ذلك. وعليه بحث وعلى البحث بحث. 4 - أسئلة وأجوبة عن قضايا التوحيد والشرك وغيرها. 5 - العذب النمير في جواب مسائل عالم بلاد عسير. 6 - فائق الكسا في جواب عالم الحسا. 7 - الأبحاث الوضية في الكلام على حديث حب الدنيا رأس كل خطية. 8 - الدر النضيد في إخلاص التوحيد. 9 - بحث في القرائن. 10 - الصوارم الحداد القاطعة لعلائق مقالات أرباب الاتحاد. 11 - بحث في حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها. 12 - بحث في بيان العبدين الصالحين المذكورين في حديت الغدير. 13 - بحث عن معنى حديث " لو لم تذنبوا لذهب الله بكم. . . الخ ". 14 - إتحاف الأكابر بإسناد الدفاتر. 15 - إرشاد السائل إلى دلائل المسائل. 16 - القول الصادق في ترتيب الجزاء على السابق. 17 - بحت عن تفسير قوله تعالى: {ثم جعلناه نطفة}. 18 - العرف الندي في جواز إطلاق لفظ سيدي. ثم مناقشة عليه. 19 - ثم جواب على المناقشة (ذيل العرف الندي في جواز إطلاق لفظ سيدي). 20 - المقالة الفاخرة في اتفاق الشرائع على إثبات الدار الآخرة.

21 - الطود المنيف في ترجيح ما قاله السعد على ما قاله الشريف. (من اجتماع الاستعارة التمثيلية والتبعية في قوله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم}. 22 - القول المفيد في حكم التقليد. 23 - بحث في قول أهل الحديث: رجال إسناده ثقات. ثم مناقشة على الرسالة. 24 - مقتطفات من الكتب المقدسة: الإنجيل، والزبور، والتوراة. 25 - كلمات نقلتها عن الحكماء المتقدمين. 26 - بحث في حديث أن الله خلق آدم على صورته. 27 - بحث في حديث " لعن الله اليهود لاتخاذ قبور أنبيائهم مساجد ". 28 - بحث في حديث اجعل لك صلاتي كلها وفي تحقيق الصلاة على الآل ومن هم. 29 - بحث في من قال امرأته طالق ليقضين غريمه غدا إن شاء الله. 30 - جيد النقد لعبارة الكشاف والسعد. 31 - وبل الغمامة في تفسير: {وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة}. 32 - بحث في كون الأمر بالشيء نهيًا عن ضده. 33 - بحث في الصلاة على من مات وعليه دين. ***

* المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني، ويحتوي على الرسائل التالية كما رتبها مؤلفها رحمه الله تعالى: 1 - إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات. 2 - فتح القدير في الفرق بين المعذرة والتعذير. 3 - كشف الأستار في إبطال قول من قال بفناء النار. 4 - شرح الصدور في تحريم رفع القبور. 5 - جواب سؤالات من الفقيه قاسم لطف الله. 6 - جواب سؤالات وصلت من كوكبان. 7 - الإيضاح لمعنى التوبة والإصلاح. 8 - جواب سؤالات وردت من تهامة. 9 - جواب سؤالات وردت من بعض العلماء. 10 - رفع الريبة فيما يجوز وما لا يجوز من الغيبة. 11 - بلوغ السائل أمانيه بالتكلم على أطراف الثمانية. 12 - التحف في الإرشاد إلى مذهب السلف. 13 - المباحث الدرية في المسألة الحمارية. 14 - جواب سؤال في نجاسة الميتة. 15 - تشنيف السمع بجواب المسائل السبع. 16 - بحث في الكلام على أمناء الشريعة. 17 - الدواء العاجل لدفع العدو الصائل. 18 - بحث في الكلام على قوله سبحانه: {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل}. 19 - تنبيه الأمثال على عدم جواز الاستعانة من خالص المال. 20 - القول الواضح في صلاة المستحاضة ونحوها من أهل العلل والجرائح.

21 - بحث في جواب سؤال عن الصبر والحلم هل هما متلازمان أم لا؟ 22 - جواب عن الذكر في المسجد. 23 - بحث في أن إجابة الدعاء لا ينافي سبق القضاء. 24 - بحث في الأذكار الواردة في التسبيح. 25 - بحث في وجوب محبة الرب سبحانه. 26 - بحث في العمل بقول المفتي صح عندي. 27 - بحث في النهي عن إخوان السوء. 28 - بحث في الرد على الزمخشري في استحسان بيت +المربه. 29 - بحث في كون أعظم أسباب التفرق في الدين هو علم الرأي. 30 - بحث في مستقر أرواح الأموات. 31 - بحث في وجود الجن. 32 - بحث في الاستدلال على ثبوت كرامات الأولياء. 33 - القول الحسن في فضائل أهل اليمن. 34 - بحث في كون الولد يلحق بأمه. 35 - بحث في الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. 36 - جواب سؤال يتعلق بما ورد فيما أظهر الخضر. 37 - جواب الشوكاني على الدماميني. 38 - إفادة السائل في العشر المسائل. 39 - بحث في جواب سؤالات تتعلق بالصلاة. 40 - بحث في مؤاخاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الصحابة. 41 - جواب سؤالات وصلت من كوكبان. 42 - المسك الفايح في حط الجوايح. 43 - تنبيه الأفاضل على ما ورد في زيادة العمر ونقصانه من الدلائل.

44 - رفع الباس عن حديث النفس والهم والوسواس.

المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني، ويحتوي على الرسائل التالية كما رتبها مؤلفها رحمه الله تعالى: 1 - نزهة الأحداق في علم الاشتقاق. 2 - فوائد في أحاديث فضائل القرآن. 3 - بغية المستفيد في الرد على من أنكر العمل بالاجتهاد من أهل التقليد. 4 - طيب الكلام في تحقيق الصلاة على خير من حملته الأقدام. 5 - رفع الأساطين في حكم الاتصال بالسلاطين. 6 - بحث في الرد على من قال إن علوم الناس تسلب عنهم في الجنة. 7 - بحث في أن السجود بمجرده من غير انضمامه إلى صلاة عبادة مستقلة يأجر عبده عليها. 8 - الحد التام والحد الناقص. (بحث في المنطق). 9 - سؤال وجواب في فقراء الغرباء الواصلين إلى مكة من سائر الجهات ومكثهم في المسجد الحرام. 10 - كلام في " فن المعاني والبيان " (تعليق من الشوكاني على كلام صاحب الفوائد الغياثية). 11 - شرح لحديث " بني الإسلام على خمسة أركان " وما يترتب عليه. 12 - الاجتماع على الذكر والجهر به. 13 - جواب عن سؤال خاص بالحديث " لا عهد لظالم " وهل هو موجود فعلا من عدمه. 14 - الأذكار. (جواب على بعض الأحاديث المتعارضة فيها). 15 - بحث في الجواب على من قال أنه لم يقع التعرض لمن في حفظه ضعف من الصحابة. 16 - بحث في دفع من قال أنه يستحب الرفع في السجود.

17 - النشر لفوائد سورة العصر. 18 - بحث فيما زدته من الأبيات الصالحة للاستشهاد على مجموع ابن سناء الملك. 19 - بحث في الكلام على حديث: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد ". 20 - يمين التعنت التي يطلبها المتخاصمون. 21 - بحث في كثرة الجماعات في مسجد واحد. 22 - الروض الوسيع في الدليل المنيع على عدم انحصار علم البديع. 23 - بحث في الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 24 - نزهة الأبصار في التفاضل بين الأذكار. 25 - بحث في دم الخيل ودم بني آدم هل هو طاهر أم نجس. 26 - بحث في العمل بالخط ومعاني الحروف العلمية النقطية. 27 - بحث في التصوف. 28 - بحث مشتمل على الكلام فيما يدور بين الناس هل الامتثال خير من الأدب أو الأدب خير من الامتثال. وكذلك على ما يدور بينهم من قولهم لا خير في الشرف ولا شرف في الخير. 29 - الربا والنسيئة. 30 - فتح الخلاق في جواب مسائل الشيخ العلامة عبد الرزاق الهندي. 31 - بحث في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إنما الأعمال بالنيات ". 32 - بحث في تفسير قوله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم}. 33 - بحث في تبادر اللفظ عند الإطلاق. 34 - بحث في المتحابين في الله. 35 - ترجمة علي بن موسى الرضا.

36 - الإثبات لالتقاء أرواح الأحياء والأموات

أقسام العلوم التي يتضمنها الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني بترتيب المحقق أولاً: العقيدة ثانيًا: القرآن وعلومه ثالثًا: الحديث وعلومه رابعًا: الفقه وأصوله خامسًا: اللغة العربية وعلومها وعلوم أخرى

بسم الله الرحمن الرحيم منهجي في تحقيق الفتح الرباني وتخريجه 1 - قسمت الفتح الرباني إلى خمسة أقسام: أولاً: العقيدة. ثانيًا: القرآن وعلومه. ثالثًا: الحديث وعلومه. رابعًا: الفقه وأصوله. خامسًا: اللغة العربية وعلومها. وعلوم أخرى. 2 - كتبت الفتح الرباني بمجلداته الخمس كما هي من المخطوط. 3 - قابلت بعض الرسائل والموضوعات على أكثر من مخطوط إن وجد. 4 - وصفت مخطوط كل رسالة أو موضوع. 5 - أثبتت صورة لعنوان الرسالة والصفحة الأولى والأخيرة منها. 6 - وضعت مقدمة حول عقيدة الإمام الشوكاني من خلال كتبه ورسائله. 7 - ترجمت للمؤلف ترجمة مفيدة. 8 - أثبت صورا لعناوين الرسائل في المجلدات الخمس من الفتح الرباني. 9 - عزوت الآيات القرآنية إلى سورها مع الضبط. 10 - خرجت الأحاديث من مصادرها المختلفة وذكرت رقم الجزء والصفحة ورقم الحديث. 11 - ضبط الكلمات الغريبة والصعبة والمشكلة على القارئ في المجلدات الخمس. 12 - بينت مرتبة الأحاديث من حيث الصحة أو الحسن أو الضعف أو الوضع. 13 - أضفت تعليقات هامة، لتوضيح المعاني والغايات التي يتوخاها المؤلف. 14 - شرحت الكلمات الغريبة والعبارات الغامضة.

15 - عزوت الأقوال إلى مظانها إن وجدت، أو إلى من أوردها من العلماء في كتبهم الموجودة. 16 - ترجمت للعَلَم مرة واحدة على مدار الكتاب بمجلداته الخمس. 17 - عرفت بالفرقة أو الطائفة مرة واحدة على مدار الكتاب بمجلداته الخمس. 18 - عزوت الأشعار إلى قائليها ما أمكن. 19 - ضبطت أسماء الأماكن وذلك بالرجوع إلى كتب البلدان. 20 - أوردت الآيات التي أشار إليها المؤلف ولم يذكرها. 21 - أوردت الأحاديث التي أشار إليها المؤلف ولم يذكرها. 22 - وضعت عناوين جانبية لبعض موضوعات الكتاب. 23 - فهارس الرسائل حسب ورودها في الكتاب. اللهم اجعل أعمالنا كلها صالحة. . ولوجهك خالصة. ولا تجعل فيها شركا لأحد. صنعاء مساء ليلة الجمعة: 29 شوال 1420 هـ 4/ 2/2000 م

العقيدة

أولاً: العقيدة

رسائل المجلد الأول: العقيدة 1 - أسئلة وأجوبة عن قضايا التوحيد والشرك وغيرها 4/ 3 (¬1). 2 - العذب النمير في جواب مسائل بلاد عسير 5/ 3 3 - التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف 12/ 4 4 - الدر النضيد في إخلاص التوحيد 8/ 3 5 - بحث في أن إجابة الدعاء لا ينافي سبق القضاء 23/ 4 6 - بحث في وجوب محبة الرب سبحانه 25/ 4 7 - بحث في حديث أن الله خلق آدم على صورته 26/ 3 8 - بحث في وجود الجن 31/ 4 9 - إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات 1/ 4 10 - المقالة الفاخرة في اتفاق الشرائع على إثبات الدار الآخرة 20/ 3 11 - مقتطفات من الكتب المقدسة: 24/ 3 12 - الإثبات لالتقاء أرواح الأحياء والأموات 36/ 5 13 - بحث في مستقر أرواح الأموات 30/ 4 14 - سؤال عن حديث " الأنبياء أحياء في قبورهم " 7/ 1 15 - بحث في الرد على من قال: إن علوم الناس تسلب عنهم في الجنة 6/ 5 16 - بحث في أطفال الكفار 2/ 3 17 - بحث في مسألة الرؤية وهو المسمى: (البغية في مسألة الرؤية) 15/ 1 18 - كشف الأستار في إبطال قول من قال بفناء النار 3/ 4 19 - إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي 9/ 1 ¬

(¬1) الرقم إلى يمين الخط يشير إلى رقم الرسالة في المجلد. والرقم إلى شمال الخط يشير إلى رقم المجلد من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

20 - قال المؤيد بالله يحيى بن حمزة: اعلم أن القول في الصحابة. . 21/ 1 21 - هل خص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل البيت بشيء من العلم. . . 25/ 1 22 - بحث في حديث " أنا مدينة العلم وعلي بابها " 11/ 3 23 - الدراية في مسألة الوصاية 48/ 1 24 - الصوارم الحداد المقاطعة لعلائق مقالات أرباب الاتحاد 10/ 3. 25 - بحث في التصوف 27/ 5. 26 - بحث في الاستدلال على ثبوت كرامات الأولياء 32/ 4. 27 - بحث في حكم المولد 8/ 1 (¬1). ¬

(¬1) لقد حققت الباحثة: أم الحسن، محفوظة بنت علي شرف الدين. من هذا المجلد الرسائل التي تحمل الأرقام التالية: (3) و (4) و (6) و (16) و (22) و (24) و (26) حسب تسلسلها في هذا المجلد.

مقدمة المحقق حول عقيدة الشوكاني من خلال كتبه

مقدمة المحقق حول عقيدة الشوكاني من خلال كتبه (¬1). إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فإن مذهب الإمام الشوكاني في الاعتقاد هو مذهب أهل السنة والجماعة إلا في مسائل معدودة كما سنوضحه في هذه المقدمة السريعة. وقد نهج الشوكاني منهج السلف الصالح في فهم الكتاب والسنة، وصرح بأنه: ¬

(¬1) معظم هذه المقدمة مستفادة من كتاب " منهج الإمام الشوكاني في العقيدة " تأليف: د. عبد الله نومسوك.

"لا ينبغي لعالم أن يدين بغير ما دان به السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم، من الوقوف على ما تقتضيه أدلة الكتاب والسنة، وإبراز الصفات كما جاءت، ورد علم المتشابه (¬1) إلى الله سبحانه، وعدم الاعتداد بشيء من تلك القواعد المدونة في هذا العلم - أي علم الكلام- المبنية على شفا جرف هار من أدلة العقل بما يطابق الهوى، لا سيما إذا كانت مخالفة لأدلة الشرع الثابتة في القرآن والسنة، فإنها حينئذ حديث خرافة (¬2) ولعبة لاعب، فلا سبيل للعباد يتوصلون به إلى معرفة ما يتعلق بالرب سبحانه، وبالوعد والوعيد، والجنة والنار، والمبدأ والمعاد، إلا ما جاءت به الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، وليس للعقول وصول إلى تلك الأمور. . . " (¬3). كما أن الإمام الشوكاني سلك في الاستدلال على وجود الله مسلك القرآن الكريم، وهو إثبات وجود الله عن طريق بيان عظمته وتدبيره المحكم، وقدرته على كل ما في العالم، وعنايته التامة بكل صغيرة وكبيرة. وقد اشتمل القرآن الكريم على الحجج والبراهين القاطعة التي تقمع شبهة كل ملحد أو منحرف، في كل زمان ومكان. قال تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} [الأنعام:38] أي ما تركنا في القرآن من أمر الدين، إما تفصيلا أو إجمالاً (¬4). ويمكن حصر الطرق التي سلكها الشوكاني في الاستدلال على وجود الله في طريقين: (الطريق الأول): الفطرة والميثاق المعقود بينها وبين بارئها: ¬

(¬1) علم المتشابه في القرآن هو العلم الذي يوكل بفهمه لعلم الله تعالى، ولا يجب الخوض فيه، وبخلافه المحكم فهو مفهوم لسائر الأمة. (¬2) من الأمثال النبوية، وخرافة رجل من خزاعة، كان قد غاب عن قبيلته ثم عاد، وزعم أن الجن اختطفته، وكان يحدث بأحاديث كذبا حتى ضرب به المثل: فقيل: أكذب من خرافة. (¬3) " أدب الطلب ومنتهى الأرب " للشوكاني ص 128 - 129 بتحقيقي. (¬4) فتح القدير. للشوكاني (2/ 114).

قال الشوكاني في " فتح القدير " (¬1) " كل فرد من أفراد الناس مفطور، أي مخلوق على ملة الإسلام، ولكن لا اعتبار بالإيمان والإسلام الفطريين، وإنما يعتبر الإيمان والإسلام الشرعيان، وهذا قول جماعة من الصحابة ومن بعدهم، وقول جماعة من المفسرين، وهو الحق، والقول بأن المراد بالفطرة هنا الإسلام هو مذهب جمهور السلف" ا هـ. قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30] استدل الشوكاني بهذه الآية الكريمة على أن التوحيد أمر فطري في الإنسان، ورجح القول بحمل الناس في الآية على العموم من غير فرق بين مسلمهم وكافرهم، وأنهم جميعا مفطورون على ذلك، لولا عوارض تعرض لهم، فيبقون بسببها على الكفر، ثم قال رحمه الله: " وهذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها، لا تبديل لها من جهة الخالق سبحانه {ذلك الدين القيم}: أي ذلك الدين المأمور بإقامة الوجه له، أو لزوم الفطرة، هو الدين القيم " (¬2). ومثل هذه الآية قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة: 138]. قال الشوكاني: " أي الإسلام (¬3). فالإسلام هو صبغة الله في كل مخلوق مدرك. وروي عن مجاهد في قوله تعالى: صبغة الله. قال: فطرة الله التي فطر الله الناس عليها (¬4). ومما يدل على أن النفس تدرك وجود الله بفطرتها، وترجع إليه في الشدائد والمحن تستمد منه العون، وتطلب منه النجاة. ¬

(¬1) (4/ 224). (¬2) فتح القدير. للشوكاني (4/ 224) (¬3) فتح القدير. للشوكاني (1/ 148) (¬4) فتح القدير. للشوكاني (1/ 149)

قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس: 22]. فسر الشوكاني هذه الآية وقال: " وليس هذا لأجل الإيمان بالله وحده، بل لأجل أن ينجيهم مما شارفوه من الهلاك، لعلمهم أنه لا ينجيهم سوى الله سبحانه، وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إلى الله في الشدائد " (¬1). ويربط الشوكاني في تناسق بين هذه المعرفة الفطرية، وبين الميثاق الذي أخذه الله على الإنسان، وهو في عالم الذر قبل أن يخلق كما أشار سبحانه في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172 - 173]. يقول الشوكاني في تفسير الآية: " إن الله سبحانه لما خلق آدم مسح ظهره، فاستخرج منه ذريته، وأخذ عليهم العهد، وهؤلاء هم عالم الذر، وهذا هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه، ولا المصير إلى غيره، لثبوته مرفوعا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وموقوفا على غيره من الصحابة " (¬2). وأيد تفسيره هذا بأحاديث كثيرة: (منها): حديث ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: أخذ الله تبارك وتعالى الميثاق من ظهر ¬

(¬1) فتح القدير. للشوكاني (2/ 435) (¬2) فتح القدير. للشوكاني (2/ 263)

آدم بنعمان - يعني عرفة - فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم فتلا قال {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}: إلى آخر الآية (¬1). وهناك ميثاق آخر يرتبط بالميثاق الأول: وهو ما جاءت به الرسل، وأنزلت به الكتب، تجديدا للميثاق الأول، وتذكيرا له، كما قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165]. قال الشوكاني في " فتح القدير " (¬2) " وسميت المعذرة حجة، مع أنه لم يكن لأحد من العباد على الله حجة، تنبيها على أن هذه المعذرة مقبولة لديه تفضلا منه ورحمة ". فلا منافاة بين هذا الميثاق والميثاق الأول، لأن كليهما ثابت في الكتاب والسنة. قال الحافظ الحكمي في " معارج القبول " (¬3) " فمن أدرك هذا الميثاق وهو باق على فطرته التي هي شاهدة بما ثبت في الميثاق الأول فإنه يقبل ذلك من أول مرة، ولا يتوقف، لأنه جاء موافقا لما في فطرته، وما جبله الله عليه، فيزداد بذلك يقينه، ويقوى إيمانه فلا يتلعثم ولا يتردد. ومن أدركه وقد تغيرت فطرته عما جبله الله عليه من الإقرار بما ثبت في الميثاق الأول، بأن كان قد اجتالته الشياطين عن دينه، وهوده أبواه، أو نصراه، أو مجساه، فهذا إن تداركه الله تعالى برحمته فرجع إلى فطرته، وصدق بما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب نفعه الميثاق الأول والثاني، وإن كذب هذا الميثاق كان مكذبا بالأول، فلم ينفعه ¬

(¬1) وهو حديث صحيح لشواهده. أخرجه أحمد (1/ 272) والنسائي في تفسيره رقم (211) وابن أبي عاصم في السنة رقم (202) والحاكم قي المستدرك (1/ 27) و (2/ 544) وصححه وأقره الذهبي. وانظر " الصحيحة " رقم (1623) وتحقيقي لمعارج القبول (1/ 104). (¬2) (1/ 538) (¬3) (1/ 114) بتحقيقي.

إقراره به يوم أخذه الله عليه حيث قال: {بلى} جوابا لقوله تعالى: {ألست بربكم} وقامت عليه حجة الله، وغلبت عليه الشقوة، وحق عليه العذاب: {ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء} [الحج: 18] ا هـ. (الطريق الثاني): النظر والاستدلال بالآيات: إن القرآن الكريم مملوء بذكر الآيات التي تدعو الإنسان بأن يوجه نظره إلى خلق هذا الكون من سمائه وأرضه، وما فيهما من عجائب مخلوقات الله، وتدعوه إلى التفكر في أسراره ليدعم إيمانه بالخالق سبحانه، ويطرد الشك من نفسه. يقول الله تعالى: {قُلِ انْظُروا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101]. قال الشوكاني في " فتح القدير " " والمراد بالنظر: التفكر والاعتبار، أي تفكروا واعتبروا بما في السماوات والأرض من المصنوعات الدالة على الصانع، ووحدته، وكمال قدرته، فإن في كل مخلوقاته عبرة للمعتبرين، وموعظة للمتفكرين، سواء كانت من جلائل مصنوعاته، كملكوت السماوات والأرض، أو من دقائقها من سائر مخلوقاته " (¬1). وهذه الآيات القرآنية تتعلق إما بالكون وما فيه من مخلوقات، أو ما يسمى: بدلائل الآفاق، وإما بالإنسان نفسه، أو ما يسمى بدلائل النفس. وقد جمعها الله تعالى في كتابه العزيز في قوله: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20 - 21] وقوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]. ... ¬

(¬1) (2/ 271, 276)

أما منهج الإمام الشوكاني في الإيمان بالقدر، فلا بد من استعراض آرائه في مسائل القدر، ليتبين لنا منهجه الذي سلكه: 1 - أفعال الله تعالى وأفعال العباد: يذهب الإمام الشوكاني كأهل السنة والجماعة إلى أن الله سبحانه وتعالى فاعل مختار، يتصرف في ملكه كيف يشاء بمقتضى مشيئته وحكمته، (لأنه خالق الخلق وموجده من العدم، فهو حقه وملكه، يتصرف به كيف يشاء، كما يتصرف العباد في أملاكهم من غير حرج عليهم، فإن مالك العبد أو الأمة إذا أراد أن يتصرف بهما ويخرجهما عن ملكه لم تنكر العقول ذلك، ولا تأباه العادات الجارية بين العباد، فكيف تصرف الرب بمخلوقاته، فإنه المالك للعبد وسيده، ولما في الأرضين والسماوات من العالم الذي خلقه، وشق سمعه وبصره، ورزقه، ومن عليه بالنعم إلى لا يقدر على شيء منها إلا هو، تعالت قدرته وتقدس اسمه)) (¬1). قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]. وقال تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]. قال الشوكاني: ((أي أنه سبحانه لقوة سلطانه، وعظيم جلاله، لا يسأله أحد من خلقه عن شيء من قضائه وقدره (وهم) أي: العباد (يُسألون) عما يفعلون، أي يسألهم الله عن ذلك لأنهم عبيده)) (¬2). أما ما يتعلق بأفعال العباد، فقد ذهب الشوكاني مقررا لمذهب السلف إلى أن جميع أفعال العباد، خيرها وشرها، مخلوقة خلقها الله عز وجل في الفاعلين لها، ((لأن الله خالق كل شيء من الأشياء الموجودة في الدنيا والآخرة، كائنا ما كان من غير فرق بين ¬

(¬1) قطر الولي على حديث الولي. للشوكاني. (ص 413 - 414) (¬2) فتح القدير. للشوكاني (3/ 402)

شيء وشيء)) (¬1). ومما يستدل به الشوكاني على هذا قوله تعالى: {والله خلقكم وما تعملون} [الصافات:96] قال الشوكاني في فتح القدير (¬2) عند تفسيره لهذه الآية: و" ما " في {وما تعملون} موصولة أي: وخلق الذي تصنعونه على العموم، ويدخل فيها الأصنام التي ينحتونها دخولا أوليا، ويجوز أن تكون مصدرية، أي خلقكم وخلق عملكم ... وجعلها موصولة أولى بالمقام، وأوفق بسياق الكلام)). وقد قرر الإمام الشوكاني أن أفعال العباد التي صاروا بها مطيعين وعصاة هي مخلوقة لله تعالى (¬3)؛ وأن الله هو المنفرد بالخلق، وأن سائر الشركاء لا يخلقون شيئا {قل الله خالق كل شيء} [الرعد:16] كائنا ما كان، ليس لغيره في ذلك مشاركة بوجه من الوجوه (¬4). 2 - الهدي والإضلال: لقد قرر الشوكاني: ((أن الله- سبحانه وتعالى- يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وأن الأمر بيده ما شاء يفعل، من شاء تعالى أن يضله أضله، ومن شاء أن يهديه جعله على صراط مستقيم لا يذهب به إلى غير الحق، ولا يمشي فيه إلا إلى صوب الاستقامة)) (¬5). قال تعالى: {من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم} ¬

(¬1) فتح القدير للشوكاني (4/ 474). (¬2) (4/ 402) (¬3) انظر" العذب النمير في جواب عالم بلاد عسير " المسألة الثانية في خلق أفعال العباد. وكذلك " أسئلة وأجوبة عن قضايا الشرك والتوحيد وغيرها " وهما ضمن هذا القسم- العقيدة-. (¬4) فتح القدير (3/ 74) (¬5) فتح القدير (2/ 114)

[الأنعام: 39]. كما أخبر- سبحانه- أنه لو شاء ما أشرك الناس، وأنه لو شاء لهداهم أجمعين. قال تعالى: {ولو شاء الله ما أشركوا} [الأنعام:107] وقال تعالى: {ولو شاء لهداكم أجمعين} [النحل:9] قال الشوكاني- رحمه الله- في " فتح القدير" (¬1) ((أي ولو شاء أن يهديكم جميعا إلى الطريق الصحيح، والمنهج الحق لفعل ذلك، ولكنه لم يشأ، بل اقتضت مشيئته - سبحانه - إراءة الطريق والدلالة عليها، {وهديناه النجدين} وأما الإيصال إليها بالفعل فذلك يستلزم أن لا يوجد في العباد كافر، ولا من يستحق النار من المسلمين، وقد اقتضت المشيئة الربانية أن يكون البعض مؤمنا، والبعض كافرا، كما نطق بذلك القرآن في غير موضع)). كقوله تعالى: {إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} [الإنسان: 3]. كما قرر الشوكاني- رحمه الله- أن الله تعالى قد وهب لعباده حرية الاختيار في أن يفعلوا وأن لا يفعلوا، لأنه ((خلقهم، وجعل لهم من المشاعر ما يدركون به أكمل إدراك، وركب فيهم من الحواس ما يصلون به إلى ما يريدون، ووفر مصالحهم الدنيوية عليهم، وخلى بينهم وبين مصالحهم الدينية)) (¬2). وبين أن ((هداية الله - سبحانه - لعباده إلى الحق هي بما نصبه لهم من الآيات في المخلوقات، وإرساله للرسل، وإنزاله للكتب، وخلقه لما يتوصل به العباد إلى ذلك من العقول والأفهام والأسماع والأبصار)) (¬3) ¬

(¬1) (3/ 149 - 150) (¬2) فتح القدير (2/ 448) (¬3) فتح القدبر (2/ 444)

قال تعالى: {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} [الشمس: 9 - 10] ((أي قد فاز من زكَّى نفسه وأنماها وأعلاها بالتقوى بكل مطلوب، وظفر بكل محبوب، وخسر من أضلها وأغواها، ومعنى (دساها) في الآية: أي أخفاها وأخملها، ولم يشهرها بالطاعة والعمل الصالح)) (¬1) ((فعدم اهتداء الناس لم يكن لأجل نقص فيما خلقه الله لهم، من السمع، والعقل، والبصر، والبصيرة، بل لأجل ما صار في طبائعهم من التعصب والمكابرة للحق، والمجادلة بالباطل، والإصرار على الكفر)) (¬2). كما بينه الله تعالى بقوله: {بل طبع الله عليها بكفرهم} [النساء: 155] وقوله: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدى القوم الفاسقين} [الصف:5] ((أي لما أصروا على الزيغ، واستمروا عليه، أزاغ الله قلوبهم عن الهدى، وصرفها عن قبول الحق)) (¬3) وعلى هذا فإن إسناد الهداية والإضلال إلى الله تعالى إسناد من حيث إنه خلق أفعال العباد، ووضع نظام الأسباب والمسببات، لا أنه جبر الإنسان على الضلالة أو الهداية. 3 - مبدأ السببية في القدر: لقد أثبت الشوكاني- رحمه الله- مبدأ السببية في الإيمان بالقدر، وأنكر إنكارا شديدا على المنكرين لها، ففي كتابه " قطر الولي على حديث الولي " تحدث عن هذا الموضوع بشيء من التفصيل، فبين أن الله- عز وجل- لما قدر مقادير العباد، قدرها مع موجباتها وأسبابها، فقدر للخير موجباته وأسبابه، وقدر للشر كذلك، ومن أسباب ¬

(¬1) فتح القدير: (5/ 449) (¬2) قتح القدير: (2/ 448) (¬3) فتح القدير (5/ 220)

الخير الدعاء والعمل الصالح، قال: ((فكيف ينكر وصول العبد إلى الخير بدعائه أو بعمله الصالح، فإن هذا من الأسباب التي ربط الله مسبباتها بها، وعلمها قبل أن تكون، فعلمه على كل تقدير أزلي في المسببات والأسباب، ولا يشك من له اطلاع على كتاب الله - عز وجل- ما اشتمل عليه من ترتيب حصول المسببات على حصول أسبابها، وذلك كثير جدا)). ومن ذلك قوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء: 31] {لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم:7]، {واتقوا الله ويعلمكم الله} [البقرة:282]. وكم يعد العاد من هذا الجنس في الكتاب العزيز، وما ورد في معناه من السنة المطهرة، فهل ينكر هؤلاء الغلاة (¬1) مثل هذا، ويجعلونه مخالفا لسبق العلم مباينا لأزليته؟ فإن قالوا: نعم، فقد أنكروا ما في كتاب الله- سبحانه- من فاتحته إلى خاتمته، وما في السنة المطهرة من أولها إلى آخرها. بل أنكروا أحكام الدنيا والآخرة جميعها، لأنها كلها مسببات مترتبة على أسبابها، وجزاءات معلقة بشروطها)) (¬2). كما جمع الشوكاني- رحمه الله- بين الأحاديث الواردة بسبق القضاء، وأنه قد فرغ من تقدير الأجل والرزق، والسعادة، والشقاوة، وبين الأحاديث في طلب الدعاء من العبد، وأن الله يجيب دعاءه، ويعطيه ما سأل مثله، وأنه يغضب إذا لم يسأل، وأن الدعاء يرد القضاء، ونحو ذلك كصلة الرحم، وأعمال الخير. فحمل أحاديث الفراغ من القضاء على عدم تسبب العبد بأسباب الخير أو الشر، ¬

(¬1) يقصد الشوكاني بالغلاة: أهل الكلام الذين أبطلوا فائدة ما ثبت في الكتاب والسنة من الإرشاد إلى الدعاء ونحوه؛ وجعلوه مخالفا لسبق العلم. انظر "قطر الولي على حد حديث الولي" للشوكاني (ص 496)؛ و" تنبيه الفاضل على ما ورد في زيادة العمر ونقصه من الدلائل " للشوكاني. وهو ضمن " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني" هذا. (¬2) انظر " قطر الولي " (ص 510 - 511). وتنبيه الأفاضل.

وحمل الأحاديث الأخرى على وقوع التسبب من العبد بأسباب الخير، أو التسبب بأسباب الضر، وقال: ((إن هذا الجمع لا بد منه، لأن الذي جاءنا بالأدلة الدالة على أحد الجانبين هو الذي جاءنا بالأدلة الدالة على الجانب الآخر، وليس في ذلك خلف لما وقع في الأزل، ولا مخالفة لما تقدم العلم به، بل هو من تقييد المسببات بأسبابها ... )) (¬1). وفصل الشوكاني- رحمه الله- تفصيلا دقيقا عن الدعاء، وفائدته، وكونه سببا لرد القضاء، وأطال الكلام في رده على المخالفين له، الذين أبطلوا فائدة ما ثبت في الكتاب والسنة، من الإرشاد إلى الدعاء، وأنه يرد القضاء، وما ورد من الاستعاذة منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من سوء القضاء، وما ورد من أنه يصاب العبد بذنبه، وبما كسبت يده، ونحو ذلك مما جاءت به الأدلة الصحيحة، وجعلوه مخالفا لسبق العلم، ورتبوا عليه أنه يلزم انقلاب العلم جهلاً (¬2). 4 - الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى: ذهب الشوكاني- رحمه الله- في هذه المسألة مذهب جمهور أهل السنة، وهو إثبات الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى، أي أن أفعال الله تعالى وأوامره معللة بعلل غائية، وحكم بالغة يحبها ويرضاها، ويفعل لأجلها، وأنه مما ينافي كماله وجلاله وحكمته ورحمته أن تكون أفعاله وأحكامه صادرة منه لا لحكمة، ولا لغاية مطلوبة. وقد دل على ذلك القرآن الكريم في مواطن عدة. كقوله تعالى وهو يثني على عباده المؤمنين: {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك} [آل عمران: 191] ¬

(¬1) انظر "قطر الولي" ص 509 - 510، وتنبيه الأفاضل (¬2) انظر "قطر الولي" ص511 - 512. وتنبيه الأفاضل. وقد أفرد الشوكاني رحمه الله رسالة بعنوان " بحث في أن إجابة الدعاء لا ينافي سبق القضاء" وهي ضمن هذا القسم الأول- العقيدة- برقم (5).

قال الشوكاني في "فتح القدير" (¬1) ((أي يقولون: ما خلقت هذا عبثا ولهوا بل خلقته دليلا على حكمتك وقدرتك؛ سبحانك: أي تنزيها لك عما لا يليق بك من الأمور التي من جملتها أن يكون خلقك لهذه المخلوقات باطلاً)). ¬

(¬1) (1/ 411)

أما عناية الإمام الشوكاني- رحمه الله- بتوحيد الألوهية فقد اعتنى به عناية بالغة، وأولاه اهتماما كبيرا، ويكفي ما يدل على اهتمامه وعنايته به أنه ألف عدة رسائل (¬1) يبين فيها معنى هذا التوحيد، وما يناقضه من الشركيات، أسبابها وفتنها، وخاصة شركيات القبوريين ... كما أشار الشوكاني- رحمه الله- في مواضع متعددة من مؤلفاته إلى أن هذا التوحيد حقيقة دين الإسلام وأساسه: 1 - أنه الغاية العظمى، والمقصد الأسمى الذي من أجله خلق الله الخلق وأوجدهم في هذه الأرض. كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]. قال الشوكاني في " فتح القدير" (¬2) ((عبادة الله: إثبات توحيده، وتصديق رسله، والعمل بما أنزل في كتبه)). ((ومعنى العبادة في اللغة: الذل والخضوع والانقياد، وكل مخلوق من الإنس والجن خاضع لقضاء الله، متذلل لمشيئته، منقاد لما قدره عليه، خلقهم على ما أراد، ورزقهم كما قضى، لا يملك أحد منهم لنفسه نفعا وضرا. ووجه تقديم الجن على الإنس هاهنا تقدم وجودهم)) (¬3). 2 - أنه الغاية العظمى، والمقصد الأساسي الذي من أجله أرسلت الرسل، وبه أنزلت الكتب. يقول الشوكاني- رحمه الله- (( ... ولم يبعث الله رسله، ولا أنزل عليهم كتبه إلا لإخلاص توحيده وإفراده بالعبادة، واستدل بآيات كثيرة: (منها): {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} [الأعراف: 59، المؤمنون: 23، الأعراف: 65، هود: 50، الأعراف: 73، هود: 61، ¬

(¬1) أهمها: " الدر النضيد في إخلاص التوحيد " وهو ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (4) و" شرح الصدور في تحريم رفع القبور" وهو ضمن " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني " و" العذب النمير " في السؤال الأول. وهو ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (2). (¬2) (1/ 107) (¬3) فتح القدير. للشوكانى (5/ 92).

الأعراف: 85، هود: 84] {أن اعبدوا الله واتقوه} [نوح:3]، {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني} [طه: 14]. وبالجملة: فرسل الله- صلوات الله عليهم-، وكذلك جميع كتبه المنزلة متفقة على هذه الدعوة، وقد تكفل القرآن الكريم بحكاية جميع ذلك لمن تتبعه)) (¬1). 3 - أنه معنى شهادة: أن لا إله إلا الله. قال الشوكاني- رحمه الله- في " فتح القدير" (¬2) في تفسير قوله تعالى: {لا إله إلا هو} [البقرة:255] (أي: لا معبود بحق إلا هو). وفي قوله تعالى: {الله لا إله إلا هو} [آل عمران:2] قال: ((أي هو المستحق للعبودية)) (¬3) وقال أيضا عند شرحه لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دعاء استفتاحه: (لا إله إلا أنت)) (¬4) أي ليس لنا معبود نتذلل له، ونتضرع إليه، في غفران ذنوبنا إلا أنت)) (¬5). وأنواع العبادة كثرة جدا، قال الشوكاني: ((إنه يصعب حصرها، وتتعسر الإحاطة بها)) (¬6) منها: (1) الدعاء: قال الشوكاني- رحمه الله-: " فاعلم أن الدعاء نوع من أنواع العبادة، المطلوبة من العباد، ولو لم يكن في الكتاب العزيز إلا مجرد طلبه منهم لكان ذلك مفيدا للمطلوب، أعني كونه من العبادة. واستدل- رحمه الله- بكثير من الآيات القرآنية: ¬

(¬1) انظر " العذب النمير " في السؤال الأول وهو ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (2). (¬2) (1/ 271). (¬3) فتح القدير للشوكاني (1/ 312). (¬4) وهو حديث صحيح. أحرجه مسلم (1/ 535) رقم 771). (¬5) نيل الأوطار للشوكاني (3/ 28). (¬6) قطر الولي للشوكاني (ص 455).

(منها): قوله تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} [الإسراء:110]. وقال سبحانه: {ادعوني أستجب لكم} [غافر:60]. قال: ((فهذه الآيات البينات دلت على أن الدعاء مطلوب لله- عز وجل- من عباده، وهذا القدر يكفى في إثبات كونه عبادة، فكيف إذا انضم إليه النهي عن دعاء غير الله، قال تعالى: {فلا تدعوا مع الله أحدا} [الجن:18] (¬1). (2) المحبة: قال الشوكاني- رحمه الله-: ((اعلم أن محبة الله- عز وجل- هي من أعظم الفرائض المفترضة على العباد، كما يدل على ذلك آيات الكتاب المبين، وأحاديث سيد المرسلين، وإجماع المسلمين أجمعين، فمن ذلك قول الله- عز وجل-: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31] وقد علم أن اتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرض واجب لا خلاف فيه 000)) (¬2). (3) الخوف والرجاء: قال تعالى في سورة [آل عمران: 175] {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}. قال الشوكاني في " فتح القدير" (¬3) في تفسير الآية: ((أي فافعلوا ما آمركم به، واتركوا ما أنهاكم عنه، لأني الحقيق بالخوف مني، والمراقبة لأمري ونهيي، لكون الخير والشر بيدي)). ومنها قوله تعالى: {فلا تخشوا الناس واخشون} [المائدة: 44]. ¬

(¬1) انظر " العذب النمير " المسألة الأولى. وهو ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (2). (¬2) بحث في وجوب محبة الرب. للشوكاني، وهو ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (6). (¬3) (1/ 400).

أما الرجاء فهو نوع من أنواع العبادة، قال الله- عز وجل-: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} [الكهف: 110]. قال الشوكاني في " فتح القدير" (¬1) ((الرجاء: توقع وصول الخير في المستقبل، أي: من كان له هذا الرجاء الذي هو شأن المؤمنين {فليعمل عملا صالحا} وهو ما دل الشرع على أنه عمل خير يثاب عليه فاعله. {ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} من خلقه، سواء كان صالحا أو طالحا، حيوانا أو جمادا)). وقد جمع الله- سبحانه- بين العبادتين الخوف والرجاء قي قوله {وادعوه خوفا وطمعا} [الأعراف: 56]. قال الشوكاني: ((وفيه أنه يشرع للداعي أن يكون عند دعائه خائفا وجلا طامعا في إجابة الله لدعائه، فإنه إذا كان عند الدعاء جامعا بين الخوف والرجاء ظفر بمطلوبه، والخوف: الانزعاج من المضار التي لا يؤمن من وقوعها. والطمع: توقع حصول الأمور المحبوبة)) (¬2). (4) الاستعانة والاستغاثة: قال الشوكاني- رحمه الله-: ((الاستعانة بالنون: هي طلب العون، ولا خلاف أنه يجوز أن يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه من أمور الدنيا، كأن يستعين به على أن يحمل معه متاعه، أو يعلف دابته، أو يبلغ رسالته، وأما ما لا يقدر عليه إلا الله - جل جلاله - فلا يستعان فيه إلا به)) (¬3). ومنه قوله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 5] قال - رحمه ¬

(¬1) (3/ 318) (¬2) فتح القدير للشوكاني (2/ 213) وانظر (4/ 192). (¬3) الدر النضيد في إخلاص التوحيد. وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (4).

الله -: ((المعنى تحصل بالعبادة، وتحصل بالاستعانة، لا نعبد غيرك ولا نستعين)) (¬1). أما الاستغاثة: فهي طلب الغوث منه تعالى من جلب خير، أو دفع شر، وهي نوع من أنواع العبادة التي لا تصح إلا لله- سبحانه وتعالى-. قال تعالى: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} [الأنفال:9] يقول الشوكاني- رحمه الله-: ((فأما الاستغاثة بالمعجمة والمثلثة فهي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة، كالاستنصار وهو طلب النصر، ولا خلاف أنه يجوز أن يستغاث بالمخلوق فيما يقدر على الغوث فيه من الأمور، ولا يحتاج مثل ذلك إلى استدلال، فهو غاية الوضوح، وما أظنه يوجد فيه اختلاف، ومنه: {فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه} [القصص: 15] وكما قال تعالى: {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر} [الأنفال: 72] وأما ما لا يقدر عليه إلا الله فلا يستغاث فيه إلا به، كغفران الذنوب، والهداية، وإنزال المطر، والرزق ونحو ذلك، كما قال تعالى: {ومن يغفر الذنوب إلا الله} [آل عمران:135])) (¬2) (5) الذبح: ومن أنواع العبادة الذبح نسكا لله تعالى: من هدي، وأضحية، وعقيقة، وغير ذلك. قال تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت} [الأنعام: 162 - 163] (¬3) ¬

(¬1) فتح القدير للشوكاني (1/ 22). (¬2) " الدر النضيد في إخلاص التوحيد " وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (4). (¬3) انظر " فتح القدير " للشوكاني (2/ 185).

(6) التوكل: ومن أنواع العبادة التوكل على الله- عز وجل- وهو اعتماد القلب عليه، وثقته به، وأنه كافيه، وهو عبادة عظيمة تعبد الله به عباده، وأمرهم بأن يعتمدوا عليه وحده دون سواه، ولا يوفق للقيام به على وجه الكمال إلا أولياء الله وحزبه المؤمنون. وقد فرضه الله- عز وجل- على عباده، حيث أمر به في مواضع عديدة من كتابه العزيز: قال تعالى: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} [آل عمران: 122] قال تعالى: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} [المائدة:123] (¬1). ¬

(¬1) انظر "فتح القدير" للشوكاني (3/ 98).

أما ما ذهب إليه الشوكاني في التوسل والتشفع بدعاء الصالحين، فهو رأي صائب، واستدلال صحيح، غير أنه لم يفرق - رحمه الله - بين هذا النوع من التوسل، وبين التوسل بالذوات والأشخاص، فاختلط الأمر عليه، فخلط بينهما وجعلهما نوعا واحدا، كما اختلط عليه الأمر أيضا بين التوسل بالذوات والأشخاص، وبين التوسل بالأعمال الصالحة، فجعل الأول كالثاني في الجواز، فوقع بذلك في أخطاء. وإليك بيانها: أ- التوسل بذات المتوسل به إلى الله تعالى، أو بجاهه، أو منزلته، أو نحو ذلك، عمل غير شرعي، سواء كان المتوسل به نبيا من الأنبياء، أو عالما من العلماء، لأنه لم يأمر به الله، ولا بلغه رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أو من بعدهم من القرون الخيرة أنه يعمل به، إذ لو كان مشروعا لفعلوه، ولسبقونا إليه، فإذا لم يفعلوه دل ذلك على عدم مشروعيته. وقد تقرر في الكتاب العزيز، والسنة المطهرة أن الإسلام مبني على أصلين عظيمين: (أحدهما): أن لا نعبد إلا الله. و (الثاني): أن لا نعبده إلا بما شرع، كما تقرر أن الدعاء نوع من أنواع العبادة، بل هو أجلها وأعظمها. فمن دعا المخلوقين من دون الله، واستغاث بهم، كان مشركا به- سبحانه-، ومن توسل في دعائه إلى الله بالمخلوقين، أو أقسم عليه بهم كان مبتدعا بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، لأنه عمل غير مشروع. وهذان الأصلان هما تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. ولهذا قال الفقهاء: العبادات مبناها على التوقيف (¬1) أي لا بد فيها من ثبوت النص الشرعي المستلزم مشروعيتها واستحبابها. ¬

(¬1) انظر "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 20 تحقيق د. ربيع بن هادي المدخلي.

2 - إن التوسل بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي ورد في حديث الأعمى هو في التحقيق توسل بدعائه وشفاعته لا بذاته، لأن الأعمى طلب من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدعو له، ليرد الله عليه بصره (¬1) فأمره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدعو هو أيضا، ويسأل أن يقبل الله شفاعة نبيه فيه، فقوله في دعائه: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي شفاعة نبيك بدعائه، فكان الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذا شافعا له بالدعاء، وهو سائل قبول شفاعة الرسول، ولهذا قال في دعائه أيضا: اللهم فشفعه في. وهكذا كان توسل الصحابة به - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته، فلما مات توسلوا بدعاء غيره، ولم ينقل عن أحد منهم أنه التجأ إلى قبره، وطلب منه الدعاء لقضاء حاجته، ولو كان ذلك مشروعا لفعلوه، وأكبر دليل على ذلك وأوضحه استسقاء عمر بالعباس (¬2). ¬

(¬1) انظر " الدر النضيد في إخلاص التوحيد " وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (4). (¬2) " منهج الإمام الشوكاني في العقيدة " تأليف\ د. عبد الله نومسوك. (1/ 332 - 333).

أما عناية الشوكاني- رحمه الله- بتوحيد الأسماء والصفات، فقد اعتنى به عناية فائقة، وأولاه اهتماما بالغا. وفيما يلي نسوق بعضا من كلامه. قال رحمه الله: ((اعلم أن الكلام في الآيات والأحاديث الواردة في الصفات قد طالت ذيوله، وتشعبت أطرافه، وتناسبت فيه المذاهب، وتفاوتت فيه الطرائق، وتخالفت فيه النحل، وسبب هذا عدم وقوف المنتسبين إلى العلم حيث أوقفهم الله، ودخولهم في أبواب لم يأذن الله لهم بدخولها، ومحاولتهم لعلم شيء استأثر الله بعلمه، حتى تفرقوا فرقا، وتشعبوا شعبا، وصاروا أحزابا، وكانوا في البداية ومحاولة الوصول إلى ما يتصورونه من العامة مختلفي المقاصد، متبايني المطالب: فطائفة: وهي أخف هذه الطوائف- المتكلفة علم ما لم يكلفها الله بعلمه إثما وأقلها عقوبة وجرما، وهى التي أرادت الوصول إلى الحق، والوقوف على الصواب، لكن سلكت فيه طريقة متوعرة، وصعدت في الكشف عنه إلى عقبة كؤود لا يرجع من سلكها فضلا عن أن يظفر فيها بمطلوب صحيح، ومع هذا أصلوا أصولا ظنوها حقا، فدفعوا بها آيات قرآنية، وأحاديث نبوية صحيحة، واعتلوا في ذلك الدفع بشبه واهية، وخيالات مختلة)) (¬1). وقسم الشوكاني هؤلاء إلى طائفتين، ويقصد بهما: المعتزلة القدرية، والجبرية الجهمية، قال: ((الطائفة الأولى: هي الطائفة التي غلت في التنزيه، فوصلت إلى حد يقشعر عنده الجلد، ويضطرب له القلب، ومن تعطيل الصفات الثابتة بالكتاب والسنة ثبوتا أوضح من شمس النهار، وأظهر من فلق الصباح، وظنوا هذا من صنيعهم موافقا للحق، مطابقا لما يريده الله - سبحانه - فضلوا الطريق المستقيم، وأضلوا من رام سلوكها. والطائفة الأخرى: هي الطائفة التي غلت في إثبات القدرة غلوا بلغ إلي حد أنه لا تأثير ¬

(¬1) " التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف " للشوكاني وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- لرقم (3).

لغيرها، ولا اعتبار بما سواها، وأفضى ذلك إلى الجبر المحض، والقسر الخالص، فلم يبق لبعث الرسل، وإنزال الكتب كثير فائدة، ولا يعود ذلك على عباده بعائدة، وجاءوا بتأويلات للآيات البينات، فكانوا كالطائفة الأولى في الضلال والإضلال)) (¬1). وذكر طائفة ثالثة ويقصد بها الأشاعرة ((توسطت، ورامت الجمع بين الضب والنون، وظنت أنها وقفت بمكان بين الإفراط والتفريط، ثم أخذت كل طائفة من هذه الطوائف الثلاث تجادل وتناضل، وتحقق وتدقق في زعمها، وتجول على الأخرى وتصول بما ظفرت به مما يوافق ما ذهبت إليه و {كل حزب بما لديهم فرحون} [الروم:32] وعند الله تلتقي الخصوم)). (¬2) ثم بين- رحمه الله- مذهب الحق الذي يجب الأخذ به في هذه المسألة بقوله: ((وإن الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة، هو ما كان عليه خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وقد كانوا- رحمهم الله، وأرشدنا إلى الإقتداء بهم، والاهتداء بهديهم- يمرون أدلة الصفات على ظاهرها، ولا يتكلفون علم ما لا يعلمون، ولا يتأولون، وهذا المعلوم من أقوالهم وأفعالهم، والمتقرر من مذاهبهم، ولا يشك فيه شاك، ولا ينكره منكر، ولا يجادل فيه مجادل)) (¬3). وقال- رحمه الله-: ((إن مذهب السلف من الصحابة- رضي الله عنهم- والتابعين وتابعيهم، هو إيراد أدلة الصفات على ظاهرها من دون تحريف لها، ولا تأويل متعسف لشيء منها ولا جبر، ولا تشبيه، ولا تعطيل يفضي إليه كثير من التأويل، وكانوا إذا سأل سائل عن شيء من الصفات، تلوا عليه الدليل، وأمسكوا عن القال والقيل، وقالوا: قال الله هكذا، ولا ندري بما سوى ذلك، ولا نتكلف، ولا نتكلم بما لم نعلمه، ولا أذن الله لنا بمجاوزته، فإن أراد السائل أن يظفر منهم بزيادة على الظاهر زجروه عن الخوض فيما لا يعنيه، ونهوه عن طلب ما لا يمكن الوصول إليه إلا بالوقوع ¬

(¬1) " التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف " للشوكاني وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (3). (¬2) " التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف " للشوكاني وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (3). (¬3) " التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف " للشوكاني وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (3).

في بدعة من البدع التي هي غير ما هم عليه، وما حفظوه عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحفظه التابعون عن الصحابة، وحفظه من بعد التابعين عن التابعين)) (¬1) وقال- رحمه الله- مقررا لمنهج السلف في الإثبات مع التنزيه: ((إن الآية: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11] يستفاد بها نفي المماثلة في كل شيء، فيدفع بهذه الآية في وجه المجسمة، وتعرف به الكلام عند وصفه - سبحانه- بالسميع البصير، وعند ذكر السمع والبصر واليد والاستواء ونحو ذلك مما اشتمل عليه الكتاب والسنة، فتقرر بذلك الإثبات لتلك الصفات، لا على وجه المماثلة والمشابهة للمخلوقات، فيدفع به جانبي الإفراط والتفريط، وهما المبالغة في الإثبات المفضية إلى التجسيم، والمبالغة في النفي المفضية إلى التعطيل، فيخرج من بين الجانبين وغلو الطرفين أحقية مذهب السلف الصالح، وهو قولهم بإثبات ما أثبته- الله- لنفسه من الصفات على وجه لا يعلمه إلا هو)) (¬2). وقال في قطع الأطماع عن إدراك الكيفية المستنبط من قوله تعالى: {ولا يحيطون به علما} [طه: 110] إنه لم يحط بفائدة هذه الآية، ويقف عندها، ويقتطف من ثمراتها إلا الممرون للصفات على ظاهرها، المريحون أنفسهم من التكلفات، والتعسفات، والتأويلات، والتحريفات، وهم السلف الصالح كما عرفت، فهم الذين اعترفوا- بعدم- الإحاطة، وأوقفوا أنفسهم حيث أوقفها الله، وقالوا: الله أعلم بكيفية ذاته، وماهية صفاته، بل العلم كله له (¬3). وقد اشتد إنكار الشوكاني - رحمه الله - على المتكلمين ومناهجهم، وقرر أن المذهب الحق في الصفات هو إمرارها على ظاهرها من غير تأويل، ولا تخريف، ولا تكلف، ولا تعسف، ولا جبر، ولا تشبيه، ولا تعطيل (¬4). وأن هذا المسلك القويم هو ¬

(¬1) " التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف " للشوكاني. وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (3). (¬2) " التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف " للشوكاني. وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (3). (¬3) " التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف " للشوكاني. وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (3). (¬4) " التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف " للشوكاني. وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (3).

مسلك السلف الصالح من الصحابة والتابعين، فلم يكلف الله أحدا من عباده أن يعتقد أنه - جل جلاله- متصف بغير ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن زعم أن الله- سبحانه- تعبد عباده بأن يعتقدوا أن صفاته الشريفة كائنة على الصفة التي يختارها طائفة من طوائف المتكلمين، فقد أعظم على الله الفرية، بل كلف عباده أن يعتقدوا أنه ليس كمثله شيء، وأنهم لا يحيطون به علما (¬1). أما موقف الشوكاني- رحمه الله- من صفات الله تعالى فقد أول بعضها في تفسيره "فتح القدير" تأويلا أشعريا. والصفات التي أولها هي: " الوجه" (¬2)، و" العين" (¬3) و" اليد" (¬4) و" العلو" (¬5)، و"المجيء" (¬6) و" الإتيان" (¬7) و" المحبة" (¬8)، و"الغضب" (¬9) وهذا التأويل مناقض لمنهجه في رسالته " التحف " في إثبات الصفات على ظاهرها، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، وهو مذهب السلف الصالح- رضوان الله عليهم-. قلت: إن الشوكاني- رحمه الله- على مذهب السلف، وكان يحبه، ويدعو إليه، كما هو ظاهر لكل من قرأ رسالته " التحف " غير أنه- كما يظهر لي- لم يستوعب مذهب السلف في مسألة الصفات استيعابا جيدا. ¬

(¬1) " تنبيه الأعلام على تفسير المشتبهات بين الحلال والحرام " للشوكاني. وهى ضمن " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني". (¬2) " فتح القدير": (4/ 189). (¬3) "فتح القدير ": (3/ 481) و (5/ 2 0 1) و (5/ 123) و (3/ 365) و (2/ 497). (¬4) " فتح القدير ": (5/ 48) و (2/ 57) و (5/ 258) و (4/ 445). (¬5) "فتح القدير ": (2/ 104) و (2/ 124) و (3/ 67) و (5/ 288). (¬6) " فتح القدير ": (5/ 440). (¬7) " فتح القدير ": (1/ 210، 211) و (2/ 181). (¬8) " فتح القدير": (1/ 333). (¬9) " فتح القدير": (3/ 380).

لقد قال في " إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول" (¬1) وقد فرغ من تأليفه سنة (1231هـ) كما نص عليه في ختامه (¬2)، أي بعد: فتح القدير بسنتين (¬3) قال ما نصه: ((الفصل الثاني فيما يدخل في التأويل، وهو قسمان: (أحدهما): أغلب الفروع ولا خلاف في ذلك. (والثاني): الأصول: كالعقائد، وأصول الديانات، وصفات الباري عز وجل-. وقد اختلفوا في هذا القسم على ثلاثة مذاهب: (الأول): أنه لا مدخل للتأويل فيها، بل يجري على ظاهرها، ولا يؤول شيء منها، وهذا قول المشبهة. و (الثاني): أن لها تأويلا، ولكن نمسك عنه، مع تنزيه اعتقادنا عن التشبيه والتعطيل لقوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله} [آل عمران:7]. قال ابن برهان: وهذا قول السلف. قلت (أي الشوكاني): وهذا هو الطريقة الواضحة، والمنهج المصحوب بالسلامة عن الوقوع في مهاوي التأويل لما لا يعلم تأويله إلا الله، وكفى بالسلف الصالح قدوة لمن أراد الإقتداء، وأسوة لمن أحب التأسي، على تقدير عدم ورود الدليل القاضي بالمنع من ذلك، فكيف وهو قائم موجود في الكتاب والسنة. (والمذهب الثالث): أنها مؤَولة: قال ابن برهان: والأول من هذه المذاهب باطل، والآخران منقولان عن الصحابة، ونقل هذا المذهب الثالث عن علي، وابن مسعود، وابن عباس، وأم سلمة)) اهـ. ¬

(¬1) ص 583 بتحقيقنا. (¬2) ص930. (¬3) فرغ الشوكاني رحمه الله من تأليف " فتح القدير سنة (1229هـ) انظر "فتح القدير" (5/ 524).

((قلت: هذا وهم من الشوكاني، والظاهر أن الأول هو قول السلف وليس المشبهة كما زعم، فإن مذهب السلف إثبات الصفات وإجراؤها على ظواهرها من غير تأويل ولا تشبيه، وتفويض كنهها وكيفيتها إلى الله تعالى، كما قرره- رحمه الله- قي رسالته "التحف". أما الثاني: فهو قول المفوضة أو القريب منه، وليس قول السلف كما زعم، لأن السلف لا يقولون أن لها تأويلا، ولكنا نمسك عنه، بل يثبتون معناها من غير تصور المشابهة ولا تمثيل، وأما ما نقله عن ابن برهان فهو باطل، لأنه لم يرد حرف واحد في التأويل المعروف عندهم عن السلف، وكل ما نقل فهو كذب واختراع (¬1). والشوكاني- رحمه الله- نقل هذا الكلام ولم يعقب عليه، وكأنه مقبول عنده، وهو مردود. وهكذا لكل عالم زلة ولكل جواد كبوة، والعصمة لله- سبحانه- ولمن عصمه من الأنبياء والمرسلين)) (¬2) اهـ. أما موقف الإمام الشوكاني- رحمه الله- من مسألة خلق القرآن، فقد ذهب مذهب الواقفية، فلم يجزم برأي هل هو مخلوق أم غير مخلوق: قال الشوكاني في "فتح القدير" (¬3) ((وهذه المسألة: أي قدم القرآن وحدوثه قد ابتلي بها كثير من أهل العلم والفضل في الدولة المأمونية، والمعتصمية، والواثقية، وجرى للإمام أحمد بن حنبل ما جرى من الضرب الشديد؛ والحبس الطويل، وضرب بسببها عنق محمد بن نصر الخزاعي (¬4) وصارت فتنة عظيمة في ذلك الوقت وما بعده، والقصة ¬

(¬1) انظر " مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية " (5/ 90) و (6/ 394). وذم التأويل لابن قدامة ص 40 تحقيق الأخ بدر البدر. (¬2) " منهج الإمام الشوكاني في العقيدة " (1/ 471 - 473). (¬3) (3/ 397) (¬4) هكذا في الأصل: ولعل الصواب: أحمد بن نصر الخزاعي، أبو عبد الله. انظر " تاريخ بغداد " (5/ 137).

أشهر من أن تذكر ... ولقد أصاب أئمة السنة بامتناعهم من الإجابة إلى القول بخلق القرآن وحدوثه، وحفظ الله بهم أمة نبيه عن الابتداع، ولكنهم- رحمهم الله- جاوزوا ذلك إلى الجزم بقدمه، ولم يقتصروا على ذلك حتى كفروا من قال بالحدوث، بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من وقف، وليتهم لم يجاوزوا حد الوقف، وإرجاع العلم إلى علام الغيوب، فإنه لم يسمع من السلف الصالح من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم إلى وقت قيام المحنة، وظهور القول في هذه المسألة شيء من الكلام، ولا نقل عنهم كلمة في ذلك، فكان الامتناع من الإجابة إلى ما دعوا إليه، والتمسك بأذيال الوقف، وإرجاع علم ذلك إلى عالمه هو الطريقة المثلى، وفيه السلامة، والخلوص من تكفير طوائف من عباد الله، والأمر لله - سبحانه-)) اهـ. وهذا موقف غير سديد من الإمام الشوكاني- رحمه الله- لأن السلف في صدر الإسلام كانوا في غنى عن الزيادة على القول: القرآن كلام الله، لأنهم لم يكونوا يفقهون من هذه الإضافة إلا أنها صفة من صفات الله، وصفات الله غير مخلوقة، حتى ظهرت الجهمية، وظهرت بدعة القول بخلق القرآن، فعقل أئمة السلف خطرها، وقابلوهم برفضها وإنكارها، والتشديد عليهم في ذلك، لأن حقيقة كلامهم الكفر، لما تضمن من تكذيب القرآن، وإثبات النقص لله، ولا سبيل لهم لإبطال هذه البدعة إلا أن قالوا: القرآن كلام الله غير مخلوق (¬1). كما أن الشوكاني- رحمه الله- جعل الحلف بالقرآن كالحلف بمخلوق من مخلوقات الله (¬2)، وهذا رأي باطل قال به المعتزلة وأتباعهم. والصحيح أن القرآن كلام الله تكلم ¬

(¬1) انظر " الرد على الجهمية للدارمي ص 259 ضمن عقائد السلف. و" منهج الإمام الشوكاني في العقيدة" (1/ 417 - 424). (¬2) كما يتضح هذا من صيغة السؤال السادس في رسالة " إرشاد السائل إلى دلائل المسائل " وهي ضمن الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني- الفقه-.

الله به حقيقة بلفظه ومعناه؛ وهو- سبحانه- موصوف بالكلام؛ فعلى هذا يكون الحلف بالقرآن حلفا بصفة من صفاته- سبحانه-؛ وصفات الله - سبحانه غير مخلوقة؛ فالقرآن غير مخلوق؛ والحلف به جائز؛ لأنه حلف بكلام الله؛ ويعقد به اليمين؛ وهذا ما اجمع عليه السلف أهل السنة (¬1). ¬

(¬1) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 336) وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص 191.

كما اهتم الإمام الشوكاني- رحمه الله- بتعريف الشرك، وبيان أقسامه، وذكر نماذج من الأعمال الشركية: أما معنى الشرك فقد قال: ((إن الشرك هو دعاء غير الله في الأشياء التي تختص به، أو اعتقاد القدرة لغيره فيما لا يقدر عليه سواه، أو التقرب إلى غيره بشيء مما لا يتقرب به إلا إليه، ومجرد تسمية المشركين لما جعلوه شريكا بالصنم والوثن والإله لغير الله، زيادة على التسمية بالولي والقبر والمشهد، كما يفعله كثير من المسلمين، بل الحكم واحد إذا حصل لمن يعتقد في الولي والقبر ما كان يحصل لمن كان يعتقد في الصنم والوثن، إذ ليس الشرك هو مجرد إطلاق بعض الأسماء على بعض المسميات، بل الشرك هو أن يفعل لغير الله شيئا يختص به- سبحانه- سواء أطلق على ذلك الغير ما كانت تطلق عليه الجاهلية أو أطلق عليه اسما آخر فلا اعتبار بالاسم قط)) (¬1) وقد نهى الله- سبحانه وتعالى- عن الشرك به في كثير من الآيات، كقوله تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا} [النساء:36]. قال الشوكاني في تفسير الآية: ((أي لا تشركوا به شيئا من الأشياء من غير فرق بين حي وميت، وجماد وحيوان، ولا تشركوا به شيئا من الإشراك من غير فرق بين الشرك الأكبر والأصغر، والواضح والخفي)) (¬2). أما أقسام الشرك فهي ثلاثة: 1 - الشرك في توحيد الربوبية: وهو إثبات فاعل مستقل غير الله تعالى، كشرك من يجعل الإنسان مستقلا بإحداث فعله، وشرك من يجعل الأجسام الطبيعية من الشمس والقمر والنجوم والجبال ونحوها كما يقوله الطبيعيون، أو العقول كما تقوله الفلاسفة، أو الأرواح والنفوس كما يقوله ¬

(¬1) " الدر النضيد في إخلاص التوحيد " وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (4). (¬2) " فتح القدير " للشوكاني (1/ 464).

عباد القبور، أو الملائكة، أو غير ذلك من المخلوقات. ومن هذا القسم شرك فرعون، إذ قال منكرا الرب الخالق: {وما رب العالمين} [الشعراء:23] وقال مدعيا لنفسه الربوبية {أنا ربكم الأعلى} [النازعات:24] وأمثاله ممن يدعي لنفسه الربوبية. وقد رد الله- سبحانه- على أصحاب هذا الشرك في آيات كثيرة من القرآن: (منها): قال تعالى في سورة الأعراف (191 - 192): {أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون} (¬1). (ومنها): قوله- سبحانه- في وصف آلهتهم: {واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا} [الفرقان: 3] (¬2). 2 - الشرك في توحيد الأسماء والصفات: وهو نوعان: (أحدهما): تشبيه الخالق بالمخلوق. كمن يقول: يد الله كيدي و ..... وهو شرك المشبهة الذين رد الله عليهم بقوله: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] وقوله: {ولا يحيطون به علما} [طه:110] 0 (¬3) (والثاني): اشتقاق أسماء للآلهة الباطلة من أسماء الإله الحق، قال تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون} ¬

(¬1) انظر تفسير ذلك في " فتح القدير " (2/ 274). (¬2) انظر تفسير ذلك في " فتح القدير " (4/ 61). (¬3) " التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف " للشوكاني. وهى ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (3)

[الأعراف:180] (¬1). 3 - الشرك في توحيد الألوهية والعبادة: وهو نوعان: (أحدهما): شرك أكبر: وهو أن يتخذ العبد ندا لله تعالى في العبادة، يدعوه، أو ينذر له، أو يذبح له، أو يخافه، أو يصرف له أي نوع من أنواع العبادة، كشرك مشركي مكة أيام بعثة النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد قالوا في آلهتهم: {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس:18] وقالوا: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3] والمراد بهذا القول: الشفاعة لهم في الدنيا (¬2) ومن هذا النوع شرك عباد القبور الذين جعلوا بعض خلق الله شريكا له، مثلا، وندا، فاستغاثوا به فيما لا يستغاث فيه إلا بالله، وطلبوا منه ما لا يطلب إلا من الله، مع القصد والإرادة (¬3). وهذا النوع من الشرك هو الذي قال الله تعالى فيه: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا} [النساء:36]؛ {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل:36]، {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار} [المائدة: 72]. والآيات في النهي عن هذا الشرك، وبيان بطلانه كثيرة جدا، والكتب السماوية كلها من أولها إلى آخرها تبطل هذا الشرك، وتقبح أهله، وتنص على أنهم أعداء الله تعالى. وما أهلك الله تعالى من الأمم السابقة إلا بسبب هذا الشرك ومن أجله (¬4). وأن هذا الشرك خطره عظيم لما يأتي: ¬

(¬1) انظر تفسير ذلك في "فتح القدير" (2/ 268، 270). (¬2) انظر تفسير ذلك في " فتح القدير " (4/ 449). (¬3) " الدر النضيد في إخلاص التوحيد " وهى ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (4). (¬4) " الدر النضيد في إخلاص التوحيد " وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (4).

1 - إنه يحبط العمل. قال تعالى: {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} [الأنعام:88]. والحبوط: هو البطلان (¬1) أي بطلت أعمالهم، لأن الشرك يخرجهم من الملة الإسلامية. 2 - إن صاحبه خالد مخلد في النار إذا مات مصرا عليه، وإن الله لا يغفر له إلا إذا تاب في وقت التوبة. قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا} [النساء:116] قال الشوكاني: ((أي ضل عن الحق ضلالا بعيدا، لأن الشرك أعظم أنواع الضلال، وأبعدها من الصواب)) (¬2). 3 - إنه أفظع ظلم، وأعظم جريمة: قال تعالى: {الذين آمنوا ولو يلبسوا إيمانهم بظلم} [الأنعام: 82] أي لم يخالطوه بظلم، والمراد بالظلم الشرك، لما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود (¬3) - رضي الله عنه- قال: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليس هو كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان: {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13] (¬4). (والثاني): شرك أصغر: ¬

(¬1) فتح القدير. (2/ 137). (¬2) فتح القدير. (1/ 516) وانظر أيضا (1/ 475). (¬3) أخرجه البخاري رقم (32) ومسلم رقم (124) (¬4) فتح القدير (2/ 135) و (4/ 238).

وهذا النوع من الشرك مما ينافي كمال التوحيد في عبادة الله- عز وجل- ويناقضه، وهو وإن كان لا يخرج من الملة فإن صاحبه على خطر عظيم، ينقص من أجره شيء كثير، وقد يحبط منه العمل الذي وقع فيه هذا الشرك. وفي هذا ذكر الشوكاني- رحمه الله- أحاديث كثيرة (¬1). . ذكر نماذج من الأعمال الشركية، وكلام الشوكاني عنها: تناول الشوكاني- رحمه الله- نماذج من الأعمال الشركية التي يجب على كل مسلم معرفتها ليسلم منها، وليكون على بينة من أمرها حتى لا يقع فيها: 1 - الاستغاثة بغير الله: كالاستغاثة بالأموات، والاستعانة بهم، ومناجاتهم عند الحاجة، وتعظيم قبورهم، واعتقاد أن لهم قدرة على قضاء حوائج المحتاجين، وإنجاح طلبات السائلين (¬2) 2 - النذر لغير الله: وهي نذر في معصية، وهي من النذر الذي لا يبتغى به وجه الله (¬3). 3 - الذبح لغير الله (¬4) 4 - الحلف بغير الله: كالحلف بالنبي، أو الكعبة، أو الأمانة، أو الحياة، أو بولي من الأولياء، أو بالشرف أو بغير ذلك من المخلوقات، كل ذلك من الشرك الأصغر. ¬

(¬1) انظر قطر الولي ص 457 - 459، وفتح القدير (3/ 319). و" الدر النضيد في إخلاص التوحيد " وهو ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (4). (¬2) انظر " الدر النضيد في إخلاص التوحيد" وهو ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (4) و"فتح القدير" (2/ 450). (¬3) انظر " شرح الصدور في تحريم رفع القبور " وهي ضمن كتاب " الفتح الرباني" - الفقه- و" أدب الطلب ومنتهى الأرب " ص 179 بتحقيقي. (¬4) انظر " فتح القدير " (1/ 170) و" نيل الأوطار " (10/ 68) و"شرح الصدور".

قال الشوكاني: ((قال العلماء: السر في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه، والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده، فلا يحلف إلا بالله وذاته وصفاته، وعلى ذلك اتفق الفقهاء)) (¬1). 5 - السحر وأنواعه: ذهب الشوكاني- رحمه الله- مذهب أهل السنة في أن السحر له حقيقة، وله تأثير بإذن الله، واستدل بقوله تعالى:. {فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} [البقرة:102] (¬2). وذكر الشوكاني- رحمه الله- أنواعا كثيرة من أعمال السحر التي هي شرك بالله منها: أ- الكهانة والتنجيم وما في معناهما: وقد ورد في النهي عن إتيان الكهان وتصديقهم أحاديث كثيرة أوردها الشوكاني رحمه الله في مؤلفاته (¬3). ب- التطير: قال الشوكاني- رحمه الله-: ((وأما التطير فهو الطيرة بكسر الطاء المهملة، وفتح المثناة التحتية، وقد تسكن، وهي التشاؤم بالشيء، وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم، فنفاه الشرع، وأبطله، ونهى عنه)) (¬4) ج- تعليق التمائم ونحوها: ¬

(¬1) انظر ما أورده الشوكاني من هذه الأحاديث في " نيل الأوطار " (10/ 21) و (158 - 160) و" العذب النمير " و" الدر النضيد " .. (¬2) فتح القدير (1/ 121) ونيل الأوطار (9/ 43). (¬3) فتح القدير (1/ 123 - 124) ونيل الأوطار (9/ 45 - 46) " الدر النضيد في إخلاص التوحيد (¬4) "نيل الأوطار" (10/ 133).

قال الشوكاني- رحمه الله-: ((فمن ذلك ما ورد في تعليق التمائم، إنه من الشرك، وتعليق الخيط في اليد للحمى)) (¬1) . ذكر نماذج من البدع التي تكلم عليها الشوكاني: 1 - بدعة الرافضة: أ- معاداتهم للصحابة- رضوان الله عليهم-. قال الشوكاني- رحمه الله- ((وانظر إلى أي مبلغ بلغ الشيطان الرجيم بهؤلاء المغرورين المجترئين على هذه الأعراض المصونة المحترمة المكرمة، فيا لله العجب من هذه العقول الرقيقة، والأفهام الشنيعة، والأذهان المختلة، والإدراكات المعتلة! فإن هذا التلاعب الذي تلاعب الشيطان، يفهمه أقصر الناس عقلا، وأبعدهم فطانة، وأجمدهم فهما، وأقصرهم قي العلم باعا، وأقلهم اطلاعا، فإن الشيطان- لعنه الله- سول لهم بأن هؤلاء الصحابة- رضي الله عنهم- الذين لهم المزايا التي لا يحيط بها حصر، ولا يحصيها حد، ولا عد، أحفاء بما يهتكون من أعراضهم الشريفة، ويجحدون من مناقبهم المنيفة، حتى كأنهم لم يكونوا هم الذين أقاموا أعمدة الإسلام بسيوفهم، وأوصلوا دين الإسلام إلى أطراف المعمورة، من شرق الأرض وغربها، ويمينها وشمالها، فاتسعت رقعة الإسلام، وطبقت الأرض شرائع الإيمان، وانقطعت علائق الكفر، وانقصمت حباله. يا لله العجب، يعادون خير عباد الله، وأنفعهم للدين الذي بعث به رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهم لم يعاصروهم، ولا عاصروا من أدركهم، ولا أذنبوا إليهم بذنب، ولا ظلموهم في مال، ولا دم، ولا عرض، بل قد صاروا تحت أطباق الثرى، وفي رحمة واسع الرحمة منذ مئات من السنين)) (¬2). هذا وقد اعتنى الإمام الشوكاني- رحمه الله- اعتناء كبيرا بالرد على هذه الطائفة ¬

(¬1) " العذب النمير " وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (2). (¬2) قطر الولي (ص 294).

الضالة في هذا الموضوع، فقد ألف كتابين: (أحدهما): " در السحابة في مناقب القرابة والصحابة" (¬1) بين فيه مناقب وفضائل كل من الصحابة والقرابة- رضوان الله عليهم-. (والثاني): " إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬2). نقل فيه إجماع أهل البيت من ثلاث عشرة طريقة على عدم ذكر الصحابة بسب أو ما يقاربه ب- اعتقادهم بعصمة علي- رضي الله عنه-: قال الشوكاني- رحمه الله-: ((عصمة علي وحجية قوله ذهب إلى القول بهما جماعة من أهل البيت، وذهب جماعة منهم وسائر المسلمين أجمعين إلى أن المعصوم إنما هو رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على الخصوص، والحجة إنما هي ما جاء عن الله وعنه)) (¬3). 2 - بدعة المتصوفة: قال الشوكاني- رحمه الله-: ((فقد كان أول هذا الأمر يطلق هذا الاسم على من بلغ في الزهد والعبادة إلى أعلى مبلغ، ومشى على هدي الشريعة المطهرة، وأعرض عن الدنيا، وصد عن زينتها، ولم يغتر ببهجتها، ثم حدث أقوام جعلوا هذا الأمر طريقا إلى الدنيا، ومدرجا إلى التلاعب بأحكام الشرع، ومسلكا إلى أبواب اللهو والخلاعة، ثم جعلوا لهم شيخا يعلمهم كيفية السلوك، فمنهم من يكون مقصده صالحا، وطريقته حسنة، فيلقن أتباعه كلمات تباعدهم من الدنيا، وتقربهم من الآخرة، وينقلهم من رتبة إلى رتبة على أعراف يتعارفونها، ولكنه لا يخلو غالب ذلك من مخالفة للشرع، وخروج عن كثير من آدابه)) (¬4). ¬

(¬1) أكرمني الله بتحقيقه على ثلاث مخطوطات ولله الحمد والمنة. (¬2) وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (19) (¬3) " عقود الزبرجد في جيد مسائل علامة ضمد " وهي ضمن كتاب "الفتح الرباني"- الفقه-. (¬4) أدب الطلب ومنتهى الأرب " (ص 199) بتحقيقي

وقد ابتدعت المتصوفة أمورا كثيرة، ودعوا إليها، ولم تكن عند الزهاد السابقين، منها ترك الزواج، وإدامة الجوع، ومواصلة الصوم، والعزلة، والخلوة، والغناء، والوجد، وتقسيم الدين إلى حقيقة وشريعة، وتقديس الأولياء، وتفضيلهم على الأنبياء، ومنها القول بالحلول، ووحدة الوجود، والاتحاد بين المخلوق والخالق. وهكذا تدرج المتصوفة إلى أن شرعوا لأنفسهم من الدين ما لم يأذن به الله. ولقد تصدى لهذه الأمور البدعية، وكشف عن حقائقها كثير من العلماء ومنهم الإمام الشوكاني رحمه الله. وخاصة في كتابه: " قطر الولي على حديث الولي، أو ولاية الله والطريق إليها ". ورسالته: " الصوارم الحداد القاطعة لعلائق مقالات أرباب الاتحاد" (¬1) حيث نقل فيها أقوال العلماء أهل السنة في الحكم على ما تضمنته الكتب الصوفية من الضلال والإضلال، كما جمع في هذه الرسالة ما صدر عن هؤلاء المتصوفين المخذولين من المقالات التي كل واحدة منها أكفر الكفر ... وأكد- رحمه الله- أن القيام على هؤلاء المتصوفة من أعظم الواجبات، لأنهم أفسدوا العقول والأديان على خلق من المشايخ والعلماء، والملوك والأمراء (¬2). . وإليك بعض البدع التي وقع فيها الصوفية: أ- الزهد الصوفي: وقد أنكر الشوكاني- رحمه الله- (الزهد الصوفي المخالف للإسلام) لأنه هو الذي يضعف جسم المؤمن، ويحول دون قيامه بواجباته نحو نفسه وأسرته ومجتمعه (¬3). ب- الولاية الصوفية: وهى من أكثر الأشياء التي يدندن حولها المتصوفة في الماضي والحاضر، وقد فصل الشوكاني- رحمه الله تعالى- موضوع الولاية تفصيلا دقيقا، وأفرد لها تأليفا في كتابه ¬

(¬1) وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (24). (¬2) انظر "الصوارم الحداد" وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (24) (¬3) " فتح القدير " (2/ 69) و (2/ 200) و (2/ 530).

" قطر الولي على حديث الولي، أو ولاية الله والطريق إليها" (¬1). ج- عقيدة الاتحاد بين المخلوق والخالق: وهى عقيدة اكتسبوها من الديانات والفلسفات الأجنبية، كالهندية وغيرها (¬2). د- رفع التكاليف الشرعية (¬3) 3 - بدعة القبوريين: وهى من البدع السيئة على هذه الأمة كتشييد القبور، وبنائها، وتسريجها، وتزيينها، واتخاذها مساجد وما إلى ذلك، وما يترتب عليها من الاعتقادات الفاسدة في أصحاب القبور (¬4). ... أما الإيمان بالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فهو من الإيمان بالغيب الذي وصف الله به المؤمنين، وهو ركن من أركان الإيمان التي يجب الإيمان بها، كما دلت على ذلك الأدلة الكثيرة من كتاب وسنة. كقوله تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} [البقرة: 285]. قال الشوكاني (¬5) ((قوله: {لا نفرق بين أحد من رسله} أي لا نكفر بما جاءت به الرسل، ولا نفرق بين أحد منهم، ولا نكذب به)). ¬

(¬1) أكرمني الله بتحقيقه على مخطوطتين ولله الحمد والمنة. (¬2) " الصوارم الحداد " وهى ضمن هذا القسم- العقيدة برقم (24). (¬3) "قطر الولي" (ص 487). (¬4) " أدب الطلب ومنتهى الأرب" (ص 194 - 195) بتحقيقي. (¬5) "فتح القدير" (1/ 309)

وفي حديث جبريل وسؤاله للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الإيمان فقال: " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره" (¬1). وقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على أن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- متفاضلون، وأن بعضهم أفضل من بعض كما قال تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات} [البقرة:253] (¬2). وقد أجمعت الأمة على أن الرسل أفضل من الأنبياء، والرسل بعد ذلك متفاضلون فيما بينهم، وأفضل الرسل والأنبياء خمسة وهم: محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى- عليهم الصلاة والسلام-. وهؤلاء هم أولو العزم من الرسل، وقد خصهم الله- سبحانه- بالذكر قي آيتين من كتابه: قال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} [الشورى: 13]. وقال تعالى: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا} [الأحزاب:7] قال الشوكاني- رحمه الله-: ((ووجه تخصيصهم بالذكر الإعلام بأن لهم مزيد شرف وفضل، لكونهم من أصحاب الشرائع المشهورة، ومن أولي العزم من الرسل، وتقديم ذكر نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع تأخر زمانه فيه من التشريف له والتعظيم ما لا يخفى)) (¬3). كما أن الشوكاني- رحمه الله- اهتم اهتماما بالغا ببيان المهمة الكبرى التي بعث الله من أجلها الرسل والأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- حيت ألف رسالتين الأولى بعنوان: ¬

(¬1) أخرجه مسلم رقم (1/ 8) وغيره. (¬2) فتح القدير (1/ 268) وانظر أيضًا (3/ 235). (¬3) فتح القدير (4/ 264).

" المقالة الفاخرة في اتفاق الشرائع على إثبات الدار الآخرة" (¬1) والثانية بعنوان: " إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات" (¬2) وأورد فيهما النصوص من القرآن والسنة، ومن الكتب السابقة: كالتوراة، والزبور، والإنجيل، مما يدل على اتفاق أنبياء الله وكتبه على إثبات كل مقصد من هذه المقاصد، أي التوحيد، والمعاد، والنبوات، وتصديق بعضهم بعضًا. ... أما الإيمان بوجود الجن والشياطين جزء من عقيدة المؤمن، لما ثبت في ذلك من الكتاب والسنة، وإجماع الأمة. وقد اعتنى الشوكاني- رحمه الله- بهذا الموضوع، وأفرد له بحثا صغيرا بعنوان " بحث في وجود الجن" (¬3) أورد فيها الأدلة الدالة على وجود الجن والشياطين، ورد على المنكرين على وجودهما من بعض المعتزلة وأمثالهم. وقد ذهب- رحمه الله- مذهب القائلين بأن جميع الجن ولد إبليس، كما أن جميع الإنس هم ولد آدم. وأن الشياطين هم مردة الإنس والجن (¬4) وهذا مذهب الجمهور، الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية (¬5). والجن أجناس مختلفة، منهم المؤمن، والكافر، والبر، والفاجر، قال تعالى، إخبارا عنهم: {وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا} [الجن:11] أي جماعات متفرقة، وأصنافا مختلفة (¬6). ¬

(¬1) وهى ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (10). (¬2) وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (9). (¬3) وهى ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (8). (¬4) انظر بحث في وجود الجن. وفتح القدير (5/ 303). (¬5) انظر مجموع فتاوى شيح الإسلام (15/ 7) وانظر أيضًا (4/ 235). (¬6) فتح القدير (5/ 306).

وهل أرسل الله إليهم رسلا منهم؟ اختلف العلماء في هذا على قولين: قيل: فيهم رسل، لقوله تعالى: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم} [الأنعام: 130] وقيل: الرسل من الإنس، والجن فيهم النذر. وهذا قول الجمهور من العلماء سلفا وخلفا وهو الراجح (¬1). ورجح الشوكاني- رحمه الله- هذا القول في تفسيره (¬2). ... أما رؤية الله- سبحانه وتعالى- في الجنة، أعظم نعيم يناله المؤمنون، وهي ثابتة بالكتاب والسنة المتواترة، واتفق على القول بها جميع الصحابة والتابعين، وجميع أئمة الإسلام المعروفين بالإمامة والدين، وأهل الحديث، وسائر طوائف أهل الكلام المنسوبين إلى أهل السنة والجماعة. وقد قرر الشوكاني- رحمه الله- هذه المسألة في مؤلف مستقل سماه: " البغية في مسألة الرؤية " (¬3). وأورد فيها الأدلة الدالة على ثبوت الرؤية ورد على المنكرين للرؤية من أهل البدع والأهواء من الجهمية، ومن تابعهم من المعتزلة والرافضة، وغيرهم. ... أما خلود الجنة والنار، وبقاؤهما، وأنهما لا يفنيان أبدا، ولا يفنى من فيهما، ثابت بالكتاب والسنة. وقد وافق الشوكاني- رحمه الله- أهل السنة في هذا الموضوع في عدة مواضع من تفسيره (¬4)، بل أفرده بالتأليف في رسالة بعنوان " كشف الأستار في إبطال ¬

(¬1) انظر مجموع فتاوى شيح الإسلام (4/ 234) و (11/ 307). (¬2) فتح القدير (5/ 303). (¬3) وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (17). (¬4) فتح القدير (1/ 55، 56، 166) و (3/ 335) و (3/ 475).

قول من قال بفناء النار" (¬1) ردا على سؤال ورد إليه في هذا الموضوع. ويقصد بمن قال بفناء النار الجهمية ومن تابعهم؛ كما صرح في أول الرسالة. كما أورد- رحمه الله- أدلة المخالفين لأهل السنة التي استدلوا بها على فناء النار وانقطاع عذاب أهلها. وفندها تفنيدا رائعا؛ وأجاب عن هذه الاستدلالات كلها (¬2). اللهم اجعل أعمالنا كلها صالحة، ولوجهك خالصة، ولا تجعل فيها شركا لأحد. وكتبه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب ¬

(¬1) وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (18). (¬2) انظر " كشف الأستار في إبطال قول من قال بفناء النار " وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (18).

أسئلة وأجوبة عن قضايا التوحيد والشرك

أسئلة وأجوبة عن قضايا التوحيد والشرك تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط 1 - عنوان الرسالة: أسئلة وأجوبة عن قضايا التوحيد والشرك (¬1). 2 - موضوع الرسالة: في قضية الشرك والتوحيد، وخلق أفعال العباد، والخلاف في الفروع (¬2). 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الراشدين أجمعين .. أما بعد: فهذه سؤالات لها أطراف وغصون وفروع وشجون 4 - آخر الرسالة: صدر الجواب وهو غير منقول، فقابلوه بالعذر والقبول، وما كان فيه خطأ فأصلِحوه، وما كان فيه من قصور فتمموه، والسلام عليكم ورحمة الله. 5 - نوع الخط: خط الأسئلة نسخي معتاد. وخط الأجوبة نسخي دقيق. 6 - عدد الأوراق: (9) ورقات. 7 - عدد السطور في الصفحة: 22 سطرا في الأسئلة و (14) سطرا في الأجوبة تقريبا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات في الأسئلة و (16) كلمة في الأجوبة تقريبا. 9 - الناسخ: نسخ الأسئلة بخط محمد بن أحمد الحفظي وهو السائل. ¬

(¬1) العنوان من وضعي لأنني لم أعثر لها على عنوان في صور العناوين. (¬2) وضعت هذه الرسالة في قسم "العقيدة" ولو كان فيها سؤال يتعلق بالفقه لأن أغلب الرسالة تتحدث عن العقيدة. وهكذا أصنع على مدار الكتاب وهو " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني " حيث أضع الرسالة في القسم الذي يغلب عليها والله الهادي إلى الصواب.

ونسخ الأجوبة بخط عبد العزيز بن أحمد النجدي. ملحوظة: في أول صفحة من الجواب ما نصه: "هذا الجواب حرره عبد العزيز بن أحمد النجدي عند قدومه إلى صنعاء، وأجبت أنا عن السؤال كما سيأتي". والظاهر أن هذه العبارة بخط الإمام الشوكاني. * في خط الجواب كلمات غير مقروءة، وكلمات مطموسة.

بسم الله الرحمن الرحيم [نص الأسئلة] الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الراشدين أجمعين ... أما بعد: فهذه سؤالات لها أطراف، وغصون، وفروع، وشجون في جملة من الفنون تزُفها ركائب القدرة في المقدرات بين الكاف والنون، وتحسنُها عجائب الفكرة في المقررات في الشروح والمتون إلى علامة اليمن الميمون، المجتهد الرباني محمد بن علي بن محمد الشوكاني أعانه من يقول للشيء كن فيكون، على الإثابة بالإجابة، والإصابة فيما هم فيه يختلفون ..

السؤال الأول قد نطقت الآيات القرآنية، وشهدت الأخبار النبوية، وأجمعت الأمة المحمدية على وجوب توحيد الله- سبحانه وتعالى- بالعبادة، وقال عز من قائل عليم: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (¬1) {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء} (¬2)، وكذلك تواترت الأحاديث الواردات، وتتابعت الآيات البينات على تحريم الشرك بالله- سبحانه- في العبادات، سواء كان ذلك جليا أو خفيا {من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار} (¬3)، وقال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (¬4). وفي هذا مباحث يتضح ها المعنى، ويستقيم عليها المبنى: الأول: أن الدعوة لغير الله شرك، وفي التفاسير أن المراد بها العبادة في كثير منها، فالمراد بالعبادة التوحيد كما ذكره ابن عباس (¬5) - رضي الله عنهما-. ¬

(¬1) الذاريات (56). (¬2) البينة (5). (¬3) المائدة (72). (¬4) النساء (48، 116). (¬5) قال ابن كثير في تفسيره (1/ 195): عن ابن عباس قال: قال الله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} للفريقين جميعا من الكفار المنافقين، أي وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ". وقال ابن الجوزي في زاد المسير (1/ 47 - 48): اختلف العلماء فيمن عني بهذا الخطاب على أربعة أقوال: 1 - أنه عام في جميع الناس، وهو قول ابن عباس. 2 - أنه خطاب لليهود دون غيرهم، قاله الحسن ومجاهد. 3 - أنه خطاب للكفار من مشركي العرب وغيرهم، قاله السدي. 4 - أنه خطاب للمنافقين واليهود، قاله مقاتل. والناس اسم للحيوان الآدمي؛ وسموا بذلك لتحركهم في مرادتهم. والنوس: الحركة. وقيل: سموا أناسا لما يعتريهم من النسيان. والمراد هاهنا بالعبادة قولان: أحدهما: التوحيد. والثاني: الطاعة، رويا عن ابن عباس. وانظر: " جامع البيان " للطبري (1/ 125).

وفي الحديث أن ((الدعاء هو العبادة)) (¬1)، وهذا الفصل (¬2) للحصر، أو التخصيص للاهتمام. وعلى كل تقدير فهو دليل على هذا التقرير. والدعاء له معنيان (¬3): أحدهما دعاء الطلب، بل قد سمى الله ذلك دينا في قوله تعالى: {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين} (¬4). ¬

(¬1) أخرجه أحمد (4/ 267،271، 276) والبخاري في الأدب المفرد رقم (714) والطيالسي كما في المنحة رقم (1252) وابن ماجه رقم (3828) والطبراني في الصغير (2/ 97) والحاكم (1/ 490 - 491) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وأبو نعيم في الحلية (8/ 120) والبغوي في شرح السنة (5/ 184 - 185 رقم 1384) والنسائي في الكبرى (9/ 30) كما في تحفة الأشراف، وابن حبان رقم (2396 - موارد) من طرق من حديث النعمان بن بشير وهو حديث صحيح. (¬2) انظر: معترك الأقران في إعجاز القرآن (1/ 140). (¬3) قال ابن تيمية في " مجموع فتاوى " (1/ 69):- الدعاء في القرآن والسنة: 1 - \ دعاء عبادة وهذا النوع ورد كثيرا في القرآن كقوله تعالى: {فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين} [الشعراء: 213]. 2 - \ دعاء مسألة: وهو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر، ومن أدلته قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 40 - 41]. فمتى كان الدعاء مقرونا بالطلب مذكورا في صياغة الاستجابة فهو دعاء المسألة وإلا فهو دعاء العبادة. وانظر: " مجموع فتاوى ابن تيمية " (10/ 237). (¬4) العنكبوت (65).

وصرف هذه العبادة لغير الله شرك وكفر بدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ ... } إلى قوله: {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (¬1). فهل هذا الكلام في سبل السلام إلى بلوغ المرام عند جميع الأعلام، أم فيه تفصيل واحتمال على قول بعض الرجال؟، وشأن الكفر المجمع عليه حل الدم والمال بلا إشكال، سواء قبل الدعوة أو بعدها على التفصيل في من بلغته، ومن لم تبلغه. -[فهل] (¬2) يعذر الجاهل لقولهم: إن العمل متوقف على العلم، وكذا الوجوب؟ وفي قوله تعالى: {فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} (¬3). هل هذه الجملة حالية أو خبرية؟ (¬4). ¬

(¬1) الأحقاف (5 - 6). (¬2) في الأصل (وفهل) والصواب ما أثبتناه. (¬3) البقرة (22). (¬4) " وأنتم تعلمون " مبتدأ وخبر في محل النصب على الحال من الضمير في (فلا تجعلوا) أي فلا تجعلوا لله أمثالا وأكفاء. وهذه حالكم وصفتكم ومفعول (تعلمون) فمحذوف أي تعلمون أنه واحد لا ضد له. وقيل: تعلمون أنه المحسن إليكم المنعم عليكم. (الواو): واو الحال. أنتم: مبتدأ، تعلمون: جملة فعلية في محل رفع الخبر. انظر: الفريد في إعراب القرآن المجيد (1/ 245). وقال في الدر المصون (1/ 196): (وأنتم تعلمون) جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال. ومفعول العلم متروك لأن المعنى وأنتم من (أهل العلم أو حذف اختصارا أي: وأنتم تعلمون بطلان ذلك. وقال الزمخشري في الكشاف (1/ 217): (وأنتم تعلمون) ومالكم وصفتكم أنكم من صحة تمييزكم بين الصحيح والفاسد، والمعرفة بدقائق الأمور وغوامض الأحوال، والإصابة في التدابير، والدهاء والفطنة، بمنزل لا تدفعون عنه، وهكذا العرب، خصوصا ساكنو الحرم من قريش وكنانة يصطلي بنارهم في استكمال المعرفة بالأمور وحسن الإحاطة بها، ومفعول: (تعلمون) متروك كأنه قيل: وأنتم من أهل العلم والمعرفة، والتوبيخ فيه آكد، أي أنتم العرافون المميزون ثم إن ما أنتم عليه في أمر ديانتكم من جعل الأصنام لله أندادا، وهو غاية الجهل ونهاية سخافة العقل، ويجوز أن يقدر: وأنتم تعلمون أن لا يماثل.

وهل الاحتمال يصح دليلا للعذر أم لا، لوضوح المحجة وبلوغ الحجة، وعدم فهم الحجة ليس بعذر؟ وكيف شأن المتقدمين على هذه الدعوة النجدية إلى توحيد الإلهية ممن يوجد في كلامه أو أفعاله ما هو شرك جلي، بل وقع بعض ذلك للمصنفين، اللهم إلا أن يقال: إن الدعاء [الذي] (¬1) ينازع فيه أنه ليس من الشرك الأكبر، وأنه لا إنكار في المختلف فيه، فالاعتقادات العلميات خلاف الظنيات فالمراد من شيخ الأكابر بإسناد الدفاتر، بسط الكلام على الأول من السؤالات، والآخر مع النظر فيما يتفرع على كل جملة، والإفادة بما عليه الجلة في الجملة. ¬

(¬1) زيادة يستلزمها السياق.

السؤال الثاني عن الراجح لديكم في مسألة خلق الأفعال حسنها (¬1) وقبيحها، وخيرها وشرها، هل يكون ذلك لله تعالى اختراعا وإبداعا، ووقوعا وارتفاعا؟، لعموم الآيات في ذلك، وشمول الأحاديث فيما هنالك، خصوصا ما في صحيح مسلم (¬2) في ذلك مما يطول سرده، بل في جواب سؤال جبريل أعظم دليل. ¬

(¬1) الحسن والقبح يطلق بثلاثة، اعتبارات: 1 - \ بمعنى ملاءمة الطبع ومنافرته كقولنا: إنقاذ الغريق حسن واتهام البريء قبيح. 2 - \ ما أشير إليه بقوله أو بمعنى (صفة كمال ونقص، كقولنا: العلم حسن والجهل قبيح). وكل منهما عقلي أي أن العقل يستقل بإدراكهما من غير توقف على الشرع. 3 - \ إطلاق الحسن والقبح بمعنى المدح والثواب وبمعنى (الذم والعقاب: شرعي. فلا حاكم إلا الله تعالى، والعقل لا يحسِّن ولا يقبِّح. ولا يوجب ولا يحرم. وقال ابن حجر في الفتح (13/ 274) نقلا عن السمعاني: " إن العقل لا يوجب شيئا، ولا يحرم شيئا، ولاحظ له في شيء من ذلك، ولو لم يرد الشرع بحكم ما وجب على أحد شيء. إن فعل غير المكلف ليس حسنا ولا قبيحا بمعنى أن الحسن ما أمر الله به، والقبيح ما نهى الله عنه. والصغير أو المجنون غير مكلف، كما أن فعله لا يوصف بحسن ولا قبح بمعنى أن ما لفاعله فعله مع كونه متمكنا منه، عالما بحاله، والقبيح عكسه. لأن غير المكلف ليس عالما بحاله. ولا متمكنا من فعله. فلا يوصف فعله بحسن ولا قبح. كما لا يوصف فعل الصغير أو المجنون بالحسن والقبح بمعنى الثواب والعقاب، لأن هؤلاء لا يكتب لهم ثواب، ولا ينزل بهم عقاب. انظر: المسودة (ص 473، 477)، إرشاد الفحول (ص 7)، تيسير التحرير (2/ 152) والعواصم والقواصم (7/ 7 - 8). (¬2) أخرجه مسلم (1/ 36 - 38) رقم (1/ 8) من حديث عمر بن الخطاب وهو حديث جامع لأصول الدين وشرائعه ومراتبه وشعبه القولية والعملية، وهو حديث عظيم الشأن، جليل كبير جامع نافع، سمى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما احتوى عليه (الدين) فقال: " هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم " وهو حديث مشهور في كتب السنة عن جماعة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وأبو هريرة وأبو ذر، وعبد الله بن عباس، وأبو عامر الأشعري، وغيرهم رضي الله عنهم.

وفي صحيح البخاري (¬1) في تفسير سورة {والليل إذا يغشى} عن علي- رضي الله عنه - حديث قد أحطتم به علما، أم يكون ذلك الفعل من العبد خلقا (¬2) وصنعة،، لا كسبا وصورة، لإضافته إليه في كثير من الآيات، ولجواز تخصيص تلك العموميات بغير القبيح السيئ، مع أن دلالة العموم ظنية،، وإن كانت كلية، ولقيام الحجة على المكلف باستقلاله، وعدم بطلان المحجة في [إلجائه] (¬3) وأعماله. وهاهنا نكتة يحصل للقاصر عندها البهتة، وهي: أن القائلين بالأول يقولون: إن خلافه فيه إثبات شركاء لله، يتصرفون بغير إذن الله، وأن الإنكار والخلاف (¬4) إنما هو ¬

(¬1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (45، 49، 4946، 4947، 4948، 4949) من حديث علي قال: " كنا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بقيع الغرقد في جنازة فقال: ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار، فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل؟ فقال: اعملوا فكل ميسر ثم قرأ {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى ... } إلى قوله {للعسرى} ". قلت: وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (2647) وأبو داود رقم (4694) والترمذي رقم (3344) وابن ماجه رقم (78) وأحمد (1/ 82، 119، 132، 140). (¬2) وهو قول المعتزلة حيث يقول القاضي عبد الجبار: وهو يتكلم عن خلق الأفعال: " ... والغرض به الكلام في أن أفعال العباد غير مخلوقة، وأنهم المحدثون لها". ويقول في موضع آخر: " اتفق كل أهل العدل عن أن أفعال العباد من تصرفهم وقيامهم وقعودهم حادثة من جهتهم، وأن الله عز وجل أقدرهم على ذلك، ولا فاعل لها ولا محدث سواهم، وأن من قال أن الله سبحانه وتعالى خالقها ومحدثها فقد عظم خطؤه وأحالوا حدوث فعل من فاعلين ". انظر: شرح الأصول الخمسة ص 323. وقولهم هذا مخالف لأهل السنة. فقد قال ابن حزم في الفصل (3/ 41): وذهب أهل السنة كلهم .... إلى أن جميع أفعال العباد مخلوقة خلقها الله عز وجل في الفاعلين لها ". (¬3) كلمة غير واضحة في الأصل وما أثبتناه من رسالة " العذب النمير ". (¬4) ذلك أن المعتزلة ترى أن قبح الأشياء وحسنها والعقاب عليها والثواب ثابت عقلا، فهم يرون أن هناك تلازم بين إدراك قبحها، وبين العقاب عليها - شرح الأصول الخمسة ص 484. فيقال لهم: إنه لا تلازم بين هذين الأمرين، فالأفعال في نفسها حسنة وقبيحة. لكن لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب إلا بالأمر والنهي، وقبل ورود الأمر والنهي لا يكون قبيحا موجبا للعقاب مع قبحه في نفسه، بل هو في غاية القبح والله لا يعاقب عليه إلا بعد إرسال الرسل: فمثلا: الكذب والزنا: كلها قبيحة في ذاتها والعقاب عليها مشروط بالحكم الشرعي وقد دل القرآن على أنه لا تلازم بين الأمرين، وأنه تعالى لا يعاقب إلا بإرسال الرسل، وأن الفعل نفسه حسن أو قبيح، قال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} " [الإسراء:15]. ففي هذه الآية إشارة إلى أن العذاب لا يكون إلا بعد بعثة الرسل، وذلك دليل على أن العقاب لا يثبت إلا بالحكم الشرعي، وقال تعالى: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير} [الملك:8 - 9]. وهي دليل على أن العقاب لا يثبت إلا بالشرع بدليل أن الخزنة لم يسألوهم عن مخالفتهم للعقل، بل للنذر، وبذلك دخلوا النار، وهذا مما يبطل قول المعتزلة أن العقاب على القبائح ثابت بالعقل قبل ورود الشرع. وانظر: مدارج السالكين (1/ 231 - 235). وقال ابن القيم قي مدارج السالكين (1/ 231 - 232): والحق الذي لا يجد التناقض إليه سبيلا ... أن الأفعال في نفسها حسنة وقبيحة، كما أنها نافعة وضارة. ولكن لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب إلا بالأمر والنهي وقبل ورود الأمر والنهي لا يكون قبيحا موجبا للعقاب مع قبحه قي نفسه، بل هو في غاية القبح، والله لا يعاقب عليه إلا بعد إرسال الرسل، فالسجود للشيطان والكذب والظلم والفواحش كلها قبيحة في ذاتها، والعقاب عليها مشروط بالشرع .. إلى أن قال وكثير من الفقهاء من الطوائف الأربع يقولون: قبحها ثابت بالعقل والعقاب متوقف على ورود الشرع ..

من جهة التحسين والتقبيح العقليين في الثواب والعقاب، ولا دخل له في هذا الباب، فأين المخصص من السنة أو الكتاب؟! والقائلين بالثاني يقولون: إن خلافه فيه الإجبار (¬1)، ¬

(¬1) وهو قول الجبرية: الذين ينفون قدرة العبد ومشيته وأوضح فرقة تمثل هذا الاتجاه الجهمية الذين يردون كل شيء إلى الله، والعبد عندهم أشبه ما يكون بريشة قي مهب الريح. حتى توصل بذلك قوم إلى إسقاط الأمر والنهي، والوعد والوعيد وأنكر من أنكر منهم ما جعله الله تعالى من الأسباب حتى خرجوا عن الشرع، والعقل وقالوا أن الله يحدث الشبع والري عند وجود الأكل والشرب لا بهما وكذلك يحدث النبات عند نزول المطر لا به. وهذا خلاف ما جاء في الكتاب والسنة قال تعالى: {وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقته لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات} [الأعراف:57]. انظر: "بغية المرتاد " لابن تيمية ص 261 - 262. " فرق معاصرة " غالب بن علي عواجي (2/ 793 - 820).

وإبطال الشرائع، وإلزام الحجة على الشارع. فإن تخلص الفريق الأول من هذا بالكسب، وهو العزم المصمم كما قاله بعض أهل التحقيق، أو صرف العبد قدرته وإرادته إلى الفعل على قول بعضهم- وإن حكى ابن السبكي عن أبيه أن الناس غير مكلفين بمعرفة الكسب لصعوبته- عارضهم الفريق الثاني وقالوا: هل الكسب (¬1) خلق الله أم لا؟. إن قلتم لله فهو المذهب الأول، أو للعبد وافقتم قولنا. فليتفضل غني الزمان وإنسان الأعيان بالبيان، وقد ورد النهي عن الخوض في القدر (¬2)، ¬

(¬1) سيأتي في جواب السؤال. (¬2) منها: ما أخرجه أحمد في " المسند " (2/ 108) والترمذي رقم (2152، 2153) وأبو داود رقم (4613) وابن ماجه رقم (4061) والحاكم (1/ 84). من حديث ابن عمر قال سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " سيكون في هذه الأمة مسخ ألا وذاك في المكذبين بالقدر والزنديقية " واللفظ لأحمد وهو حديث حسن. ومنها: ما أخرجه أحمد (1/ 133) والحاكم في المستدرك (1/ 32 - 33) وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وابن أبي عاصم في " السنة " (1/ 59 رقم 130) وابن ماجه رقم (81) وابن حبان في صحيحه (1/ 404 رقم 178) والبغوي في " شرح السنة " رقم (66). من حديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر". وهو حديث صحيح. ومنها: ما أخرجه ابن ماجه رقم (85) وأحمد (2/ 181، 185، 195). وعبد الرزاق رقم (20367) بسند حسن. من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أصحابه وهم يختصمون في القدر فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب فقال: " بهذا أمرتم أو لهذا خلقتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض بهذا هلكت الأمم قبلكم ". قال عبد الله بن عمرو: " فما غبطت نفسي بمجلس تخلفت فيه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما غبطت نفسي بذلك المجلس (تخلفي عنه) ". القدرية: هم نفاة القدر، ظهرت تلك الفرقة في البصرة وأول من تكلم في القدر رجل من أهل العراق كان نصرانيا ثم أسلم ثم تنصر وأخذ عنه معبد الجهمي ثم غيلان الدمشقي والقدرية أربعة أصناف: 1 - \ القدرية النافية. 2 - \ القدرية المشركية. 3 - \ القدرية الإبليسية. 4 - \ القدرية المجبرة. انظر: مجموع فتاوى لابن تيمية (8/ 63 - 65) تاريخ المذاهب الإسلامية أبو زهرة ص 162 - 163.

والأمر بالإمساك عن ذلك، لكن كان الأمر قبل ذلك عند المبتدئ أنه واجب عليه، كما أن الكلام (¬1) مذموم، والشافعي- رحمه الله تعالى- حذر منه جدا (¬2). ¬

(¬1) علم الكلام هو: علم العقائد القائم عن الأدلة العقلية فقط ويتضمن الرد والمحاجة عن تلك العقائد بتلك الأدلة. وهو من المصائب التي ابتلي ها المسلمون ولا يزالون حتى هذه الساعة يكتوون بنارها، ويجنون الحنظل من ثمارها ويتجرعون العلقم منها تلك المصيبة الداهية- وهو علم الكلام. ويسمى زورا وبهتانا ومخادعة، بعلم التوحيد، وبعلم أصول الدين. انظر: " الرد على المنطقيين " (ص 374 - 375) " مقدمة ابن خلدون " (ص 821). (¬2) قال الشافعي رحمه الله: " لأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه سوى الشرك، خير له من الكلام، ولقد أطلعت من أصحاب الكلام على شيء ما ظننت أن مسلما يقول ذلك " أخرجه ابن أبي حاتم في " آداب الشافعي " (ص 182) بسند صحيح وقال: " من أظهر العصبية والكلام، ودعا إليها، فهو مردود الشهادة ولأن يلقى العبد ربه عز وجل بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من الأهواء ". أخرجه إسماعيل بن الفضل في " الحجة " (ق 7\ ب) بسند صحيح. وقال مالك بن أنس- رحمه الله-: " أهل الأهواء بئس القوم لا يسلم عليهم واعتزالهم أحب إلي". الانتقاء (ص 34). ، وقال أحمد بن حنبل للمعتصم أيام المحنة: " ولست صاحب مراء ولا كلام وإنما أنا صاحب آثار وأخبار ". "المحنة" (ص 54). وقال البغوي في " شرح السنة " (1/ 216): " واتفق علماء السلف من أهل السنة على النهى عن الجدال والخصومات في الصفات وعلى الزجر عن الخوض في علم الكلام وتعلمه ".

ونقل ابن عبد البر الإجماع أنه ليس من العلم، وأن أهله ليسوا من العلماء، وكان الإنسان يرى أنه أول الواجبات إلا من عصمه الله. نعم- دمتم في جزيل النعم- حديث افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة الذي رواه أبو داود (¬1)، وسكت عليه. عن معاوية بن أبي سفيان، هل يدل على هذا الافتراق قديما ¬

(¬1) في السنن رقم (4597). قلت: وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 128) واللالكائي في " شرح أصول الاعتقاد " (1/ 103) والمروزي في السنة (ص 14، 15) وابن أبي عاصم في " السنة " رقم (65) وأحمد في المسند (4/ 102) بإسناد حسن. قال الحاكم في المستدرك- عن هذا الإسناد- وإسنادي حديثي أبي هريرة السابقين له-: " هذه أسانيد تقام بها الحجة قي تصحيح هذا الحديث " ووافقه الذهبي. وقال الألباني: " صحيح بما قبله وما بعده ". وفي الباب من حديث أبي هريرة، وعبد الله بن عمرو، وأنس. وأما حديث أبي هريرة فقد أخرجه أحمد في المسند (2/ 332) وأبو داود في السنن رقم (4596) والترمذي في السنن رقم (2640) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه رقم (3991) وابن حبان في صحيحه رقم (1834 - موارد) والحاكم في المستدرك (1/ 128) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة " رقم (61، 67) بسند حسن. وصحح الألباني الحديث لطرقه. انظر: الصحيحة رقم (203). وأما حديث عبد الله بن عمرو فقد أخرجه الترمذي في السنن رقم (2641) وقال: هذا حديث مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه والحاكم (1/ 128 - 129) وهو حديث صحيح بشواهده السابقة واللاحقة. وأما حديث أنس فقد أخرجه أحمد (3/ 120) ومن طريق أخرى عن أنس (3/ 145) وفيه ابن لهيعة لكن لا بأس به في الشواهد والمتابعات. وذكر المحدث الألباني سبع طرق عن أنس كلها ضعيفة إلا واحدة عند ابن ماجه رقم (3993) انظر الصحيحة رقم (204). وخلاصة القول: أن الحديث صحيح بطرقه وشواهده والله أعلم.

وحديثا أم على زمان مخصوص؟ وقد ثبتت النجاة للصحابة- رضي الله عنه -. - فهل يدل [ذلك] (¬1) على أنهم لم يختلفوا في الأصول أصلاً؟ - إن كان كذلك فليت شعري من وافقهم من الطائفتين؟ أم [كل منهما] (¬2) وافق بعضا؟ فيكون اختلافهم حقا، وهذا يرده ظاهر الحديث. - وهنا مسألة مستطردة من الغصون المتعددة عن الراوي هنا، الذي هو معاوية وحروبُهُ مع علي- رضي الله عنه - وما جرى في تلك الوقائع. ما تقولون في ذلك؟ - وهل عدالة جميع الصحابة مسلمة؟ - وكذا إذا خرج أحد أصحاب السنن عن شخص، وروى عنه، كقول البخاري عن مروان، هل هو تعديل أم لا؟ - وهل مسألة الجرح والتعديل يصح فيها التقليد لبعد الزمان؟ أم تجب المعرفة على كل إنسان لكل إنسان، وإلا لم يجز الاحتجاج له؟ وهذا يثبت وجوب الاجتهاد ¬

(¬1) زيادة يستلزمها السياق. (¬2) في الأصل: " كل منهم " والصواب ما أثبتناه.

عن كل [فرد] (¬1) من العباد، وبعضهم يقول: هذا متعسر أو متعذر، ومنهم من يقول: إنه واجب متيسر، فما الراجح عندكم في هذا بخصوصه؟ وما دليله بمنصوصه؟ وجزاكم الله خيرا. ¬

(¬1) في الأصل (فرد) مكررة.

السؤال الثالث فيما يتعلق بالفروع من الاختلاف المتباين الأطراف: - هل الشريعة الحكيمة قابلة لهذا التناقض؟ وأنها كالبحر يغترف كل من جهته من الماء الفائض؟ أم لا تقبل إلا قولا واحدا، وليس لورادها إلا موردا، ولا لروادها إلا رائدا لحديث " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر" (¬1)؟. - فمن أين لنا العلم بالمصيب؟ وما علامته على التقريب؟؛ فإن أكثر الخلافات معتضدة بالدليل من المخالف. - وإذا ثبت عذر المخطئ، فهل يعذر مقلده أم لا؟ - وهل حصل للصحابة- رضي الله عنهم- في الأحكام خلاف متناقض في غير الاجتهاديات؟. - وهل رجع أحدهم إذا علم الدليل؟ - وإذا رجع هل يكون مقلدا أو مقتديا؟ - وما حكم ما سلف من الأحكام قبل العلم بالدليل؟ وفي رجوع الصحابة إلى كتاب ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7352) ومسلم رقم (1716) وابن ماجه رقم (2314) وأبو داود رقم (3574) كلهم من حديث عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر ". وأخرج الترمذي في السنن رقم (1326) والنسائي (8/ 223 رقم 5381) من حديث أبى هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد ". وقال الترمذي: حديث حسن غريب من هذا الوجه. وقد صحح الألباني الحديث في الإرواء رقم (2598).

عمرو بن حزم (¬1) في دية الأصابع، وترك ما قضى به عمر (¬2) - رضي الله عنه- بارقة من ذلك؟. - وهنا خطر في البال سؤال لاح في الخيال: هل يجوز العمل بالخطوط (¬3) مطلقا؟ أم لا سانحة متيمِّنة، لا لميسرة ولا ميمنة؟. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في المراسيل رقم (92) ورجاله ثقات، رجال الشيخين غير محمد بن عمارة- وهو ابن عمرو بن حزم الأنصاري الحزمي المدني- فإنه لم يخرجا له ولا لأحدهما، وهو صدوق، وثقه ابن معين، وذكره ابن حبان في " الثقات " (5/ 380) وقال أبو حاتم: صالح، ابن إدريس: هو عبد الله بن إدريس بن يزيد الأودي الكوفي. وأخرجه النسائي في السنن (8/ 57 - 58 رقم 4853) مختصرا. وابن خزيمة رقم (2269) وابن الجارود في " المنتقى " رقم (784) وابن حبان في صحيحه رقم (793 - موارد)، والحاكم (1/ 395 - 397 - ) ومن طريقة البيهقي (8/ 73). ولمعظم فقراته شواهد انظر: " نصب الراية " (1/ 196 - 197) (2/ 340 - 341) وتلخيص الحبير (4/ 17 - 18). والخلاصة: أن الحديث صحيح. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (9/ 194 رقم 7050) عن سعيد بن المسيب " أن عمر قضى في الإبهام والتي تليها نصف الكف، وفي الوسطى بعشر فرائض والتي تليها بتسع فرائض وفي الخنصر بست فرائض". وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (8/ 93) بلفظ: " وقضى في الإبهام بخمس عشرة، وفي التي تليها بعشر وفي الوسطى بعشر وفي التي تلي الخنصر بتسع وفي الخنصر بست " وهذا اللفظ أخرجه الشافعي في الرسالة (ص 422 رقم 1160). وعبد الرزاق في مصنفه رقم (17698) وزاد: " حتى وجدنا كتابا عند آل حزم عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن الأصابع كلها سواء فأخذ- عمر- به ". وأخرجه عبد الرزاق أيضا برقم (17706) بلفظ: قضى عمر بن الخطاب في الأصابع بقضاء ثم أخبر بكتاب كتبه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لآل حزم في كل أصبع مما هناك عشر من الإبل ". فأخذ به وترك أمره الأول وذكر رجوع عمر رضي الله عنه إلى حديث عمرو بن حزم، الشافعي في الرسالة (ص 422 رقم 1162). (¬3) وللإمام الشوكاني رحمه الله رسالة بعنوان " بحث في العمل بالخط ومعاني الحروف العلمية النقطية " سيأتي تخريجها في كتابنا هذا الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

فيما ورد في الحديث " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين .... " (¬1) إلخ. هل المراد سنتهم في اتباعهم لهديه وسنته، أم المراد فيما سنوه فيما لم يكن فيه نص (¬2)؟. - فكيف إذا تعارضت عند الناظر كحديث (¬3): " كان الطلاق على عهد رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- .... إلخ. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (4/ 126 - 127) وأبو داود رقم (4607) والترمذي رقم (2676) وقال حديث حسن صحيح. وابن ماجه رقم (43 و44) والدارمي (1/ 44 - 45) وابن حبان في صحيحه (1/ 104 رقم 5) والحاكم (1/ 95 - 97) وقال: هذا حديث صحيح ليس له علة ووافقه الذهبي وابن أبي عاصم في السنة (1/ 17، 19، 29، 30) والآجري في الشريعة (ص 46 - 47) من حديث العرباض بن سارية قال: صلى بنا رسول الله ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع، فما تعهد إلينا؟ قال: " أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا. فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ". وهو حديث صحيح. (¬2) مفاد الحديث السنة العملية، أي إذا عمل الصحابة عملا لم ينقل لنا فيه سنة عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا موافقة ولا مخالفة فإنا نعد هذا كسنة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونفتدي بهم فيه وعلى هذا يكون " قولهم معتبر وعملهم مقتدى به " المراد بالقول القول التكليفي لا التعريفي، وذلك كما إذا رأينا الصحابي في الحج مثلا يكبر أو يلبي في مكان مخصوص، وليس المراد القول. بمعنى الرأي والاجتهاد وإلا فمجرد المدح بالعدالة والأمر باتباع سنتهم لا يفيدان ذلك في الاجتهاد والآراء. وقد أوضح ابن قيم الجوزية هذا المقام وحرره تحريرا شافيا وأقام ستة وأربعين دليلا على وجوب الأخذ بآرائهم ومذاهبهم وأنها تكون كالسنة وكذلك الاقتداء بهم في أعمالهم. أعلام الموقعين (4/ 128 - 153). (¬3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1472) وأبو داود رقم (2199 و2200) والنسائي (6/ 145) من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم؟.

ما المعتمد في ذلك؟ وما عذر عمر (¬1) رضي الله عنه فيما هنالك. ¬

(¬1) وقد ذكر الصنعاني في سبل السلام (6/ 207 - 210) بتحقيقي. ط 1 الأول: أنه كان الحكم كذلك ثم نسخ في عصره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد أخرج أبو داود- في السنن رقم (2195) بإسناد حسن- من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: " كان الرجل إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك " اهـ إلا أنه لم يشتهر النسخ فبقي الحكم المنسوخ معمولا به إلى أن أنكره عمر (قلت) إن ثبتت رواية النسخ فذاك وإلا فإنه يضعف هذا قول عمر إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة إلخ فإنه واضح في أنه رأي محض لا سنة فيه وما في بعض ألفاظه عند مسلم- رقم (17/ 1472) - أنه قال ابن عباس لأبي الصهباء " لما تتابع الناس في الطلاق في عهد عمر فأجازه عليهم ". الثاني: أن حديث ابن عباس هذا مضطرب قال القرطبي: في شرح مسلم وقع فيه مع الاختلاف على ابن عباس الاضطراب في لفظه فظاهر سياقه أن هذا الحكم منقول عن جميع أهل ذلك العصر والعادة تقتضي أن يظهر ذلك وينتشر ولا ينفرد به ابن عباس فهذا يقتضي التوقف عن العمل بظاهره إذا لم يقتض القطع ببطلانه أهـ. (قلت) وهذا مجرد استبعاد فإنه كم من سنة وحادثة انفرد بها راو ولا يضر سيما مثل ابن عباس بحر الأمة ويؤيد ما قاله ابن عباس من أنها كانت الثلاث واحدة ما يأتي من حديت أبي ركانة- أخرجه أبو داود رقم (2196) وهو حديث حسن ولفظه: عن ابن عباس قال طلَّق أبو ركانة أم ركانة فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " راجع امرأتك " فقال: إني طلقتها ثلاثا، قال: " قد علمت، راجعها "-. الثالث: أن هذا الحديث ورد في صورة خاصة هي قول المطلق أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق وذلك أنه كان في عصر النبوة وما بعده وكان حال الناس محمولا على السلامة والصدق فيقبل قول من ادعى أن اللفظ الثاني تأكيد الأول لا تأسيس طلاق آخر ويصدق في دعواه فلما رأى عمر تغير أحوال الناس وغلبة الدعاوي الباطلة رأى من المصلحة أن يجري المتكلم على ظاهر كلامه ولا يصدق في دعوى ضميره وهذا الجواب ارتضاه القرطبي. قال النووي: هو أصح الأجوبة. (قلت) ولا يخفى أنه تقرير لكون نهي عمر رأيا محضا ومع ذلك فالناس مختلفون في كل عصر فيهم الصادق والكاذب وما يعرف ما في ضمير الإنسان إلا من كلامه فيقبل قوله وإن كان مبطلا في نفس الأمر فيحكم بالظاهر والله يتولى السرائر مع أن ظاهر قول ابن عباس طلاق الثلاث واحدة انه كان ذلك بأي عبارة وقعت. الرابع: أن معنى قوله كان الطلاق الثلاث واحدة أن الطلاق الذي كان يوقع في عهده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعهد أبي بكر إنما كان يوقع في الغالب واحدة لا يوقع ثلاثا فمراده أن هذا الطلاق الذي يوقعون ثلاثا كان يوقع في ذلك العهد واحدة ويكون قوله فلو أمضيناه عليهم بمعنى لو أجريناه على حكم ما شرع من وقوع الثلاث وهذا الجواب يتنزل على قوله استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة تنزلا قريبا من غير تكلف ويكون معناه الإخبار عن اختلاف عادات الناس في إيقاع الطلاق لا في وقوعه فالحكم متقرر وقد رجح هذا التأويل ابن العربي ونسبه إلى أبي زرعة وكذا البيهقي في السنن الكبرى (7/ 338) أخرجه عنه قال معناه أن ما تطلقون أنتم ثلاثا كانوا يطلقون واحدة. (قلت): وهذا يتم إن اتفق على أنه لم يقع في عصر النبوة إرسال ثلاث تطليقات دفعة واحدة وحديث أبى ركانة وغيره يدفعه وينبو عنه قول عمر فلو أمضيناه فإنه ظاهر في أنه لم يكن معنى ذلك العصر حتى رأى إمضاءه وهو دليل وقوعه في عصر النبوة لكنه لم يمض فليس فيه أنه كان وقوع الثلاث دفعة نادرا في ذلك العصر. الخامس: أن قول ابن عباس كان طلاق الثلاث ليس له حكم الرفع فهو موقوف عليه وهذا الجواب ضعيف لما تقرر في أصول الحديث وأصول الفقه أن كنا نفعل- وكانوا يفعلون له حكم الرفع. السادس: أنه أريد بقوله طلاق الثلاث واحدة هو لفظ البته إذا قال أنتِ طالق البتة- وكما سيأتي في حديث ركانة- وهو حديث ضعيف- فكان إذا قال القائل ذلك قبل تفسيره بالواحدة وبالثلاث فلما كان في عصر عمر لم يقبل منه التفسير بالواحدة قيل وأشار إلى هذا البخاري فإنه أدخل في هذا الباب الآثار التي فيها البتة والأحاديث التي فيها التصريح بالثلاث كأنه يشير إلى عدم الفرق بينهما وأن البتة إذا أطلقت حملت على الثلاث إلا إذا أراد المطلق واحدة فيقبل، فروى بعض الرواة البتة بلفظ الثلاث يريد أن أصل حديث ابن عباس- رضي الله عنه- كان طلاق البتة على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعهد أبي بكر إلى آخره. (قلت) ولا يخفى بُعْدُ هذا التأويل وتوهيم الراوي في التبديل ويبعده أن الطلاق بلفظ البتة قي غاية الندور فلا يحمل عليه ما وقع كيف وقول عمر قد استعجلوه في أمر كان لهم فيه أناة يدل أن ذلك واقع أيضا في عصر النبوة والأقرب أن هذا رأي من عمر رجع له كما منع من متعة الحج وغيرها وكل واحد يؤخذ من قوله ويترك غير رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكونه خالف ما كان على عهده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو نظير متعة الحج بلا ريب والتكلفات في الأجوبة ليوافق ما ثبت في عهد النبوة لا يليق فقد ثبت عن عمر اجتهادات يعسر تطبيقها على ذلك نعم إذا أمكن التطبيق على وجه صحيح فهو المراد.

. .... .... ...

جزاكم الله خيرا .. آمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. راقمُهُ السائل المستفيد محمد بن أحمد الحفظي (¬1) العجيلي- فتح الله عليه- آمين ¬

(¬1) هو محمد بن أحمد الحفظي ذكره صاحب- نيل الوطر- من تراجم رجال اليمن في القرن الثالث عشر: الشيخ العلامة محمد بن أحمد بن عبد القادر الحفظي العجيلي العسيري الرجالي أخذ عن أبيه وعن السيد عبد الرحمن بن سليمان الأهدل الزبيدي وغيرهما. برع في فنون عدة وكان سريع البادرة حسن المحاضرة مع تواضع ودماثة أخلاق ولد سنة 1178 هـ. ولصاحب الترجمة مؤلفات في النحو وغيره مات بقرية رجال من عسير سنة 1237 هـ. وله كتب لا تزال مخطوطة لم تنشر بعد منها: - " تكملة الظل الممدود في الحوادث والوقائع في عهد آل سعود ". - " النفحات العنبرية في الخطب المنبرية". -" درجات الصاعدين إلى مقامات الموحدين ". انظر: الأعلام للزركلي (6/ 18)، نيل الوطر (2/ 225).

بسم الله الرحمن الرحيم [نص الأجوبة] الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحابته أجمعين {سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} (¬1). ¬

(¬1) البقرة: 32.

إجابة السؤال الأول [دعاء غير الله شرك ولا يعذر الجاهل] - أما السؤال الأول: فقد أجاب عنه السائل. بما شفى وكفى، وهو سؤال وجواب، وقد أقام الأدلة على ما أجاب به من الكتاب والسنة، فمن قال بغيره فلا يلتفت إليه، ولا يعول عليه. - ومن وقع في الشرك جاهلا لم يعذر، لأن الحجة قامت على جميع الخلق بمبعث محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فمن جهل فقد أُتي من قبل نفسه، بسبب الإعراض عن الكتاب والسنة، وإلا ففيهما البيان الواضح كما قال سبحانه في القرآن: {تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة} (¬1)، وكذلك السنة قال أبو ذر- رضي الله عنه-: " توفي محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وما ترك طائرا يقلب جناحيه بين السماء والأرض إلا ذكر لنا منه علما" (¬2) أو كما قال- رضي الله عنه-. فمن جهل فبسبب (¬3) إعراضه، ولا يعذر أحد بالإعراض. ¬

(¬1) النحل: 89. (¬2) أخرجه أحمد في المسند (5/ 154، 162) بإسناد ضعيف لجهالة الراوي عن أبي ذر. والطبراني في الكبير رقم (1647) وأورده الهيثمي في المجمع (8/ 263، 264) وقال: رواه أحمد والطبراني وزاد فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد عن النار إلا وقد بين لكم ". ورجال الطبراني رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ وهو ثقة وفي إسناد أحمد من لم يسم. (¬3) قال ابن تيمية في " مجموع فتاوى " (12/ 493): " فإن الكتاب والسنة قد دل على أن الله لا يعذب أحدا إلا بعد إبلاغ الرسالة فمن لم تبلغه جملة لم يعذبه رأسا، ومن بلغته جملة دون بعض التفصيل لم يعذبه إلا على إنكار ما قامت عليه الحجة الرسالية ". مثل قوله تعالى: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء: 165]. وقال ابن تيمية في مجموع فتاوى (23/ 345 - 346): " وحقيقة الأمر في ذلك: أن القول قد يكون كفرا، فيطلق القول بتكفير صاحبه، ولقال من قال كذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها. وهذا كما في نصوص الوعيد فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا} فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق- لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد، فلا يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار لجواز أن يلحقه الوعيد بفوات شرط، أو ثبوت مانع فقد لا يكون التحريم بلغه، وقد يتوب من فعل المحرم، وقد يكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم، وقد يبتلى بمصائب تكفر عنه، وقد يشفع فيه شفيع مطاع. وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهدا في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائنا ما كان سواء كان في المسائل النظرية، أو العملية هذا الذي عليه أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجماهير أئمة الإسلام " أهـ. مثال: ما أخرجه أحمد (4/ 381) وابن ماجه رقم (1853) من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: لما قدم معاذ من الشام سجد للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ما هذا يا معاذ؟ قال: أتيت الشام فوافيتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم فوددت في نفسي أن أفعل ذلك لك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فلا تفعلوا فإني لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها والذي نفس محمد بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه ". فقال الشوكاني في النيل (4/ 323): ولما هذا الحديث دليل: على أن من سجد جاهلا لغير الله لم يكفر. مثال: الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3481) ومسلم رقم (2756) من حديث أبي هريرة مرفوعا: " كان رجل يسرف على نفسه فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فاحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني في الريح فوالله لئن قدر الله على ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا. فلما مات فعل به ذلك فأمر الله الأرض قال: اجمعي ما فيك منه ففعلت فإذا هو قائم، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يارب خشيتك، فغفر له ". قال: ابن تيمية تعليقا على هذا الحديث في " مجموع فتاوى " (3/ 231):- فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذُرى، بل اعتقد أنه لا يعاد وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنا يخاف الله أن يعاتبه، فغفر له بذلك.

- وأما شأن المتقدمين على هذه الدعوة النجدية، فكما قال تعالى: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون} (¬1). ولم نكلف معرفة اعتقادهم، فما وجدنا في كلامهم من الشرك فهو شرك، قال به من قال به، ولا نقول في قائله إنه مشرك، بل نحسن به الظن 000. (¬2) أو رجع عنه، ولا نرجع إلى التعسف والتأويل، والنظر إلى من قال ليس من الشرك الأكبر، بل هو من الأكبر كما أقام السائل الدليل عليه في 0000. (¬3) الأول. وقال في الإقناع: اتفق العلماء على أن من جعل بينه وبين الله وسائط (¬4) يدعوهم، ويتوكل عليهم، فقد كفر إجماعا، لأن هذا هو كفر عابدي الأصنام القائلين: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} قال تعالى عنهم: {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون} (¬5)، ثم شهد عليهم بالكذب والكفر فقال: {إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار} (¬6). ¬

(¬1) [البقرة: 134]. (¬2) كلمات سبع لم نستطع قراءتها فهي مطموسة. (¬3) كلمات سبع لم نستطع قراءتها فهي مطموسة. (¬4) قال تعالى: {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون}، [آل عمران:80]. قال ابن تيمية تعليقا على هذه الآية: " فبين سبحانه أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر، فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يسألهم غفران الذنوب وهداية القلوب وسد الفاقات فهو كافر بإجماع المسلمين ". انظر: مجموع فتاوى (1/ 124) و (1/ 175 - 179). (¬5) [الزمر:3]. (¬6) [الزمر:3].

إجابة السؤال الثاني [مسألة خلق أفعال العباد] السؤال الثاني: - ما الراجح لديكم في مسألة خلق الأفعال، حسنها وقبيحها .... إلخ، فهذه مسألة قد تكلم العلماء، وكثر الخلاف فيها قديما وحديثا، وكثر الحجاج بين الطرفين، والواجب الرجوع إلى ما عليه الصالحون من سلف الأمة، قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية في الرد على الرافضة (¬1): " وأما قوله أنه عدل حكيم لا يظلم أحدا، ولا يفعل القبيح، وإلا [لزم] (¬2) الجهل والحاجة- تعالى ¬

(¬1) في " منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية " وهو رد على ابن المطهر الرافضي. الرافضة: يطلق على تلك الطائفة ذات الأفكار والآراء الاعتقادية الذين رفضوا خلافة الشيخين وأكثر الصحابة، وزعموا أن الخلافة في علي وذريته من بعده بنص من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومن أهم المسائل الاعتقادية والتي كان لها أثر هام في تباعدهم عن هدي الكتاب والسنة وطريقة أهل الحق. ا\ قصر الخلافة في آل البيت، علي وذريته: الحسن، الحسين. 2 - \ دعواهم عصمة الأئمة والأوصياء. 3 - \ تدينهم بالتقية. 4 - \ دعواهم في المهدي: أنه علي بن حسن العسكري، وأنه حي. 5 - \ دعواهم بالرجعة. 6 - \ موقفهم من القرآن. 7 - \ موقفهم من الصحابة. 8 - \ القول بالبداء على الله تعالى. وتوجد لهم آراء أخرى منحرفة. انظر: " فرق معاصرة تنسب إلى الإسلام " غالب بن على عواجي (1/ 163 - 167). ونجد الشيخ ابن تيمية يرد عليهم في كتابه " منهاج السنة". (¬2) في المخطوط يلزم وما أثبتناه من منهاج السنة (2/ 294).

الله (¬1) عنهما-، فيقال له: هذا متفق عليه بين المسلمين من حيث الجملة أن الله لا يفعل قبيحا، ولا يظلم أحدا، ولكن النزاع في تفسير ذلك، فهو إذا كان خالقا لأفعال العباد، هل يقال إنه ما هو قبيح [منه] (¬2) وظلم، أم لا؟ فأهل السنة المثبتون للقدر يقولون: ليس [هو بذلك] (¬3) ظالما ولا فاعلا قبيحا، والقدرية يقولون: لو كان خالقا لأفعال العباد كان ظالما فاعلا ما هو قبيح [منه] (¬4)، وأما كون الفعل قبيحا من فاعله لا يقتضي أن يكون [كذلك لخالقه] (¬5)، لأن الخالق خلقه في غيره، لم يقم بذاته، فالمتصف به من قام به الفعل، لا من خلقه في غيره، كما أنه إذا خلق لغيره لونا، وريحا، وحركة، وقدرة، وعلما كان ذلك الغير هو المتصف بذلك اللون، والريح، والحركة، والقدرة، والعلم، فهو المتحرك بتلك الحركة، والمتلون بذلك اللون، والعالم بذلك العلم، والقادر بتلك القدرة، فكذلك إذا خلق في غيره كلاما، أو صلاة، أو صياما، أو طوافا، كان ذلك الغير هو المتكلم بذلك الكلام، وهو المصلي، وهو الصائم، وهو الطائف، ولكن من قال إن الفعل هو المفعول يقول: إن أفعال العباد هي فعل الله، فإن قال: وهو أيضا فعل لهم لزم أن يكون الفعل الواحد لفاعلين (¬6)، كما يحكى عن أبي إسحاق الاسفراييني- (¬7)، وإن لم يقل هو فعل لهم لزمه أن تكون أفعال العباد فعلا لله لا لعباده كما يقوله الأشعري (¬8)، ومن وافقه من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم ¬

(¬1) زيادة من منهاج السنة (2/ 294). (¬2) زيادة من منهاج السنة (2/ 294). (¬3) زيادة من منهاج السنة (2/ 294). (¬4) كذا في المخطوط وصوابه [قبيحا من خالقه] كما في منهاج السنة (2/ 294). (¬5) كذا في المخطوط وصوابه [قبيحا من خالقه] كما في منهاج السنة (2/ 294). (¬6) معنى أن أفعال العباد تكون بفاعلين: أي أن أفعال العباد ليست بفعل لله وحده، كما يقول به جهم والأشعري وغيرهما، ولا بفعل للعبد وحده كما يقول المعتزلة ومن يحذو حذوهم، بل هي فعل لله تعالى وللعبد معا فكأنهم هربوا عن الجبر وعن كون العبد خالقا لأفعاله، إلا أنهم وقعوا في هجنة أخرى. (¬7) أبو إسحاق الإسفراييني هو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران، فقيه شافعي أصولي متكلم توفي سنة 418 هـ. طبقات الشافعية (3/ 111 - 114) شذرات الذهب (3/ 209 - 210) الأعلام للزركلي (1/ 59). (¬8) سيأتي قريبا (ص 151).

الذين يقولون: إن الخلق هو المخلوق، وإن أفعال العباد خلق الله، فتكون هي فعل الله، وهي مفعول الله، فكما أنها خلقُهُ فهي مخلوقة، وهؤلاء لا يقولون إن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة، ولكنهم مكتسبون لها، وإذا طولبوا بالفرق بين الكسب (¬1) والفعل لم يذكروا فرقا معقولا، ولهذا كان يقال عجائب الكلام [ثلاثة] (¬2): أحوال أبي هاشم (¬3)، وطفرة النظام (¬4)، ¬

(¬1) الكسب: وهو قول الأشاعرة. وقد ذكره ابن تيمية في مجموع فتاوى (8/ 388): أن أفعال العباد خلق لله عز وجل وكسب للعبد. وقال في منهاج السنة (1/ 458 - 459):-" ... فجعل أفعال العباد فعلا لله، ولم يقل: هي فعلهم - في المشهور عنه- الأشعري. إلا على وجه المجاز بل قال: هي كسبهم، فسر الكسب بأنه ما يحصل في محل القدرة المحدثة مقرونا بها ". وأكثر الناس طعنوا في هذا الكلام وقالوا: عجائب الكلام ثلاثة: طفرة النظام، وأحوال أبي هاشم وكسب الأشعري وأنشد في ذلك: مما يقال ولا حقيقة تحته ... معقولة تدنو إلى الأفهام الكسب عند الأشعري والحال عنـ ... ـد البهشمي وطفرة النظام (¬2) زيادة من منهاج السنة (2/ 297). (¬3) عبد السلام بن محمد الجبائي وهو ابن أبي على الجبائي من رؤوس المعتزلة وتنسب إلى أبي هاشم الطائفة البهشمية من المعتزلة توفي سنة 321 هـ وهو من معتزلة البصرة. وأكثر المعتزلة اليوم على مذهبه لأن ابن عباد كان يدعو إلى مذهبه ولهم ضلالات وجهالات كثيرة. منها قوله بالأحوال: أن العالم له حال يفارق به من ليس بعالم وللقادر حال به يفارق حال العالم ثم كان يقول: إن الحال ليست بموجودة ولا معدومة ولا مجهولة .... .. ". وكذلك أن الباري عز وجل هو عالم لذاته. بمعنى أنه ذو حالة هي صفة معلومة وراء كونه ذاتا موجودا. وإنما تعلم الصفة على الذات لا بانفرادها فأثبت أحوالا هي صفات لا موجودة ولا معدومة، ولا معلومة ولا مجهولة أي على حيالها لا تعرف كذلك بل مع الذات. الملل والنحل (1/ 92) والتبصير في الدين ص 87. (¬4) النظام: هو أبو إسحاق إبراهيم بن سيار بن هائي النظام وهو ابن أخت أبي الهذيل العلاف وعنه أخذ الاعتزال وهو شيخ أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ. توفي سنة 221 هـ وقالت المعتزلة إنما سمي نظاما لأنه كان حسن الكلام في النظم والشعر وليس كذلك وإنما سمي- النظام- لأنه كان ينظم الخرز في سوق البصرة ويبيعها وكان في حداثة سنه يصحب الوثنية والسمنية الذين يقولون بتكافئ الأدلة وفي كهولته كان يصحب الملاحدة من الفلاسفة. الطفرة: لغة: الوثبة مختار الصحاح (ص 394). وقوله- النظام- بالطفرة ذلك بانقسام كل جزء لا إلى نهاية أي أن أجزاء الجزء لا تتناهى. وكلمه أبو الهذيل في هذه المسألة فقال: لو كان كل جزء من الجسم لا نهاية له لكانت النملة إذا دبت على البقلة لا تنتهي إلى طرفها، فقال: إنها تطفر بعضا، وتقطع بعضا، وهذا كلام منه لا يقبله عقول العقلاء لأن مالا يتناهى كيف يمكن قطعه بالطفرة. فصار قوله هذا مثلا سائرا يضرب لكل من تكلم بكلام لا تحقيق له ولا يتقرر في العقل معناه. التبصير في الدين (ص 71) الملل والنحل (67 - 70).

وكسب الأشعري (¬1). وهذا الذي ينكره جمهور العقلاء، ويقولون: إنه مكابرة للحس، ومخالفة للشرع والعقل. ¬

(¬1) الأشعري: هو أبو الحسن على بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري اليماني البصري المتوفى سنة 324 هـ وكانت له ثلاثة أطوار: أولها: انتماؤه إلى المعتزلة، يقول بقولهم، ويأخذ بأصولهم، حتى صار إماما لهم. ثانيها: خروجه عليهم، ومعارضته لهم بأساليب متوسطة بين أساليبهم ومذهب السلف، وقد سلك في هذا الطور طريقة عبد الله بن سعيد بن كلَّاب. ثالثها: انتقاله إلى مذهب السلف، وتأليفه في ذلك كتابه " الإبانة في أصول الديانة " وأمثاله، وقد أراد أن يلقى الله على ذلك. وبناء على هذا فإن اللقب (الأشاعرة) ينصرف عند الإطلاق إلى أولئك الذين اتبعوه في الطور الثاني، أما قبل ذلك فهو معتزلي، وبعد توبته مر عقيدة الاعتزال وملازمته لابن كلاب فترة من الزمن رجع في آخر أيامه إلى مذهب السلف. والأشاعرة: هم في الجملة لا يثبتون من صفات الباري عز وجل إلا سبعا. لأن العقل دل على إثباتا، ويؤولون بقية الصفات بتأويلات عقلية" اهـ. انظر: " منهاج الاعتدال " للذهبي (ص 44)، " البرهان " للسكسكي (ص 37 - 38).

وأما [جمهور] (¬1) أهل السنة فيقولون: إن فعل العبد له حقيقة، ولكنه مخلوق لله تعالى، ومفعول لله لا يقولون هو نفس فعل الله، ويفرقون بين الخلق والمخلوق، والفعل والمفعول. انتهى كلامه (¬2). وأهل القول الثاني من السؤال لا يلزم ما يقولون في خلاف قولهم أنه إجبار وإبطال للشرائع، وإلزام الحجة على الشارع بل -سبحانه- {يخلق ما يشاء ويختار} (¬3)، و {لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون} (¬4)، وكل ما فعله فهو فضل أو عدل، فلا يعترض على فضله وعدله، ومن جعل العقل ميزانا للشرائع فقد ضل وأضل، والله يلهمنا رشدنا ويقينا شرور أنفسنا. [ما المراد من حديث افتراق الأمة] - وأما حديث افتراق الأمة على ثلاث (¬5) وسبعين فرقة، فالمراد به -والله أعلم- الاختلاف في أصول الدين، وليس مخصوصا في وقت من الأوقات. - والصحابة لم يختلفوا في الأصول إلا ما كان من اختلافهم (¬6) في أهل الردة، ثم رجعوا ¬

(¬1) زيادة من منهاج السنة (2/ 298). (¬2) كلام ابن تيمية من " منهاج السنة " (2/ 298). (¬3) [القصص:68]. (¬4) [الأنبياء: 23]. (¬5) تقدم تخريجه (ص 135 - 136) من هذا القسم- العقيدة-. (¬6) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1399، 1400، 1456، 1457، 6924، 6925، 7284، 7285) ومسلم في صحيحه رقم (0 2) وأبو داود رقم (1556) والترمذي رقم (2606 و2607) والنسائي (5/ 14) و (6/ 5) و (7/ 77) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: " لما توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستخلف أبو بكر بعده وكفر من كفر من العرب قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله " فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقاتلتهم على منعه. فقال عمر بن الخطاب: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبى بكر للقتال فعرفت أنه الحق ".

إلى قول أبي بكر- رضي الله عنه-، وأجمعوا عليه، ولم يقع بينهم الاختلاف إلا في الفروع. - وأما [ما ذكره] (¬1) السائل [من الحروب بين] (¬2) علي رضي الله عنه [ومعاوية لم تكن من] (¬3) التفرق في الدين المشار إليه في الحديث، وإنما اختلفوا على الدنيا والملك خصوصا معاوية- رضي الله عنهم أجمعين- وقد ثبت أنهم كلهم على الحق كما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قتل الخوارج (¬4) فقال: " تقتلهم أقرب الطائفتين إلى الحق" (¬5) فتبين هذا أنهم على الحق، وإن كان أصحاب علي أقرب إليه من أصحاب معاوية. ¬

(¬1) زيادة يستلزمها السياق. وهي مطموسة في المخطوط. (¬2) زيادة يستلزمها السياق. وهي مطموسة في المخطوط. (¬3) زيادة يستلزمها السياق. وهي مطموسة في المخطوط. (¬4) الخوارج: في اللغة جمع خارج وخارجي اسم مشتق من الخروج وقد أطلق علماء اللغة كلمة الخوارج في آخر تعريفاتهم اللغوية في مادة " خرج " على هذه الطائفة من الناس معللين ذلك بخروجهم عن الدين أو على الإمام علي أو لخروجهم على الناس. تهذيب اللغة (7/ 50) تاج العروس (2/ 30). والخوارج جمع خارجة وهم الذين نزعوا أيديهم عن طاعة ذي السلطان من أئمة المسلمين، بدعوى ضلاله وعدم انتصاره للحق ولهم في ذلك مذاهب ابتدعوها وآراء فاسدة اتبعوها. والخوارج لا يقلون عن عشرين فرقة منها: الأزارقة، النجدات، والصفرية الخازمية، والشعبية، والمعلومية والمجهولية، الحمزية، والشمرافية، والإبراهيمية، الواقفة والإباضية. ويقال لهم: الشراة والحرورية، والنواصب، المارقة. وأول من خرج على أمير المؤمنين على بن أبي طالب جماعة ممن كان معه في حرب صفين، وأشدهم خروجا عليه، ومروقا من الدين: الأشعث بن قيس الكندي ومسعر بن فدكي التميمي، وزيد بن حصين الطائي. الملل والنحل (1/ 131 - 135). (¬5) أخرجه مسلم رقم (1065) وأبو داود رقم (4667) وأحمد (3/ 5، 25، 32) من حديث أبى سعيد الخدري وهو حديث صحيح.

[الصحابة- رضي الله عنهم- كلهم عدول] - وأما عدالتهم- رضي الله عنهم- فمسلمة عند جميع أهل السنة (¬1) الذين رأينا كلامهم، ولا نعلم أحدا من الصحابة طعن فيه من قبل عدالته، وأما الرافضة، والخوارج، وأهل البدع فلا عبرة بكلامهم، ولا يعد خلافهم خلافا، وإنما هو شذوذ وميل عن الصراط المستقيم. - وأما تخريج البخاري ومسلم عن الشخص فهو تعديل إن لم يكن ثم مقصد آخر، مثل كون الحديث قد صح عندهم من طريق آخر. فيخرجونه من طريق ذلك الشخص، لأجل قرب الإسناد، أو مقصد آخر، وكذلك أهل السنن الذين ينبهون على الضعيف إذا أخرجوا عن شخص، وسكتوا عليه، فهو تعديل (¬2) إذا لم يكن ثَمَّ غرض، فمن له خبرة بالحديث يعلم ذلك، [أما] (¬3) الجاهل فلا يشهد بمجرد التخريج على عدالة الشخص، وأما تخريج البخارى عن ¬

(¬1) سيأتي الكلام على عدالة جميع الصحابة في رسالة الإمام الشوكاني بعنوان: " سؤال عن عدالة الصحابة هل هي مسلمة أم لا؟ ". كما تم الكلام عليها أيضا في رسالة الإمام الشوكاني بعنوان: " إرشاد الغبي " رقم (19). (¬2) قال الحافظ ابن حجر في هدي الساري " مقدمة فتح الباري " ص 384: " .. ينبغي لكل منصف أن يعلم أن تخريج صاحب الصحيح لأي راو كان مقتض لعدالته عنده وصحة ضبطه وعدم غفلته ولا سيما ما إنضاف إلى ذلك من إطباق جمهور الأئمة على تسمية الكتابين بالصحيحين فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيهما هذا إذا خرج له في الأصول، فأما إذا خرج له في المتابعات والشواهد والتعاليق فهذا يتفاوت درجات من أخرج له منهم في الضبط وغيره مع حصول اسم الصدق لهم. وحينئذ إذا وجدنا لغيره في أحد منهم طعنا فذلك الطعن مقابل لتعديل هذا الإمام فلا يقبل إلا مبين السبب مفسرا بقادح يقدح في عدالة هذا الراوي وفي ضبطه مطلقا أو في ضبطه لخبر بعينه، لأن الأسباب الحاملة للأئمة على الجرح متفاوتة منها ما يقدح ومنها ما لا يقدح، وقد كان الشيح أبو الحسن المقدسي يقول في الرجل الذي يخرج عنه في الصحيح هذا جاز القنطرة يعني بذلك أنه لا يلتفت إلى ما قيل فيه. (¬3) زيادة يستلزمها السياق.

مروان (¬1) فإن معه المسور بن مخرمة. ¬

(¬1) (منها) مقرونا مع المسور بن مخرمة. انظر الأحاديث رقم (2307، 2308) من حديث مروان بين الحكم والمسور بن مخرمة أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أحب الحديث إلي أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي وإما المال ..... ". وانظر الأحاديث رقم (1711، 2712، 2731، 2732). (ومنهما): ما روى البخاري في صحيحه عن مروان غير مقرون بغيره وذلك كما في حديت رقم (4592) عن ابن شهاب قال: حدثني سهل بن سعد الساعدي أنه رأى مروان بن الحكم في المسجد فأقبلت حتى جلست على جنبه فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أملى عليه: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله} فجاءه ابن أم مكتوم وهو يملها علي فقال: يا رسول الله والله لو أستطع الجهاد لجاهدت -وكان أعمى- فأنزل الله على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي ثم سري عنه فأنزل الله: {غير أولي الضرر}. مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي الأموي. أبو عبد الملك ولد بعد الهجرة بسنتين وقيل: بأربع. مات سنة 65 هـ وكانت ولايته على دمشق تسعة أشهر. قال البخاري: لم ير النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال ابن عبد البر في الاستيعاب (3/ 444 رقم 2399): ولد يوم الخندق، وعى مالك أنه ولد يوم أحد. وقال الحافظ ابن حجر: ((وعاب الإسماعيلي على البخاري تخريج حديثه، وَعَدَّ من موبقاته أنه رمى طلحة أحد العشرة يوم الجمل وهما جميعا مع عائشة، فقُتل، ثم وثب على الخلافة بالسيف واعتذرت عنه في مقدمة "شرح البخاري ")) (ص 443). فقلت: " مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية ابن عم عثمان بن عفان يقال له رؤية فإن ثبتت فلا يعرج على من تكلم فيه، وقال عروة بن الزبير: كان مروان لا يتهم في الحديث، وقد روى عنه سهل بن سعد الساعدي الصحابي اعتمادا على صدقه. وإنما نقموا عليه أنه رمى طلحة يوم الجمل بسهم فقتله ثم شهر السيف في طلب الخلافة حتى جرى ما جرى، فأما قتل طلحة فكان متأولا فيه كما قرره الإسماعيلي وغيره. وأما ما بعد ذلك فإنما حمل عنه سهل بن سعد وعروة وعلي بن الحسين وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وهؤلاء أخرج لهم البخاري أحاديثهم عنه في صحيحه لما كان أميرا عندهم بالمدينة قبل أن يبدو منه في الخلاف على ابن الزبير ما بدا والله أعلم. وقد اعتمد مالك على حديثه، ورأيه والباقون سوى مسلم. وانظر تهذيب التهذيب (4/ 50).

[التقليد في الجرح والتعديل جائز] - وأما مسألة [هل] (¬1) يجوز التقليد للتعديل؟، فيجوز التقليد فيه، لأنه لا سبيل إلى معرفة الشخص [عن طريق] (¬2) أهل الجرح والتعديل، فلا بد من التقليد على [. . . .] (¬3) أخذ بمجرد لفظ الجرح أو التعديل، أو عرف حال الشخص بنقل هذا الجارح والمعدل. ¬

(¬1) زيادة يستلزمها السياق. (¬2) طمس في الأصل. بمقدار كلمتين في الموضعين. أما في الموضع الأول لعلها (عن طريق). (¬3) طمس في الأصل. بمقدار كلمتين في الموضعين. أما في الموضع الأول لعلها (عن طريق).

إجابة السؤال الثالث [حكم الاختلاف في الفروع] السؤال الثالث: فيما يتعلق بالفروع من الاختلاف المتباين الأطراف: هل الشريعة الحكيمة قابلة لهذا التناقض، وأنها كالبحر يغترف كل من جهته من الماء الفائض. . .؟. إلى آخره، فالجواب:- - أن الشريعة منزهة عن التناقض، فالمصيب واحد في المختلفين. - وإن أدلى كل بدليل فلابد في الدليلين من موافقة تخفى على [. . . .] (¬1)، فإن لم يكن ثم موافقة فأحدهما ناسخ للآخر، فإن بان ما يوجب الترجيح وجب العمل بالترجيح، وإن لم يكن تعين الاجتهاد مع اعتقاد أن الحق واحد. - وإذا اجتهد فأخطأ فهو معذور، ولا يجوز لأحد أن يقره على خطئه، ولا يعذر أحد بتقليده كائنا من كان. - وأما الاختلاف بين الصحابة في غير الاجتهادات فلا نعلم [. . . .] (¬2) - والله أعلم-. - وقوله: هل رجع أحد؟ نعم، إن علم الدليل؛ فقد رجع عمر وغيره من الصحابة إلى قول أبي بكر في أهل (¬3) الردة، ورجع ابن عباس عن المتعة (¬4). ¬

(¬1) كلمة مطموسة في الأصل. (¬2) كلمة مطموسة في الأصل. (¬3) تقدم تخريجه (ص 152). (¬4) روى البخاري في صحيحه رقم (5116) عن أبي جمرة قال: سمعت ابن عباس يسأل عن متعة النساء فرفض، فقال له مولى له: إنما ذلك في الحال الشديد وفي النساء قلة أو نحوه فقال ابن عباس: نعم. وقال المحدث الألباني في "الإرواء" (6/ 319): وجملة القول أن ابن عباس رضي الله عنه روي عنه في المتعة ثلاثة أقوال: الأول: الإباحة مطلقا. الثاني: الإباحة عند الضرورة. الثالث: التحريم مطلقا، وهذا مما لم يثبت عنه صراحة بخلاف القولين الأولين فهما ثابتان عنه والله أعلم. ا هـ

- وقوله: إذا رجع هل يكون مقلدا أو مقتديا؟ فإن كان رجع إلى الدليل فهو مقتد، وإن رجع إلى رأي فهو مقلد. - وأما سؤاله عن جواز العمل بالخطوط [. . . . . . . . . . .] (¬1) بكتاب القاضي إلى القاضي إذا أشهد عليه شاهدين عدلين، وقرأه عليهم، والعمل عندنا على قبوله، سواء كان كتاب قضاء أو كتاب شهادة (¬2). - والسؤال عما ورد في الحديث " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين " (¬3) فالمراد - والله أعلم- سنتهم فيما سنوه إذا لم يخالف سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأما سنتهم في أتباعهم سنته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو من سنته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [حكم الطلاق بلفظ الثلاث] - وأما ما خالف فيه (¬4) عمر -رضي الله عنه- في مسألة الطلاق، فإنه لم يثبت (¬5) بلفظ مقيد ¬

(¬1) هنا كلمات مطموسة في الأصل. (¬2) وقد بوب البخاري في صحيحه (13/ 140 مع الفتح) باب رقم (15) الشهادة على الخط المختوم، وما يجوز من ذلك وما يضيف عليه وكتاب الحاكم إلى عماله، والقاضي إلى القاضي. وقال ابن حجر في فتح الباري: مراده هل تصح الشهادة على الخط أي بأنه خط فلان، وقيد بالمختوم لأنه أقرب إلى عدم التزوير على الخط وقوله: وما يجوز من ذلك وما يضيف عليه، يريد أن القول بذلك لا يكون على التعميم إثباتا ونفيا، بل لا يمنع ذلك مطلقا فتضيع الحقوق، ولا يعمل بذلك مطلقا فلا يؤمن فيه التزوير فيكون جائزا بشروط. وقوله: (كتاب الحاكم إلى عامله والقاضي إلى القاضي) يشير إلى الرد على من أجاز الشهادة على الخط ولم يجزها في "كتاب القاضي" و"كتاب الحاكم. . . . .". (¬3) تقدم تخريجه والتعليق عليه. (¬4) تقدم تخريجه والتعليق عليه. (¬5) بل ثبت من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: طلق أبو ركانة أم ركانة. فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "راجع امرأتك" فقال: إني طلقتها ثلاثا. قال: " قد علمت، راجعها ". أخرجه أبو داود في السنن رقم (2196) وهو حديث حسن.

أن أحدا طلق امرأتة ثلاثا على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقضى فيها واحدة. وقد اتفق الجمهور على فتيا عمر - رضي الله عنه-، فمن أفتى بضدها لم ينكر عليه، ولم ينقض حكمه، بل هو مذهب كثير من أهل العلم، منهم ابن تيمية (¬1)، وابن القيم (¬2). وقد أفرد فيه ابن تيمية تأليفا (¬3) - والله أعلم-. حماكم الله وتولاكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، صدر الجواب وهو غير منقول، فقابلوه بالعذر والقبول، وما كان فيه من خطأ فأصلحوه، وما كان فيه من قصور فتمموه، والسلام عليكم ورحمة الله. ¬

(¬1) قال ابن تيمية في كتاب الطلاق ضمن مجموع فتاوى (33/ 98):- فهذا للعلماء من السلف والخلف فيه ثلاثة أقوال سواء كانت مدخولا بها أو غير مدخول بها ومن السلف من فرق بين المدخول بها وغير المدخول بها وفيه قول رابع محدث مبتدع. (الأول): أنه طلاق مباح لازم وهو قول الشافعي وأحمد في الرواية القديمة. (الثاني): أنه طلاق محرم لازم وهو قول مالك، وأبي حنيفة وأحمد في الرواية المتأخرة عنه اختارها أكثر أصحابه وهذا القول منقول عن كثير من السلف من الصحابة والتابعين. (الثالث): أنه محرم ولا يلزم منه إلا طلقة واحدة وهذا القول منقول عن طائفة من السلف والخلف من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل: الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف ويروى عن ابن عباس وعلي وابن مسعود القولان وهو قول كثير من التابعين. (الرابع): قاله بعض المعتزلة والشيعة. فلا يعرف عن أحد من السلف وهو أنه لا يلزمه شيء. ثم قال ابن تيمية: والقول " الثالث " هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة: فإن كل طلاق شرعه الله في القرآن في المدخول بها إنما هو الطلاق الرجعى، لم يشرع الله لأحد أن يطلق الثلاث جميعا. . . . ". (¬2) انظر زاد المعاد (5/ 226 - 236). (¬3) - بيان الطلاق المباح والحرام. - في الحلف بالطلاق وتنجيزه ثلاثا. - الحلف بالطلاق من الأيمان حقيقة. انظر: الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية (ص 319).

العذاب النمير في جواب مسائل عالم بلاد عسير

العذاب النمير في جواب مسائل عالم بلاد عسير تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق [الحمد لله وحده صار هذا الكتاب المسمى الفتح الرباني - ما قبل هذا وذلك ثمان وسبعون صفحة وما بعدها - من جملة خزانة المولى سيف الإسلام والدي أحمد بن قاسم حميد الدين حفظه الله تعالى في سنة 1352 هـ عبد الرحمن بن أحمد بن قاسم] (¬1) ¬

(¬1) ما بين الخاصرتين وجد على غلاف الرسالة. والله أعلم.

وصف المخطوط 1 - عنوان الرسالة: " العذب النمير في جواب مسائل عالم بلاد عسير ". 2 - موضوع الرسالة: في قضايا الشرك والتوحيد، وخلق أفعال العباد، والاختلاف في الفروع (¬1). 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الطاهرين، ورضي الله عن صحبه أجمعين وبعد: فإنه وصل إلينا من الأخ العلامة الزكي الفهامة الفطن اللوذعي محمد بن أحمد حمد الله مساعيه. . . 4 - آخر الرسالة:. . . عن عدم وقوع الطلاق البدعي بحث طالت فيه الأقوال واضطربت فيه آراء الرجال، وقد أفرده جماعة بالتصنيف، ومن آخر من أفرده بالتصنيف أيضا راقم الأحرف غفر الله له. وإلى هنا انتهى جواب السائل كثر الله فوائده في شهر شوال سنة 1222هـ بقلم المجيب محمد الشوكاني. غفر الله له. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - الناسخ: المؤلف رحمه الله: محمد بن علي الشوكاني. 7 - عدد الأوراق ( ... ) ورقة + ورقة العنوان. 8 - عدد الأسطر في الورقة: (25 - 27) سطرا. 9 - عدد الكلمات في السطر: (11 - 13) كلمة. 10 - تاريخ النسخ: شوال سنة 1222 هـ. ¬

(¬1) وضعت هذه الرسالة في قسم " العقيدة " ولو كان فيها سؤال يتعلق بالفقه لأن أغلب الرسالة تتحدث عن العقيدة. وهكذا أصنع على مدار الكتاب وهو " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني " حيث أضع الرسالة في القسم الذي يغلب عليها والله الهادي إلى سواء السبيل.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الطاهرين، ورضي الله عن صحبه أجمعين. وبعد: فإنه وصل إلينا من الأخ العلامة الذكي الفهامة الفطن اللوذعي محمد بن أحمد (¬1)، حمد الله مساعيه ونفع بعلمه وكثر فوائده، سؤالات نافعات ومباحث شافيات، فأجبت عليها. بما عندي امتثالا لرسمه، وتصديقا لظنه، كونه وجهها إلي وعنونها باسمي وها أنا أكتب الأسئلة وأعقبها بما فتح الله به من الأجوبة مستعينا بالله عز وجل ومتكلا عليه. [نص الأسئلة] قال عافاه الله بعد الخطبة: (السؤال الأول): قد نطقت الآيات القرآنية وشهدت الأحاديث النبوية، وأجمعت الأمة المحمدية على وجوب توحيد الله سبحانه بالعبادة وقال عز من قائل عليم: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (¬2)، {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} (¬3)، وكذلك تواترت الأحاديث الواردات وتتابعت الآيات البينات على تحريم الشرك بالله سبحانه في العبادات سواء كان ذلك جليا أو خفيا {من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار} (¬4). وقال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (¬5)، وفي هذا مباحث يتضح بها المعنى ويستقيم عليها ¬

(¬1) تقدمت ترجمته في رسالة " أسئلة وأجوبة عن قضايا الشرك والتوحيد وغيرها " رقم (1). (¬2) [الذاريات: 56]. (¬3) [البينة: 5]. (¬4) [المائدة: 72]. (¬5) [النساء: 48].

المبنى الأول أن الدعوة لغير الله شرك، وفي التفاسير أن المراد بها العبادة في كثير منها، والمراد بالعبادة التوحيد كما ذكره ابن عباس رضي الله عنه وفي الحديث: إن " الدعاء هو العبادة " (¬1) وهذا الوصل للحصر أو للتخصيص للاهتمام، وعلى كل تقدير فهو دليل على هذا التقدير. والدعاء له معنيان أحدهما دعاء الطلب (¬2) بل قد سمى الله ذلك دينا في قوله تعالى: {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين} (¬3)، وصرف هذه العبادة لغير الله شرك وكفر بدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ} - إلى قوله- {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (¬4) فهل هذا [1] الكلام في سبل السلام إلى بلوغ المرام عند جميع الأعلام أم فيه تفصيل واحتمال على قول بعض الرجال، وشأن الكفر المجمع عليه حل الدم والمال بلا إشكال سرا قبل الدعوة أو بعدها على التفصيل فيمن بلغته ومن لم تبلغه، وهل يعذر الجاهل لقولهم إن العمل متوقف على العلم وكذا الوجوب؟ وفي قوله تعالى: {فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} (¬5) هل هذه الجملة حالية أو خبرية وهل الاحتمال يصح دليلا للعذر أم لا لوضوح المحجة، وعدم فهم الحجة ليس بعذر، وكيف شأن المتقدمين على هذه الدعوة النجدية إلى توحيد الإلهية ممن يوجد في كلامه أو في أفعاله ما هو شرك جلي بل وقع ذلك للمصنفين، اللهم إلا أن يقال إن الدعاء ينازع فيه أنه ليس من الشرك الأكبر وأنه لا إنكار في المختلف فيه فاعتقاديات العلميات خلاف الظنيات العمليات فالمراد شيخ الأكابر بإسناد الدفاتر بسط الكلام على الأول من السؤالات والآخر مع النظر فيما يتفرع على كل جملة، والإفادة بما ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم ذكر أنواع الدعاء في رسالة " أسئلة وأجوبة عن قضايا الشرك والتوحيد وغيرها " رقم (1). (¬3) [العنكبوت: 65]. (¬4) [الأحقاف: 5 - 6]. (¬5) [البقرة: 22].

عليه الجُلَّة في الجملة. أقول هذا السؤال قد اشتمل على أبحاث: الأول: ما ذكره السائل عافاه الله، من كون الدعاء عبادة ليترتب عليه ما رتبه. فاعلم أن الدعاء نوع من أنواع العبادة المطلوبة من العباد ولو لم يكن في الكتاب العزيز إلا مجرد طلبه منهم لكان ذلك مفيدا للمطلوب، أعني كونه من العبادة قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (¬1) وقال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (¬2)، وقال تعالى: {ادعوني أستجب لكم} (¬3) فهذه الآيات البينات دلت على أن الدعاء مطلوب لله عز وجل من عباده، ثم توعد على عدم الدعاء فقال عز من قائل: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (¬4) وهذا القدر [2] يكفي في إثبات كونه عبادة فكيف إذا انضم إلى ذلك النهي عن دعاء غير الله سبحانه، قال الله عز وجل: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (¬5)، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} (¬6) وقال سبحانه ناعيا على من يدعو غيره ضاربا له الأمثال: {إن الذين تدعون من دون الله عباد} ¬

(¬1) [الأعراف: 55 - 56]. (¬2) [الإسراء: 110]. (¬3) [غافر: 60]. (¬4) [غافر: 60]. (¬5) [الجن: 18]. (¬6) [الرعد: 14].

{أمثالكم} (¬1)، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} (¬2)، فكيف إذا صرح القرآن الكريم بأن الدعاء عبادة تصريحا لا يبقى عنده ريب لمرتاب، قال الله سبحانه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} -الآية- (¬3)، فقد طلب الله سبحانه من عباده في هذه الآية أن يدعوه، وجعل جزاء الدعاء له منهم الإجابة منه فقال: {أستجب لكم} ولهذا جزمه لكونه جوابا للأمر، ثم توعدهم على الاستكبار عن هذه العبادة -أعني الدعاء-. بما صرح به في آخر الآية، وجعل العبادة مكان الدعاء تفسيرا له وإيضاحا لمعناه وبيانا لعباده بأن هذا الأمر الذي طلبه منهم وأرشدهم إليه هو نوع من عبادته التي خص بها نفسه وخلق لها عباده كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (¬4). ومع هذا كله قد جاءت السنة المطهرة بما يدل أبلغ دلالة على أن الدعاء من أكمل أنواع العبادة فأخرج أحمد (¬5) وأبو داود (¬6) والترمذي (¬7) وصححه النسائي (¬8) وابن ماجه (¬9) وابن أبي شيبة (¬10) ¬

(¬1) [الأعراف: 194]. (¬2) [سبأ: 22]. (¬3) [غافر: 60]. (¬4) [الذاريات: 56]. (¬5) في المسند (4/ 271). (¬6) في السنن رقم (1479). (¬7) في السنن رقم (2969) و (3247 و3372) وقال: حسن صحيح. (¬8) في تفسيره رقم (484). (¬9) في السنن رقم (3828). (¬10) في "المصنف" (10/ 200).

والحاكم (¬1) من حديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أن الدعاء هو العبادة " وفي رواية: " مخ العبادة " ثم قرأ رسول الله الآية المذكورة، فهذه الصيغة الشريفة النبوية المصطفوية [3] قد اشتملت على ثلاثة أشياء (¬2)، كل واحد منها يقتضي الحصر. الأول: تعريف المسند إليه. الثاني: تعريف المسند. الثالث: ضمير الفصل. وقد صرح أرباب علم المعاني والبيان والأصول بأن كل واحد آلة من آلاته وأداة من أدواته، وأن وجود أحدها يقتضي الحصر، فكيف إذا اجتمعت جميعا وانضم إليها حرف التأكيد المشعر بأن ما دخل عليه كلام مؤكد، فانظر هذه المبالغة البليغة والعبارة المنادية بأبلغ نداء، المفيدة أكمل إفادة، المشعرة أتم إشعار. فإن قلت: علام كل هذا الحصر. هل على الحقيقي أم على الادعائي؟ قلت: احمله على الادعائي لأنه قد علم من هذه الشريعة أن من أنواع العبادة أمورا كثيرة لو لم يكن من ذلك إلا أركان الإسلام الخمسة: الشهادتان والصلاة والصيام والزكاة والحج فضلا عن غيرها، فأقل ما يفيده الحديث أن الدعاء عبادة كاملة مؤكدة، فمن دعا غير الله عز وجل طالبا منه أمرا من الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله سبحانه فقد عبد غير الله، ولم يبعث الله سبحانه رسله ولا أنزل عليهم كتبه إلا لإخلاص توحيده ¬

(¬1) في المستدرك (1/ 491) وصححه ووافقه الذهبي. وهو حديث صحيح وقد تقدم. (¬2) يشير إلى أن الحصر هنا اجتمع فيه ثلاثة عناصر كلها تفيد الحصر:- * تعريف الجزأين [المسند والمسند إليه] وهذا يفيد الحصر حقيقة أو مبالغة. ومثاله: الحمد لله. * وكذلك وجود ضمير الفصل وهو يفيد الحصر. انظر معترك الأقران (1/ 140 - 142).

وإفراده بالعبادة: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (¬1)، {أن لا تعبدوا إلا الله} (¬2)، {أن اعبدوا الله واتقوه} (¬3) {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} (¬4)، {فإياي فاعبدون} (¬5)، {إياك نعبد} (¬6)، {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني} (¬7)، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (¬8) [4] {يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم} (¬9)، {يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (¬10)، {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} (¬11)، {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} ¬

(¬1) [الأعراف (59, 65, 73, 85) هود (50, 61, 84) والمؤمنون (23)]. (¬2) [هود: 26]. (¬3) [نوح: 3]. (¬4) [الأعراف: 70]. (¬5) [العنكبوت: 56]. (¬6) [الفاتحة: 5]. (¬7) [طه: 14]. (¬8) [النحل: 36]. (¬9) [البقرة: 21]. (¬10) [يس: (60 - 61)]. (¬11) [نوح: (1 - 3)].

{وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬1)، {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} (¬2)، {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (¬3)، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} (¬4)، وقد حكى الله سبحانه في سورة الأعراف عن نوح وهود وصالح أن كل واحد قال لقومه: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} (¬5). وبالجملة فرسل الله صلوات الله عليهم، وكذلك جميع كتبه المنزلة متفقة على هذه الدعوة، وقد تكفل القرآن الكريم بحكاية جميع ذلك لمن تتبعه، وإذا تقرر هذا فاعلم أن من دعا غير الله طالبا منه أمرا لا يقدر عليه إلا الله سبحانه فقد عبد غيره وشرَّكه معه: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (¬6)، {يعبدونني لا يشركون بي شيئا} (¬7)، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا} ¬

(¬1) [العنكبوت (16 - 17)]. (¬2) [الشعراء (69 - 77)]. (¬3) [الممتحنة: 4]. (¬4) [الزخرف: (26 - 27)]. (¬5) [الأعراف: (59 - 65 - 73)]. (¬6) [الكهف: (110)]. (¬7) [النور: (55)].

{إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬1)، {قُلْ يَا أَهْل الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [5] {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (¬2)، {إذ أوى الفتية إلى الكهف} - إلى آخر الآيات- (¬3)، {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬4). البحث الثاني: من مباحث السؤال الأول ما أشار إليه السائل عافاه الله بقوله: وهل يعذر الجاهل. . . إلخ. والجواب أن ما سأل عنه من قوله تعالى: {فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} (¬5) هل الجملة حالية أو خبرية؟ الظاهر فيه أن الجملة حالية (¬6)، والمراد أنكم لا تجعلوا لله أندادا في حال علمكم بأنه لا أنداد لله عز وجل، وأنه المتفرد بالإلهية والمستحق للعبادة وحده لا شريك له، وهذا يعلمه كل من بلغته الدعوة الإسلامية وصار من جملة المنتمين إلى الإسلام، فلله الحجة البالغة، ولم يكن للعباد على الله حجة ¬

(¬1) [التوبة: (31)]. (¬2) [آل عمران: (64)]. (¬3) [الكهف: (10 - 14)]. (¬4) [النحل: (73)] (¬5) [البقرة: (22)]. (¬6) قال الشوكاني في فتح القدير (1/ 71 - 72): جملة حالية والخطاب للكفار والمنافقين فإن قيل: كيف وصفهم بالعلم وقد نعتهم بخلاف ذلك حيت قال: " ولكن لا يعلمون، ولكن لا يشعرون، وما كانوا مهتدين، صم بكم عمي " فيقال: إن المراد أن جهلهم وعدم شعورهم لا يتناول هذا: أي كونهم يعلمون أنه المنعم دون غيره من الأنداد، فإنهم كانوا يعلمون هذا ولا ينكرونه كما حكاه الله عنهم في غير آية، وقد يقال: المراد وأنتم تعلمون وحدانيته بالقوة والإمكان لو تدبرتم ونظرتم.

بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} (¬1)، {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} (¬2)، وقد فسرها ابن مسعود (¬3) بأن المراد لا تجعلوا لله أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله وروي ذلك عن ابن عباس (¬4)، وقال الله عز وجل في موضع آخر: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله} (¬5). فإن قلت: قد يجهل بعض المسلمين بعض أسباب الردة الموجبة لوقوعه في الكفر، ويجهل بعض أنواع الشرك، بل قد يجهل ذلك كثير من أهل العلم حتى ينبه عليه فينتبه، كما يعرف ذلك من عرف أحوال الناس. ويدل على ذلك ما أخرجه الإمام أحمد في المسند (¬6) من حديث أبي موسى قال: خطبنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم فقال: "يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل " فقيل له: فكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله، قال: " قولوا اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه ". ¬

(¬1) [النساء: (165)]. (¬2) [الإسراء: (15)]. (¬3) ذكره السيوطي في الدر المنثور (1/ 87). (¬4) ذكره السيوطي في الدر المنثور (1/ 87). (¬5) [البقرة: (165)]. (¬6) (4/ 403). وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير في " الكني " ص 58 وابن أبي شيبة في كتاب الدعاء (10/ 337 - 338 رقم 9596) والطبراني في الأوسط (4/ 10 رقم 3479). وأورده الهيثمي في المجمع (10/ 226 - 227): رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط ورجال أحمد رجال الصحيح غير أبي علي وثقه ابن حبان. وهو حديث حسن.

وقد روي من وجه آخر من حديث أبي بكر الصديق عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "الشرك أخفى فيكم من ديب النمل"فقال أبو بكر: وهل الشرك إلا من دعا مع الله إلها آخر؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [6] " الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل، ثم قال: ألا أدلك على ما يذهب عنك صغير ذلك وكبيره؟ قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم ". رواه من هذا الوجه أبو بكر الموصلي (¬1) ورواه أيضا الحافظ أبو القاسم البغوي (¬2) من حديث أبي بكر الصديق بلفظ: " الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا " فقال أبو بكر: يا رسول الله فكيف النجاة والمخرج من ذلك؟ قال: ألا أخبرك بشيء إذا قلته برئت من قليله وكثيره وصغيره وكبيره؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: " قل اللهم إني أعوذ بك أن أشرك ما أعلم وأستغفرك لما لا أعلم. قلت: إذا كان من جملة أنواعه ما هو أخفى من دبيب النمل كما نطق به الصادق المصدوق فمعلوم أن يجهله غالب الخاصة فضلا عن العامة، ولهذا قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما سمع ذلك من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهل الشرك إلا من دعا مع الله إلها آخر فأجاب عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: " الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل " مؤكدا لقوله السابق. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في تفسير (¬3) قوله تعالى: {فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} أنه قال: " الأنداد أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول وحياتك يا فلان وحياتي وتقول لولاك ما كلمته وما كان هذه المنزلة ¬

(¬1) في المسند (1/ 60 - 61 رقم 58) بإسناد ضعيف. وأورده الهيثمي في المجمع (10/ 244) وقال: رواه أبو يعلى من رواية ليث بن أبى سليم، عن أبى محمد، عن حذيفة، وليس مدلس، وأبو محمد إن كان هو الذي روى عن ابن مسعود، أو الذي روى عن عثمان بن عفان، فقد وثقه ابن حبان، وإذ كان غيرهما فلم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح. (¬2) لم أجده في الجعديات. (¬3) (1/ 62 رقم 229).

من الخفاء وعدم الظهور فلا يطلع على كثير منه إلا من تدبر الكتاب العزيز كلية التدبر وتفكر في آياته أكمل التفكر، ونظر في السنة المطهرة أبلغ النظر، وتتبع ما ورد عن المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتم التتبع. وكثيرا ما نرى من له في العلم نصيب وفي الفهم حظ يقع في نوع من الأنواع التي جاءنا النص النبوي بأنها من الشرك، ويستعمله ذاهلا عن كونه كذلك بعد العلم به بوجه من الوجوه أو جاهلا له مع علمه بكثير من المعارف العلمية، وها نحن نقص عليك بعضا من تلك الأمور التي ورد بها النص حتى يتبين لك صحة ما ذكرناه ويتقرر لك ما سنقرره في هذا المقام، ونحرره من الكلام إن شاء الله [7]. فمن ذلك ما ورد في تعليق التمائم أنه من الشرك كما أخرجه أحمد في المسند (¬1) من حديث عقبة بن عامر مرفوعا وكذلك تعليق الخيط في اليد للحمى كما أخرجه ابن أبي حاتم (¬2) عن حذيفة وأخرج أحمد (¬3) وأبو داود (¬4) من حديث ابن مسعود: سمعت رسول ¬

(¬1) (4/ 156). قلت: والحاكم في المستدرك (4/ 219) من حديث عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقبل إليه رهط فبايع تسعة وأمسك عن واحد، فقالوا: يا رسول الله بايعت تسعة وتركت هذا؟! قال: " إن عليه تميمة " فأدخل يده فقطعها فبايعه وقال: " من علق تميمة فقد أشرك ". وهو حديث صحيح انظر الصحيحة رقم (492). (¬2) في تفسيره (7/ 2208 رقم 12040). (¬3) في المسند (1/ 381). (¬4) في السنن رقم (3883) مختصرا. وأخرجه ابن ماجه رقم (3530) والبغوي في " شرح السنة " رقم (3240) والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 350). من طريقين عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن يحيى بن الجزار، عن ابن أخي زينب امرأة عبد الله بن مسعود، وقد وقع عند ابن ماجه (ابن أخت زينب) بدل (ابن أخي زينب) وأشار الحافظ المنذري في " الترغيب والترهيب " (4/ 205) إلى أنه وقع في بعض نسح ابن ماجه (ابن أخي) وقال: وهو على كلا التقديرين مجهول. وقال الحافظ في " التقريب " رقم (8496) كأنه صحابي، ولم أره مسمى. ولكن تابعه عبد الله بن عتبة بن مسعود عند الحاكم (4/ 417 - 418) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. كما أن للحديث طريقين آخرين يتقوى بهما، فقد أخرجه الحاكم (4/ 217) من طريق إسرائيل، عن ميسرة بن حبيب، عن المنهال بن عمرو، عن قيس بن السكن الأسدي، قال: دخل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على امرأة ... فذكره. وأخرجه الحاكم أيضًا (4/ 216 - 217) من طريق أبي الضحى، عن أم ناجية، قالت: دخلت على زينب امرأة عبد الله أعوذها وخلاصة القول أن الحديث صحيح بطرقه، والله أعلم.

الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن الرقى والتمائم والتولة شرك " وكذلك ما ورد في ذات أنواط، حيث قال بعض الصحابة: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط- وهي سدرة كان المشركون يعلقون بها أسلحتهم-، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الله أكبر، قلتم- والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} " أخرجه الترمذي (¬1) وصححه من حديث أبي واقد الليثي، وكذلك الحلف بغير الله، أخرجه الترمذي (¬2) وحسنه والحاكم (¬3) وصححه من حديث ¬

(¬1) في السنن رقم (2180) وقال: هذا حديث حسن صحيح. قلت: وأخرجه أحمد (5/ 218) والحميدي رقم (848) والطيالسي رقم (1346) وأبو يعلى رقم (1441) والطبراني في " الكبير " رقم (3290 و3291 و3292 و3293) وابن أبي عاصم في "السنة" رقم (76) وعبد الرزاق في "المصنف" رقم (20763) وابن أبي شيبة في المصنف (15/ 101) من طرق. وهو حديث صحيح. (¬2) في السنن رقم (1535). (¬3) في المستدرك (1/ 52) وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وقد أعل بالانقطاع فقد قال البيهقي (10/ 29)، " وهذا مما لم يسمعه سعد بن عبيدة من ابن عمر". قلت: وأخرجه أحمد (2/ 125) وأبو داود رقم (3251) والطيالسي رقم (1896). وهو حديث صحيح بشواهده.

[ابن] (¬1) عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من حلف بغير الله فقد أشرك " وكذلك أخرج مالك في الموطأ (¬2) أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " ومن ذلك ما أخرجه أحمد (¬3) من حديث قبيصة عن أبيه أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن العيافة والطَّرْق والطيرة من الجبت " وأخرجه أيضًا أبو داود (¬4) والنسائي (¬5) وابن حبان (¬6)، وأخرج النسائي (¬7) من ¬

(¬1) زيادة من مصادر الحديث. (¬2) تقدم تخريجه في " الرسالة السابقة " رقم (1) وهو حديت صحيح. (¬3) في المسند (3/ 477) و (5/ 60). قلت: وأخرجه عبد الرزاق في " المصنف " رقم (19502) وابن سعد في " الطبقات " (7/ 35) والنسائي في "التفسير"رقم (128) والدولابي في "الكنى" (1/ 86) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 312 - 313) والطبراني في " الكبير " (18 رقم 941، 942، 943، 945) والبيهقي في " السنن الكبرى " (8/ 139)، والبغوي في " شرح السنة " رقم (3256) وأبو نعيم في " تاريخ أصبهان " (2/ 158) والخطيب في " التاريخ " (10/ 425) والمزي في "تهذيب الكمال" (7/ 475 - 476) وابن حبان في "صحيحه" رقم (6131) من طرق .. وقد اختلف الرواة في إسناده عن عوف وهو ابن أبي جميلة الأعرابي، فقال بعضهم: حيان، لم ينسبه. وقال بعضهم: حيان أبي العلاء. وقال بعضهم: حيان بن عمير، وقال آخر: حيان بن مخارق. قلت: فالاضطراب في اسمه مشعر بعدم الضبط الموجب لضعف الحديث. وخلاصة القول أن الحديث ضعيف. العيافة: زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرِّها. . الطِيَرة: بكسر الطاء وفتح الياء، وقد تسكن: هي التشاؤم بالشيء، وأصله فيما يقال: التطير بالطير والظباء وغيرهما. الطرق: الضرب بالحصى وهو ضرب من التكهف. الجبت: كل ما عبد من دون الله. (¬4) انظر التعليقة السابقة. (¬5) انظر التعليقة السابقة. (¬6) انظر التعليقة السابقة. (¬7) في السنن (7/ 112رقم 4079) بسند ضعيف فيه عباد بن ميسرة المنقري وهو ضعيف، وعنعنه الحسن. وخلاصة القول أن الحديث " ضعيف " لكن جملة: " ومن تعلق شيئا وكل إليه " ثبتت في حديث الترمذي (4/ 403 رقم 2072) والحاكم (4/ 216) وأحمد (4/ 301، 311) عن عبد الله بن عكيم. قال الترمذي: وحديث عبد الله بن عكيم إنما نعرفه من حديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وعبد الله بن عكيم لم يسمع من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " كتب إلينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال الألباني في " غاية المرام " (ص182): قلت: وابن أبي ليلى سيئ الحفظ وكأنه لذلك سكت عليه الحاكم والذهبي، وأشار المنذري في "الترغيب" (4/ 157) إلى إعلاله بابن أبي ليلى. لكن الحديث حسن عندي، فإن له شاهدا عن الحسن البصري مرسلا أخرجه ابن وهب في " الجامع " (ص 113): أخبرني جرير بن حازم أنه سمع الحسن يقول: فذكره مرفوعا وهذا إسناد مرسل صحيح، وقد رواه بعض الضعفاء عن الحسن عن أبي هريرة مرفوعا. وخلاصة القول أن حديث عبد الله بن عكيم حسن والله أعلم.

حديث أبي هريرة: "من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك ". وأخرج أهل السنن (¬1) والحاكم (¬2) وصححه من حديث أبي هريرة أيضًا قال: قال النبي ¬

(¬1) أبو داود رقم (3904) والترمذي رقم (135) وابن ماجه رقم (639) والنسائي في " عشرة النساء " رقم (131). (¬2) في المستدرك (1/ 8) وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. قلت: وأخرجه الدارمي (1/ 259)، والبيهقي في " السنن الكبرى " (7/ 198) وأحمد في المسند (2/ 408، 476) وابن الجارود رقم (107) من طرق عن حماد بن سلمة عن حكيم الأثرم عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي هريرة به. قال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث حكيم الأثرم عن أبى تميمة. وقال البخاري في "التاريخ الكبير" (3/ 17) عقب الحديث: " هذا حديث لا يتابع عليه، ولا يعرف لأبي تميمة سماع من أبي هريرة في البصريين ". وقال ابن عدي في " الكامل " (2/ 637): " وحكيم الأثرم يعرف بهذا الحديث وليس له غيره إلا اليسير" اهـ. قلت: عللوا الحديث بأمرين: الأول: ضعف حكيم بن الأثرم. والثاني: الانقطاع بين أبي تميمة وأبي هريرة. فالجواب عن الأول: أن حكيم وثقه ابن المديني، وأبو داود، وابن حبان وقال النسائي: " لا بأس به" وقال الذهبي: "صدوق". انظر: " تهذيب التهذيب " (1/ 475 - 476)، و" الكاشف " (1/ 186). أما الجواب عن الثاني: فأبو تميمة اسمه طريف بن مجالد، قد توفي سنة 97هـ وأبو هريرة توفي سنة 58 - 59 هـ، والمعاصرة تكفي كما عليه الجمهور، إن كان ثقة غير مدلس، وأبو تميمة كذلك وللحديث طرق أخرى عن أبي هريرة وشواهد انظر: الإرواء (7/ 69 - 70). وخلاصة القول أن الحديث صحيح.

صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد ". وثبت في الصحيحين (¬1) وغيرهما (¬2) من حديث زيد بن خالد قال: صلى بنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الصبح على إثر سماء، فلما انصرف أقبل على الناس بوجهه فقال: " هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: [8] أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر. فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب ". وأخرج مسلم (¬3) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يقول الله عز وجل: " أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه ". وأخرج أحمد (¬4) عن أبي ¬

(¬1) البخاري في صحيحه رقم (846) ومسلم في صحيحه رقم (25/ 71). (¬2) كأبي داود رقم (3906). (¬3) في صحيحه رقم (46). قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (4204) وأحمد (2/ 301، 435). وهو حديث حسن. (¬4) في المسند (3/ 30). قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (4204) والبيهقي في " الشعب " رقم (6832) وقال البوصيري في " مصباح الزجاجة " (3/ 296 رقم 1498/ 4204): " هذا إسناد حسن، كثير بن زيد وربيح بن عبد الرحمن مختلف فيهما ... ". والخلاصة: أن الحديث حسن والله أعلم.

سعيد مرفوعا: " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى، قال: الشرك الخفي يقوم الرجل فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل ". وأخرج النسائي (¬1) من حديث ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أن رجلا قال ما شاء الله وشئت" فقال: " أجعلتني لله ندا قل: ما شاء الله وحده "، وأخرج أحمد (¬2) من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من ردته الطيرة عن حاجة فقد أشرك " قالوا يا رسول الله ما كفارة ذلك؟ قال: " أن يقول أحدكم: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك". وبالجملة فالأحاديث في هذا الباب كثيرة وقد أوردت منها شطرا صالحا في رسالتي المسماة " الدر النضيد في إخلاص التوحيد" (¬3) وتكلمت على أطرافها وما يستفاد منها بما فيه كفاية، وليس المراد هنا إلا بيان ما قصدنا بيانه من أن في بعض أنواع ما يطلق عليه اسم الشرك خفاء ودقة من غير نظر إلى كونه شركا أكبر أو أصغر، فمن وقع في شيء من هذه الأنواع أو ما يشابهها جاهلا فلا شك أن أتي من تقصيره في طلب علم الشرع وسؤال أهله ولكنه يجب على من أتاه الله من علمه وارتضاه لحمل دينه أن يبين لهذا الجاهل ما شرعه الله لعباده مما جهله وخفي عليه علمه وفاء بما أخذه الله على الذين أوتوا الكتاب من البيان للناس وأن لا يكتموه (¬4) عنهم، فإن نزع ذلك الجاهل بعد البيان عن ¬

(¬1) تقدم تخريجه في الرسالة السابقة رقم (1). (¬2) في المسند (2/ 220). وأورده الهيثمي في المجمع (5/ 105) وقال: رواه أحمد والطبراني وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات". وهو حديث صحيح. (¬3) تم تحقيق هذه الرسالة ضمن هذا القسم " الفتح الرباني " العقيدة رقم (4). (¬4) يشير إلى قوله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} [آل عمران:187].

الغواية ورجع من طريق [9] الضلالة إلى طريق الهداية فقد وفى العالم بما أوجبه الله عليه من البيان والتعليم، ووفى الجاهل بما أوجبه الله عليه من التعلم، وإن أبى إلا اللجاج والمشي على جادة الاعوجاج انتقل معه ذلك العالم من طريقة التليين إلى طريقة التخشين، فإن أصر واستكبر وصمم على غيه وضلاله، واختار العمى على الهدى، وكان ما وقع فيه وجادل عنه من الشرك الأكبر الذي يخرج صاحبه به من فريق المسلمين إلى زمرة المشركين فالسيف هو الحكم العدل. فإن قلت قد جعل بعض أهل العلم كفر هؤلاء القبوريي ن الذين يعكفون على قبور من يعتقدونه من الأموات عكوف أهل الجاهلية على أصنامهم فيدعونهم مع الله عز وجل أو من دونه ويستغيثون بهم ويطلبون منهم ما لا يقدر عليه إلا الله -عز وجل- من الكفر العملي لا الكفر الجحودي، واستدل على ذلك مما ورد في الأحاديث الصحيحة من كفر تارك الصلاة كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة" (¬1) وكما ورد فيمن ترك الحج من قوله سبحانه: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} وكقوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} (¬2) ونحو ذلك من الأحاديث الواردة ¬

(¬1) أخرجه مسلم رقم (134/ 82) وأبو عوانة (1/ 61، 62) والترمذي رقم (2618) و (2619) و (2620) وقال: حديث حسن صحيح. والنسائي رقم (465) وأحمد (3/ 389) وابن ماجه رقم (1078) والبيهقي (3/ 366) والبغوي في شرح السنة (2/ 179) من طرق عن ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " والسياق لمسلم. وأخرجه أبو داود رقم (4678) والدارقطني (2/ 53) والطبراني في " الصغير " (1/ 134) وصححه الحاكم (4/ 296، 297) ووافقه الذهبي وهو كما قالا. والدارمي (1/ 280) وأبو يعلى (3/ 318 - 319 رقم 16/ 1783) من طريق حماد عن عمرو بن دينار عن جابر مرفوعا، به. وخلاصة القول أن الحديث صحيح. (¬2) [المائدة: (44)].

في كفر من أتى امرأة حائضا أو كاهنا أو عرافا أو قال لأخيه يا كافر، ومن ذلك ما عقده البخاري في صحيحه (¬1) من كتاب الإيمان في كفر دون كفر، وجعل هذا من الكفر الذي لا يضاد الإيمان من كل وجه. وروي عن ابن القيم نحوا مما قاله وجعل ما نقله عنه مؤيدا لكلامه- قلت: ... ليس هذا بصحيح ولا مستقيم فإن من يدعو الأموات ويهتف بهم عند الشدائد ويطوف بقبورهم ويطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل [10] لا يصدر منه ذلك إلا عن اعتقاد كاعتقاد أهل الجاهلية في أصنامهم هذا إن أراد من الميت الذي يعتقده ما كان تطلبه الجاهلية من أصنامهم من تقريبهم إلى الله فلا فرق بين الأمرين؛ وإن أراد استغلال من يدعوه من الأموات بأن يعطيه ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل فهذا أمر لم تبلغ إليه الجاهلية فإنهم قالوا ما حكاه الله عنهم: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} (¬2) ولم يدَّعوا لأصنامهم أنهم يستقلون بإيصالهم إلى ما يطلبونه دون الله عز وجل فهذا هو شرك الجاهلية الذي بعث الله لأجله رسله وأنزل فيه كتبه وقاتلتهم الأنبياء عليه. وأما الخلق والرزق والموت والحياة ونحو ذلك فالجاهلية يقرون في جاهليتهم وقبل بعثة الرسل التفهم بأن الله سبحانه هو المستقل بذلك: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} (¬3)، {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن} ¬

(¬1) باب: كفران العشير، وكفر دون كفر. (1/ 83 رقم الباب 21 رقم 29). من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُريت النار، فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن. قيل: أيكفرن بالله؟ قال:- يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط ". (¬2) [الزمر: (3)]. (¬3) [الزخرف: (87)].

{العزيز العليم} (¬1)، {قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون} (¬2)، {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (¬3)، {تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين} (¬4)، {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} (¬5)، وكانوا يقولون في تلبيتهم: " لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك" (¬6) وأما ما نقله ذلك القائل عن ابن القيم فغير صحيح فإن كلامه في كتبه مصرح بخلاف ذلك فإنه صرح في شرح المنازل (¬7) بأن هذا [11] الذي يفعله أهل القبور هو من الشرك الأكبر بل قال بعد تقسيم الشرك إلى أكبر وأصغر ما لفظه: " ومن أنواعه -أي الشرك الأكبر- طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم -إلى آخر كلامه- ". وقد أطلنا الكلام في " الدر النضيد" (¬8) على قول هذا القائل فحكينا كلامه أولا ثم ذكرنا تناقضه في ¬

(¬1) [الزخرف: (9)]. (¬2) [يونس: (31)]. (¬3) [المؤمنون: (84 - 89)]. (¬4) [الشعراء: (97 - 98)]. (¬5) [يونس: (18)]. (¬6) تقدم تخريجه. (¬7) " مدارج السالكين " (1/ 379 - 382). (¬8) تم تحقيق الرسالة ضمن هذا القسم من " الفتح الرباني" رقم (4).

نفسه ومخالفته للصواب، وعدم صحة ما نقله عن غيره ونقلنا كلام ابن القيم من مؤلفاته، وذكرنا ما قاله أهل العلم في هذه المسألة في مؤلفاتهم المشهورة، وإطباقهم على ما قدمنا ذكره وليس هذا مقام بسطه فلسنا بصدد تقدير المسألة على الوجه الذي ينبغي تحريره بل بصدد جواب ما سأل عنه السائل عافاه ألله مما اشتمل عليه سؤاله. وبالجملة فإخلاص التوحيد لله عز وجل وقطع علائق الشرك كائنة ما كانت لا تحتاج إلى أن تنتقل فيه أقوال الرجال أو يُستَدل عليه بالأدلة فإنه الأمر الذي بعث الله لأجله رسله وأنزل فيه كتبه، وفي هذا الإجمال ما يغني عن التفصيل ومن شك في هذا فعليه بالتفكر في القرآن الكريم فإنه سيجده من أعظم مقاصده وأكثر موارده، فإن عجز عن ذلك فلينظر في سورة من سوره، فإن قال أريد منك مثالا أقتدي به وأمشي على طريقته وأهتدي إلى التفكر الذي أرشدتني إليه بتقديم النظر فيه فنقول ها نحن نقرب لك المسافة ونسهل عليك ما استصعبته. هذه فاتحة الكتاب العزيز التي يكررها [12] كل مصل في كل صلاة ويفتتح بها التالي لكتاب الله والمتعلم له فإن فيها الإرشاد إلى إخلاص التوحيد في ثلاثين موضعًا: الأول: قوله تعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم} فإن علماء المعاني والبيان ذكروا أنه يقدر المتعلق متأخرا ليفيد اختصاص البداية (¬1) باسم الله تعالى لا باسم غيره، وفي هذا المعنى ما لا يخفى من إخلاص التوحيد. الثاني والثالث: وفي الاسم الشريف أعني لفظ (الله) عز وجل، فإن مفهومه كما حققه علماء هذا الشأن الواجب الوجود المختصر بجميع المحامد فكان في هذا المفهوم إشارتان إلى إخلاص التوحيد: أحدهما تفرده بوجوب الوجود، وثانيهما اختصاصه بجميع المحامد ما يستفيد من الاسم الشريف الذي أضيف إليه لفظ اسم هذان الأمران (¬2). ¬

(¬1) انظر الكشاف للزمخشري (1/ 101 - 102). (¬2) انظر: روح المعاني للألوسي (1/ 75).

الرابع: تحلية الرحمن باللام فإنها من أدوات الاختصاص سواء كانت موصولة كما هو شأن آلة التعريف إذا دخلت على المشتقات، أو لمجرد التعريف كما تكون إذا دخلت على غيرها من الأسماء والصفات وقد أوضح هذا المعنى أهل البيان. مما لا مزيد عليه. الخامس: اللام الداخلة على قوله الرحيم، والكلام فيها كالكلام في الرحمن. السادس: اللام الداخلة على قوله {الحمد لله} فإنها تفيد أن كل حمد له لا يشاركه فيه غيره، وفي هذا أعظم دلالة على إخلاص توحيده (¬1). السابع: لام الاختصاص الداخلة على [13] الاسم الشريف، وقد تقرر أن الحمد هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري لقصد التعظيم فلا ثناء إلا عليه ولا جميل إلا منه ولا تعظيم إلا له، وفي هذا من أدلة إخلاص التوحيد ما لا يقادر قدره. الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر: قوله {رب العالمين} فإن لفظ الرب باعتبار معناه اللغوي مشعر أتم إشعار بإخلاص توحيده هذا باعتبار معناه الإفرادي دون الإضافي ثم في معناه الإضافي دلالة أخرى؛ فإن كونه رب العالمين يدل على ذلك أبلغ دلالة. ثم في لفظ العالمين معنى ثالث فإن العالم هو اسم لمن عدا الله عز وجل، فيدخل في هذا كل شيء غير الله سبحانه فلا رب غيره وكل من عداه مربوب. ثم في تعريفه باللام معنى رابع لمثل ما قدمنا، فإذا تفيد زيادة الاختصاص. وتقرير ذلك المفهوم في هذا الموضع، ثم في صيغة الجمع معنى خامس بزيادة تأكيد وتقرير، فإن العالم إن كان اسما لمن عدى الله لمن يكن جمعه إلا بمثل هذا المعنى، وعلى فرض انهدامه باللام فهو لا يقتضي ذهاب هذا المعنى المستفاد من أصل الجمع. الثالث عشر والرابع عشر: قوله: {الرحمن الرحيم} وتقرير الكلام فيهما كما سلف. ¬

(¬1) انظر: الكشاف (1/ 109 - 112) وفتح القدير (1/ 19).

الخامس عشر والسادس عشر قوله: {مالك يوم الدين}، فإن لفظ مالك، ومعناه الإفرادي من غير نظر إلى معناه الإضافي يفيد استحقاقه بإخلاص توحيده، ثم في معناه الإضافي إلى يوم الدين معنى ثان، فإن من كان له الملك [14] في مثل هذا اليوم الذي هو يوم الجزاء لكل العباد، وفيه يجتمع العالم أولهم وآخرهم، سابقهم ولاحقهم، جنهم وإنسهم وملائكتهم، فيه إشارة إلى استحقاقه إخلاص توحيده. السابع عشر: ما يُستفاد من نفس لفظ (الدين) من غير نظر إلى كونه مضافًا إليه. الثامن عشر: ما يستفاد من تعريفه، فإن في ذلك زيادة إحاطة وشمول فإن ذلك الملك إذا كان في يوم هو يوم الدين الذي يشتمل على كل دين كان من له هذا الملك حقيقا بأن يخلص العباد توحيده، ويفردوه بالعبادة كما تفرد بملك يوم له هذا الشأن. فإن قلت: هذان المعنيان الكائنان في لفظ الدين باعتبار أصله وباعتبار تعريفه قد أخذا في المعنى الإضافي حسبما ذكرته سابقا. قلت: لا تزاحم بين المقتضيات، ولا يستنكر النظر إلى الشيء باعتبار معناه الإفرادي تارة، وباعتبار معناه الإضافي أخرى، وليس ذلك بممنوع ولا بمحجور عند من يعرف العلم الذي يستفاد منه دقائق العربية وأسرارها وهو علم المعاني والبيان. التاسع عشر والموفي عشرين والحادي والعشرين: قوله {إياك نعبد} (¬1)، فإن تقديم الضمير معمولا للفعل الذي بعده يفيد اختصاص العبادة به، ومن اختص بالعبادة ¬

(¬1) قال ابن القيم في " مدارج السالكين " (1/ 102): أما تقديم المعبود والمستعان على الفعلين، ففيه أدبهم مع الله بتقديم اسمه على فعلهم، وفيه الاهتمام وشدة العناية به، وفيه الإيذان بالاختصاص، المسمى بالحصر فهو في قوة: لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك. وفي ضمير "إياك" من الإشارة إلى نفس الذات، والحقيقة ما ليس في الضمير المتصل، ففي إياك قصدت وأحببت من الدلالة، على معنى: حقيقتك وذاتك قصدي، ما ليس في قولك: قصدتك وأحببتك. وانظر: روح المعاني للألوسي (1/ 87).

فهو الحقيق بإخلاص توحيده، ثم مادة الفعل أعني لفظ (نعبد) يفيد معنى آخر: ثم المجيء بنون الجماعة الموجبة لكون هذا الكلام صادرا عن كل من تقوم به العبادة من العابدين كذلك فكانت الدلالات في هذه الجملة ثلاثا. الأولى: في إياك مع النظر إلى الفعل الواقع بعده. الثانية: ما يفيده مادة (نعبد) مع ملاحظة كونها واقعة لمن [15] ذلك الضمير عبارة عنه وإشارة إليه. الثالثة: ما تفيده النون مع ملاحظة الأمرين المذكورين، ولا تزاحم بين المقتضيات. الثاني والعشرون والثالث والعشرون والرابع والعشرون: قوله: {وإياك نستعين} (¬1) فإن تقديم الضمير معمولا لهذا الفعل له معنى، ثم مادة هذا الفعل لها معنى آخر، فإن من كان لا يستعان بغيره لا ينبغي أن يكون له شريك، بل يجب إفراده بالعبادة وإخلاص توحيده؛ إذ وجود من لا يستعان به كعدمه. وتقرير الكلام في الثلاث الدلالات كتقريره في إياك نعبد فلا نعيده. الخامس والعشرون والسادس والعشرون والسابع والعشرون: قوله: {اهدنا الصراط المستقيم} فإن طلب الهداية منه وحده باعتبار كون هذا الفعل واقعا بعد الفعلين (¬2) اللذين تقدم معمولهما فكان له حكمهما، وإن كان قد تغير أسلوب الكلام في الجملة حيث لم يقل نستهدي أو نطلب الهداية حتى يصح أن يكون ذلك الضمير المتقدم المنصوب معمولا له تقديرا، لكن مع بقاء المخاطبة وعدم الخروج عما تقتضيه لم يقطع النظر عن ذلك الضمير الواقع على تلك الصورة لتوسطه بين هذا الفعل، أعني (اهدنا) ¬

(¬1) وفي إعادة " إياك " مرة أخرى دلالة على تعلق هذه الأمور بكل واحد من الفعلين. ففي إعادة الضمير من قوة الاقتضاء لذلك ما ليس في حذفه. مدارج السالكين (1/ 103). وانظر معترك الأقران في إعجاز القرآن (1/ 140). (¬2) أي " نعبد ونستعين ".

بين من أسند إليه. ثم في ضمير الجماعة معنى يشير إلى استحقاقه سبحانه إخلاص التوحيد على الوجه الذي قدمناه في الفعلين السابقين، ثم في كون هذه الهداية هي هداية الصراط (¬1) المستقيم- التي هي الهداية بالحقيقة ولا اعتبار بهداية إلى صراط لا استقامة (¬2) فيه- معنى ثالث يشير إلى ذلك المدلول. الثامن والعشرون: قوله: {صراط الذين أنعمت عليهم} فإن من يهدي إلى هذا الصراط الذي هو صراط [16] من أنعم الله عليهم يستحق أن لا يشتغل بغيره ولا ينظر إلى سواه، لأن الإيصال إلى طرائق النعم هو المقصود من المشي، والمراد بحركات السائرين وذلك كناية عن الوصول إلى النعم أنفسها؛ إذ لا اعتبار إلى طرائقها من دون وصول إليها فكان وقوع الهداية على الصراط المستقيم نعمة بمجردها؛ لأن الاستقامة إذا تصورت عند تصور الاعوجاج كان فيها راحة بهذا الاعتبار، فكيف إذا كان ذلك كناية عن طريق الحق؟ فكيف إذا كان حقا موصلا إلى الفوز بنعم الله سبحانه! التاسع والعشرون: قوله: {غير المغضوب عليهم} (¬3) ووجه ذلك أن الوصول إلى النعم قد يكون منغصا مكدرا بشيء من غضب المنعم سبحانه، فإذا صفا ذلك عن هذا الكدر وانضم إلى الظفر بالنعمة الظفر بما هو أحسن منها موقعا عند العارفين، وأعظم قدرا في صدور المتقين، وهو رضا رب العالمين كان في ذلك البهجة والسرور ما لا يمكن ¬

(¬1) قال ابن القيم في مدارج السالكين (1/ 33): لا تكون الطريق صراطا حتى تتضمن خمسة أمور: الاستقامة، والإيصال إلى المقصود، والقرب وسعته للمارين عليه وتعينه طريقا للمقصود. ولا يخفى تضمن الصراط المستقيم لهده الأمور الخمسة. وذكر " الصراط المستقيم " مفردا معرفا تعريفين باللام، وتعريفا بالإضافة وذلك يفيد تعينه واختصاصه. وأنه صراط واحد وأما طرق أهل الغضب والضلال فإنه سبحانه يجمعها ويفردها كقوله: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}. وانظر الكشاف (1/ 121). (¬2) قال ابن القيم في مدارج السالكين (1/ 33): لا تكون الطريق صراطا حتى تتضمن خمسة أمور: الاستقامة، والإيصال إلى المقصود، والقرب وسعته للمارين عليه وتعينه طريقا للمقصود. ولا يخفى تضمن الصراط المستقيم لهده الأمور الخمسة. وذكر " الصراط المستقيم " مفردا معرفا تعريفين باللام، وتعريفا بالإضافة وذلك يفيد تعينه واختصاصه. وأنه صراط واحد وأما طرق أهل الغضب والضلال فإنه سبحانه يجمعها ويفردها كقوله: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}. وانظر الكشاف (1/ 121). (¬3) انظر روح المعاني للألوسي (1/ 95 - 96)، الكشاف (1/ 122) بدائع التفسير (1/ 227 - 232).

التعبير عنه ولا الوقوف على حقيقته ولا تصور معناه، وإذا كان المولي لهذه النعمة والمتفضل بها هو الله سبحانه، ولا يقدر على ذلك غيره ولا يمكن منه سواه، فهو المستحق لإخلاص توحيده وإفراده بالعبادة. الموفي ثلاثين: قوله: {ولا الضالين} ووجهه أن الوصول إلى النعم مع الرضا قد يكون مشوبا بشيء من الغواية، مكدرا بنوع من أنواع المخالفة وعدم الهداية، وهذا باعتبار أصل الوصول إلى نعمة من النعم مع رضى المنعم بها، فإنه لا يستلزم (سلبها كون المنعم عليه على ضلالة) (¬1) لا باعتبار هذه النعمة الحاصلة [17] من هذا المنعم عز وجل. ولما كان الأمر في الأصل هكذا كان في وصول النعم إلى المنعم عليه من المنعم بها- مع كونه راضيا عليه غير غاضب منه إذا كان ذلك الوصول مصحوبا بكون صاحبه على ضلاله في نفسه- (¬2) قصورا عن وصولها إلى من كان جامعا بين كونه واصلا إلى النعم فائزا برضا المنعم خالصا من كدر كونه في نفسه على ضلالة وتقرير الدلالة من هذا الوجه على إخلاص التوحيد كتقريرها في الوجه الذي قبله. فهذه ثلاثون دليلا مستفادة من سورة الفاتحة باعتبار ما يستفاد من تراكيبها العربية مع ملاحظة ما يفيده ما اشتملت عليه من تلك الدقائق والأسرار التي هي راجعة إلى العلوم الآلية وداخلة فيما تقضيه تلك الألفاظ بحسب المادة والهيئة والصورة مع قطع النظر عن التفسير بمعنى خاص كما قاله بعض السلف، أو وقف عنده من بعدهم من الخلف. فإن قلت هذه الأدلة التي استخرجتها من هذه الصورة المباركة وبلغت بها إلى هذا العدد وجعلتها ثلاثين دليلا على مدلول واحد، لم نجد لك فيها سلفا ولا سبقك بها غيرك. قلت: هذه شكاة ظاهر عنك عارها، واعتراض غير واقع موقعه ولا مصادف محله فإن ¬

(¬1) في المخطوط: سلب كون المنعم عليه على ضلاله، وصوابه ما اعتمدناه. (¬2) ظاهر العبارة أنه بالرفع قصور على أنه اسم كان مؤخر: كان في وصول النعم.

القرآن عربي، وهذا الاستخراج لما ذكرناه من الأدلة هو على مقتضى اللغة العربية [18] وبحسب ما يقتضيه علومها التي دونها الثقات ورواها العدول الأثبات وليس هذا من التفسير بالرأي الذي ورد النهي عنه والزجر لفاعله، بل من الفهم الذي يعطاه الرجل في كتاب الله كما أشار إليه علي بن أبي طالب (¬1) رضي الله عنه في كلامه المشهور، وما كان من هذا القبيل فلا يحتاج فيه إلى سلف. وكفى بلغة العرب وعلومها المدونة بين ظهراني الناس وعلى ظهر البسيطة سلفًا. البحث الثالث من مباحث السؤال الأول: قوله: وكيف شأن المتقدمين على هذه الدعوة النجدية إلى توحيد الألوهية ممن يوجد في كلامه أو في أفعاله شرك ... إلخ؟ والجواب أنه ينبغي أن يعلم السائل عافاه الله أولا بأن أهل العلم ما زالوا في كل زمان ومكان يرشدون الناس إلى إخلاص التوحيد وينفرونهم عن الوقوع في نوع من أنواع الشرك، ويذكرون ذلك في مصنفاتهم المشتهرة بأيدي الناس، ولكن لما كان الشرك أخفى من دبيب النمل كما قاله الصادق المصدوق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خفي ذلك على كثير من أهل العلم ووقعوا في أمور منه جاهلين عن ذلك، وسرى ذلك الذهول إلى تحرير شيء مما فيه ذلك في المصنفات وفي أشعار كثير من الأدباء، خصوصا المتصدين لمدح الجناب النبوي ثم المشتغلين بممادح بعض الخلفاء الراشدين، ثم سائر الملوك والسلاطين، فإنه يقع لهم في بعض الأحوال ما يقشعر منه الجلد ويجف له القلب، ويخاف من حلول غضب الله على قارئه فضلا عن قائله، ولا سبب لذلك إلا ما عرفناك من الذهول في بعض الأوقات، والغفلة تارة والجهل أخرى مع ما قد انضم إلى ذلك مما هو أوكد الأسباب في قبح هذه الأبواب، وهو ما زينه الوسواس الخناس لكثير من الناس: من تشييد [19] القبور ورفع سمكها واتخاذ القباب عليها وتزيين بعضها بالستور الفائقة وإيقاد الشموع عليها ¬

(¬1) سيأتي تخريجه في رسالة رقم (21) " هل خص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل البيت بشيء من العلم " في القسم الأول - العقيدة-.

واجتماع الناس عندها، وإظهار الخضوع والاستكانة وسؤال الحوائج، والدعاء من صميم القلب ثم ورث الأخر الأول، وتبع الخلف السلف، واقتدى اللاحق بالسابق، فتفاقم الأمر وتزايد الشر وعظمت المحنة، واشتدت البلية، وصار في كل قطر من الأقطار بل في كل مدينه من المدائن بل في كل قرية من القرى جماعة من الأموات يعتقدهم الأحياء ويعكفون على قبورهم وينتسبون إليهم، وصار ذلك عندهم أمرا مأنوسا مألوفا تنبسط إليه نفوسهم وتقبله عقولهم وتستحسنه أذهانهم، فيولد المولود ويكون أول ما يقرع سمعه عند فهم الخطاب هو النداء لأهل تلك القبور من أبويه وغيرهما، وإذا عثر صرخ من يراه باسم واحد من المعتقَدين في ذلك المكان، وإذا مرض نذر من يحب شفاءه بجزء من ماله لذلك الميت، وإذا أراد حاجة توسل إلى صاحب ذلك القبر برشوة يبذلها للعاكفين على قبره المحتالين على الناس به، ثم يكبر ذلك المولود وقد ارتسم في فكره وتقرر عنده ما يسمعه من أبويه لما في ذلك من التأثير في طبع الصغير، ولهذا قال الصادق المصدوق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" (¬1). فاعرف هذا وافهم هذا السر المصطفوي، فإن الصبي ينطبع بطبع من يتولى تربيته ويسري إلى أخلاقه ما هو من أخلاق أبويه، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، ثم ينفصل هذا الصغير عن أبويه ويفارق عشه الذي دب فيه ودرج منه، فيجد الناس على ذلك الأمر الذي سمع أبويه عليه وقد يكون أول ممشى يمشيه ومكان يعرفه [20] بعد مكانه الذي ولد فيه هو قبر من تلك القبور المعتقَدَة، ومشهد من هذه المشاهد التي ابتلي الناس بها فيجد عنده الزحام والضجيج والصراخ والنداء من أبيه ومن هو من أمثاله وأكبر منه فينضم إلى ذلك الاعتقاد الذي قد تلقنه من أبويه ما يوجب تأكيده وتأييده وتشديده، ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1385) ومسلم في صحيحه رقم (2658) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ولا سيما إذا وجد ذلك القبر قد بنيت عليه المباني النفيسة وصبغت جدرانه بالأصبغة الفائقة، ونصبت عليه الستور الرفيعة، وفاحت بجوانبه روائح العود والند والعنبر، وسطعت بنواحيه أشعة السرج والقناديل والشموع، وسمع سدنته العاكفين عليه المحتالين على الناس به يعظمون الأمر ويهولونه ويمسكون بيد زائريه والوافدين إليه ويدفعون في أقفيتهم فإنه عند هذا يتعاظم اعتقاده ويضيق ذهنه عن تصور ما يستحقه ذلك الميت من عظم المنزلة ورفيع الدرجة فيقع حينئذ في بلية لا ينزعها من قلبه إلا توفيق الله وهدايته ولطفه وعنايته أو السيف الذي هو آخر الأدوية وأنفع العقاقير. وإذا اشتعل هذا الذي نشأ على هذه الصفة بطلب العلم وجد غالب أهله قد اتفقوا على اعتقاد ذلك الميت وتعظيم شأنه وجعلوا محبته من أعظم الذخائر عند الله، وطعنوا على من خالفهم في شيء من باطلهم بأنه لا يعتقد الأولياء ولا يحب الصلحاء، ورموه بكل حجر ومدر وألصقوا به كل عيب، فيزداد لذلك الميت محبة وفيه اعتقادا، وعلى فرض وجود فرد من أفرادهم يلهمه الله الصواب ويهديه إلى الحق ويرشده إلى فهم ما جاء عن الشارع من النهي عن رفع القبور (¬1) وتجصيصها والكتب عليها والتسريج لها والأمر بتسوية ما هو مشرف منها والزجر عن جعلها مساجد وأوثانا [21] ثم فهم كون الدعاء عبادة والعبادة مختصة بالله عز وجل، والمنع من دعاء غير الله في السراء والضراء وتعظيم من سواه والالتجاء إليه في الخير والشر كائنا من كان من غير فرق بين الأنبياء والخلفاء الراشدين وسائر الصحابة ومن بعدهم من طوائف المسلمين. فهذا الفرد النادر والغريب الشاذ قد يكتم ما أمره الله به من البيان للناس إما بعذر ¬

(¬1) قال ابن القيم في " إغاثة اللهفان " (1/ 210): فهدم القباب والبناء والمساجد التي بنيت على القبور أولى وأحرى لأنه لعن متخذي المساجد عليها ونهى عن البناء عليها فيجب المبادرة والمسارعة إلى هدم ما لعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاعله ونهى عنه والله عز وجل يقيم لدينه وسنة رسوله من ينصرهما ويذب عنهما فهو أشد غيرة وأسرع تغييرا وكذلك يجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر وطفيه فإن فاعل ذلك ملعون بلعنة رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يصح هذا الوقف ولا يصح إثباته وتنفيذه ".

مسوغ أو بالتفريط فيما أوجبه الله، محبة للسلامة وميلا إلى الراحة والدَّعة واستبقاء للجاه بين العامة والسواد الأعظم من الناس، فيكون علمه محنة له ونقمة عليه، ويكون وجوده كعدمه بل يكون الضر بوجوده أكثر لأنه ربما يدخل بداخلهم ونُطق الموافقة لهم فيعتقدون أنه معهم وفي عدادهم فلا يقبلون من أمثاله ويحتجون عليهم بموافقته، وما أقل من يصدع بالحق ويقوم بواجب البيان من أهل العلم، ولهذا ينزع الله البركة من علومهم ويمحقها محقا لا يفلحون بعده. وهذا الذي يتصدى للصدع بالحق والقيام بواجب البيان لا يوجد في المدينة الكبيرة بلى الأقطار الواسعة إلا الفرد بعد الفرد، وهم مكثورون بالسواد الأعظم مغلوبون بالعامة ومن يلتحق بهم من الخاصة، فقد يتأثر من قيام ذلك الفرد النادر بعض الواقعين في أمر من الأمور لإخلاص التوحيد، وقد لا يتأثر عنه شيء. فمن هذه الحيثية خفي على بعض أهل العلم ما خفي من هذه الأمور ووقع في مؤلفاتهم وأشعارهم ما أشار إليه السائل، وقد صاروا تحت أطباق الثرى وقدموا على ما قدموا من خير أو شر، ولم يبق لنا سبيل إلى الكلام معهم والنصح لهم، ولكن يتحتم علينا بيان بطلان ذلك الذي وقعوا فيه، واشتملت عليه مؤلفاتهم وأشعارهم، والإيضاح للأحياء [22] بأن هذا الذي قاله فلان في كتابه الفلاني أو في قصيدته الفلانية واقع على خلاف ما شرعه الله لعباده، ومخالف لما جاءت به الأدلة، ومستلزم لدخول من عمل به في باب من أبواب الشرك ونوع من أنواع الكفر، والتعريض بذلك في الرسائل التي يكتبها من أوجب الله عليهم البيان والتحذير منه بأبلغ عبارة، والزجر عنه بأوضح بيان حتى يعلم الناس ما فيه، ويتحامَوا الوقوع في شيء منه إن بقي لرجوعهم إلى الحق سبيل. وعلى فرض عدم الرجوع إلى الحق فقد قامت عليهم حجة الله وخلص العالم عن الفرض الذي أوجبه الله عليه وبرئت ذمته وظهرت معذرته. واعلم أن هذه البدعة العظيمة والمحنة الكبرى التي طبَّقت المشرق والمغرب ووقع فيها السلف والخلف، أعني الاعتقاد في الأموات إلى حد يخدش في وجه الإيمان ويفت في

عضد الإسلام أسها ورأسها تشييد القبور والتأنق في بناء القباب عليها، والمبالغة في التهويل على زوارها بكل ما يوجب الروعة ويحصل المهابة ويؤثر التعظيم من الأمور التي قدمنا الإشارة إليها، ولا ينكر أحد من العقلاء أن هذا الأمر من أعظم محصلات الاعتقادات الفاسدة وموجبات الوقوع في البلايا المخالفة لإخلاص التوحيد، ومن شك في هذا ولم يقبله عقله وكابر الوجدان فعليه بالتتبع والاستقراء، وأقرب من هذا أن يعمد إلى بعض العامة ويسأله عن ذلك ويكشف ما عنده منه فإنه سيجد ما ذكرناه عند كل فرد من أفرادهم. وعند تحرير هذه الأحرف ذكرت واقعه ذكرها أهل التاريخ مع بعض الخلفاء العباسيين وهي: أنه قدم على أحدهم رسول من بعض أهل الممالك النائية فاحتفل ذلك الخليفة بجمع أعيان مملكته وأكابرها وجعلهم في الأمكنة التي سيمر الرسول بها ثم أوقف خاصته وهم جمع جم بإيوان كبير قد بالغ في تحسين فرشه وستوره [23] وتأنق في كل أموره وجعل نفسه في مكان يشرف على ذلك الإيوان على صفة في غاية التهويل والتعظيم فما زال ذلك الرسول يدخل من مكان إلى مكان ويمر بجماعة جماعة حتى وصل إلى ذلك الإيوان، فوجده فوق ما قد مر به فامتلأ مهابة وروعة وتعاورته أسباب التعظيم والتهويل من كل جهة وطرقته موجبات الجلالة من كل باب وأقيم بذلك الإيوان رجلان من خدمه الخاص يمسكان بعضديه فلم ينفسوا من خناقه ولا أبلعوه ريقه حتى انفتحت طاقات ذلك المنزل الذي فيه الخليفة وقد نصبت فيه الآلات البراقة من الذهب والفضة والأحجار النفيسة من الجواهر المعدنية وسطعت فيه المجامر وفاحت روائح الأطياب الملوكية وظهر وجه الخليفة وعليه من الثياب ونحوها ما هو الغاية في الحسن والنهاية في البهاء، فعند أن وقعت عين هذا الرسول المسكن على ذلك الخليفة قال للممسكين بيده، أهذا الله؟ فقالا له: بلى هذا خليفة الله. فانظر أرشدك الله إلى أي حالة بلغ بهذا المسكين ما رآه من التهويل والتعظيم وانظر الحكمة البليغة في ما ورد عن الشارع من الزجر عن رفع القبور وتجصيصها وتسريجها

ونحو ذلك، وإني لأكثر التعجب من تلقي هذه الأمة المرحومة لما ورد عن نبيها الصادق المصدوق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من النهى عن ذلك والزجر عنه والتحذير منه بعكس ما ينبغي وخلاف ما يجب، مع مبالغته في ذلك كلية المبالغة، حتى كان من آخر ما قاله في مرضه الذي قبضه الله فيه: " لا تتخذوا قبري مسجدا، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " (¬1)، ثم كان أول ما فعلته الأمة من العمل بهذه السنة الصحيحة والقبول لها أن وضعوا [24] على قبره الشريف هذه العمارة، وكان الشروع فيها قبل انقضاء القرن الذي هو خير القرون بعد قرن الصحابة رضي الله عنهم، ثم انفتح باب الشر إلى جميع أقطار الأرض، وطبق مشارقها ومغاربها وبدوها وحضرها. فإن لله وإنا إليه راجعون. ومن عظيم اهتمامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الأمر أنه بعث بهدم القبة المشرفة أميرا من أهله هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما ثبت في الصحيح (¬2) أن عليا قال لأبي الهياج: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أن لا تدع قبرا مشرفا إلا سويته ولا تمثالا إلا طمسته" والأحاديث في هذا الباب وفي منع الكتابة والتجصيص والتسريج كثيرة ثابتة من طريق جماعة من الصحابة قد استوفيتها في كثير من مؤلفاتي. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، وبه يعرف جواب ما سأل عنه السائل كثر الله فوائده في البحث الثالث من مباحث السؤال الأول، وعلى الله في جميع الأمور المعول. وحاصله أن الذي يجب علينا عند الوقوف على شيء مما فيه ما لا يجوز اعتقاده من مؤلفات المتقدمين أو أشعارهم أو خطبهم أو رسائلهم أن يُحكم على ذلك الموجود بما يستحقه ويقتضيه، ونوضح للناس ما فيه، ونحذرهم عن العمل به والركون إليه، ونكل أمر قائله إلى الله مع التأول له بما يمكن، وإبداء المعاذير له بما لا يرده الفهم ويأباه العقل ولم يكلفنا الله سبحانه غير هذا ولا واجب علينا سواه. ¬

(¬1) سيأتي تخريجه في رسالة " الدر النضيد" ضمن هذا القسم برقم (4). (¬2) أخرجه مسلم رقم (93/ 969) وأبو داود رقم (3218) والنسائي (4/ 88 رقم 2031) وأحمد (1/ 89) والترمذي في السنن رقم (1049). وهو حديث صحيح.

قال السائل عافاه الله: السؤال الثاني: عن الراجح لديكم في مسألة خلق الأفعال حسنها وقبيحها وخيرها وشرها هل يكون ذلك لله تعالى اختراعا وإبداعا وقوعا وإيقاعا لعموم الآيات في ذلك وشمول الأحاديث فيما هنالك، خصوصا ما في صحيح مسلم (¬1) من ذلك مما يطول سرده بل في جواب سؤال جبريل أعظم دليل، وفي صحيح البخاري (¬2) في تفسير سورة والليل إذا يغشى [25] عن علي رضي الله عنه حديث: قد أحطتم به علما أم يكون ذلك الفعل من العبد خلقا وحقيقة لا كسبا وصورة لإضافته إليه في كثير من الآيات، وبجواز تخصيص تلك العمومات بغير القبيح السيئ، مع أن دلالة العموم ظنية وإن كانت كلية، ولقيام الحجة على المكلف باستقلاله وعدم بطلان المحجة في إلجائه وأعماله، وهاهنا نكتة تحصل يتقاصر عندها البهتة، وهى أن القائلين بالأول يقولون إن خلافه فيه إثبات شركاء لله يتصرفون بغير إذن الله وأن الإنكار والخلاف (¬3) إنما هو من جهة التحسين والتقبيح العقليين في الثواب والعقاب، ولا دخل له في هذا الباب. ثانيا المخصِّص من السنة والكتاب: والقائلين (¬4) بالثاني يقولون إن خلافه فيه الإجبار (¬5) وإبطال الشرائع وإلزام الحجة على الشارع، فإن يخلص الفريق الأول من هذا بالكسب وهو العزم المصمم كما قاله بعض أهل التحقيق، أو صرف العبد قدرته وإرادته إلى الفعل على قول بعضهم- وإن حكى ابن السبكي عن أبيه أن الناس غير مكلفين. بمعرفة الكسب لصعوبته- عارضهم الفريق الثاني وقالوا (¬6) هل الكسب خلق الله أم لا؟ ¬

(¬1) تقدم في الرسالة السابقة رقم (1) (ص. 13). (¬2) تقدم في الرسالة السابقة رقم (1) (ص 131). (¬3) انظر الكلام على ذلك في الرسالة السابقة رقم (1) (ص 130 - 137). (¬4) النصب عطفا على اسم إن السابق، أن القائلين. (¬5) تقدم في الرسالة السابقة رقم (1). (¬6) تقدم في الرسالة السابقة رقم (1).

إن قلتم لله فهو المذهب الأول، أو للعبد وافقتم قولنا، فليتفضل عين الزمان وإنسان الأعيان بالبيان. وقد ورد النهي عن الخوض في القدر والأمر بالإمساك عند ذلك لكن كان الأمر قبل ذلك عند المبتدي أنه واجب عليه كما أن علم الكلام مذموم، والشافعي (¬1) رحمه الله حذر منه جدا، ونقل ابن عبد البر أنه ليس من العلم، وأن أهله ليسوا من العلماء وكان الإنسان يرى أنه أولى الواجبات إلا من عصمه الله. نعم- دمتم في النعم- حديث افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة (¬2) الذي رواه أبو داود وسكت عليه [26] عن معاوية بن أبي سفيان، هل يدل على هذا الافتراق قديما وحديثا أم على زمان مخصوص؟ وقد ثبتت النجاة للصحابة رضي الله عنهم فهل يدل على أنهم لم يختلفوا في الأصول أصلا إن كان كذلك فليت شعري من وافقهم من الطائفتين أم كل منهم وافق بعضا فيكون اختلافهم حقا (¬3)، وهذا يرده ظاهر الحديث، وهنا مسألة مستطردة من الغصون المتعددة عن الراوي هنا الذي هو معاوية وحروبه مع علي رضي الله عنه وما جرى في تلك الوقائع ما يقولون في ذلك؟ وهل عدالة جميع الصحابة مسلمة وكذلك إذا خرج أحد أصحاب السنن عن شخص ورووا عنه كفعل البخاري عن مروان هل هو تعديل أم لا، وهل مسألة الجرح والتعديل يصح فيها التقليد لبعد الزمان أم تجب المعرفة على كل إنسان لكل إنسان، وإلا لم يجز الاحتجاج به، وهذا يثبت وجوب الاجتهاد على كل فرد من العباد، وبعضهم يقول هذا متعسر أو متعذر، ومنهم من يقول إنه واجب متيسر فما الراجح عندكم في هذا بخصوصه، وما دليله بمنصوصه جزاكم الله خيرا. ¬

(¬1) تقدم في الرسالة السابقة رقم (1). (¬2) تقدم تخريجه في الرسالة رقم (1) (ص 135 - 136). (¬3) انظر الرسالة السابقة رقم (1).

أقول هذا السؤال قد اشتمل على أبحاث: الأول: السؤال عن مسألة خلق الأفعال وما تشعب عنها من الشعب التي أشار السائل عافاه الله إلى بعض منها في سؤاله. واعلم أن هذه المسألة قد طالت ذيولها وتنوعت مسالكها وتباينت طرائقها وتفرق الناس فيها فرقا وتحزبوا بسببها أحزابا وتكلموا فيها فأنفق كل متكلم مما عنده وأخذ من الأدلة ما قوي له ورجَّح ما ترجح له، وجملة الأقوال فيها (¬1) أربعة عشر قولا منها لأهل السنة والأشعرية أربعة أقوال وللمعتزلة ثمانية أقوال، وللجبرية الخلص قولان. ولا حاجة بنا إلى ذكر هذه الأقوال وتقرير أدلتها والكلام عليها ودفع ما يستحق الدفع منها، فذلك كله معروف في كتب هذا الشأن، وقد أفرد هذه المسألة جماعة من المحققين بالتصنيف، وراقم الأحرف غفر الله له قد أفردها بمؤلف جمعه [27] في أيام شبابه عند الشغف بالنظر في كل مقال والوقوف على حقيقة كل ما ينسب إلى العلم ويدون في كتب أهله ولما كان سؤال السائل عافاه الله عن الراجع عند المجيب غفر الله في هذه المسألة فأقول: الراجح عندي فيها السكوت وإمرار الأدلة الواردة فيها الدالة عليها بمطابقة أو تضمن أو التزام كما وردت، وعدم التعرض لشيء من مباحثها ولا التكلف لشيء منها بالتأويل وإخراجه عن معناه الحقيقي. وهذا السكوت الذي رجحته وإن كان يعده بعض المتكلفين جهلا فأنا به راض، والجهل في كثير من المواطن خير من تكلف العلم بها والدخول في مضايق لم يتعبد الله بها أحدا من عباده. ومن لم يسعه ما وسع خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم في هذه المسألة ونظائرها فلا وسع الله عليه. على أني لم أرجح هذا الترجيح وأقف في هذا الموقف إلا بعد أن قطعت في هذه المسألة وما شابهها من مسائل هذا العلم شطرا من عمري وأضعت فيه بعض أوقاتي، وأفردت ¬

(¬1) انظر الرسالة السابقة رقم (1). وانظر: الأصول الخمسة (ص 326)، التبصير في الدين (ص 79)، المغني في أبواب العدل والتوحيد (6/ 43).

أمهات مسائله بالتأليف ورجحت في كل مسألة منها قولا من الأقوال ونصرت مذهبا من المذاهب بحسب ما بلغت إليه القدرة ودلت عليه الأدلة التي غلب الظن بأنها أرجح من الأدلة المقابلة لها. ثم لم أبعد من طريقة الإنصاف في شيء منها ولا خرجت عما يوجبه الحق الذي كنت أعتقده حقا بعد أن جردت نفسي عن التعصب لمذهب من المذاهب أو قول من الأقوال أو عالم من العلماء، ثم لما فرغت من تحرير هذه المسائل وتقريرها واستوفيت في كل بحث من المباحث ما كنت أظن أنه قد فاق على كثير من التصانيف المتقدمة قرعت الباب الذي كان يدخل منه خير القرون ثم الذين يلونهم [28] ثم الذين يلونهم بعد أن ألقيت عن كاهلي حملا ثقيلا وأراحني الله من عناء طويل، وقال وقيل، وهذيان ليس له تحصل ففتح الله لي ذلك الباب الذي لازمت قرعه ودخلت منه إلى بيت فيه برد اليقين وطمأنينة الحق فطاحت تلك الدقائق التي كنت فيها وذهبت عني إلى حيث يعوي الذئب. وما أحسن ما قاله القائل: وكيف ترى ليلى بعين ترى بها ... سواها وما طهرتَها بالمدامع وتلتذ منها بالحديث وقد جرى ... حديث سواها خروة للمسامع ولله در الشاعر الآخر حيث يقول: ألا إن وادي الجزع أضحى ترابه ... من المس كافورا وأعواده رندا وما ذاك إلا أن هندا عشية ... تمشت وجرَّت في جوانبه بُردا البحث الثاني من مباحث السؤال الثاني: قوله عافاه الله: نعم -ودمتم في النعم- حديث افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة إلخ، والجواب عنه أن حديث معاوية هذا الذي سأل عنه السائل وقال إنه أخرجه أبو داود (¬1)، هو أخرجه في سننه في كتاب السنة منه، وإسناده هكذا: حدثنا أحمد بن ¬

(¬1) في السنن رقم (4597) وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده وقد تقدم (ص 135 - 136).

حنبل، ومحمد بن يحيى بن فارس قالا: حدثنا أبو المغيرة: حدثنا صفوان [ح] وحدثنا عمرو بن عثمان: حدثنا بقية: حدثني صفوان: حدثني أزهر بن عبد الله الحرازي قال أحمد: عن أبي عامر الهوزني عن معاوية بن أبي سفيان أنه قام فينا فقال: ألا إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام فينا فقال: " ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة "، زاد ابن يحيى وعمرو في حديثيهما وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب لصاحبه، وقال عمرو: الكلب بصاحبه لا يبقى من عرق ولا مفصل إلا دخله. انتهى. فهذا الحديث قد رواه أبو داود (¬1) من طريقتين إحداهما من طريق أحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى عن أبي المغيرة عن صفوان، والثانية من طريق عمرو بن عثمان عن بقية [29] عن صفوان، ثم تفرد به صفوان عن أزهر عن الهوزني. فأما أحمد بن حنبل فهو الإمام الجليل الحافظ الذي اتفق الموالف والمخالف على توثيقه، وروى عنه أهل الصحيحين وغيرهما وهو أجل قدرا من أن يحتاج إلي تعديل وأرفع محلا من أن يتكلم فيه متكلم بل هو إمام الجرح والتعديل وإمام الحفظ والإتقان، وأما محمد بن يحيى بن فارس فهو الذهلي (¬2) الإمام الجليل الثقة الثبت الحافظ وأما أبو المغيرة فهو عبد القدوس (¬3) بن الحجاج الخولاني أبو المغيرة الحمصي الثقة المشهور أخرج حديثه الشيخان وسائر أهل الأمهات، وأما عمرو بن عثمان فهو القرشي مولاهم الحمصي فقد وثقه ابن حبان وقال في التقريب (¬4) صدوق، وأما بقية فهو ابن الوليد الكلاعي أبو محمد ¬

(¬1) في السنن رقم (4597). (¬2) انظر: تهذيب التهذيب (3/ 728). (¬3) انظر: تهذيب التهذيب (2/ 600). (¬4) رقم (5073) وقال: صدوق من العاشرة، مات سنة خمسين ومئتين.

الحمصي أحد الأعلام قال النسائي (¬1): " إذا قال حدثنا وأخبرنا فهو ثقة " وقال ابن عدي (¬2) إذا حدث عن أهل الشام فهو ثبت وقال الجوزجاني (¬3): إذا حدث عن الثقات فلا بأس به، قلت هو هاهنا قد صرح بالتحديث فقال حدثني صفوان وحدث عن شامي وهو صفوان، وروى عن ثقة وهو أيضًا صفوان فحصل الشرط الذي ذكره هؤلاء الأئمة الثلاثة أعني النسائي وابن عدي والجوزجاني، وقد أخرج له مسلم (¬4) فرد حديث وقال في التقريب (¬5): صدوق كثير التدليس عن الضعفاء. قلت قد صرح بالتحديث فذهبت مظنة التدليس. وعلى كل حال فهو لم يتفرد بل تابعه أبو المغيرة وهو ثقة كما تقدم، وأما صفوان فهو ابن عمرو السكسكي (¬6) الحمصي. قال عمرو بن علي: ثبت وقال أبو حاتم: ثقة وقد أخرج له مسلم (¬7) فرد حديث. وقال في التقريب (¬8): ثقة، وأما أزهر بن عبد الله الحرازي فكذا وقع في سنن أبي داود (¬9) وجزم البخاري (¬10) بأنه ابن سعيد وهو الحرازي الحميري الحمصي قال في التقريب (¬11) صدوق تكلموا فيه للنصب وقال في الخلاصة (¬12) صدوق انتهى. ¬

(¬1) كما في تهذيب التهذيب (1/ 240). (¬2) كما في تهذيب التهذيب (1/ 240). (¬3) كما في تهذيب التهذيب (1/ 240). (¬4) في صحيحه رقم (101/ 1429) باب رقم (16) الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة. (¬5) رقم (108). (¬6) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب (2/ 213). (¬7) في صحيحه رقم (44/ 1753) باب رقم (13) "استحقاق القاتل سلب القتيل ". (¬8) رقم (109). (¬9) (5/ 5 رقم 4597). (¬10) انظر التاريخ الكبير (1/ 1\ 456). (¬11) رقم (349). (¬12) ص (25).

وقد روى عنه مع أبي داود الترمذي والنسائي وليس ممن يحتج به لا سيما في مثل هذا الأمر العظيم. وهذه الصيغة أعنى قولهم إنه صدوق هي من صيغ التليين كما أشار إليه أهل علم اصطلاح الحديث، وأما أبو عامر الهوزني فهو عبد لله بن لُحَي- بضم اللام وفتح المهملة- الحمري الهوزني بفتح الهاء والزاي بينهما واو: أبو عامر الحمصي وثقه العجلي (¬1) وقال في التقريب (¬2) ثقة مخضرم. إذا عرفت هذا فرجال إسناد الحديث كلهم ثقات إلا بقية بن الوليد وأزهر بن عبد الله الحرازي، فأما بقية فلم يتفرد كما عرفت، وأما أزهر فقد [30] تفرد كما عرفت، وهو ضعيف فيكون هذا الحديث ضعيفا، ولكن قد ورد هذا الحديث بدون الزيادة أعني قوله ثنتان وسبعون في النار ... إلخ، من حديث أبي هريرة عند أبي داود (¬3) قال: حدثنا وهب بن بقية عن خالد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة " وقد أخرج هذا الحديث (¬4) الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حسن صحيح. انتهى. ووهب بن بقية المذكور في الإسناد شيخ أبي داود هو الواسطي، أخرج حديثه مسلم ووثقه أبو زرعة وقال في التقريب (¬5) ثقة، وأما خالد فهو ابن عبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد المزني مولاهم أبو الهيثم أو أبو محمد الواسطي الطحان. قال أحمد كان ثقة. قلت: وقد اتفق على إخراج حديثه الشيخان وغيرهما من أهل الأمهات. وقال في التقريب (¬6) ¬

(¬1) في معرفة الثقات (1/ 215 رقم 56) وقال: شامي ثقة تابعي. (¬2) رقم (573). (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) رقم (106). (¬6) رقم (46).

ثقة ثبت، وأما (محمد بن عمرو (¬1) فلعله جلجلة)، وقد وثقه أبو حاتم (¬2) وأخرج حديثه الشيخان وغيرهما من أهل الأمهات، وأما أبو سلمة فهو عبد الله (¬3) بن عبد الرحمن بن عوف الزهري ثقة إمام، أخرج حديثه الشيخان وغيرهما من أهل الأمهات، فتقرر بهذا أن رجال حديث أبي هريرة رجال الصحيح، فيكون أصل الحديث أعني افتراق الأمة إلى تلك الفرق صحيحا ثابتا. وأما الزيادة التي في الحديث الأول فضعيفة كما تقدم تقريره فلا يقوم بها حجة في حكم شرعي ولو على بعض المكلفين فكيف في مثل هذا الأمر العظيم الذي هو حكم بالهلاك على هذه الأمة المرحومة التي شرفها الله واختصها بخصائص لم يشاركها فيها أمة من الأمم السابقة وزادها شرفا وتعظيما وتحليلا بأن جعلها شهداء على الناس، وأي خير في أمة تفترق إلى ثلاث وسبعين في قرة وتهلك جميعها فلا ينجو منها [31] إلا فرقة واحدة! ولقد أحسن بعض الحفاظ حيث يقول: " وأما زيادة: كلها هالكة إلا واحدة فزيادة غير صحيحة القاعدة، وأظنها من دسيس بعض الملاحدة وكذلك أنكر ثبوتها الحافظ ابن حزم (¬4)، ولقد جاد ظن من ظن أنها من دسيس أهل الإلحاد والزندقة فإن فيها من التنفير عن الإسلام والتخويف من الدخول فيه ما لا يقادر قدره، فيحصل لواضعها ما يطلبه من الطعن على هذه الأمة المرحومة، والتنفير عنها كما هو شأن كثير من المخذولين الواضعين للمطاعن المنافية للشريعة السمحة السهلة كما قال الصادق المصدوق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بعثت ¬

(¬1) محمد بن عمرو بن حلحلة. كذا في التقريب رقم (588) وفي تهذيب التهذيب (3/ 661) محمد بن عمرو بن حلحلة الديلي المدني. (¬2) ذكره الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب (3/ 661). (¬3) انظر ترجمته في رجال صحيح البخاري (1/ 413 رقم 594) والتقريب (2/ 430) والخلاصة (ص 204). (¬4) في " الفصل في الملل والأهواء والنحل " (3/ 291).

بالحنيفية السمحة السهلة" (¬1)، وقال الله عز وجل: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (¬2) وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا " (¬3) وها أنا سأضرب لك مثلا وهو أنك لو رأيت جماعة من الناس قد جمعوا في مكان من الأرض عددهم اثنان وسبعون رجلا وقال لك قائل ادخل مع هؤلاء فإن واحدا منهم سيملك ما طلعت عليه الشمس وستضرب أعناق الباقين أجمعين وربما تفوز أنت من بينهم بالسلامة فتعطى تلك المملكة فهل ترضى أن تكون واحدا منهم داخلا بينهم والحال هكذا؟ أو لا تدري من هذا الواحد الذي سيفوز بالسلامة ولا سيما إذا رأيت كل واحد منهم يدعي لنفسه أنه الفائز بالسلامة والظافر بالغنيمة لمجرد الأمنية والدعوى العاطلة عن البرهان [32]. فإن قلت: إن قوله في هذا الحديث في الفرقة الناجية وهى "الجماعة" وقوله في ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (7/ 209) من حديث جابر مرفوعا بلفظ " بعثت بالحنيفية السمحة أو السهلة ومن خالف سنتي فليس مني " الشطر الأول منه حسن لغيره أما الشطر الثاني فهو صحيح من طرق أخرى. أما شواهد الشطر الأول من حديث أبي قلابة الجرمي مرسلا بلفظ: " يا عثمان إن الله لم يبعثني بالرهبانية. مرتين أو ثلاثة، وأن أحب الدين عند الله الحنيفية السمحة " أخرجه ابن سعد في الطبقات (3/ 395). وله شاهد آخر من رواية عبد العزيز بن مروان بن الحكم مرسلا أخرجه أحمد في الزهد (ص 289، 310) بسند صحيح. انظر: تمام المنة (ص 44 - 45) وغاية المرام (ص20 - 21) والصحيحة رقم (881). وخلاصة القول أن الشطر الأول حسن بشواهده. ومن شواهد الشطر الثاني: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5063) من حديث أنس بن مالك مطول، وفيه: " فمن رغب عن سنتي فليس مني ". (¬2) [الحج 78]. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (6/ 1732) من حديث أبي موسى.

حديث آخر: " وهي من أنا عليه اليوم وأصحابي ". قلت: هذا التعيين وإن قلل شيئا من ذلك التخويف والتنفير لكن قد تعاورت هذه الفرقة المعينة الدعاوي وتناوبتها الأماني، فكل طائفة من الطوائف تدعي لنفسها أنها الجماعة وأنها الظافرة بما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، وأنهم الذين لا يزالون على الحق ظاهرين. فإن قلت إن معرفة الجماعة ومعرفة المتصفين بموافقة ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه ممكنة، ومن ادعى من المبتدعة إثبات ذلك الوصف لنفسه فدعواه مردودة عليه مضروب بها في وجهه. قلت: نعم، ولكن ليس ههنا حجة شرعية توجب علينا المصير إلى هذا التعيين وتلجئنا إلى تكلف تعين الفرق الهالكة وتعدادها فرقة فرقة كما فعله كثير من المتكلفين للكلام على هذا الحديث. وأما ما ذكره السائل- كثَّر الله فوائده- من قوله هل يدل على هذا الافتراق قديما وحديثا أم على زمان مخصوص فالجواب عنه أن الافتراق لما كان منسوبا إلى الأمة، وحيث قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتفترق أمتي على ثلاث وسبعن فرقة كما في حديث أبي هريرة المذكور، وكذلك قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث معاوية المذكور وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين - كان ذلك صادقا على هذه الأمة بأسرها وعلى هذه الملة أولها وآخرها من دون تخصيص لبعض منها دون بعض ولا لعصر دون عصر، فأفاد ذلك أن هذا الافتراق المنتهي إلى ثلاث وسبعن فرقة كائن في جميع هذه الأمة من أولها إلى آخرها، ومن زعم اختصاص ذلك [33] بأهل عصر من العصور أو بطائفة من الطوائف فقد خالف الظاهر بلا سبب يقتضى ذلك. وأما ما ذكره السائل عافاه الله من أنها قد ثبتت نجاة الصحابة، فهل يدل على أنهم لم يختلفوا في الأصول أصلا ... إلخ؟ فالجواب أن السائل إن كان يريد بيان ما عند المسئول غفر الله له فالذي عنده أنه لا ملازمة بين نجاة جميع الصحابة رضي الله عنهم وبين عدم اختلافهم في الأصول بل يجوز الحكم

بنجاتهم جميعا مع الحكم باختلافهم في الأصول، وبيان ذلك أن الأحكام الشرعية عندي متساوية الأقدام منتسبة إلى الشرع نسبة واحدة، وكون بعضها راجعا إلى الاعتقاد وبعضها راجعا إلى العمل لا يستلزم تفاوتها على وجه يكون الاختلاف في بعضها موجبا لعدم نجاة بعض المختلفين، وفي بعضها لا يوجب ذلك، فاعرف هذا وافهمه. واعلم أن ما صح عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أن المصيب في اجتهاده له أجران وللمخطئ أجر لا يختص بمسائل العمل ولا يخرج عن مسائل الاعتقاد. فما يقوله كثير من الناس من الفرق بين المسائل الأصولية والفروعية، وتصويب المجتهدين في الفروع دون الأصول ليس على ما ينبغي بل الشريعة واحدة وأحكامها متحدة وإن تفاوتت باعتبار قطعية بعضها وظنية الآخر، فالحق عند الله عز وجل واحد متعين يستحق موافقة أجرين ويقال له مصيب [34]، من الصواب ومن الإصابة، ويقال لمخالفه إنه مخطئ كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما ثبت عنه في الصحيحين (¬1) وغيرهما (¬2) من حديث عمرو بن العاص إن اجتهد فأصلب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر. وفي بعض الروايات الخارجة عن الصحيح من غير حديثه أنه إن أصاب فله عشرة (¬3) ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7352) ومسلم رقم (1716). (¬2) كأحمد (4/ 198، 204) والدارقطني (4/ 211) والبيهقي (10/ 118 - 119). (¬3) أخرجه الدارقطني في السنن (4/ 203 رقم 4) بإسناد ضعيف. عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا قضى القاضي فاجتهد فأصاب كانت له عشرة أجور ... ". وأخرج الحاكم (4/ 88) عن عبد الله بن عمرو أن رجلين اختصما إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لعمرو: " اقض بينهما فقال: أقضي بينهما وأنت حاضر يا رسول الله؟! قال: نعم على أنك إن أصبت فلك عشر أجور ... "، قال الحاكم: صحيح الإسناد، ورده الذهبي بقوله: " فرج ضعفوه ". قلت: " وفي سنده اضطراب ... " وفي الباب من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر ". أخرجه البخاري رقم (7352) ومسلم رقم (1716) وأبو داود رقم (3574) وابن ماجه رقم (2314) والنسائي في " الكبرى " كما في " تحفة الأشراف " (8/ 158) والدارقطني (4/ 210 - 211، 212) والبيهقي (10/ 119) والبغوي رقم (2509) وابن عبد البر في " جامع بيان العلوم " رقم (1664) وأحمد (4/ 198، 204، 205).

أجور، وهذه زيادة خارج من مخرج حسن كما هو معروف، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد سمى من خالف الحق مخطئا فمن قال إنه مصيب في الظنيات الفروعيات إن أراد أنه مصيب من الإصابة فقد أخطأ وخالف النص، وإن أراد أنه مصيب من الصواب الذي يصح إطلاقه باعتبار استحقاق الأجر لا باعتبار إصابة الحق فلذلك وجه فاعرف هذا وافهمه حتى يتبين لك اختلاف الناس في أن كل مجتهد (¬1) مصيب أم لا، وسيأتي لهذا مزيد تحقيق إن شاء الله. واعلم أنه لا فرق عند التحقيق بين ما يسميه الناس فروعا وبين ما يسمونه أصولا. هذا إن كان مطلوب السائل عافاه الله ما هو عند المجيب وإن كان مطلوبه ما قاله الناس فكلامهم معروف في مؤلفاتهم. البحث الثالث من مباحث السؤال الثاني: قوله: " وههنا مسألة مستطردة من الغصون المتعددة عن الراوي ... إلخ. والجواب أن هذه المسألة الإمساك عن الكلام فيها أولى، وسد هذا الباب الذي لا ¬

(¬1) اعلم أن الخلاف في هذه المسألة تختص بالمسائل الشرعية لا العقلية فلا مدخل لها في هذا. والمسائل الشرعية تنقسم إلى قسمين: الأول منها: قطعيا معلوما بالضرورة أنه من الدين كوجوب الصلوات الخمس ... فليس كل مجتهد فيها مصيب بل الحق فيها واحد: فالموافق له مصيب والمخطئ غير معذور بل آثم. والثاني: المسائل الشرعية التي لا قاطع فيها، فالكلام فيها طويل فالذي يرفع النزاع حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة مرفوعا: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإن حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر ". انظر " إرشاد الفحول " ص 260 والسيل الجرار (1/ 19 - 21).

يستفاد من فتحه إلا ما لم يتعبد الله به عباده [35] أسلم، وكلام الطوائف في ذلك معروف وكل حزب بما لديهم فرحون، والحق بين المقصر والغالي، والصواب في التوسط بين جانبي الإفراط والتفريط، والحديث الثابت في الصحيح (¬1) أن عمارا تقتله الفئة الباغية قد دل أكمل دلالة على من بيده الحق ومن هو مقابله، وما ورد في قتال الخوارج (¬2) أنها تقتلهم أولى الطائفتين بالحق واضح الدلالة على المراد، وقد كان بايع عليا من بايع أبا بكر وعمر، وشذ عن بيعته من شذ بلا حجة شرعيه، وطلبوا أن يمكِّنهم من قتلة عثمان رضي الله عنه فقال إن الحكم فيهم إلى الإمام وهو إذ ذاك الإمام. وقد ثبت في الصحيح (¬3) أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للحسن: " إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين، وبالجملة فلا يأتي التطويل في مثل هذا بفائدة، وقد قدموا على ما قدَّموا، ولم يكلفنا الله بشيء من هذا بل أرشدنا إلى ما قصه علينا في كتابه العزيز بقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} (¬4) فرحم الله امرأ قال خيرا (¬5) أو صمت. البحث الرابع من مباحث السؤال الثاني: قوله: هل عدالة جميع الصحابة مسلمة؟ والجواب: أن لأهل العلم في هذه المسألة أقوالا: ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (447) ومسلم رقم (2916). (¬2) تقدم التعريف بها (ص 153). (¬3) أخرجه البخاري رقم (2704) وأطرافه (3629، 3746، 7109). (¬4) [الحشر (10)]. (¬5) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6018) ومسلم في صحيحه رقم (47) من حديث أبي هريرة قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ".

الأول: ذهب إليه الجمهور (¬1) أنهم كلهم عدول رضي الله عنهم وأرضاهم. الثاني: أنهم كغيرهم وبه قال الباقلاني. والثالث: أنهم عدول إلى حين ظهور (¬2) الفتن بينهم وهو قول عمرو بن عبيد (¬3). والرابع: أنهم عدول إلا من ظهر فسقه وهو قول المعتزله (¬4) وجماعة من الزيدية، والحق ما ذهب إليه الأولون لمخصصات بينهم يتعسر حصرها، منها أن الله سبحانه قد تولى تعديلهم بقوله: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} (¬5) وبقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} (¬6) أي عدولا، وبقوله تعالى: {لقد رضي الله عن} ¬

(¬1) انظر إرشاد الفحول (ص 69)، الاستيعاب (1/ 9)، المسودة (ص 249) وقال إمام الحرمين بالإجماع- ولعل السبب فيه أنهم نقلة الشريعة، ولو ثبت توقف في روايتهم لانحصرت الشريعة على عصر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولما استرسلت على سائر الأعصار. انظر: البحر المحيط (4/ 299). (¬2) " أما ما وقع بينهم من الحروب والفتن فتلك أمور مبنية على الاجتهاد وكل مجتهد مصيب أو المصيب واحد والمخطئ معذور بل ومأجور، وكما قال عمر بن عبد العزيز: تلك دماء طهر الله منها سيوفنا فلا نخضب بها ألسنتنا .. البحر المحيط (4/ 299). (¬3) هو عمرو بن عبيد بن باب التيمي بالولاء أبو عثمان البصري شيخ المعتزلة ولد سنة80 هـ، توفي سنة 144هـ كان جده من سبي كابل عاش في البصرة، وعاصر واصل بن عطاء وكان تربا له، فلما قام واصل بحركته انضم إليه وآزره. فأعجب واصل به وزوجه أخته وقال: زوجتك برجل ما يصلح إلا أن يكون خليفة. وقد أصبح- عمرو- شيخ المعتزلة بعد واصل. له رسائل وخطب وكتب منها: " التفسير"، "والرد على القدرية ". انظر: الأعلام للزركلي (5/ 81) ميزان الاعتدال (2/ 295 - 296). (¬4) سيأتي التعريف بها (ص 656). (¬5) [آل عمران:110]. (¬6) [البقرة: 143].

{المؤمنين} (¬1) ونحو ذلك، وكذلك تولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعديلهم بقوله: " خير القرون قرني ... الحديث " [36] وهو في الصحيح (¬2)، ومثل حديث: " لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " وهو في الصحيح (¬3) أيضًا وقوله: " أصحاب كالنجوم" (¬4) وقوله: " لا تمس النار رجلاً ¬

(¬1) [الفتح: 18]. (¬2) سيأتي تخريجه في الرسالة رقم (3) (ص 255). (¬3) سيأتي تخريجه في الرسالة رقم (19) (ص 839). (¬4) أما حديث: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " فقد ورد من حديث جابر، وأبي هريرة، وابن عباس، وعمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمر، ونبيط: فأما حديث جابر: فقد أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 91) وابن حزم في "الإحكام " (6/ 82) من طريق سلام بن سليم قال: حدثنا الحارث بن غضين عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر مرفوعًا به. وقال ابن عبد البر: هذا إسناد لا تقوم به حجة؛ لأن: الحارث بن غضين مجهول. وقال ابن حزم: هذه رواية ساقطة ... فيه سلام بن سليمان يروي الأحاديث الموضوعة، وهذا منها، وهذا منها بلا شك. وقال الألباني في " الضعيفة " (1/ 78 رقم 58) موضوع. وأما قول الشعراني في " الميزان الكبرى " (1/ 30): " وهذا الحديث وإن كان فيه مقال عند المحدثين فهو صحيح عند أهل الكشف " فباطل وهراء لا يلتفت إليه وانظر المسألة الثانية عشرة " صحة الأحاديث لا تثبت بالكشف والإلهام والأحلام " ص 101 - 102 من كتابنا " مدخل إرشاد الأمة إلى فقه الكتاب والسنة ". وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " مثل أصحابي مثل النجوم من اقتدى بشيء منها اهتدى " وهو حديث موضوع. أخرجه القضاعي في " المسند " (2/ 275 رقم 1346) والذهبي في الميزان (1/ 413) في ترجمة " جعفر بن عبد الواحد " وقال: هذا من بلاياه. وقال الألباني في الضعيفة (1/ 439) موضوع. وآفته جعفر هذا، قال عنه الدارقطني في الضعفاء رقم (144): يضع الحديث. وقال أبو زرعة: روى أحاديث لا أصل لها كما في لسان الميزان (2/ 117). وقال ابن عدي في الكامل (2/ 576): منكر الحديث عن الثقات، ويسرق الحديث. وأما حديث ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به، لا عذر لأحدكم في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله، فسنة مني ماضية، فإن لم يكن سنة مني ماضية، فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيهما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحاب لكم رحمة ". وهو حديث موضوع. أخرجه الخطيب في " الكفاية في علم الرواية " ص 48. من طريق سليمان بن أبي كريمة- عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا. قلت: إسناد ضعيف جدا: سليمان بن أبي كريمة، قال ابن أبي حاتم (4/ 138) عن أبيه: " ضعيف الحديث " وجويبر هو ابن سعيد الأزدي متروك كما قال الدارقطني في الضعفاء رقم (148)، والنسائي أيضًا في الضعفاء رقم (106) وقال الذهبي في الكاشف (1/ 132 رقم 835): تركوه وقال ابن حجر في التقريب (1/ 136رقم 131) ضعيف جدا، وقال السخاوي في المقاصد ص 69 وجويبر ضعيف جدا، والضحاك عن ابن عباس منقطع. ومن طريق جويبر هذا روى الديلمي في مسند الفردوس الجملة الأخيرة، كما في الموضوعات الكبرى للقاري ص 52 رقم 161، وكشف الخفاء للعجلوني (1/ 68). وأما حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " سألت ربي فيما اختلف فيه أصحابي من بعدي، فأوحى الله إلي يا محمد إن أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السماء، بعضها أضوأ من بعض فمن أخذ بشيء مما هم عليه من اختلافهم فهو عندي على هدى" وهو حديث موضوع. أخرجه الخطيب في الكفاية ص 48، وفي الفقيه والمتفقه (1/ 177) وابن الجوزي في العلل (1/ 283)، وابن عدي في الكامل (3/ 1057) كلهم من طريق نعيم بن حماد، حدثنا عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب مرفوعا. قال ابن الجوزي: وهذا- أي الحديث- لا يصح، نعيم مجروح- قلت: بل هو صدوق يخطئ كثيرا، فقيه عارف بالفرائض. كما في التقريب (2/ 305) - وعبد الرحيم قال يحيى بن معين: كذاب- قلت: وقال البخاري: تركوه، وقال الجوزجاني: غير ثقة، وقال أبو حاتم: ترك حديثه، وقال أبو زرعة: واه، وقال أبو داود: ضعيف- كما في الميزان (2/ 605). وقال الألباني في الضعيفة (1/ 80 - 81 رقم60). موضوع. وأما حديث ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إنما أصحابي مثل النجوم فأيهم أخذتم بقوله اهتديتم*. وهو حديث موضوع. أخرجه ابن عدي في الكامل (2/ 785) في ترجمة (حمزة بن أبي حمزة الجزري)، وقال فيه: كل ما يرويه أو عامته مناكير موضوعة، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك، وساق له الذهبي في الميزان (1/ 607) أحاديث من موضوعاته، وهذا منها. وقال ابن حبان في المجروحين (1/ 270): ينفرد عن الثقات بالموضوعات حتى كأنه المتعمد لها، ولا تحل الرواية عنه، وقال الألباني في الضعيفة (1/ 82 رقم 61): موضوع. وأما حديث نبيط رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أهل بيتي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " وهو حديث موضوع. قال الألباني في الضعيفة (1/ 84 رقم 62): " موضوع. وهو في نسخة أحمد بن نبيط الكذاب ". وقال الذهبي في الميزان (1/ 82) عن هذه النسخة. فيها بلايا ... وأحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن نبيط بن شريط لا يحل الاحتجاج به فإنه كذاب وأورد الحديث ابن عرَّاق في تنزيه الشريعة (1/ 419 رقم 33) والشوكاني في الفوائد المجموعة ص 397 رقم 133.

رآني " (¬1) على ما فيهما من المقال. والأحاديث الواردة في هذا المعنى كثيرة. وورد في البعض منهم خصائص تخصه كما ورد في أهل بدر: " إن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا مما شئتم فقد غفرت لكم " (¬2) على أن المطلوب من الحكم بعدالة الجميع هنا ليس هو إلا قبول الرواية من غير بحث عن حال الصحابي، ومرجع القبول ¬

(¬1) أخرجه الترمذي رقم (3858) وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث موسى بن إبراهيم الأنصاري. وروى علي بن المديني وغير واحد من أهل الحديث عن موسى هذا الحديث. وهو حديث ضعيف. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3007) ومسلم في صحيحه رقم (2494) من حديث عبيد الله بن أبي رافع.

على ما هو الحق عندي هو صدق اللهجة والتجوز عن الكذب ولم يتفش في خير القرون الكذب، بل ولا في القرن الذي يليهم ولا في الذي يليه كما في حديث: " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يغشوا الكذب" (¬1)، وبالجملة فالقول بعدالة الجميع أقل ما يستحقونه من المزايا التي وردت بها الأدلة الصحيحة. ويقال في جواب القول الثاني بأن جعلهم كغيرهم إهمال لمزاياهم وإهدار لخصائصهم وطرح لكثير من الآيات والأحاديث الصحيحة ويقال في جواب القول الثالث بأن تقييد ثبوت العدالة إلى وقت ظهور الفتن لا يتم إلا بعد تسليم أنهم دخلوا فيها- صانهم الله- جرأة لا على بصيرة ولا تأويل، وذلك مما لا ينبغي إطلاقه على آحاد المسلمين مع الاحتمال فكيف بالواحد من الصحابة بل كيف بجميعهم. ثم ليت شعري ما يقول صاحب هذا القول أعني عمرو بن عبيد في البدريين الداخلين في تلك الحروب، فإن الله قد غفر لهم ما قارفوه من الذنوب، ولعله لا يجد عن هنا جوابا، وهو مع زهده من رءوس البدع ومن المتهمين في الدين ومما يحقق تصميمه على هذه المقالة في الصحابة أنه كان يقول: لو شهد عندي علي وطلحة والزبير على باقة بقل ما قبلت شهادتهم، فانظر هذه الجرأة العظيمة من هذا المبتدع الجاهل للشرع وأهله. ويقال لأهل القول الرابع: إن ما ذكرتم من ظهور الفسق لا نسلم وجوده على الحقيقة، وأما بحسب الأهواء والدعاوي الفارغة والقيام في مراكز المذاهب فذلك لا يضرنا ولا ينفعكم، وأيضا إن ذلك الموجب للفسق إن كان لا يعود إلى ما يتعلق بالرواية والحفظ فلا اعتداد به لما قدمنا لك من أنه الاعتبار بصدق اللهجة وحفظ المروي وعدم الدخول في بدعة من البدع [37] توجب التهمة لذلك الراوي بالدعاء إلى مذهبه، وجميع الصحابة رضي الله عنهم منزهون عن جميع ذلك لا يخالف في هذا إلا من قد غلت في صدره مراجل الرفض. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2652) ومسلم في صحيحه رقم (2533) والترمذي رقم (3859) وقال: حديث حسن صحيح.

البحث الخامس من مباحث السؤال الثاني: قوله: وكذلك إذا أخرج أصحاب السنن عن شخص ورووا عنه كفعل البخاري (¬1) عن مروان هو تعديل أم لا؟ والجواب أنه إذا كان لذلك الراوي شرط معروف فيمن يروي عنه وكان من أهل التحري والإتقان والخبرة الكاملة في الفن، وصرح بأنه لا يروي إلا عمن حصل فيه ذلك الشرط كان الظاهر وجود الشرط المذكور في جميع رواته، فإن كان المجتهد يرى أن ما جعله ذلك الراوي شرطا تحصل به مفهوم العدالة عند، وفي اجتهاده فلا بأس بذلك، وإن لم يكن للراوي شرط معروف، أو كان ولكن لا يراه المجتهد المطلع على ذلك محصلا لمفهوم العدالة فلا يكون ذلك تعديلا، فلا بد من هذا التفصيل وتقييد أقوال المختلقين في هذه المسألة به فاعرفه. البحث السادس من مباحث السؤال الثاني: قوله: وهل مسألة الجرح والتعديل يصح فيها التقليد ... إلخ؟ أقول: ينبغي أن يعلم السائل عافاه الله أن التقليد (¬2) هو قبول رأي الغير دون روايته من دون مطالبة بالحجة، وتعديل المعدل للراوي ليس من الرأي في ورد ولا صدر بل هو ¬

(¬1) تقدم في رسالة" أسئلة وأجوبة عن قضايا الشرك والتوحيد " رقم (1). (¬2) التقليد لغة: جعل القلادة في العنق، ومنه تقليد الهدي في الحج، أي جعل القلادة في عنق ما يهدي إلى الحرم من النعم. وفي اصطلاح الأصوليين: هو أن قول الغير من غير معرفة دليله. انظر: نزهة الخاطر العاطر (2/ 449 - 450). قال الشوكاني في " القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد- سيأتي تحقيقها ضمن الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني في قسم الفقه وأصوله-: " إن التقليد لم يحدث إلا بعد انقراض خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وأن حدوث التمذهب بمذاهب الأئمة الأربعة إنما كان بعد انقراض الأئمة الأربعة، وأنهم كانوا على نمط من تقدمهم من السلف في هجر التقليد وعدم الاعتداد به وأن هذه المذاهب إنما أحدثها عوام المقلدة لأنفسهم من دون أن يأذن بها إمام من الأئمة المجتهدين ".

من الرواية لحال من يعد له أو يجرحه؛ لأنه ينقل إلينا ما كان معلوما لديه من حال الراوي، وهذا بلا شك من الرواية لا من الرأي فلا مدخل لهذه المسألة في التقليد، وقد أوردها بعض المتأخرين بقصد التشكيك على المدعين للاجتهاد زاعما أنهم لم يخرجوا عن التقليد من هذه الحيثية، وأنت خبير بأن هذا تشكيك باطل نشأ من عدم الفرق بين الرواية والرأي، ومن هاهنا يعرف السائل عافاه الله بأن الاجتهاد متيسر لا متعذر ولا متعسر، والهداية بيد الله عز وجل وقد أوسمت هذه المسألة في مؤلفاتي بمباحث مطولة لا يتسع المقام لبسطها، وأطال وأطاب الكلام في شأنها الإمام محمد بن إبراهيم الوزير، رحمه الله، في كتابه العواصم من القواصم (¬1) في الذب عن سنة أبي القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فليرجع إليه فإنه كتاب يكتب بماء الأحداق في صفحات الخدود والرقاق، وقد أوضحت ما يحتاج إليه المجتهد من العلوم في الكتاب الذي سميته (أدب الطلب ومنتهى الأرب) (¬2) بحسب ما ظهر لي وقوي لدي، والله أعلم [38]. قال كثر الله فوائده: السؤال الثالث: فيما يتعلق بالفروع من الاختلاف المتباين الأطراف هل الشريعة الحكيمة قابلة لهذا التناقض وأنها كالبحر يغترف كل من جهته من الماء الفائض أم لا تقبل إلا قولا واحدا وليس لورادها إلا مورد ولا لروادها إلا رائد، لحديث" إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر" (¬3). فمن أين لنا العلم بالمصيب وما علامته على التقريب، فإن أكثر الخلافيات معتضدة بالدليل من المخالف، وإذا ثبت عذر المخطئ فهل يعذر مقلده أم لا؟ وهل حصل بين الصحابة رضي الله عنهم في الأحكام خلاف متناقض في غير الاجتهادات؟ وهل رجع أحدهم إذا علم بالدليل؟ وإذا رجع هل يكون مقلدا أو مقتديا ¬

(¬1) (2/ 8 - وما بعدها). (¬2) (19 - 181) بتحقيقي. (¬3) تقدم تخريجه في الرسالة السابقة رقم (1) (ص 138).

وما حكم ما سلف من الأحكام قبل العلم بالدليل. وفي رجوع الصحابة إلى كتاب عمرو ابن حزم (¬1) في دية الأصابع وترك ما قضى به عمر رضي الله عنه بارقة من ذلك. وهنا خطر في البال سؤال لاح في الخيال، هل يجوز العمل بالخطوط مطلقا أم لا، سانحة متمنة لا لميسرة ولا ميمنة فيما ورد في الحديث: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ... إلخ " (¬2) هل المراد سنتهم في اتباع هديه وسنته، أم المراد فيما سنوه فيما لم يكن فيه نص؟ فكيف إذا تعارضت عند الناظر كحديث كان الطلاق على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلخ، ما المعتمد في ذلك وما عذر عمر رضي الله عنه فيما هنالك، جزاكم الله خيرا والسلام عليكم ورحمة الله، انتهى. أقول هذا السؤال قد اشتمل على أبحاث: الأول: سؤاله هل المصيب في الفروع واحد أم كل مجتهد مصيب. والجواب: إنه قد اختلف الناس في ذلك، فالجمهور قالوا بوحدة الحق وتخطئة من خالفه، وأن الله سبحانه لم يشرع لعباده في كل مسألة من مسائل الشرع إلا شيئا واحدا، فمن وافقه فهو المصيب، ومن خالفه فهو المخطئ، وقال الأشعري (¬3) والباقلاني وابن سريج وأبو يوسف ومحمد إن كل مجتهد مصيب (¬4). واختلف هؤلاء فقال ابن سريج وأبو يوسف ومحمد إنه مصيب مع الأشبه، وهو ما لو حكم الله لم يحكم إلا به فمخطئه مصيب مخالف للأشبه، وربما قال بعضهم: إنه يخطئ في الانتهاء لا في الابتداء. وقال الأشعري والباقلاني: بل كل مجتهد مصيب مع عدمه إلى عدم الأشبه فجعلوا حكم الله تابعا لنظر المجتهد، فكل ما اجتهد فيه فهو حكم الله في ¬

(¬1) تقدم تخريجه في الرسالة السابقة رقم (1) (ص 139). (¬2) تقدم تخريجه (ص 140). (¬3) انظر هذه الأقوال في مجموع فتاوى (19/ 204) لابن تيمية، الرسالة (ص 489)، جمع الجوامع (2/ 389). (¬4) انظر " مسألة تصويب المجتهد " أقوال العلماء وأدلتهم بتوسع " المسودة " (ص 497، 501) تيسير التحرير (4/ 202) التبصرة (ص 496) وما بعدها.

حقه. واختلف أيضًا أهل القول الأول أعني القائلين [39] بوحدة الحق، فقال أكثرهم: إنه مخطئ معذور، وقال الأقلون: إنه مخطئ آثم، وحجج هذه الأقوال عقليها ونقليها مدونة في مطولات الأصول. والحق الذي لا شبهة فيه أن المصيب من المجتهدين من وافق مراد الله عز وجل في ذلك الأمر المختلف فيه، وأن من خالفه فهو مخطئ، كما قاله الجمهور والأدلة على ذلك في الكتاب والسنة كثيرة جدا، فمنها قوله تعالى: {ففهمناها سليمان} فلو كان كل واحد منهما أعنى سليمان وداود مصيبا لم يكن لتخصيص سليمان معنى. ومنها الحديث الصحيح الذي أخرجه الشيخان (¬1) وغيرهما عن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر" وأخرجه أيضًا الشيخان (¬2) وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعا. وفي الباب عن عقبة بن عامر كما أشار إليه الترمذي (¬3) وهو بلفظ أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له في قضاء أمره به:" اجتهد فإن أصبت فلك عشر حسنات، وإن أخطأت فلك حسنة"، وأخرجه أحمد في المسند، ورواه الحاكم في مستدركه بلفظ:" إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله عشرة أجور" (¬4) ثم قال هذا حديث صحيح الإسناد. فانظر ما اشتملت عليه هذه الأحاديث الصحيحة من الحجة النيرة الدافعة لقول من قال: إن كل مجتهد مصيب دفعا لا يبقى بعده ريب لمرتاب، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمى من خالف الحق مخطئا فقال: " وإن اجتهد فأخطأ فله أجر " وهؤلاء القائلون بأن كل مجتهد مصيب قالوا: إنه لا يكون المجتهد مخطئا، بل هو مصيب في كل ما يقتضيه اجتهاده. ولما كانت هذه المقالة ظاهرة البطلان خالية عن البرهان قال بعض أهل العلم في تأويلها: إن لفظ مصيب قد يراد به الإصابة للشيء، وقد يراد به كون القول صوابا في نفسه أي لثبوت [40] الأجر لفاعله، وإن كان مخطئا في الواقع، فالمصيب من الإصابة ¬

(¬1) تقدم تخريجه في الرسالة رقم (1) (ص 138) وفي الرسالة رقم (2) (210 - 211). (¬2) تقدم تخريجه في الرسالة رقم (1) (ص 138) وفي الرسالة رقم (2) (210 - 211). (¬3) تقدم تخريجه في الرسالة رقم (1) (ص 138) وفي الرسالة رقم (2) (210 - 211). (¬4) تقدم تخريجه في الرسالة رقم (1) (ص 138) وفي الرسالة رقم (2) (210 - 211).

ينافي الخطأ على كل حال، والمصيب من الصواب لا ينافي الخطأ الذي ثبت عليه الأجر كخطأ المجتهد. ولا يخفاك أن هذا الكلام وإن كان صحيحا في نفسه لكن لا يصلح لتأويل قول من قال بأن كل مجتهد مصيب، فإن كلامهم لا يحتمل هذا التأويل لتصريحهم بأنه مصيب للحق. ولا ريب أن هذا هو معنى الإصابة لا سيما عند من قال منهم: إن حكم الله تابع لنظر المجتهد، ولقد أحسن من قال إنهم شابهوا هذه المقالة الفرقة التي يقال لها العندية من فرق السوفسطائية (¬1) فإنهم ثلاث فرق: عندية وعنادية واللادرية وأقوالهم خارجة عن القوانين العقلية؛ لأن القائل يقول لأحدهم: أنت موجود فيقول: لا، فيقول له: فما هذا الشبح الذي أراه، والكلام الذي أسمعه، والحس الذي أدركه؟ فيقول: وجودي ثابت عندك لا عندي، وهذه هي الفرقة العندية. وأما الفرقة العنادية فيقول له القائل: أنت موجود ويستدل على ذلك بنحو ما تقدم فيكابر ويصمم على أنه لا وجود له، وإنما ذلك خيال عرض للمدعي للوجود، فلما كان هذا عنادا قيل لهذه الفرقه: عنادية. وأما الفرقة الثالثة أعني التي يقال لها اللادرية، فإنه يقال له: أنت موجود فيقول: لا أدري، فيقال له: فما هذا الشبح المرئي والصوت المسموع، فيقول: لا أدري، ولقد أحسن من قال من علماء المعقول إن هؤلاء لا يناظرون إلا بالضرب المؤلم، فإذا استغاثوا قيل لهم: ألم تقولوا إنه لا وجود لكم؟ وهذا وإن كان فيه خروجا [41] عما نحن بصدده ففيه أيضًا فائدة اقتضاها ذكر ما قاله ذلك القائل. ¬

(¬1) السوفسطائية: طائفة من اليونانيين ظهرت في القرن الخامس قبل الميلاد، تقوم فلسفتهم على إنكار حقائق الأشياء، ويزعمون أنه ليس هاهنا ماهيات مختلفة وحقائق متمايزة فضلا عن، اتصافها بالوجود، بل كلها أوهام لا أصل لها. وكانوا يفاخرون بتأييد القول الواحد ونقيضه على السواء وبإيراد الحجج الخلابة في مختلف المسائل والمواقف، اشتهر منهم بروتاغوراس، وغورغياس. انظر: قصة الحضارة. ول ديورانت (7/ 212). تاريخ الفلسفة اليونانية- يوسف كرم- 57

ولا ريب أن كل واحد من المصوبة يدعي لنفسه أنه مصيب ويعترف لخصمه بأنه مصيب، فكان هذا شبيها مما تقوله العندية. ويا عجبا لقوم جعلوا مراد الله عز وجل أحدا دائرا بين المرادات وتابعا لنظر المجتهدين، والتزموا إنصاف العين الواحدة بأنها حلال بتحليل هذا المجتهد لها، وحرام بتحريم هذا المجتهد لها، وأن الله سبحانه شرع لعباده فيها أنها حلال وأنها حرام، وقد يتوقف الحكم من الله عز وجل بالحل أو الحرمة على وجود مجتهد يوجد في آخر الأزمنة، وقد يرتفع ما شرعه الله من الحل أو الحرمة بموت المجتهد وعدم المتابع له. وبالجملة فهذا تلاعب لا مزيد عليه وهذيان لا يجوز نسبة مثله إلى أعجز العباد فكيف ينسب إلى أحكم الحاكمين، وليس لهم على هذه المقالة الساقطة أثارة من علم ولا ألجأهم إليها دليل عقل ولا نقل، بل مجرد خيالات مختلة ودعاوى (مضلة). والحاصل أن الأدلة الدالة على هدم هذه المقالة كثيرة جدا وهي محتملة لإفرادها بالتصنيف، وقد كان قرن الصحابة الذي هو خير القرون يصرحون بتخطئة بعضهم بعضا في غير مسألة، ويخشى بعضهم على بعض إذا رآه قد أخطأ في اجتهاده، والواقعات في هذا كثيرة جدا قد اشتملت عليها كتب الأحاديث والسير فارجع إليها، فإن ذلك يغنيك عن التطويل هنا [42]. وأما ما ذكره السائل من قوله: فمن أين لنا العلم بالمصيب وما علامته. فأقول: إن كان هذا الذي يريد أن يعرف المصيب مجتهدا فلم يتعبده الله بذلك بل تعبده بأن يعرف الصواب، ومعرفة الصواب تحصل له بأن ينظر في أدلة الكتاب والسنة نظرا يحصل له عنده الظن القوي بأنه قد أحاط بما يتعلق بما ينظر فيه من المسائل من الأدلة الدالة عليها، فإذا فعل ذلك جمع بين ما كان ظاهره التخالف منها جمعا مقبولا، فإن تعذر الجمع رجع إلى الترجيح، وقدم الراجح على المرجوح وعمل به. وطرق الجمع (¬1) ¬

(¬1) انظر: تيسير التحرير (3/ 161) مجموع فتاوى (9 1/ 201 - 267) (22/ 368) المستصفى (2/ 392).

والترجيح معروفة مدونة لا تلتبس على من ترشح للاجتهاد والنظر في المسائل. وبهذا يعرف الصواب، ومعرفته تستلزم معرفة المصيب ولكن هذا إنما هو في ظن ذلك المجتهد ولم يتعبده الله بزيادة على هذا. فإن انكشف أن ذلك الذي ظنه صوابا هو الصواب في الواقع فقد ظفر هذا المجتهد بالأجرين المذكورين في الحديث، وإن انكشف أنه خلاف الصواب في الواقع فقد ظفر بأجر. وأما إذا كان الذي أراد أن يعرف المصيب أو الصواب مقلدا فقد كلف نفسه ما لا تبلغ إليه قدرته وتقصر عن إدراكه ملكته، ومن أين لمن يقر على نفسه بأنه لا يتعقل الحجج بأنه يعرف صوابا أو إصابة، ولكن ينبغي أن يعلم هذا المقلد بأن بين جنبيه نفسا شريفة وهمة عالية تنازعه إلى مكان لا يرتقي إليه إلا من قطع عن عنقه أطواق التقليد، وأقبل على علوم الاجتهاد بساعد شديد وناب حديد، فليقبل على العلوم بكليته، ويستفرغ فيها وسعه، فإن بلغ إلى المنزل ظفر بالمنية وفاز بالأمل، وإن بات [43] دونه فقد أعذر وأورد في المعالي وأصدر. البحث الثاني من مباحث السؤال الثالث: قوله- عافاه الله- وإذا ثبت عذر المخطئ فهل يعذر مقلده أم لا؟ والجواب: أنه لم يرد الدليل إلا في خطأ المجتهد، ولم يأت في تسويغ التقليد حرف واحد من كتاب ولا سنة، وما يزعمه من سوغ التقليد من أنه دليل على ما زعمه فهو خارج عن ذلك كما يعرفه من يعرف الدليل، وكيف يستدل به. بل قد ثبت عن الأئمة الأربعة رحمهم الله النهي عن تقليدهم، وقد أوضحت هذا في مؤلف مستقل سميته " القول المفيد في حكم التقليد " (¬1) ولم أدع شيئا مما قاله الناس في هذه المسألة إلا ذكرته، وتعقبت ما يستحق التعقيب، وبسط الكلام في ذلك لا يتسع له المقام ولكنه قد يشتغل ذهن المطلع على هذا الجواب بسؤال وهو: (أن قول يقول) (¬2) ليس في وسع كل أحد من ¬

(¬1) (ص 117 وما بعدها) بتحقيقنا ط 1. (¬2) هكذا في المخطوط، ولعله صوابه: (وهو قول من يقول).

العباد أن يحيط بعلوم الاجتهاد لاختلاف الأفهام وتباين القرائح، والاشتغال بالكسب على النفس والأهل وتقويم أمر المعاش، ففي المنع من التقليد حرج. فأقول: لا حرج إن شاء الله بل على المقصر أن يسأل الكامل عن النص الوارد فيها يعرض له من كتاب أو سنة ويسترويه ما في تلك الحادثة فيعمل به في عباداته ومعاملاته كما كان يصنعه المقصرون من الصحابة فمن بعدهم قبل ظهور هذه المذاهب، ومن لا يسعه ما وسع خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم فلا وسع الله عليه، فإنه لم يضيق عنهم شيء من الحق قط، وهم المعيار الذي لا يزيغ، والقدوة التي لا يخسر من ائتم بها ومشى خلفها فاعرف هذا [44]. البحث الثالث من مباحث السؤال الثالث: قوله عافاه الله: وهل حصل بين الصحابة خلاف متناقض في غير الاجتهادات .. إلخ. أقول: الذي لا مسرح للاجتهاد فيه هو الشاذ النادر كتقرير الحدود وعدد الركعات ونحو ذلك مما مرجعه الرواية، فإن كان السائل يريد أنه هل وقع الخلاف بين الصحابة في نفس الأشياء المروية فنعم، قد اختلفوا في آيات من كتاب الله إثباتا ونفيا واختلفوا في كثير من السنة، وأنكر بعضهم على بعض شيئا مما يرويه ورجعوا لعد الاختلاف إلى الحق، كما في إنكار عمر (¬1) رضي الله عنه على فاطمة بنت قيس (¬2) ما روته في العدة ¬

(¬1) أخرج مسلم رقم (46/ 1480) عن أبي إسحاق قال: كنت مع الأسود بن يزيد جالسا في المسجد الأعظم، ومعنا الشعبي، فحدث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، ثم أخذ الأسود كفا من حصى فحصبه به. فقال: ويلك! تحدث. بمثل هذا، قال عمر: لا ندع كتاب الله وسنة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقول امرأة، لا ندري لعلها حفظت أو نسيت لها السكنى والنفقة، وتلا الآية: قال الله عز وجل: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) [الطلاق: 1]. (¬2) أخرج مسلم رقم (44/ 1480) عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المطلقة ثلاثا- " ليس لها سكنى ولا نفقة. وانظر ما قاله محمد بن إسماعيل الأمير في" سبل السلام" بتحقيقي (6/ 283 - 285) وخلاصته: "أن الحق ما أفاده الحديث" وقد أطال ابن القيم الجوزية في زاد المعاد (5/ 675) ناصرا للعمل بحديث فاطمة بنت قيس.

وإنكاره (¬1) على أبي موسى ما رواه في الاستئذان، وإنكاره على عمار ما رواه في التيمم (¬2). والوقائع في هذا كثيرة جدا لا حاجة لنا في الاستكثار منها، وإن كان يريد أنهم هل اختلفوا في شيء من مسائل الصفات فقد كان دأبهم وديدنهم وهجيراهم رضي الله عنهم أن لا يتعرضوا لشيء من التكلف والتأويل، بل يمرونها كما جاءت ويؤمنون بها كما وردت. وأما إنكار بعضهم على بعض إذا خالف الرواية بالرأي فهو كثير جدا قد تضمنته كتب السير والتواريخ، وهكذا إنكارهم على من أخطأ في رأيه ولم يصب في استنباطه فذلك كثير جدا. وأما ما سأل عنه عافاه الله بقوله وهل رجع أحدهم إذا علم الدليل. فجوابه أنهم قد رجعوا كثيرا عن الرأي عند العلم بالدليل ووقع هذا الكثير منهم [45] والوقائع مبسوطة في كتب الرواية، بل لم يخل عن مثل هذا غالب أكابرهم ولا سيما الخلفاء ¬

(¬1) أخرج البخاري رقم (6245) ومسلم رقم (2153) عن بسر بن سعيد قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: كنت جالسا بالمدينة في مجلس الأنصار: فأتانا أبو موسى فزعا أو مذعورا. قلنا: ما شأنك؟ قال: إن عمر أرسل إلي أن آتيه. فأتيت بابه فسلمت ثلاثا فلم يرد علي فرجعت. فقال ما منعك أن تأتينا؟ فقلت: إني أتيتك فسلمت على بابك ثلاثا فلم يردوا علي فرجعت، وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له، فليرجع" فقال عمر: أقم عليه البينة وإلا أوجعتك. فقال: أبي بن كعب: لا يقوم معه إلا أصغر القوم. قال القوم. قال أبو سعيد: أنا أصغر القوم قال: فاذهب به. (¬2) أخرج البخاري رقم (338) ومسلم رقم (112/ 368): عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه أن رجلا أتى عمر فقال: إني أجنبت فلم أجد ماء. فقال: لا تصل. فقال عمار: أما تذكر، يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا، فلم نجد ماء، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت في التراب وصليت. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إنما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثم تنفخ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك" فقال عمر: اتق الله يا عمار! قال: إن شئت لم أحدث به.

الراشدين والمقصورين للإفتاء منهم، وقد رجع (¬1) لما سمع الحجة الشرعية من امرأة، وقال: كل الناس أعلم من عمر حتى المخدرات. وأما قول السائل عافاه الله: وإذا رجع هل يكون مقلدا ... إلخ. فأقول: قد صانهم الله عن هذه البدعة ورفع شأنهم عن الوقوع في هذه النقيصة، فلم يسمعوا بها ولا تلوثوا بشيء منها، بل كان من رجع منهم عن رأي رآه إلى رواية سمعها عمل بها مقتديا بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد عرفت مما ذكرناه سابقا أن التقليد إنما هو الأخذ بالرأي لا بالرواية. البحث الرابع من مباحث السؤال الثالث: قوله: هل يجوز العمل بالخطوط مطلقا أم لا؟ والجواب: أنه قد أمر الله سبحانه بالكتابة فقال: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل}، فلو كان الخط غير معمول به لم يكن للأمر بالكتابة معنى، وقد ثبت في الصحيح (¬2) أنه قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اكتبوا لأبي شاة " وذلك لما طلب أن يكتبوا له خطبة الوداع، فأمرهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن ¬

(¬1) قال المحدث الألباني في " الإرواء " (6/ 347 - 348): (تنبيه): أما ما شاع على الألسنة من اعتراض المرأة على عمر وقولها: " نهيت الناس آنفا أن يغالوا في صداق النساء، والله تعالى يقول في كتابه: (وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا) [النساء: 20]، فقال عمر رضي الله عنه: كل أحد أفقه من عمر، مرتين أو ثلاثا، ثم رجع إلى المنبر، قال للناس: إني كنت نهيتكم أن تغالوا في صداق النساء، ألا فليفعل رجل في ماله ما بدا له. فهو ضعيف منكر يرويه مجالد عن الشعبي عن عمر. أخرجه البيهقي (7/ 233) وقال: هذا منقطع. قلت: ومع انقطاعه ضعيف من أجل مجالد وهو ابن سعيد ليس بالقرب، ثم هو منكر المتن، فإن الآية لا تنافي توجيه عمر إلى ترك المغالاة في مهور النساء ... " ا هـ. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2434) ومسلم في صحيحه رقم (447/ 1355). من حديث أبي هريرة.

يكتبوا له. وثبت في الصحيح (¬1) أيضًا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعبد الله بن عمرو: "اكتب " لما استأذنه في كتابة الحديث، بل قد نهى القرآن عن يأبى الكاتب أن يكتب فقال: {ولا يأب كاتب ... } الآية (¬2). وقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبعث بكتبه إلى الملوك (¬3) في الأقطار النائية ثم يرتب على ذلك غزوهم وسفك دمائهم وسلب أموالهم وسبي ذراريهم، وهذا دليل على أن الحجة قد لزمتهم ببلوغ تلك الكتب، فلو كان الخط غير معمول به لم يرتب على الكتابة مثل هذه الأمور العظيمة، ومع هذا فإنهم لا يعرفون [46] خطوط تلك الكتب ولا يفهمون ما فيها إلا بعد أن تترجم لهم. ومن ذلك أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكتب المصالحة بينه وبين قريش (¬4) يوم الحديبية، ومنها ما كان يأمر بكتبه من كتب الأمانات وكتب الإقطاعات وكتب عقد الذمة وكتب المصالحة لسائر من صالحهم من القبائل، ومنها كتاب عمرو بن حزم (¬5) الذي كتبه إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخذ به الصحابة واعتمدوا عليه، وقد روي مسندا ومرسلا، فمن رواه مسندا أحمد والنسائي وأبو داود في كتاب المراسيل، وعبد الله بن عبد ¬

(¬1) أخرجه أحمد (2/ 162، 192) وأبو داود رقم (3646) والدارمي (1/ 125) والحاكم (1/ 05 1 - 106) وقال عقبه: " رواة هذا الحديث قد احتجا بهم عن آخرهم غير الوليد هذا، وأظنه (الوليد بن أبي الوليد الشامي) فإنه (الوليد بن عبد الله) وقد غلبت على أبيه الكنية. فإن كان كذلك فقد احتج به مسلم " ووافقه الذهبي. وعقب الألباني في " الصحيحة " (4/ 46) على كلام الحاكم قائلا: " كذا قال، وإنما هو الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث مولى بني الدار حجازي وهو ثقة، كما قال ابن معين وابن حبان وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (1196). (¬2) [البقرة: 282]. (¬3) منها ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4424) باب رقم (82/ 83) كتاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى كسرى وقيصر. (¬4) انظر السيرة النبوية (3/ 440). (¬5) تقدم تخريجه في الرسالة السابقة رقم (1) (ص 139).

الرحمن الدارمي وأبو يعلى الموصلي ويعقوب بن سفيان في مسانيدهم، ورواه الحسن بن سفيان النسوي، وعثمان بن سعيد الدارمي، وعبد الله بن عبد العزيز البغوي، وأبو زرعة الدمشقي، وأحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي، وحامد بن محمد بن سعيد البلخي، والحافظ الطبراني، وأبو حاتم بن حبان في صحيحه وجماعة. وأما المرسل فرواه النسائي، وأبو داود، والشافعي، وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم، ولو لم يكن الخط معمولا به لم يأخذ الصحابة كثيرا من الأحكام الشرعية من هذا الكتاب، وكذلك أخذ به من بعدهم وصار ما فيه من التكاليف العامة لجميع الأمة. ومن ذلك ما ثبت في الصحيح (¬1) من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده " وقد اتفق عليه الشيخان (¬2) من حديث ابن عمر، فلولا أن الخط معمول به لم يكن للأمر بكتابة الوصية معنى، ومن ذلك أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكتابة القرآن. ومن ذلك ما ثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أمر بكتاب يكتب وختمه (¬3)، وأمر سرية تذهب إلى حيث عينه لهم وأنهم لا يقرءون الكتاب إلا في ذلك الموضع وأنهم يعملون بما فيه، ومنها [47] قول (¬4) على رضي الله عنه وقد سئل هل خصكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء فقال: " لا، إلا ما في هذه الصحيفة " وفيها أحكام شرعية. ومن ذلك عمله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما جاء من عماله من الكتب، ومنه إجماع الصحابة على العمل ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2738) ومسلم رقم (1627) من حديث عبد الله بن عمر. (¬2) انظر التعليقة السابقة. (¬3) أخرج البخاري رقم (65) ومسلم في صحيحه رقم (2092) من حديث أنس بن مالك قال: كتب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتابا أو أراد أن يكتب فقيل له: إنهم لا يقرءون كتابا إلا مختوما، فاتخذ خاتما من فضة نقشه: محمد رسول الله، كأني أنظر إلى بياضه في يده، فقلت لقتادة: من قال: نقشه محمد رسول الله؟ قال: أنس. (¬4) تم تخريجه في رسالة " هل خص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل البيت بشيء من العلم " رقم (21).

بالخط كما رواه أبو الحسين البصري في المعتمد وكذلك رواه الدارمي والحافظان يعقوب بن سفيان وإسماعيل بن كثير، ورواه الإمام المنصور عبد الله بن حمزة، كما نقله عنهم العلامة محمد بن إبراهيم الوزير في تنقيح الأنظار (¬1) واستدل على ذلك الرازي في المحصول بإجماع الصحابة وبالعقل فقال: " وأما المعقول فلأن الظن هاهنا حاصل والعمل بالظن واجب" انتهى. ومن ذلك الإجماع الفعلي في جميع الأعصار والأمصار في اعتبارهم بالخطوط الكائنة بين الناس في معاملاتهم وخطوط الأمراء والقضاة، ومن ذلك عمل السلف والخلف بالوجادة التي صرح العلماء بقبولها، وقد صرح ابن رسلان في " شرح سنن أبي داود " أن القاضي عياضا حكى ذلك عن أكثر الصحابة والتابعين، قال: ثم أجمع عليها المسلمون وزال الخلاف. ثم قال: وقد اختلف الناس في الجواب على حديث أبي سعيد أعني الذي رواه مسلم (¬2) من حديثه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" لا تكتبوا شيئا إلا القرآن" فقيل: إن النهي منسوخ بأحاديث الإذن. وكان النهي في أول الأمر لخوف اختلاطه بالقرآن، فلما أمن ذلك أذن فيه، وجع بعضهم بأن النهي في حق من وثق بحفظه، والإذن في حق من لم يثق كأبي شاة، وحمل بعضهم النهي على كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة؛ لأنهم كانوا يسمعون تأويل الآية فربما كتبوه معه فنهوا عن ذلك لئلا يختلط به فيشتبه على القارئ" (¬3) انتهى. وعلى كل حال فهذا النهي ورد في كتابة الحديث في ابتداء الأمر، ولم يرد في كل كتابة، وسؤال السائل هو عن العمل بالخط مطلقا. ومن ذلك ما أخرجه أبو داود أنه دخل زيد ¬

(¬1) (ص246) بتحقيقي (¬2) في صحيحه رقم (72/ 3004) من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:"لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي- قال همام: أحسبه قال: متعمدا- فليتبوأ مقعده من النار". (¬3) كلام محمد بن إبراهيم الوزير في كتاب " تنقيح الأنظار " (ص 248) بتحقيقي.

ابن ثابت على معاوية فسأله عن حديث فأمر إنسانا بكتبه فقال له زيد بن ثابت: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرنا أن لا نكتب شيئا من حديثه، وهذه المسألة محتملة للتطويل وقد أفردتها بمصنف مستقل (¬1)، وفي هذا المقدار كفاية [48]. البحث الخامس من مباحث السؤال الثالث: قوله: فيما ورد في الحديث:" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ... إلخ (¬2). والجواب: أن أهل العلم قد أطالوا الكلام في هذا وأخذوا في تأويله بوجوه أكثرها متعسفة، والذي ينبغي التعويل عليه والمصير إليه هو العمل بما يدل عليه هذا التركيب بحسب ما يقتضيه لغة العرب فالسنة هي الطريقة، فكأنه قال: الزموا طريقتي وطريقة الخلفاء الراشدين وقد كانت طريقتهم هي نفس طريقته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنهم أشد الناس حرصا عليها وعملا بها في كل شيء وعلى كل حال. وكانوا يتوقون مخالفته في أصغر الأمور فضلا عن أكبرها، وكانوا إذا أعوزهم الدليل من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عملوا بما يظهر لهم من الرأي بعد الفحص والبحث والتشاور والتدبر. وهذا الرأي عند عدم الدليل هو أيضًا من سنته لما دل عليه حديث معاذ لما قال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" بم تقضي؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي. قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسوله، أو كما قال " (¬3). وهذا الحديث وإن تكلم فيه بعض أهل العلم بما هو معروف، فالحق أنه من قسم الحسن لغيره وهو معمول به، وقد أوضحت هذا في بحث مستقل، فإن قلت: إذا كان ما عملوا فيه بالرأي هو من سنته لم يبق لقوله وسنة الخلفاء الراشدين ثمرة. قلت: ثمرته أن من الناس من لم يدرك زمنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأدرك زمن الخلفاء الراشدين أو أدرك زمنه وزمن الخلفاء، ولكنه ¬

(¬1) رسالة بعنوان " بحث في العمل بالخط ومعاني الحروف العلمية النقطية " وهي ضمن "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني ". (¬2) تقدم تخريجه في الرسالة السابقة رقم (1) (ص140). (¬3) سيأتي تخريج هذا الحديث في الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني، وهو حديث منكر.

حدث أمر لم يحدث في زمنه ففعله الخلفاء، فأشار بهذا الإرشاد إلى سنة الخلفاء إلى دفع ما عساه يتردد في بعض النفوس من الشك ويختلج فيها من الظنون، وأقل فوائد الحديث أن ما يصدر عنهم من الرأي، وإن كان من سنته كما تقدم، ولكنه أولى من رأي غيرهم عند عدم الدليل. وبالجملة فكثيرا ما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينسب الفعل أو الترك إليه وإلى أصحابه في حياته مع أنه لا فائدة لنسبته إلى غيره مع نسبته إليه؛ لأنه محل القدوة ومكان الأسوة، فهذا ما ظهر لي في تفسير هذا الحديث، ولم أقف في تحريره على ما يوافقه من كلام أهل العلم، فإن كان صوابا [49] فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان وأستغفر الله العظيم. البحث السادس من مباحث السؤال الثالث: قوله: فكيف إذا تعارضت عند الناظر كحديث كان الطلاق (¬1) على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .... إلخ. والجواب: أن هذه المسألة طويلة الذيول، كثيرة النقول، واسعة الأطراف، رحبة الأكناف، وقد أفردها جماعة بالتصنيف آخرهم رقم هذه الأحرف غفر الله له ولا بد من الإشارة إلى ما هو الحق بأخصر عبارة، فاعلم أنه قد احتج القائلون بأن الطلاق الثلاث يكون ثلاثا دفعة واحدة، وهم جمهور التابعين وكثير من الصحابة وأئمة المذاهب الأربعة، وطائفة من أهل البيت لقوله تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} (¬2) وظاهرها جواز إرسال الثلاث أو الاثنتين دفعة أو مفرقة، ويجاب عنه بأنه لا دليل في الآية على ما زعموه من وقوع الثلاث دفعة، فلم يكن في الآية إلا المرتان. وأما التسريح فهو إما يكون بعد إيقاع الطلقتين وهو أمر غير الطلقتين، وقد قيل: إن الآية حجة عليهم لا لهم، وإنما تدل على المنع من إيقاع الثلاث دفعة، وهو أظهر وأوضح وعندي أن ¬

(¬1) تقدم في الرسالة السابقة رقم (1). (¬2) [البقرة: 230].

هذه الآية مطلقة مقيدة بالسنة الصحيحة الصريحة لما في الآية من اجتماع الجمع للطلقتين والتفريق لهما، وأما الثالثة فلا ذكر لها باعتبار ما يزعمونه من انضمامها إلى الاثنتين لا باعتبار صحة إرسالها منفردة ووقوع التسريح بها، فقد استدلوا بأدلة قرآنية، وهي أبعد من هذه الآية التي ذكروها بمراحل فيما قصدوه كقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬1) وقوله: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} (¬2) ونحو ذلك. وغاية ما في هذه الآيات الإطلاق، ولا تقوم به حجة بعد تقييده بما سيأتي، واستدلوا بأحاديث أقربها إلى الدلالة على ما قصدوه حديث الذي طلق امرأته ألف تطليقة، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بانت منك بثلاث على غير السنة" (¬3) وعارضه بأن في إسناده يحيى بن العلاء (¬4) وهو ضعيف وعبيد الله بن الوليد (¬5) وهو هالك، وإبراهيم بن ¬

(¬1) البقرة: 230 (¬2) البقرة: 227 (¬3) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (11339) والدارقطني (4/ 20 رقم 53) وقال الدارقطني: رواته مجهولون وضعفاء، إلا شيخنا وابن عبد الباقي. وقال ابن قيم الجوزية في زاد المعاد (5/ 240): " خبر في غاية السقوط؛ لأن في طريقه يحيى بن العلاء، عن عبيد الله بن الوليد الوصافي، عن إبراهيم بن عبيد الله ضعيف، عن هالك، عن مجهول، ثم الذي يدل على كذبه وبطلانه أنه لم يعرف في شيء من الآثار صحيحها ولا سقيمها ولا متصلها ولا منقطعها، أن والد عبادة بن الصامت أدرك الإسلام فكيف بجده، فهذا محال بلا شك، وخلاصة القول أن الحديث ضعيف جدا. (¬4) يحيى بن العلاء البجلي أبو سلمة، ويقال أبو عمرو الرازي. قال أحمد بن حنبل: كذاب يضع الحديث، وقال أبو زرعة: في حديثه ضعف، وقال أبو حاتم: عن ابن معين: ليس بشيء. انظر: تهذيب التهذيب (4/ 380). (¬5) عبيد الله بن الوليد الوصافي، أبو إسماعيل الكوفي، قال البخاري: هو من ولد الوصاف بن عامر العجلى.

عبيد الله وهو مجهول فأي حجة في رواية ضعيف عن هالك عن مجهول؟. واستدلوا بما وقع في حديث ركانة (¬1) أنه طلق امرأته البتة فقال: ما أردت إلا واحدة فاستحلفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وردها إليه. رواه الشافعي وأبو داود والترمذي وصححه ابن حبان والحاكم. ويجاب عنه بأن عامة ما فيه أنه يقبل قول الزوج في تفسير ألبتة مع يمينه وعلى كل حال فالحديث في إسناده اضطراب كما قال البخاري (¬2) وفيه أيضًا الزبير بن سعيد الهاشمي (¬3) وقد ضعفه غير واحد، وقيل: إنه متروك. وقد روى أحدهم أنه طلقها ثلاثا فجزي عليها، وروى ابن إسحاق أنه قال: يا رسول الله إني طلقتها ثلاثا فقال: قد علمت (¬4) أرجعها ثم تلا: {إذا طلقتم النساء ... الآية} (¬5) أخرجه أبو داود [50] وأحمد والحاكم من حديث ابن عباس فكيف تقوم الحجة بمحتمل مضطرب متناقض في إسناده متروك؟ وهذا غاية ما جاءوا به من الأدلة التي تحتاج إلى دفع وبيان، وأما سائر ما استدلوا به فبطلان دلالته على المطلوب غنية عن البيان غير محتاجة إلى إيضاح. واعلم أنه قد ذهب إلى القول بأن الثلاث الواقعة دفعة واحدة فقط ولا يقع منها فوق الواحدة جماعة من الصحابة منهم علي وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف والزبير كما ¬

(¬1) تقدم تخريجه في الرسالة السابقة رقم (1) وهو حديث ضعيف. (¬2) انظر: فتح الباري (9/ 362 - 367). (¬3) هو الزبير بن سعيد بن سليمان بن سعيد بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، الهاشمي، أبو القاسم، ويقال: أبو هاشم، المديني: نزل المدائن. قال ابن المديني: ضعيف. وقال العجلي: روى حديثا منكرا في الطلاق. انظر: تهذيب التهذيب (1/ 624). (¬4) تقدم تخريجه في الرسالة السابقة رقم (1) وهو حديث حسن. (¬5) [الطلاق: 1].

حكاه ابن مغيث في كتاب الوثائق (¬1)، وحكاه في البحر (¬2) عن أبي موسى وابن عباس، وحكاه ابن المنذر عن أصحاب ابن عباس كعطاء وطاوس وعمرو بن دينار وحكاه عنهم أيضًا صاحب البحر (¬3) ونقله ابن مغيث عن جماعة من مشايخ قرطبة كمحمد بن بقي، ومحمد بن عبد السلام وغيرهما، ونقله في البحر (¬4) عن القاسم بن إبراهيم، والهادي يحيى بن القاسم، والباقر والناصر، وأحمد بن عيسى، وعبد الله بن موسى بن عبد الله، ورواية عن زيد بن علي، وإليه ذهب ابن تيمية (¬5) وابن القيم (¬6) وجماعة من المحققين. واستدل هؤلاء بأدلة منها ما ثبت في صحيح مسلم (¬7) ومسند أحمد وغيرهما عن ابن عباس أنه قال: "كان الطلاق على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم" (¬8) فقد اعترف عمر رضي الله عنه هاهنا أن السنة الثابتة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الثلاث واحدة، واعترف أنه لم يرجع فيما وقع منه من الإمضاء إلى شيء غير مجرد ما استحسنه وقوي في رأيه من إمضاء ذلك عليهم، وكل من له علم يعترف بأنه لا حجة في (قول) (¬9) أحد لا سيما إذا خالف المروي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا هو الحق الذي لا تفريط به ولا خلاف فيه. وقد أجاب القائلون بوقوع الثلاث (¬10) عن حديث ابن عباس هذا بأجوبة متكلفة متعسفة قد أوضحت بطلانها في ذلك المؤلف الذي أشرت إليه وسقت فيه من ¬

(¬1) ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (9/ 363). (¬2) (3/ 174 - 175). (¬3) (3/ 174 - 175). (¬4) (3/ 174 - 175). (¬5) انظر: مجموع فتاوى (33/ 82 - 90). (¬6) في زاد المعاد (5/ 234). (¬7) تقدم تخريجه في الرسالة السابقة رقم (1). وهو حديث صحيح. (¬8) تقدم في الرسالة السابقة رقم (1). (¬9) زيادة اقتضاها التركيب (¬10) تقدم ذكر ذلك في الرسالة السابقة رقم (1).

الأدلة الدالة على ما ذهب إليه القائلون بأن الثلاث واحدة ما لا يحتاج الناظر فيه إلى زيادة عليه، وقد ذهب قوم إلى أنه لا يقع من الثلاث المرسلة دفعة شيء، لا واحدة ولا أكبر منها وتمسكوا بما ورد من المنع من وقوع الطلاق المخالف للسنة، كما في حديث ابن عمر الثابت في الصحيح (¬1) الحاكي لطلاقه لزوجته، وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنكر عليه ذلك، وثبت في بعض الروايات أنه لم يرها شيئا. ومن القائلين هذا بعض التابعين وبعض أهل الظاهر وبعض الإمامية وابن علية وهشام بن الحكم وأبو عبيدة. وهذا (¬2) أيضًا عن عدم وقوع الطلاق البدعي بحث طالت فيه الأقوال واضطربت فيه آراء الرجال، وقد أفرده جماعة بالتصنيف، ومن آخر من أفرده بالتصنيف أيضًا راقم الأحرف غفر الله له (¬3). وإلى هنا انتهى جواب السائل كثر الله فوائده في شهر شوال سنة 1222هـ بقلم المجيب محمد الشوكاني غفر الله له. ¬

(¬1) تقدم في الرسالة السابقة رقم (1). (¬2) لعل الأصل وهناك (¬3) بعنوان: "بحث في الطلاق الثلاث مجتمعة هل يقع أم لا؟ وقد حصلت على جزء من المخطوط من " الهند " ولم أجدها كاملة.

التحف في الإرشاد إلى مذهب السلف

التحف في الإرشاد إلى مذهب السلف (¬1) تأليف محمد بن علي الشوكاني حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه محفوظة بنت علي شرف الدين أم الحسن ¬

(¬1) عنوان الرسالة في (ب): (التحف في مذاهب السلف).

وصف المخطوط (أ) 1 - عنوان الرسالة: " التحف في الإرشاد إلى مذهب السلف ". 2 - موضوع الرسالة: في توحيد الله سبحانه. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير الأنام، وآله الكرام، ورضي الله عن صحبه الأعلام. وبعد: فإنه وصل سؤال من بعض الأعلام الساكنين ببلد الله الحرام وهذا لفظه: ...... 4 - آخر الرسالة: وفي هذه الجملة -وإن كانت قليلة- ما يغني من شح بدينه، وتحرص عليه من تطويل المقال، وتكثير ذيوله وتوسيع دائرة فروعه وأصوله، والمهدي من هداه الله، .. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - عدد الأوراق: (7) ورقات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 - 27 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 10 - 12 كلمة. 9 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني. 10 - تاريخ النسخ: 1228 هـ.

وصف المخطوط (ب) 1 - عنوان الرسالة: " التحف في مذاهب السلف ". 2 - موضوع الرسالة: في توحيد الله سبحانه. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير الأنام، وآله الكرام، ورضي الله عن صحبه الأعلام. وبعد: فإنه وصل سؤال من بعض الأعلام الساكنين ببلد الله الحرام وهذا لفظه ... 4 - آخر الرسالة: وفي هذه الجملة، وإن كانت قليلة -ما يغني من شح بدينه، وتحرص عليه عن تطويل المقال، وتكثير ذيوله وتوسيع دائرة فروعه وأصوله، والمهدي من هداه والله أعلم ... 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الأوراق: (5) ورقات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 29 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 12 - 13 كلمة. 9 - تاريخ النسخ: 18 شهر ربيع الأول سنة 1275هـ.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير الأنام، وآله الكرام، ورضي الله عن صحبه الأعلام. وبعد: فإنه وصل سؤال من بعض الأعلام الساكنين ببلد الله الحرام، وهذا لفظه: بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله رب العالمين، ما يقول فقهاء الدين، وعلماء المحدثين، وجماعة الموحدين، في آيات الصفات وأخبارها اللاتي نطق بها الكتاب العظيم، وأفصحت عنها سنة الهادي إلى صراط مستقيم؟ هل إقرارها، وإمرارها (¬1)، وإجراؤها على الظاهر بغير تكييف (¬2)، ولا تمثيل (¬3)، ولا تأويل (¬4)، ولا تعطيل (¬5) عقيدة الموحدين وتصديق بالكتاب المبين، واتباع بالسلف الصالحين؟ أو هذا مذهب المجسمين؟ وما حكم من أول الصفات، ونفى ما وصف الله به نفسه، ووصفه به بنيه، وتأيد ¬

(¬1) قال الحافظ ابن عبد البر كما في المختصر العلو (ص 39): " أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في الكتاب والسنة وحملها على الحقيقة لا على المجاز. إلا أنهم لم يكيفوا شيئا من ذلك ". وقال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعي ومالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد: عن الأحاديث التي في الصفات؟ فكلهم قالوا لي: أمروها كما جاء بلا تفسير. رفي رواية: بلا كيف. انظر: الفتوى الحموية (ص 109)، مختصر العلو للذهبي (ص 38) للألباني. (¬2) التكيف: تحديد وتعين كنه الصفة وحقيقتها، بمعنى أن يجعل لها كيفية معلومة، وليس المراد بنفي الكيفية تفويض المعنى المراد من الصفات، بل المعنى معلوم من لغة العرب. وهذا هو مذهب السلف، كما قال مالك رحمه الله: الاستواء معلوم والكيف مجهول. . . (¬3) التمثيل: هو تشبيه الله بخلقه في الصفات الذاتية أو الفعلية. (¬4) التأويل: هو صرف الصفة عن معناها الحقيقي إلى معنى مجازي. (¬5) التعطل: نفى الصفات الإلهية عن الله، وإنكار قيامها بذاته، أو إنكار بعضها. وانظر: " الكواشف الجلية شرح العقيدة الواسطية " للشيخ عبد العزيز بن سلمان (ص52)، القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى (ص 64 - 68).

بالنصوص، واتفق عليه الخصوص، من أن الله- سبحانه- في (¬1) سمائه، مستو على عرشه، بائن (¬2) من خلقه، وعلمه في كل مكان؟ والدليل: آيات الاستواء (¬3) والصعود (¬4) والرفع (¬5). ¬

(¬1) (في): بمعنى (على). كما قال تعالى حكاية عن فرعون: (ولأصلبنكم في جذوع النخل) [طه: 71] أي: على جذوع النخل. (¬2) أي: منفصل من خلقه. انظر: " الاعتقاد على مذهب السلف أهل السنة والجماعة " ص 55 - 57. (¬3) (منها): 1) قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ. . .) [الأعراف: 54]. 2) (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) [يونس: 3]. 3 - ) (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ .. ) [الرعد: 2]. 4 - ) (الرحمن على العرش استوى) [طه: 5]. 5 - ) (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ .. ) [الفرقان: 59]. 6 - ) (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) [الحديد: 4]. (¬4) ومن آيات الصعود: 1 - ) قوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)، [فاطر: 10]. 2 - ) (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) [السجدة: 5]. 3 - ) (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) [آل عمران: 55]. (¬5) من آيات الرفع: 1 - ) قوله تعالى: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) [آل عمران: 55]. 2 - ) (بل رفعه الله إليه) [النساء: 158].

وقوله تعالى: {أأمنتم من في السماء} (¬1). ومن السنة: حديث الجارية (¬2)، والنزول (¬3) وعمران بن حصين (¬4) وقوله ¬

(¬1) [الملك: 16]. قال ابن الجوزي في " زاد المسير " (8/ 322): وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: (أأمنتم) بهمزتين (من في السماء) قال ابن عباس: أمنتم عذاب من في السماء وهو الله عز وجل؟؟ اهـ. (¬2) يشير إلى حديث معاوية بن الحكم السلمي، قال: وكانت لي جارية ترعى غنما لي قبل أحد والجوانية، فاطلعت ذات يوم فإذا الذي قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بين آدم. آسف كما يأسفون. لكني صككتها صكة. فأتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعظم ذلك علي. قلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ قال: " ائتني بها " فأتيته بها. فقال لها: " أين الله " قالت: في السماء. قال: " من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال:" أعتقها، فإنها مؤمنة ". أخرجه مسلم في صحيحه رقم (33/ 537). وأحمد (5/ 447 - 448 - 449) والطيالسي في المسند (ص150 رقم 1105). واللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة " (3/ 391 - 392 رقم 652) وابن أبي عاصم في " كتاب السنة " (1/ 215 رقم 489) والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص421 - 422. وابن خزيمة في كتاب التوحيد ص121 - 122. (¬3) يشير إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له ". أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1145) ومسلم رقم (168/ 758)، وأبو داود رقم (4733) والترمذي رقم (446) وابن ماجه رقم (1366) وأحمد (2/ 264). وابن خزيمة في " كتاب التوحيد " ص 130. وابن أبي عاصم في " السنة " رقم (492 و493) واللالكائي في " شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة " رقم (742 - 745). والطيالسي في المسند (ص 328 رقم 2516) والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 2). (¬4) يشير إلى الحديث أخرجه الترمذي (5/ 519 رقم 3483). عن عمران بن حصين قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي: " يا حصين كم تعبد اليوم إلها؟ " قال أبي: سبعة، ستا في الأرض، وواحد في السماء. قال: " فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك؟ " قال: الذي في السماء. قال: " يا حصين أما إنك لو أسلمت علمتك كلمتين تنفعانك " قال: فلما أسلم حصين قال: يا رسول الله، علمني الكلمتين اللتين وعدتني، فقال: " قل: اللهم ألهمني رشدي، وأعذني من شر نفسي ". قال الترمذي: هذا حديث غريب وقد روي هذا الحديث عن عمران بن حصين من غير هذا الوجه. وأورده الذهبي في " العلو للعلي الغفار " ص 24 وقال شبيب: ضعيف. وقال الألباني: حديث ضعيف.

صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء! " (¬1). وغير ذلك من الآيات المتواترة، والأحاديث المتكاثرة (¬2). وأول الآيات، وجعل الاستواء استيلاء (¬3) ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4351) ومسلم في صحيحه رقم (1064) وأحمد (3/ 4) من حديث أبي سعيد الخدري. (¬2) كذا في المخطوط وصوابه الآيات المتكاثرة، والأحاديث المتواترة. (¬3) قال ابن تيمية في " الأسماء والصفات " (2/ 111) أنه لم يثبت أن لفظ استوى في اللغة بمعنى استولى، إذ الذين قالوا ذلك عمدتهم البيت المشهور: ثم استوى بشر على العراق ... من غير سيف ولا دم مهراق ولم يثبت نقل صحيح أنه شعر عربي وكان غير واحد من أئمة اللغة أنكروه. وقالوا: إنه بيت مصنوع لا يعرف في اللغة، وقد علم أنه لو احتج بحديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاحتاج إلى صحته. فكيف ببيت من الشعر لا يعرف إسناده؟! وقد طعن فيه أئمة اللغة. وذكر عن الخليل كما ذكره أبو المظفر في كتابه " الإفصاح " قال: سئل الخليل هل وجدت في اللغة استوى بمعنى استولى؟ فقال: هذا ما لا تعرفه العرب، ولا هو جائز في لغتها. 2 - أنه روي عن جماعة من أهل اللغة أنهم قالوا: لا يجوز استوى بمعنى استولى إلا في حق من كان عاجزا ثم ظهر، والله تعالى لا يعجزه شيء والعرش لا يغالبه في حال، فامتنع أن يكون بمعنى استولى. وقالوا: لا يكون استوى بمعنى استولى إلا فيما كان منازعا مغالبا، فإذا غلب أحدهما صاحبه قيل استولى. والله لم ينازعه أحد في العرش. 3 - إن معنى هذه الكلمة مشهور، ولهذا لما سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك عن قوله: (الرحمن على العرش استوى) قالا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ولا يريد أن: الاستواء معلوم في اللغة دون الآية؛ لأن السؤال عن الاستواء في الآية كما يستوي الناس. 4 - إن هذا التفسير لم يفسره أحد من السلف من سائر المسلمين من الصحابة والتابعين فإنه لم يفسره أحد من الكتب الصحيحة عنهم. بل أول من قال ذلك: بعض الجهمية والمعتزلة. 5 - الاستيلاء سواء كان بمعنى القدرة أو القهر أو نحو ذلك، هو عام في المخلوقات كالربوبية والعرش، وإن كان أعظم المخلوقات، ونسبة الربوبية إليه لا تنفي نسبتها إلى غيره، كما في قوله تعالى: (قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم)، [المؤمنون: 86]. وكما في دعاء الكرب. فلو كان استوى بمعنى استولى - كما هو عام في الموجودات كلها- لجاز من إضافته إلى العرش أن يقال: استوى على السماء، وعلى الهواء، والبحار والأرض، وعليها ودونها ونحوها، إذ هو مستو على العرش. فلما اتفق المسلمون على أنه يقال: استوى على العرش ولا يقال: استوى على هذه الأشياء مع أنه يقال: استولى على العرش والأشياء، علم أن معنى استوى خاص بالعرش ليس عاما كعموم الأشياء. وانظر" شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة " اللالكائي (3/ 399) و" العلو" للذهبي ص 133 والأسماء والصفات للبيهقي ص 405 - 415.

وأول النزول بالرحمة (¬1)، وهكذا جعل التأويل علة مطردة في سائر نصوص الصفات ¬

(¬1) قال ابن تيمية في " شرح حديث النزول " (ص 144 - 148): وإن تأول ذلك بنزول رحمته أو غير ذلك. قيل له: الرحمة التي تثبتها: إما أن تكون عينا قائمة بنفسها، وإما أن تكون صفة قائمة في غيرها. فإن كانت عينا وقد نزلت إلى السماء الدنيا: لم يمكن أن نقول: من يدعوني فأستجب له، كما لا يمكن الملك أن يقول ذلك. وإن كانت صفة من الصفات: فهي لا تقوم بنفسها بل: لا بد لها من محل، ثم لا يمكن الصفة أن تقول هذا الكلام ولا محلها، ثم إذا نزلت الرحمة إلى السماء الدنيا ولم تنزل إلينا فأي منفعة لنا في ذلك؟. وإن قال: بل الرحمة ما ينزله على قلوب قوام الليل في تلك الساعة من حلاوة المناجاة والعبادة وطيب الدعاء والمعرفة، وما يحصل في القلوب من مزيد المعرفة بالله والإيمان به. وذكره تجلية لقلوب أوليائه، فإن هذا أمر معروف يعرفه قوام الليل. قيل له: حصول هذا في القلوب حق، ولكن هذا ينزل إلى الأرض إلى قلوب عباده، لا يزل إلى السماء الدنيا، ولا يصعد بعد نزوله، وهذا الذي يوجد في القلوب يبقى بعد طلوع الفجر، لكن هذا النور والبركة والرحمة التي في القلوب هي من آثار ما وصف به نفسه من نزوله بذاته سبحانه وتعالى. كما وصف نفسه بالنزول عشية عرفة، في عدة أحاديث صحيحة، وبعضها في " صحيح مسلم " رقم (1348) ورقم (3014) عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه عز وجل ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء ".

وغاص في ظلام العقل، بسبحه في الجهل والشبهات. وإذا قيل له: أين الله؟ أجاب بأنه لا يقال: أين الله؟ الله لم يكن له مكان كما هو جواب فريقي المضلين. فهل هذا جواب الجهميين (¬1) .... والمريسيين (¬2) أفيدونا بجواب رجاء الثواب {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها} (¬3). ¬

(¬1) الجهمية: نسبة إلى جهم بن صفوان الضال المبتدع، تلميذ الجعد بن درهم أول من صدر عنه القول بخلق القرآن. وهو الذي قال بالإجبار والاضطرار إلى الأعمال، وأنكر الاستطاعات كلها، وزعم أن الجنة والنار تبيدان وتفنيان، وزعم أيضًا أن الإيمان هو المعرفة بالله فقط، وأن الكفر هو الجهل به فقط وقال: لا فعل ولا عمل لأحد غير الله تعالى، وإنما تنسب الأعمال إلى المحلوقين على المجاز. انظر: الفرق بين الفرق (ص211). (¬2) المريسيون: نسبة إلى بشر المريسي، وهو رأس من رءوس القائلين بخلق القرآن. وقال الذهبي في الميزان (1/ 322): عن بشر هذا: مبتدع ضال، لا ينبغي أن يروى عنه، ولا كرامة ... ولم يدرك الجهم بن صفوان، إنما أخذ مقالته، واحتج لها، ودعا إليها وقال أبو النضر هاشم بن القاسم: كان والد بشر المريسي يهوديا قصابا صباغا في سويقة نصر بن مالك ... وقال قتيبة بن سعيد: بشر المريسي كافر. اهـ. (¬3) [النحل: 111]

فإن هذا المقام طال فيه النزاع، وحارت فيه الأفهام، وزلت الأقدام، وكل يدعي الصواب بزخرف الجواب، فأبينوا المدعى بالدليل، وبينوا طريق الحق بالتفصيل والتطويل، ضاعف الله لكم الأجور، ووقاكم الشرور، آمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. انتهى. وأقول: اعلم أن [1أ] الكلام في الآيات والأحاديث الواردة في الصفات قد طالت ذيوله، وتشعبت أطرافه، وتباينت فيه المذاهب، وتفاوتت فيه الطرائق، وتخالفت فيه النحل. وسبب هذا: عدم وقوف المنتسبين إلى العلم حيث أوقفهم الله، ودخولهم في أبواب لم يأذن الله لهم بدخولها، ومحاولتهم لعلم شيء استأثر الله بعلمه، حتى تفرقوا فرقا، وتشعبوا شعبا، وصاروا أحزابا، وكانوا في البداية، ومحاولة الوصول إلى ما يتصورونه من العامة، مختلفي المقاصد، متبايني المطالب. فطائفة: وهي أخف هذه الطوائف المكلفة علم ما لم يكلفها الله سبحانه بعلمه إثما، وأقلها عقوبة وجرما- وهي التي أرادت الوصول إلى الحق، والوقوف على الصواب، لكن سلكت في طلبه طريقة متوعرة، وصعدت في الكشف عنه إلى عقبة كئود لا يرجع من سلكها سالما، فضلا أن يظفر فيها بمطلوب صحيح. ومع هذا، أصلوا أصولا ظنوها حقا، فدفعوا بها آيات قرآنية، وأحاديث صحيحة نبوية، واعتلوا في ذلك الدفع بشبه واهية، وخيالات مختلة. وهؤلاء هم طائفتان: الطائفة الأولى: هي الطائفة التي غلت في التنزيه، فوصلت إلى حد يقشعر عنده الجلد، ويضطرب له القلب، من تعطيل (¬1) الصفات الثابتة بالكتاب والسنة ثبوتا أوضح ¬

(¬1) وهم نفاة الصفات، قال ابن تيمية في شرح حديث النزول ص 74 - 75: ولهذا كان السلف والأئمة يسمون نفاة الصفات: (معطلة)؛ لأن حقيقة قولهم: تعطل ذات الله تعالى، وإن كانوا هم قد لا يعلمون أن قولهم مستلزم للتعطيل، بل يصفونه بالوصفين المتناقضين، فيقولون: هو موجود قديم واجب، ثم ينفون لوازم وجوده فيكون حقيقة قولهم: موجود ليس بموجود حق ليس بحق، خالق ليس بخالق، فينفون عنه النقيضين إما تصريحا بنفيهما، وإما إمساكا عن الإخبار بواحد منهما. فلا يقولون موجود ولا موجود، ولا حي ولا حي، ولا عالم ولا عالم قالوا؛ لأن وصفه بالإثبات تشبيه له بالموجودات، ووصفه بالنفي فيه تشبيه له بالمعدومات فآل بهم إغراقهم في نفى التشبيه إلى أن وضعوه بغاية التعطل.

من شمس النهار، وأظهر من فلق الصبح، وظنوا هذا من صنيعهم موافقا للحق، مطابقا لما يريده الله سبحانه، فضلوا الطريق المستقيم، وأضلوا من رام سلوكها. والطائفة الأخرى: هي الطائفة التي غلت في إثبات القدرة غلوا بلغ إلى حد أنه لا تأثير لغيرها، ولا اعتبار بما سواها، وأفضى ذلك إلى الجبر المحض (¬1) والقسر الخالص ¬

(¬1) الجبر: وهو القول بالجبر الذي يقول به الجبرية، وهم الذين ينفون قدرة العبد ومشيئته، وأوضح فرقة تمثل هذا الاتجاه الجهمية الذين يردون كل شيء إلى الله والعبد عندهم أشبه ما يكون بريشة في مهب الريح. وقد أنكره السلف والأئمة، حيث توسل بذلك قوم إلى إسقاط الأمر والنهي والوعد والوعيد، وأنكر من أنكر منهم ما جعله الله تعالى من الأسباب حتى خرجوا عن الشرع والعقل، وقالوا: إن الله يحدث الشبع والري عند وجود الأكل والشرب لا بهما، ويحدث النبات عند نزول المطر لا به. وهذا خلاف ما جاء به الكتاب والسنة قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57]. وكره السلف أن يقال (جبر) وأن يقال ما جبر. قال الأوزاعي: "ما أعرف للجبر أصلا من القرآن والسنة، فأهاب أن أقول ذلك، ولكن القضاء والقدر والخلف والجبل، فهذا يعرف في القرآن والحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنما وصفت هذا مخافة أن يرتاب رجل من أهل الجماعة والتصديق ". وروي عن الزبيدي عندما سئل عن (الجبر) قال: " أمر الله أعظم وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل، ولكن يقضي ويقدر، ويخلق ويجبل عبد على ما أحب ". انظر: بغية المرتاد (ص 261 - 263) وشرح حديث النزول (ص 252 - 253).

فلم يبق لبعثة الرسل، وإنزال الكتب كثير فائدة، ولا يعود ذلك على عباد لله بعائدة. وجاءوا بتأويلات للآيات البينات، ومحاولات لحجج الله الواضحات، فكانوا كالطائفة الأولى في الضلال والإضلال، مع أن كلا المقصدين صحيح، ووجه كل منهما صبيح، لولا ما شابه من الغلو القبيح. وطائفة توسطت، ورامت الجمع بين الضب (¬1) والنون (¬2)، وظنت أنها قد وقفت بمكان بين الإفراط والتفريط. ¬

(¬1) جمع بين الضب والنون. الضب: حيوان معروف، جمعه ضباب، وكنيته أبو حسل، والحسل ولده. والنون: الحوت، وجمعه نينان، وهذا مثل يضرب في الجمع بين أمرين متنافيين، والتأليف بين شيئين متخالفين. لأن الضب حيوان بري لا يرد الماء ويلازم الصحراء وأكثر ما يكون في الكدى، كما قال خالد بن علقمة: ترى الشر قد أفنى دوائر وجهه ... كضب الكدى أفنى براثينه الحفر لأن في طبعه النسيان وعدم الهدية ولذلك يحفر جحره عند صخرة أو في أكمة لئلا يضل عنه إذا خرج لطلب الطعام، لذلك يقال: أحير من ضب، ومن عجيب أمره أنه يعيش سبعمائة سنة ولا تسقط له سن وهو لا يشرب الماء. ويقال: إنه يبول كل أربعين يوما مرة. ومن كلام العرب: لا أفعل ذلك حتى يرد الضب، كما يقولون: حتى يشيب الغراب. ومن الكلام الموضوع على ألسنة العجماءات، قالت السمكة: رد يا ضب! فقال: أصبح قدي صردا ... لا يشتهي أن يردا (¬2) والنون حيوان بحري لا يفارق الماء أبدا فلا يجتمعان. قال الصابئ: الضب والنون قد يرجى اجتماعهما ... وليس يرجى اجتماع المال والأدب ولما بين الضب والنون من التنافي والتقابل قال حاتم الأصم أو غيره: وكيف أخاف الفقر والله رازقي ... ورازق هذا الخلق في العسر واليسر تكفل بالأرزاق للخلق كلهم ... وللضب في البيدا وللحوت في البحر ولوضوح ذلك يقال عند التجهيل: فلان لا يفرق بين الضب والنون. زهر الأكم في الأمثال والحكم، للحسن اليوسي (2/ 50 - 51) و (2/ 148).

ثم أخذت كل طائفة من هذه الطوائف الثلاث تجادل وتناضل، وتحقق وتدقق [1ب] في زعمها، وتجول على الأخرى وتصول بما ظفرت مما يوافق ما ذهبت إليه {كل حزب بما لديهم فرحون} (¬1)، وعند الله تلتقي الخصوم. ومع هذا فهم متفقون فيما بينهم على أن طريق السلف أسلم، ولكن زعموا أن طريق الخلف أعلم. فكان غاية ما ظفروا به من هذه الأعلمية لطريق الخلف أن تمنى محققوهم وأذكياؤهم في آخر أمرهم دين العجائز، وقالوا هنيئا للعامة. فتدبر هذه الأعلمية التي كان حاصلها أن يهنئ من ظفر بها لأهل الجهل البسيط، ويتمنى أنه في عدادهم، وممن يدين بدينهم، ويمشي على طريقتهم، فإن هذا ينادي بأعلى صوت، ويدل بأوضح دلالة على أن هذه الأعلمية التي طلبوها، الجهل خير منها بكثير، فما ظنك بعلم يقر صاحبه على نفسه أن الجهل خير منه، ويتمنى عند البلوغ إلى غايته والوصول إلى نهايته أن يكون جاهلا به، عاطلا عنه!. ففي هذا عبرة للمعتبرين، وآية بينة للناظرين، فهلا عملوا على جهل هذه المعارف التي دخلوا فيها بادئ بدء، وسلموا من تبعاتها، وأراحوا أنفسهم من تعبها، وقالوا كما قال القائل: أرى الأمر يفضي إلى آخر ... فصير آخره أولاً وربحوا الخلوص من هذا التمني، والسلامة من هذه التهنئة للعامة، فإن العاقل لا يتمنى رتبة مثل رتبته، أو دونه، ولا يهنئ لمن هو مثله أو دونه، بل يكون ذلك لمن رتبته أرفع من رتبته، ومكانه أعلى من مكانه. فيالله العجب من علم يكون الجهل البسيط أعلى رتبة منه، وأفضل مقدارا بالنسبة إليه! وهل سمع السامعون مثل هذه الغريبة، أو نقل الناقلون ما يماثلها ويشابهها؟! وإذا كان هذا حال هذه الطائفة التي قد عرفناك أنها أخف الطوائف تكلفا، وأقلها تبعة، فما ظنك بما عداها من الطوائف التي قد ظهر فساد مقاصدها، وتبين بطلان ¬

(¬1) [الروم: 32]

مواردها ومصادرها، كالطوائف التي أرادت بالمظاهر التي تظاهرت بها كياد الإسلام وأهله، والسعي في التشكيك فيه بإيراد الشبه وتقرير الأمور المفضية إلى القدح في الدين، وتنفير أهله عنه؟!. وعند هذا تعلم أن خير الأمور السالفات على الهدى وشر الأمور المحدثات البدائع، وأن الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة، هو ما كان عليه خير القرون، ثم الذين يلونهم [2أ]، ثم الذين يلونهم (¬1)، وقد كانوا رحمهم الله، وأرشدنا إلى الاقتداء بهم والاهتداء بهديهم يمرون أدلة الصفات على ظاهرها، ولا يتكلفون علم ما لا يعلمون ولا يحرفون ولا يؤلون. وهذا المعلوم من أقوالهم وأفعالهم، والمتقرر من مذاهبهم. ولا يشك فيه شاك، ولا ينكره منكر، ولا يجادل فيه مجادل. وإن نزغ من بينهم نازغ، أو نجم في عصرهم ناجم، أوضحوا للناس أمره، وبينوا لهم أنه على ضلالة، وصرحوا بذلك في المجامع والمحافل، وحذروا الناس من بدعته، كما كان منهم لما ظهر معبد الجهني (¬2) وأصحابه. ¬

(¬1) يشير إلى حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته ". أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2652) ومسلم في صحيحه رقم (2533) والترمذي رقم (3859) وقال: حديث حسن صحيح. وأخرج مسلم في صحيحه رقم (2534) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم" والله أعلم أذكر الثالث أم لا. قال: " ثم يخلف قوم يحبون السمانة، يشهدون قبل أن يستشهدوا ". وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (2651) ومسلم في صحيحه رقم (2535) بلفظ " خيركم ... ". وأخرج مسلم في صحيحه رقم (2536) عن عائشة قالت: سأل رجل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي الناس خير؟ قال: "القرن الذي أنا فيه ثم الثاني، ثم الثالث". (¬2) يقال: هو ابن عبد الله بن عكيم ويقال: ابن عبد الله بن عويمر، ويقال ابن خالد. وكان رأسا في القدر، وهو أول من تكلم في القدر بالبصرة، قدم المدينة فأفسد بها أناسا وذكره أبو زرعة في الضعفاء ومن تكلم فيهم. وقال الدارقطني: حديثه صالح ومذهبه رديء. قال الأوزاعي: أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق، يقال له سوس، كان نصرانيا فأسلم ثم تنصر، فأخذ عنه معبد الجهني، وأخذ غيلان عن معبد، وقال مرحوم بن عبد العزيز العطار عن أبيه وعمه: كان الحسن يقول: إياكم ومعبدا فإنه ضال مضل. مات بعد الثمانين وقبل التسعين. انظر تهذيب التهذيب (10/ 203 - 204 رقم 416).

وقالوا: إن الأمر أنف (¬1) فتبرءوا منه، وبينوا ضلالته، وبطلان مقالته للناس، فحذروه إلا من ختم الله على قلبه، وجعل على بصره غشاوة. وهكذا كان من بعدهم، يوضح للناس بطلان أقوال أهل الضلال، ويحذرهم منها، كما فعله التابعون- رحمهم الله- بالجعد بن درهم (¬2)، ومن قال بقوله، وانتحل نحلته الباطلة ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1/ 36 - 37 رقم 1/ 8) عن يحيى بن يعمر، قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني. فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر. فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد. فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله. فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي. فقلت: أنا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفزون العلم. وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر. وأن الأمر أنف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني. والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه، ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر. إنما الأمر أنف: أي مستأنف استئنافا من غير أن يكون سبق به سابق قضاء وتقدير، وإنما هو مقصور على اختيارك ودخولك فيه. النهاية (1/ 75). ولسان العرب (1/ 238). (¬2) الجعد بن درهم، عداده في التابعين، مبتدع ضال. زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى، فقتل على ذلك بالعراق يوم النحر، والقصة مشهورة. " وللجعد أخبار كثيرة في الزندقة ": منها: أنه جعل قارورة ترابا وماء فاستحال دودا وهوام، فقال: أنا خلقت هذا لأنني كنت سبب كونه فبلغ ذلك جعفر بن محمد، فقال: ليقل كم هو- وكم الذكران منه والإناث- إن كان خلقه، وليأمر الذي يسعى إلى هذا أن يرجع إلى غيره، فبلغه ذلك فرجع " اهـ. ولما ظهر قول الجعد بخلق القرآن تطلبه بنو أمية فهرب منهم فسكن الكوفة فلقيه فيها الجهم بن صفوان فتقلد هذا القول عنه ولم يكن له كثير أتباع غيره. ثم يسر الله تعالى قتل الجعد على يد خالد بن عبد الله القسري الأمير، قتله يوم عيد الأضحى بالكوفة، وذلك لأن خالدا خطب الناس فقال في خطبته تلك: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا، ثم نزل فذبحه في أصل المنبر. أخرجه البخاري في " خلق أفعال العباد " رقم (3) و" التاريخ الكبير " (1/ 64) والدارمي في الرد على الجهمية. ص7، 13 وفي " الرد على المريسي " ص 118. والبيهقي في الأسماء والصفات ص 254، وفي "السنن الكبرى" (10/ 205 - 206) والآجري في الشريعة (ص 97، 328). وإسناده ضعيف لجهالة محمد بن حبيب. وقال الألباني في " مختصر العلو ": لكنه يتقوى بالذي بعده، فإن إسناد خبر منه ولعله لذلك جزم العلماء بهذه القصة. انظر البداية والنهاية لابن كثير (9/ 364 - 365). الميزان (1/ 399 رقم 1482) ولسان الميزان (2/ 105).

ثم ما زالوا هكذا لا يستطيع المبتدع في الصفات أن يتظاهر ببدعته، بل يكتمونها كما تتكتم الزنادقة (¬1) بكفرهم، وهكذا سائر المبتدعين في الدين، على اختلاف البدع وتفاوت المقالات الباطلة. ولكنا نقتصر هاهنا على الكلام في هذه المسألة التي ورد السؤال عنها، وهى مسألة ¬

(¬1) ورد في كتاب " جامع العلوم في اصطلاحات الفنون " (2/ 157) ما يلي: الزندقة ألا يؤمن بالآخرة ووحدانية الخالق ... وعن ثعلب أن الزند معناه: الملحد والدهري، وعن ابن دريد: أنه فارسي معرب، وأصله زنده وهو من يقول بدوام الدهر. وفي " شرح المقاصد ": وإن كان باعترافه بنبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإظهار شعائر الإسلام يبطن العقائد التي هي كفر بالاتفاق خص باسم الزنديق وهو في الأصل منسوب إلى " زند " اسم كتاب أظهره مزدك في أيام " قباذ " وزعم أنه تأويل كتاب المجوس الذي جاء به زرادشت، يزعمون أنه نبيهم. انظر كتاب " من تاريخ الإلحاد في الإسلام " عبد الرحمن بدوي ص 35.

الصفات، وما كان من المتكلمين فيها بغير الحق، المتكلف علم ما لم يأذن الله بأن يعلموه، وبيان أن إمرار أدلة الصفات على ظاهرها هو مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وأن كل من أراد من نزاع المتكلفين، وشذاذ المحدثين، والمتأولين أن يظهر ما يخالف المرور على ذلك الظاهر، قاموا عليه، وحذروا الناس منه، وبينوا لهم أنه على خلاف ما عليه أهل الإسلام. فصار المبتدعون في الصفات، القائلون بأقوال تخالف ما عليه السواد الأعظم من الصحابة والتابعين وتابعيهم في خبايا وزوايا لا يتصل بهم إلا مغرور، ولا ينخدع بزخارف أقوالهم إلا مخدوع، وهم مع ذلك على تخوف من أهل الإسلام، وترقب لتزول مكروه بهم من حماة الدين، من العلماء الهادين، والرؤساء والسلاطين، حتى نجم ناجم المحنة، وبرق بارق الشر من جهة الدولة (¬1)، ومن لهم في الأمر والنهي والإصدار والإيراد أعظم صولة، وذلك في الدولة بسبب قاضيها أحمد بن أبي دؤاد (¬2). ¬

(¬1) في عهد الدولة العباسية كانت محنة القول بخلق القرآن، التي ثبت فيها علماء الأمة أمام زخم البدعة فأيد الله بهم هذا الدين. انظر: " مناقب الإمام أحمد بن حنبل " للحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي ص 387 - 420. (¬2) أحمد بن أبي دؤاد بن جرير، أبو عبد الله القاضي الأيادي. يقال إن اسم أبي دؤاد: الفرج ... والصحيح أن اسمه كنيته. ولي ابن أبي دؤاد قضاء القضاة للمعتصم، ثم للواثق، وكان موصوفا بالجود والسخاء، وحسن الخلق، ووفور الأدب، غير أنه أعلن بمذهب الجهمية، وحمل السلطان على الامتحان بخلق القرآن. قال الحسن بن ثواب: قال: سألت أحمد بن حنبل عمن يقول: القرآن مخلوق؟ قال: كافر. قلت: فابن دؤاد؟ قال كافر بالله العظيم. قلت. بماذا كفر؟ قال: بكتاب الله تعالى، قال الله تعالى: (ولئن اتبعت أهواءكم بعد الذي جاءك من العلم) فالقرآن من علم الله، فمن زعم أن علم الله مخلوق فهو كافر بالله العظيم. وقال عبد العزيز بن يحيى المكي: دخلت على أحمد بن دؤاد وهو مفلوج، فقلت: إني لم آتك عائدا، ولكن جئت أحمد الله على أنه سجنك في جلدك. ولد أحمد بن أبي دؤاد سنة ستين ومائة بالبصرة، ومات في المحرم سنة أربعين ومائتين يوم السبت لسبع بقين منه، ودفن في داره ببغداد وصلى عليه ابنه العباس. انظر: تاريخ بغداد (4/ 141 - 156 رقم 1825).

فعند ذلك أطلع المنكمشون [2ب] في تلك الزوايا رءوسهم، وانطلق ما كان قد خرس من ألسنتهم، وأعلنوا بمذاهبهم الزائفة، وبدعهم المضلة، ودعوا الناس إليها، وجادلوا عنها، وناضلوا المخالفين لها حتى اختلط المعروف بالمنكر، واشتبه على العامة الحق بالباطل، والسنة بالبدعة. ولما كان الله سبحانه قد تكفل بإظهار دينه على الدين كله (¬1)، وبحفظه عن التحريف (¬2)، والتغيير والتبديل، أوجد من علماء الكتاب والسنة في كل عصر من العصور من يبين للناس دينهم، وينكر على أهل البدع بدعهم، فكان لهم- ولله الحمد- المقامات المحمودة، والمواقف المشهودة في نصر الدين، وهتك المبتدعين. وبهذا الكلام القليل الذي ذكرنا، وتعرف أن مذهب السلف (¬3) من الصحابة [رضي الله عنهم] ¬

(¬1) قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) [التوبة: 33]. (¬2) قال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر: 9] (¬3) يقوم على دعائم أربع: 1 - ) الإثبات المفصل المجمل لكل صفة كما ورد بها النص، فيتحقق بهذا قوله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) [الأعراف: 180] وقوله تعالى: (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياما تدعوا فله الأسماء الحسنى) [الإسراء: 110]. وقد تضمنت هذه الدعامة الإيمان بكل صفة لله تعالى كما وردت في الكتاب والسنة. 2 - ) الدعامة الثانية: التنزيه، وعدم التكييف والتشبيه. فيتحقق بهذا قوله تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) [الشورى: 11]. وقوله تعالى: (سبحان ربك رب العزة عما يصفون) [الصافات: 180] ولذلك تضمنت هذه الدعامة تنزيه صفات الرب تعالى عن مشابهة صفات خلقه. 3 - ) الدعامة الثالثة: عدم التأويل المفضي إلى التعطيل. فيتحقق بهذا قوله تعالى: (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف: 180]. والتعطيل: إلحاد في أسماء الله وصفاته. وقد تضمنت هذه الدعامة إثبات كل صفة على الحقيقة كما ورد بها النص من غير صرف له إلى معنى آخر غير ظاهر. 4 - ) الدعامة الرابعة: العلم بالله تعالى والمعرفة به من خلال صفاته فيتحقق بهذا قوله تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص:29]. وقد تضمنت هذه الدعامة أن السلف كانوا يعلمون معاني الصفات ويفرقون بينها بحسب ما دلت عليه مما تعرفه العرب من لسانها فالعلم غير الحياة، والإتيان غير الاستواء على العرش، واليد غير الوجه، وهكذا سائر الصفات. انظر: "الرسالة في اعتقاد أهل السنة " ص 3 - 4 و" مجموع الفتاوى " (6/ 518).

والتابعين وتابعيهم هو إيراد أدلة الصفات على ظاهرها، من دون تحريف لها، ولا تأويل متعسف لشيء منها، ولا جبر ولا تشبيه ولا تعطيل يفضي إليه كثير من التأويل. وكانوا إذا سأل سائل عن شيء من الصفات تلوا عليه الدليل، وأمسكوا عن القال والقيل، وقالوا: قال الله هكذا، ولا ندري بما سوى ذلك، ولا نتكفف، ولا نتكلم بما لم نعلمه (¬1)، ولا أذن الله لنا بمجاوزته، فإن أراد السائل أن يظفر منهم بزيادة على الظاهر زجروه عن الخوض فيما لا يعنيه، ونهوه عن طلب ما لا يمكن الوصول إليه إلا بالوقوع في بدعة من البدع التي هي غير ما هم عليه، وما حفظوه عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحفظه ¬

(¬1) كان السلف أبعد الناس عن الخوض فيما لم يحيطوا به علما مما أخبر الله تعالى عنه من الغيب، فكما أنهم لم يكونوا يحيطون بذات الله علما، يكونوا يحيطون بصفاته علما؛ إذ الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات إلا أن صفاته كانت دليل المعرفة به، ولا تصلح أن تكون كذلك وهي من المتشابه الذي ليس للعباد أن يعلموا حقيقته، وإنما كانت معلومة المعاني عندهم مجهولة الكيف، كما أن ذاته تعالى معلومة عندهم بصفاته، مجهولة الكيف، وهذا معنى إمرار الصفات كما جاءت. انظر: "الرسالة في اعتقاد أهل السنة " ص 4.

التابعون عن الصحابة، وحفظه من بعد التابعين عن التابعين. وكان في هذه القرون الفاضلة الكلمة في الصفات متحددة، والطريقة لهم جميعا متفقة، وكان اشتغالهم بما أمرهم الله بالاشتغال به وكلفهم القيام بفرائضه من الإيمان بالله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، وإنفاق الأموال في أنواع البر، وطلب العلم النافع، وإرشاد الناس إلى الخير على اختلاف أنواعه، والمحافظة على موجبات الفوز بالجنة، والنجاة من النار، والقيام بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر والأخذ على يد الظالم بحسب الاستطاعة، وبما تبلغ إليه القدوة، ولم يشتغلوا بغير ذلك مما لم يكلفهم الله بعلمه، ولا تعبدهم بالوقوف على حقيقته. فكان الدين إذ ذاك صافيا عن كدر البدع، خالصا عن شوب قذر التمذهب، فعلى هذا النمط كان الصحابة-رضي الله عنه- والتابعون وتابعوهم، وبهدي رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-[3 أ] اهتدوا، وبأفعاله وأقواله اقتدوا. فمن قال: إنهم تلبسوا بشيء من هذه المذاهب الناشئة في الصفات أو غيرها، فقد أعظم عليهم الفرية، وليس بمقبول في ذلك، فإن أقوال الأئمة المطلعين على أحوالهم، العارفين بها، الآخذين عن الثقات الأثبات، يرد عليه، ويدفع في وجهه، يعلم ذلك كل من له علم، ويعرفه كل عارف. فاشدد يديك على هذا، واعلم أنه مذهب خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم (¬1)، ودع عنك ما حدث من تلك التمذهبات في الصفات ¬

(¬1) تقدم تخريج الحديث بذكر" القرون الثلاثة" أما زيادة قرن رابع فقد أخرجها أحمد في " المسند " (4/ 267) من طريق شيبان، عن عاصم، عن خيثمة والشعبي عن النعمان بن بشير فذكره. وأخرجها أحمد (4/ 267) من طريق حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة، عن خيثمة بن عبد الرحمن، عن النعمان بن بشير، فذكره. وأخرجها أحمد في المسند (4/ 277 - 278) من طريق أبي بكر عن عاصم، عن خيثمة عن النعمان بن بشير، فذكره. وأورده الهيثمي في المجمع (10/ 19) وقال: رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط، وفي طرقهم عاصم بن بهدلة وهو حسن الحديث، وبقية رجاله رجال أحمد رجال الصحيح. اهـ. وأخرجها ابن حبان في الثقات (8/ 1) من طريق حماد بن سلمة، عن الجريري عن أبي نضرة عن عبد الله بن مولة عن بريدة الأسلمي وذكره. وقال ابن حبان: هذه الفظة: "ثم الذين يلونهم" في الرلبعة تفرد بها حماد بن سلمة وهو ثقة مأمون وزيادة الألفاظ عندنا مقبولة عن الثقات، إذ جائز أن يحضر جماعة شيخا في سماع شيء ثم يخفى على أحدهم بعض الشيء ويحفظه من هو مثله أو دونه في الإتقان كما بيناه في غير موضع من كتبنا. اهـ. والخلاصة أن الحديث صحيح بهذه الزيادة والله أعلم.

وأرح نفسك من تلك العبارات التي جاء بها المتكلمون، واصطلحوا عليها، وجعلوها أصلا يرد إليه كتاب الله وسنة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإن وافقها فقد وافقا الأصول المتقررة في زعمهم، وإن خالفا الأصول المتقررة في زعمهم، ويجعلون الموافق لها من قسم المقبول والمحكم، والمخالف لها من قسم المردود والمتشابه، ولو جئت بألف آية واضحة الدلالة، ظاهرة المعنى، أو ألف حديث مما ثبت في الصحيح لم يبالوا به، ولا رفعوا إليه رءوسهم، ولا عدوه شيئا. ومن كان منكرا لهذا، فعليه بكتب هذه الطوائف المصنفة في علم الكلام، فإنه سيقف على الحقيقة، ويسلم هذه الجملة، ولا يتردد فيها. ومن العجب العجيب والنبأ الغريب أن تلك العبارات الصادرة عن جماعة من أهل الكلام، التي جعلها من بعدهم أصولا- لا مستند لها إلا مجرد الدعوى على العقل، والفرية على الفطرة، وكل فرد من أفرادها قد تنازعت فيه عقولهم، وتخالفت عنده إدراكاتهم، فهذا يقول: حكم العقل في هذا الكلام كذا، وهذا يقول: حكم العقل في هذا كذا، ثم يأتي بعدهم من يجعل ذلك الذي يعقله من تقلده ويقتدي به، أصلا يرجع إليه، ومعيارا لكلام الله [تعالى] وكلام رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقبل منهما ما وافقه

ويرد ما خالفه. فيا لله، ويا للمسلمين، ويا لعلماء الدين من هذه الفواقر [3ب] الموحشة التي لم يصب الإسلام وأهله بمثلها. وأعزب من هذا وأعجب، وأشنع وأفظع أنهم بعد أن جعلوا هذه التعقلات التي تعقلوها، على اختلافهم فيها وتناقضهم في معقولاتها، أصولا ترد إليها أدلة الكتاب والسنة، جعلوها أيضًا معيارا لصفات الرب تعالى، فما تعقله هذا من صفات الله قال به جزما، وما تعقله خصمه منها قطع به، فأثبتوا لله- عز وجل- الشيء ونقيضه، استدلالا بما حكمت به في صفات الله عقولهم الفاسدة، وتناقضت في شأنه، ولم يلتفتوا إلى ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]، بل إن وجدوا ذلك موافقا لما تعقلوه جعلوه مؤيدا له ومقويا، وقالوا: قد ورد دليل السمع مطابقا لدليل العقل. وإن وجدوه مخالفا لما تعقلوه جعلوه واردا على خلاف الأصل، ومتشابها وغير معقول المعنى، ولا ظاهر الدلالة. ثم قابلهم المخالف لهم بنقيض قولهم، فافترى على عقله بأنه قد تعقل خلاف ما تعقله خصمه، وجعل ذلك أصلا يرد إليه أدلة الكتاب والسنة، وجعل المتشابه عند أولئك محكما عنده، والمخالف لدليل العقل عندهم موافقا له عنده، فكان حاصل كلام هؤلاء أنهم يعلمون من صفات الله ما لا يعلمه، وكفاك بهذا، وليس بعده شيء، وعنده يتعثر القلم حياء من الله- عز وجل-. وربما استبعد هذا مستبعد، واستكثره مستكثر، وقال: إن في كلامي هذا مبالغة وتهويلا وتشنيعا وتطويلا، وإن الأمر أيسر من أن يكون حاصله هذا الحاصل، وثمرته مثل هذه الثمرة التي أشرت إليها. فأقول: خذ جملة البلوى، ودع تفصيلها، واسمع ما يصك سمعك، ولولا هذا الإلحاح منك ما سمعته، ولا جرى القلم بمثله.

هذا أبو علي (¬1)، وهو رأس من رءوسهم، وركن من أركانهم، وأسطوانة من أساطينهم، قد حكى عنه الكبار، آخر من حكى عنه ذلك صاحب شرح القلائد (¬2) والله لا يعلم الله من نفسه إلا ما يعلم هو. فخذ هذا التصريح حيث لم تكتف بذلك التلويح، وانظر هذه الجرأة على الله [سبحانه] (¬3) التي ليس بعدها جرأة، فيا لأم أبي علي الويل، أينهق مثل هذا النهيق ويدخل نفسه إلى هذا المضيق!؟ وهل سمع السامعون بيمين أفجر من هذه اليمين الملعونة؟ أو نقل الناقلون عن مسلم كلمة تقارب معنى [4أ] هذه الكلمة المفتونة؟ أو بلغ مفتخر إلى ما بلغ إليه هذا المختال الفخور؟ أو وصل من يفجر في أيمانه إلى ما يقارب هذا الفجور؟ وكل عاقل يعلم أن أحدنا لو حلف أن ابنه أو أباه لا يعلم من نفسه إلا ما يعلمه هو لكان كاذبا في يمينه، فاجرا فيها؛ لأن كل فرد من أفراد الناس ينطوي على صفات وغرائز لا يحب أن يطلع عليها غيره، ويكره أن يقف على شيء منها سواه، ومن ذا الذي يدري بما يجول في خاطر غيره! ويستكن في ضميره، ومن ادعى علم ذلك، وأنه يعلم من غيره من بني آدم ما يعلمه ذلك الغير من نفسه، ولا يعلم ذلك الغير من ¬

(¬1) هو محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي أبو علي، من أئمة المعتزلة. ورئيس علماء الكلام في عصره، وإليه نسبة الطائفة " الجبائية " له مقالات وآراء انفرد بها في المذهب. نسبته إلى جبي (من قرى البصرة) اشتهر في البصرة، ودفن بجبي. له " تفسير " حافل مطول، رد عليه الأشعري. ولد سنة خمس وثلاثين ومائتين. ومات سنة ثلاث وثلاثمائة. الأعلام للزركلي (6/ 256) واللباب في تهذيب الأنساب لابن الأثير (1/ 255 - 256). (¬2) اسم الكتاب" الدرر الفرائد شرح القلائد " للإمام المهدي أحمد بن يحيى بن المرتضى الذي ولد بمدينة ذمار يوم الاثنين لعله سابع شهر رجب سنة 775هـ قرأ علم العربية حتى برع فيها، ثم أخذ علم الكلام، ونهل من علم الفقه، ودرس الكشاف، وتبحر في العلوم واشتهر فضله، وبعد صيته، وله مؤلفات عديدة. وقد توفي في شهر ذي القعدة سنة 840 هـ وقبره بظفير حجة مشهور. البدر الطالع (1/ 122 - 126 رقم 77). (¬3) زيادة يستلزمها السياق.

نفسه إلا ما يعلمه هذا المدعي، فهو إما مصاب العقل، يهذي بما لا يدري، ويتكلم بما لا يفهم، أو كاذب شديد الكذب، عظيم الافتراء، فإن هذا أمر لا يعلمه غير الله - سبحانه-، فهو الذي يحول بين المرء وقلبه، ويعلم ما توسوس به نفسه، وما يسر عباده وما يعلنون، وما يظهرون وما يكتمون كما أخبرنا بذلك في كتابه (¬1) العزيز في غير موضع. فقد خاب وخسر من أثبت لنفسه من العلم ما لا يعلمه إلا الله من عباده، فما ظنك بمن جاوز هذا وتعداه، وأقسم بالله [سبحانه] أن الله لا يعلم من نفسه إلا ما يعلمه هو؟! ولا يصح لنا أن نحمله على اختلال العقل، فلو كان مجنونا لم يكن رأسا يقتدي بقوله جماعات من أهل عصره، وممن جاء بعده وينقلون كلامه في الدفاتر، ويحكون عنه في مقامات الاختلاف. ولعل أتباع هذا ومن يقتدي بمذهبه لو قال لهم قائل وأورد عليهم مورد قول الله -عز وجل- {ولا يحيطون به علما} (¬2)، وقوله: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} (¬3)، وقال لهم: هذا يرد ما قاله صاحبهم، ويدل على أن يمينه هذه فاجرة مفتراة، لقالوا: هذا ونحوه مما يدل دلالته، ويفيد مفاده، هو من المتشابه ¬

(¬1) (منها): قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) [ق:16]. وقوله تعالى: (أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) [البقرة: 77]. وقوله تعالى: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ) [الأنعام: 3]. وقوله تعالى: (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) [طه: 7]. (¬2) [طه: 110] (¬3) [البقرة: 255]

الوارد على خلاف دليل العقل، المدفوع بالأصول المقررة. وبالجملة، فإطالة ذيول الكلام في مثل هذا المقام إضاعة للأوقات، واشتغال بحكاية الخرافات المبكيات، لا المضحكات. وليس مقصودنا هاهنا إلا إرشاد السائل إلى أن المذهب الحق في الصفات هو إمرارها على ظاهرها من غير تأويل، ولا تحريف، ولا تكلف، ولا تعسف، ولا جبر، ولا تشبيه، ولا تعطيل [4ب] وأن ذلك هو مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم. فإن قلت: ماذا تريد بالتعطيل في مثل هذه العبارات التي تكررها؟ فإن أهل المذاهب الإسلامية يتنزهون عن ذلك، ويتحاشون عنه، ولا يصدق معناه، ولا يوجد مدلوله إلا في طائفة من طوائف الكفار، وهم المنكرون للصانع؟. قلت: يا هذا، إن كنت ممن له إلمام بعلم الكلام الذي اصطلح عليه طوائف من أهل الإسلام، فإنه لا محالة قد رأيت ما يقوله كثير منهم، ويذكرونه في مؤلفاتهم، ويحكونه عن أكابرهم، أن الله- سبحانه وتعالى، وتنزه وتقدس- لا هو جسم، ولا جوهر، ولا عرض، ولا داخل العالم ولا خارجه (¬1). فأنشدك الله، أي عبارة تبلغ مبلغ هذه العبارة في النفي؟! وأي مبالغة في الدلالة على هذا النفي تقوم مقام هذه المبالغة؟! فكأن هؤلاء في فرارهم من شبهة التشبيه إلى هذا التعطيل كما قال القائل: فكنت كالساعي إلى مثعب ... موائلا من سبل الراعد (¬2) أو كالمستجير من الرمضاء (¬3) بالنار، والهارب من لسعة الزنبور إلى لدغة الحية، ومن ¬

(¬1) انظر رد ابن تيمية على هؤلاء في منهاج السنة (2/ 130 - وما بعدها). الأسماء والصفات (1/ 38 - 40) لابن تيمية وتلبيس الجهمية (1/ 89). (¬2) المثعب: مسيل الماء في الوادي. الموائل: طالب النجاة. وهو مثل يضرب لمن يهرب من الشيء فيقع بما هو أشد منه. (¬3) يضرب في الخلتين من الإساءة تجتمعان على الرجل.

قرصة النملة إلى قضمة الأسد. وقد كان يغني هؤلاء وأمثالهم من المتكلمين المتكلفين كلمتان من كتاب الله عز وجل، وصف بهما نفسه، وأنزلهما على رسوله وهما: {ولا يحيطون به علما} (¬1) و {ليس كمثله شيء} (¬2). فإن هاتين الكلمتين قد اشتملتا على فصل الخطاب، وتضمنتا بما يغني أولي الألباب السالكين في تلك الشعاب والهضاب، الصاعدين في متوعدات هاتيك العقاب، فالكلمة منها دلت دلالة بينة على أن كل ما تكلم به البشر في ذات الله وصفاته على وجه التدقيق، ودعاوى التحقيق فهو مشوب بشعبة من شعب الجهل، مخلوط بخلوط هي منافية للعلم، ومباينة له. فإن الله سبحانه قد أخبرنا أنهم لا يحيطون به علما، فمن زعم أن ذاته كذا أو صفته كذا فلا شك أن صحة ذلك متوقفة على الإحاطة، وقد نفيت عن كل فرد؛ لأن هذه القضية هي في قوة لا يحيط به فرد من الأفراد علما. فكل قول من أقوال المتكلفين صادر عن جهل، إما من كل وجه أو من بعض الوجوه، وما صدر عن جهل فهو مضاف إلى جهل، ولا سيما إذا كان في ذات الله [5أ] وصفاته، فإن ذلك من المخاطرة في الدين ما لم يكن في غيره من المسائل، وهذا يعلمه كل ذي علم، ويعرفه كل عارف. ولم يحط بفائدة هذه الآية، ويقف عندها، ويقتطف من ثمراتها إلا الممرون للصفات على ظاهرها، المريحون أنفسهم من التكلفات والتعسفات التأويلات والتحريفات، وهم السلف الصالح-كما عرفت- فهم الذين اعترفوا بالإحاطة، وأوقفوا أنفسهم حيث أوقفها الله، وقالوا: الله أعلم بكيفية ذاته وماهية صفاته، بل العلم كله له، وقالوا كما قال من ¬

(¬1) [طه: 110] (¬2) [الشورى: 11]

قال (¬1) ممن اشتغل بطلب هذا المحال، فلم يظفر بغير القيل والقال: العلم للرحمن جل جلاله ... وسواه في جهلاته يتغمغم ما للتراب وللعلوم وإنما ... يسعى ليعلم أنه لا يعلم بل اعترف كثير من هؤلاء المتكلفين بأنه لم يستفد من تكلفه وعدم قنوعه بما قنع به السلف الصالح إلا بمجرد الحيرة التي وجد عليها غيره من المتكلفين فقال: (¬2) ¬

(¬1) فخر الدين الرازي محمد بن عمر القرشي المتوفى 606 هـ فقد سطر في آخر عمره اعترافه بفساد علم الكلام وبطلانه فقال: " لقد تأملتُ الطرقَ الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن أقرأ في الإثبات: (الرحمن على العرش استوى) [طه: 5] و (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) [فاطر: 10] وأقرأ في النفي: (ليس كمثله شيء) [الشورى: 11] (ولا يحيطون به علما) [طه: 110] (هل تعلم له سميا) [مريم: 65]. من جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي وأنشد: نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا وقال: من لزم مذهب العجائز كان هو الفائز. انظر: درء التعارض (1/ 660)، الحموية (ص 207 - 208) البداية والنهاية (13/ 56)، منهاج السنة (5/ 271). (¬2) وهو أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني المتوفى سنة 548 هـ أو 549 هـ فقد ورد عنه أنه قال: " عليكم بدين العجائز فهو من أسنى الجوائز ". وأخبر عما انتهى إليه أمر هؤلاء الفلاسفة والمتكلمين من الحيرة، والندم وقد كان منهم ثم أنشد: لقد طفت في تلك المعاهد ... وقد رد عليه الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله تعالى بقوله: لعلك أهملت الطواف بمعهد ... الرسول ومن والاه من كل عالم فما حار من يهدي بهدي محمد ... ولست تراه قارعا سن نادم انظر: ديوان الإمام الصنعاني ص369، وانظر: ترجمة أبو الفتح وكلامه، درء التعارض (1/ 159) منهاج السنة (5/ 270) الفتوى الحموية ص 7.

وقد طفت في تلك المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعا كف حائر ... على ذقن أو قارعا سن نادم (¬1) وها أنا أخبرك عن نفسي، وأوضح لك ما وقعت فيه في أمسي، فإني في أيام الطلب، وعنفوان الشباب شغلت بهذا العلم الذي سموه تارة علم الكلام، وتارة علم التوحيد، وتارة علم أصول الدين، وأكببت على مؤلفات الطوائف المختلفة منهم، ورمت الرجوع بفائدة، والعود بعائدة، فلم أظفر من ذلك بغير الخيبة والحيرة، وكان ذلك من الأسباب التي حببت إلي مذهب السلف، على أني كنت قبل ذلك عليه، ولكن أردت أن أزداد فيه بصيرة، وبه شغفا، وقلت عند النظر في تلك المذاهب: وغاية ما حصلته من مباحثي ... ومن نظري من بعد طول التدبر هو الوقف ما بين الطريقين حيرة ... فما علم من لم يلق غير التحير على أنني قد خضت منه غماره ... وما قنعت نفسي بدون التبحر [5ب] (¬2). وأما الكلمة الثانية، وهي {ليس كمثله شيء} (¬3) فبها يستفاد نفي المماثلة في كل شيء، فيدفع بهذه الآية في وجه المجسمة، ويعرف بها الكلام عند وصفه سبحانه بالسميع والبصير، وعند ذكر السمع والبصر واليد والاستواء ونحو ذلك مما اشتمل عليه الكتاب والسنة، فيقرر بذلك الإثبات لتلك الصفات لا على وجه المماثلة والمشابهة للمخلوقات، فيندفع به جانبي الإفراط والتفريط، وهما المبالغة في الإثبات، المفضية إلى التجسيم، والمبالغة في النفي المفضية إلى التعطيل، فيخرج من بين الجانبين وغلو الطرفين ¬

(¬1) وقد نسب ابن خلكان هذه الأبيات لابن سينا كما في ديوان الصنعاني ص 369. وهى في نهاية الأقدام ص3 للشهرستاني. (¬2) للشوكاني في ديوانه ص189. (¬3) [الشورى: 11]

أحقية مذهب السلف الصالح، وهو قولهم بإثبات ما أثبته لنفسه من الصفات على وجه لا يعلمه إلا هو، فإنه القائل: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} (¬1). ومن جملة الصفات التي أمَرَّهَا السلف على ظاهرها، وأجروها على ما جاء به القرآن والسنة من دون تكليف ولا تأويل: صفة الاستواء التي ذكرها السائل، فإنهم يقولون: نحن نثبت ما أثبته الله لنفسه من استوائه على عرشه، على هيئة لا يعلمها إلا هو، وفي كيفية لا يدري بها سواه، ولا نكلف أنفسنا غير هذا، فليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، ولا يحيط عباده به علما. وهكذا يقولون في مسألة الجهة التي ذكرها السائل، وأشار إلى بعض ما فيه دليل عليها، والأدلة في ذلك طويلة كثيرة في الكتاب والسنة. وقد أجمع أهل العلم منها لا سيما أهل الحديث مباحث طولوها بذكر آيات قرآنية، وأحاديث صحيحة. وقد وقفت من ذلك على مؤلف (¬2) بسيط في مجلد جمعه مؤرخ الإسلام الحافظ الذهبي (¬3) رحمه الله استوفى فيه كل ما فيه دلالة على الجهة من كتاب، أو سنة ¬

(¬1) [الشورى: 11] (¬2) وهو كتاب " العلو للعلي الغفار " للذهبي. وقد اختصره المحدث الألباني مقتصرا على الصحيح منه. ومثله: كتاب" إثبات صفة العلو" للإمام أبي محمد عبد الله بن قدامة المقدسي. كتاب "علو الله على خلقه " للدكتور موسى بن سليمان الدويش. (¬3) هو الإمام الحافظ، مؤرخ الإسلام: شمس الدين، أبو عبد الله، محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز بن عبد الله التركماني الفارقي الشافعي الدمشقي الشهير بالذهبي. ولد في شهر ربيع الآخر سنة 673 هـ في قرية كفر بطنا في غوطة دمشق، ونشأ الذهبي في أسرة علمية متدينة اعتنت بإرساله إلى مشايخ دمشق المشهورين، وقد توجه اهتمامه إلى علم القراءات والحديث، ووصل إلى مصر والشام وزار أكثر المدن لتلقي العلم حتى ضرب بعلمه المثل. تولى الذهبي عدة وظائف علمية في دمشق شملت الخطابة والتدريس والمشيخة في كبريات دور الحديث ولم تشغله هذه الوظائف عن البحث والتأليف، بل ترك ثروة علمية عظيمة من أهمها: تاريخ الإسلام الكبير ويقع في تسعة وأربعين مجلدا، وسير أعلام النبلاء ويقع في (25) مجلدا، وميزان الاعتدال ويقع في (4) مجلدات. توفي في ليلة الاثنين (3) ذو القعدة سنة 748 هـ ودفن بمقابر باب الصغير بدمشق. الأعلام للزركلي (5/ 326).

أو قول صاحب. والمسألة أوضح من أن تلتبس على عارف، وأبين من أن يحتاج فيها إلى التطويل، ولكنها لما وقعت فيها تلك القلاقل والزلازل الكائنة بين بعض الطوائف الإسلامية كثر الكلام فيها، وفي مسألة الاستواء، وطال خصوصا بين الحنابلة وغيرهم من أهل المذاهب، فلهم في ذلك تلك الفتن الكبرى والملاحم العظمى، وما زالوا هكذا في عصر بعد عصر. والحق هو ما عرفناك من مذهب [6أ] السلف الصالح، فالاستواء على العرش والكون في تلك الجهة قد صرح به القرآن الكريم في مواطن يكثر حصرها، ويطول نشرها وكذلك صرح به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غير حديث (¬1)، بل هذا مما يجده كل فرد من أفراد المسلمين في نفسه، ويحسه في فطرته، وتجذبه إليه طبيعته كما تراه في كل من استغاث بالله سبحانه وتعالى، والتجأ إليه، ووجه أدعيته إلى جنابه الرفيع، وعزه المنيع، فإنه يشير عند ذلك بكفه، أو يرمي إلى السماء بطرفه، ويستوي في ذلك عند عروض أسباب الدعاء، وحدوث بواعث الاستغاثة، ووجود مقتضيات الإزعاج، وظهور دواعي (¬2). ¬

(¬1) تقدم في حديثه الجارية. وحديث أبي سعيد الخدري. (¬2) لعله يشير المؤلف رحمه الله إلى الأيدي وظهور دواعي الالتجاء، كما في حديث أنس أن رجلا دخل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائما فقال: يا رسول الله هلكت المواشي، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا. قال: فرفع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يديه ... أخرجه البخاري رقم (1013) ومسلم رقم (897). وقد ورد في رفع اليدين في الدعاء أكثر من مائة حديث في وقائع متفرقة. انظر الصحيحة رقم (2941).

الالتجاء- عالم الناس وجاهلهم، والماشي على طريقة السلف والمقتدي بأهل التأويل، القائلين بأن الاستواء هو الاستيلاء (¬1) - كما قاله جمهور المتأولين، أو الإقبال (¬2). -كما قاله أحمد بن يحيى (¬3) ثعلب. . .، والزجاج (¬4) والفراء (¬5) وغيرهم، أو كناية عن ¬

(¬1) تقدم التعليق على ذلك. (¬2) قال ابن كثير في تفسيره (1/ 213): (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ)، أي: قصد إلى السماء والاستواء هاهنا تضمن معنى القصد والإقبال. (¬3) هو أحمد بن يحيى بن يسار الشيباني مولاهم الإمام البغدادي أبو العباس ثعلب، إمام الكوفيين في النحو واللغة، ولد سنة 200 هـ، وابتدأ النظر في العربية والشعر واللغة وسنه ستة عشرة، وحفظ كتب الفراء فلم يشذ منها حرف، وعني بالنحو أكثر من غيره، فلما أتقنه أكبّ على الشعر والمعاني والغريب. من مصنفاته: المصون في النحو، واختلاف النحويين، ومعاني القرآن. وثقل سمعه بآخره، ثم صم، وتوفي يوم السبت لعشر خلون من جمادى الأولى سنة 291 هـ. بغية الوعاة للسيوطي (1/ 396 رقم 787). (¬4) هو أبو إسحاق إبراهيم بن السري، عالم بالنحو واللغة، كان من أهل الفضل والدين، حسن الاعتقاد، وكان في فتوته يخرط الزجاج، ثم مال إلى النحو، معلمه المبرد، واختص بصحبة الوزير عبيد الله بن سليمان بن وهب، وعلَّم ولده القاسم الأدب، أخذ عنه الزجاجي وغيره. من مؤلفاته: معاني القرآن وإعرابه، والاشتقاق. توفي سنة 310 هـ. انظر: بغية الوعاة (1/ 411 - 413 رقم 825). (¬5) هو يحيى بن زياد بن عبد الله بن منصور الديلمي، أبو زكريا المعروف بالفراء، أعلم الكوفيين بالنحو واللغة وفنون الأدب، فقيه متكلم، عالم بأيام العرب وأخبارها، عارف بالنجوم والطب، ولد في الكوفة سنة 144 هـ، ودرس اللغة والقرآن بها وبالبصرة وبغداد على الرواسي ويونس بن حبيب والكسائي، وانتقل إلى بغداد، واتخذه المأمون العباسي مؤدبا لولديه، فكان أكثر مقامه فيها، فإذا كان آخر السنة أتى الكوفة فأقام أربعين يوما يفرق في أهله ما جمعه. وكان يميل إلى الاعتزال. ومات الفراء بطريق مكة سنة 207 هـ. معجم المفسرين لعادل نويهض (2/ 729).

الملك (¬1) والسلطان كما قاله آخرون. فالسلامة والنجاة في إمرار ذلك على الظاهر، والإذعان بأن الاستواء والكون على ما نطق به الكتاب والسنة من دون تكييف ولا تكلف، ولا قيل ولا قال، ولا فضول في شيء من المقال. فمن جاوز هذا المقدار بإفراط أو تفريط فهو غير مقتد بالسلف، ولا واقف في طريق النجاة، ولا معتصم عن الخطأ، ولا سالك في طريق السلامة والاستقامة (¬2). وكما تقول هكذا في الاستواء والكون في تلك الجهة, فكذا تقول في مثل قوله ¬

(¬1) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج (1/ 107) وانظر رد ابن تيمية على ذلك في الأسماء والصفات (2/ 109). (¬2) والخلاصة: إن " علو الله تعالى " ثابت بالكتاب والسنة والعقل والفطرة والإجماع. أما الكتاب: فقد تنوعت دلالته على ذلك: فتارة بلفظ "العلو" و"الفوقية" و"الاستواء" على العرش " و" كونه في السماء ": قال تعالى: (وهو العلي العظيم) [البقرة: 255]. قال تعالى: (وهو القاهر فوق عباده) [الأنعام: 18]. قال تعالى: (الرحمن على العرش استوى) [طه: 5]. وتارة بلفظ صعود الأشياء وعروجها ورفعها إليه: قال تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب) [فاطر: 10]. قال تعالى: (تعرج الملائكة والروح إليه) [المعارج: 4]. قال تعالى: (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي) [آل عمران: 55]. وتارة بلفظ " نزول الأشياء منه " ونحو ذلك ... . قال تعالى: (قل نزله روح القدس من ربك) [النحل: 102]. قال تعالى: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض) [السجدة: 5]. وأما السنة: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سجوده: "سبحان ربي الأعلى". أخرجه مسلم في صحيحه رقم (203/ 772) من حديث حذيفة، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه, إن رحمتي سبقت غضي" من حديث أبي هريرة. أخرجه البخاري رقم (7422) ومسلم رقم (2751). وقوله: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء" وقد تقدم تخريجه. وثبت عنه أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رفع يده وهو على المنبر يوم الجمعة يقول: "اللهم أغثنا". أخرجه البخاري رقم (1014) ومسلم رقم (8/ 897). وأما العقل: فقد دل على وجوب صفة الكمال لله تعالى وتنزيهه عن النقص والعلو صفة كمال والسفل نقص فوجب لله تعالى صفة العلو وتنزيهه عن ضده. وأما الفطرة: فقد دلت على علو الله تعالى دلالة ضرورية فطرية: فما من داع أو خائف فزع إلى ربه تعالى إلا وجد في قلبه ضرورة الاتجاه نحو العلو لا يلتفت عن ذلك يمنة ولا يسرة، واسأل المصلين يقول الواحد منهم في سجوده " سبحان ربي الأعلى ". وأما الإجماع: فقد أجمع الصحابة والتابعون والأئمة على: أن الله فوق سماواته مستو على عرشه. قال الأوزاعي: "كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما جاءت به السنة من الصفات ". وهو أثر صحيح. أخرجه الذهبي في العلو (ص 138 - مختصر). وقال ابن تيمية في " الفتوى الحموية " (ص43) إسناده صحيح. والبيهقي في الأسماء والصفات (ص 408).

سبحانه: {وهو معكم أين ما كنتم} (¬1) و {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم} (¬2) وفي نحو {إن الله مع الصابرين} (¬3)، {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} (¬4) إلى ما يشابه ذلك ويماثله ويقاربه ويضارعه. فنقول في مثل هذه الآيات (¬5) هكذا جاء القرآن أن الله سبحانه مع هؤلاء، ولا ¬

(¬1) [الحديد: 4] (¬2) [المجادلة: 7] (¬3) [الأنفال: 46] (¬4) [النحل: 128] (¬5) قال ابن تيمية في الفتوى الحموية ص 147: وذلك أن كلمة (مع) في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة، من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى. فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا، أو والنجم معنا. ويقال: هذا المتاع معي لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك. فالله مع خلقه حقيقة، وهو فوق عرشه حقيقة. ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد فلما قال: (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها) إلى قوله: (وهو معكم أين ما كنتم) [الحديد: 4]. دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية، ومقتضاها أنه مطلع عليكم شهيد عليكم ومهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول السلف: أنه معهم بعلمه وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته. فلفظ المعية قد استعمل في الكتاب والسنة في مواضع يقتضي في كل موضع أمورا لا يقتضيها في الموضع الآخر، فأما أن تختلف دلالتها بحسب المواضع. أو تدل على قدر مشترك بين جميع مواردها- وإن امتاز كل موضع بخاصية- فعلى التقديرين ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب عز وجل مختلطة بالخلق، حتى يقال قد صرفت عن ظاهرها. ولا يحسب الحاسب أن شيئا من ذلك يناقض بعضه بعضا ألبتة، مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله تعالى: (وهو معكم أين ما كنتم) [الحديد:4]. وذلك أن الله معنا حقيقة وهو فوق العرش حقيقة، كما جمع بينهما في قوله سبحانه وتعالى: (وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد:4]. فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء وهو معنا أينما كنا. الفتوى الحموية (ص146 - 147).

نتكلف بتأويل ذلك كما يتكلف غيرنا بأن المراد بهذا الكون وهذه المعية هو كون العلم ومعيته، فإن هذه شعبة من شعب التأويل (¬1)، تخالف مذاهب السلف، وتباين ما كان ¬

(¬1) كذا قال رحمه الله، وليس هذا الصواب، بل السلف الصالح من الصحابة والتابعين هم الذين فسروا هذه المعية بمعية العلم والاطلاع، ولعل الشوكاني لم يقف على أقاويل السلف في هذه الآيات عند تحرير الجواب؛ لأننا نجده في تفسير "فتح القدير" قد فسرها على مذهب السلف. فقال: (5/ 166): (وهو معكم أين ما كنتم) أي: بقدرته وسلطانه وعلمه، وقال أيضًا (5/ 187): ومعنى (أينما كنتم) إحاطة علمه بكل تناج يكون منهم، في أي مكان من الأمكنة. قال الآجري في " الشريعة " ص 288: فإن قال القائل: فأيش معنى قوله: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم) [المجادلة: 7] التي بها يحتجون؟ قيل له: علمه عز وجل والله على عرشه وعلمه محيط بهم وبكل شيء من خلفه، كذا فسره أهل العلم. والآية تدل أولها وآخرها على أنه العلم. انظر " مختصر العلو " (ص 138 - 139) رقم (124، 125، 126). وذكر ابن رجب في شرح "الحديث التاسع والعشرين" من الأربعين النووية: أن المعية الخاصة تقتضي النصر والتأييد والحفظ والإعانة. قال تعالى: (لا تحزن إن الله معنا) [التوبة: 40]. قال تعالى: (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) [النحل: 128]. وأن المعية العامة تقتضي علمه واطلاعه ومراقبته لأعمالهم ". وقال ابن كثير في تفسير آية المعية في: سورة المجادلة (8/ 42) ولهذا حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه المعية معية علمه ". قال: " ولا شك في إرادة ذلك، ولكن سمعه أيضًا مع علمه بهم وبصره نافذ فيهم، فهو سبحانه مطلع على خلقه لا يغيب عنه من أمورهم شيء ". ا هـ. قال ابن تيمية في العقيدة الواسطية (ص 115): "وليس معنى قوله: (وهو معكم) [الحديد: 4] أنه مختلط بالحق، فإن هذا لا توجبه اللغة، بل القمر آية من آيات الله تعالى من أصغر مخلوقاته، وهو موضوع في السماء، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان". اهـ. ولم يذهب إلى هذا المعنى الباطل إلا "الحلولية" من قدماء "الجهمية" وغيرهم الذين قالوا: إن الله بذاته في كل مكان، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. خلاصة القضية: 1 - ): معية الله تعالى لخلقه ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع السلف. 2 - ): هذه المعية حق على حقيقتها لكنها معية تليق بالله تعالى ولا تشبه معية أي مخلوق لمخلوق. 3 - ): هذه المعية تقتضي الإحاطة بالخلق علما وقدرة وسمعا وبصرا وسلطانا وتدبيرا. 4 - ): هذه المعية لا تقتضي أن يكون الله تعالى مختلطا بالخلق أو حالا في أمكنتهم. 5 - ): هذه المعية لا تناقض ما ثبت لله تعالى من علوه على خلقه واستوائه على عرشه. وقد تقدم توضيح ذلك وشرحه. وانظر الفتوى الحموية (ص 107 - 120) والعقيدة الواسطية (ص 115) الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن القيم في المثال التاسع (ص 409) مختصر العلو (ص 138 - 139).

عليه الصحابة والتابعون وتابعوهم. وإذا انتهيت إلى السلامة في مداك فلا تجاوزه: وهذا الحق ليس به خفاء ... فدعني من بنيات الطريق [6 ب] وقد هلك المتنطعون (¬1) ولا يهلك على الله إلا هالك، وعلى نفسها (¬2) براقش تجني. وفي هذه الجملة- وإن كانت قليلة- ما يغني من شح بدينه، وتحرص عليه عن تطويل المقال، وتكثير ذيوله وتوسيع دائرة فروعه وأصوله، والمهدي من هداه الله. حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني في شهر ربيع الآخر بحصن كوكبان حامدا لله سبحانه مصليا مسلما على رسوله وآله سنة 1228 هـ. [انتهت الرسالة المفيدة يوم الثلاثاء بعد العصر لعله (18) شهر ربيع أول من سنة خمسة وسبعين ومائتين بعد الألف (1275هـ) ختمها الله بحق محمد وآله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (¬3). ¬

(¬1) يشير إلى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هلك المتنطعون " قالها ثلاثا. وهو من حديث عبد الله بن مسعود. أخرجه مسلم رقم (7/ 2670) وأبو داود رقم (4608). هلك المتنطعون، أي: المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم. (¬2) مثل يضرب لمن يعمل عملا يرجع ضرره إليه. قال في مجمع الأمثال للميداني (2/ 337 - 338): كانت براقش كلبة لقوم من العرب، فأغير عليهم، فهربوا ومعهم براقش فاتبع القوم آثارهم بنباح براقش، فهجموا عليهما فاصطلموهم، قال حمزة بن بيض: لم تكن عن جناية لحقتني ... لا يساري ولا يميني رمتني بل جناها أخ علي كريم ... وعلى أهلها براقش تجني (¬3) زيادة من المخطوطة " ب ".

الدر النضيد في إخلاص التوحيد

الدر النضيد في إخلاص التوحيد تأليف: محمد بن علي الشوكاني حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه: محفوظة بنت علي شرف الدين أم الحسن

وصف مخطوطة الأسئلة 1 - في أعلى الصفحة الأولى مكتوب بخط الإمام الشوكاني رحمه الله العبارة التالية: "هذا السؤال كتبه إلي القاضي العلامة محمد بن أحمد مشحم رحمه الله، وأجبت بالرسالة الآتية ". 2 - أول الأسئلة: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله. وبعد: فإنه خطر بالخاطر الفاتر القاصر تحرير هذا السؤال عما أهمه من مسألة التوسل بالأنبياء والأولياء الأكابر. 3 - آخر الأسئلة: .... ثم نقل كلام ابن الهمام في "الفتح القدير" وسيحيط الجواب منكم- إن شاء الله- بجميع ما فيه، وإثبات ما يثبته البال، ونفي ما ينفيه. والسلام. 4 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 5 - عدد الصفحات:\9\صفحة. 6 - المسطرة: 23 سطرًا. 7 - عدد الكلمات في السطر: 8 - الناسخ: السائل القاضي: محمد بن أحمد مشحم.

[السؤال] هذا السؤال كتبه إلي القاضي العلامة \محمد بن أحمد مشحم (¬1) - رحمه الله- وأجبت بالرسالة الآتية: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وبعد. فإنه خطر بالخاطر الفاتر القاصر تحرير هذا السؤال عما أهمه من مسألة التوسل بالأنبياء والأولياء الأكابر، مع ما عرف فيها من اقتراف الأقوال، والرمي من كل فئة للأخرى بالداء العضال، وخروج أكثر المتوسلين عن جادة الطريق، وتعصب مخالفيهم ورميهم في بعض أقوالهم بالتكفير والتفسيق، فحراني ما رأيت إلى رقم هذه الكلمات في المسألة، واستفتاح أقفالها المقفلة، موجها للسؤال إلى من ألقت إليه العلوم مقاليدها، وملكته بالوهب والكسب طارفها وتليدها، فاقتصر منها أبكار المعاني التي لم يطمثها أحد قبله، وفتح من مقفلاتها ما كان مضموما لم يحم أحد حوله، فأصبحت عيون المعاني به قريرة، وأسرار البلاغة بوجوده مسرورة، ومعالم التنزيل بأنواره منيرة، وصدور الأمهات الست بأنها منشرحة، كما أن سطورها مشروحة، وأطرافها مزينة، بحلاه، ¬

(¬1) هو محمد بن أحمد بن جار الله الصعدي، ثم الصنعاني اليماني، المعروف بمشحم الكبير، عالم أديب، ولي الخطابة والقضاء في بعض المدن أيام المنصور الحسن وابنه المهدي العباس، وتوفي بصنعاء (1181 هـ- 1767 م). من آثاره: تنوير الصحيفة بذكر عوالي الأسانيد الشريفة. إتحاف أهل الطاعة بفضيلة صلاة الجماعة. إرشاد السالك إلى أوضح المسالك. النسيم الساري على صفحات نهر الزلال الجاري في آداب المقرئ والقاري. نظم نخبة الفكر في علم الأثر. معجم المؤلفين (3/ 56 رقم 11657) والبدر الطالع (2/ 102) الأعلام للزركلي (6/ 14).

التي هي اللآلئ المروجة، شيخ الإسلام، وقاضي الأنام محمد بن علي أعلى الله شأنه، ورزقه المكانة، وأباح له فضله وإحسانه، وإذا تشرفت هذه الكتابة بمثولها بين يديه، فالتوسل في ستر ما فيها به أعزه الله إليه. ولتعلم أولا أن السائل ممن يرى جواز هذه الوسائل لكنه وقف قديما وحديثا على كلام لبعض الأكابر أوجب تحرير هذه الأحرف، وإبراز ما عنده ولا عند القاصر، ولما كان الأمر على هذه الصفة كان التحرير على طراز لعله يوافق الطائفة المنصفة، وسينجاب عن وجه السؤال غبار الأشكال إن شاء الله. إذا لوحظ من مولاي- حفظه الله- بالأفعال، ويحمد السرى عند الصباح، وتظهر أسارير وجهه عليها تباشير الفلاح، والله تعالى يديم ديم فوائدكم، ويعيد علينا بركات عوائدكم بمنه وفضله. فنقول: التوسل (¬1) إلى الله- عز وجل- معناه التقرب إليه والاستشفاع إلى جنابه - جل جلاله- بمن له منزلة لديه، وكرامة من عمل أو شخص. ولا يخفى أن لبعض الأعمال مزايا ومنازل لدى الملك المتعال، كما أن لبعض الأشخاص كذلك بلا إشكال، ومنه حديث الثلاثة (¬2) الذين انطبقت عليهم الصخرة فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم، ففرج الله عنهم، ومنه: كلمتان (¬3) خفيفتان [1] حبيبتان إلى الرحمن، فإن وصفها بكونهما حبيبتين مما يشعر بأن الحبيب إلى الله مما يتوسل به إليه لكرمه عليه. ومن التوسل بالأشخاص حديث الضرير (¬4) الذي علمه الرسول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- صلاة الحاجة، وهو في (الحصن الحصين)، ورمز له للترمذي والنسائي والحاكم في المستدرك: (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد، نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضى لي، اللهم فشفعه في، قال المحقق ¬

(¬1) سيأتي تعريفه (ص 312). (¬2) سيأتي تخريجه (ص 315). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6544 و6548) ومسلم رقم (2850) من حديث أبي هريرة. (¬4) سيأتي تخريجه (ص313).

الفاسي: أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح غريب، والنسائي وابن ماجه والطبراني. وذكر في أوله قصة، وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم. ولفظ النسائي: أن أعمى أتى النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال: يا رسول الله، ادع الله لي أن يكشف لي عن بصري، قال: أو ادعك قال: يا رسول الله إنه قد شق علي، قال: فانطلق فتوضأ، ثم صل ركعتين .... ) الحديث. فهذا فيه التوسل بنبينا- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-. ومنه الدعاء الوارد إذا تفلت القرآن عزاه السيوطي في أذكاره إلى الديلمي في مسند الفردوس (¬1)، وابن حبان: (اللهم إني أسألك بمحمد نبيك، وإبراهيم خليلك، وموسى نجيك، وعيسى روحك وكلمتك .... ) الحديث. وفي أدعية الصباح والمساء مما رواه الطبراني في الكبير (¬2): (أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السماوات والأرض، وبكل حق هو لك، وبحق السائلين عليك). وفي الأدعية الواردة بعد الصلاة: (اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، فإن للسائلين عليك حقا .... ) الحديث. عزاه السيوطي في أذكاره إلى الديلمي (¬3) ¬

(¬1) ذكره ابن الأثير في جامع الأصول (4/ 302) من حديث أبي بكر. وقال الشيخ عبد القادر الأرنؤوط محقق الكتاب: كذا في الأصل بياض بعد قوله أخرجه، وفي المطبوع: أحرجه رزين ولم أره بهذا اللفظ. (¬2) (10/ 315 رقم 10600) (¬3) قلت: أخرجه ابن ماجه في السنن رقم (778) وأحمد في مسنده (3/ 21) والطبراني في الدعاء رقم (421) وابن خزيمة في التوحيد كما في تخريج أحاديث الإحياء (2/ 807) وابن السني في عمل اليوم والليلة رقم (85) كلهم من حديث أبي سعيد بسند ضعيف؛ لضعف فضيل بن مرزوق، ولضعف عطية العوفي أيضًا. وجملة القول إن الحديث ضعيف والله أعلم.

ومنه ما ذكره المفسرون (¬1) في تفسير الكلمات التي تلقاها أبو الخليقة آدم عليه السلام من ربه- جل وعلا- فأخرج ابن المنذر (¬2) عن محمد بن علي بن الحسن بن علي- رضي الله عنهم - قال: لما أصاب آدم الخطيئة عظم كربه، واشتد ندمه، فجاءه جبريل [عليه السلام] فقال: يا آدم هل أدلك على باب توبتك الذي يتوب الله عليك؟ قال: بلى يا جبريل. قال: قم في مقامك الذي تناجي فيه ربك فمجده، وامدح حتى قال في آخر الحديث: "اللهم إني أسألك بجاه محمد عندك وكرامته عليك أن تغفر لي خطيئتي، فقال الله: يا آدم، من علمك هذا؟ قال: يا رب إنك لما نفخت في الروح فقمت بشرا سويا أسمع وأبصر وأعقل وأنظر رأيت على ساق عرشك مكتوبا: "بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، محمد رسول الله، فلما لم أر على أثر اسمك اسم ملك مقرب، ولا نبي مرسل غير اسمه علمت أنه أكرم خلقك عليك، قال صدقت يا آدم ". وهذا وإن كان منقطعا فإن مثله [2] من مثل الباقر محمد بن علي- رضي الله عنه - لا يقال بالرأي ولا يطلقه شاكا في سنده. وأخرج الديلمي (¬3) في مسند الفردوس بسند واه عن علي- رضي الله تعالى عنه- أنه قال آدم: "اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد". وأخرج ابن النجار (¬4) عن ابن عباس قال: سألت رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الكلمات التي تلقاها آدم قال: (سأل بحق محمد، وعلي، وفاطمة، والحسن والحسين إلا تبت علي فتاب عليه). وأخرج الطبراني في معجمه الصغير (¬5)، والحاكم (¬6) وأبو نعيم. ¬

(¬1) انظر:- فتح القدير للشوكاني (1/ 103 - 105) جامع البيان للطبري (1/ 243). (¬2) كما في الدر المنثور (1/ 146 - 147) بسند ضعيف منقطع. (¬3) كما في " الدر المنثور " (1/ 147) بسند واه. (¬4) كما في " الدر المنثور " (1/ 147) ضعيف جدًا. (¬5) (2/ 82 - 83). (¬6) (2/ 615): وقال صحيح الإسناد، وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، فتعقبه الذهبي بقوله: بل موضوع وعبد الرحمن واه، وعبد الله بن مسلم الفهري لا أدري من هو. والفهري هذا أورده الذهبي في "ميزان الاعتدال" بهذا الحديث وقال: " خبر باطل، رواه البيهقي في الدلائل". اهـ.

والبيهقي (¬1) كلاهما في الدلائل، وابن عساكر (¬2) عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه رفع رأسه إلى العرش، وقال: أسألك بحق محمد إلا غفرت لي ..... " الحديث. كل هذه الأحاديث في الدر المنثور (¬3) - رحم الله مؤلفه، وجزاه خيرًا-. فهذه الأحاديث منادية بجواز التوسل بمن له عند الله منزلة. وقد ساق الحافظ السيوطي في الخصائص (¬4) الكبرى صلاة الحاجة التي علمها النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الضرير في باب اختصاصه- عليه الصلاة والسلام- بجواز أن يقسم على الله تعالى به. وذكر فيه قصة رواها أبو نعيم، والبيهقي في دلائل النبوة حاصلها عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان- رضي الله عنه - وكان عثمان لا ينظر في حاجته، ولا يلتفت، فلقي عثمان بن حنيف، فشكى عليه، فقال له: ائت الميضاة، وعلمه صلاة الحاجة ففعلها، ثم أتى باب عثمان بن عفان فأدخله البواب على عثمان، ثم لقي عثمان بن حنيف فقال: جزاك الله خيرا ما كان ينظر في حاجتي- يريد عثمان بن عفان- حتى كلمته، قال له: ما كلمته، ولكن رأيت النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- جاءه ضرير فشكى إليه .... .. الحديث. قال السيوطي (¬5) قال ابن عبد السلام: ينبغي أن يكون هذا مقصورا على رسول الله ¬

(¬1) في " دلائل النبوة " (5/ 488) وقال: تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف. (¬2) ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/ 142). وخلاصة القول أن الحديث موضوع. (¬3) (1/ 142 - 152). (¬4) (2/ 201 - 202). (¬5) في الخصائص (2/ 202).

- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لأنه سيد ولد آدم، وأن لا يقسم على الله بغيره من الأنبياء والأولياء؛ لأنهم ليسوا في درجته، وأن يكون هذا مما خص به- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- تنبيها على علو درجته ومرتبته .... انتهى. ولعله لأجل كلام ابن عبد السلام ترجم السيوطي (¬1) هذا الباب بهذه الترجمة، ولا يخفى أنه ليس في كلام ابن عبد السلام ما يشعر بالجزم، فإنه إنما قال ينبغي، وأصل وصفها إنما هو بمعنى الأولوية. وأيضا ليس في هذه الأدلة ما ينفي الجواز، بل كلها صريح في جواز التوسل بالنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أو بمن له [3] منزلة عند الله رفيعة. ولنتأمل في الأحاديث الواردة في شأن قصة آدم، فإنها منادية بأن كل ذي جاه عند ربه تعالى يجوز التوسل إليه تعالى، وعلى هذا جرى أكثر العلماء في توسلاتهم وأدعيتهم وأشعارهم بلا نكير. فأما ما نقل عن ابن عبد السلام (¬2)، ومثله عن مالك، فإنه ما أداهما إليه اجتهادهما. وهذه الأحاديث تلقاها الناس خلفا عن سلف بالقبول، وعمل بهذه الأدعية الفاضل منهم والمفضول، وما تحرج أحد من المسلمين عن الدعاء فيما أحسب بهذه الأدعية، ولا عن صلاة الحاجة. فأما ما توهم من اختصاص صلاة الحاجة والتوسل بالنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في حاله حياته فهذا التوهم ما أبعده عن فهم الأحاديث، وعن قوانين أهل العلم! فإنه لو صح التخصيص بهذه التخيلات الفاسدة لجاز في أكثر الأحاديث أن يقال: هذا خاص في حياته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ومن أين لنا أنه عام بعد مماته! ونحو هذا ما توهم أيضًا في التوسل بالعباس (¬3) بن عبد المطلب- رضي الله عنه- أنه يجوز التوسل بالحي دون الميت،؛ لأن الميت الذي قد صار رهينا في التراب ليس بأهل يتوسل بما له من الجاه والكرامة ¬

(¬1) أي باب "اختصاصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجواز أن يقسم على الله به" في الخصائص (2/ 201). (¬2) ذكره السيوطي في الخصائص الكبرى (2/ 202). (¬3) سيأتي تخريجه (ص 314).

والثواب .... وهذا كما أنه تخصيص بلا دليل بل بحسب الواقعة، بعيد في النظر فإن الحي يجوز منه الغفلة والخطأ، فأما الميت الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أو المقطوع بأن لهم عند الله منازل رفيعة، فإنه لا يجوز منه ما ذكر، والتوسل إنما هو بتلك المنزلة التي لذلك الشخص في الحقيقة التي نالها من ربه تعالى. وحاصل الأمر أن من علمنا بطريق صحيحة منزلته عند ربه تعالى، فأي مانع لنا من التوسل به إلى ربه الذي أعطاه هذه الرتبة لديه! وإذا جازت الشفاعة في يوم القيامة لمن لهم الشفاعة من الأنبياء والصديقين والشهداء والعلماء، فما المانع من أن الله يشفعهم في هذه الدار. وهذه الأدعية الواردة عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أصل لهذه الدعوى، فإنها واقعة منه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في هذه الدار نقلها رواة أخباره لتعليم العباد بالدعاء بها عند الشدائد، ونزول الملمات، واستجلاب الخيرات، ودفع البليات [4]. ومن فروع هذه المسألة الدعاء عند قبور الصالحين. قال العلامة شمس الدين محمد بن محمد الجزري- رحمه الله تعالى- في عدة الحصن الحصين (¬1): وجرت استجابة الدعاء عند قبور الصالحين انتهى. وفي كثير من التراجم لكثير من العلماء لا يأتي عليهم الحصر: وقبره مشهور مزور، وقبره مشهور باستجابة الدعاء، وقبر فلان ترياق مجرب، وقبر فلان من دعا عنده قضيت حاجته، وغير ذلك مما لا يحصى كثرة في التراجم، لا سيما ما في كتب المتصوفة كطبقات الشعراني (¬2) ¬

(¬1) (ص135) - مع هداية المستبصرين. (¬2) هو عبد الوهاب بن أحمد الحنفي، نسبه إلى محمد ابن الحنفية- من المتصوفين الغلاة، ولد بمصر (898 هـ \1493 م) ونشأ بساقية أبي شعرة (من قرى المنوفية) وإليه نسبته "الشعراني" والشعراوي، مات في القاهرة 973 هـ \1565 م له مؤلفات غالبها في التصوف منها: لواقح الأنوار في طبقات الأخيار، القواعد الكشفية. انظر: الأعلام للزركلي (4/ 180 - 181). والجندي، والشرجي، ونفحة المندل.

ولا ريب أن الدعاء عند القبور بغير ما ورد عن الرسول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بدعة، فقد مات في عصر النبوة أجلاء الصحابة، ومنهم حمزة أسد الله وأسد رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وشهداء أحد، وشهداء بدر، ومات عثمان بن مظعون (¬1) الذي بكى عليه النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وعلم على قبره بصخرة ليلحق به من مات من أهله. وسعد بن معاذ (¬2) الذي اهتز عرش الرحمن لموته، وغيرهم من أكابر الصحابة ولم يؤثر عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه أرشد أحدا من أمته أنه إذا أهمته مهمة، أو نزلت به حاجة أن يأتي إلى قبر فلان من الصحابة ويقصده في قضاء الحاجات، ويتوسل به في المهمات. وعرفهم أنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- سيموت، ولم يرشدهم أنه إذا نابتهم نائبة أن يأتون إلى قبره الشريف، ويدعون عنده، وقبره سيد القبور، وعصره خير العصور. بل قال: "لا تتخذوا قبري عيدا" (¬3) وعرفهم بالمحلات والأوقات التي تستجاب فيها الدعوات، ولم يقل إن قبر سعد بن معاذ الذي اهتز له عرش الرحمن، أو قبر سيد الشهداء ترياق مجرب لقضاء الحاجات ونيل الطلبات. فتعمد القبور للأدعية لديها، والتوسل بأهلها لا يخفى على متحل بالإنصاف، متخل عن الاعتساف أنه بدعة لم يأت بها أثر عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ولا عن أصحابه- رضي الله عنهم - ولا عن التابعين. وخير الأمور السالفات على الهدى ... وشر الأمور المحدثات البدائع [5] ويكفي المتدين بدين الإسلام قوله- عليه الصلاة والسلام-: " كل عمل ليس عليه ¬

(¬1) أخرجه الترمذي رقم (989) وأبو داود رقم (3163) وابن ماجه رقم (1456) عن عائشة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل عثمان بن مظعون وهو ميت وهو يبكى. أو قال عيناه تزرفان. وهو حديث صحيح. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3803) ومسلم رقم (2496) من حديث جابر. (¬3) سيأتي تخريجه (ص 325).

أمرنا فهو رد " (¬1). فأقل أحوال الممتثل للحديث أن ينظر هل جاء بقصد القبور لقضاء الحاجات أمر من النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أو فعل، أو تقرير؟ فإن جاء فبها ونعمت، وإن لم يجئ شيء من ذلك عرف أنه مردود. فإن قيل: زيارة القبور سنة مثاب عليها جاءت بها السنة قولا وفعلا وتقريرا، فإذا دعا الداعي بعد الزيارة، فإن الدعاء بعد عمل الصالحات من مظان الإجابة، وهو إن لم يرد بخصوصه فهو داخل فيما ذكروه من تقديم عمل صالح قبل الدعاء. قلت: لا ريب أن زيارة القبور من أجل الطاعات، وأن الدعاء بعد العمل الصالح من مظان الإجابة، ولعله- والله أعلم- حمل ابن الجزري وغيره على ما قالوه من استجابة الدعاء عند قبور الصالحين، فإن رحمة الله لا تعزب عن قبورهم، لكن الاعتبار بالمقاصد، فإن كان قصد الزائر إنما هو التوسل بالميت الصالح، فهذا هو الذي نعده بدعة، وإن كان القصد الزيارة للقبور فتلك سنة مثاب فاعلها، والدعاء بعدها مظان الإجابة. وقد أجمع المسلمون إجماعا فعليا على الدعاء بعد زيارة قبر الرسول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فإن الزائر بعد إكمال الزيارة يتوجه إلى القبلة، ويستدبر القبر الشريف، وقد يستقبل بعض الناس القبر الشريف ويدعو، وهذا لا إنكار فيه من أحد، فالمأمون من مولانا ¬

(¬1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2697) ومسلم في صحيحه رقم (1718) وأحمد (6/ 73، 270) وأبو داود رقم (4606) وابن ماجه رقم (14) والدارقطني في السنن (4/ 224 - 225، 227) والبيهقي (10/ 119) والقضاعي في مسند الشهاب (1/ 231 رقم 359) وابن عدي في الكامل (1/ 247) والطيالسي في المسند (ص 202 رقم 1422) كلهم من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا بلفظ: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ". وأخرج البخاري في "خلق أفعال العباد" ص 43، وأحمد في المسند (6/ 146، 180، 240، 256، 270) والبغوي في شرح السنة (1/ 211 رقم 103). وابن حجر في "تغليق التعليق" (3/ 397) كلهم بلفظ: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد". وأخرج ابن حجر في "تغليق التعليق" (3/ 398) بلفظ: "من فعل أمرا ليس عليه أمرنا فهو رد".

العلامة الإمام- نصر الله به شريعة سيد الأنام-. بيان ما في مسألة التوسل بالأنبياء والأولياء، والدعاء عند القبور واستيفاء الكلام في ذلك، مما يجوز به المسئول أعظم الأجور. ولقد وقفت حال همي بتحرير السؤال في ترجمة السبكي الكبير- رحمه الله- في طبقات ولده-رحمه الله- على أمر غريب من مثل السبكي. قال التاج في الطبقات (¬1) في ترجمة والده (¬2) بعد أن ذكر من علومه وصلاحه، وأثنى عليه. ومنها ما حكاه الأخ الشيخ العلامة الإمام بهاء الدين أبو حامد، ونقلته من خطه قال: عدت من الحجاز في سنة 756 هـ ووجدته ضعيفا، فاستشارني في نزوله لولده قاضي القضاة تاج الدين عن قضاء الشام، ووجدته كالجازم بأن ذلك سيقع، وقال لي: سبب هذا أني قبل أن أمرض بأيام [6]- أغلب ظني أنه قال: خمسة أيام- رحت إلى قبر الشيخ حماد خارج باب صغير، وجلست عند قبره منفردا ليس عندي أحد، وقلت له: يا سيدي الشيخ، لي ثلاثة أولاد: أحدهم قد راح إلى الله، والآخر في الحجاز، ولا أدري حاله، والثالث هذا، وأشتهي أن موضعي يكون له، قال: فلما كان بعد أيام- أغلب ظني أنه قال: يومين أو ثلاثة- جاءني الخالدي يسير إلى شخص كان فقيرا صالحا يصحب الفقراء فقال لي: فلان يسلم عليك ويقول لك: تقاطع عليه الزورة، تروح للشيخ حماد تطلب حاجتك منه ولا تقول له. قال: فقلت له على سبيل البسط: سلم عليه وقل له: ألست تعلم أني فقيه بائس، وأن كل أحد رآني ذاهبا إلى قبر الشيخ حماد، ولكن الشيطان يقوله له: إيش حاجته؟ قال: فتوجه الخالدي إليه ثم عاد وقال: يقول لك: لا تكن تعترض على الفقراء، الشيخ حماد يقول لك: انقضت حاجتك التي هي كيت وكيت. قال: فقلت ¬

(¬1) طبقات الشافعية الكبرى (10/ 216). (¬2) وهو علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام .... بن سوار بن سليم السبكي. شيخ إمام فقيه محدث أصولي نحوي متكلم. انظر ترجمته "طبقات الشافعية" (10/ 139 - 328).

له: أما الآن فنعم، فإن هذا لم يشعر به أحد. قال: فقلت له: سله هل ذلك كشف أو منام؟ قال: فعاد وقال: ليس ذلك إليك. انتهى المنقول من خط الأخ، انتهى المنقول من (¬1) الطبقات (¬2) وهو مما نتعجب منه ونسأل عنه. نعم يبقى الكلام فيما لو فعل الإنسان هذا الذي قررنا أنه بدعة، يعني أنه أصابته نائبة فقصد قبر إمام من أئمة المسلمين، مشهور بالصلاح، ووقف لديه، وأدى الزيارة، وسأل الله بأسمائه الحسنى، وبما لهذا الميت لديه من المنزلة، هل تكون هذه البدعة عبادة لهذا الميت؟ ويصدق عليه أنه قد دعا غير الله، وأنه قد عبد غير الرحمن، ويسلب عنه اسم الإيمان، ويصدق على هذا القبر أنه وثن من الأوثان، ويحكم بردة ذلك الداعي، والتفريق بينه وبين نسائه، واستباحة أمواله، ويعامل معاملة المرتدين، أو يكون فاعل معصية كبيرة، أو مكروه؟ هذا كله فيمن فعل على هذه الصورة، ثم كذلك من يأتي من العوام إلى قبور الأولياء، فيقول: يا فلان- يخاطب الولي- أنا عليك، أنا مستجير بك، أنا أنا إلى غير ذلك، ولا ريب أن هذا عاص لله تعالى، لكن هل يكون عصيانه مخرجا له من الإيمان؟ وكاسيا له ثوب الكفران [7] مع كونه يعترف بعقله ولسانه أن الله تعالى هو المسبب لجميع الأمور حقيقة لا تحوم حول حماها؟ فإذا سألته عن هذا الفعل الذي يصنعه فيقول: إن للولي كرامات عند الله، وله جاه وشفاعة، ونحو هذا جرى في أشعار كثير من علمائهم في مدح الأولياء، نحو: قم بي بأهلي وبصحبي. ونحو قول بعض الأدباء: هات لي منك يا ابن موسى إغاثة ... عاجلا في مسيرها حثاثه وأجرني من الزمان الذي يسر ... لي ذا البلاء بغاثه [ونحو هذا كثير] (¬3)، حاصل الأمر أنها أوصاف لا تطلق إلا على الله تعالى، فإذا سألت من يتمسكها قال: لا أقول إن الولي يفعلها استقلالا، وإنما له من ¬

(¬1) في المخطوط مكرر. (¬2) أي: طبقات الشافعية الكبرى (10/ 216). (¬3) في المخطوط مكرر.

الكرامات (¬1) بعد الممات ما ينجو به الداعي لديه، والمستجير به، وهذا لا ريب في خطئه إنما الشأن في كفر فاعله، ومعاملته معاملة المرتد في جميع أحواله، بحيث لو تيسر للإنسان قتله لقتله، أو لو تيسرت أمواله لأخذها، فإن كان الأمر هكذا، فما بال أئمة المسلمين وعلماء الدين لم يناشدوا أهل هذه الجهات التهامية واليمنية والشامية كصعدة وأحوالها بالقتال، ويذيقونهم أشد النكال! وقد أمرهم الله تعالى بالقوة التي لا تنكر، والأمداد الذي هو أشهر من أن يشهر. وإن كان الأمر مفضيا إلى الفسق فالمطلوب تحقيق هذا السؤال بأطرافه، ولا يمنع مولاي-حفظه الله وحماه- سوء أدب السائل لتحرير السؤال على غير قاعدة السؤال، فإنه إنما عرض ما في خلده الملازم للاختلال، ليتبين للمسؤل علة السؤال، فيرشد إلى دواء ذلك الاعتلال، والله تعالى هو المطلع على خفيات السرائر، ونسأله أن يغفر لنا الكبائر من الذنوب والصغائر والسلام ختام. ومن تمام الفائدة المطلوبة نقل ما تكلم به ابن تيمية (¬2) وتلميذه (¬3) في الدعاء عند القبور، والتكلم عليه نفيا أو إثباتا، فقد أطال الكلام في مواضع من كتبه. ومحط الفائدة هل تلك الكلمات الصادرة من العوام أو الخواص عبادة لغير الله أم لا (¬4)؟ والله الهادي وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله. الحمد لله، أورد السيوطي- رحمه الله- في الدر المنثور (¬5) في تفسير قوله تعالى: {كلما دخل عليها زكريا المحراب .. (¬6). أحاديث كثيرة في النهي عن اتخاذ المحلويب (¬7) في ¬

(¬1) انظر: رسالة "بحث في التصوف" رقم (25) من القسم الأول. وسيأتي مناقشة ذلك خلال رسالتنا هذه. (¬2) انظر اقتضاء الصراط (2/ 569، 776) وسيأتي. (¬3) أي ابن القيم انظر: "مدارج السالكين" (1/ 385) وسيأتي، "إغاثة اللهفان" (1/ 288). (¬4) وانظر ذلك خلال الجواب وتعليقنا عليه. (¬5) (2/ 184 - 191). (¬6) [آل عمران: 37]. (¬7) قال الشيخ الألباني في الضعيفة (1/ 647) وجملة القول: إن المحراب في المسجد بدعة، ولا مسوغ لجعله من المصالح المرسلة، ما دام أن غيره مما شرعه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقوم مقامه مع البساطة، وقلة الكلفة، والبعد عن الزخرفة " اهـ. قال ابن حزم في "المحلى" (4/ 239) رقم المسألة (497): " وتكره المحاريب في المساجد ... قال علي: أما المحاريب فمحدثه، وإنما كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقف وحده ويصف الصف الأول خلفه اهـ.

المساجد فالسؤال: أولاً: عن رتبة تلك الأحاديث. ثانيًا: عن صفة المحاريب المنهي عن اتخاذها، هل هي الطاقات كما في بعض الآثار التي سردها، أم هذه المحاريب التي توجد الآن في المساجد؟ ثالث: عن محراب الرسول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الذي كان في عهده كيف صفته، وهل غير الآن عن صفته الذي كان عليها؟ رابعًا: هل يظهر لكم عله للنهي لعلها زالت فحصل الإقدام من الناس على هذه المحاريب على فرض أنها هي المنهي عنها. وقد ساق السيوطي تلك الأحاديث بعينها في الخصائص (¬1) الكبرى فنقلتها بلفظه، قال: باب: اختصاصه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بكراهة الصلاة في المحراب. وقد كان لمن قبلنا، كما قال تعالى:} فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب {(¬2). أخرج ابن أبي شيبة في المصنف (¬3) عن موسى الجهني قال: قال رسول الله- صلى الله ¬

(¬1) (2/ 206) (¬2) [آل عمران: 39] (¬3) (2/ 59) وهو حديث ضعيف. قال الألباني في " الضعيفة " (1/ 640): وهذا سند ضعيف وله علتان: الأولى: الإعضال، فإن موسى الجهني، وهو ابن عبد الله- إنما يروي عن الصحابة بواسطة التابعين، أمثال: عبد الرحمن بن أبي ليلى، والشعبي ومجاهد، ونافع وغيرهم، فهو من أتباع التابعين، وفيهم أورده ابن حبان في ثقاته (7/ 449). وعليه، فقول السيوطي في "إعلام الأريب بدعة المحاريب" (ص 68) بتحقيق محمد صبحي بن حسن حلاق: "إنه مرسل" ليس دقيقا،؛ لأن المرسل في عرف المحدثين إنما هو قول التابعي: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا ليس كذلك. الأخرى: قال: الحافظ في "التقريب": "صدوق سيئ الحفظ" وهذا ما وقع في نسختنا المخطوطة من "المصنف" ووقع فيما نقله السيوطي عنه في "الإعلام": (إسرائيل)، يعني: إسرائيل بن أبي يونس بن أبي إسحاق السبيعي، وهو ثقة، وهو من طبقة أبي إسرائيل، وكلاهما من شيوخ وكيع، ولم أستطع البت بالأصح من النسختين، وإن كان يغلب على الظن الأول، فإن نسختنا جيدة مقابلة بالأصل. نسخت سنة 735 هـ، وبناء على ما وقع للسيوطي قال:" هذا مرسل صحيح الإسناد". وقد عرفت أن الصواب أنه معضل، وهذا إن سلم من أبي إسرائيل وما أظنه بسالم، فقد ترجح عندي أن الحديث من روايته، بعد أن رجعت إلى نسخة أخرى في "المصنف" (1/ 188\ 1) فوجدتها مطابقة للنسخة الأولى فالسند ضعيف مع إعضاله، ثم رأيته كذلك في المطبوعة (2/ 59). اهـ.

عليه وآله وسلم-: "لا تزال أمتي بخير ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح النصارى". وأخرج ابن أبي شيبة (¬1) عن عبيد بن الجعد قال: كان أصحاب محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يقولون: إن من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح في المساجد، يعني الطاقات. وأخرج ابن أبي شيبة (¬2) عن ابن مسعود قال:" اتقوا هذه المحارب". وأخرج ابن أبي شيبة (¬3) عن أبي ذر قال: إن من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح في المساجد. وأخرج ابن أبي شيبة (¬4) عن علي أنه كره الصلاة في الطاق. وأخرج مثله (¬5) عن الحسن وإبراهيم النخعي (¬6)، وسالم بن أبي ¬

(¬1) في مصنفه (2/ 59). ولكنه عن سالم بن أبي الجعد، وليس عبد الله بن أبي الجعد كما في المخطوط. (¬2) في المصنف (2/ 59 - 60) بسند صحيح. (¬3) في مصنفه (2/ 60). (¬4) في مصنفه (2/ 59). (¬5) في مصنفه (2/ 59). (¬6) في مصنفه (2/ 59).

الجعد (¬1)، وأبي خالد الوالي. وأخرج الطبراني (¬2) والبيهقي في سننه (¬3) عن أبي عمر مرفوعا: اتقوا هذه المذابح يعني المحاريب ...... انتهى منه. بعد تحرير هذا وقفت على شرح المناوي (¬4) لحديث: اتقوا هذه المذابح، يعني: المحاريب، ففسر المحاريب بصدور المجالس أي تجنبوا صدور المجالس، قال: ووقع للمصنف أنه جعل هذا نهيا عن اتخاذ المحاريب في المساجد والوقوف فيها. وقال: خفي على قوم كون المحراب بالمسجد بدعة، وظنوا أنه كان في زمن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، ولم يكن في زمنه ولا في زمن خلفائه، بل حدث في المائة الثانية مع ثبوت النهي عنه، ثم ردة المناوي، وقال: إن ابن الأثير (¬5) فسر المحاريب بصدور المجالس، وتبعه غيره، ونقل فيه كلمات محتملة ليس فيها صرت الرد لما فهمه السيوطي، ثم نقل كلام ابن الهمام في الفتح القدير (¬6)، وسيحيط الجواب منكم- إن شاء الله- بجميع ما فيه، وإثبات ما يثبته البال، ونفي ما ينفيه. والسلام. ¬

(¬1) في مصنفه (2/ 59) بسند صحيح. (¬2) كما في "مجمع الزوائد" (8/ 60) وقال الهيثمي: "وفيه عبد الله بن مغراء، وثقه ابن حبان وغيره، وضعفه ابن المديني في روايته عن الأعمش، وليس هذا منها. (¬3) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 439) بسند حسن. (¬4) في "فيض القدير شرح الجامع الصغير" (1/ 144). (¬5) في النهاية (1/ 359). (¬6) في شرح فتح القدير (1/ 425). وللإمام الشوكاني بحث في "المحاريب" سيأتي في القسم الرابع "الفقه وأصوله" من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".

وصف المخطوط 1 - عنوان المخطوط: الدر النضيد في إخلاص التوحيد. 2 - موضوع الرسالة: في العقيدة. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. أحمدك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآل رسولك. 4 - آخر الرسالة: .. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والله ولي التوفيق. انتهى تحريره بقلم مؤلفه في ليلة الأحد لسبع مضت من شهر رجب سنة\214 هـ حامدا ومصليا مسلما على رسوله وآله. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - عدد الصفحات:\60\صفحة. الصفحة الأولى هي للعنوان. 7 - المسطرة: 23 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 12 - 14 كلمة. 9 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.

[الجواب] بسم الله الرحمن الرحيم أحمدك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآل رسولك، وبعد: فإنه وصل إلى الحقير الجاني محمد بن علي الشوكاني، غفر الله له ذنوبه، وستر عن عيون الناس عيوبه- سؤال من عالم مفضال، عارف بما قد قيل وما يقال في مدارك الحرام والحلال عند اختلاف الأقوال، وتباين آراء الرجال، وهو العلامة الفهامة الأفخم محمد بن أحمد بن محمد (¬1) مشحم كثر الله فوائده، ومد على أهل العلم موائده. وحاصل السؤال هو عن التوسل بالأموات المشهورين بالفضل وكذلك الأحياء والاستغاثة هم ومناجاتهم عند الحاجة من نحو: " على الله وعليك يا فلان" و" وأنا بالله وبك " وما يشابه ذلك، وتعظيم قبورهم واعتقاد أن لهم قدرة على قضاء حوائج المحتاجين، ونجاح طلبات السائلين، وما حكم من فعل شيئا من ذلك، وهل يجوز قصد قبور الصالحين لتأدية الزيارة ودعاء الله عندها من غير استغاثة بهم، بل للتوسل بهم فقط؟ فأقول مستعينا بالله: اعلم أن الكلام على هذه الأطراف يتوقف على إيضاح ألفاظ هي منشأ الاختلاف والالتباس، فمنها الاستغاثة بالغين المعجمة، والمثلثة، ومنها الاستعانة بالعين المهملة والنون، ومنها التشفع ومنها التوسل. [معنى الاستغاثة] (¬2) فأما الاستغاثة بالمعجمة والمثلثة: فهي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة كالاستنصار وهو ¬

(¬1) تقدمت ترجمته (285). (¬2) الاستغاثة: فقد اتفقت المصادر على أن معناه طلب الغوث، وهو إزالة الشدة، كما أن الاستنصار طلب النصر، والاستغاثة طلب العون، فيقال: استغاثه استغاثة فأغاثه إغاثة وغوثا وغياثا. ويرى ابن الأثير: أن الإغاثة والإعانة بمعنى واحد. وعلى هذا تكون الاستغاثة هي الاستعانة، ولا ريب أن من استغاثك فأغثته فقد أعنته، إلا أن لفظ الاستغاثة مخصوص بطلب العون في حالة الشدة بخلاف الاستعانة. النهاية (3/ 400) ولسان العرب (10/ 153).

طلب النصر، ولا خلاف أنه يجوز أن يستغاث بالمخلوق، فيما يقدر على الغوث فيه من الأمور، ولا يحتاج مثل ذلك إلى استدلال فهو في غاية الوضوح، وما أظنه يوجد فيه خلاف، ومنه:} فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه {(¬1). وكما قال:} وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر {(¬2). وكما قال تعالى:} وتعاونوا على البر والتقوى {(¬3). وأما ما لا يقدر عليه إلا الله فلا يستغاث فيه إلا به كغفران الذنوب، والهداية، وإنزال المطر والرزق، ونحو ذلك كما قال تعالى:} ومن يغفر الذنوب إلا الله {(¬4). وقال:} إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء {(¬5)، وقال:} يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض {(¬6). وعلى هذا يحمل ما أخرجه الطبراني في معجمه (¬7) الكبير أنه كان في زمن النبي- صلى ¬

(¬1) [القصص:15] (¬2) [الأنفال:72] (¬3) [المائدة:2] (¬4) [آل عمران:135] (¬5) [القصص: 56] (¬6) [فاطر: 3] (¬7) أورده الهيثمي في المجمع (10/ 159) وقال: رواه الطبراني في الكبير من حديث عبادة بن الصامت، ورجاله رجال الصحيح غير ابن لهيعة وهو حسن الحديث. قلت: وأخرجه أحمد في المسند (5/ 317) بإسناد ضعيف من حديث عبادة بن الصامت، قال:" خرج علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال أبو بكر رضي الله عنه: قوموا نستغيث برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هذا المنافق، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يقام لي، إنما يقام لله تبارك وتعالى". وأورده الهيثمي في المجمع (8/ 40) وعزاه لأحمد وقال: "وفيه راو لم يسم، وابن لهيفة ". والخلاصة أن حديث عبادة بن الصامت ضعيف والله أعلم.

الله عليه وآله وسلم- منافق يؤذي المؤمنين، فقال أبو بكر: قوموا بنا نستغيث برسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من هذا المنافق، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله ". فمراده أن- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه لا يستغاث به فيما لا يقدر عليه إلا الله، وأما ما يقدر عليه المخلوق فلا مانع من ذلك، مثل أن يستغيث المخلوق بالمخلوق ليعينه على حمل الحجر، أو يحول بينه وبين عدوه الكافر، أو يدفع عنه سبعا صائلا، أو لصا، أو نحو ذلك. وقد ذكر أهل العلم: أنه يجب على كل مكلف أن يعلم أن لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إلا الله سبحانه، وأن كل غوث من عنده، وإذا حصل شيء من ذلك على يد غيره فالحقيقة له سبحانه، ولغيره مجاز. ومن أسمائه المغيث والغياث. قال أبو عبد الله الحليمي (¬1) الغياث (¬2) هو المغيث، وأكثر ما يقال غياث المستغيثين، ومعناه: المدرك عباده في الشدائد إذا دعوه، ومجيبهم ومخلصهم (¬3). وفي خبر الاستسقاء في الصحيحين [2] (¬4): "اللهم أغثنا، اللهم أغثنا" يقال: أغاثه ¬

(¬1) هو الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم، البخاري، الشافعي، فقيه، محدث، أديب، ولد ببخارى سنة 338 هـ ونشأ بها، وولي القضاء، وتوفي في ربيع الأول سنة 403هـ. من تصانيفه: المنهاج في شعب الإيمان، آيات الساعة وأحوال الساعة. انظر: تذكرة الحفاظ (3/ 219) شذرات الذهب (3/ 167 - 168). (¬2) المغيث: اسم من الأسماء الحسنى الزائدة عن الأسماء المعروفة. انظر: موسوعة له الأسماء الحسنى (ص 15) الدكتور أحمد الشرباصي. وقال ابن تيمية في "الفتاوى" (1/ 111): " قالوا: من أسمائه تعالى المغيث والغياث، وجاء ذكر المغيث في حديث أبي هريرة، قالوا واجتمعت الأمة على ذلك. قلت: وحديث أبي هريرة بسياق الأسماء ضعيف. (¬3) ذكره ابن تيمية في "الفتاوى" (1/ 111). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1014) ومسلم في صحيحه رقم (897) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه

إغاثة وغياثة وغوثا، وهو في معنى المجيب والمستجيب. قال تعالى:} إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم {(¬1)، إلا أن الإغاثة أحق بالأفعال، والاستجابة بالأقوال. وقد تقع كل منهما موقع الآخر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض فتاويه (¬2) ما لفظه: والاستغاثة بمعنى أن تطلب من الرسول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيه مسلم، ومن نازع في هذا المعنى فهو إما كافر وإما مخطئ ضال. وأما بالمعنى الذي نفاها رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فهو أيضًا مما يجب نفيها ومن أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله فهو أيضًا كافر إذا قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها. ومن هذا الباب قول أبي يزيد البسطامي (¬3): استغاثة المخلوق (¬4) بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق، وقول الشيخ أبي ¬

(¬1) [الأنفال:9]. فالاستغاثة في هذه الآية دعاء لكنه دعاء خاص، فلو لم تكن دعاء لكانت مقابلتها بالإجابة غير وجيه. (¬2) مجموع فتاوى (1/ 112). (¬3) هو طيفور بن عيسى البسطامي من الأعلام، كان جده مجوسيا وأسلم، وهم ثلاثة أخوة: آدم وطيفور وعلي، وكلهم زهاد عباد، من الصوفية، وأبو يزيد أجلهم حالا، مات سنة 261 هـ وقيل: سنة 264هـ. حلية الأولياء (33 - 42) طبقات الأولياء (ص 398). قال ابن تيمية في "مجموع فتاوى" (13/ 257): وقد جمع أبو الفضل الفلكي- علي بن الحسين بن أحمد بن الحسن الهمداني- كتابا من كلام أبي يزيد البسطامي سماه "النور من كلام طيفور" فيه شيء كثير لا ريب أنه كذب على أبي يزيد البسطامي، وفيه أشياء من غلط أبي يزيد- رحمة الله عليه- وفيه أشياء حسنة من كلام أبي يزيد، وكل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (¬4) ذكره ابن تيمية في الفتاوى (1/ 112، 330).

عبد الله (¬1) القرشي: استغاثة المخلوق (¬2) بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون. وأما الاستعانة بالنون فهي طلب العون، ولا خلاف أنه يجوز أن يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه من أمور الدنيا، كأن يستعين به على أن يحمل معه متاعه، أو يعلف دابته، أو يبلغ رسالته، وأما ما لا يقدر عليه إلا الله- جل جلاله- فلا يستعان فيه إلا به. ومنه:} إياك نعبد وإياك نستعين {(¬3) ¬

(¬1) هو عبد الله بن محمد القرشي التونسي، صوفي كبير الشأن عند المتصوفة، ولد بالإسكندرية سنة 637 هـ ومات بتونس سنة 699 هـ. "الطبقات الكبرى": (1/ 159) "طبقات الأولياء": (ص 488). (¬2) ذكره ابن تيمية في " الفتاوى " (1/ 112و 330). (¬3) [الفاتحة: 4]. فائدة: النسبة بين الاستغاثة والدعاء: من المعلوم أن الاستغاثة لا تكون إلا من المكروب، كما قال تعالى} فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه {[القصص: 15] والدعاء أعم من الاستغاثة؛ لأنه يكون من المكروب ومن غيره " تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد" للشيخ سليمان بن عبد الله (ص 214). فالاستغاثة دعاء لكنه دعاء خاص فلو لم تكن دعاء لكانت مقابلتها بالإجابة غير وجيه، وقد قال تعالى:} إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم {[الأنفال:9]. ولتوضيح النسبة بين الاستغاثة والدعاء لا بد من بيان أن الدعاء في القرآن والسنة نوعان: الأول: دعاء عبادة، وهذا النوع ورد كثيرا في القرآن كقوله تعالى:} فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين {[الشعراء: 213]. النوع الثاني: دعاء المسألة، وهو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر، ومن أدلته قوله تعالى:} قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ {[الأنعام: 40 - 41]. فائدة: أنواع الاستغاثة: الأول: طلب إزالة الشدة من المخلوق في الأسباب الظاهرة والأمور الحسية العادية، على أن يكون المستغاث به حيا حاضرا، كالاستنصار بالحاضر القوي على قتال، أو دفع عدو صائل، أو سبع مفترس، ونحو ذلك من كل ما يقدر المخلوق على الغوث فيه، وهذا النوع لا خلاف في جوازه. والأصل في جوازه قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام:} فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه {[القصص: 15]. وقوله تعالى:} وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر {[الأنفال: 72]. وقوله تعالى:} وتعاونوا على البر والتقوى {[المائدة: 2]. مع ملاحظة أنه لا بد من توفر شرطين وهما: 1 - ) شرط في المستغاث لأجله، بأن يكون مما يقدر المخلوق على الإغاثة في مثله. 2 - ) وشرط في المستغاث به، بأن يكون حيا حاضرا فلو تخلف شرط منهما خرجت الاستغاثة عن حيز الجواز إلى حيز الشرك أو الابتداع. الثاني: طلب الغوث فيما لا يقدر عليه إلا الله، كإنزال المطر، هداية القلوب وغفران الذنوب. أو كان فيما يقدر عليه المخلوق عادة لكن المستغاث به إما ميت راقد في قبره، وإما حي لكنه غائب مع اعتقاده أن الاستغاثة تبلغه أينما كان. وهذا النوع لا شك في عدم جوازه فمن اعتقد أن مقدسه المخلوق يقدر عن محو ذنوبه أو هداية قلبه أو على إنزال المطر أو تيسير رزقه بمجرد المشيئة، أو اعتقد أن ذلك المقدس يسمع استغاثاته وهو راقد في قبره، أو غائب عنه فهو مشرك بعقيدته هذه قبل أن يتوجه إلى المقدس بالاستغاثة. وعلى هذا نص جميع العلماء المحققين فقال ابن تيمية: "ومن أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله فهو أيضا- كافر إذا قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها ". الفتاوى (1/ 112، 332). وقال ابن تيمية في " اقتضاء الصراط " (2/ 683): وهذه البدعة الكفرية إنما حدثت في العصور المتأخرة لما شاعت الخرافات وانتشر الجهل وعمت الأقاليم الإسلامية مغالطات المتصوفة وأباطيلهم، وإلا فلم يكن من حال السلف أن يستغيثوا بغير الله أبدا ".

[حكم التشفع بالمخلوق] وأما التشفع بالمخلوق فلا خلاف بين المسلمين أنه يجوز طلب [3] الشفاعة من المخلوقين فيما يقدرون عليه من أمور الدنيا، وثبت بالسنة المتواترة (¬1)، واتفاق جميع الأمة ¬

(¬1) تقدم شرحها (منها): ما أخرجه البخاري رقم (6305) ومسلم رقم (341/ 200) عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" لكل نبي دعوة دعاها لأمته وإني خبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة". (ومنها): ما أخرجه البخاري رقم (6304) ومسلم رقم (334/ 198) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا ". (ومنها): حديث الشفاعة وهو حديث طويل أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3340) ومسلم رقم (327/ 194) من حديث أبي هريرة وفيه: " ... يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع ". (ومنها): ما أخرجه البخاري رقم (614) من حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة".

أن نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - هو الشافع المشفع، وأنه يشفع للخلائق يوم القيامة، وأن الناس يستشفعون به ويطلبون منه أن يشفع لهم إلى ربه، ولم يقع الخلاف إلا في كونها لمحو ذنوب المذنبين، أو لزيادة ثواب المطيعين. ولم يقل أحد من المسلمين بنفيها قط. وفي سنن أبي داود (¬1) أن رجلا قال للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: إنا نستشفع بالله عليك، ونستشفع بك على الله، فقال: "شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه"، فأقره على قوله نستشفع بك على الله، وأنكر عليه قوله: نستشفع بالله عليك. وسيأتي تمام الكلام في الشفاعة. ¬

(¬1) في السنن رقم (4726). قلت: وأخرجه ابن خزيمة في التوحيد (ص 103 - 104) وابن أبي عاصم رقم (575) والطبراني في الكبير رقم (1547) والبغوي في شرح السنة (1/ 175) واللالكائي (3/ 395 - 396) من حديث جبير ابن مطعم. وهو حديث ضعيف.

[التوسل] وأما التوسل (¬1) إلى الله سبحانه بأحد من خلقه في مطلب يطلبه العبد من ربه فقد قال ¬

(¬1) معنى التوسل: التوسل لغة: مأخوذ من الوسيلة، والوسيلة والوصيلة والتوسل والتوصل معناهما متقارب، لأن السين والصاد دائما يتناوبان يعني أحدهما يستعير مكان الآخر، ولهذا يقرأ قوله تعالى:} اهدنا الصراط المستقيم {[الفاتحة: 6] ويقرأ:} اهدنا السراط {بالسين كلاهما قراءة سبعية فيجوز أن تقرأ:} اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم {[الفاتحة: 6 - 7] أو تقول: {اهدنا السراط المستقيم سراط الذين أنعمت عليهم}. فالتوسل والتوصل معناهما متقارب جدا. والوسيلة هي: السبب الموصل إلى المقصود. مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (5/ 279). والتوسل شرعا: عبادة يراد بها التوصل إلى رضوان الله والجنة، ولهذا نقول: جميع العبادات وسيلة إلى النجاة من النار ودخول الجنة، فكل الأعمال الصالحة كلها وسيلة، والغرض من الأعمال الصالحة قوله تعالى:} فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز {[آل عمران: 185]. التوسل إلى الله تعالى هو اتخاذ وسيلة لإجابة الدعاء، والتوسل في دعاء الله أن يقرن الداعي في دعائه ما يكون سببا في قبول دعائه، ولا بد من دليل عن كون هذا الشيء سببا للقبول. ولا يعلم ذلك إلا من طريق الشرع. أقسام التوسل: توسل مشروع وهو ما كان بوسيلة جاءت بها الشريعة وهو أنواع: 1 - ): التوسل إلى الله تعالى بأسمائه. 2 - ): التوسل إلى الله تعالى بصفاته. 3 - ): التوسل إلى الله تعالى بأفعاله. 4 - ): التوسل إلى الله تعالى بالإيمان به. 5 - ): التوسل إلى الله تعالى بحال الداعي. 6 - ): التوسل إلى الله تعالى بدعاء الرجل الصالح الذي ترجى إجابة دعائه. 7 - ): التوسل إلى الله تعالى بالعمل الصالح. وستجد أمثلة ذلك خلال الرسالة. ثانيًا: التوسل الممنوع: وهو ما كان بوسيلة لم تثبت في الشرع وهو نوعان: 1 - ): توسل المشركين بأصنامهم وأوثانهم وتوسل الجاهلين بأوليائهم. 2 - ): توسل يكون بوسيلة سكت عنها الشرع. انظر قاعدة جليلة (ص 17 - 82).

الشيخ عز الدين بن عبد السلام (¬1): إنه لا يجوز (¬2) التوسل إلى الله تعالى إلا بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إن صح الحديث فيه، ولعله يشير إلى الحديث الذي أخرجه النسائي (¬3) في سننه، والترمذي (¬4) وصححه، وابن ماجه (¬5) وغيرهم (¬6): أن أعمى أتى إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال: يا رسول الله، إني أصبت في بصري فادع الله لي، فقال له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " توضأ وصل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد، يا محمد إني أشفع بك في رد بصري، اللهم شفع نبيي في " وقال: " فإن كانت لك حاجة فمثل ذلك " (¬7) فرد الله بصره. ¬

(¬1) ستأتي ترجمته في رسالة " الصوارم الحداد " رقم (24). (¬2) ذكره ابن تيمية في " الفتاوى " (1/ 347). (¬3) في عمل اليوم والليلة رقم (658 - 660). (¬4) في السنن رقم (3578). وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. (¬5) في السنن رقم (1385). (¬6) كأحمد في المسند (4/ 138) والحاكم في المستدرك (1/ 313) وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي ... كلهم من حديث عثمان بن حنيف. وهو حديث صحيح. (¬7) قال ابن تيمية في قاعدة جليلة ص 151: فهذا الحديث فيه التوسل به إلى الله في الدعاء فمن الناس من يقول: هذا يقتضي جواز التوسل به مطلقا حيا وميتا. وهذا يحتج به من يتوسل بذاته بعد موته وفي مغيبه. ويظن هؤلاء أن توسل الأعمى والصحابة في حياته كان بمعنى الإقسام به على الله أو بمعنى أنهم سألوا الله بذاته أن يقضي حوائجهم. ويظنوا أن التوسل به لا يحتاج إلى أن يدعو لهم ولا أن يطيعوه، فسواء عند هؤلاء دعا الرسول لهم أو لم يدع، الجميع عندهم توسل به، وسواء أطاعوه أو لم يطيعوه، ويظنون أن الله يقضي حاجة هذا الذي توسل به، بزعمهم ولم يدع له الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما يقضي حاجة هذا الذي توسل بدعائه ودعا له الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ كلاهما متوسل به عندهم ويظنون أن كل من سأل الله تعالى بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد توسل به كما توسل به ذلك الأعمى، وأن ما أمر به الأعمى مشروع لهم، وقول هؤلاء باطل شرعا وقدرا، فلا هم موافقون لشرع الله ولا ما يقولونه مطابق لخلق الله.

وللناس في معنى هذا قولان: أحدهما: أن هذا التوسل هو الذي ذكره عمر بن الخطاب لما قال: كنا إذا أجدبنا نتوسل بنبينا إليك فتسقينا، وإنا نتوسلك إليك بعم نبينا. وهو في صحيح البخاري (¬1) وغيره، فقد ذكر عمر -رضي الله عنه- أنهم كانوا يتوسلون بالنبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-[4] في حياته في الاستسقاء، ثم توسلوا بعمه العباس بعد موته، وتوسلهم هو استسقاؤهم بحيث يدعو ويدعون معه، فيكون هو وسيلتهم إلى الله. والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كان مثل هذا شافعا وداعيا لهم. والقول الثاني: أن التوسل به -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يكون في حياته وبعد موته (¬2)، وفي حضرته ومغيبه. ولا يخفاك أنه قد ثبت التوسل به -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في حياته، وثبت التوسل بغيره من الأحياء بعد موته بإجماع الصحابة سكوتيا لعدم إنكار أحد منهم على عمر -رضي الله عنه- في توسله بالعباس -رضي الله عنه-. وعندي أنه لا وجه لتخصيص جواز التوسل بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كما زعمه الشيخ عز (¬3) بن عبد السلام لأمرين: ¬

(¬1) في صحيحه رقم (1010) وطرفه (3710). (¬2) قال ابن تيمية في قاعدة التوسل والوسيلة (ص 152): فلو كان التوسل به حيا وميتا سواء، والمتوسل به الذي دعا له الرسول كمن لم يدع له الرسول، لم يعدلوا عن التوسل به -وهو أفضل الخلق وأكرمهم على ربه، وأقربهم إليه وسيلة- إلى أن يتوسلوا بغيره ممن ليس مثله. وكذلك لو كان أعمى توسل به ولم يدعو له الرسول بمنزلة ذلك الأعمى، لكان عميان الصحابة أو بعضهم مثل ما فعل الأعمى فعدولهم عن هذا إلى هذا- مع أنهم السابقون الأولون المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فإنهم أعلم منا بالله ورسوله، وبحقوق الله ورسوله، وما يشرع من الدعاء وينفع وما لم يشرع ولا ينفع وما يكون أنفع من غيره. وهم في وقت ضرورة ومخمصة وجدب يطلبون تفريج الكربات، وتيسير العسير، وإنزال الغيث بكل طريق ممكن - دليل على أن المشروع ما سألوه دون ما تركوه. (¬3) ذكره ابن تيمية في " الفتاوى " (1/ 347).

الأول: ما عرفناك به من إجماع الصحابة. والثاني: أن التوسل إلى الله بأهل الفضل (¬1) والعلم هو في التحقيق توسل بأعمالهم الصالحة، ومزاياهم الفاضلة، إذ لا يكون الفاضل فاضلا إلا بأعماله. فإذا قال القائل: اللهم إني أتوسل إليك بالعا لم الفلاني فهو باعتبار ما قام به من العلم. وقد ثبت في الصحيحين (¬2) وغيرهما أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حكى عن الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة أن كل واحد منهم توسل إلى الله بأعظم عمل عمله، فارتفعت الصخرة فلو كان التوسل بالأعمال الفاضله غير جائز، أو كان شركا كما يزعمه المتشددون في هذا الباب كابن عبد السلام، ومن قال بقوله من أتباعه لم تحصل الإجابة من الله لهم، ولا سكت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عن إنكار ما فعلوه بعد حكايته عنهم. وبهذا تعلم أن ما يورده المانعون من التوسل إلى الله بالأنبياء [5] والصلحاء من نحو قوله تعالى:} ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى {(¬3)، ونحو قوله تعالى: ¬

(¬1) والتوسل بأهل الفضل، والرجل الصالح مقيد بأمور منها: أولاً: أن يكون المتوسل به حيا حاضرا وهو ما يوضحه توسل عمر بالعباس. قال ابن تيمية في قاعدة جليلة (ص80 - 81): وأما التوسل بدعائه وشفاعته -كما قال عمر- فإنه توسل بدعائه لا بذاته، ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بعمه العباس ولو كان التوسل بذاته لكان هذا أولى من التوسل بالعباس فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته، بخلاف التوسل الذي هو الإيمان والطاعة له فإنه مشروع دائما. ثانيًا: أن المتوسل لا بد أن يقوم بعمل ما، وهذا ما يؤكد أن التوسل ليس بذاته وإنما هو بدعائه وتضرعه إلى الله تعالى وهو ما يوضحه قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -عندما توسل الأعرابي بدعائه: " اللهم أغثنا اللهم أغثنا" تقدم تخريجه رافعا يديه. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2272) ومسلم في صحيحه رقم (100/ 2743). من حديث ابن عمر. (¬3) [الزمر:3].

} فلا تدعوا مع الله أحدا (¬1) ونحو قوله تعالى: {له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء} (¬2) ليس بوارد بل هو من الاستدلال على محل النزاع بما هو أجنبى عنه؛ فإن قوله: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} (¬3) مصرح بأنهم عبدوهم لذلك، والمتوسل بالعالم مثلا لم يعبده بل علم أن له مزية عند الله بحمله العلم فتوسل به لذلك، وكذلك قوله: {فلا تدعوا مع الله أحدا} (¬4) فإنه نهي عن أن يدعى مع الله غيره، كأن يقول: بالله ويا فلان، والمتوسل بالعالم مثلا لم يدع إلا الله وإنما وقع منه التوسل إليه بعمل صالح عمله بعض عباده كما توسل الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة بصالح أعمالهم، وكذلك قوله: {والذين يدعون من دونه} (¬5) الآية، فإن هؤلاء دعوا من لا يستجيب لهم، ولم يدعوا ربهم الذي يستجيب لهم، والمتوسل بالعالم مثلا لم يدع إلا الله ولم يدع غيره دونه، ولا دعا غيره معه. وإذا عرفت هذا لم يخف عليك دفع ما يورده المانعون للتوسل من الأدلة الخارجة عن محل النزاع خروجا زائدا على ما ذكرناه، كاستدلالهم بقوله تعالى: {وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله} (¬6) [6] فإن هذه الآية الشريفة ليس فيها إلا أنه تعالى المتفرد بالأمر في يوم الدين، وأنه ليس لغيره من الأمر شيء، ولا يملك لغيره من الأمر شيئا، والمتوسل بنبي من الأنبياء أو عالم من العلماء هو لا يعتقد أن لمن توسل به مشاركة لله -جل جلاله- في أمر يوم الدين، ومن اعتقد هذا لعبد سواء كان نبيا أو غير نبي فهو في ضلال مبين. ¬

(¬1) [الجن:18]. (¬2) [الرعد:14]. (¬3) [الزمر: 3]. (¬4) [الجن:18]. (¬5) [الرعد:14]. (¬6) [الانفطار: 17 - 19] وانظر " الفتاوى" لابن تيمية (1/ 114 - 120).

وهكذا الاستدلال على منع التوسل بقوله: {ليس لك من الأمر شيء (¬1)،} قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا {(¬2) فإن هاتين الآيتين مصرحتان بأنه ليس لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ من أمر الله شيء، وأنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فكيف يملكه لغيره وليس فيهما منع التوسل به أو بغيره من الأنبياء، أو الأولياء، أو العلماء. وقد جعل الله لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ المقام المحمود مقام الشفاعة العظمى، وأرشد الخلق إلى أن يسألوه ذلك ويطلبوه منه، وقاله له: " سل تعطه، واشفع تشفع " (¬3) وقيد ذلك في كتابه العزيز بأن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه (¬4)، ولا تكون إلا لمن ارتضى. ولعله يأتي تحقيق هذا المقام إن شاء الله. وهذا الاستدلال على منع التوسل بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لما نزل قوله تعالى:} وأنذر عشيرتك الأقربين {(¬5)، " يا فلان ابن فلان لا أملك لك من الله شيئا، يا فلانة بنت فلان لا أملك لك من الله شيئا، يا بني فلان لا أملك لكم [7] من الله شيئا" (¬6)، فإن هذا ليس فيه إلا أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لا يستطيع نفع من أراد الله ضره، ولا ضر من أراد الله نفعه، وأنه لا يملك لأحد من قرابته فضلا عن غيرهم شيئا من الله، وهذا معلوم لكل مسلم، وليس فيه أنه لا يتوسل به إلى الله فإن ذلك هو ¬

(¬1) [آل عمران: 128]. (¬2) [الأعراف:188]. (¬3) تقدم تخريجه (ص311). (¬4) لقوله تعالى: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) [سبأ: 23]. وقوله تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته وهم مشفقون) [الأنبياء:28]. (¬5) [الشعراء:214]. (¬6) أخرجه البخاري رقم (4771) ومسلم رقم (351/ 206) والترمذي رقم (3185) والنسائي (6/ 248) من حديث أبي هريرة.

طلب الأمر ممن له الأمر والنهي، وإنما أراد الطالب أن يقدم بين يدي طلبته ما يكون سببا للإجابة ممن هو المتفرد بالعطاء والمنع، وهو مالك يوم الدين. وإذا عرفت هذا فاعلم أن الرزية كل الرزية، والبلية كل البلية أمر غير ما ذكرناه من التوسل المجرد، والتشفع ممن له الشفاعة، وذلك ما صار يعتقده كثير من العوام، وبعض الخواص في أهل القبور، وفي المعروفين بالصلاح من الأحياء من أنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله -جل جلاله- ويفعلون بهم ما لا يفعله إلا الله -عز وجل- حتى نطقت ألسنتهم مما انطوت عليه قلوبهم، فصاروا يدعونهم تارة مع الله تعالى، وتارة استقلالا، ويصرحون بأسمائهم، ويعظمونهم تعظيم من يملك الضر والنفع، ويخضعون لهم خضوعا زائدا على خضوعهم عند وقوفهم بين يدي ربهم في الصلاة والدعاء. وهذا إذا لم يكن شركا فلا ندري ما هو الشرك، وإذا لم يكن كفرا فليس في الدنيا كفر [8]. [الأدلة من الكتاب والسنة في تحريم التمائم] وها نحن نقص عليك أدلة في كتاب الله -سبحانه-، وفي سنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فيها المنع مما هو دون هذا بمراحل، وفي بعضها التصريح بأنه شرك، وهو بالنسبة إلى هذا الذي ذكرناه يسير حقير، وبعد ذلك نعود إلى الكلام على مسألة السؤال. فمن ذلك ما أخرجه أحمد في مسنده (¬1) بإسناد لا بأس به عن عمران بن حصين أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- رأى رجلا بيده حلقة من صفر، فقال (ما هذه؟) قال: من الواهنة، قال: " انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا، ولو مت وهي عليك ما ¬

(¬1) (4/ 445). قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (3531) والحاكم (4/ 216) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وهو حديث ضعيف لأن الحسن لم يسمع من عمران بن الحصين كما في المراسيل (ص 40).

أفلحت ". وأخرج (¬1) أيضًا عن عقبة بن عامر مرفوعا: " من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له " وفي رواية (¬2): " من تعلق تميمة فقد أشرك "، ولابن أبي حاتم (¬3) عن حذيفة أنه رأى رجلا في يده خيط للحمى فقطعه، وتلا:} وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون {(¬4) وفي الصحيح (¬5) عن أبي بشير الأنصاري أنه كان مع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في بعض أسفاره، فأرسل رسولا: " ألا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر إلا قطعت " ... وأخرج أحمد (¬6) وأبو داود (¬7) عن ابن ¬

(¬1) أي أحمد في مسنده (4/ 154). وأخرجه الحاكم (4/ 216) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. قلت: وليس كذلك لأن فيه خالد بن عبيد المعافري ليس من رجال الأمهات وهو مجهول روى عنه حيوة بن شريح فقط ولم يوثقه إلا ابن حبان. وأورده الهيثمي في المجمع (5/ 103) وقال: " رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني ورجالهم ثقات " اهـ. وهو حديث ضعيف. (¬2) عند أحمد في المسند (4/ 156). وأورده الهيثمي في المجمع (5/ 103) وقال: رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات ". وهو حديث حسن. (¬3) في تفسيره (7/ 2208 رقم 12040). وذكره ابن كثير في تفسيره (2/ 512) روى حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن عروة قال: دخل حذيفة على مريض فرأى في عضده سيرا فقطعه -أو انتزعه- ثم قال: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) [يوسف: 106]. (¬4) [يوسف: 106]. (¬5) أخرجه البخاري رقم (3005) ومسلم رقم (2115). (¬6) في المسند (1/ 381). (¬7) في السنن رقم (3883). وأخرجه ابن ماجه رقم (3530) والحاكم (4/ 317) والبغوي في شرح السنة (12/ 156 - 157) والطبراني في الكبير (10/ 262). وللحديث شواهد. فهو بها حسن. انظر " الصحيحة" (1/ 584 - 585).

مسعود: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يقول: " إن الرقى والتمائم والتولة (¬1) شرك ". وأخرج أحمد (¬2) والترمذي (¬3) عن عبد الله بن حكيم مرفوعا: " من تعلق شيئا وكل إليه ". وأخرج أحمد (¬4) عن رويفع قال: قال لي رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " يا رويفع لعل الحياة ستطول بك فأخبر الناس أن من عقد لحيته، أو تقلد وترا، أو استنجى برجيع دابة، أو عظم، فإن محمدا بريء منه". فانظر كيف جعل الرقى والتمائم والتولة شركا وما ذلك إلا لكونها مظنة لأن يصحبها اعتقاد أن لغير الله تأثيرا في الشفاء من الداء، وفي المحبة والبغضاء، فكيف. بمن [9] نادى غير الله، وطلب منه ما لا يطلب إلا من الله، واعتقد استقلاله بالتأثير أو اشتراكه مع الله عز وجل. ومن ذلك ما أخرجه الترمذي (¬5) وصححه عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عليها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرة ¬

(¬1) في حاشية المخطوط: هي شيء يضعونه يزعمون أنه يجيب المرأة إلى زوجها والعكس. تمت منه. (¬2) في المسند (4/ 310 - 311). (¬3) في السنن رقم (2072). وهو حديث حسن لغيره. (¬4) في المسند (4/ 108 - 109). وأخرجه أبو داود رقم (36) والنسائي (8/ 135 - 136) وهو حديث صحيح. (¬5) في السنن رقم (2180) وقال حديث حسن صحيح. وأخرجه أحمد (5/ 218) وعبد الرزاق (11/ 369) والحميدي في مسنده (2/ 375) والطيالسي (ص 191 رقم 1346) وابن أبي عاصم (1/ 37) والطبراني في الكبير (3/ 243 رقم 3290 - 3294). وهو حديث حسن.

فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " الله أكبر قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل:} اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون {(¬1) لتركبن سنن من كان قبلكم ". فهؤلاء إنما طلبوا أن يجعل لهم شجرة ينوطون بها أسلحتهم كما كانت الجاهلية تفعل ذلك، ولم يكن من قصدهم أن يعبدوا تلك الشجرة أو يطلبوا منها ما يطلبه القبوريون من أهل القبور، فأخبرهم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أن ذلك بمنزلة الشرك الصريح، وأنه بمنزلة طلب آلهة غير الله. ومن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه (¬2) عن علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- قال: حدثني رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بأربع كلمات: " لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثا، لعن الله من غير منار الأرض ". وأخرج أحمد (¬3) عن طارق بن شهاب أن رسول الله -صلى الله عليه وآله ¬

(¬1) [الأعراف:138]. (¬2) رقم (1978). وأخرجه أحمد (1/ 118؛ 252) وعبد الله في زوائد المسند (1/ 108) والنسائي (7/ 232) وأبو يعلى رقم (342/ 602) والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 99) والحاكم (4/ 153) والبخاري في الأدب المفرد رقم (17) والبغوي في شرح السنة رقم (2788) من طرق. وهو حديث صحيح. (¬3) في كتاب الزهد: (ص 32 - 33 رقم 84) وأبو نعيم في " الحلية " (1/ 203) عن طارق بن شهاب، عن سلمان الفارسي موقوفا بسند صحيح. في كتاب الزهد حدث (خطأ) وهو سليمان بدل سلمان. وطارق بن شهاب: هو البجلي الأحمسي، أبو عبد الله، رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو رجل. قال البغوي: نزل الكوفة. وقال أبو داود: رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يسمع منه شيئا. قال الحافظ إذا ثبت أنه لقي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو صحابي، وإذا ثبت أنه لم يسمع منه. فروايته عنه مرسل صحابي، وهو مقبول على الراجح، وكانت وفاته على ما جزم به ابن حبان سنة 83 هـ. "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" (ص 159).

وسلم- قال: " دخل الجنة رجل في ذباب ودخل النار رجل في ذباب " قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: " مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب إليه شيئا، فقالوا لأحدهم: [10] قرب ولو ذبابا، فقرب ذبابا فخلوا سبيله فدخل النار. وقالوا للآخر: قرب فقال: ما كنت أقرب لأحد دون الله -عز وجل- فضربوا عنقه فدخل الجنة ". فانظر لعنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لمن ذبح لغير الله، وإخباره بدخول من قرب لغير الله النار، وليس في ذلك إلا مجرد كون ذلك مظنة للتعظيم الذي لا ينبغي إلا لله، فما ظنك بما كان شركا بحتا!. قال بعض أهل العلم: إن إراقة دماء الأنعام عبادة لأنها إما هدي، أو أضحية، أو نسك، وكذلك ما يذبح للبيع لأنه مكسب حلال فهو عبادة ... ويتحصل من ذلك شكل قطعي هو إراقة دماء الأنعام عبادة، وكل عبادة لا تكون إلا لله، فإراقة دماء الأنعام لا تكون إلا لله. ودليل الكبرى قوله تعالى:} اعبدوا الله ما لكم من إله غيره {(¬1)،} فإياي فاعبدون {(¬2)،} إياك نعبد {(¬3)،} وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه {(¬4)،} وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين {(¬5). [الحلف بغير الله شرك] ومن ذلك أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- نهى عن الحلف بغير الله وقال: " ومن ¬

(¬1) [الأعراف:59]. (¬2) [العنكبوت: 56]. (¬3) [الفاتحة:4]. (¬4) [الإسراء: 23]. (¬5) [البينة:5].

حلف فليحلف بالله أو ليصمت" (¬1)، وقال: " من حلف بملة غير الإسلام لم يرجع إلى الإسلام سالما" (¬2)، أو كما قال: وسمع رجلا يحلف باللات والعزى فأمره أن يقول: لا إله إلا الله (¬3). وأخرج الترمذي (¬4) وحسنه، والحاكم (¬5) وصححه، من حديث عمر أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: " من حلف بغير الله فقد أشرك ". وهذه الأحاديث في دواوين الإسلام، وفيها أن الحلف بغير الله يخرج به الحالف عن الإسلام، وذلك لكون الحلف بشيء مظنة تعظيمه، فكيف بما كان شركا محضا يتضمن التسوية بين الخالق والمخلوق في طلب النفع، واستدفاع الضر، وقد يتضمن تعظيم المخلوق زيادة على تعظيم الخالق كما يفعله كثير من المخذولين، فإنهم يعتقدون أن لأهل القبور من جلب النفع، ودفع الضر ما ليس لله -تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا-، فإن أنكرت هذا فانظر أحوال [11] كثير من هؤلاء المخذولين، فإنك تجدهم كما ¬

(¬1) وهو جزء من حديث أخرجه البخاري رقم (6646) ومسلم رقم (3/ 1646). من حديث ابن عمر. (¬2) أخرجه أبو داود رقم (3258) والنسائي (7/ 6 رقم 3772) وابن ماجه رقم (2100) من حديث بريدة بن الحصيب. وهو حديث صحيح. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1607، 6301) ومسلم رقم (1647) والترمذي رقم (1545) والنسائي (7/ 7) وابن ماجه رقم (2096) والبيهقي (1/ 148 - 149) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وهو حديث صحيح. (¬4) في السنن رقم (1535). (¬5) في المستدرك (4/ 297) و (1/ 18) وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في الموضعين. مع أن البخاري لم يخرج للحسن بن عبيد الله شيئا. وأخرجه أحمد (2/ 125) وأبو داود رقم (3251) والبيهقي (10/ 29) وأخرجه بنحوه الطيالسي رقم (1896) وعبد الرزاق رقم (15926) وأحمد (2/ 34). وهو حديث صحيح.

وصف الله -سبحانه-:} وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون {(¬1). ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين (¬2) عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عند موته أنه كان يقول: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر ما صنعوا. وأخرج مسلم (¬3) عن جندب بن عبد الله أنه سمع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يقول: " إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك ". وأخرج أحمد (¬4) بسند جيد، وأبو حاتم في صحيحه عن ابن مسعود مرفوعا: " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد ". والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وفيها التصريح بلعن من اتخذ القبور مساجد، مع أنه لا يعبد إلا الله، وذلك لقطع ذريعة التشريك، ودفع وسيلة التعظيم. وورد ما يدل على أن عبادة الله عند القبور بمنزلة اتخاذها أوثان تعبد. أخرج مالك في الموطأ (¬5) أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا ¬

(¬1) [الزمر:45]. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (435، 436) ومسلم في صحيحه رقم (22/ 531). (¬3) في صحيحه رقم (23/ 532). (¬4) في المسند (1/ 405؛ 435). وأخرجه ابن خزيمة رقم (789) والطبراني في الكبير رقم (10413) والبزار رقم (3420 - كشف) وعلقه البخاري في صحيحه رقم (7067) وذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " (2/ 27) وقال: رواه الطبراني في الكبير، وإسناده حسن وأورده أيضًا (8/ 13) وقال رواه البزار بإسنادين في أحدهما عاصم بن بهدلة. وهو ثقة وفيه ضعف وبقية رجاله رجال الصحيح. وهو حديث حسن. (¬5) (1/ 172 رقم 85) مرسلا. وأخرجه ابن سعد في الطبقات (2/ 240 - 241) من طريق عطاء بن يسار مرسلا بسند صحيح. وأخرجه عبد الرزاق في " المصنف " (1/ 406 رقم 1587) عن زيد بن أسلم مرسلا. وأخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " (3/ 345) عن زيد بن أسلم مرسلا بسند صحيح. وأخرجه أحمد موصولا (2/ 246) والحميدي (2/ 445 رقم 1025) وأبو نعيم في " الحلية " (6/ 283) و (7/ 317) عن أبي هريرة بسند حسن بلفظ -المصنف-. أخرجه عبد الرزاق في " المصنف" (3/ 577 رقم 6726) وابن أبي شيبة في "المصنف" (3/ 345) عن ابن عجلان، عن سهل، عن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب أنه قال: ورأى رجلا وقف على البيت الذي فيه قبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو له ويصلي عليه فقال حسن للرجل: لا تفعل فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا تتخذوا بيتي عيدا ... " وهو مرسل، وسهل ذكره ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (4/ 249) ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا. وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه أحمد (2/ 367) وأبو داود رقم (2042) مرفوعًا " لا تتخذوا قبري عيدا ... " وهو حديث حسن. وله شاهد آخر أخرجه إسماعيل الجهضمي في " فضل الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " رقم (20) وأبو يعلى في " المسند " (1/ 361 رقم 209/ 469) والحديث بهذه الطرق صحيح والله أعلم.

يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ". وبالغ في ذلك حتى لعن زائرات القبور كما أخرجه أهل السنن (¬1) من حديث ابن عباس قال: لعن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج. ولعل وجه تخصيص النساء بذلك ما في طبائعهن من النقص المفضي إلى الاعتقاد والتعظيم بأدنى شبهة. ولا شك أن علة النهي [12] عن جعل القبور مساجد، وعن تسريجها، وتجصيصها، ورفعها، وزخرفتها هي ما ينشأ عن ذلك من الاعتقادات الفاسدة، كما ثبت في ¬

(¬1) أخرجه أبو داود رقم (3236) والترمذي رقم (320) وقال: حديث حسن. والنسائي (4/ 94 رقم 2043) وابن ماجه رقم (1575). وهو حديث حسن بشواهده ما عدا لفظ " السرج". انظر: الإرواء (3/ 213) والضعيفة رقم (225).

الصحيح (¬1) عن عائشة: أن أم سلمة ذكرت لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور فقال: " أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله". ولابن خزيمة عن مجاهد (¬2):} أفرأيتم اللات والعزى {(¬3) قال كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره. وكل عاقل يعلم أن لزيادة الزخرفة للقبور، وإسبال الستور الرائعة عليها، وتسريجها والتأنق في تحسينها تأثيرا في طبائع غالب العوام، ينشأ عنه التعظيم والاعتقادات الباطلة، وهكذا إذا استعظمت نفوسهم شيئا مما يتعلق بالأحياء وبهذا السبب اعتقدت كثيرا من الطوائف الألوهية في أشخاص كثيرة. ورأيت في بعض كتب التاريخ أنه قدم رسول لبعض الملوك على بعض خلفاء بني العباس، فبالغ الخليفة في التهويل على ذلك الرسول، وما زال أعوانه ينقلونه من رتبة إلى رتبة حتى وصل إلى المجلس الذي يقعد الخليفة في برج من أبراجه، وقد جمل ذلك المنزل بأبهى الآلات، وقعد فيه أبناء الخلفاء، وأعيان الكبراء، وأشرف الخليفة من ذلك البرج وقد انخلع قلب ذلك الرسول مما رأى، فلما وقعت عينه على الخليفة قال لمن هو [13] قابض على يده من الأمراء: أهذا الله؟ فقال: ذلك الأمر، بل هذا خليفة الله. فانظر ما صنع ذلك التحسين بقلب هذا المسكين!. وروي لنا أن بعض أهل جهة القبلة وصل إلى القبة الموضوعة على قبر الإمام أحمد بن الحسين صاحب ذيبين -رحمه الله- فرآها وهي مسرجة بالشمع، والبخور ينفخ في ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (427) ومسلم في صحيحه رقم (16/ 528) وأخرجه النسائي (2/ 41 رقم 704) وأبو عوانة (1/ 400 - 401) وابن سعد في الطبقات (2/ 239 - 240). (¬2) أخرجه ابن جرير في جامع البيان (28/ 58) وسنده صحيح. وأخرجه البخاري عن ابن عباس موقوفا (8/ 611). (¬3) [النجم 19].

جوانبها، وعلى القبر الستور الفائقة فقال عند وصوله إلى باب: أمسيت بالخير يا أرحم الراحمين. وفي الصحيح (¬1) عن ابن عباس في قوله تعالى:} لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا {(¬2)، قال: هذه أسماء رجال من قوم نوح، لما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون عليها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم يعبدوا، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت. وقال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم (¬3). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1/ 667) عن ابن عباس موقوفا. (¬2) [نوح: 23]. (¬3) لذلك يجب مراعاة جانب المقاصد والنوايا عند زيارة القبور: 1 - ) أن يكون مقصده الأساسي طاعة أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي استحب للمسلمين زيارة القبور. 2 - ) أن يقصد الدعاء للميت والاستغفار له والسلام عليه، ولا يقصد دعاءه والاستغاثة به وطلب الحاجات منه فإنه في حاجة إلى من يدعو له لا إلى من يدعوه. 3 - ) أن يقصد تذكر الآخرة والألفاظ فيكون قيامه على مقابر الموتى حافزا له على الطاعات والإقلاع عن المعاصي. 4 - ) إذا شد رحله إلى مكة أو إلى المدينة أو إلى المسجد الأقصى وجب أن يكون مقصده الصلاة في هذه المساجد ثم إذا أراد أن يزور الموتى بمكة، أو قبور المدينة وفي مقدمتها قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاحبيه أو قبور الأنبياء بالقدس فله ذلك كله شريطة أن يلتزم الاتباع لا الابتداع. - وعليه مراعاة جانب الممارسات والتطبيقات العملية: 1 - ) فلا يشد رحلا لزيارة القبور بل تكفيه زيارة القبور القريبة من محلة إقامته وكذلك القبور البعيدة التي يجتازها من غير قصد. انظر: " مجموع الفتاوى " (26/ 150). 2 - ) لا يدعو الموتى ولا يدعو بهم ولا يستغيث ولا يستعين بهم ولا يتحرى الصلاة عند قبورهم معتقدا أن ذلك أدعى للقبول. 3 - ) ولا يقول هجرا ولا ينطق بأي كلمة شركية أو موهمة للشرك مثل نداء الميت وطلب جواره وشفاعته منه ونحو ذلك مما يسخط الرب سبحانه وتعالى. 4 - ) ولا يتمسح بتراب القبر ولا بجدران الضريح إذا كان حوله جدران ولا يتبرك بشيء مما له صلة بالميت معتقدا أن ذلك ينفعه في دنياه أو في أخراه وليعلم أنه لا بركة ترجى إلا باتباع سيد المرسلين. 5 - ) وليحرص على الدعوات الواردة التي كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو بها عند زيارة القبور ولا يشغل نفسه بتلاوة القرآن عند الزيارة لأن ذلك مما لا أصل له في السنة، ولو كانت مشروعة لفعلها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولعلمها لأصحابه. انظر " مجموع الفتاوى " (26/ 150) و" أحكام الجنائز " (ص 191).

[العيافة والطرق والطيرة من الجبت] ومن ذلك ما أخرجه أحمد (¬1) بإسناد جيد عن قبيصة عن أبيه أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يقول: " إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت "، وأخرجه أبو داود (¬2)، والنسائي (¬3)، وابن حبان (¬4) أيضا. وأخرج أبو داود (¬5) بسند صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر ". ¬

(¬1) في المسند (3/ 477) و (5/ 60). قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3907) وعبد الرزاق (10/ 403 رقم 19502) والطحاوي في شرح المعاني (4/ 312 - 313) والبيهقي (8/ 139) والطبراني في الكبير (18\ رقم 941، 942، 943، 945) والدولابي في الكنى (1/ 86). وهو حديث ضعيف. (¬2) في السنن رقم (3907). (¬3) في السنن كما في تحفة الأشراف (8/ 275). (¬4) في صحيحه رقم (1426 - موارد). وهو حديث ضعيف. (¬5) في السنن رقم (3905). وأخرجه أحمد (1/ 227، 311) وابن ماجه رقم (3726) والطبراني في الكبير (11/ 135) والبيهقي (8/ 138) وقال الألباني في الصحيحة (2/ 435): وهذا إسناد جيد رجاله كلهم ثقات. وهو حديث حسن.

[تحريم إتيان الكاهن والعراف وتصديقه] وأخرج النسائي (¬1) من حديث أبي هريرة: " من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئا وكل إليه ". وهذه الأمور إنما كانت من الجبت والشرك، لأنها مظنة للتعظيم الجالب للاعتقاد الفاسد. ومن ذلك ما أخرجه أهل السنن (¬2). . . ¬

(¬1) في السنن (7/ 112 رقم 4079) وهو حديث ضعيف. (¬2) أبو داود رقم (3904) والترمذي رقم (135) وابن ماجه رقم (639) والنسائي في " عشرة النساء " رقم (131). وأخرجه الدارمي (1/ 259) والبيهقي في " السنن الكبرى " (7/ 198) وأحمد في المسند (2/ 408،476) وابن الجارود رقم (107) من طرق عن حماد بن سلمة عن حكيم الأثرم عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي هريرة به. قال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث حكيم الأثرم عن أبي تميمة. وقال البخاري في " التاريخ " (13/ 17) عقب الحديث: " هذا حديث لا يتابع عليه ولا يعرف لأبي تميمة سماع من أبي هريرة في البصريين " اهـ. وقال ابن عدي في " الكامل " (2/ 637): " وحكيم الأثرم يعرف بهذا الحديث وليس له غيره إلا اليسير " اهـ. قلت: عللوا الحديث بأمرين: الأول: ضعف حكيم بن الأثرم. الثاني: الانقطاع بين أبي تميمة وأبي هريرة. فالجواب عن الأول: أن حكيم وثقه ابن المدني، وأبو داود، وابن حبان، وقال النسائي: " لا بأس به " وقال الذهبي: " صدوق ". انظر: " تهذيب التهذيب " (1/ 475 - 476)، و" الكاشف " (1/ 186). أما الجواب عن الثاني: فأبو تميمة اسمه طريف بن مجالد، قد توفي سنة 97 هـ، وأبو هريرة توفي سنة 58 أو 59 هـ والمعاصرة تكفي كما عليه الجمهور إن كان ثقة غير مدلس، وأبو تميمة كذلك. وللحديث طرق أخرى عن أبي هريرة وشواهد انظر: " الإرواء " (7/ 69 - 70). وخلاصة القول أن الحديث صحيح.

والحاكم (¬1) وقال: صحيح على شرط الشيخين، عن أبي هريرة قال: قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد " وأخرج أبو يعلى (¬2) [14] بسند جيد مرفوعا: " من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد " وأخرج نحوه الطبراني من حديث ابن عباس بسند حسن. والعلة الموجبة للحكم بالكفر ليست إلا اعتقاد أنه مشارك لله -عز وجل- في علم الغيب، مع أنه في الغالب يقع غير مصحوب بهذا الاعتقاد، ولكن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه. ومن ذلك ما في الصحيحين (¬3) وغيرهما (¬4) عن زيد بن خالد قال: صلى بنا رسول الله ¬

(¬1) في المستدرك (1/ 8). وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وهو كما قالا. (¬2) في مسنده (9/ 280 رقم 442/ 5408) ورجاله ثقات، غير أن إبراهيم بن طهمان لم يذكر فيمن سمع من أبي إسحاق قديما، وهو موقوف على عبد الله بن مسعود. قاله الشيخ حسين سليم أسد. وأخرجه البزار (2/ 443 رقم 2067 - كشف). وأورده الهيثمي في " مجمع الزوائد " (5/ 118) وقال: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح، خلا هبيرة بن يريم وهو ثقة " وفاته أن ينسبه إلى أبي يعلى. وعزاه إلى أبي يعلى. ونقل الشيخ حبيب الرحمن عن البوصيري قوله: رواه الطيالسي بإسناد حسن. وله شاهد من حديث صفية بنت أبي عبيد عن بعض أزواج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة " عند أحمد (4/ 68) و (5/ 380) ومسلم رقم (2230). وله شاهد آخر من حديث أبي هريرة عند أحمد (2/ 429). والخلاصة أن الحديث صحيح والله أعلم. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (846) و (1038) و (4147) و (7503) ومسلم رقم (71). (¬4) كأبي داود رقم (3906) والنسائي (3/ 165) ومالك في الموطأ (1/ 192) وأحمد (4/ 117) والبغوي في " شرح السنة " رقم (1169) وأبو عوانة (1/ 26) و (1/ 27) وابن منده رقم (503 و504 و505 و506) وعبد الرزاق (21003) والحميدي رقم (813) والطبراني في الكبير رقم (5213 و5214 و5215 و5216) من طرق.

-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- صلاة الصبح على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس بوجهه فقال: " هل تدرون ماذا قال ربكم " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي، مؤمن بالكواكب ". ولا يخفى على عارف أن العلة في الحكم بالكفر هي ما في ذلك من إيهام المشاركة، وأين هذا ممن يصرح في دعائه عند أن يمسه الضر بقوله: يا الله، ويا فلان، وعلى الله، وعلى فلان فإن هذا يعبد ربين، ويدعو اثنين، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا فهو لم يقل أمطره ذلك النوء بل قال: أمطر به، وبين الأمرين فرق ظاهر. ومن ذلك ما أخرجه مسلم (¬1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " يقول الله -عز وجل-: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه " وأخرج أحمد (¬2) عن أبي سعيد مرفوعا: "ألا ¬

(¬1) في صحيحه رقم (46/ 2985). (¬2) في المسند (3/ 30). وأخرجه ابن ماجه رقم (4204) والحاكم (4/ 329) وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. قلت: وفي سنده " ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد " قال عنه البخاري: منكر الحديث- كما في العلل الكبير للترمذي رقم (18). وفيه دراج. قال الحافظ في "التقريب" رقم (1824): " صدوق، في حديثه عن أبي الهيثم ضعيف ". وفيه كثير بن زيد الأسلمي: قال الحافظ في " التقريب " رقم (5611): " صدوق يخطئ " فالحديث حقه الضعف، مع أن المحدث الألباني حسنه في صحيح الترغيب والترهيب رقم (30).

أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح الدجال؟ " قالوا: بلى، قال: " الشرك الخفي، يقوم الرجل فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل ". ومن ذلك [15] قوله تعالى:} فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صلحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا {(¬1). فإذا كان مجرد الرياء الذي هو فعل الطاعة لله -عز وجل- مع محبة أن يطلع عليها غيره، أو يثني بها، أو يستحسنها فيه شركا، فكيف بما هو محض الشرك؟. ومن ذلك ما أخرجه النسائي (¬2) أن يهوديا أتى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال: إنكم تقولون ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة فأمرهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أن يقولوا: " ورب الكعبة " وأن يقولوا: " ما شاء الله، ثم شئت " وأخرج النسائي (¬3) أيضًا عن ابن عباس مرفوعًا أن رجلا قال: "ما شاء الله وشئت، قال: ¬

(¬1) [الكهف: 110]. (¬2) في السنن (7/ 6 رقم 3773) من حديث قتيلة. وأخرجه أحمد (6/ 371 - 372) والحاكم (4/ 297) وصححه ووافقه الذهبي والبيهقي (3/ 216). وقال الحافظ في " الإصابة " (8/ 284 رقم 11643) عقبه: " أخرجه النسائي وسنده صحيح، وأخرجه ابن منده من طريق المسعودي، عن سعيد، عن ابن يسار عن قتيلة بن صيفي الجهنية " اهـ. والخلاصة أن الحديث صحيح والله أعلم. (¬3) في " عمل اليوم والليلة " رقم (988). وأخرجه ابن ماجه رقم (2217) والبخاري في الأدب المفرد رقم (783) وأحمد (1/ 214) وابن السني في " اليوم والليلة " رقم (672) والطبراني في الكبير (12/ 244 رقم 13005 و13006) وأبو نعيم في " الحلية " (4/ 99) والبيهقي (3/ 217) و (8/ 105) والخطيب في "التاريخ " (8/ 105) عن ابن عباس. قلت: مدار الحديث على أجلح بن عبد الله الكندي وثقه بعضهم وضعفه آخرون وقال الحافظ في " التقريب " رقم (285): صدوق شيعي. والخلاصة أن الحديث حسن والله أعلم.

أجعلتني لله ندا!؟ ما شاء الله وحده ". وأخرج ابن ماجه (¬1) عن الطفيل قال: رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون عزير ابن الله، قالوا: وأنتم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، قالوا: وأنتم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فأخبرته، قال: فهل أخبرت بها أحدا؟ قلت: نعم، قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: " أما بعد: فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم ¬

(¬1) في السنن رقم (2118). قلت: وأخرجه أحمد (5/ 393) كليهما من طريق سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان. وقد اختلف فيه على ابن عمير، فرواه سفيان عنه هكذا. وقال معمر عنه عن جابر بن سمرة قال: " رأى رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النوم ... " الحديث نحوه. أخرجه الطحاوي في " مشكل الآثار " رقم (237). وقال شعبة عنه عن ربعي عن الطفيل أخي عائشة؛ قال: قال رجل من المشركين لرجل من المسلمين: نعم القوم ... " الحديث. أخرجه الدارمي (2/ 295). وتابعه أبو عوانة عن عبد الملك به. أخرجه ابن ماجه (2118/ 2). وتابعه حماد بن سلمة عنه به عن الطفيل بن سخبرة أخي عائشة لأمها: بلفظ " إن طفيلا رأى رؤيا، فأخبر بها من أخبر منكم، وإنكم كنتم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم أن أنهاكم عنها؟ قال: لا تقولوا: ما شاء الله وما شاء محمد ". أخرجه أحمد (5/ 72). وهذا هو الصواب عن ربعي عن الطفيل، ليس عن حذيفة، لاتفاق هؤلاء الثلاثة:- حماد بن سلمة، وأبو عوانة، وشعبة- عليه. فهو شاهد صحيح لحديث حذيفة. والخلاصة فحديث حذيفة صحيح لغيره -وحديث الطفيل صحيح لذاته والله أعلم.

كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم، فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده ". والوارد في هذا الباب كثير، وفيه أن التشريك في المشيئة بين الله ورسوله، أو غيره من عبيده فيه نوع من الشرك. ولهذا جعل ذلك في هذا المقام الصالح كشرك اليهود والنصارى بإثبات ابن لله -عز وجل-[16]، وفي تلك الرواية السابقة أنه إثبات ند لله -عز وجل-، ومن ذلك قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لمن قال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، " بئس خطيب القوم أنت "، وهو في الصحيح (¬1). وأخرج ابن أبي حاتم (¬2) عن ابن عباس في تفسيره قوله تعالى:} فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون {(¬3) أنه قال: الأنداد أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله، وحياتك يا فلان، وحياتي. وتقول: لولا كلبه هذا لأتانا، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص. وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان. هذا كله شرك. انتهى. ومن ذلك ما ثبت في الصحيح (¬4) من حديث أبي هريرة أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: " لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وأرض ربك، ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي ". ووجه هذا النهي ما يفهم من مخاطبة السيد بمخاطبة العبد لربه، والرب لعبده، وإن لم يكن ذلك مقصودا مرادا ... ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (48/ 870) من حديث عدي بن حاتم. (¬2) في تفسيره (1/ 62 رقم 229). (¬3) [البقرة:22]. (¬4) أخرجه البخاري رقم (2552) ومسلم رقم (2249).

[النهي عن التصوير] ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين (¬1) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة شعير " ... ولهما (¬2) عن عائشة أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: " أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون خلق الله ". ولهما (¬3) عن ابن عباس: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يقول: " كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفسا يعذب بها [17] في جهنم ". ولهما (¬4) عنه مرفوعا: " من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ " ... وأخرج مسلم (¬5) عن أبي الهياج قال: قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته. فانظر إلى ما في هذه الأحاديث من الوعيد الشديد للمصورين، لكونهم فعلوا فعلا يشبه فعل الخالق، وإن لم يكن ذلك مقصودا لهم، وهؤلاء القبوريون قد جعلوا بعض خلق الله شريكا له ومثلا وندا، فاستغاثوا به فيما لا يستغاث فيه إلا بالله، وطلبوا منه ما لا يطلب إلا من الله مع القصد والإرادة. ومن ذلك ما أخرجه النسائي (¬6) بسند جيد عن عبد الله بن الشخير قال: انطلقت في ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7559) ومسلم في صحيحه رقم (101/ 2111). (¬2) أي للبخاري في صحيحه رقم (5954) ومسلم في صحيحه رقم (92/ 2107). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2225) ومسلم في صحيحه رقم (99/ 2110). (¬4) أخرجه البخاري رقم (5963) ومسلم رقم (100/ 2110). (¬5) في صحيحه رقم (93/ 969). (¬6) في عمل اليوم والليلة رقم (245 و247) قلت: وأخرجه أحمد (4/ 24 - 25) والبخاري في الأدب المفرد رقم (211) وأبو داود رقم (4806) وابن السني رقم (389) والبيهقي في الأسماء والصفات (ص 22). وهو حديث صحيح.

وفد بني عامر إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقلنا: أنت سيدنا فقال: " السيد الله -تبارك وتعالى- "، قلنا: وأفضلنا وأعظمنا طولا قال: " قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرنكم الشيطان ". وفي رواية: " ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلي الله -عز وجل- ... ". وبالجملة فالوارد عن الشارع من الأدلة الدالة على قطع ذرائع الشرك، وهدم كل شيء يوصل إليه في غاية الكثرة، ولو رمت حصر ذلك على التمام لجاء في مؤلف بسيط، فلنقتصر على هذا المقدار، ونتكلم على حكم ما يفعله القبوريون من الاستغاثة بالأموات، ومناداتهم لقضاء الحاجات، وتشريكهم مع الله في بعض الحالات، وإفرادهم بذلك في بعضها. [بعث الله الرسل لإخلاص توحيده] فنقول: اعلم أن الله لم يبعث [18] رسله، وينزل كتبه لتعريف خلقه بأنه الخالق لهم، والرازق، ونحو ذلك، فإن هذا يقر به كل مشرك قبل بعثة الرسل،} ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله {(¬1)،} ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم {(¬2)،} قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون {(¬3)، ¬

(¬1) [الزخرف: 87]. (¬2) [الزخرف:9]. (¬3) [يونس:31].

} قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون {(¬1). ولهذا تجد كل ما ورد في الكتاب العزيز في شأن خالق الخلق ونحوه في مخاطبة الكفار معنونا باستفهام التقرير:} هل من خالق غير الله {(¬2)،} أفي الله شك فاطر السماوات والأرض {(¬3)،} أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض {(¬4)،} فأروني ماذا خلق الذين من دونه {(¬5). بل بعث الله رسله، وأنزل كتبه لإخلاص توحيده، وإفراده بالعبادة} يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره {(¬6)،} ألا تعبدوا إلا الله {(¬7)،} أن اعبدوا الله واتقوه {(¬8)} قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آبآؤنا {(¬9)،} اعبدوا الله ما لكم من إله غيره (¬10)، {فإياي فاعبدون} (¬11). ¬

(¬1) [المؤمنون:84 - 89]. (¬2) [فاطر: 3]. (¬3) [إبراهيم: 10]. (¬4) [الأنعام:14]. (¬5) [لقمان:11]. (¬6) [الأعراف:59]. (¬7) [فصلت:14]. (¬8) [نوح: 3]. (¬9) [الأعراف]. (¬10) [المؤمنون:32]. (¬11) [العنكبوت:56].

وإخلاص التوحيد لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله لله، والنداء، والاستغاثة، والرجاء، واستجلاب الخير، واستدفاع الشر له ومنه لا لغيره ولا من غيره {فلا تدعوا مع الله أحدا} (¬1)، {له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء} (¬2)، {وعلى الله [19] فليتوكل المؤمنون} (¬3)، {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} (¬4). وقد تقرر أن شرك المشركين الذين بعث الله إليهم خاتم رسله لم يكن إلا باعتقادهم أن الأنداد التي اتخذوها تنفعهم وتضرهم وتقربهم إلى الله، وتشفع لهم عنده، مع اعترافهم بأن الله -سبحانه وتعالى- هو خالقها وخالقهم، ورازقها ورازقهم، ومحييها ومحييهم، ومميتها ومميتهم، {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} (¬5)، {فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} (¬6)، {إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين} (¬7)، {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} (¬8)، {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} (¬9). وكانوا يقولون (¬10) في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكا ¬

(¬1) [الجن:18]. (¬2) [الرعد:14]. (¬3) [التوبة:51]. (¬4) [المائدة:23]. (¬5) [الزمر:3]. (¬6) [البقرة:22]. (¬7) [الشعراء:97 - 98]. (¬8) [يوسف:106]. (¬9) [يونس:8]. (¬10) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1185) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك، قال: فيقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ويلكم قد، قد) فيقولون: إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت " وانظر " مجموع الفتاوى " لابن تيمية (1/ 156).

هو لك، تملكه وما ملك. [شرك القبوريين والوثنيين واحد] وإذا تقرر هذا فلا شك أن من اعتقد في ميت من الأموات، أو حي من الأحياء أنه يضره أو ينفعه، إما استقلالا أو مع الله تعالى، وناداه أو توجه إليه أو استغاث به في أمر من الأمور التي لا يقدر عليها المخلوق، فلم يخلص التوحيد لله، ولا أفرده بالعبادة؛ إذ الدعاء بطلب وصول الخير إليه، ودفع الضر عنه هو نوع من أنواع العبادة. ولا فرق بين أن يكون هذا المدعو من دون الله، أو معه حجرا، أو شجرا، أو ملكا، أو شيطانا كما كانت تفعل ذلك الجاهلية، وبين أن يكون إنسانا من الأحياء، أو الأموات كما يفعله الآن كثير من المسلمين. وكل عالم يعلم هذا ويقر به فإن العلة واحدة، وعبادة غير الله وتشريك غيره معه تكون للحيوان كما تكون للجماد وللحي كما تكون للميت ... فمن زعم أن ثم فرقا بين من اعتقد في وثن من الأوثان أنه يضر وينفع، [20] وبين من اعتقد من ميت من بني آدم، أو حي منهم أنه يضر أو ينفع أو يقدر على أمر لا يقدر عليه إلا الله فقد غلط غلطا بينا، وأقر على نفسه بجهل كبير؛ فإن الشرك هو دعاء غير الله في الأشياء التي تختص به، أو اعتقاد القدرة لغيره فيما لا يقدر عليه سواه، أو التقرب إلى غيره بشيء مما لا يتقرب به إلا إليه. ومجرد تسمية المشركين لما جعلوه شريكا بالصنم والوثن والإله، ليس فيه زيادة على التسمية بالولي والقبر والمشهد، كما يفعله كثير من المسلمين، بل الحكم واحد إذا حصل لمن يعتقد في الولي والقبر ما كان يحصل لمن كان يعتقد في الصنم والوثن؛ إذ ليس الشرك هو بمجرد إطلاق بعض الأسماء على بعض المسميات، بل الشرك هو أن يفعل لغير الله شيئا يختص به -سبحانه [وتعالى]،- سواء أطلق على ذلك الغير ما كان تطلقه عليه

الجاهلية، أو أطلق عليه اسما آخر فلا اعتبار بالاسم قط. ومن لم يعرف هذا فهو جاهل لا يستحق أن يخاطب بما يخاطب به أهل العلم (¬1). وقد علم كل عالم أن عبادة الكفار (¬2) للأصنام لم تكن إلا بتعظيمها، واعتقاد أنها تضر وتنفع الاستغاثة بها عند الحاجة، والتقريب لها في بعض الحالات بجزء من أموالهم، وهذا كله قد وقع من المعتقدين في القبور، فإنهم قد عظموها إلى حد لا يكون إلا لله -سبحانه-، بل ربما يترك العاصي منهم فعل المعصية إذا كان في مشهد من يعتقده أو قريبا منه، مخافة تعجيل العقوبة من ذلك الميت، وربما لا يتركها إذا كان في حرم الله [21]، أو في مسجد من المساجد، أو قريبا من ذلك. وربما حلف بعض غلاتهم بالله كاذبا، ولم يحلف بالميت الذي يعتقده، وأما اعتقادهم أنها تضر وتنفع فلولا اشتمال ضمائرهم على هذا الاعتقاد لم يدع أحد منهم ميتا أو حيا عند استجلابه لنفع، أو استدفاعه لضر قائلا: يا فلان افعل لي كذا أو كذا، وعلى الله وعليك، وأنا بالله وبك، وأما التقريب للأموات (¬3) فانظر ما يجعلونه من النذور لهم، وعلى قبورهم في كثير من ¬

(¬1) انظر " مجموع فتاوى " (1/ 125 - 130) لابن تيمية. (¬2) انظر " مجموع فتاوى " (1/ 156 - 158) لابن تيمية. (¬3) اعلم أن هذه النذور التي يقدمها المتصوفة والقبوريون لأوليائهم تتضمن من العقائد ما هو أخطر من مجرد الذبح لغير الله، وهو اعتقادهم أن الحياة والموت بيد المنذور له وهو شرك في الربوبية. أن المسائل العقدية ليست مجالا للمجاملات -فالأمر بالمعروف وفي مقدمته الأمر بإخلاص العبادة لله- والنهي عن المنكر، وفي مقدمته النهي عن الشرك بالله- يقتضيان من المسلم الواعي أن يقدم النصح الخالص لكل متلبس بالشرك، خصوصا الأقارب وليعد ذلك أكبر مظهر من مظاهر صلة الرحم. أن عقيدتهم في تقديم النذور لأهل القبور -رغم ما فيها من مخاطر على دين المرء- تتضمن أيضًا المنع من الأخذ بالأسباب الشرعية في معالجة الأمراض البدنية- ليس عن طريق إساءة فهم التوكل كما قد يقع للبعض- ولكن عن طريق المعالجة بمن لم يجعل الله الشفاء في يده، بل نهى عن قصدهم فتراهم يذبحون للضريح الفلاني وينذرون لقبر الولي الفلاني، كما يتقربون إلى شياطين الجن والأنس، وآخر ما يفكرون فيه هو الابتهال إلى الله واللجوء إلى الطب الشرعي وفي هذا خطر كبير على صحة الإنسان. أن القبوريين الذين صرفوا أنواع النذور من القرابين والأموال والستور والشموع والسرج للأضرحة داخلون تحت لعن الله وأفعالهم مشابهة لأفعال عباد الكنائس وبيوت الأصنام. أكل تلك الأموال حرام على سدنة القبور. النذر للأضرحة إضاعة للمال ووضع له في غير موضعه وهو وجه من أوجه التحريم. أن قبول سدنة القبور لنذور الناذرين يتضمن تدليسا قبيحا وقلبا لموازين الحق، لأن فيه تقريرا للناذر على شركة، ورضي بذلك الشرك وفيه إيهام له بأن المنذور له ينفعه أو يضره، خاصة إذا كان السادن من المتظاهرين بالزهد والورع. انظر: عقيدة المسلم (ص 77) و" مصرع الشرك والخرافة " (ص 219 - 221).

المحلات، ولو طلب الواحد منهم أن يسمح بجزء من ذلك لله -عز وجل- لم يفعل، وهذا معلوم يعرفه من عرف أحوال هؤلاء. [اعتقاد القبوريين في الأموات] فإن قلت: إن هؤلاء القبوريين يعتقدون أن الله هو الضار النافع، والخير والشر بيده، وإن استغاثوا بالأموات قصدا لإنجاز ما يطلبونه من الله -سبحانه [وتعالى]-. قلت: وهكذا كانت الجاهلية، فإنهم يعلمون أن الله هو الضار النافع، وأن الخير والشر بيده، وإنما عبدوا أصنامهم لتقربهم إلى الله زلفى كما حكاه الله عنهم في كتابه العزيز. نعم إذا لم يحصل من المسلمين إلا مجرد التوسل الذي قدمنا تحقيقه فهو كما ذكرناه سابقا، ولكن من زعم أنه لم يقع منه إلا مجرد التوسل وهو يعتقد من تعظيم ذلك الميت ما لا يجوز اعتقاده في أحد من المخلوقين، وزاد على مجرد الاعتقاد فتقرب إلى الأموات بالذبائح والنذور، وناداهم مستغيثا بهم عند الحاجة، فهذا كاذب في دعواه أنه متوسل فقط، فلو كان الأمر كما زعمه لم يقع منه شيء من [22] ذلك، إذ المتوسل به

لا يحتاج إلى رشوة بنذر، أو ذبح، ولا تعظيم، ولا اعتقاد، لأن المدعو هو الله -سبحانه-، وهو أيضًا المجيب. ولا تأثير لمن وقع به التوسل قط، بل هو بمنزلة التوسل بالعمل الصالح، فأي جدوى في رشوة من قد صار تحت أطباق الثرى بشيء من ذلك! وهل هذا إلا فعل من يعتقد التأثير اشتراكا أو استقلالا ولا أعدل من شهادة أفعال جوارح الإنسان على بطلان ما ينطق به لسانه من الدعاوى الباطلة العاطلة، بل من زعم أنه لم يحصل منه إلا مجرد التوسل وهو يقول بلسانه: يا فلان، مناديا لمن يعتقده من الأموات فهو كاذب على نفسه (¬1). ومن أنكر حصول النداء (¬2) للأموات والاستغاثة بهم استقلالا فليخبرنا ما معنى ما يسمعه في الأقطار اليمنية من قولهم: يا ابن العجيل، يازيلعي، يا ابن علوان، يا فلان يا فلان، وهل ينكر هذا منكر، أو يشك فيه شاك، وما عدى ديار اليمن فالأمر فيها أطم وأعم؛ ففي كل قرية ميت يعتقده أهلها وينادونه، وفي كل مدينة جماعة منهم، حتى إنهم في حرم الله ينادونه يا ابن عباس، يا محجوب، فما ظنك بغير ذلك! فلقد تلطف إبليس وجنوده -أخزاهم الله- لغالب أهل الملة الإسلامية بلطيفة تزلزل الأقدام عن الإسلام. فإنا لله وإنا إليه راجعون (¬3). ¬

(¬1) يقول الغزالي: " أليس من المضحك أن نستنجد بقوم يطلبون لأنفسهم النجدة وأن نتوسل بمن يطلب هو كل وسيلة ليستفيد خيرا أو ليدفع شرا؟ " {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه} [الإسراء: 157]. عقيدة المسلم (ص 77). (¬2) انظر: " مصرع الشرك والخرافة " (ص 217 - 225). رسالة " كنت قبوريا " (ص 15 - 28). (¬3) وليس الأقطار اليمنية فقط وليس ضريح السيد البدوي هو وحده يستقبل الملايين سنويا في مصر، فهناك ضريح الشبلي يستقبل جمهورا غفيرا من الحجاج، وهذا ما سجله الكاتب السيد محمد فريد حيث كتب يقول: " قصة واقعية من قلب مملكه الدراويش ومن الواقع الأليم الذي تعيشه أمة المجانين حيث تقع قرية الشيخ شبل مركز المراغة محافظة سوهاج، ماذا حدث في هذه القرية؟ هناك من يعبد من دون الله وتقدم إليه القرابين كل عام وله سادن يقوم على خدمته وهو المدعو " أبو النعمان الشبلي " وذات يوم ترك السادن الشمعة على جسم الوثن الخشبي فتسللت النيران إلى الخشب وأصبح الإله كتلة فحم وراح الناس يشكون ويبكون ويقولون: من فعل هذه بآلهتنا؟ ونقول لهم اسألوهم إن كانوا ينطقون .. وماذا يصنع القوم؟ قاموا على الفور وأحضروا نجارا مازقا وصنعوا على الفور صنما " بدل تالف " وانطبق على أهالي قرية الشيخ شبل قول المولى عز وجل: {أتعبدون ما تنحتون} [الصافات: 95]." مجلة التوحيد " العدد (12) ذو الحجة (1411هـ) (ص 47).

أين من يعقل معنى: {إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم} (¬1) {فلا تدعوا مع الله أحدا} (¬2)، {له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء} (¬3). وقد أخبرنا الله -سبحانه- أن الدعاء عبادة في محكم كتابه بقوله تعالى: {ادعوني أستجب لكم [23] إن الذين يستكبرون عن عبادتي} (¬4). وأخرج أبو داود (¬5)، والترمذي (¬6) وقال: حسن صحيح من حديث النعمان بن بشير ¬

(¬1) [الأعراف:194]. (¬2) [الجن:18]. (¬3) [الرعد:14]. (¬4) [غافر:60]. (¬5) في السنن رقم (1479). (¬6) في السنن (3247) و (3372). وأخرجه أحمد (4/ 267) والبخاري في الأدب المفرد (714) والطيالسي كما في منحة المعبود رقم (1252) وابن ماجه رقم (3828) والطبراني في الصغير (2/ 97) والحاكم (1/ 490 - 491) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وأبو نعيم في الحلية (8/ 120) والبغوي في شرح السنة (5/ 184 - 185 رقم 1384) والنسائي في السنن الكبرى (3519) كما في تحفة الأشراف وابن حبان رقم (2396 - موارد) من طرق. وهو حديث صحيح.

قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " إن الدعاء هو العبادة "، وفي رواية (¬1): " مخ العبادة ". ثم قرأ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الآية المذكورة. وأخرجه أيضًا النسائي (¬2)، وابن ماجه (¬3)، والحاكم (¬4)، وأحمد (¬5)، وابن أبي شيبة (¬6) باللفظ المذكور. وكذلك النحر للأموات عبادة لهم، والنذر لهم بجزء من المال عبادة لهم، والتعظيم عبادة لهم. كما أن النحر للنسك، وإخراج صدقة المال، والخضوع، والاستكانة عبادة لله عز وجل - بلا خلاف. ومن زعم أن ثم فرقا بين الأمرين فليهده إلينا، ومن قال إنه لم يقصد بدعاء الأموات والنحر لهم، والنذر عليهم عبادتهم فقل له: فلأي مقتض صنعت هذا الصنع؟ فإن دعائك للميت عند نزول أمر بك لا يكون إلا لشيء في قلبك عبر عنه لسانك، فإن كنت تهذي بذكر الأموات عند عروض الحاجات من دون اعتقاد منك لهم فأنت مصاب بعقلك، وهكذا إن كنت تنحر لله وتنذر لله فلأي معنى جعلت ذلك ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في السنن رقم (3371) من حديث أنس وقال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة " اهـ. وهو حديث ضعيف. (¬2) لم أجده؟. (¬3) في السنن رقم (3829). (¬4) في المستدرك (1/ 490). (¬5) في المسند (2/ 362). (¬6) لم أعثر عليه في المصنف. قلت: وأخرجه البخاري في الأدب المفرد رقم (712) وابن حبان في صحيحه رقم (870) والطيالسي رقم (2585) والترمذي رقم (3370). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو حديث حسن.

للميت، وحملته إلى قبره؟ فإن الفقراء على ظهر البسيطة في كل بقعة من بقاع الأرض، وفعلك وأنها عاقل لا يكون إلا لمقصد قد قصدته، وأمر قد أردته، وإلا فأنت مجنون قد رفع عنك القلم، ولا نوافقك على دعوى الجنون إلا بعد صدور أفعالك وأقوالك في غير هذا على نمط أفعال المجانين، فإن كنت تصدرها مصدر أفعال العقلاء فأنت تكذب على نفسك في دعواك الجنون في هذا الفعل بخصوصه، فرارا عن أن يلزمك ما لزم عباد الأوثان الذين حكى الله عنهم في كتابه العزيز ما حكاه بقوله: {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا} (¬1)، وبقوله: {ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسئلن عما كنتم تفترون} (¬2) [24]. [كلمة التوحيد لا تكفي مجردة عن العمل] فإن قلت: إن المشركين كانوا لا يقرون بكلمة التوحيد، وهؤلاء المعتقدون في الأموات يقرون بها. قلت: هؤلاء إنما قالوها بألسنتهم، وخالفوها بأفعالهم، فإن من استغاث بالأموات، أو طلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله - سبحانه-، أو عظمهم، أو نذر عليهم بجزء من ماله، أو نحر لهم فقد نزلهم منزلة الآلهة التي كان المشركون يفعلون لها هذه الأفعال، فهو يعتقد معنى لا إله إلا الله، ولا عمل بها، بل خالفها اعتقادا وعملا، فهو في قوله: لا إله إلا الله كاذب على نفسه، فإنه قد جعل لها إلها غير الله يعتقد أنه يضر وينفع، وعبده بدعائه عند الشدائد، والاستغاثة به عند الحاجة، وبخضوعه له وتعظيمه إياه، ونحر له النحائر، وقرب إليه نفائس الأموال. وليس مجرد قول لا إله إلا الله من دون عمل بمعناها مثبتا للإسلام، فإنه لو قالها أحد من أهل الجاهلية، وعكف على صنمه يعبده لم يكن ¬

(¬1) [الأنعام: 136]. (¬2) [النحل:56].

ذلك إسلاما. فإن قلت: قد أخرج أحمد بن حنبل (¬1)، والشافعي (¬2) في مسنديهما من حديث عبد الله بن عدي بن الخيار أن رجلا من الأنصار حدثه أنه أتى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وهو في مجلسه فساره يستأذنه في قتل رجل من المنافقين فجهر رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال: " أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ " قال الأنصاري: بلى يا رسول الله، ولا شهادة له. قال: " أليس يشهد أن محمدا رسول الله "؟ قال: بلى ولكن لا شهادة له، قل: " أليس يصلي؟ " قال بلى، ولا صلاة له قال: " أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم ". وفي الصحيحين (¬3) من حديث أبي سعيد في قصة الرجل الذي قال: يا رسول الله، اتق الله. وفيه قال [25] خالد بن الوليد: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ فقال: " لا لعله أن يكون يصلي "، فقال خالد: كم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟ فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق قلوبهم ". ومنه قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لأسامة بن زيد لما قتل رجلا من الكفار بعد أن قال لا إله إلا الله، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " فما تصنع بلا إله إلا الله؟ " فقال: يا رسول الله، إنما قالها تقية، فقال: " هل شققت عن قلبه؟ " هذا معنى الحديث، وهو في الصحيح (¬4). ¬

(¬1) في المسند (5/ 432). (¬2) في المسند (1/ 63 - 64). قلت: عبيد الله بن عدي بن الخيار يعد من الصحابة، ولكن لم يثبت له سماع. ولكن للحديث طريق موصولة أخرجها أحمد في المسند (5/ 433) عن عبد الله بن عدي الأنصاري بسند صحيح. وانظر: الإصابة (4/ 152 رقم 4841). (¬3) أخرجه البخاري رقم (4351) ومسلم رقم (144/ 1064). (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (160/ 97).

قلت لا شك أن من قال لا إله إلا الله، ولم يتبين من أفعاله ما يخالف معنى التوحيد فهو مسلم محقون الدم، والمال إذا جاء بأركان الإسلام المذكورة في حديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويحجوا البيت، ويصوموا رمضان" (¬1) ¬

(¬1) وهو حديث متواتر له طرق عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله ". 1 - ) سعيد بن المسيب عنه: أخرجه مسلم رقم (33/ 21) والنسائي (6/ 4 - 5،6،7) وابن حبان رقم (218) والطبراني في الأوسط (2/ 158 رقم 1294) والطحاوي في شرح المعاني (3/ 213)، وابن منده في الإيمان (1/ 162 رقم 23) و (1/ 359 رقم 199) و (1/ 360 رقم 200) من طريق الزهري به. 2 - ) عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عنه. أخرجه البخاري رقم (1399) ورقم (6924) ورقم (7282 و7285) ومسلم رقم (32/ 20) وأبو داود رقم (1556) والنسائي (5/ 14 - 15) و (5/ 6) والترمذي رقم (2607) وقال حديث حسن صحيح. وأحمد (2/ 423، 528) وأبو عبيد في الأموال (ص 23 رقم 4644) والطبراني في الأوسط (1/ 512 رقم 954) وابن منده في الإيمان (1/ 64 رقم 24) و (1/ 380 رقم 215) و (382 رقم 216). من طريق الزهري، عنه قال ابن منده (1/ 165): " هذا إسناد مجمع على صحته، من حديث الزهري، وعنه مشهور ". 3 - ) أبو صالح، عنه: أخرجه مسلم رقم (35/ 21) وأبو داود رقم (2640) والترمذي رقم (2606) وقال: حديث حسن صحيح. وابن ماجه رقم (3927) وأحمد (2/ 377) والطحاوي في شرح المعاني (3/ 213) وابن منده (1/ 166 رقم 26) و (1/ 168 رقم 28). 4 - ) أبو صالح مولى التوأمة، عنه: أخرجه أحمد (2/ 475) من طريق سفيان عنه، وسنده حسن في المتابعات. 5 - ) الأعرج، عنه: أخرجه الطحاوي (3/ 213) عن أبي الزناد، عنه. 6 - ) أبو سلمة، عنه: أخرجه أحمد (2/ 502) والشافعي في السنن المأثورة (ص 432 رقم 643) وأبو عبيد في الأحوال (ص 23 رقم 43) والطحاوي (3/ 213) والبغوي (1/ 65 - 66) من طريق محمد بن عمرو، عنه: وسنده حسن. 7 - ) عبد الرحمن بن يعقوب، عنه: أخرجه مسلم رقم (34/ 21) وابن حبان رقم (174) ورقم (220) وابن منده (1/ 358 رقم 196، 197، 198) والدارقطني (2/ 89 رقم 4). 8 - ) أبو حازم، عنه: أخرجه أحمد (2/ 527) من طريق يزيد بن كيسان، عنه، وسنده صحيح. 9 - ) همام بن منبه، عنه: أخرجه أحمد (2/ 314) وابن منده في الإيمان (1/ 167 رقم 27) والبغوي (1/ 65). 10 - ) عبد الرحمن بن أبي عمرة، عنه: أخرجه أحمد (2/ 482) من طريق هلال بن علي، عنه: 11 - ) مجاهد بن جبر، عنه: أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 306) من طريق ليث بن أبي سليم عنه وقال: " هذا حديث صحيح غريب ثابت من طرق كثيرة. وحديث مجاهد عن أبي هريرة غريب من حديث ليث لم نكتبه إلا من هذا الوجه" اهـ. قلت: وليث بن أبي سليم ضعيف، الميزان (3/ 420) والمجروحين (2/ 231 - 234) والجرح والتعديل (7/ 177 - 179). 12 - ) كثير بن عبيد، عنه: أخرجه أحمد (2/ 345) وابن خزيمة (4/ 8 رقم 2248). والبخاري في التاريخ الكبير (7/ 36) والدارقطني (1/ 231 رقم 1) و (2/ 89 رقم 3) والحاكم (1/ 387) من طريق سعيد بن كثير، عن أبيه. وسنده حسن في المتابعات، وسعيد بن كثير متكلم فيه، ولكن تابعه عبد الله بن دكين، عن كثير بن عبيد. أخرجه ابن عدي في الكامل (4/ 1542) وعبد الله بن دكين، وثقه أحمد وقال ابن معين: " لا بأس به " وضعفه في رواية، وكذا أبو زرعة الرازي في الميزان (2/ 417 رقم 4296) فالسند صحيح بمجموع الطريقين. 13 - ) ابن الحنفية، عنه: أخرجه الخطيب في التاريخ (12/ 201) من طريق منذر الثوري، عنه وسنده تالف. وفيه: عمرو بن عبد الغفار الفقيمي، قال أبو حاتم: متروك الحديث وقال ابن عدي، اتهم بوضع الحديث " الميزان " (3/ 272 رقم 6403). 14 - ) الحسن البصري، عنه: أخرجه الدارقطني (2/ 89 رقم 20) وأبو نعيم في الحلية (2/ 159) و (3/ 25) وسنده ضعيف. 15 - ) زياد بن الحارث، عنه: أخرجه البخاري التاريخ (3/ 367) من طريق ليث بن أبي سليم وهو ضعيف - عنه. وقد اختلف في زياد هذا. 16 - ) عجلان المدني، عنه: أخرجه الطحاوي (3/ 213) من طريق محمد بن عحلان، عنه، وسنده صحيح. قلت: وللحديث شواهد كثيرة -فهو متواتر- عن جماعة من الصحابة كأنس وابن عمر، وجابر، وأوس بن أبي أوس، وجرير بن عبد الله، وأبي بكرة، والنعمان بن بشير، وابن عباس، وأبي مالك الأشجعي، وسهل بن سعد. وانظر: " قطف الأزهار المتناثرة " للسيوطي ص 34 - 35، و" نظم المتناثر من الحديث المتواتر " للكتاني ص 29 رقم 9.

وهكذا من قال لا إله إلا الله متشهدا بها شهادة الإسلام، ولم يكن قد مضى عليه من الوقت ما يجب فيه شيء من أركان الإسلام، فالواجب حمله على الإسلام، عملا بما أقر به بلسانه، وأخبر به من أراد قتاله؛ ولهذا قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لأسامة بن زيد ما قال. وأما من تكلم بكلمة التوحيد، وفعل أفعالا تخالف التوحيد، كاعتقاد هؤلاء المعتقدين في الأموات، فلا ريب أنه قد تبين من حالهم خلاف ما حكته ألسنتهم من إقرارهم

بالتوحيد، ولو كان مجرد التكلم بكلمة التوحيد موجبا للدخول في الإسلام، والخروج من الكفر، سواء فعل المتكلم بها ما يطابق التوحيد أو يخالفه لكانت نافعة لليهود، مع أنهم [26] يقولون: عزير ابن الله، وللنصارى مع أنهم يقولون: المسيح ابن الله، وللمنافقين مع أنهم يكذبون بالدين، ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وجميع هذه الطوائف الثلاث يتكلمون بكلمة التوحيد، بل لم تنفع الخوارج (¬1) فإنهم من أكمل الناس توحيدا، وأكثرهم عبادة، وهم كلاب النار. وقد أمرنا (¬2) رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بقتلهم مع أنهم لم يشركوا بالله، ولا خالفوا معنى لا إله إلا الله، بل وحدوا الله حق توحيده، وكذلك المانعون للزكاة هم موحدون لم يشركوا، ولكنهم تركوا ركنا من أركان الإسلام، ولهذا أجمعت الصحابة على قتالهم، بل دل الدليل الصحيح المتواتر (¬3) على ذلك، وهو الأحاديث الواردة بألفاظ منها: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويحجوا البيت، ويصوموا رمضان، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " فمن ترك أحد هذه الخمس فلم يكن معصوم الدم ولا المال، وأعظم من ذلك تارك معنى التوحيد، أو المخالف له بما يأتي به من الأفعال. فإن قلت: هؤلاء المعتقدون في الأموات لا يعلمون بأن ما يفعلونه شرك، بل لو عرض أحدهم على السيف لم يقر بأنه مشرك بالله، ولا فاعل لما هو شرك، ولو علم أدنى علم أن ذلك شرك لم يفعله. قلت: الأمر كما قلت، ولكن لا يخفى عليك ما تقرر في أسباب الردة أنه لا ¬

(¬1) تقدم التعريف بهم. (¬2) أخرج البخاري رقم (4351) ومسلم رقم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري وفيه " .. إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبا، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية - وأظنه قال: لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود ". (¬3) تقدم تخريجه مع بيان طرقه (ص 347 - 349).

يعتبر في ثبوتها العلم بمعنى ما قاله من جاء بلفظ كفري، أو فعل فعلا كفريا. وعلى كل حال [27] فالواجب على كل من اطلع على شيء من هذه الأقوال والأفعال التي اتصف بها المعتقدون في الأموات أن يبلغهم الحجة الشرعية، ويبين لهم ما أمره الله ببيانه، وأخذ عليهم الميثاق أن لا يكتمه، كما حكى ذلك لنا في كتابه العزيز، فيقول لمن صار يدعو الأموات عند الحاجات، ويستغيث هم عند حلول المصيبات، وينذر لهم النذور، وينحر لهم النحائر، ويعظمهم تعظيم الرب -سبحانه- أن هذا الذي تفعلونه هو الشرك الذي كانت عليه الجاهلية، وهو الذي بعث الله رسله هدمه، وأنزل كتبه في ذمه، وأخذ على النبيين أن يبلغوه عبادة أنهم لا يؤمنون حتى يخلصوا له التوحيد، ويعبدوه وحده، فإذا علموا هذا علما لا يبقى معه شك ولا شبهة، ثم أصروا على ما هم فيه من الطغيان والكفر بالرحمن وجب عليه أن يخبرهم بأنهم إذا لم يقلعوا عن هذه الغواية، ويعودوا إلى ما جاءهم به رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من الهداية فقد حلت دماؤهم وأموالهم، فإن رجعوا وإلا فالسيف هو الحكم العدل كما نطق به الكتاب المبين، وسنة سيد المرسلين في إخوانهم من المشركين. [طلب دعاء الأحياء والاستشفاع بهم ليس شركا] فإن قلت: قد ورد الحديث الصحيح (¬1) بأن الخلائق يوم القيامة يأتون آدم فيدعونه ويستغيثون به، ثم نوحا، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم محمدا -صلى الله عليه وعليهم-. قلت: أهل المحشر إنما يأتون [28] هؤلاء الأنبياء يطلبون منهم أن يشفعوا لهم إلى الله -سبحانه-، ويدعوا لهم بفصل الحساب والإراحة من ذلك الموقف، وهذا جائز، فإنه من طلب الشفاعة والدعاء المأذون فيهما، وقد كان الصحابة يطلبون من رسول الله ¬

(¬1) تقدم تخريجه (ص 311).

-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في حياته أن يدعو لهم كما في حديث: " يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم " لما أخبرهم بأنه يدخل الجنة سبعون ألفا، وحديث (¬1): "سبقك بها عكاشة "، وقول أم سليم (¬2): يا رسول الله، خادمك أنس ادع الله له. وقول المرأة (¬3) التي كانت تصرع: يا رسول الله، ادع الله لي، وآخر الأمر سألته الدعاء بأن لا تنكشف عند الصرع، فدعا لها. ومنه إرشاده -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لجماعة من الصحابة بأن يطلبوا من أويس القرني (¬4) الدعاء إذا أدركوه، ومنه ما ورد في دعاء المؤمن لأخيه بظهر ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6541) من حديث ابن عباس. وأخرجه البخاري أيضًا في صحيحه رقم (6542) ورقم (5811). ومسلم في صحيحه رقم (367) و (369/ 216) من حديث أبي هريرة. وأخرجه مسلم أيضًا في صحيحه رقم (371/ 218) من حديث عمران بن حصين. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6334 و6344 و6378 و6379) من حديث أنس. (¬3) أخرجه البخاري رقم (5652) ومسلم رقم (54/ 2576) من حديث ابن عباس. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2542): عن أسير بن جابر، قال: كان عمر بن الخطاب، إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس. فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم. قال: فكان بك برص فبرئت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم. قال: لك والدة؟ قال: نعم. قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم قرن كان به برص فبرئ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر. لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل " فاستغفر لي، فاستغفر له. فائدة: أن الرحل الصالح الذي يطلب منه الدعاء لا يشترط أن يكون أفضل عند الله ممن يطلب منه الدعاء بل يكفي أن يكون من أهل الصلاح والتقوى حسب ما يظهر للناس. ولذا أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عمر أن يطلب من أويس القرني أن يستغفر له، وعمر أفضل منه، لكنه كان صالحا بارا بأمه، بل وطلب عليه الصلاة والسلام من أمته أن يسألوا له الوسيلة بقوله: " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعة" أخرجه مسلم في صحيحه رقم (288) و (384).

الغيب (¬1) وغير ذلك مما لا يحصر، حتى إن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال لعمر لما خرج معتمرا: لا تنسنا يا أخي من دعائك (¬2). فمن جاء إلى رجل صالح، واستمد منه أن يدعو له، فهذا ليس من ذلك الذي يفعله المعتقدون في الأموات، بل هو سنة حسنة، وشريعة ثابتة، وهكذا طلب الشفاعة ممن جاءت الشريعة المطهرة بأنه من أهلها كالأنبياء، ولهذا يقول الله لرسوله يوم القيامة: "سل تعطه، واشفع تشفع" (¬3) وذلك هو المقام المحمود الذي وعده الله به في كتابه العزيز. والحاصل [29] أن طلب الحوائج من الأحياء جائز إذا كانوا يقدرون عليها. ومن ذلك الدعاء فإنه يجوز استمداده من كل مسلم، بل يحسن ذلك. وكذلك الشفاعة من أهلها الذين ورد الشرع بأنهم يشفعون ولكن ينبغي أن يعلم أن دعاء من يدعو له لا ينفع إلا بإذن الله وإرادته ومشيئته، وكذلك شفاعة من يشفع لا تكون إلا بإذن الله، كما ورد بذلك القرآن (¬4) الكريم، فهذا تقييد للمطلق لا ينبغي ¬

(¬1) (منها): ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2733) عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: " دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل ". (¬2) أخرجه أحمد (1/ 29، 2/ 59) وأبو داود رقم (1498) والترمذي رقم (3562) وقال: حديث حسن صحيح. وابن حبان في المجروحين (2/ 128) وابن السني في عمل اليوم والليلة رقم (387) من حديث عمر. وهو حديث ضعيف. (¬3) تقدم تخريجه (ص 311). (¬4) منها قوله تعالى: (ما من شفيع إلا من بعد إذنه)، [يونس: 3]. وقوله تعالى: (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) [مريم: 87] وقوله تعالى: (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا) [طه: 109].

العدول عنه بحال. واعلم أن من الشبه الباطلة التي يوردها المعتقدون في الأموات أنهم ليسوا كالمشركين من أهل الجاهلية، لأنهم إنما اعتقدوا في الأولياء والصالحين، وأولئك اعتقدوا في الأوثان والشياطين. وهذه الشبهة داحضة تنادي على صاحبها بالجهل، فإن الله -سبحانه- لم يعذر من اعتقد في عيسى -عليه السلام- وهو نبي من الأنبياء، بل خاطب النصارى بتلك الخطابات القرآنية، ومنها: {يأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله} (¬1) وقال لمن كان يعبد الملائكة: {ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم} (¬2). ولا شك أن عيسى والملائكة أفضل من هؤلاء الأولياء والصالحين الذين صار هؤلاء القبوريون يعتقدونهم، ويغلون في شأنهم، مع أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وهو أكرم الخلق على الله [30]؛ وسيد ولد آدم قد نهى أمته أن (¬3) تغلو فيه كما غلت النصارى في عيسى -عليه السلام-، ولم يمتثلوا أمره، ولا امتثلوا ما ذكره الله ¬

(¬1) [النساء:171]. (¬2) [سبأ]. (¬3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (3445) عن ابن عباس أنه سمع عمر رضي الله عنه يقول على المنبر، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله ".

-سبحانه- في كتابه العزيز من قوله: {ليس لك من الأمر شيء (¬1)، ومن قوله:} وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله {(¬2)، وما حكاه عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من أنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، وما قاله رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لقرابته الذين أمره الله بإنذارهم بقوله:} وأنذر عشيرتك الأقربين {فقام داعيا لهم، ومخاطبا لكل واحد منهم قائلا: " يا فلان بن فلان لا أغني عنك من الله شيئا، يا فلانة بنت فلان لا أغني عنك من الله شيئا، يا بني فلان لا أغني عنكم من الله شيئا" (¬3). فانظر- رحمك الله- ما وقع من كثير من هذه الأمة من الغلو المنهي عنه، المخالف لما في كتاب الله وسنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كما يقول صاحب البردة (¬4) ¬

(¬1) [آل عمران:128]. (¬2) [الانفطار: 17 - 19]. (¬3) تقدم تخريجه (ص 317). (¬4) هو محمد بن سعيد البوصيري، صوفي ناظم، توفي بالإسكندرية سنة 694 هـ له " الكواكب الدرية في مدح خير البرية " المعروفة بالبردة. انظر " معجم المؤلفين " (1/ 28). وفي هذه القصيدة مخالفات شرعية ضللت الكثير من أدعياء العلم الذين ينشدونها في مجالسهم. والعجيب أن يزعم الزاعمون ويكذب الكاذبون أن البوصيري كان أصيب بفالج -ليته لم يشف منه وقضى نحبه وأنقذ المسلمين مما في البردة من شركيات وأكاذيب- فأنشد قصيدة البردة في المنام للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعجب بها، فألبسه جبته وشفي للحال: وهذا مما زاد تعلق الحمقى والمغفلين بها وغدت تقرأ كالقرآن أو أكثر حتى في مجالس بعض الشيوخ المخرفين الذين يتمايلون على أنغامها وهي تفوح منها رائحة الكفر والإلحاد: 1 - ) القسم، بمخلوقات الله كالقمر. 2 - ) إرهاصات وخوارق عجيبة حصلت يوم مولد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي باطلة. 3 - ) الإخلال بتوحيد الربوبية. لمزيد من المعرفة للوقاية والحذر انظر " كتب ليست من الإسلام " محمود مهدي الاستانبولي ص 11 - 26.

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم فانظر كيف نفى كل ملاذ ما عدا عبد الله ورسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وغفل عن ربه، ورب رسول الله -إنا لله وإنا إليه راجعون- وهذا باب واسع قد تلاعب الشيطان بجماعة من أهل الإسلام حتى ترقوا إلى خطاب غير الأنبياء بمثل هذا الخطاب، ودخلوا من الشرك في أبواب بكثير من الأسباب [31]. ومن ذلك قول من يقول مخاطبا لابن العجيل: هات لي منك يا ابن موسى إغاثة ... عاجلا في مسيرها حثاثة فهذا محض الاستغاثة التي لا تصلح لغير الله بميت من الأموات، قد صار تحت أطباق الثرى منذ مئين من السنين، ويغلب على الظن أن مثل هذا البيت والبيت الذي قبله إنما وقعا من قائليهما لغفلة، وعدم تيقظ، ولا مقصد لهما إلا تعظيم جانب النبوة والولاية، ولو نبها لتنبها ورجعا، وأقرا بالخطأ. وكثيرا ما يعرض ذلك لأهل العلم والأدب والفطنة. وقد سمعنا ورأينا. فمن وقف على شيء من هذا الجنس لحي من الأحياء فعليه إيقاظه بالحجج الشرعية، فإن رجع وإلا كان الأمر فيه كما أسلفنا. وأما إذا كان القائل قد صار تحت أطباق الثرى فينبغي إرشاد الأحياء إلى ما في ذلك الكلام من الخلل. وقد وقع في البردة والهمزية شيء كثير من هذا الجنس، ووقع أيضًا لمن تصدى لمدح نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ولمدح الصالحين والأئمة الهادين ما لا يأتي عليه الحصر، ولا يتعلق بالاستكثار منه فائدة، فليسر المراد إلا التنبيه والتحذير: {لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} (¬1)، ¬

(¬1) [ق: 37].

} وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين {(¬1)،} ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب {(¬2) [32]. واعلم أن ما حررناه وقررناه من أن كثيرا مما يفعله المعتقدون في الأموات يكون شركا قد يخفى على كثير من أهل العلم، وذلك لا لكونه خفيا في نفسه، بل لإطباق الجمهور على هذا الأمر، وكونه قد شاب عليه الكبير، وشب عليه الصغير، وهو يرى ذلك ويسمعه، ولا يرى ولا يسمع من ينكره، بل ربما يسمع من يرغب فيه، ويندب الناس إليه، وينضم إلى ذلك ما يظهره الشيطان للناس من قضاء حوائج من قصد بعض الأموات الذين لهم شهرة، وللعامة فيهم اعتقاد. وربما يقف جماعة من المحتالين على قبره، ويجلبون الناس بأكاذيب يحكونها عن ذلك الميت، ليستجلبوا منهم النذور، ويستدروا الأرزاق، ويقتنصوا النحائر، ويستخرجوا من عوام الناس ما يعود عليهم، وعلى من يعولونهم ويجعلوا ذلك مكسبا ومعاشا. وربما يهولون على الزائر لذلك الميت بتهويلات، ويجملون قبره مما يعظم في عين الواصل إليه، ويوقدون في مشهده الشموع، ويوقدون فيه الأطياب، ويجعلون لزيارته مواسم مخصوصة يجتمع فيها الجمع الجم، فينبهر الزائر، ويرى ما يملأ عينه وسمعه من ضجيج الخلق، وازدحامهم وتكالبهم على القرب من الميت والتمسح بأحجار قبره وأعواده، والاستغاثة به، والالتجاء إليه، وسؤاله قضاء الحاجات ونجاح الطلبات، مع خضوعهم واستكانتهم، وتقريبهم له نفائس الأموال ونحرهم أصناف النحائر (¬3). فبمجموع هذه الأمور مع تطاول الأزمنة، وانقراض القرن بعد القرن يظن الإنسان في بادئ عمره وأوائل أيامه أن ذلك [33] من أعظم القربات، وأفضل الطاعات، ثم لا ¬

(¬1) [الذاريات:55]. (¬2) [آل عمران: 8]. (¬3) انظر: " الإبداع في مضار الابتداع " للشيخ علي محفوظ ص 141 "الفتاوى المصرية" لابن تيمية (1/ 312)."اقتضاء الصراط المستقيم" ابن تيمية (2/ 651).

ينفعه ما تعلمه من العلم بعد ذلك بل يذهل عن كل حجة شرعية تدل على أن هذا هو الشرك بعينه، وإذا سمع من يقول أنكره ونبا عنه سمعه، وضاق به ذرعه، لأنه يبعد كل البعد أن ينتقل ذهنه دفعة واحدة في وقت واحد عن شيء يعتقده من أعظم الطاعات إلى كونه من أقبح المقبحات، وأكبر المحرمات، مع كونه قد درج عليه الأسلاف، ودب فيه الأخلاف، وتعاورته العصور، وتناوبته الدهور. وهكذا كل شيء يقلد الناس فيه أسلافهم، ويحكمون العادات المستمرة. وبهذه الذريعة الشيطانية، والوسيلة الطاغوتية بقي المشرك من الجاهلية على شركه، واليهودي على يهوديته، والنصراني على نصرانيته، والمبتدع على بدعته، وصار المعروف منكرا، والمنكر معروفا، وتبدلت الأمة بمثير من المسائل الشرعية غيرها، وألفوا ذلك، ومرنت عليه نفوسهم وقبلته قلوبهم، وأنسوا إليه، حتى لو أراد من يتصدى للإرشاد أن يحملهم على المسائل الشرعية البيضاء النقية التي تبدلوا بها غيرها لنفروا عن ذلك، ولم تقبله طبائعهم، ونالوا ذلك المرشد بكل مكروه، ومزقوا عرضه بكل لسان، وهذا كثير موجود في كل فرقة من الفرق لا ينكره إلا من هو متهم في عقله. وانظر إن كنت ممن يعتبر ما ابتليت به هذه الأمة من التقليد للأموات في دين الله، حتى صارت كل طائفة تعمل في جميع مسائل الدين بقول عالم من علماء المسلمين، ولا تقبل قول غيره، ولا ترضى به، وليتها وقفت عند عدم القبول والرضا، لكنها تجاوزت ذلك إلى الحط على سائر علماء المسلمين، والوضع من شأنهم، وتضليلهم، وتبديعهم [34]، والتنفير عنهم، ثم تجاوزا ذلك إلى التفسيق والتكفير، ثم زاد الشر حتى صار أهل كل مذهب كأهل ملة مستقلة، لهم نبي مستقل، وهو ذلك العالم الذي قلدوه، فليس الشرع إلا ما قال به دون غيره، وبالغوا وغلوا فجعلوا قوله مقدما على قول الله ورسوله. وهل بعد هذه الفتنة والمحنة شيء من الفتن والمحن!. فإن أنكرت هذا فهؤلاء المقلدون على ظهر البسيطة قد ملئوا الأقطار الإسلامية فاعمد إلى أهل كل مذهب، وانظر إلى مسألة من مسائل مذهبهم هل هي مخالفة لكتاب الله، أو

لسنة رسول الله، ثم أرشدهم إلى الرجوع عنها إلى ما قاله الله أو رسوله (¬1) وانظر بماذا ¬

(¬1) واعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فضيلة من فضائل هذه الأمة. قال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) [آل عمران:110]. وقال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) [التوبة: 71]. وهذه المسئولية تتأكد على كل من العلماء والحكام بشكل خاص وعلى الآحاد من المسلمين بشكل عام. 1 - ) العلماء فلأنهم يعرفون من شرع الله ما لا يعرفه غيرهم من الأمة ولما لهم من هيبة في النفوس واحترام في القلوب مما جعل أمرهم ونهيهم أقرب إلى الامتثال وأدعى إلى القبول. 2 - ) الأمراء والحكام فإن مسئوليتهم أعظم وأخطر لأن لهم الولاية والسلطان ولديهم القدرة على تنفيذ ما يأمرون به وينهون عنه وحمل الناس على الامتثال ولا يخشى من إنكارهم مفسدة لأن القوة والسلاح في أيديهم. مخاطر تعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قال تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) [المائدة: 78 - 79]. قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ". ثم قال: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم). ثم قال: "والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا" من حديث ابن مسعود. أخرجه أبو داود رقم (4336) والترمذي رقم (47 30) وابن ماجه رقم (4006) وهو حديث حسن بشواهده. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ". من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه مسلم في صحيحه رقم (49) والترمذي رقم (2172). وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابا منه، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم ". من حديث حذيفة. أخرجه الترمذي رقم (2169) وهو حديث حسن بشواهده.

يجيبونك فما أظنك تنجو من شرهم، ولا تأمن من معرتهم، وقد يستحلون بذلك دمك ومالك، وأورعهم يستحل عرضك وعقوبتك، وهذا يكفيك إن كان لك فطرة سليمة، وفكرة مستقيمة. ثم انظر كيف خصوا بعض علماء المسلمين، واقتدوا بهم في مسائل الدين، ورفضوا الباقين، بل جاوزوا هذا إلى أن الإجماع ينعقد بأربعة من علماء هذه الأمة، وأن الحجة قائمة بهم، مع أن في عصر كل واحد منهم من هو أكثر علما منه، فضلا عن العصر المتقدم على عصره، والعصر المتأخر عن عصره. وهذا يعرفه كل من يعرف أحوال الناس، ثم تجاوزوا ذلك إلى أنه لا اجتهاد لغيرهم، بل هو مقصور عليهم، فكأن هذه الشريعة كانت لهم لا حظ لغيرهم فيها، ولم يتفضل الله على عباده بما تفضل عليهم. وكل عاقل يعلم أن هذه المزايا التي جعلوها لهؤلاء الأئمة رحمهم الله - إن كانت باعتبار كثرة علمهم، وزيادته على علم غيرهم، فهذا مدفوع عند كل من له اطلاع على أحوالهم، وأحوال غيرهم؛ فإن في أتباع كل واحد منهم من هو أعلم منه لا ينكر هذا إلا مكابر أو جاهل، فكيف بمن لم يكن من أتباعهم [35] من المعاصرين لهم، والمتقدمين عليهم، والمتأخرين عنهم! وإن كانت تلك المزايا بكثرة الورع والعبادة فالأمر كما تقدم، فإن في معاصريهم والمتقدمين عليهم والمتأخرين عنهم من هو أكثر عبادة وورعا منهم، لا ينكر هذا إلا من لا يعرف تراجم الناس، وكتب التواريخ، وإن كانت تلك المزايا بتقدم عصورهم، فالصحابة والتابعون أقدم منهم عصرا بلا خلاف، وهم أحق هذه المزايا ممن بعدهم لحديث: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين

يلونهم (¬1). وإن كانت تلك المزايا لأمر عقلي فما هو؟ أو لأمر شرعي فأين هو؟. ولا ننكر أن الله قد جعلهم بمحل من العلم والورع، وصلابة الدين، وأنهم من أهل السبق في كل الفضائل والفواضل، وعن الشأن في المتعصب لهم من أتباعهم، القائل أنه لا يجوز تقليد غيرهم، ولا يعتد بخلافه إن خالف، ولا يجوز لأحد من علماء المسلمين أن يخرج عن تقليدهم وإن كان عارفا بكتاب الله، وسنة رسوله، قادرا على العمل بما فيهما، متمكنا من استخراج المسائل الشرعية منهما، فلم يكن مقصودنا إلا التعجيب لمن كان له عقل صحيح، وفكر رجيح، وتهوين الأمر عليه فيما نحن بصدده من الكلام على ما يفعله المعتقدون للأموات، وأنه لا يغتر العاقل بالكثرة وطول المهلة مع الغفلة؛ فإن ذلك لو كان دليلا على الحق لكان ما زعمه المقلدون المذكورون حقا، ولكان ما يفعله المعتقدون للأموات حقا. وهذا عارض من القول أوردناه للتمثيل، ولم يكن من مقصودنا، والذي نحن بصدده هو أنه إذا خفي على بعض أهل العلم ما ذكرناه وقررناه في حكم المعتقدين [36] للأموات لسبب من أسباب الخفاء التي قدمنا ذكرها، ولم يتعقل ما سقناه من الحجج البرهانية القرآنية والعقلية فينبغي أن تسأله: ما هو الشرك؟ فإن قال: هو أن تتخذ مع الله إلها آخر كما كانت الجاهلية تتخذ الأصنام آلهة مع الله -سبحانه- فقل له: وماذا كانت الجاهلية تصنعه لهذه الأصنام التي اتخذوها حتى صاروا مشركين؟ فإن قال: كانوا يعظمونها ويقربون لها، ويستغيثون بها، وينادونها عند الحاجات، وينحرون لها النحائر، ونحو ذلك من الأفعال الداخلة في مسمى العبادة فقل له: لأي شيء كانوا يفعلون لها ذلك؟ فإن قال: لكونها الخالقة، أو الرازقة، أو المحيية، أو المميتة فاقرأ عليه ما قدمنا لك من البراهين القرآنية المصرحة بأنهم مقرون بأن الله الخالق الرازق المحيي المميت، وأنهم إنما عبدوها لتقربهم إلى الله زلفى، وقالوا: هم شفعاؤهم عند الله، ولم يعبدوها ¬

(¬1) تقدم تخريجه في رسالة "التحف في مذاهب السلف" (ص255).

لغير ذلك؛ فإنه سيوافقك ولا محالة إن كان يعتقد أن كلام الله حق، وبعد أن يوافقك أوضح له أن المعتقدين في القبور قد فعلوا هذه الأفعال أو بعضها على الصفة التي قررناها وكررناها في هذه الرسالة، فإنه إن بقي فيه بقية من إنصاف، وبارقة من علم، وحصة من عقل فهو لا محالة يوافقك وتنجلي عنه الغمرة، وتنقشع عن قلبه سحائب الغفلة، ويعترف بأنه كان في حجاب عن معنى التوحيد الذي جاءت به السنة والكتاب، فإن زاغ عن الحق، وكابر وجادل، فإن جاءك في مكابرته ومجادلته بشيء من الشبهة فادفعه بالدفع الذي قد ذكرناه فيما سبق، فإنا لم ندع شبهة يمكن أن يدعيها مدع إلا وقد أوضحنا أمرها، وإن لم يأت بشيء في جداله، بل اقتصر على مجرد الخصام والدفع المجرد لما أوردته عليه من الكلام [37] فاعدل معه عن حجة اللسان بالبرهان والقرآن إلى محجة السيف والسنان، فآخر الدواء الكي. هذا إذا لم يكن دفعه بما هو دون ذلك من الضرب والحبس والتعزير؛ فإن أمكن وجب تقديم الأخف على الأغلظ عملا بقوله تعالى:} فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى {(¬1)، وبقوله:} ادفع بالتي هي أحسن {(¬2). ومن جملة الشبه التي عرضت لبعض أهل العلم ما جزم به السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير (¬3) -رحمه الله- في شرحه لأبياته (¬4) التي يقول في أولها: ¬

(¬1) [طه:4]. (¬2) [فصلت:34]. (¬3) محمد بن إسماعيل بن صلاح الأمير الصنعاني المنشأ، الكحلاني المولد سنة 1099 هـ، محدث فقيه، أصولي، من أئمة اليمن المشاهير. من تصانيفه: " سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام "، " توضيح الأفكار في شرح تنقيح الأنظار "، " منحة الغفار على ضوء النهار ". وغيرها. انظر البدر الطالع (2/ 133 - 139). (¬4) انظر " ديوان الصنعاني " (ص 173).

رجعت عن النظم الذي قلت في النجدي (¬1). . . . . . . . . . . . . فإنه قال: إن كفر هؤلاء المعتقدين للأموات هو من الكفر العملي، لا الكفر الجحودي، ونقل ما ورد في كفر تارك الصلاة كما ورد في الأحاديث (¬2) الصحيحة، وكفر تارك الحج في قوله تعالى:} ومن كفر فإن الله غني عن العالمين {(¬3)، وكفر من لم يحكم بما أنزل الله كما في قوله تعالى:} ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون {(¬4)، ونحو ذلك من الأدلة الواردة فيمن زنى، ومن سرق، ومن أتى امرأة حائضا، أو امرأة في دبرها، أو أتى كاهنا، أو عرافا، أو قال لأخيه: يا كافر. قال: فهذه الأنواع من الكفر وإن أطلقها الشارع على فاعل هذه الكبائر فإنه لا يخرج به العبد عن الإيمان، ويفارق به الملة، ويباح به دمه وماله وأهله كما ظنه من لم ¬

(¬1) وتمامه: رجعت عن النظم الذي قلت في النجدي ... فقد صح لي عنه خلاف الذي عندي اعلم أن هذه القصيدة لم تكن من نظم الأمير محمد بن إسماعيل لأنها تخالف ما ذكره في كتبه الدالة على حسن اعتقاده مثل " تطهير الاعتقاد عن درن الإلحاد " وقد رد الشيخ سليمان بن سمحان هذه المنظومة بكتابه المعروف تبرئة الشيخين وهو مطبوع. (¬2) منها: ما أخرجه أحمد (5/ 346) والترمذي رقم (2621) والنسائي (1/ 231) وابن ماجه رقم (1079) والحاكم (1/ 6 - 7) وصححه ووافقه الذهبي. من حديث بريدة قال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ". وهو حديث صحيح. (ومنها): ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (134/ 82) وأبو داود رقم (4678) والترمذي رقم (2620) وابن ماجه رقم (1578) وأحمد (3/ 370، 389) من حديث جابر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" ليس بين العبد وبين الكفر -أو قال الشرك- إلا ترك الصلاة". وهو حديث صحيح. (¬3) [آل عمران:97]. (¬4) [المائدة:44].

يفرق بين الكفرين، ولم يميز بين الأمرين، وذكر ما عقده البخاري في صحيحه من كتاب الإيمان في كفر دون كفر، وما قاله العلامة ابن القيم: إن الحكم بغير ما أنزل الله، وترك الصلاة من الكفر العملي، تحقيقه أن الكفر كفر عمل وكفر جحود وعناد، فكفر الجحود أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحودا وعنادا، فهذا الكفر يضاد الإيمان من كل وجه، وأما كفر العمل فهو نوعان: نوع يضاد الإيمان، ونوع لا يضاده. ثم نقل عن ابن القيم كلاما في هذا المعنى. ثم قال السيد المذكور: قلت: ومن هذا -يعني الكفر العملي- من يدعو الأولياء [38] ويهتف هم عند الشدائد، ويطوف بقبورهم، ويقبل جدرانها، وينذر لها بشيء من ماله؛ فإنه كفر عملي لا اعتقادي، فإنه مؤمن بالله وبرسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وباليوم الآخر، لكن زين له الشيطان أن هؤلاء عباد الله الصالحون ينفعون، ويشفعون، ويضرون، فاعتقدوا ذلك جهلا كما اعتقده أهل الجاهلية في الأصنام، لكن هؤلاء مثبتون التوحيد لله لا يجعلون الأولياء آلهة كما قاله الكفار إنكارا على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لما دعاهم إلى كلمة التوحيد:} أجعل الآلهة إلها وحدا {(¬1)، فهؤلاء جعلوا لله شركاء حقيقة، وقالوا في التلبية: " لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك" (¬2) فأثبتوا للأصنام شركة مع رب الأنام وإن كانت عباراتهم الضالة قد أفادت أنه لا شريك له، لأنه إذا كان يملكه وما ملك فليس بشريك له تعالى، بل مملوك، فعباد الأصنام جعلوا لله أندادا، واتخذوا من دونه شركاء، وتارة يقولون: شفعاء يقربونهم إلى الله زلفى، بخلاف جهلة المسلمين الذين اعتقدوا في أوليائهم النفع والضر؛ فإنهم مقرون لله بالوحدانية، وإفراده بالإلهية، وصدقوا رسله، فالذي أتوه من تعظيم الأولياء كفر عمل لا اعتقاد. ¬

(¬1) [ص:5]. (¬2) تقدم تخريجه (ص338).

فالواجب هو وعظهم وتعريفهم جهلهم، وزجرهم ولو بالتعزير كما أمرنا بحد الزاني، والشارب، والسارق من أهل الكفر العملي إلى أن قال: فهذه كلها قبائح محرمة من أعمال الجاهلية، فهو من الكفر العملي. وقد ثبت أن هذه الأمة تفعل أمورا من أمور الجاهلية هي من الكفر العملي كحديث: " أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة ". أخرجه مسلم في صحيحه (¬1) من حديث أبي مالك الأشعري. فهذه من الكفر العملي، لا تخرج بها الأمة عن الملة، بل هم مع إتيانهم [39] بهذه الخصلة الجاهلية أضافهم إلى نفسه فقال: من أمتي. فإن قلت: الجاهلية تقول في أصنامها أنهم يقربوهم إلى الله زلفى كما يقوله القبوريون، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله كما يقوله القبوريون أيضا، قلت: لا سوى فإن القبوريين مثبتون لتوحيد الله، قائلون أنه لا إله إلا هو، ولو ضربت عنقه على أن يقول: إن الولي إله مع الله لما قالها، بل عنده اعتقاد جهل أن الولي لما أطاع الله كان له بطاعته عنده تعالى جاه، به تقبل شفاعته، ويرجى نفعه، لا أنه إله مع الله، بخلاف الوثني فإنه امتنع عن قول لا إله إلا الله حتى ضربت عنقه زاعما أن وثنه إله مع الله، ويسميه ربا وإلها. قال يوسف -عليه السلام-:} أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار {(¬2) سماهم أربابا لأنهم كانوا يسمونهم بذلك، كما قال الخليل:} هذا ربي {(¬3) في الثلاث الآيات مستفهما لهم مبكتا متكلما على خطابهم، حيث يسمون الكواكب أربابا. وقالوا:} أجعل الآلهة إلها واحدا {(¬4)، وقال قوم إبراهيم: ¬

(¬1) رقم (29/ 934). (¬2) [يوسف:39]. (¬3) [الأنعام:77، 78]. (¬4) [ص:5].

} من فعل هذا بآلهتنا {(¬1)} أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم {(¬2). وقال إبراهيم:} أإفكا آلهة دون الله تريدون {(¬3). ومن هنا تعلم أن الكفار غير مقرين بتوحيد الإلهية والربوبية كما توهمه من توهم من قوله:} ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله {(¬4)،} من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم {(¬5)،} قل من يرزقكم من السماء والأرض {إلى قوله:} فسيقولون الله {(¬6). فهذا إقرار بتوحيد الخالقية والرازقية ونحوهما [40]، لا أنه إقرار بتوحيد الإلهية، لأنهم يجعلون أوثانهم أربابا كما عرفت، فهذا الكفر الجاهلي كفر اعتقاد، ومن لازمه كفر العمل بخلاف من اعتقد في الأولياء النفع والضر مع توحيد الله، والإيمان به، وبرسله، وباليوم الآخر، فإنه كفر عمل، فهذا تحقيق بالغ، وإيضاح لما هو الحق من غير إفراط ولا تفريط ... انتهى كلام السيد المذكور -رحمه الله-. وأقول: هذا الكلام في التحقيق ليس بتحقيق بالغ، بل كلام متناقض، متدافع، وبيانه أنه لا شك أن الكفر ينقسم إلى كفر اعتقاد، وكفر عمل، لكن دعوى أن ما يفعله المعتقدون في الأموات من كفر العمل في غاية الفساد فإنه قد ذكر في هذا البحث أن كفر من اعتقد في الأولياء كفر عملي، وهذا عجيب، كيف يقول كفر من يعتقد في الأولياء، وسمى ذلك اعتقادا، ثم يقول: إنه من الكفر العملي. وهل هذا إلا التناقض ¬

(¬1) [الأنبياء:59]. (¬2) [الأنبياء:62]. (¬3) [الصافات:86]. (¬4) [الزخرف:87]. (¬5) [الزخرف:9]. (¬6) [يونس].

البحث، والتدافع الخالص!. انظر كيف ذكر في أول البحث أن كفر من يدعو الأولياء، ويهتف بهم عند الشدائد، ويطوف بقبورهم، ويقبل جدراتها، وينذر لها بشيء من ماله هو كفر عملي!. فليت شعري ما هو الحامل له على الدعاء والاستغاثة، وتقبيل الجدران، ونذر النذورات! هل هو مجرد اللعب والعبث من دون اعتقاد، فهذا لا يفعله إلا مجنون، أم الباعث عليه الاعتقاد في الميت، فكيف لا يكون هذا من كفر الاعتقاد الذي لولاه لم يصدر فعل من تلك الأفعال!. ثم انظر كيف اعترف بعد أن حكم على هذا الكفر بأنه كفر عمل، لا كفر اعتقاد بقوله: لكن زين له الشيطان [41] أن هؤلاء عباد الله الصالحين، ينفعون، ويشفعون، ويضرون! فاعتقد ذلك جهلا كما اعتقده أهل الجاهلية في الأصنام. فتأمل كيف حكم بأن هذا كفر اعتقاد ككفر أهل الجاهلية، وأثبت الاعتقاد واعتذر عنهم بأنه اعتقاد جهل. وليت شعري أي فائدة لكونه اعتقاد جهل! فإن طوائف الكفر بأسرها، وأهل الشرك قاطبة إنما حملهم على الكفر ودفع الحق، والبقاء على الباطل الاعتقاد جهلا. وهل يقول قائل: إن اعتقادهم اعتقاد علم حتى يكون اعتقاد الجهل عذرا لإخوانهم المعتقدين في الأموات!. ثم تمم الاعتذار بقوله: لكن هؤلاء مثبتون للتوحيد إلى آخر ما ذكره. ولا يخفاك أن هذا عذر باطل، فإن إثباتهم للتوحيد إن كان بألسنتهم فقط فهم مشتركون في ذلك هم واليهود والنصارى والمشركون والمنافقون، وإن كان بأفعالهم فقد اعتقدوا في الأموات ما اعتقده أهل الأصنام في أصنامهم. ثم كرر هذه المعنى في كلامه، وجعله السبب في رفع السيف عنهم، وهو باطل فما ترتب عليه مثله باطل، فلا نطول برده، بل هؤلاء القبوريون قد وصلوا إلى حد في اعتقادهم في الأموات لم يبلغه المشركون في اعتقادهم في أصنامهم، وهو أن الجاهلية كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله وحده، وإنما يدعون أصنامهم مع عدم نزول الشدائد من

الأمور كما حكى الله عنهم بقوله:} وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا {(¬1)، وبقوله تعالى:} قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين {(¬2)، وبقوله تعالى:} وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خولناه نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل {(¬3)، وبقوله تعالى:} وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين {(¬4)، بخلاف المعتقدين في الأموات؛ فإنها إذا دهمتهم الشدائد استغاثوا بالأموات، ونذروا لهم النذور، وقل من يستغيث بالله -سبحانه- في تلك الحال، وهذا يعلمه كل من له بحث عن أحوالهم. ولقد أخبرني بعض من ركب البحر للحج أنه اضطرب اضطرابا شديدا، فسمع من في السفينة من الملاحين، وغالب الراكبين معهم ينادون الأموات، ويستغيثون بهم، ولم يسمعهم يذكرون الله قط. قال: ولقد خشيت في تلك الحالة الغرق لما شاهدته من الشرك بالله. وقد سمعنا عن جماعة من أهل البادية أن كثيرا منهم إذا حدث له ولد جعل قسطا من ماله لبعض الأموات المعتقدين، ويقول: إنه قد اشترى ولده ذلك من الميت الفلاني بكذا، فإذا عاش حتى يبلغ سن الاستقلال دفع ذلك الجعل لمن يعتكف على قبر ذلك الميت من المحتالين لكسب الأموال (¬5). ¬

(¬1) [الإسراء:67]. (¬2) [الأنعام:40]. (¬3) [الزمر:8]. (¬4) [لقمان:32]. (¬5) في هامش المخطوط ما نصه: " أما من بلغ به الحال إلى أنه يعتقد في الميت أنه يحيي ويميت، وما أشبه ذلك من الاعتقادات فلعل السيد محمد وغيره لا ينازعون في كفره، وأما جعل الحكم بالشرك كليا على كل من اعتقد في الأموات وأنه يستباح دمه وماله فهو من المختارات (تمت كاتبه).

وبالجملة فالسيد المذكور -رحمه الله- قد جرد النظر في بحثه السابق إلى الإقرار بالتوحيد الظاهري، واعتبر مجرد التكلم بكلمة التوحيد فقط من دون نظر إلى ما ينافي ذلك من أفعال المتكلم بكلمة التوحيد ويخالفه في اعتقاده الذي صدرت عنه تلك الأفعال المتعلقة بالأموات [43]، وهذا الاعتبار لا ينبغي التعويل عليه، ولا الاشتغال به، فالله -سبحانه- إنما ينظر إلى القلوب، وما صدر من الأفعال عن اعتقاد لا إلى مجرد الألفاظ، وإلا لما كان فرق بين المؤمن والمنافق. وأما ما نقله السيد (¬1) المذكور -رحمه الله- عن ابن القيم في أول كلامه من تقسيم الكفر إلى عملي واعتقادي، فهو كلام صحيح، وعليه جمهور المحققين، ولكن لا يقول ابن القيم ولا غيره أن الاعتقاد في الأموات على الصفة التي ذكرها هو من الكفر العملي. وسننقل هاهنا كلام ابن القيم في أن ما يفعله المعتقدون في الأموات من الشرك الأكبر كما نقل عنه السيد -رحمه الله- في كلامه السابق، ثم نتبع ذلك بالنقل عن بعض أهل العلم، فإن السائل -كثر الله فوائده- قد طلب ذلك في سؤاله. [أنواع الشرك] فنقول: قال ابن القيم في شرح المنازل (¬2) في باب التوبة: وأما الشرك فهو نوعان: أكبر، وأصغر: فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الله ندا يحبه كما يحب الله. أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويغضبون لمنتقص معبودهم من المشائخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين، وقد شاهدنا هذا -نحن وغيرنا- منهم جهرة، وترى أحدهم قد اتخذ ذكر معبوده على لسانه إن قام وإن قعد وإن عثر، وهو لا ينكر ذلك، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله، وشفيعه عنده. وهكذا كان عباد الأصنام، ¬

(¬1) محمد بن إسماعيل الأمير. (¬2) أي "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين" (1/ 379 - 0 38).

سواء وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم، فأولئك كانت آلهتهم من الحجز، وغيرهم اتخذها من البشر. قال الله حاكيا عن أسلاف هؤلاء [44]:} والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار {(¬1). وهكذا حال من اتخذ من دون الله وليا يزعم أنه يقربه إلى الله تعالى. وما أعز من تخلص من هذا بل ما أعز من لا يعادي من أنكره! والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك. وقد أنكر الله ذلك في كتابه، وأبطله. وأخبر أن الشفاعة كلها له. ثم ذكر الآية التي بسورة سبأ (¬2)، وهي قوله تعالى:} قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض {. وتكلم (¬3) عليها ثم قال (¬4): والقرآن مملوء من أمثالها، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته، ويظنه في قوم قد خلوا ولم يعقبوا وارثا، وهذا هو الذي يحول بين القلب وفهم القرآن كما قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: إنما تنقض عرى الإسلام عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، وهذا لأنه إذا يعرف الشرك وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره، ودعا إليه وصوبه وحسنه، وهو لا ¬

(¬1) [الزمر:3]. (¬2) (وما لهم فيهما من شرك وما لهم منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) [سبأ: 22 - 23]. (¬3) في كتابه " مدارج السالكين " (1/ 383). فقال: فنفى -سبحانه- المراتب الأربع نفيا مرتبا من الأعلى إلى ما دونه، فنفى الملك، والشركة، والمظاهرة والشفاعة التي يظنها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه. فكفى بهذه الآية نورا، وبرهانا ونجاة وتجريدا للتوحيد وقطعا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها. (¬4) ابن القيم في مدارج السالكين (1/ 383).

يعرف أنه هو الذي كان عليه أهل الجاهلية، أو نظيره، أو شر منه، أو دونه، فتنقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والبدعة سنة، والمسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان، وتجريد التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، ومفارقة الأهواء والبدع، ومن له بصيرة وقلب حي سليم يرى ذلك عيانا. والله المستعان. ثم قال في ذلك الكتاب (¬1): (وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء، والتصنع للخلق، والحلف بغير الله، كما ثبت عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: " من حلف بغير الله فقد أشرك بالله " (¬2)، وقول الرجل للرجل: ما شاء الله وشئت، هذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، وما لي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن كذا وكذا. وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب حال قائله ومقصده. ثم قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في ذلك الكتاب (¬3) بعد فراغه من ذكر الشرك الأكبر والأصغر، والتعريف لهما: ومن أنواع الشرك سجود المريد للشيخ (¬4)، ومن ¬

(¬1) أي مدارج السالكين (1/ 384). (¬2) تقدم تخريجه (ص 323). (¬3) مدارج السالكين (1/ 385). (¬4) انظر: "رماح حزب الرحيم" لعلي حرازم (1/ 133). "قلادة الجواهر" للصيادي ص 378. ومن هذه الضلالات آداب يجب أن يتحلى بها المريد مع شيخه:- 1 - \ يستحضر شخص شيخه في قلبه أثناء الذكر ويجعله بين عينيه قبل الذكر فإن شيخه هو باب الدخول على الله ومنه يستمد الهمة ويكون الشيخ عنده كالقبلة فبذلك يمد له نور من قبر الشيخ الرفاعي. 2 - \ مراقبة الشيخ دائما في كل الشئون وهذا شرك بالله لأنه فيه رفع الشيخ إلى مرتبة الربوبية والألوهية. 3 - \ عدم الاعتراض على الشيخ وعدم الإنكار عليه حتى ولو رأى المريد شيخه يفعل شيئا محرما وهذه دعوى لتعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 4 - \ لا يلتجئ لغيره من الصالحين.

أنواعه التوبة للشيخ، فإنها شرك عظيم، ومن أنواعه النذر لغير الله، والتوكل على غير الله، والعمل لغير الله، والإنابة والخضوع والذل لغير الله، وابتغاء الرزق من عند غير الله، وإضافة نعمه إلى غيره. ومن أنواعه طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا لمن استغاث به، أو سأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، والله لم يجعل استعانته وسؤاله سببا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، وهو بمنزلة من استعان في حاجته بما يمنع حصولها، وهذا حال كل مشرك. والميت محتاج إلى من يدعو له، ويترحم عليه، ويستغفر له كما أوصانا (¬1) النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم، ونسأل الله لهم العافية والمغفرة، فعكس المشركون هذا، وزارهم زيارة العبادة في قضاء الحوائج والاستعانة بهم، وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد، وسموا قصدها حجا، واتخذوا عندها الوقفة، وحلق الرءوس، فجعلوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه ومعاداة أهل التوحيد ونسبتهم إلى التنقص بالأموات، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياء الموحدين المخلصين له الذين لم يشركوا به شيئا بذمهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص؛ إذ ظنوا [46] أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به، وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم. ولله در خليله إبراهيم حيث يقول:} واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس {(¬2) ¬

(¬1) (منها) ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (104/ 975) والنسائي رقم (2040) وابن ماجه رقم (1547) والبغوي في " شرح السنة " رقم (1555) وأحمد (5/ 353، 360) من حديث بريدة، رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون أسأل الله لنا ولكم العافية" وهو حديث صحيح. (¬2) [إبراهيم:35 - 36].

وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله ... انتهى كلام ابن القيم (¬1). فانظر كيف صرح بأن ما يفعله هؤلاء المعتقدون في الأموات هو شرك أكبر، بل أصل شرك العالم، وما ذكره من المعاداة لهم، فهو صحيح:} لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله {(¬2). قال الله تعالى:} يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء {إلى قوله [تعالى]:} كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده {(¬3). وقال شيخ الإسلام تقي الدين في الإقناع: إن من دعا ميتا، وإن كان من الخلفاء الراشدين فهو كافر، وإن من شك في كفره فهو كافر. وقال أبو الوفاء ابن عقيل (¬4) في الفنون: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وخطاب الموتى ¬

(¬1) "مدارج السالكين" (1/ 387). (¬2) [المجادلة: 22]. (¬3) [الممتحنة: 1 - 4]. (¬4) علي بن عقيل بن محمد البغدادي الظفري الحنبلي، فقيه، أصولي ولد ببغداد سنة 431 هـ وتوفي سنة 513 هـ. من تصانيفه: " تفضيل العبادات على نعيم الجنات "، "الانتصار لأهل الحديث"، "الواضح في أصول الفقه". انظر: شذرات الذهب (4/ 35 - 40) ولسان الميزان (4/ 243 - 244).

بالحوائج، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل لي كذا وكذا، وإلقاء الخرق على الشجر إقتداء بمن عبد اللات والعزى ... انتهى. وقال ابن القيم في إغاثة اللهفان (¬1) في إنكار تعظيم القبور: وقد آل الأمر بهؤلاء المشركين إلى أن صنف بعض غلاتهم كتابا سماه: مناسك المشاهد (¬2). ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عبادة الأصنام ... انتهى. وهذا [47] الذي أشار إليه هو ابن المفيد. وقال في النهر الفائق: اعلم أن الشيخ قاسم قال في شرح درر البحار: إن النذر الذي يقع من أكثر العوام بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلا: يا سيدي فلان إن رد غائبي، أو عوفي مريضي فلك من الذهب، أو الفضة، أو الشمع، أو الزيت كذا. باطل إجماعا لوجوه إلى أن قال: ومنها ظن أن الميت يتصرف في الأمر، واعتقاد هذا كفر ... انتهى. وهذا القائل هو من أئمة الحنفية. وتأمل ما أفاده من حكاية الإجماع على بطلان النذر المذكور، وأنه كفر عنده مع ذلك الاعتقاد. وقال صاحب الروض: إن المسلم إذا ذبح للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كفر ... انتهى. وهذا القائل من الشافعية. وإذا كان الذبح لسيد الرسل -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كفرا عنده، فكيف بالذبح لسائر الأموات (¬3). ¬

(¬1) (1/ 288). (¬2) ألفه ابن المفيد الشيعي الغالي، من أعيان الشيعة في القرن الخامس الهجري. (¬3) فليعلم أن النذر لغير الله مع ما فيه من الشرك بالله هو مسخ للدماغ وإهانة للعقل البشري، وذلك بسبب الاعتقاد بأن الميت الذي لا يستطيع أن ينفع نفسه يلجأ إلى المخدوعين وضعاف العقول، من الدراويش. ومن حذا حذوهم من المبتدعة المحسوبين على أمة الإسلام. فيطلبون من ذلك المقبور الشفاء وقضاء الحاجات ورد الغائب وما شاكل ذلك من أنواع العبادات التي لا يجوز صرف شيء منها لغير الله، ومن صرفها لأحد من البشر أو الملائكة أو الأنبياء كائنا من كان فقد أشرك بالله فضلا عن كون هؤلاء مجتمعين لا يقدرون على قضائها أو تحقيقها لطالبيها، لأنها من خصائص الألوهية المحضة. " مصرع الشرك والخرافة " (ص 220).

وقال ابن حجر في شرح الأربعين له: من دعا غير الله فهو كافر ... انتهى. وقال شيخ الإسلام تقي الدين -رحمه الله- في الرسالة السنية: إن كل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يقول: يا سيدي فلان أغثني، أو انصرني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، فإن الله إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليعبده وحده لا يجعل معه إلها آخر، والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو صورهم [48] ويقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. فبعث الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة. وقال تعالى:} قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب {(¬1) الآية. قالت طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيرا والملائكة، ثم قال في ذلك الكتاب: وعبادة الله وحده لا شريك له هي أصل الدين، وهو التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل الله به الكتب. قال الله تعالى:} ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت {(¬2)، وقال تعالى:} وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون {(¬3) ¬

(¬1) [الإسراء:56 - 57]. (¬2) [النحل:36]. (¬3) [الأنبياء:25].

وكان -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يحقق التوحيد، ويعلمه أمته حتى قال رجل: ما شاء الله وشئت. قال: " أجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده " (¬1). ونهى عن الحلف بغير الله وقال: " من حلف بغير الله فقد أشرك" (¬2). وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في مرض موته: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " (¬3) يحذر ما فعلوا. وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" (¬4)، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي حيث ما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني" (¬5). ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه من سلم على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عند قبره أنه لا يتمرغ بحجرته، ولا يقبلها، لأنه إنما يكون لأركان بيت الله، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق. كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين، ورأسه الذي لا يقبل الله عملا إلا به، ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه، كما قال الله تعالى:} إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما {(¬6) ولهذا كانت كلمه التوحيد أفضل الكلام، وأعظمه آية الكرسي:} الله لا إله إلا هو الحي القيوم {(¬7). وقال ¬

(¬1) تقدم تخريجه (ص 332 - 333). (¬2) تقدم تخريجه (ص 323). (¬3) تقدم تخريجه (ص 324). (¬4) تقدم تخريجه (ص 325). (¬5) أخرجه أحمد (2/ 367) وأبو داود رقم (2042) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو حديث حسن. (¬6) [النساء: 48]. (¬7) [البقرة: 255].

-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة " (¬1)، والإله هو الذي يأله القلب عبادة له، واستغاثة به، ورجاء له خشية وإجلالا ... اهـ. وقال أيضًا شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في كتابه: اقتضاء (¬2) الصراط المستقيم في الكلام على قوله تعالى:} وما أهل به لغير الله {(¬3) أن الظاهر أنه ما ذبح لغير الله سواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه، وقال فيه: باسم المسيح ونحوه كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله كان أزكى مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه بسم الله؛ فإن عبادة الله بالصلاة والنسك له أعظم من الاستغاثة باسمه في فواتح الأمور، والعبادة لغير الله أعظم من الاستعانة بغير الله، فلو ذبح لغير الله متقربا إليه لحرم، وإن قال فيه: بسم الله كما قد تفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعات، ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح. ثم قال في موضع آخر من هذا الكتاب (¬4): إن العلة في النهي عن الصلاة عند القبور ما يفضي إليه ذلك من الشرك. ذكر ذلك الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- وغيره، وكذلك الأئمة من أصحاب أحمد ومالك، وكأبي بكر الأثرم علله بهذه العلة .. اهـ، وكلامه في هذا الباب واسع جدا، وكذلك كلام غيره من أهل العلم. وقد تكلم جماعة من أئمة أهل البيت -رضوان الله عليهم- ومن أتباعهم -رحمهم الله- في هذه المسألة بما يشفي ويكفي، ولا يتسع المقام لبسطه، وآخر من كان منهم نكالا عن القبوريين وعلى القبور الموضوعة على غير الصفة الشرعية مولانا الإمام المهدي ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (3116) والحاكم (1/ 351) وقال: صحيح الإسناد. وأحمد (5/ 233). وهو حديث حسن. (¬2) (2/ 565). (¬3) [البقرة:173]. (¬4) اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (2/ 776).

العباس (¬1) بن الحسين بن القاسم -رحمه الله-، فإنه بالغ في هدم المشاهد التي كانت فتنة للناس، وسببا لضلالهم، وأتى على غالبها، ونهى الناس عن قصدها والعكوف عليها فهدمها، وكان في عصره جماعة من أكابر العلماء أرسلوا إليه برسائل، وكان ذلك هو الحامل له على نصرة الدين بهدم طواغيت القبوريين. وبالجملة فقد سردنا من أدلة الكتاب والسنة فيما سيق ما لا يحتاج معه الاعتضاد بقول أحد من أهل العلم، ولكن ذكرنا ما حررناه من أقوال أهل العلم، مطابقة لما طلبه السائل -كثر الله فوائده-. [إخلاص التوحيد في كتاب الله] وبالجملة فإخلاص التوحيد، والأمر الذي بعث الله لأجله رسله، ونزل به كتبه. وفي هذا الإجمال ما يغني عن التفصيل، ولو أراد رجل أن يجمع ما ورد في هذا المعنى من الكتاب والسنة لكان مجلدا ضخما، فانظر فاتحة الكتاب التي تكرر في كل صلاة مرات من كل فرد من الأفراد، ويفتتح بها التالي لكتاب الله، والمتعلم له، فإن فيها الإرشاد إلى إخلاص التوحيد في مواضع، فمن ذلك} بسم الله الرحمن الرحيم {؛ فإن علماء المعاني والبيان ذكروا أنه يقدر المتعلق متأخرا ليفيد اختصاص البداية باسمه تعالى، لا باسم غيره. وفي هذا ما لا يخفى من إخلاص التوحيد، ومنها في قوله:} الحمد لله رب العالمين {(¬2)، فإن التعريف يفيد أن الحمد مقصور على الله، واللام في} الله {تفيد اختصاص الحمد به، ومقتضى هذا أنه لا حمد لغيره أصلا وما وقع منه لغيره فهو في ¬

(¬1) هو الإمام المهدي لدين الله العباس ابن الإمام المنصور بالله الحسين ابن الإمام المتوكل القاسم بن الحسين ولد سنة 1131 هـ. له اطلاع كلي على علم التاريخ والأدب ومعرفة بفنون من العلم. انظر "البدر الطالع" (1/ 310). (¬2) [الفاتحة:2].

حكم العدم. وقد تقرر أن الحمد هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري لقصد التعظيم، فلا ثناء إلا عليه، ولا جميل إلا منه، ولا تعظيم إلا له، وفي هذا من إخلاص التوحيد ما ليس عليه مزيد. ومن ذلك قوله:} مالك يوم الدين {(¬1) أو (ملك يوم الدين) على القراءتين السبعيتين (¬2)، فإن كونه المالك ليوم الدين يفيد أنه لا ملك لغيره فلا ينفذ إلا تصرفه لا تصرف أحد من خلقه من غير فرق بين نبي مرسل، وملك مقرب، وعبد صالح [52]، وهكذا معنى كونه} ملك يوم الدين {، فإنه يفيد أن الأمر أمره، والحكم حكمه ليس لغيره معه أمر ولا حكم، كما أنه ليس لغير ملوك الأرض معهم أمر ولا حكم، ولله المثل الأعلى. وقد فسر الله هذا المعنى الإضافي المذكور في فاتحة الكتاب في موضع آخر من كتابه العزيز فقال:} وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله {(¬3) ومن كان يفهم كلام العرب ونكتة وأسراره كفته هذه الآية عن غيرها من الأدلة، واندفعت لديه كل شبهة، ومن ذلك قوله:} إياك نعبد {(¬4) فإن تقدم الضمير قد صرح به أئمة المعاني والبيان، وأئمة التفسير أنه يفيد الاختصاص، فالعبادة لله -سبحانه- لا يشاركه فيها غيره، ولا يستحقها سواه، وقد عرفت أن الاستغاثة، والدعاء، ¬

(¬1) [الفاتحة:4]. (¬2) قرأ عاصم والكسائي بالألف أي (مالك يوم الدين) وقرأ الباقون بغير الألف (ملك يوم الدين) وذكر الليث بن خالد أبو الحارث البغدادي وهو من جلة أصحاب الكسائي عن الكسائي أنه خير في ذلك. الكشف عن وجوه القراءات السبع (1/ 25) مكي بن أبي طالب القيسي، وانظر زاد المسير (1/ 10 - 15). (¬3) [الانفطار:17 - 19]. (¬4) [الفاتحة:5].

والتعظيم، والذبح، والتقرب من أنواع العبادة. ومن ذلك قوله:} وإياك نستعين {(¬1) فإن تقدم الضمير هاهنا يفيد الاختصاص كما تقدم، وهو يقتضي أنه لا يشاركه غيره في الاستعانة به في الأمور التي لا يقدر عليها غيره. فهذه خمسة مواضع في فاتحة الكتاب يفيد كل واحد منها إخلاص التوحيد، مع أن فاتحة [53] الكتاب ليست إلا سبع آيات، فما ظنك بما في سائر الكتاب العزيز!، فذكرنا لهذه الخمسة المواضع في فاتحة الكتاب كالبرهان على ما ذكرناه من أن في الكتاب العزيز من ذلك ما يطول تعداده، وتتعسر الإحاطة به. ومما يصلح أن يكون موضعا سادسا لتلك المواضع الخمسة في فاتحة الكتاب قوله تعالى:} رب العالمين {. وقد تقرر لغة وشرعا أن العالم لمن سوى الله -سبحانه-. وصيغ الحصر إذا تتبعتها من كتب (¬2) المعاني والبيان والتفسير والأصول بلغت ثلاث عشرة (¬3) صيغة فصاعدا، ومن شك في هذا فليتتبع كشاف الزمخشري، فإنه سيجد فيه ¬

(¬1) [الفاتحة:5]. (¬2) انظر الكوكب النير (3/ 515) ومعترك الأقران في إعجاز القران (1/ 136). (¬3) الحصر: وجه من وجوه إعجاز القرآن. وهو تخصيص أمر بآخر بطريق مخصوص، ويقال أيضًا إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه. ينقسم إلى قصد الموصوف على الصفة، وقصر الصفة على الموصوف، وكل منهما إما حقيقي وإما مجازي، مثال قصر الموصوف على الصفة حقيقيا نحو ما زيد إلا كاتب، أي لا صفة له غيرها، وهو عزيز لا يكاد يوجد. لتعذر الإحاطة بصفات الشيء، حتى يمكن إثبات شيء منها ونفي ما عداها بالكلية وعلى عدم تعذرها يبعد أن يكون للذات صفة واحدة ليس لها غيرها، ولذا لم يقع في التنزيل. ومثاله مجازيا: (وما محمد إلا رسول) [آل عمران: 144]، أي مقصور على الرسالة لا يتعداها إلى التبري من الموت الذي استعظموا، إنه شأن الإله. ومثال قصر الصفة على الموصوف حقيقيا: لا إله إلا الله. ومثاله مجازيا: (قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة) [الأنعام:145]. وينقسم الحصر باعتبار آخر إلى ثلاثة أقسام: 1 - \ قصر إفراد: يخاطب به من يعتقد الشركة، نحو: (إنما الله إله واحد)، [النساء: 171]. 2 - \ قصر قلب: يخاطب به من يعتقد إثبات الحكم لغير من أثبته المتكلم له. نحو (ربي الذي يحيي ويميت) [البقرة: 258]، خوطب به نمرود الذي اعتقد أنه المحيي والمميت دون الله. 3 - \ قصر تعيين: يخاطب به من تساوى عنده الأمران فلم يحكم بإثبات الصفة لواحد بعينه ولا لواحد بإحدى الصفتين بعينها. وطرق الحصر كثرة: 1 - \ النفي والاستثناء سواء كان النفي بلا أو ما أو غيرهما. والاستثناء بإلا أو غير نحو: لا إله إلا الله، وما من إله إلا الله. (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به) [المائدة: 117]. 2 - \ (إنما) عند الجمهور أنها للحصر (إنما حرم عليكم الميتة) [النحل: 115]. وقال لا يجتمع حرفا تأكيد متواليان إلا للحصر. (قال إنما العلم عند الله) [الأحقاف: 23]. (قل إنما علمها عند ربي) [الأعراف: 187]. 3 - \ (أنما) بالفتح: عدها من طرق الحصر الزمخشري والبيضاوي. قال تعالى: (قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد) [الأنبياء: 108]. وقد اجتمع الأمران في هذه الآية (إنما، أنما) وفيه الدلالة على أن الوحي إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقصور على استئثار الله بالوحدانية. 4 - \ العطف بلا أو بل، ذكره أهل البيان - زيد شاعر لا كاتب. 5 - \ تقدم المعمول نحو:} إياك نعبد {[الفاتحة:5]. 6 - \ ضمير الفصل نحو: (فالله هو الولي)، [الشورى: 9]. (وأولئك هم المفلحون) [لقمان: 5]. 7 - \ تقديم المسند إليه -يكود معرفة ومثبتا-. قال تعالى: (بل أنتم بهديتكم تفرحون) [النمل: 36]. وقال تعالى: (لا تعلمهم نحن نعلمهم) [التوبة: 101] أي لا يعلمهم إلا نحن. - المسند منفيا: (فهم لا يتساءلون) [القصص: 66]. - المسند نكرة: لا امرأة، للجنس، وللوحدة لا رجلان. - أن يلي المسند إليه حرف النفي فيفيده نحو: ما أنا قلت هذا. قال تعالى: (وما أنت علينا بعزيز) [هود: 91]. وقال تعالى: (أرهطي أعز عليكم من الله) [هود: 92]. 8 - \ تقديم المسند، ذكر ابن الأثير وابن النفيس وغيرهما أن تقديم الخبر على المبتدأ يفيد الاختصاص. 9 - \ ذكر المسند إليه، صرح بذلك الزمخشري. قال تعالى: (الله يبسط الرزق) [الرعد: 26]. قال تعالى: (الله نزل أحسن الحديث) [الزمر: 23]. 10 - \ تعريف الجزأين: ذكره فخر الدين الرازي في "نهاية الإيجاز". مثال الحمد لله يفيد الحصر كما في (إياك نعبد). أي أن الحمد لله لا لغيره. 11 - \ نحو: جاء زيد نفسه. نقله شراح التلخيص أنه يفيد الحصر. 12 - \ نحو: إن زيد القائم. 13 - \ نحو: قائم - في جواب زيد إما قائم أو قاعد. ذكره الطيبي في شرح البيان. انظر: معترك الأقران في إعجاز القرآن (1/ 136 - 142).

ما ليس له ذكر في كتب المعاني والبيان، كالقلب، فإنه جعله من مقتضيات الحصر، ولعله ذكر ذلك عند تفسيره (¬1) للطاغوت، وغير ذلك مما لا يقتضي المقام بسطه ومع ¬

(¬1) أي الكشاف: (5/ 296 - 297). قال تعالى: (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها) [الزمر: 17]. قال -أي الزمخشري- القلب للاختصاص بالنسبة إلى الطاغوت، لأن وزنه على فعلوت، من الطغيان، كملكوت ورحموت. قلب بتقديم اللام على العين، فوزنه فلعوت، ففيه مبالغات: التسمية بالمصدر والبناء بناء مبالغة، والقلب، وهو للاختصاص، إذ لا يطلق على غير الشيطان. وفي موطن آخر من تفسير الكشاف (6/ 130): حيث قال: قدم الظرفان -في قوله تعالى- (له الملك وله الحمد) [التغابن:1] ليدل بتقديمهما على معنى اختصاص لأنه مبتدئ كل شيء ومبدعه والقائم به والمهيمن عليه، وكذلك، لأن أصول النعم وفروعها منه.

الإحاطة بصيغ الحصر المذكورة تكثر الأدلة الدالة على إخلاص التوحيد، وإبطال الشرك بجميع أقسامه. واعلم أن السائل -كثر الله فوائده- ذكر في جملة ما سأل عنه أنه لو قصد الإنسان قبر رجل من المسلمين، مشهور بالصلاح، ووقف لديه وأدى الزيارة، وسأل الله بأسمائه الحسنى، وبما لهذا الميت لديه من المنزلة، هل تكون هذه البدعة عبادة لهذا الميت، ويصدق [54] عليه أنه قد دعا غير الله، وأنه قد عبد غير الرحمن، ويسلب عنه اسم الإيمان، ويصدق على هذا القبر أنه وثن من الأوثان، ويحكم بردة ذلك الداعي، والتفريق بينه وبين نسائه، واستباحة أمواله، ويعامل معاملة المرتدين، أو يكون فاعل معصية كبيرة أو مكروه؟. وأقول: قد قدمنا في أوائل هذا الجواب أنه لا بأس بالتوسل بنبي من الأنبياء، أو ولي من الأولياء، أو عالم من العلماء. وأوضحنا ذلك بما لا مزيد عليه، فهذا الذي جاء إلى القبر زائرا، ودعا الله وحده، وتوسل بذلك الميت، كأن يقول: اللهم إني أسألك أن تشفيني من كذا، وأتوسل إليك بما لهذا العبد الصالح من العبادة لك، أو المجاهدة فيك، أو التعلم والتعليم، خالصا لك، فهذا لا أتردد في جوازه. لكن لأي معنى قام يمشي إلى القبر؟، فإن كان لمحض الزيارة ولم يعزم على الدعاء والتوسل إلا بعد تجريد القصد إلى الزيارة، فهذا ليس بممنوع، فإنه إنما جاء ليزور. وقد أذن لنا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بزيارة القبور بحديث: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها " وهو في الصحيح (¬1). وخرج لزيارة الموتى، ودعا لهم، ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (977) وأبو داود رقم (3235) والنسائي (4/ 89) والترمذي رقم (1054) وزاد: " فإنها تذكر الآخرة " كلهم من حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي.

وعلمنا كيف نقول إذا نحن زرناهم. وكان يقول: " السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، [55] وإنا بكم -إن شاء الله- لاحقون، وأتاكم ما توعدون، نسأل الله لنا ولكم العافية (¬1)، وهو أيضًا في الصحيح بألفاظ، وطرق، فلم يفعل هذا الزائر إلا ما هو مأذون له به، ومشروع، لكن بشرط أن لا يشد راحلة، ولا يعزم على سفر، ولا يرحل كما ورد تقييد الإذن بالزيارة للقبور بحديث: " لا تشد الرحال إلا لثلاث ... " (¬2) وهو مقيد لمطلق الزيارة. وقد خصص بمخصصات منها زيارة القبر الشريف النبوي المحمدي على صاحبه أفضل الصلاة والتسليم وفي ذلك خلاف بين العلماء، وهي مسألة من المسائل التي طالت ذيولها، واشتهرت أصولها، وامتحن بسببها من امتحن، وليس ذكر ذلك هاهنا من مقصودنا. [حكم المشي إلى القبر ليشير إليه عند التوسل] وأما إذا لم يقصد مجرد الزيارة، بل قصد المشي إلى القبر ليفعل الدعاء عنده فقط، وجعل الزيارة تابعة لذلك، أو مشى لمجموع الزيارة والدعاء فقد كان يغنيه أن يتوسل إلى الله بما لذلك الميت من الأعمال الصالحة من دون أن يمشي إلى قبره. فإن قال: إنما مشيت إلى قبره لأشير إليه عند التوسل به، فيقال له إن الذي يعلم السر وأخفى، ويحول بين المرء وقلبه [56]، ويطلع على خفيات الضمائر، وتنكشف لديه مكنونات السرائر لا يحتاج منك إلى هذه الإشارة التي زعمت أنها الحاملة لك على قصد القبر، والمشي إليه. وقد كان يغنيك أن تذكر ذلك الميت باسمه العلم، أو بما يتميز به عن غيره، فما أراك مشيت لهذه الإشارة، فإن الذي تدعوه في كل مكان، ومع كل إنسان، بل مشيت لتسمع الميت توسلك به، وتعطف قلبه عليك، وتتخذ عنده ندا ¬

(¬1) تقدم تخريجه آنفا (ص 372). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1189) ومسلم رقم (1397) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

بقصده وزيارته، والدعاء عنده، والتوسل به، وأنت إن رجعت إلى نفسك وسألتها عن هذا المعنى فربما تقر لك به وتصدقك الخبر، فإن وجدت عندها هذا المعنى الدقيق الذي هو بالقبول منك حقيق فاعلم أنه قد علق بقلبك ما علق بقلوب عباد القبور، ولكنك قهرت هذه النفس الخبيثة عن أن تترجم بلسانك عنها، وتنشر ما انطوت عليه من محبة ذلك القبر، والاعتقاد فيه، والتعظيم له، والاستغاثة به، فأنت مالك لها من هذه الحيثية، مملوك لها من الحيثية التي أقامتك من مقامك، ومشت بك إلى فوق القبر، فإن تداركت نفسك بعد هذه وإلا كانت المسئولة عليك المتصرفة فيك المتلاعبة بك [57] في جميع ما تهوى مما ما قد وسوس به لها الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس. فإن قلت: رجعت إلى نفسي فلم أجد عندها شيئا من هذا، وفتشتها فوجدتها صافية من ذلك الكدر. فما أظن الحامل لك على المشي إلى القبر إلا أنك سمعت الناس يفعلون شيئا ففعلته، ويقولون شيئا فقلته. فاعلم أن هذه أول عقدة من عقد توحيدك، وأول محنة من محن تقليدك، فارجع تؤجر، ولا تتقدم تنحر، فإن هذا التقليد الذي حملك على هذه المشية الفارغة العاطلة الباطلة سيحملك على أخواتها فتقف على باب الشرك أولا، ثم تدخل منه ثانيا، ثم تسكن فيه وإليه ثالثا. وأنت في ذلك كله تقول: سمعت الناس يقولون شيئا فقلته، ورأيتهم يفعلون أمرا ففعلته. [أحوال الذي يقصد القبر ليدعو عنده] وإن قلت: إنك على بصيرة في عملك وعلمك، ولست ممن ينقاد لهوى نفسه كالأول، ولا ممن يقهرها، ولكنه يقلد الناس كالثاني، بل أنت صافي السر، نقي الضمير، خالص الاعتقاد، قوي اليقين، صحيح التوحيد، جيد التمييز، كامل العرفان، عالم بالسنة والقرآن، فلا لمراد نفسك اتبعت، ولا في هوة التقليد وقعت،

فقل لي بالله ما الحامل لك على التشبه بعباد القبور، والتعزير على من كان في عداد سليمي الصدور، فإنه يراك الجاهل [58] والخامل، ومن هو عن علمك وتمييزك عاطل، فيفعل كفعلك، ويقتدي بك، وليس له بصيرة مثل بصيرتك، ولا قوة في الدين مثل قوتك، فيحكي فعلك صوره، ويخالفه حقيقة، ويعتقد أنك لم تقصد هذا القبر إلا لأمر، ويغتنم إبليس اللعين غربة هذا المسكين الذي اقتدى بك، واستن بسنتك، فيستدرجه حتى يبلغ به إلى حيث يريد، فرحم الله امرأ هرب بنفسه عن غوائل التقليد، وأخلص عبادته للحميد المجيد. وقد ظهر بمجموع هذا التقسيم أن من يقصد القبر ليدعو عنده هو أحد ثلاثة: إن مشى لقصد الزيارة فقط، وعرض له الدعاء، ولم يحصل بدعائه تغرير على الغير فذلك جائز، وإن مشى لقصد الدعاء فقط، أو له مع الزيارة، وكان له من الاعتقاد ما قدمنا فهو على خطر الوقوع في الشرك، فضلا عن كونه عاصيا، وإذا لم يكن له اعتقاد في الميت على الصفة التي ذكرنا فهو عاص آثم، هذا أقل أحواله، وأحقر ما يربحه في رأس ماله. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. والله ولي التوفيق ... انتهى. تحريره بقلم مؤلفه في ليلة الأحد لسبع مضت من شهر رجب سنة 1213هـ. حامدا الله، ومصليا مسلما على رسوله وآله.

بحث في أن إجابة الدعاء لا ينافي سبق القضاء

[5] [23/ 4] بحث في أن إجابة الدعاء لا ينافي سبق القضاء تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط 1 - عنوان الرسالة: " بحث في أن الدعاء لا ينافي سبق القضاء ". 2 - موضوع الرسالة: في العقيدة. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله وصحبه الأكرمين. اعلم وفقك الله وإياي أنه قد وقع الخلاف بين أهل العلم، وطالت ذيوله. 4 - آخر الرسالة: فلنقتصر على هذا المقدار، والحمد لله أولا وآخرا، والصلاة والسلام على رسوله وآله. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني. 7 - عدد صفحات الرسالة: (3) صفحات. الأولى: 18 سطرا. مع هامش على يمين الصفحة. الثانية: 41 سطرا. الثالثة: 16 سطرا. مع الهامش في أعلى الصفحة. 8 - عدد الكلمات في السطر: 11 - 12 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الرابع من " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني ". 10 - وجدت العبارة التالية في نهاية المجلد الرابع من " الفتح الرباني ": " الحمد لله كمل للحقير أحمد بن محمد الشوكاني غفر الله لهما النظر فيه جزى الله مؤلفه أفضل الجزاء، ونفعه بعلمه النافع في دار البقاء وتغشاه برحمته ورضوانه. آمين ".

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله وصحبه الأكرمين. اعلم -وفقك الله وإياي- أنه قد وقع الخلاف بين أهل العلم، وطالت ذيوله، وتشعبت أبحاثه في التعارض بين ما ورد من أن القضاء الأزلي من الله -عز وجل- لا يتغير ولا يتبدل، وهو المعبر عنه بأم الكتاب [بقوله] (¬1) تعالى:} لا معقب لحكمه {(¬2) وقوله:} ما يبدل القول لدي {(¬3) وبين ما ورد من الإرشاد إلى الأدعية، وطلب الخير من الله عز وجل، وسؤاله أن يدفع الشر، ويرفع الضر، وسائر المطالب التي [يطالبها] (¬4) العباد من ربهم -سبحانه- (¬5) كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر " أخرجه الترمذي (¬6) من حديث سلمان وحسنه، وابن حبان (¬7)، وصححه، والحاكم (¬8) وصححه، والطبراني في الكبير (¬9)، والضياء في المختارة (¬10) ومثله حديث ثوبان مرفوعًا بلفظ: " لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في ¬

(¬1) في المخطوطة [لقوله] والصواب ما أثبتناه. (¬2) [الرعد: 41]. (¬3) [ق: 29]. (¬4) كذا في المخطوط ولعلها [يطلبها]. (¬5) انظر قطر الولي على حديث الولي (ص 424 - 425 وص 479 - 491). (¬6) في السنن رقم (2139) وقال هذا حديث حسن غريب. (¬7) لم يخرجه ابن حبان والحاكم من حديث سلمان. (¬8) لم يخرجه ابن حبان والحاكم من حديث سلمان. (¬9) (6/ 251 رقم 6128). وفي "الدعاء" (2/ 799 رقم 30). (¬10) لم أجده في الأجزاء المطبوعة. قلت: وأخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (4/ 169) والقضاعي في مسند الشهاب (2/ 36 رقم 832 - 833). وفي سنده أبو مولود اسمه فضة وهو بصري مشهور بكنيته ضعفه أبو حاتم في الجرح والتعديل (9317) وقال عنه ابن حجر في التقريب (2/ 112): فيه لين. وقد أورده المنذري في الترغيب رقم (2437) والدمياطي في المتجر الرابح رقم (1374). وخلاصة القول أن الحديث حسن بشاهد حديث ثوبان الآتي. قال الشوكاني في تحفة الذاكرين ص 34: فيه دليل -أي حديث سلمان- على أنه سبحانه يدفع بالدعاء ما قد قضاه على العبد، وقد وردت بهذا أحاديث كثيرة، ويؤيد ذلك قوله تعالى: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب)، [الرعد: 39].

العمر إلا البر، وإن الرجل ليُحرم الرزق بالذنب يصيبه" (¬1) وكقوله: " لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل، ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة " أخرجه الحاكم في المستدرك (¬2)، والبزار (¬3)، والطبراني في الأوسط (¬4)، والخطيب (¬5) قال الحاكم: صحيح الإسناد من حديث عائشة مرفوعًا. ¬

(¬1) أخرجه أحمد في المسند (5/ 277، 282) وابن ماجه رقم (90) والنسائي في السنن الكبرى (2/ 133 - كما في تحفة الأشراف). والحاكم في المستدرك (1/ 493) والطبراني في المعجم الكبير (2/ 100) وابن أبي شيبة في المصنف (10/ 441 - 442) والبغوي في شرح السنة (13/ 6) وابن حبان في صحيحه رقم (872). وهو حديث صحيح. قال ابن القيم في "الجواب الكافي" ص 27: إن هذا المقدور قدر بأسباب ومن أسبابه الدعاء، فلم يقدر مجردا عن سببه، ولكن قدر بسببه، فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور وهكذا، كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء وقدر حصول الزرع بالبذر، وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه، وكذلك قدر دخول الجنة بالأعمال، ودخول النار بالأعمال .. وحينئذ فالدعاء من أقوى الأسباب، فإذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال: لا فائدة في الدعاء، كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب، وجميع الحركات والأعمال، وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء، ولا أبلغ من حصول المطلوب ". (¬2) في المستدرك (1/ 492) وقال الحاكم: هذا حديث " صحيح الإسناد " وتعقبه الذهبي بقوله: زكريا مجمع على ضعفه. (¬3) في مسنده (3/ 29 - 30 رقم 2165 - كشف). (¬4) 3/ 66 رقم 2498) وفي الدعاء (2/ 800 رقم 33). (¬5) في تاريخه (8/ 452 - 453).

وقال في مجمع الزوائد (¬1) (¬2). وقد ضعف هذا الحديث بزكريا بن منظور (¬3)، وكما ذكرته في شرحي للعدة (¬4). ومن ذلك ما أخرجه أبو داود (¬5) والترمذي (¬6)، وابن ماجه (¬7) وابن حبان (¬8) وصححه عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن ربكم حيي كريم يستحي ¬

(¬1) (10/ 146) وقال: رواه الطبراني في الأوسط والبزار بنحوه وفيه زكريا بن منظور، وثقه أحمد بن صالح المصري، وضعفه الجمهور وبقية رجاله ثقات. قلت: وأخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 359 - 360) وقال: هذا حديث لا يصح وأعله بزكريا ونقل بعض أقوال النقاد فيه. وأخرجه ابن عدي في الكامل (3/ 1068) في ترجمة زكريا بن يحيى من طريق زكريا بن منظور عن عطاف بن خالد به. (¬2) أنزلت النص الآتي من صلب الرسالة إلى الهامش؛ لأنه زيادة مقحمة فيه كما يتضح من تحقيق الرسالة. [رواه أحمد وأبو يعلى بنحوه والبزار والطبراني في الأوسط ورجال أحمد وأبي يعلى وأحد إسنادي البزار رجاله رجال الصحيح غير علي بن علي الرفاعي، وهو ثقة]. (¬3) قال البخاري في " التاريخ الكبير" (3/ 424): " ليس بذاك ". وقال النسائي في " الضعفاء " (ص 109 رقم 221) ضعيف. وقال ابن حبان في المجروحين (1/ 314) منكر الحديث جدا، يروي عن أبي حازم ما لا أصل له من حديثه. (¬4) أي تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين من كلام سيد المرسلين ص 35. يعتلجان: أي يتصارعان. " النهاية " (3/ 286). قال الشوكاني: فيه دليل على أن الحذر لا يغني عن صاحبه شيئا من القدر المكتوب عليه، ولكنه ينفع من ذلك الدعاء، ولذلك عقبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل. (¬5) في السنن رقم (1488). (¬6) في السنن رقم (3556) وقال: هذا حديث حسن غريب. (¬7) في السنن رقم (3865). (¬8) في صحيحه رقم (876).

من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا ". وأخرجه أيضًا الحاكم (¬1)، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وله شاهد صحيح. ثم رواه (¬2) من حديث أنس مرفوعا: " إن الله رحيم حيي كريم يستحي من عبده أن يرفع إليه يديه، ثم لا يضع فيهما خيرا " وأخرجه الطبراني (¬3)، وأبو يعلى (¬4). ومن ذلك قوله: " لا تعجزوا في الدعاء، فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد ". أخرجه ابن حبان (¬5) من حديث أنس، والحاكم في المستدرك (¬6)، وقال: صحيح الإسناد، والضياء في المختارة (¬7) وقد رددت في شرحي للعدة (¬8) على من ضعفه. ¬

(¬1) في المستدرك (1/ 497). وهو حديث صحيح. (¬2) أي الحاكم في المستدرك (1/ 498) وصححه الحاكم وتعقبه الذهبي بقوله: عامر بن يساف ذو مناكير. (¬3) في الأوسط (5/ 270 رقم 5286). (¬4) في مسنده (6/ 3232) بنحوه وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 148). وقال: رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح. (¬5) في صحيحه رقم (871) بإسناد ضعيف لضعف عمر بن محمد بن صهبان. (¬6) في المستدرك (1/ 494) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي: لا أعرف عمرا، تعبت عليه. (¬7) في المختارة (5/ 136 رقم 1760). (¬8) قال الشوكاني في تحفة الذاكرين ص 37: " وعدم معرفته -أي الذهبي- له لا تستلزم عدم معرفة غيره له، نعم قال الذهبي في الميزان (3/ 207) حاكيا عن أبي حاتم أنه مجهول، وهذا قادح صحيح. ولهذا قال ابن حجر في لسان الميزان (4/ 325) وقد تساهل الحاكم في تصحيحه، ولكن لا يخفاك أن تصحيح ابن حبان والضياء يكفي ولا يحتاج معه إلى غيره، وعلى تقدير أن في إسنادهما هذا الرجل الذي قيل: إنه مجهول، فمعلوم أنهما لا يصححان الحديث المروي من طريقه إلا وقد عرفاه وعرفا صحة ما رواه، ومن علم حجة على من لم يعلم. قلت: عمر بن محمد هو بن صهبان الضعيف لا ابن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب كما ظن الحاكم وابن حبان والضياء. فقد جاء مصرحا به عند أبي نعيم في أخبار أصفهان (2/ 232) والعقيلي في الضعفاء (3/ 188) وقال العقيلي عمر بن محمد لا يتابع عليه ولا يعرف إلا به. وأخرجه ابن عدي في الكامل (5/ 1674) وقال: عمر بن صهبان عامة أحاديثه مما لا يتابعه الثقات عليه. والغلبة على حديثه المناكير. ومما تقدم يظهر لنا ضعف كلام الإمام الشوكاني -رحمه الله-. والخلاصة أن الحديث إسناده ضعيف.

ومن ذلك: ما أخرجه الترمذي (¬1) من حديث أبي هريرة، والحاكم في المستدرك (¬2)، وقال: صحيح الإسناد، وأقره الذهبي. وأخرجه أيضًا (¬3) من حديث سلمان وقال: صحيح الإسناد. ومن ذلك ما أخرجه الحاكم في المستدرك (¬4) من حديث أبي هريرة، وقال صحيح الإسناد. قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين، ونور السماوات والأرض ". وأخرجه أبو يعلى (¬5) من حديث علي [بهذا اللفظ، وأخرج أبو يعلى (¬6) من حديث جابر رضي الله عنه] (¬7) قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ألا أدلكم على ما ينجيكم من عدوكم، ويدر لكم أرزاقكم؟ تدعون الله في ليلكم ونهاركم، فإن الدعاء سلاح ... ¬

(¬1) في السنن رقم (3370) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. (¬2) في المستدرك (1/ 490): وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. قلت: وأخرجه البخاري في الأدب المفرد رقم (712) والطيالسي في المسند رقم (2585) وأحمد (2/ 362) وابن ماجه رقم (3829). وهو حديث حسن. (¬3) لم يخرجه من حديث سلمان، والله أعلم. (¬4) في المستدرك (1/ 492) من حديث علي وقال: هذا حديث صحيح. قلت: بل ضعيف لجهالة محمد بن الحسن بن أبي يزيد. (¬5) في المسند (1/ 344 رقم 439). (¬6) في المسند رقم (182). وأورده الهيثمي في المجمع (10/ 147) وقال: رواه أبو يعلى، وفيه محمد بن أبي حميد وهو ضعيف. وهو حديث ضعيف. (¬7) ما بين الحاصرتين زيادة يقتضيها السياق من "تحفة الذاكرين (ص 38) ".

المؤمن" (¬1). وأخرج أحمد في المسند (¬2) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما من مسلم ينصب وجهه لله في مسألة، إلا أعطاه إياها، إما أن يعجلها له، وإما أن يدخرها له ". قال المنذري في الترغيب والترهيب (¬3)، لا بأس بإسناده، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (¬4)، والحاكم (¬5). ويشهد لمعناه ما أخرجه أحمد (¬6)، والبزار (¬7)، وأبو يعلى (¬8). قال المنذري (¬9)، بأسانيد جيدة من حديث أبي سعيد الخدري: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها ". وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (¬10)، ... ¬

(¬1) في المخطوطة مكررة. (¬2) (2/ 448). وأورده الهيثمي في المجمع (10/ 148) وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات وفي بعضهم خلاف. (¬3) (2/ 474 رقم 2426). (¬4) رقم (711). (¬5) في المستدرك (1/ 497) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وهو حديث صحيح لغيره. (¬6) في المسند (3/ 18). (¬7) في مسنده رقم (3134، 3144 - كشف). (¬8) في مسنده رقم (46/ 1019). (¬9) في الترغيب والترهيب (2/ 475 رقم 2427). قلت: وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 493) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وأورده الهيثمي في المجمع (10/ 148) وقال: رواه أحمد وأبو يعلى بنحوه والبزار والطبراني في الأوسط، ورجال أحمد وأبي يعلى وأحد إسنادي البزار رجاله رجال الصحيح غير علي بن علي الرفاعي وهو ثقة. والخلاصة أن الحديث حسن والله أعلم. (¬10) (10/ 200).

وأبو داود (¬1)، والترمذي (¬2)، والنسائي (¬3)، وابن حبان (¬4) قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الدعاء هو العبادة، ثم تلا:} وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي {الآية (¬5) وصححه الترمذي (¬6)، وابن حبان (¬7)، والحاكم (¬8). وأخرج الترمذي (¬9) من حديث أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الدعاء مخ العبادة". وأخرج الترمذي (¬10) والحاكم في المستدرك (¬11) وصححه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من لم يسأل الله يغضب عليه ". وفي لفظ: " من لم يدع الله يغضب ¬

(¬1) في السنن رقم (1479). (¬2) في السنن رقم (3247) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬3) في السنن الكبرى رقم (11464). (¬4) في صحيحه رقم (890). (¬5) [غافر: 60]. (¬6) في السنن (5/ 456). (¬7) في صحيحه (3/ 172). (¬8) في المستدرك (1/ 491) وصححه ووافقه الذهبي. قلت: وأخرجه أحمد (4/ 267) والبغوي في شرح السنة رقم (1384)، والطيالسي رقم (801) والبخاري في الأدب المفرد رقم (714) وابن ماجه رقم (3828) وأبو نعيم في الحلية (8/ 120) كلهم من حديث النعمان بن بشير. وهو حديث حسن. (¬9) في السنن رقم (3371)، وقال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه. لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة. وقال الألباني: -رحمه الله- ضعيف بهذا اللفظ. (¬10) في السنن رقم (3373). (¬11) في المستدرك (1/ 491) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد. واللفظ: " من لا يدعو الله يغضب عليه ". قلت: وأخرجه أحمد (2/ 442، 443، 447) والبخاري في الأدب المفرد رقم (658) والبغوي في شرح السنة (5/ 188) وابن ماجه رقم (3827).

عليه " أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (¬1)، والحاكم في المستدرك (¬2) وصححه. ومن ذلك استعاذته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من سوء القضاء كما في صحيح مسلم (¬3) وغيره (¬4). ومن (¬5) ذلك ما ثبت في قنوت الوتر عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال فيه: " وقني شر ما قضيت " وهو حديث صحيح، وإن لم يخرجه الشيخان (¬6) وفيهما الاستعاذة من القضاء المشتمل على الشر والسوء. ومن ذلك الأحاديث الواردة في صلة الرحم، وأنها (¬7) تزيد في العمر وهي أحاديث ¬

(¬1) (10/ 200) (¬2) في المستدرك (1/ 491). والخلاصة: إن الحديث حسن والله أعلم. (¬3) في صحيحه رقم (53/ 2707). (¬4) كالبخاري في صحيحه رقم (6347) كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه كان يتعوذ من سوء القضاء ومن درك الشقاء، ومن شماتة الأعداء، ومن جهد البلاء. (¬5) أخرجه أبو داود رقم (1425، 1426) والترمذي رقم (464) وابن ماجه رقم (1178) من حديث الحسين بن علي رضي الله عنهما. وهو حديث صحيح. (¬6) وهو كما قال الشوكاني رحمه الله، انظر التعليقة السابقة. (¬7) رأي الشوكاني في المسألة: ذهب الشوكاني إلى أن أجل الإنسان يزيد وينقص، وأن الله سبحانه يمحو ما يشاء مما في اللوح المحفوظ ويثبت ما يشاء منه واستدل على ذلك بأدلة كثيرة:- قال تعالى: (لكل أجل كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) [الرعد: 38 - 39]. وقال الشوكاني عند تفسيره الآية: "أي لكل أمر مما قضاه الله، أو لكل وقت من الأوقات التي قضى الله بوقوع أمر فيها كتاب، الله يكتبه على عباده ويحكم به فيهم: (يمحو الله ما يشاء ويثبت) أي يمحو من ذلك الكتاب، ويثبت ما يشاء منه ثم قال: " وظاهر النظم القرآني العموم في كل شيء مما في الكتاب، فيمحو ما يشاء محوه من شقاوة أو سعادة أو رزق أو عمر، أو خير أو شر ... ". وأورد اثني عشر قولا في معنى الآية ورجَّح أن الآية عامة وأن العمر فرد من أفرادها ... فالمراد من الآية أنه يمحو ما يشاء مما في اللوح المحفوظ ". انظر تفصيل ذلك " فتح القدير " للشوكاني (3/ 88) قطر الولي (504 - 506). ولكن الرأي الراجح أن المحو والإثبات في المكتوب عند الملائكة وأن ما في سابق علمه سبحانه وفي اللوح المحفوظ لا يقع فيه المحو والإثبات، وقد ذكر ذلك ابن تيمية في مجموع فتاوى (14/ 490 - 492) و (8/ 517، 540) وابن أبي العز الحنفي في " شرح العقيدة الطحاوية " ص 152، وابن حجر في الفتح (4/ 353 - 354) (11/ 497). وعلى هذا القول فإن الكتاب كتابان: أحدهما الكتاب الذي يكتبه الملائكة على الخلق - عن أنس بن مالك قال: " وكل الله بالرحم ملكا فيقول: أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال: أي رب أذكر أم أنثى، أشقي أم سعيد؟ فما الرزق فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه ". أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6595) ومسلم في صحيحه رقم (2646) - وذلك الكتاب محل المحو والإثبات والكتاب الثاني أم الكتاب أو اللوح المحفوظ، وهو الكتاب المشتمل على تعيين جميع الأحوال العلوية والسفلية، وهو الباقي لا يغير فيه شيء. انظر: تفسير ابن كثير (2/ 538) زاد المسير (4/ 339) وجامع البيان (13/ 167) لابن جرير. قال الشيخ عبد الرحمن ناصر السعدي في تيسير الكريم المنان (4/ 117):- قال تعالى: (يمحو الله ما يشاء) الآية " يمحو الله ما يشاء من الأقدار ويثبت ما يشاء منها، وهذا المحو والتغيير في غير ما سبق به علمه وكتبه قلمه. فإن هذا لا يقع فيه تبديل ولا تغيير، لأن ذلك محال على الله أن يقع في علمه نقص أو خلل، ولهذا قال (وعنده أم الكتاب) أي اللوح المحفوظ الذي ترجع إليه سائر الأشياء، فهو أصلها، وهي فروع وشعب فالتغيير والتعديل يقع في الفروع والشعب كأعمال اليوم والليلة التي تكتبها الملائكة، ويجعل الله لثبوتها أسبابا، ولمحوها أسبابا لا تتعدى تلك الأسباب ما رسم في اللوح المحفوظ كما جعل الله البر والصلة والإحسان من أسباب طول العمر وسعة الرزق وكما جعل المعاصي سببا لمحق بركة الرزق والعمر، وكما جعل أسباب النجاة من المهالك والمعاطب سببا للسلامة وجعل التعرض لذلك سببا للعطب، فهو الذي يدبر الأمور بحسب قدرته وإرادته، وما يدبره منها لا يخالف ما قد علمه وكتبه في اللوح المحفوظ. وعلى هذا فإن زيادة الآجال ونقصها بالنسبة إلى علم الملك الموكل بالعمر، لا بالنسبة إلى ما في سابق علم الله وقضائه، فلا زيادة فيه ولا نقص وهو معنى قوله تعالى: (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) [الأعراف: 34، النحل: 61]. ومن الأدلة على أن الآجال لا تتغير ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2663) من حديث عبد الله بن مسعود قال: قالت أم حبيبة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم أمتعني بزوجي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية قال: فقال: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قد سألت الله لأجال مضروبة وأيام معدودة وأرزاق مقسومة، لن يعجل شيئا قبل حله أو يؤخر شيئا عن حله ".

صحيحة (¬1). ومن ذلك الأحاديث الواردة في إجابة دعاء المظلوم على ظالمه (¬2). والأحاديث الواردة في دعاء الوالدين لولدهما (¬3). والأحاديث الواردة في دعوة الإمام العادل (¬4)، والأحاديث ¬

(¬1) (منها) ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5986) ومسلم رقم (2557) من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه". (ومنها) ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5985). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من سره أن يُبسط له في رزقه، وأن يُنسأ له في أثره، فليصل رحمه ". (¬2) (منها) ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1395) ومسلم رقم (19) والترمذي رقم (625) وأبو داود رقم (1584) والنسائي (5/ 52، 55) وابن ماجه رقم (1783). من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اتقوا دعوة المظلوم، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب". (¬3) أخرج أبو داود رقم (1536) والترمذي رقم (3448) وابن ماجه رقم (3862) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد لولده، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم ". وهو حديث حسن. (¬4) أخرج الترمذي رقم (1905) وابن ماجه رقم (1752) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم، يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء. يقول الرب: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين". وهو حديث صحيح.

الواردة في إجابة دعوة من دعا الله باسمه الأعظم (¬1)، وغير ذلك كثير، وجميع ذلك على اختلاف دلالته متواتر. فليت شعري؟! كيف ذهب جماعة من أهل العلم إلى مخالفة ذلك كله وقالوا: إن أحكام الله وقضاءه في سابق علمه، لا تتغير أصلا (¬2)؟!. فإن استدلوا بمثل قوله تعالى:} ما يبدل القول لدي {(¬3)، وما ورد في اللوح المحفوظ، وما كتب فيه، وأنه قد حق القضاء ونحو ذلك، فأي فائدة في مثل قوله عز وجل:} ادعوني أستجب لكم {(¬4)، ¬

(¬1) أخرج الترمذي في السنن رقم (3475) وابن ماجه رقم (3857). من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: دخلت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسجد ويدي في يده، فإذا رجل يقول: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الواحد الأحد الصمد الذي لم تلد ولم تولد ولم يكن لك كفوا أحد. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لقد دعا الله تعالى باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطي، وإذا دعي به أجاب ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب النار، أو عذاب القبر كان خيرا وأفضل ". هذا الحديث صريح في أن الآجال والأرزاق مقدرة لا تتغير. ولهذا جمع العلماء بين هذا الحديث وما في معناه من الآيات. - قال تعالى: (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) [الأعراف:34]. - قال تعالى: (ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها) [المنافقون: 11]. وبين ما ورد في زيادة العمر لمن وصل رحمه، وأجابوا بأجوبة منها: أن الزيادة كناية عن البركة في العمر، والتوفيق إلى الطاعات، وما يبقى بعده من الثناء الجميل فكأنه لم يمت. انظر: شرح النووي لصحيح مسلم (16/ 114). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أن تلك البركة وهي زيادة في العمل والنفع هي أيضًا مقدرة مكتوبة ... مجموع فتاوى (14/ 491 - 492). (¬2) سبق ذكر التعليقة ص 400. (¬3) [ق: 29]. (¬4) [غافر: 60].

فإن هذا أمر منه لعباده بدعائه، وأي فائدة في أمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يخبر عباده بأنه قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه؟ وأي فائدة في قوله -عز وجل-[1 ب] مخبرا لعباده.} يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب {(¬1)، كيف وقد علمنا سبحانه كيف ندعو في نحو قوله:} ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطانا {إلى آخر الآية، وحكى لنا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما ثبت في الصحيح أن الله عز وجل قال عن هذه الدعوات: قد فعلت؟؟ وكذلك سائر ما قصه الله علينا في كتابه من إجابته لدعوة أنبيائه كما في قوله [عز وجل] (¬2).} حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا {(¬3)؟. وفي مثل:} إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم {(¬4)، وما يشابه ذلك من الآيات (¬5) وما شوهد من نبينا -عليه الصلاة والسلام- من إجابة دعواته في مواطن يتعسر إحصاؤها (¬6)، وما شوهد من صالحي هذه الأمة في كل قرن من ¬

(¬1) [الرعد: 39]. (¬2) زيادة يقتضيها السياق. (¬3) [يوسف: 110]. (¬4) [محمد: 7]. (¬5) قال تعالى: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) [الأنفال: 9]. قال تعالى: (وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما) [يونس: 12]. قال تعالى: (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه) [الزمر: 8]. وقال تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) [البقرة: 186]. (¬6) أخرج البخاري في صحيحه رقم (933) ومسلم في صحيحه رقم (897) عن أنس قال: أصابت الناس سنة على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المنبر يوم الجمعة يخطب، أتاه أعرابي فقال: يا رسول الله، هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا، فرفع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يديه وما نرى في السماء قزعة، فواالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار سحاب كأمثال الجبال، ثم لم ينزل عن المنبر حتى رأيت الماء يتحارد على لحيته فمطرنا ذلك ومن الغد وبعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى ... ". وما أخرجه الترمذي رقم (3514) بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " اللهم استجب لسعد إذا دعاك ". فكان لا يدعو إلا استجيب له. سيأتي (ص 1073). انظر: " تهذيب الخصائص النبوية الكبرى " (ص 335 - 345).

القرون، من إجابة دعواتهم في الحال. ومن جهل هذا، أو بعضه، نظر في مثل حلية الأولياء (¬1)، ومثل رسالة القشيري (¬2)، ومثل صفوة الصفوة لابن الجوزي (¬3)، وغير ذلك مما يكثر تعداده. بل ينظر الدعوات المجابة من الصحابة -رضي الله عنهم- كما دوَّناه في البحث الذي قبل هذا (¬4). كما وقع مع جماعة كثيرة من السلف -رحمهم الله- أنهم كانوا يقولون في أدعيتهم: " اللهم إن كنت قد كتبتني في ديوان الأشقياء فانقلني إلى ديوان السعداء" بعبارات مختلفة هذه أحدها (¬5). وبالجملة فالكتاب العزيز، والسنة المتواترة، ترد عليهم ردا أوضح من شمس النهار. وطائفة قالت: إن الأقضية على نوعين (¬6): مطلقة ومقيدة. فالمطلقة ما لم تكن ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (26) من هذا القسم -العقيدة-. فقد تم التعريف بهذه الكتب. (¬2) انظر الرسالة رقم (26) من هذا القسم -العقيدة-. فقد تم التعريف بهذه الكتب. (¬3) انظر الرسالة رقم (26) من هذا القسم -العقيدة-. فقد تم التعريف بهذه الكتب. (¬4) الرسالة رقم (26) من هذا القسم بعنوان " بحث في الاستدلال على ثبوت كرامات الأولياء ". (¬5) أخرجه ابن جرير الطبري في جامع البيان (8\ ص 13/ 167 - 168) عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود (¬6) ومثاله كأن يقال للملك: إن عمر فلان مائة مثلا إن وصل رحمه، وستون إن قطعها، وقد سبق في علم الله أنه يصل أو يقطع، فالذي في علم الله لا يتقدم ولا يتأخر. والذي في علم الملك هو الذي يمكن فيه الزيادة والنقص وإليه الإشارة بقوله تعالى: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) فالمحو والإثبات بالنسبة لما في علم الملك، وما في أم الكتاب هو الذي في علم الله تعالى فلا محو فيه ألبتة - ويقال له القضاء المبرم، ويقال للأول القضاء المعلق. فتح الباري (10/ 416). وأشار إلى ذلك ابن تيمية في مجموع فتاوى (8/ 517) حيث قال: والأجل أجلان، أجل مطلق يعلمه الله، وأجل مقيد، وهذا يتبين معنى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من سره أن يبسط في رزقه، وينسأ في أثره فليصل رحمه" - تقدم تخريجه (ص 402) - فإن الله أمر الملك أن يكتب له أجلا وقال: إن وصل رحمه زدته كذا وكذا، والملك لا يعلم أيزداد أم لا؟ لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر، فإذا جاء ذلك لا يتقدم ولا يتأخر".

مشروطة بشرط، واقعة، وإلا فلا. وهذا القول وإن كان مردودا مثل الأول، إلا أنه أقل مفسدة منه، وإن كان رأيا بحتا ليس عليه دليل. وبالجملة فالبحث يطول. فلنقتصر على هذا المقدار، والحمد لله أولا وآخرا، والصلاة والسلام على رسوله وآله. الحمد لله، كمل للحقير أحمد بن محمد الشوكاني -غفر الله لهما- النظر فيه - جزى الله مؤلفه أفضل الجزاء، ونفعه بعلمه النافع في دار البقاء، وتغشاه برحمته ورضوانه - آمين [2 أ].

بحث في وجوب محبة الرب سبحانه

بحث في وجوب محبة الرب سبحانه تأليف محمد بن علي الشوكاني حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه محفوظة بنت علي شرف الدين أم الحسن

وصف المخطوط 1 - عنوان الرسالة: " بحث في وجوب محبة الله ". 2 - موضوع الرسالة: في العقيدة. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الأكرمين. اعلم أن محبة الله عز وجل هي من أعظم الفرائض المفترضة على العباد .. 4 - آخر الرسالة: ... إني لأعرف ناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء لمنزلتهم عند الله يوم القيامة الذين يحبون الله ويحببونه إلى خلقه، يأمرونهم بطاعة الله، فإذا أطاعوا الله أحبهم الله. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني. 7 - عدد الصفحات: (3) ثلاثة. الأولى: 28 سطرا. الثانية: 32 سطرا. الثالثة: 28 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 12 - 13 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الأكرمين. اعلم أن محبة الله -عز وجل- من أعظم الفرائض المفترضة على العباد كما يدل على ذلك آيات الكتاب المبين، وأحاديث سيد المرسلين، وإجماع المسلمين أجمعين، فمن ذلك قول الله -عز وجل-:} قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله {(¬1). وقد علم أن اتباع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فرض واجب لا خلاف فيه، وكانت هذه المحبة لله -سبحانه- أدخل في الفرضية لتعليق الاتباع بها، وجعله متسببا عنها، مع ما في ذلك من التهييج للعباد على الاتباع بما هو مطلوب لكل فرد من أفرادهم، ومقصد من مقاصد عامهم وخاصهم، فإن دخول العبد في زمرة المحبين لله -عز وجل- هو الذي يتنافس فيه المتنافسون، ويتسابق إليه المتسابقون، فإذا سمع السامع أن هذا الاتباع (¬2) لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- هو صنع من يحب الله، وعمل من يتصف بذلك سعى إليه وبادر به، وبالغ في تحصيله بكل ممكن. والحاصل أن في هذا النظم القرآني دلالة بينة على أن اتباع (¬3) رسول الله- صلى الله ¬

(¬1) [آل عمران: 31] (¬2) قال ابن كثير في تفسيره (2/ 22): هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله. قال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية:} قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله {. (¬3) ويعتبر اتباع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرض واجب لا خلاف فيه: قال تعالى:} لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا {[الأحزاب: 21]. وقال سبحانه وتعالى:} فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون {[الأعراف:158] وقال سبحانه وتعالى:} فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما {[النساء: 65]. وقال تعالى:} فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر {[النساء:59]. قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم ". من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أخرجه مسلم رقم (1337). قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى " قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى ". أخرجه البخاري رقم (7280).

عليه وآله وسلم- متسبب عن محبة العبد لله، وفرع من فروعها، وأنه سبب لمحبة الله -عز وجل- للعبد، ومن أحب الله وأحبه الله فقد ظفر بالغاية القصوى، ووصل المقصد الأسنى الذي هو أعلى مطالب الطالبين، ونهاية رغبات الراغبين، وكل العبادات والأعمال الصالحات إنما هي للتوصل بها إلى هذه المحبة التي يكون بها حصول الفلاح والنجاح والفوز لكل محبوب، والنجاة من كل مكروه. ومن الآيات القرآنية الدالة على فرضية محبة العبد لربه، قوله -عز وجل-:} قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين {(¬1). فهذا الوعيد المذكور في آخر هذه الآية بقوله:} فتربصوا حتى يأتي الله بأمره {(¬2) مع قوله: {والله لا يهدي القوم الفاسقين} (¬3) قد دل أبلغ دلالة على أن محبة ¬

(¬1) [التوبة:24] (¬2) [التوبة:24] (¬3) [التوبة:24]

العبد لله -عز وجل- فرض من أعظم الفرائض الدينية، ولا سيما بعد ذكره لما هو غاية ما يحب في الدنيا من الأشخاص الذين هم الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشائر، فإن هؤلاء هم الذين تحصل المحبة لهم، وضم إلى ذلك الأموال والمساكن، وما هو أعظم أسباب الكسب وهو التجارة بصدقه على غالب المكاسب التي يتكسب العباد بها، ويحصلون الأرزاق منها. ومعلوم أن الله لا يتوعد بالعذاب، ويشير إلى أن من لم يقم بما توعد عليه فهو من القوم الفاسقين المحرومين للهداية الربانية والعناية الإلهية، إلا على فرض لازم، وواجب متحتم. ولهذا كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يستكثر من سؤال الله -سبحانه- حصول هذه المحبة له كما أخرجه أحمد (¬1)، والترمذي (¬2)، والحاكم (¬3) وصححه من حديث معاذ بن جبل، وفيه: "أسألك حبك وحب من يحبك، وحب عمل يقرب إلى حبك" فوقع منه السؤال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لحب الله، وحب ما هو وسيلة إليه، وحب من حصل له هذا الحب. وأخرج نحوه البزار (¬4)، والطبراني (¬5)، والحاكم (¬6) من حديث ثوبان، وأخرجه أيضًا البزار (¬7) من حديث ابن عمر، وأخرجه أيضًا الترمذي (¬8). . . . . . . . . . ¬

(¬1) في "المسند" (5/ 243). (¬2) في "السنن" رقم (3235) وقال: "حديث حسن صحيح، سألت محمد بن إسماعيل -يعني البخاري- عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن صحيح" اهـ. (¬3) في " المستدرك" (1/ 521). وهو حديث صحيح. (¬4) في مسنده (4/ 60 رقم 3197 - كشف). وأورده الهيثمي في "المجمع" (10/ 181) وقال: رواه البزار وإسناده حسن. (¬5) في " الكبير" (20/ 109 - 110 رقم 216) من حديث معاذ بن جبل. (¬6) في "المستدرك " (1/ 527) وقال: حديث صحيح على شرط البخاري. (¬7) لم أعثر عليه؟! (¬8) في "السنن" رقم (3490) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. ولكن في سنده عبد الله بن ربيعة بن يزيد الدمشقي. وقيل: ابن يزيد بن ربيعة، وهو مجهول من السادسة. انظر "التقريب" رقم (3309).

والحاكم (¬1) من حديث أبي الدرداء، وفي آخره بعد ذكر ما في حديث (¬2) معاذ ما لفظه: "اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وأهلي ومالي ومن الماء البارد" وحسنه الترمذي (¬3). وأخرج الترمذي (¬4) أيضًا وحسنه من حديث عبد الله بن بريدة الخطمي عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه كان يقول -في دعائه-: "اللهم ارزقني حبك وحب من ينفعني حبه عندك". وفي الباب أحاديث وآثار بهذا المعنى عن جماعة من الصحابة. ومن الأدلة المرشدة إلى افتراض محبة الله -عز وجل- ما ورد في الأحاديث الصحيحة من التحاب في الله، فإن التحاب في الله -عز وجل- هو من محبة الله -سبحانه-. ومنها الحديث الصحيح (¬5): " إن المتحابين في الله على منابر من نور يوم القيامة ". ¬

(¬1) في " في المستدرك " (2/ 433) وقال: صحيح الإسناد ورده الذهبي بقوله: قلت: بل عبد الله هذا قال أحمد: أحاديثه موضوعة. والخلاصة أن الحديث ضعيف، والله أعلم. (¬2) تقدم تخريجه آنفا. (¬3) في السنن (5/ 522). (¬4) في "السنن " (5/ 523 رقم 3491) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. قلت: وأخرجه الطبراني في "الدعاء" (3/ 1454 رقم 1403). وهو حديث حسن. (¬5) أخرج الترمذي في "السنن" رقم (2390) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ومالك في "الموطأ" (2/ 953 رقم 16)، وأحمد في "المسند" (5/ 233)، والطبراني في "الكبير" (20/ 80 رقم 150) والحاكم في "المستدرك" (4/ 168 - 169) والقضاعي "مسند الشهاب" (2/ 322 - 323 رقم 1449 - 1450) وابن حبان في صحيحه رقم (574) وهو حديث صحيح. عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "قال الله عز وجل: المتاحبون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء ". وأخرج الحاكم (4/ 169) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وأحمد (5/ 229، 247)، والطبراني في "الكبير" (20/ 81 رقم 152، 153، 154) عن أبي إدريس الخولاني أنه قال: دخلت مسجد دمشق، فإذا فتى شاب براق الثنايا، وإذا الناس معه، إذا اختلفوا في شيء أسندوا إليه، وصدروا عن قوله، فسألت عنه، فقيل: هذا معاذ بن جبل، فلما كان الغد هجرت، فوجدته قد سبقني بالتهجير ووجدته يصلي. قال: فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قبل وجهه، فسلمت عليه، ثم قلت: والله إني أحبك لله، فقال: ألله؟ فقلت: ألله؟ فقال: ألله؟ فقلت: ألله؟ فقال: ألله؟ فقلت: ألله، قال: فأحذ بحبوة ردائي، فجذبني إليه وقال: أبشر فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في، والمتزاورين في، والمتباذلين في " وهو حديث صحيح. وأخرج ابن حبان في صحيحه رقم (576) وأحمد (5/ 239) والطبراني في "الكبير" (20/ 87 - 88 رقم 167 و168)، وأبو نعيم في "الحلية" (5، 121، 122، 131). من طرق عن أبي مسلم الخولاني، قال: قلت لمعاذ بن جبل: والله إني لأحبك لغير دنيا أرجو أن أصيبها منك، ولا قرابة بيني وبينك قال: فلأي شيء؟ قلت: لله، قال: فجذب حبوتي، ثم قال: أبشر إن كنت صادقا، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "المتحابون في الله في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله يغبطهم بمكانهم النبيون والشهداء" ثم قال: فخرجت فأتيت عبادة بن الصامت، فحدثته بحديث معاذ، فقال عبادة بن الصامت: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول عن ربه تبارك وتعالى: "حقت محبتي على المتحابين في، وحقت محبتي على المتناصحين في، وحقت محبتي على المتزاورين في، وحقت محبتي على المتباذلين في، وهم على منابر من نور يغبطهم النبيون والصديقون بمكانهم ". وهو حديث صحيح. وأخرج أبو داود في "السنن" رقم (3527) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى". قالوا: يا رسول الله، تخبرنا من هم؟ قال: "هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها؛ فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم على نور، لا يخافون إذا حزن الناس " وقرأ هذه الآية} ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون {[يونس: 62]. وإسناده منقطع، أبو زرعة لم يدرك عمر، وروايته عنه مرسلة. وقد أخرجه ابن حبان في صحيحه (1/ 390 رقم 572) من حديث أبي زرعة عن أبي هريرة، وأبو زرعة يروي عن أبي هريرة. فالحديث حسن. وقد صححه الألباني في صحيح أبي داود والله أعلم.

ومنها: حديث (¬1): " إن العبد لا يجد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله " وهو حديث صحيح. وأخرج أحمد (¬2) والترمذي (¬3) من حديث معاذ بن أنس الجهني عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: "من أعطى لله، ومنع لله، وأبغض لله، وأحب لله فقد استكمل إيمانه" وواجب على العبد أن يطلب ما يكمل به إيمانه. وأخرجه أيضًا أبو داود (¬4) من حديث أبي أمامة. وأخرج أحمد (¬5) من حديث البراء بن عازب عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ¬

(¬1) أخرجه أحمد (2/ 298، 520) والحاكم (1/ 3) والبزار في مسنده (1/ 50 رقم 63 - كشف) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "من أحب لله" وقال هاشم: "من سره أن يجد طعم الإيمان فليحب المرء لا يحبه إلا لله عز وجل". قال الحاكم: صحيح لا يحفظ له علة، وأورده الهيثمي في "المجمع" (1/ 90) وقال: رواه أحمد والبزار ورجاله ثقات" .. وهو حديث حسن. وأخرج البخاري (1/ 60 رقم 16) ومسلم في صحيحه (1/ 66 رقم 67/ 43) والترمذي (5/ 15 رقم 2624) والنسائي (8/ 96 رقم 4988) وابن ماجه رقم (4033) عن أنس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار". (¬2) في "المسند" (3/ 438، 440). (¬3) في "السنن" رقم (2521) وقال: حديث حسن، وهو كما قال. (¬4) في "السنن" رقم (4681) وهو حديث حسن، انظر "الصحيحة" رقم (380). (¬5) في "المسند" (4/ 286) وفيه " أوسط" بدل "أوثق". وأورده الهيثمي في "المجمع" (1/ 89 - 90) وقال: رواه أحمد وفيه ليث بن أبي سليم وضعفه الأكثر.

قال: " إن أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله، وتبغض في الله ". وفي الباب أحاديث كثيرة، وآثار عن الصحابة واسعة. وفي صحيح البخاري (¬1) وغيره أن رجلا كان يؤتى به إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قد شرب الخمر، فقال رجل: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به! فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله"، فجعل العلة المقتضية للمنع من سبه كونه يحب الله ورسوله، مع ارتكابه لذلك المحرم المجمع عليه، والمعصية الشديدة. وأخرج الترمذي (¬2) من حديث ابن عباس عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: " أحبوا الله لما يغدوكم من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي" ومن أعظم ما ينبه على افتراض هذه [1ب] المحبة قوله -عز وجل-:} يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ... {الآية (¬3) ¬

(¬1) رقم (6780) من حديث عمر بن الخطاب. (¬2) في "السنن" رقم (3789) وقال: هذا حديث حسن غريب. قلت: وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (3/ 150)، وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 211)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (4/ 160). وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. وقال الألباني في "تخريج فقه السيرة للغزالي" ص20: "وهذا من تساهلهم جميعا لا سيما الذهبي، فقد أورد النوفلي هذا في "ميزان الاعتدال في نقد الرجال" وقال فيه: "فيه جهالة، ما حدث عنه سوى هشام بن يوسف"، ثم ساق له هذا الحديث فأنى له الصحة؟! وقد تفرد به هذا المجهول، ولم يوثقه أحد، ولذا قال فيه الحافظ ابن حجر في "التقريب" رقم (3372) إنه مقبول يعنى عند المتابعة، فأنى المتابع له؟! ولذلك فقد أصاب ابن الجوزي حين قال: "هو غير صحيح" كما نقله المناوي في "فيض القدير" وتعقبه بما لا طائل تحته" اهـ. والخلاصة أن الحديث ضعيف والله أعلم. (¬3) [المائدة:54] وقد ذكر الله سبحانه وتعالى صفات أولئك القوم الذي سيأتي بهم قال تعالى:} أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم {[المائدة:54]. قال ابن القيم في "مدارج السالكين" (3/ 25). فقد ذكر لهم أربع علامات: 1 - ، 2): أذلة على المؤمنين قيل: أرقاء رحماء مشفقين عليهم عاطفين عليهم. قال عطاء: للمؤمنين كالولد لوالده، والعبد لسيده، وعلى الكافرين كالأسد على فريسته} أشداء على الكفار رحماء بينهم {[الفتح: 29]. 3 - ) الجهاد في سبيل الله بالنفس واليد، واللسان والمال وذلك تحقيق دعوى المحبة. 4 - ) أنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم. وهدا علامة صحة المحبة.

فتوعد المرتدين عن الدين بأنه سيأتي بقوم هذه صفتهم، فأفاد ذلك أن هذا الوصف أشرف الأوصاف، وأعلى ما تتسبب عنه الخيرات، ومن أعظم البواعث على محبة الله -عز وجل- أنه يحصل بها المحبة من الله -عز وجل- للعبد والمغفرة لذنوبه كما تقدم في قوله:} قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم {(¬1)، ومن أحبه الله -عز وجل- أعطاه ما لم يكن له في حساب، كما ورد في الحديث الثابت في صحيح البخاري (¬2) وغيره عن أبي هريرة عن ¬

(¬1) [آل عمران:31] (¬2) رقم (6502). قال ابن تيمية في "الفرقان ببن أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" ص 51: وهذا لأن أولياء الله هم الذين آمنوا به ووالوه، فأحبوا ما يحب وأبغضوا ما يبغض، ورضوا بما يرضى، وسخطوا بما يسخط، وأمروا بما يأمر ونهوا عما نهى، وأعطوا لمن يحب أن يعطى ومنعوا من يحب أن يمنع. وقال الحافظ في "الفتح" (11/ 342 - 343): قال الفاكهاني: في هذا تهديد شديد، لأن من حاربه الله أهلكه، وهو من المجاز البليغ، لأن من كره من أحب الله ومن خالف الله عانده ومن عانده أهلكه. وقال الطوفي: لما كان ولي الله من تولى الله بالطاعة والتقوى، تولاه الله بالحفظ والنصرة.

النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: يقول الله -عز وجل-: "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألته لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت، وأنا أكره مساءته". وقد روي هذا المعنى من حديث جماعة من الصحابة (¬1)، وأخرج ابن ماجه (¬2) من رواية موسى بن عبيدٍ عن سعيد المقبري، عن الأذرع السلمي قال: كان رجل يقرأ قراءة عالية، فمات بالمدينة فحملوا نعشه فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "ارفقوا به رفق الله به، إنه كان يحب الله ورسوله" قال: وحضر حفرته فقال: "أوسعوا له وسع الله عليه" فقال بعض أصحابه: يا رسول الله لقد حزنت عليه، قال: "أجل، إنه كان يحب الله ورسوله ". وفي الصحيحين (¬3) وغيرهما من حديث أنس أن رجلا سأل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال: متى الساعة يا رسول الله؟ قال: "ما أعددت لها"؟ قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، فقال: رسول الله ¬

(¬1) انظرها في "مجمع الزوائد" للهيثمي (2/ 247 - 248). (¬2) في "السنن" رقم (1559). قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/ 276 رقم 564): "ليس لأذرع السلمي هذا عند ابن ماجه سوى هذا الحديث، وليس له شيء في الخمسة الأصول، وإسناد حديثه ضعيف لضعف موسى بن عبيدة الربذي ... ". وهو حديث ضعيف. (¬3) البخاري في صحيحه رقم (6171) ومسلم في صحيحه رقم (164/ 2639).

-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "فأنت مع من أحببت". وفي رواية للبخاري (¬1) قلنا: ونحن كذلك، قال: نعم، ففرحنا يومئذ بذلك فرحا شديدا، وفي رواية لمسلم (¬2)، قال أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحا أشد من قوله: " أنت مع من أحببت". وأخرج البزار (¬3) في مسنده من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي -صلى الله عليه ¬

(¬1) في صحيحه رقم (6167). (¬2) في صحيحه رقم (163/ 2639). (¬3) في مسنده (1/ 85 رقم 140 - كشف). وأورده الهيثمي في "المجمع" (1/ 120) وقال: رواه الطبراني في "الأوسط" والبزار، وفيه عبد الله بن عبد القدوس، وثقه البخاري وابن حبان وضعفه ابن معين. وقد ذكر ابن القيم في "مدارج السالكين" (3/ 20 - 21) الأسباب الجالبة للمحبة وهي عشرة: أحدها: قراءة القرآن، بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به، كتدبر الكتاب الذي يحفظه العبد ويشرحه ليتفهم مراد صاحبه منه. الثاني: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، فإنها توصله إلى درجة المحبوبية بعد المحبة. الثالث: دوام ذكره على كل حال: باللسان والقلب، والعمل والحال، فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من هذا الذكر. الرابع: إيثار محابه على محابك عند غلبان الهوى، والتسنم إلى محابه وإن صعب المرتقى. الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته، ومشاهدتها ومعرفتها، وتقلبه في رياض هذه المعرفة ومبادئها، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا محالة. السادس: مشاهدة بره وإحسانه وآلائه، ونعمه الباطنة والظاهرة فإنها داعية إلى محبته. السابع: انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى. الثامن: الخلوة به وقت النزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة. التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقي أطايب الثمر، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام، وعلمت أن فيه مزيدا لحالك ومنفعة لغيرك. العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل. فمن هذه الأسباب العشرة: وصل المحبون إلى منازل المحبة، ودخلوا على الحبيب وملاك ذلك كله أمران: استعداد الروح لهذا الشأن، وانفتاح عين البصيرة.

وآله وسلم- قال: "إني لأعرف ناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء بمنزلتهم عند الله يوم القيامة، الذين يحبون الله ويحبونه إلى خلقه يأمرونهم بطاعة الله فإذا أطاعوا الله أحبهم الله".

بحث في حديث (إن الله خلق آدم على صورته)

بحث في حديث (إن الله خلق آدم على صورته) تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط (أ) 1 - عنوان الرسالة: "بحث في حديث أن الله خلق آدم على صورته". 2 - موضوع الرسالة: في العقيدة. أول الرسالة: الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله، وبعد .. فإنه سألني الأخ القاضي العلامة الحسين بن يحيى السحولي، وكثر الله فوائده عن معنى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله خلق آدم على صورته " 4 - آخر الرسالة: ... والحمد لله على كل حال، والصلاة والسلام على نبيه وآله خير نبي آل حرره المجيب محمد بن على الشوكاني في شهر القعدة سنة 1207. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني. 7 - عدد الصفحات: 4 صفحات الأولى: 33 سطرا. الثانية: 31 سطرا. الثالثة: 27 سطرا. الرابعة: 25 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 17 كلمة تقريبا. الرسالة من المجلد الثالث من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".

وصف المخطوط (ب) 1 - عنوان الرسالة: "سؤال عن حديث أن الله خلق آدم على صورته، ... " 2 - موضوع الرسالة: في العقيدة. 3 - أول الرسالة: سؤال عن حديث إن الله خلق آدم على صورته، وعن ما روي عن قبض السماوات والأرض يوم القيامة بين السبابة والإبهام، فضحك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن تفسير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم يكشف عن ساق ". 4 - آخر الرسالة: .... والحمد لله على كل حال، والصلاة والسلام على نبيه وآله خير نبي آل. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 8 صفحات: الأولى: 6 سطرا. الثانية- السابعة: 24 سطرا. الثامنة: 3 أسطر. 7 - عدد الكلمات في السطر: 12 - 14 كلمة. 8 - حصلت على المخطوطة "ب" من الأخ الفاضل\ عادل حسين أمين\ الذي أحضرها من الهند أثناء دراسته هناك جزاه الله خيرا.

*بين يدي الرسالة رقم (7) * . أهمية العلم بصفات الله وإثباتها له تعالى: (1): أن الله سبحانه عرف نفسه إلى عباده بهذه الصفات، فالعلم بها، وإثباتها له على الوجه اللائق به مع تنزيهه عن كل نقيصة هو الطريق إلى معرفة الله تعالى؛ لأن معرفته جل وعلا بحقيقة كنهه غير ممكنة، وإنما يعرف بما أثبته لنفسه من صفات الكمال، وما نفاه عن نفسه من العيوب والنقائص. (2): أن العلم بالصفات وإثباتها لله تعالى هو من توحيد الله عز وجل الذي يعتبر من أشرف العلوم، ويعادل ثلث القرآن. وهو ما أشار إليه الحافظ في الفتح (9/ 61) في شرح حديث أبي سعيد الخدري في أن} قل هو الله أحد {تعدل ثلث القرآن -أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5013) و (5014) ورقم (5015). نقلا عن بعض العلماء: "تضمنت هذه السورة توجيه الاعتقاد، وصدق المعرفة، وما يجب إثباته لله من الأحدية المنافية لمطلق الشركة، والصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال الذي لا يلحقه نقص، ونفي الولد والوالد المقرر لكمال المعنى ونفي الكفء المتضمن لنفي الشبيه والنظير، وهذه مجامع التوحيد الاعتقادي. ولذلك عادلت ثلث القرآن، لأن القرآن خبر وإنشاء، والإنشاء أمر ونهي وإباحة، والخبر خبر عن الخالق، وخبر عن خلقه، فأخلصت سورة الإخلاص الخبر عن الله، وخلصت قارئها من الشرك الاعتقادي. وانظر بدائع الفوائد لابن القيم (1/ 184). . قواعد إثبات صفات الله تعالى: (القاعدة الأولى): إثبات صفات الله تعالى توقيفي- فلا يجوز وصفه إلا بما دل عليه الكتاب، والسنة الصحيحة الثابتة أو أجمع عليه.

وقال الإمام أحمد بن حنبل " لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصف به رسول، لا يتجاوز القرآن والحديث ". الفتوى الحموية الكبرى لابن تيمية (ص 61). وفتح الباري (13/ 357). . ولدلالة الكتاب والسنة على ثبوت الصفة ثلاثة أوجه: (الأولى): التصريح بالصفة، كالعزة والقوة، والرحمة. (الثاني): تضمن الاسم لها، مثل الغفور متضمن للمغفرة والسميع متضمن للسمع. (الثالث): التصريح بفعل أو وصف دال عليها، كالاستواء على العرش والمجيء للفصل بين العباد والنزول إلى السماء. قال تعالى:} الرحمن على العرش استوى {(¬1) [الفجر: 22]. انظر: " الفتوى الحموية " لابن تيمية (ص 61). " بدائع الفوائد " (1/ 183)، فتح الباري (13/ 357). (القاعدة الثانية): ليس كل ما أضيف إلى الله يكون صفة له، بل الألفاظ المضافة إلى الله على مراتب:-. فالإضافة على مراتب ثلاثة: " إضافة إيجاد وإضافة تشريف وإضافة صفة " فهذه قاعدة مهمة في التمييز بين ما أضيف إلى الله إضافة صفة، وما أضافه إليه إضافة خلق وإيجاد، أو تخصيص وتشريف، فكل ما أضيف إلى الله مما هو غير بائن عنه فهو صفة له غير مخلوقة. وكل شيء أضيف إلى الله مما هو بائن عنه فهو مخلوق، فليس كل ما أضيف إلى الله يستلزم أن يكون صفة له، وقد أشار إلى هذه القاعدة شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع فتاوى" (9/ 290 - 291). ¬

(¬1) [طه: 5]. وقوله تعالى: {وجاء ربك والملك صفا صفا}.}}}}}}

(القاعدة الثالثة): ذات الباري لا تشبه الذوات، فكذلك صفاته لا تشبه الصفات وهذه منتزعة دلالتها من النصوص قال تعالى:} ليس كمثله شيء وهو السميع البصير {(¬1). انظر: تفصيل ذلك في التدمرية (ص 44 - 45)، والحجة في بيان المحجة، لأبي القاسم الأصبهاني (1/ 175). (القاعدة الرابعة): تنزيه الله تعالى عما لا يليق به. قال الحافظ في الفتح (11/ 206 - 207) - تنزيه الله تعالى عما لا يليق بجلاله من كل نقص وتقديس صفاته من النقائص. قال: " فيلزم نفى الشريك والصاحبة والولد، وجميع الرذائل ... لذلك جاء في القرآن بعبارات مختلفة نحو سبحان، سبح بلفظ الماضي ويسبح بلفظ المضارع. ¬

(¬1) [الشورى:11].

بسم الله الرحمن الرحيم [الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله، وبعد: فإنه سألني الأخ القاضي العلامة الحسن بن يحيى السحولي- وكثر الله فوائده- عن معنى قوله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله خلق آدم على صورته" (¬1) وعن المروي أنه سأل النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعض الأحبار عن قبض (¬2) السماوات يوم القيامة فقال: " بين السبابة والإبهام " فضحك- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وعن قوله (¬3) - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تفسير قول الله:} يوم يكشف عن ساق {(¬4) أنه يكشف الله عن ساقه، وعن قوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " إن جهنم تقول يوم القيامة:} هل من مزيد {(¬5) فيضع الله قدمه فتقول: " قط قط" (¬6). قال- حفظه الله-: فهل تكون هذه الأخبار مجازا، أو إن ذلك حقيقة؟] (¬7). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6227) من حديث أبي هريرة. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4811) ومسلم في صحيحه رقم (2786) عن ابن مسعود قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا محمد، إنا نجد: أن الله يجعل السماوات على إصبع والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع والماء والثرى على إصبع وسائر الخلائق على إصبع، فيقول أنا الملك، فضحك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ثم قرأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:} وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون {[الزمر: 67]. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7439) ورقم (4919) مختصرا ومطولا. ومسلم في صحيحه (3/ 25 - 34 - شرح النووي) كتاب الإيمان. (¬4) [القلم: 42]. (¬5) [ق:30]. (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4848) من حديث أنس رضي الله عنه. (¬7) زيادة من [أ].}}}}}}

[سؤال عن حديث إن الله خلق آدم (¬1) على صورته، وعن ما روي عن (¬2) قبض السماوات والأرض يوم القيامة بين السبابة والإبهام، فضحك- رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وعن تفسير النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬3) -} يوم يكشف عن ساق {(¬4) أنه عن ساقه، وعن قوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إن جهنم تقول يوم القيامة:} هل من مزيد {(¬5) فيضع (¬6) الله قدمه فتقول: قط قط. هل هذا مجاز أو حقيقة؟ فقال رضي الله عنه] (¬7). أقول: قد اختلف الناس في هذه الأحاديث وأمثالها من أحاديث الصفات، وكذلك الآيات الواردة هذا المورد. فذهب قوم إلى أنه لا يتكلم في معناها بل يجب الإيمان بها، والاعتقاد بما يليق بجلال الله مع اعتقادنا الجازم بأن الله- جل جلاله- ليس كمثله شيء، وأنه منزه عن التجسيم ونحوه، وهذا مذهب السلف. حكاه النووي (¬8) عن معظمهم، و [واختاره] (¬9) جماعة من محققي المتكلمين، وهو مذهب الصدر الأول من أئمة الآل، كما حكى ذلك عنهم غير واحد. قال النووي (¬10): وغيره وهو أسلم، واحتجوا بوجوه: الأول: [على] (¬11) أن المتأول إما أن يقطع على أن للمتشابه تأويلا واحدا أولا. ¬

(¬1) سبق ذكره (ص 439) (¬2) سبق ذكره (ص 439) (¬3) سبق ذكره (ص 439) (¬4) [القلم:42] (¬5) [ق:30] (¬6) سبق ذكره (ص 439) (¬7) زيادة من [ب] (¬8) انظر" فتح الباري" (13/ 458) و (13/ 383) (¬9) في [أ]: إخباره. (¬10) نظر " الفتوى الحموية " (ص70). ودرء تعارض العقل والنقل (1/ 201 - 205). (¬11) زيادة من [ب]}}}}}}

الأول: ممنوع لأنه لا طريق إلى العلم إلا بأن الأولين والآخرين من العلماء الراسخين لو اجتمعوا ما وجدوا سبيلا إلى تأويل ثان غير ما وقع لهذا المتأول وهو باطل، لأن غاية الأمر أنه طلب [فلم] (¬1) يجد، وعدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود في الواقع. والثاني: يلزم منه أن المتأول لا يأمن أن يكون التأويل الذي جوزه مغايرا لما وقع له حقا والذي وقع له باطلا، فلا يحل له أن يخبر عن الله، أو عن رسوله بأنهما أرادا هذا التأويل بعينه دون غيره، لأن ذلك مما لا يؤمن كذبه، وهو قبيح عقلا وشرعا. الوجه الثاني: أنه قد يظهر للمتأول معان كثير محتملة في الآية والحديث مع تجويز غيرها، وذلك يمنع من القطع بجميعها لأن من العلماء من يمنع من كون الجميع مرادا، والأقل يجوز ذلك. الثالث: قوله تعالى:} ولا تقف ما ليس لك به علم {فإن هذه الآية توجب تحريم العمل بالظن والقول به، فلا يجوز إلا بدليل، ولم يأت دليل إلا في العمل بالظنيات العمليات دون القطعيات العلميات. الرابع: إن موسى لما أشكل عليه فعل الخضر ولم يعرف وجهه وقف ولم يؤوله، وما وسعه وسعنا، لأن شرع من قبلنا حجة إذا حكاه الله لنا. الخامس: إن الله لم يوجب ذلك علينا ولا رسوله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فالمتأول إما من الراسخين أو من الخاسرين [1أ] بخلاف الساكت فإنه آمن بالإجماع. وأما قول المتكلمين أنه لا يجوز على الله، ولا على رسوله أن يخاطب الأمة بما [لا يفهم] (¬2). فالجواب عنه أن الخطاب نوعان: أحدهما: ما فيه طلب عمل، أو نهي عن عمل، وهذا لا نزاع في أنه لا بد أن ينصب المخاطب إمارة تدل على مراده. ¬

(¬1) في [ب] (ولم) (¬2) في: [ب] لا تفهمه}}}}}}

النوع الثاني: ما ليس في فيه طلب من المكلفين، ولا نهي فلا دليل على أنه يجب أن يظهر فيه المراد لجميع المكلفين، فإنه قد تكون لله حكمة في ظهوره للبعض دون [1] البعض، وهذا جائز عقلا ونقلا [و] (¬1) وفاقا، فإنه معلوم بالضرورة أن جميع المكلفين لا يعلمون التأويل. وإنما اختلف في الراسخين، ومتى جاز ذلك جاز أن يكون العارف بذلك هو رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن شاء الله أن يطلعه عليه من الملائكة، ومن أحب أن يطلعه رسوله عليه من المسلمين، لأنه إنما يجب عليه إشاعة الأحكام الشرعية دون الأسرار الربانية. وقد صح أن الله خص الخضر بما لا يعلمه موسى، فكيف لا يصح أن يخص رسوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بما لا نعرفه. وهذه الأدلة باعتبار مجموع المتشابه من الكتاب والسنة ويختص المنع من الكلام في متشابه الكتاب بقول الله تعالى:} وما يعلم تأويله إلا الله {(¬2)} والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا {(¬3) وقد أجمع القراء على الوقف هنا. وكاد أن يجمع على أن المتشابه لا يعلمه إلا الله السلف الصالح، والقول بعطف الراسخين على الله محتمل، فلا يجوز التمسك به. وقد قطع جماعة من المحققين بأن العطف فاسد لفظا ومعنى. بل المراد أن الراسخين ليس لهم إلا أن يقولوا آمنا به وقد أخرج جماعة من أئمة الحديث عن ابن عباس أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال:" من قال [1ب] في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار (¬4) وحسنه [الترمذي (¬5)] (¬6) وأخرجوا أيضًا عن جندب أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: " من قال في القران برأيه فأصاب فقد أخطأ " (¬7). ¬

(¬1) زيادة من [أ]. (¬2) [آل عمران: 7]. (¬3) زيادة من [ب]. (¬4) أخرجه الترمذي في " السنن " رقم (2950) من حديث ابن عباس. (¬5) في " السنن " (5/ 199) وقال: هذا حديث حسن صحيح. بل هو حديث ضعيف. (¬6) زيادة من [أ]. (¬7) أخرجه الترمذي في " السنن " رقم (2951) وقال: حسن صحيح. بل هو حديث ضعيف.

هذه بعض حجج القائلين بالوقف عند متشابهات القرآن والسنة. ولهم حجج كثيرة لا تفي بسطها إلا كراريس، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. القول الثاني: قول من قرر الظواهر واعتقدها، ولم يتأول ولا يتوقف، وهم طائفتان: إحداها: لم تعرف علم الكلام، والخوض في العقليات على ما ينبغي كجماعة من المحدثين فقالوا: التجوز لا يحسن إلا مع معرفة المخاطبين للقرائن الدالة على التجوز. وإلا خرج إلى جنس التعمية والإضلال. قالوا: والعرب كانوا لا يعرفون الأدلة الموجبة لتأويل هذه الأحاديث والآيات. وقد رد ذلك [عليهم] (¬1) المتكلمون بأنها معارف عقلية لا تحتاج إلى تعليم من النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ومن ترك النظر فيها فتقصيره هو الجاني عليه، [وأنتم] (¬2) الجانون على أنفسكم هجر علم المعقول، ولو عرفتموه لم تذهبوا إلى هذا المذهب المستلزم لما لا يجوز على الله. والشارع إنما يجب عليه تعليم الشرعيات فقط. والطائفة الثانية منهم خاضوا في العقليات، ولكنهم يذهبون إلى القدح في كثير منها كدليل الأكوان، وقد جود الرازي (¬3) الرد عليهم في كتبه (¬4). القول الثالث: قول الشيعة كافة، والمعتزلة، ومعظم الأشعرية الجبرية والاختيارية إن ما ورد من المتشابهات في الصفات يؤول على ما يلائم الأدلة القاطعة [2 أ] والآيات المحكمة، ولهم على ذلك أدلة طويلة مبسوطة في مواطنها (¬5) لا يليق سردها ¬

(¬1) زيادة من [أ]. (¬2) في [ب] (فأنتم). (¬3) تقدمت ترجمته (ص 268). (¬4) انظر "شرح أسماء الله الحسنى" للرازي (ص 37 - 50). (¬5) انظر "المعتزلة" (ص 84 - 86)، "المنقذ من الضلال" للغزالي (ص 107). و"الأسماء والصفات" لابن تيمية (2/ 493 - 502).

في هذا الجواب. وقد أولوا ما سأل عنه السائل -كثر الله فوائده- وأكثروا من وجوه التأويل في كتبهم. أما حديث: "إن الله خلق آدم على صورته" (¬1) فله تأويلات عدة مبسوطة في شروح (¬2) الحديث وغيرها. منها أن الضمير في قوله صورته [2] راجع إلى آدم (¬3)، وهذا ¬

(¬1) تقدم تخريجه في السؤال (ص439). (¬2) انظر"فتح الباري" (11/ 3). (¬3) وقيل: المراد الرد على الدهرية أنه لم يكن إنسان إلا من نطفة، ولا تكون نطفة إنسان إلا من إنسان ولا أول لذلك، فبين أنه خلق من أول الأمر على هذه الصورة. . وقيل: المراد الرد على الطبائعيين الزاعمين أن الإنسان قد يكون من فعل الطبع وتأثيره. . وقيل: للرد على القدرية الزاعمين أن الإنسان يخلق نفسه. . وقيل: إن لهذا الحديث سببا حذف من هذه الرواية، وأن أوله قصة الذي ضرب عبده فنهاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك وقال له- الحديث رقم (2559) - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه". وقد ذكر الحافظ أن مسلم ذكره في صحيحه -رقم (115/ 2612) - وزاد: فإن الله خلق آدم على صورته "وقال الحافظ في "الفتح" (5/ 183): واختلف في الضمير على من يعود؟. . فالأكثر على أنه يعود على المضروب، لما تقدم من الأمر بإكرام وجهه ولولا أن المراد التعليل بذلك يكن لهذه الجملة ارتباط، مما قبلها. وقد أنكر المازري ومن تبعه صحة هذه الزيادة، ثم قال: وعلى تقدير صحتها فيحمل على ما يليق بالباري سبحانه وتعالى. . قلت -الحافظ في "الفتح" (5/ 183): الزيادة أخرجها ابن أبي عاصم في "السنة"- رقم (517). -والطبراني- في "الكبير" (13/ 430) -من حديث ابن عمر بإسناد رجاله ثقات وأخرجها ابن أبي عاصم- في "السنة" رقم (521) من طريق أبي يونس عن أبي هريرة بلفظ يرد التأويل الأول -أن الضمير في قوله: "على صورته" يعود على المضروب- قال: "من قاتل فليجتنب الوجه، فإن صورة وجه الإنسان على صورة وجه الرحمن". . قال القرطبي: أعاد بعضهم الضمير على الله متمسكا بما ورد في بعض طرقه: "إن الله خلق آدم على صورة الرحمن".

هو الظاهر، لأن أقرب اللفظين هو المرجع في الغالب، ويتعين المصير إليه عن الاشتباه، ولا سيما إذا استلزم الإرجاع [الضمير] (¬1) إلى البعيد لازما فاسدا. وهذا لا ينبغي أن يعد تأويلا بل هو الظاهر. والمراد أن الله -جل جلاله- أخبر عباده على لسان نبيه أنه خلق آدم على الصورة التي رأوه عليها بلا زيادة ولا نقصان، كما هو الغالب في الخلق، فإنهم يزيدون في أوائل العمر، وينقصون في أواخره. وأما ما روي من أنه خلق آدم على صورة الرحمن (¬2)، فالمراد (¬3) أنه خلق آدم على ¬

(¬1) زيادة من [ب]. (¬2) أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" رقم (517) بإسناد ضعيف ورجاله ثقات غير ابن لهيعة فإنه سيء الحفظ. ولكن الحافظ ابن حجر والإمام أحمد وإسحاق ابن راهويه صححوا هذه الرواية وضعفها ابن خزيمة والمازري والقرطبي والمحدث الألباني. . أخرج ابن أبي عاصم في "السنة" رقم (518) عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تقبحوا الوجوه؛ فإن الله عز وجل خلق آدم على صورته". وهو حديث صحيح. . وأخرج ابن أبي عاصم في "السنة" رقم (519) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ولا وجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته". وإسناده حسن. (¬3) على ما تقدم نقول: بيان أن إعادة الضمير في حديث "خلق الله آدم على صورته" على غير الله هو قول الجهمية كما قال الإمام أحمد وفي ذلك رد على جميع التأويلات التي ذكرها الحافظ من أقوال الذين جعلوا الضمير عائدا على آدم، أو على المضروب أو على المقول له فإن هذه الأقوال مخالفة لما ذهب إليه جمهور السلف من أن الضمير فيه عائد على الله عز وجل. . قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله في "نقض التأسيس" (3/ 202) - وما بعدها" لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير في هذا الحديث عائد إلى الله تعالى، فإنه مستفيض من طرق متعددة، عن عدد من الصحابة وسياق الأحاديث كلها تدل على ذلك ... إلى أن قال: "ولكن لما انتشرت الجهمية في المائة الثالثة جعل طائفة الضمير فيه عائدا إلى غير الله تعالى حتى نقل ذلك عن طائفة من العلماء المعروفين بالعلم والسنة في عامة أمورهم، كأبي ثور، وابن خزيمة، وأبي الشيخ الأصبهاني وغيرهم، ولذلك أنكر عليهم أئمة الدين وغيرهم من علماء السنة".

صورة صورها الرحمن فيكون معناه صحيحا. وأما ضحكه (¬1) -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من قول اليهودي فقد تكلم منه شراح الحديث كلاما طويلا، من جملة ذلك أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنما ضحك (¬2) لمقالته السخيفة، لأنه ما قدر الله حق قدره كما ثبت في حديث آخر: أن النبي (¬3) -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سمع يهوديا يقول: إن الله خلق كذا في يوم كذا، وكذا في يوم كذا، ثم استراح في يوم كذا فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ¬

(¬1) تقدم تخريجه في السؤال (ص 439). (¬2) دلالة الحديث أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أقر اليهودي على ذكر الأصابع وصدقه فانتفى أن يكون تشبيها، كما جاء ذكر الأصابع على لسان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث عبد الله بن عمرو- "أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد يصرفه حيث يشاء" ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك". - أخرجه مسلم في صحيحه (17/ 2654) - فيكون وصف الله تعالى بالأصابع قد ثبت بالسنة التقريرية والقولية. أما "ضحك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ": قال الحافظ في "الفتح" (13/ 399): زعم الخطابي والقرطبي أن ضحكه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إنكارا أو تعحبا من جهل اليهودي وأن راوي الحديث زاد فيه "تصديقا له" ظنا منه أن الأمر كذلك وليس كذلك. وهذا الزعم قد رد عليه الحافظ: أن ذلك الزعم فيه طعنا على ثقات الرواة، وردا للأخبار الثابتة وقال: ولو كان الأمر على خلاف ما فهمه الراوي بالظن، للزم منه تقرير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الباطل وسكوته عن الإنكار وحاشا لله من ذلك. ثم ذكر الحافظ كلام ابن خزيمة -في التوحيد (1/ 178): قال: وقد اشتد إنكار ابن خزيمة على من ادعى أن الضحك المذكور كان سبيل الإنكار، فقال: "قد أجل الله تعالى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أن يوصف ربه بحضرته بما ليس هو من صفاته فيجعل بدل الإنكار والغضب على الواصف ضحكا، بل لا يوصف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذا الوصف من يؤمن بنبوته ". (¬3) فلينظر من أخرجه؟!

} وما قدروا الله حق قدره {(¬1). فالظاهر أن ضحكه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليس ضحك تقرير ورضا، بل ضحك [2 ب] تعجب لفظيع تلك المقالة، وإنكار لصدور مثل تلك الجهالة. ولو سلم [أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضحك] (¬2) من كلام اليهودي لغير ذلك، وكان فيه ما يشعر بالتقرير، فما في ذلك ضير، لأن المراد به الكناية عن كمال اقتداره -جل جلاله- لا حقيقة الأصبع (¬3). وقد صرح بمثل هذا جماعة من أئمة التفسير والبيان في قول الله تعالى:} بل يداه مبسوطتان {(¬4) فقالوا: هو من باب الكناية. وقال آخرون منهم: هو من باب التورية، وذلك مستوفى في علم البيان. والحديث (¬5) والآية واردان موردا واحدا. فالكلام في أحدهما كالكلام في الآخر. ¬

(¬1) [الزمر:67]. (¬2) في [ب] أن ضحكه - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) تقدم التعليق على ذلك (ص 446). ونقول: لا شك أن الحديث يدل على قدرة الله سبحانه وتعالى ولكنه إلى جانب إظهار القدرة، يثبت صفة الأصبع لله عز وجل إثباتا حقيقا لا مجال للتأويل -مع إيماننا أن الله ليس كمثله شيء-. (¬4) [المائدة:64] (¬5) قد تواترت في السنة مجيء "اليد" في حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كحديث: "إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل". أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2759) من حديث أبي موسى رضي الله عنه. وحديث: "إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة فيقولون: لبيك وسعديك والخير في يديك". . أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7518) ومسلم في صحيحه رقم (2829) من حديث أبي سعيد الخدري. والمفهوم من هذه النصوص وغيرها من النصوص: "أن لله تعالى يدين، مختصان ذاتيتان له، كما يليق بجلاله". "مجموع فتاوى" لابن تيمية (6/ 362 - 363). "وأجمع أهل السنة والجماعة على إثبات اليدين لله تعالى، فيجب إثباتا بدون تحريف ولا تعطل، ولا تكييف، ولا تمثيل، وهما يدان حقيقيتان لله تعالى تليقان به". انظر "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" للالكائي (3/ 412 وما بعدها)، "شرح لمعة الاعتقاد" لابن عثيمين (ص 48).

وأما حديث: "يكشف ربنا عن ساقه" (¬1) فمعناه مثل ما في القرآن من قوله تعالى:} يوم يكشف عن ساق {(¬2) إنما فيه التصريح بفاعل الكشف. وقد صرح جماعة من (¬3) الأئمة أن الساق هنا عبارة عن شدة الأمر وبلوغه إلى الغاية ¬

(¬1) تقدم تخريجه في السؤال (ص439). (¬2) [القلم:42]. (¬3) قال ابن تيمية في "مجموع فتاوى " (6/ 394 - 395): إن جميع ما في القرآن من آيات الصفات فليس عن الصحابة اختلاف قي تفسيرها. وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة، وما رووه من الحديث، ووقفت عن ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير، فلم أجد عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئا من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف بل عنهم من تقرير ذلك وتثبيته وبيان أن ذلك من صفات الله ما يخالف كلام المتأولين ما لا يحصيه إلا الله، وكذلك فيما يذكرونه أثرين وذاكرين عنهم شيء كثير. وتمام هذا أني لم أجدهم تنازعوا في مثل قوله تعالى:} يوم يكشف عن ساق {فروي عن ابن عباس وطائفة أن المراد به الشدة وإن الله يكشف عن الشدة في الآخرة، وعن أبي سعيد وطائفة أنهم عدوها في الصفات، للحديث الذي رواه أبو سعيد في الصحيحين. واعلم أن ما روي عن ابن عباس وعن غيره من السلف من تفسيره قوله تعالى:} يوم يكشف عن ساق {بالشدة والكرب، ليس من جنس تأويلات المتكلمين المحدثة، لأن ابن عباس وغيره من السلف يثبتون صفة الساق لله تعالى بالحديث الصحيح الذي دل عليها، ففسروها بعيدة عن كونها دالة على صفة من صفات الله تعالى. وقال ابن القيم في "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" (1/ 252 - 253): "والذين أثبتوا ذلك صفة كاليدين، والإصبع لم يأخذوا من ظاهر القرآن، وإنما أثبتوه بحديث أبي سعيد الخدري المتفق على صحته، وهو حديث الشفاعة الطويل، وفيه: "فيكشف الرب عن ساقه فيخرون له سجدا" ومن حمل الآية على ذلك قال: قوله تعالى:} يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود {مطابق لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأنه قال: يكشف عن ساق عظيمة، جلت عظمتها، وتعالى شأنها، أن يكون لها نظير أو مثيل أو شبه، قالوا: وحمل الآية على الشدة لا يصح بوجه، فإن لغة القوم في مثل ذلك أن يقال: كشفت الشدة عن القوم، لا كشف عنها كما قال الله تعالى:} فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون {[الزخرف:50] وقال:} ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر {[المؤمنون: 75]. فالعذاب والشدة تشتد، ولا تزال إلا بدخول الجنة، وهناك لا يدعون إلى السجود وإنما يدعون إليه أشد ما كانت الشدة. ويظهر لك من خلال كلام -ابن تيمية وابن القيم قوة موقف الذين عدوا الآية من آيات الصفات لأمرين: 1 - ): ظهور التطابق بين الآية والحديث. 2 - ): ضعف تفسير الآية بالشدة. ويقوي هذا القول ما أخرجه الدارمي في "سننه" (2/ 420 - 421 رقم 2803) وابن منده في "كتاب الإيمان" (2/ 773 رقم 811) بإسناد حسن عن أبي هريرة مرفوعًا نحو حديث أبي سعيد وفيه: "فيكشف لهم عن ساقه، فيقعون سجودا، وذلك قول الله تعالى:} يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون {، ويبقى كل منافق فلا يستطيع أن يسجد، ثم يقودهم إلى الجنة ".

التي ليس فوقها، فهو مثل في شدة الأمر وصعوبة الخطب، وأصله في الروع والهزيمة، وتشمير المخدرات عن سوقهن كما قال بعض العرب. ويروى لحاتم (¬1): أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا وقال ابن الرقيات (¬2): ¬

(¬1) انظر ديوان حاتم الطائي (ص 49). (¬2) لعبيد بن قيس الرقيات. ويتضح لك المعنى في البيت الذي قبله حيث يقول: كيف نومي على الفراش ولما ... تشمل الشام غارة شعواء؟ انظر ديوانه (ص 96).

تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي ... عن حذام العقيلة العذراء [3] قال العلامة جار الله في كشافه (¬1): [فمعنى] (¬2)} يوم يكشف عن ساق {: يوم يشتد الأمر ويتفاقم ولا كشف [ثم] (¬3) ولا ساق كما يقول للأقطع الشحيح: يده مغلولة، ولا يد [ثم] (¬4) ولا غل، وإنما هو [3أ] مثل في البخل. وأما من شبه فلضيق عطنه، وقلة نظره في علم البيان. والذي غره منه حديث ابن مسعود: "يكشف الرحمن عن ساقه" (¬5) ثم قال ومعناه: يشتد أمر الرحمن، وتتفاقم أهواله، وهو الفزع الأكبر يوم القيامة. ثم كان من حق الساق أن يعرف على ما ذهب إليه المشبه؛ لأنها ساق مخصوصة معهودة عنده، وهي ساق الرحمن -تعالى عن ذلك-. ثم روى القول بالتشبيه عن مقاتل وأطال الكلام وأطاب (¬6). ولكن الحديث الذي عزاه إلى ابن مسعود هو في كتب الحديث المعتمدة من حديث أبي سعيد الخدري. وأما حديث: "إن الله يضع قدمه في جهنم" (¬7). فقد اختلف فيه (¬8) المؤولون فمنهم ¬

(¬1) (6/ 190 - 191). (¬2) زيادة من [أ]. (¬3) في [ب] ثمة. (¬4) في [ب] ثمة. (¬5) تقدم تخريجه (ص 439) من حديث أبي سعيد لا من حديث ابن مسعود. (¬6) انظر كلام ابن القيم السابق. (¬7) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4849) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: "يقال لجهنم: هل امتلأت؟ وتقول: هل من مزيد؟ فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها، فتقول: قط قط". وأخرج البخاري في صحيحه رقم (4850) من حديث أبي هريرة: "حتى يضع رجله فتقول: قط قط قط". ففي هذين الحديثين وغيرهما بأن القدم والرجل كلاهما عبارة عن شيء واحد صفة ذاتية لله تعالى حقيقة على ما يليق بجلاله وعظمته. (¬8) ذكر الحافظ في "الفتح " (8/ 596) سبعة تأويلات: وخاض كثير من أهل العلم في تأويل ذلك فقال: 1) أن المراد بالقدم إذلال النار. 2 - ) أن المراد بها الفرط السابق، أي يصنع الله فيها ما قدمه لها من أهل العذاب. 3 - ) أن المراد قدم المخلوقين، أو يكون هناك مخلوق اسمه قدم. 4 - ) أن المراد بالقدم الأخير، لأن القدم آخر الأعضاء، فيكون المعنى. حتى يضع الله في النار آخر أهلها فيها، ويكون الضمير للمزيد. 5 - ) أن المعنى: حتى يضع الرب فيها موضعا من الأمكنة التي عصي الله فيها فتمتلئ، لأن العرب تطلق القدم على الموضع. 6 - ) أن المراد بالقدم قدم صدق وهو محمد، والإشارة بذلك إلى شفاعته. 7 - ) أن المراد قدم إبليس، وهذا الذي قال فيه الحافظ: إنه من التأويل البعيد. وكما يظهر لك من هذه التأويلات التي ذكرها الحافظ دون تعليق أنها حشو وليته لم يذكرها. فمثل هذه لا تذكر إلا لتبطل وتزيف لا لتقرر ويعتمد عليها. وانظر "التعليق على فتح الباري" للدرويش (ص18). قال الحافظ في الفتح (8/ 596) فطريق السلف في هذا وغيره مشهورة وهو أن تمر كما جاءت ولا يتعرض لتأويله بل نعتقد استحالة ما يوهم النقص على الله سبحانه وتعالى.

من قال: [إن] (¬1) المراد إذلال جهنم، وأنها إذا بالغت في الطغيان أذلها الله -تعالى- فعبر عنه بوضع قدمه كما يقال: وضعه تحت قدمه أي أذله. والعرب تستعمل ألفاظ الأعضاء في ضرب الأمثال، ولا تريد أعيانها كقولهم: رغم أنفه وسقط في يده. وقيل: المراد بالقدم الفرط السابق أي ما قدمه لها من أهل العذاب. وقيل: هو كناية عن أهل النار الذين قدمهم الله تعالى لها، وهم شرار خلقه. كما إن المؤمن قدمه الذين قدمهم إلى الجنة، ولكنه يشكل على ذلك ما وقع في رواية أنه يضع رجله. والجواب أنه تحريف كما قال بعض الحفاظ، وذلك أن الراوي ظن أن المراد بالقدم الرجل فعبر عنه بذلك. وقيل: المراد بالرجل الجماعة كما يقال: رجل من جراد. ¬

(¬1) زيادة من [ب].

وفي هذا المقدار كفاية، وإن كان المقام [3 ب] يحتاج إلى بسط طويل، لا سيما إذا أردنا استيفاء التأويل، ولكن ما كفى وإن قل خير مما طال وأقل. والحمد لله على كل حال، والصلاة والسلام على نبيه وآله خير نبي آل. [حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني في شهر القعدة سنة 1207] (¬1). ¬

(¬1) زيادة من [أ].

بحث في وجود الجن

بحث في وجود الجن تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط 1 - عنوان الرسالة: "بحث في وجود الجن". 2 - موضوع الرسالة: في العقيدة. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم أحمدك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآله ورضي الله عن صحبه. وبعد: فإنه كثيرا ما يفتح البحث بين أهل العلم في وجود الجن والباعث. . . . 4 - آخر الرسالة: بل راقم هذه الأحرف غفر الله له قد سمع كلامهم غير مرة، وطال بينه وبينهم الخطاب، وبعضهم أخذ يدي وقبلها، وكانت كفه كأكبر ما يكون من أيدي الإنس مع قصر في أصابعها. والحمد لله أولا وآخرا. كتبه محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني. 7 - عدد الصفحات: (5) صفحات. 8 - عدد الأسطر في الصفحة: 11 - 12 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الرابع من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".

بسم الله الرحمن الرحيم أحمدك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآله، ورضي الله عن صحبه، وبعد: فإنه كثيرا ما يقع البحث بين أهل العلم في وجود الجن، والباعث على ذلك هفوة وقعت من بعض علماء هذه الديار الموجودين بعد مضي ألف سنة من الهجرة. ولم يكن ذلك منه عن اعتقاد مطابق لما تكلم به، لأنه من علماء الكتاب والسنة، ومن أهل الدين المتن، ولكنه باحثه بعض المقصرين في هذه المسألة فجزم في مقام المباحثة بعدم وجودهم كما يقع كثيرا بين المتناظرين من النقض والمعارضة. واعلم أنه لم يتقدم إلى إنكار ذلك من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وعلماء الإسلام أحد قط، وإنما هي مقالة مروية عن جماعة من الفلاسفة، وجمهور الزنادقة، وهؤلاء لا نتكلم معهم في هذا المقام، فإنهم لا يتمسكون بشيء من الحجج القرآنية، والأحاديث النبوية، ولا يلتفتون إلى شيء من ذلك. وقد فرغ منهم الشيطان وأخرجهم من زمرة الإسلام، ولكنا نتكلم هاهنا مع بعض القائلين بذلك من المعتزلة (¬1)، فقد نقل جماعة عن جمهورهم، ونقله آخرون عن البعض منهم، وهذه الطائفة من أهل الإسلام، ومن المتمسكين بشرائعه، وإن خالفوا في بعض المسائل الأصولية خلافا تدفعه النصوص القرآنية، ومتواتر السنة، فلم يكن ذلك منهم كيادا للدين، ولا دفعا في وجه شريعة المسلمين، بل تمسكوا بشبهة أشبهت عليهم قالوا بها وقصروا عن العلم بغيرها مما يدفعها ويرفع لبسها. ولكن الشأن في إنكار من أنكر (¬2) منهم وجود الجن (¬3)، فإنه لا يكون إلا أحد رجلن: ¬

(¬1) سيأتي التعريف بها (ص 656). (¬2) انظر الإرشاد (ص 271 - 272) للجويني. (¬3) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع فتاوى (17/ 465): " الجن سموا جنا لاجتنانهم، يجتنون عن الأبصار، أي: يستترون، كما قال تعالى: {فلما جن عليه الليل} [الأنعام: 76]. أي استولى عليه فغطاه وستره. وقال: "والإنس سموا إنسا لأنهم يأنسون" كما قال تعالى} إني آنست نارا {[طه: 10] أي رأيتها. وقال الحافظ في الفتح (6/ 394) "والمراد بالشيطان: المتمردة من الجن". * وقال: والرسول مبعوث إلى الجنسين، لكن لفظ الناس لم يتناول الجن ولكن يقول} يا معشر الجن والإنس {[الرحمن: 33]. لذلك تعلم أن لفظ الجن ليس قسما من لفظ الإنس ولكنه قسيم له. * قال إمام الحرمين في "الإرشاد" (ص 272): الجن والشياطين أجسام لطيفة نارية غائبة عن إدراك العيون قال: وعن بعض التابعين أن من الجن صنفا روحانيا، لا يأكل ولا يشرب ومنهم من يأكل ويشرب. والله أعلم بكيفية ذلك ومن مستفيض الأخبار أنهم سألوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزاد فأباح لهم كل عظم لم يذكر اسم الله تعالى عليه يجدونه أوفر ما كان لحما. وقيل: إنهم يعيشون بالشم لا بالأكل، وورد أن أرواث دوابنا علف دوابهم. * قال الونشريسي في "المعيار المعرب" (12/ 309): قيل: والصواب أن حكم من أنكر وجود الجن من المعتزلة أنه كافر، لأنه جحد نص القرآن والسنن المأثورة والإجماع الضروري، وآية الأحقاف وسورة:} قل أوحى {أي سورة الجن. وخطاب الجن والإنس معلوم بالضرورة، وكذا ذكر توعدهم بالنار، فهو بنص القرآن" اهـ.

إما معاند لا يتقيد بالكتاب والسنة، وهذا لا ينبغي الكلام معه، وإما جاهل جهلا منكرا لا يعرف معه كتاب الله -سبحانه- بل لا يعرف معه سورة الرحمن، وسورة الجن، بل لا يعرف ورود القرآن بالاستعاذة (¬1) من الشيطان [1 أ]، ومثل هذا وإن كان معذورا بما هو فيه من الجهل لكنه غير معذور في التكلم بما ليس من شأنه، وأجهل منه من حكى عنه هذه المقالة المردودة ودونها في كتب العلم، ونصب له خلافا في هذه المسألة التي هي معلومة للنساء والصبيان، فضلا عن الرجال، فضلا عن أهل العلم. وليس بأيدي هؤلاء إلا مجرد الاستبعاد والرجوع إلى تخيلات مختلة، وعلل معتلة، مع ¬

(¬1) قال تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98].

قطع النظر عن هذه الشريعة المحمدية، بل مع قطع النظر عن الشرائع المتقدمة على هذه الشريعة، فإنها متفقة على وجودهم، وكذلك أهلها متفقون على ذلك مقرون به كإقرار المسلمين، وهؤلاء اليهود والنصارى موجودون في كثير من البلاد الإسلامية قد لا يخلو عنهم قطر من الأقطار من أراد أن يعرف صدق ما ذكرناه فليسأل من له [نباهة] (¬1) منهم، بل جميع مشركي (¬2) العرب مقرون بذلك لا خلاف فيه بينهم، وينقلون ما يسمعونه من الجن من الأشعار التي يصرخون بها بين أظهرهم، ومن الكلمات التي يسمعونها من الأوثان التي ينصبونها في ديرتهم، ويروي ذلك الآخر عن الأول، حتى وصلت إلى أهل الإسلام، ونقلوها في الكتب الإخبارية، والآيات القرآنية في إثبات وجودهم معلومة لا نطيل بذكرها، ولكنا هاهنا نذكر بعض ما ورد في السنة المطهرة (¬3) حتى يعلم من وقف على هذا البحث أن المنكر لذلك منكر لقطعي بل ضروري ديني يحصل العلم بفرد من أفراد الأدلة الواردة فيه، فالمفكر إن كان يعلم بما في المصحف الشريف، وصمم على هذا الجهل المتبالغ فهو مستحق لما يستحقه من أنكر الشريعة المطهرة، ودفع ما فيها ورد ما جاءت به، وشهد على أنه بالإلحاد والمروق من دين الإسلام. وقد تضمن القرآن الكريم بيان ما خلقوا منه فضلا عن بيان وجودهم، قال الله ¬

(¬1) في المخطوطة بنهاهة ولعل الصواب ما أثبتناه. (¬2) قال صاحب "آكام المرجان في أحكام الجان" ص 5: قال الشيخ أبو العباس ابن تيمية لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن وجمهور طوائف الكفار على إثبات الجن أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهم مقرون بهم كإقرار المسلمين وإن وجد فيهم من ينكر ذلك فكما يوجد في بعض طوائف المسلمين كالجهمية والمعتزلة من ينكر ذلك وإن كان جمهور الطائفة وأئمتها مقرون بذلك، وهذا لأن وجود الجن تواترت به أخبار الأنبياء عليهم السلام تواترا معلوما بالاضطرار ومعلوم بالاضطرار أنهم أحياء عقلاء فاعلون بالإرادة مأمورون منهيون ليسوا صفات وأعراضا قائما بالإنسان أو غيره. وانظر: "لقط المرجان" للسيوطي (ص 17). (¬3) في المخطوط المطهر، ولعل الصواب ما أثبتناه.

-عز وجل-:} وخلق الجان من مارج من نار {(¬1) وقال سبحانه:} والجان خلقناه من قبل من نار السموم {(¬2) وقال تعالى حاكيا عن إبليس} خلقتني من نار وخلقته من طين {(¬3). وأما الثابت في السنة في وجودهم وتفصيل أحوالهم فالبعض منه يحكم عليه بالتواتر، فكيف بالكل!. فمن ذلك أمره -صلى الله عليه واله وسلم- لمن دخل بيته أن يذكر الله عند دخوله، وعند طعامه، فإذا فعل ذلك قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء. . . الحديث، وهو في صحيح (¬4) مسلم وغيره (¬5) من حديث جابر. وفي الصحيحين (¬6) وغيرهما (¬7) [1 ب] من حديث أنس أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كان إذا دخل الخلاء قال: "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث". وفي الترمذي (¬8) من حديث علي بن أبي طالب أن رسول الله- صلى الله عليه وآله ¬

(¬1) الرحمن: 15]. (¬2) [الحجر: 27]. (¬3) [الأعراف: 12]. (¬4) رقم (2018). (¬5) كأبي داود رقم (3765) والنسائي رقم (10689) في الكبرى وفي عمل اليوم والليلة رقم (178) وابن ماجه رقم (3887) من حديث جابر كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر اسم الله عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه، قال الشيطان: أدركتم المبيت والعشاء". (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (142). ومسلم رقم (375). (¬7) كأبي داود رقم (5) والترمذي رقم (5) وابن ماجه رقم (298) والنسائي في عمل اليوم والليلة رقم (74). وهو حديث صحيح. (¬8) في السنن رقم (606) وقال: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسناده ليس بذاك القوي وقد روي عن أنس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . . . أشياء في هذا. قلت: وأخرجه ابن ماجه في السنن رقم (297). وهو حديث صحيح.

وسلم- قال: "ستر ما بين أعين الجن وعورات أمتي إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول: بسم الله". ومن ذلك حديث أبي سعيد الخدري عند الترمذي (¬1) والنسائي (¬2) "إن بالمدينة جنا قد أسلموا، وإذا رأيتم من هذه الهوام شيئا فآذنوه ثلاثا، فإن بدع لكم فاقتلوه". وفي صحيح مسلم (¬3) وغيره من حديث عائشة أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال لعائشة: "أخذك شيطانك". قالت: يا رسول الله أو معي شيطان؟ قال: "نعم، ومع كل إنسان" قالت: ومعك يا رسول الله؟ قال: "نعم، ولكن رب -عز وجل- أعانني عليه حتى أسلم". وفي لفظ (¬4): "أعانني عليه فأسلم". وفي صحيح البخاري (¬5) وغيره من حديث أبي هريرة أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال في الروث والعظم: "أنهما من طعام الجن"، وأخرجه أيضًا مسلم (¬6) وغيره (¬7). وأخرج مسلم (¬8). . . . . . . . . . ¬

(¬1) لم أجده في السنن. (¬2) لم أجده في السنن. بل أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2236). (¬3) رقم (70/ 2815). (¬4) عند مسلم في صحيحه رقم (69/ 2814). (¬5) رقم (3860). (¬6) في صحيحه رقم (150/ 450). (¬7) كأبي داود رقم (39) والترمذي في السنن رقم (18) كلهم من حديث عبد الله بن مسعود. وهو حديث صحيح. (¬8) في صحيحه رقم (106/ 2020).

وغيره (¬1) من حديث ابن عمر أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: "لا يأكل أحدكم بشماله ولا يشرب بها، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بها". وفي صحيح مسلم (¬2) وغيره (¬3) من حديث حذيفة في الجارية التي ذهبت لتضع يدها في الطعام، فأخذ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بيدها، ثم جاء أعرابي فذهب ليضع يده فأخذ بيده، وقال: "إن الشيطان ليستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه، فإنه جاء هذه الجارية ليستحل بها فأخذت بيدها، فجاء هذا الأعرابي ليستحل به، والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع يدهما". في الصحيحين (¬4) وغيرهما من حديث ابن عباس حديث الجن الذين استمعوا القرآن من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في سوق عكاظ. وفي الصحيحين (¬5) من حديث ابن مسعود أنها آذنت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بهم شجرة. وفي صحيح مسلم (¬6) وغيره أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- اجتمع بالجن بمكة والمدينة. . . . الحديث بطوله، واختلاف ألفاظه. ¬

(¬1) كأبي داود رقم (3776) والترمذي رقم (1800) ومالك في الموطأ (2/ 923). وهو حديث صحيح. (¬2) في صحيحه رقم (2017). (¬3) كأبي داود في السنن رقم (3766) وابن السني رقم (460) والحاكم (4/ 108) وصححه ووافقه الذهبي، والنسائي في عمل اليوم والليلة رقم (273). وهو حديث صحيح. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4921) ومسلم في صحيحه رقم (149/ 449). (¬5) أخرجه البخاري قي صحيحه رقم (3859) ومسلم في صحيحه رقم (450) عن معن بن عبد الرحمن قال: سمعت أبي قال: سألت مسروقا: من آذن النبي بالجن ليلة استمعوا القرآن؟ فقال: حدثني أبوك -يعني عبد الله: أنه آذنت هم شجرة"، (¬6) انظر الحدث وطرقه في الخلافيات للبيهقي (1/ 158 - 182).

ومن ذلك ما ثبت في الصحيح (¬1) من حديث أبي هريرة أنه أخذ الذي جاء يسرق زكاة رمضان، وأنه علمه آية الكرسي. وله ألفاظ، وفيه طول. وفي الصحيحين (¬2) من حديث أبي هريرة عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا، وإن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان". وفي الصحيحين (¬3) حديث الرجلين الذين استبا عند رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حتى احمر وجه أحدهما فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "إني أعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". وفي الصحيحين (¬4) من حديث أبي هريرة أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير"، ثم قال في آخره: "وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي". وفي السنن (¬5) عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "إن الغضب من الشيطان". ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2311). (¬2) لم يخرجه البخاري. وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (780). قلت: وأخرجه الترمذي في السنن رقم (2877) وقال: حديث حسن صحيح. والنسائي في عمل اليوم والليلة رقم (965). وهو حديث صحيح. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6048) ومسلم في صحيحه رقم (2610) من حديث سليمان بن رضي الله عنه. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3293) ومسلم في صحيحه رقم (2691). (¬5) أخرجه أحمد في المسند (4/ 226) وأبو داود رقم (4784) من حديث أبي وائل القاص قال: دخلنا على عروة بن محمد السعدي، فكلمه رجل فأغضبه، فقام فتوضأ فقال: حدثني أبي عن جدي عطية رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الغضب من الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ". وهو حديث ضعيف.

وفي الصحيح (¬1) أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا جاء رمضان [2 أ] سلسلت الشياطين"، وفي لفظ (¬2): "صفدت الشياطين". وفي صحيح (¬3) البخاري عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "أنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس إلا شهد له يوم القيامة". وفي صحيح مسلم (¬4) عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال لمن قال له: إن الشيطان قد حال بيني وبن قراءتي فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "ذلك شيطان يقال له خنزب". وفي صحيح مسلم (¬5) عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "إن الأسواق معركة الشيطان، وبها ركز رايته". وفي صحيح مسلم (¬6) أيضًا عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "إن الشيطان يحضر الإنسان عند طعامه". وفي الصحيحين (¬7) من حديث أنس عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: "لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإذا قدر بينهما ولد لم يضره الشيطان". ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1899) ومسلم في صحيحه رقم (2/ 1079) من حديث أبي هريرة. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1/ 1079) من "حديث أبي هريرة. (¬3) رقم (609) من حديث أبي سعيد الخدري. (¬4) رقم (68/ 2203). (¬5) رقم (100/ 2451) من حديث سلمان بلفظ: "لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته". (¬6) في صحيحه رقم (000/ 2018) من حديث جابر. (¬7) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5165) ومسلم في صحيحه رقم (116/ 1434).

وفي الصحيحين (¬1) وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "ما من بني آدم مولود ألا نخسه الشيطان حين يولد" الحديث. وفي الصحيحين (¬2) وغيرهما من حديث صفية بنت حيي أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم". وفي الصحيحين (¬3) وغيرهما من حديث جابر قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "إذا كان جنح الليل فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ". وفي الصحيحين (¬4) وغيرهما من حديث أبي هريرة أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم" الحديث. وفي الصحيحين (¬5) وغيرها من حديث أبي قتادة قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان". وفي الصحيحين (¬6) وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يقول: "من رآني في النوم فسيراني في اليقظة، لا يتمثل بي الشيطان" وفي لفظ (¬7): "فإن الشيطان لا يتمثل بي". ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3431) ومسلم ي صحيحه رقم (146/ 2366). (¬2) أخرجه البخاري ي صحيحه رقم (2035) ومسلم في صحيحه رقم (24/ 2175). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3304) ومسلم في صحيحه رقم (97/ 2097). وتمام الحديث ". . . فإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم، وأغلقوا الأبواب، واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا، وأوكوا قربكم، واذكروا اسم الله، وخمروا آنيتكم، واذكروا اسم الله ولو أن تعرضوا عليها شيئا، وأطفئوا مصابيحكم". (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1142) ومسلم في صحيحه رقم (207/ 776). (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5747) ومسلم في صحيحه رقم (1/ 2261). (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6993) ومسلم رقم (11/ 2266). (¬7) عند مسلم في صحيحه رقم (10/ 2266).

وفي الصحيحين (¬1) وغيرهما من حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يقول: "ألا إن الفتنة هاهنا يشير إلى المشرق من حيث يطلع قرن الشيطان". وأخرج أبو داود (¬2)، والنسائي (¬3) من حديث عمرو بن عبسة في حديث "إن الشمس تطلع بين قرني شيطان، وتغرب بين قرني شيطان". وفي الصحيحين (¬4) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان له ضراط". وفي الصحيحين (¬5) وغيرهما أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا سمعتم صراخ الديكة فسلوا الله من فضله، فإنها رأت ملكا، وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنها رأت شيطانا". وفي صحيح مسلم (¬6) من حديث أبي الدرداء قال: قام رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يصلي فسمعناه يقول: "أعوذ بالله منك". وفي الحديث: إنه يعرض له الشيطان، وقال: "لولا دعوة أخي سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة" وهو في الصحيحين (¬7) من حديث أبي هريرة. [2 ب] ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7092) ومسلم في صحيحه رقم (45/ 2905). (¬2) في السنن رقم (1277). (¬3) في السنن (1/ 283 - 284) وهو حديث صحيح. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (608) ومسلم في صحيحه رقم (19/ 389). (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3303) ومسلم في صحيحه رقم (82/ 2703). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬6) رقم (40/ 542). (¬7) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (461) ومسلم رقم (39/ 541).

وفي الصحيحين (¬1) من حديث سعد بن أبي وقاص أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال لعمر بن الخطاب: "والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك". وفي كتب السير وغيرها أن الشيطان حضر مجمع قريش بدار الندوة (¬2)، وفيها أيضًا أنه حضر وقعة بدر (¬3)، وفيها أيضًا حضوره وقعة بيعة العقبة (¬4)، وصراخه وحضوره ووقعة أحد (¬5)، وصراخه بأن رسول الله قتل. وبالجملة فالاستكثار من الأحاديث الواردة في هذا المعنى لا يأتي بمزيد فائدة بعد القرآن الكريم في غير موضع، بحيث لو جمع ما ورد في ذلك من الآيات البينات لكان في رسالة مستقلة ومعرفة ذلك متيسر لمن يتمكن من قراءة المصحف الشريف وإن كان مقصرا، ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3294) ومسلم رقم (22/ 2396). (¬2) ذكره ابن إسحاق كما في السيرة النبوية (2/ 136 - 137) عن ابن عباس رضي الله عنه. (¬3) ذكره ابن إسحاق كما في السيرة النبوية (2/ 301) عن عروة بن الزبير. (¬4) ذكره ابن إسحاق كما في السيرة النبوية (2/ 101) عن عبد الله بن كعب عن أبيه كعب بن مالك وانظر في صحيح السيرة (2/ 288). (¬5) قال شيخ الإسلام في معرض كلامه عن غزوة أحد: "وكان الشيطان قد نعق في الناس أن محمدا قد قتل، فمنهم من تزلزل لذلك فهرب ومنهم من ثبت فقاتل، فقال الله تعالى:} وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ {[آل عمران: 144]. انظر " سيرة ابن هشام " (3/ 105 - 106). وانظر: ثلاث " رسائل في الجهاد " ص 66. * والحاصل من الكتاب والسنة العلم القطعي بأن الجن والشياطين موجودون متعبدون بالأحكام الشرعية على النحو الذي يليق بخلقهم وحالهم، وأن نبينا مبعوث إلى الإنس والجن، فمن دخل في دينه فهو من المؤمنين، ومعهم في الدنيا والآخرة والجنة، ومن كذبه فهو الشيطان المبعد من المؤمنين في الدنيا والآخرة، والنار مستقرة. انظر " الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي (19/ 1).

وناهيك باجتماع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بهم في غير موطن حتى صرح بعض الحفاظ أنه اجتمع بهم في أربعة مواضع، وصرح آخر أنه اجتمع هم في خمسة مواضع، وروى ذلك عن الحاضرين معه الجمع الجم من أهل العلم، وبعد هذا كله فكثير من عباد الله قد اجتمع بالجن وجمع كلامهم، وسألوه وسألهم، وهذا موجود في كل عصر من العصور قد تتبعنا من وقع له ذلك من الثقات فثبت لنا بذلك التواتر المعنوي. بل راقم هذه الأحرف -غفر الله له- قد سمع كلامهم غير مرة، وطال بينه وبينهم الخطاب، وبعضهم آخذ يدي وقبلها، وكانت كفه كأكبر ما يكون من أيدي الإنس مع قصر في أصابعها (¬1) والحمد لله أولا وأخيرا. كتبه محمد بن علي الشوكاني -غفر الله لهما-[3 أ]. ¬

(¬1) قال الحافظ في الفتح (8/ 669): واختلف في أصلهم -أي الجن- فقيل: إن أصلهم من ولد إبليس فمن كان منهم كافرا سمي شيطانا. وقيل: إن الشياطين خاصة أولاد إبليس. ومن عداهم ليسوا من ولده، وحديث ابن عباس -رقم (4921) - يقوي أنهم واحد من أصل واحد، واختلف صنفه فمن كان كافرا سمي شيطانا، وإلا قيل له: جني. ولذلك قالوا: الجن والشياطين لمسمى واحد، وإنما صارا صنفين باعتبار الكفر والإيمان فلا يقال لمن آمن منهم: أنه شيطان. - أوصاف الجن من الأدلة الواردة في شأنهم إما نصا وإما استنباط فمن أوصافهم: 1 - \ أنهم قادرون على التصور بصور مختلفة. 2 - \ أنهم يأكلون ويشربون، وهناك من نفى ذلك ولكن الراجح الإثبات لثبوت ذلك نصا -من الأحاديث المتقدمة. 3 - \ أنهم يتناكحون، ويتوالدون، وفيهم الذكور والإناث. 4 - \ أنهم يتكلمون بكلام الإنس، ويسرقون ويخدعون. 5 - \ أن لهم قوة على التوصل إلى باطن الإنسان، وأنه يجري من ابن آدم مجرى الدم وذلك إما على ظاهره -تقدم من حديث صفية. وإما على سبيل الاستعارة من كثرة الأعوان، وكأنه لا يفارق كالدم، فاشتركا في شدة الاتصال وعدم المفارقة. 6 - \هل تمكن رؤيتهم أو لا؟ فيه خلاف على ثلاثة أقوال: أحدها: النفي مطلقا، لقوله تعالى:} إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم {[الأعراف: 27]. وهدا قول أكثر العلماء، حتى قال الشافعي من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته واستدل بهذه الآية. وثانيها: أن نفي رؤية الإنس للجن على هيئتهم ليس بقاطع من الآية. بل ظاهرها أنه ممكن، فإن نفي رؤيتنا إياهم مقيد بحال رؤيتهم لنا، ولا بنفي إمكان رؤيتنا لهم في غبر تلك الحالة. وثالثهما: أنه تمكن رؤية الجني في حال تصوره بغير صورته، أما رؤيته على صورته التي خلق عليها فلا وأن ذلك هو مقصود الآية. والقول الراجح الثالث وكذلك رجحه الحافظ ابن حجر. * وذهب الجمهور إلى أنهم يثابون على الطاعة؛ لأن الجماعة اتفقوا على أن الجن مكلفون. وهو قول الأئمة وغيرهم فقال الحافظ: "لم يختلف من أثبت تكليفهم أنهم يعاقبون على المعاصي واختلف هل يثابون؟. وذهب الجمهور إلى أنهم يثابون على الطاعة، ثم اختلفوا: هل يدخلون مدخل الإنس؟ على أربعة أقوال: 1 - \ نعم- يدخلون مدخل الإنس، وهو قول الأكثر. 2 - \ يكونون في ربض الجنة، وهو منقول عن مالك وطائفة. 3 - \ أنهم أصحاب الأعراف. 4 - \ التوقف عن الجواب في هذا. ولا شك أن الجن من الغيب الذي يجب الإيمان بما ثبت بالدليل الصحيح من أمورهم، والكف عما لم يدل عليه الدليل، لأنه من الرجم بالغيب، وقد قال تعالى:} وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا {[الإسراء: 36]. وانظر: فتح الباري "باب صفة إبليس وجنوده" من كتاب بدء الخلق- شرح سورة} قل أوحي إلي {كتاب التفسير.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات

إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط 1 - عنوان الرسالة في المخطوط: "إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات". 2 - موضوع الرسالة: في العقائد. 3 - الرسالة من المجلد الرابع (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني). 4 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم اللهم لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد. . . 5 - آخر الرسالة:. . . كان الفراغ من تحرير هذا المختصر يوم الأربعاء لعله السابع والعشرون من شهر ربيع الآخر من شهور سنة إحدى وثلاثين بعد المائتين والألف، بقلم مؤلفه المفتقر إلى رحمة الله ومغفرته ورضوانه محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما. 6 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 7 - عدد الأوراق: (40). 8 - المسطرة: الورقة (1): عنوان الرسالة. الورقة (2): 24 سطرا. الورقة (3): 28 سطرا. الورقة (4 - 7): 29 سطرا. الورقة (8): 32 سطرا. الورقة (9 - 13): 31 سطرا. الورقة (14 - 15): 30 سطرا. الورقة (16): 28 سطرا. الورقة (17 - 18): 32 سطرا.

الورقة (19): 31 سطرا. الورقة (20): 32 سطرا. الورقة (21 - 23): 31 سطرا. الورقة (24): 6 سطرا. الورقة (25): 31 سطرا. الورقة (26): 32 سطرا. الورقة (27): 31 سطرا. الورقة (28): 33 سطرا. الورقة (29 - 30): 35 سطرا. الورقة (31 - 32): 34 سطرا. الورقة (33): 36 سطرا. الورقة (34): 35 سطرا. الورقة (35): 34 سطرا. الورقة (36): 37 سطرا. الورقة (37): 38 سطرا. الورقة (38): 34 سطرا. الورقة (39): 35 سطرا. الورقة (40): 28 سطرا. 9 - عدد الكلمات في السطر: (11 - 13) كلمة. 10 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم تمهيد اللهم لك الحمد، ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، ولك الشكر عدد كل شيء، وزنة كل شيء، وملء كل شيء، وعدد ما قد شكرك الشاكرون، وما سيشكرك الشاكرون. اللهم وصل وسلم على رسولك المصطفى من خلقك (محمد) صلاة وسلاما يدومان بدوام المخلوقات، ويتجددان بتجدد الأوقات، وعلى آله الطاهرين وأصحابه الأكرمين. وبعد، فإن القرآن العظيم قد اشتمل على الكثير الطيب من مصالح المعاش والمعاد، وأحاط بمنافع الدنيا والدين، تارة إجمالا، وتارة تفصيلا، وتارة عموما، وتارة خصوصا، ولهذا يقول -سبحانه-:} ما فرطنا في الكتاب من شيء {(¬1). ويقول -عز وجل-:} وكل شيء أحصيناه في إمام مبين {(¬2). ويقول -تبارك وتعالى-:} [ونزلنا عليك الكتاب] (¬3) تبيانا لكل شيء {(¬4)، ونحو ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى. وأما مقاصد القرآن الكريم التي يكررها، ويورد الأدلة الحسية والعقلية عليها، ويشير إليها في جميع سوره، وفي غالب قصصه وأمثاله، فهي ثلاثة مقاصد، يعرف ذلك من له كمال فهم، وحسن تدبر، وجودة تصور، وفضل تفكر. المقصد الأول: إثبات التوحيد. المقصد الثاني: إثبات المعاد. ¬

(¬1) [الأنعام: 38]. (¬2) [يس: 12]. (¬3) غير موجود في المخطوط. (¬4) [النحل: 89].

المقصد الثالث: إثبات النبوات. ولما كانت هذه الثلاثة المقاصد، مما اتفقت عليه الشرائع جميعا، كما حكى ذلك الكتاب العزيز في غير موضع أحببت أن أتكلم هاهنا على كل مقصد منها، بإيراد ما يوضح ذلك من الكتب السابقة، وعن الرسل المتقدمين، مما يدل على اتفاق أنبياء الله وكتبه على إثباتها، لما في ذلك من عظيم الفائدة، وجليل العائدة، فإن من آمن بها كما ينبغي، واطمأن إليها كما يجب، فقد فاز بخيري الدارين، وأخذ بالحظ الوافر من السعادة الآجلة والعاجلة، ودخل إلى الإيمان الخالص من الباب الذي أرشده إلينا نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في جواب من سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، فقال في الإيمان: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله [1]، والقدر خيره وشره". هكذا ثبت في الصحيحين (¬1) وغيرهما (1) من طرق كثيرة. ولا ريب أن من آمن بالله، وبما جاءت به رسله، ونطقت به كتبه، فإن إيمانه هذه المقاصد الثلاثة، هو أهم ما يجب الإيمان به، وأقدم ما يتحتم عليه اعتقاده؛ لأن الكتب قد نطقت بها، والرسل قد اتفقت عليها اتفاقا يقطع كل ريب، وينفي كل شبهة، ويذهب كل شك. وسميت هذا المختصر: (إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات). وبالله أستعين، وعليه أتوكل. ¬

(¬1) يشير إلى حديث جبريل الطويل، أخرجه البخاري في صحيحه رقم (50 و4777) ومسلم في صحيحه رقم (9 و10) من حديث أبي هريرة. * وأخرجه مسلم قي صحيحه رقم (2، 3/ 8) من حديث عمر بن الخطاب. وأخرجه أبو داود في "السنن " رقم (4695) من حديث بريدة وهو حديث صحيح. وهو حديث مشهور في كتب السنة وقد سمى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه "الدين" فقال: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم". وانظر الحديث تخريجا وتعليقا في "معارج القبول" (2/ 723 - وما بعدها) بتحقيقي.

واعلم أن إيراد الآيات القرآنية، على إثبات كل مقصد من هذه المقاصد، وإثبات اتفاق الشرائع عليها، لا يحتاج إليه من يقرأ القرآن العظيم. فإنه إذا أخذ المصحف الكريم، وقف على ذلك في أي موضع شاء، ومن أي مكان أحب، وفي أي محل منه أراد، ووجده مشحونا به من فاتحته إلى خاتمته.

الفصل الأول في بيان اتفاق الشرائع على التوحيد اعلم أن قد روى جماعة من أكابر علماء الإسلام أن الشرائع كلها اتفقت على إثبات التوحيد على كثرة عدد الرسل المرسلين، وكثرة كتب الله -عز وجل-، المنزلة على أنبيائه. فإنه أخرج ابن حبان (¬1) والبيهقي (¬2) بسندين حسنين من حديث أبي ذر: "أن الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، وأن الكتب المنزلة مائة وأربعة كتب". فالتوحيد هو دين العالم أوله وآخره، وسابقه ولاحقه. ومن خالف في ذلك فجعل لله -عز وجل- شريكا، وعبد الأصنام، فإنه كما أرشد إليه القرآن حكاية عنهم بقوله:} ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى {(¬3) مقر بأنه إيمان، وإنما جعل الشريك وصلة إلى الرب - سبحانه-، ووسيلة إلى التقريب إليه. وما ثبت في الصحيح (¬4) أنهم ¬

(¬1) في صحيحه (2/ 76 رقم 361) من طريق إبراهيم بن هشام بن يحيى بن يحيى الغساني قال حدثنا عن جدي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر به. وإبراهيم بن هشام هذا قال عنه أبو حاتم في " الجرح والتعديل " (2/ 42 - 43): كذاب. (¬2) في "السنن الكبرى" (9/ 4). قلت: وأخرجه ابن عدي في "الكامل" (7/ 2699) وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 168) كلهم من طريق يحيى بن سعيد القرشي السعدي عن ابن جريج، عن عطاء عن عبيد بن عمير عن أبي ذر بطوله. وفيه يحيى بن سعيد قال ابن حبان عنه في " المجروحين " (3/ 129): شيخ يروى عن ابن جريج المقلوبات، وعن غيره من الثقات الملزقات لا يحل الاحتجاج به إذا انفرد. وخلاصة القول أن الحديث ضعيف جدا والله أعلم. (¬3) [الزمر: 13]. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (22/ 1185) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك. قال: فيقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "ويلكم قد. قد" فيقولون: إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. يقولون هذا وهم يطوفون بالميت.

كانوا يقولون: "لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك تملكه وما ملك ". وها نحن نذكر لك ما كتب الله -عز وجل- من أدلة التوحيد، وهي وإن كان عددها ما تقدم لكنه لم يبق بأيدي أهل الملل منها فيما وجدناه عندهم بعد البحث عن ذلك، ومزيد الطلب له، إلا التوراة، والزبور، والإنجيل، وكتب نبوات أنبياء بني إسرائيل. أما التوراة (¬1) فالنصوص فيها على ذلك كثيرة جدا، وقد اشتملت على ذكر ما كان ¬

(¬1) التوراة: كلمة عبرية معناها الشريعة وتسمى القانون أي القانون كما تسمى أيضًا (البانتاتيك) وهي كلمة يونانية تعني الأسفار الخمسة وهي: 1 - ): سفر التكوين: يقع في (50) إصحاحا، وسمي بذلك لاشتماله على قصة خلق العالم، ثم قصص آدم وذريته ونوح وإبراهيم وذريته وينتهي هذا السفر باستقرار بني إسرائيل وموت يوسف عليه السلام. 2 - ): سفر الخروج: ويقع في (40) إصحاحا. وسمي بذلك نسبة إلى حادثة خروج بني إسرائيل من مصر إلى أرض سيناء بقيادة موسى عليه السلام، وفيه يذكر الحوادث التي جرت لبني إسرائيل في أرض التيه، والوصايا العشر والكثير من الأحكام والتشريعات. 3 - ): سفر اللاويين: ويقع في (27) إصحاحا، ويحتوي على شئون العبادات وخاصة القرابين والطقوس الكهنوتية وكانت الكهانة موكولة إلى سبط لاوي بن يعقوب فلذلك سمي السفر نسبة إليهم. 4 - ): سفر العدد: ويقع في (36) إصحاحا، وسمي بذلك لأنه حامل بالعد والإحصاء لأسباط بني إسرائيل ومما يمكن إحصاؤه من شؤونهم ويتحلل ذلك بعض الأحكام والتشريعات. 5 - ): سفر التثنية: ويقع في (34) وسمي بذلك لإعادة ذكر الوصايا العشر وتكرار الشريعة والتعاليم مرة ثانية على بني إسرائيل عند خروجهم من أرض سيناء. وهذا السفر ينهي التوراة المنسوبة إلى موسى عليه السلام ورد في آخرها النص الآتي: "فمات هناك موسى، عبد الرب قي أرض مؤاب بأمر الرب وتم دفنه في الوادي في أرض مؤاب تجاه بيت فاعور، ولم يعرف إنسان قبره إلى اليوم وكان موسى ابن مائة وعشرين حين مات. . . وتذكر دائرة المعارف الفرنسية (معجم لاروس) تحت عنوان توراة: أن العلم العصري ولا سيما النقد الألماني قد أثبت بعد دراسات مستفيضة في الآثار القديمة والتاريخ وعلم اللغات أن التوراة لم يكتبها موسى وإنما كتبها أحبار لم يذكروا اسمهم عليها ألفوها على التعاقب معتمدين على روايات سماعية سمعوها قبل أسر بابل ا هـ. وصرح بذلك أيضًا الفيلسوف اليهودي باروخ سبينوز (ت 1677م) ذكر فيه كلام عالم يهودي شك في نسبة الأسفار الخمسة ونسبتها إلى موسى-في كتابه رسالة في اللاهوت والسياسة (ص 266 - 271) حيث ذكر ملاحظات ابن عزرا- وأضاف إليها ملاحظات شخصية فقال: يبدو واضحا وضوح النهار أن موسى لم يكتب الأسفار الخمسة بل كتبها شخص عاش بعد موسى بقرون عديدة. وقد ذكر هذه النتيجة المؤرخ ول ديورانت في موسوعته قصة الحضارة (2/ 367). * علما بأن التوراة تعتبر جزءا رئيسا من (الكتاب المقدس) عند اليهود- والذي يسميه النصارى بالعهد القديم وينقسم إلى التوراة، الأسفار التاريخية، أسفار الأناشيد، أسفار الأنبياء.

يقع من الخصومات لأهل الأصنام، وإيراد الحجج عليهم، ولا سيما بعد موت موسى، وقيام أنبياء بني إسرائيل، فإنها وقعت بينهم قصص يطول شرحها، وكانوا يقاتلون من عبد الأصنام، ويستحلون دماءهم ويحشدهم على ذلك اتباع موسى، وأخبار الملة اليهودية [2]، وكل نبي يبعثه الله من أنبياء بني إسرائيل، يوجب على بني إسرائيل قتال من يعبد الأصنام، وغزوهم إلى ديارهم، وقد اشتملت التوراة أيضًا على حكاية ما كان من أخبار الأنبياء قبل موسى، وما كان بينهم من الدعاء إلى التوحيد، والفرار من الشرك، والتنفير عنه. ومن نصوص التوراة ما ذكر في (الفصل العشرين) منها من السفر الثاني (¬1). ولفظه: "أنا الله ربك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية، لا يكن لك معبودا آخر من دوني، لا تصنع لك منحوتا، ولا شبها لما في السماء من العلو، وما في الأرض مثلا، وما تحت الأرض، لا تسجد لهم، ولا تعبدها، لأني الله ربك القادر الغيور" انتهى. ¬

(¬1) أي سفر الخروج.

وكرر هذا في مواضع منها غير هذا الموضع، وفي الفصل السادس والعشرين من السفر (¬1) الثالث من التوراة، ما لفظه: "ولا تصنعوا لكم أوثانا، ومنحوتا ونصبا، ولا تصنعوا لكم حجرا من خزف، لا تصنعوا في بلدكم لتسجدوا له، أنا الله ربكم" انتهى. وفي التوراة من النصوص المفيدة لهذا المعنى، ما يصعب الإحاطة به، ويتعسر الذكر لجميعه. وفي الفصل (الثالث والعشرين) من كتاب يوشع بن نون ما لفظه: "وباسم معبوداتهم، لا تذكروا، ولا تحلفوا، ولا تعبدوهم، ولا تسجدوا لهم، بل الله ربكم، وبه تتمسكون كما فعلتم إلى هذا اليوم"، وفي كتابة نصوص كثيرة قاضية بإثبات التوحيد. وكذلك في كتب من بعده من أنبياء بني إسرائيل الذين لهم كتب مدونة وقفنا عليها، وهم: صمويل الصبي، ثم اليسع، ثم داود، ثم سليمان، ثم عزرا الكاتب، وهو المسمى في القرآن: (عزير)، ثم إيليا، ثم عوبد، ثم أيوب، ثم أشعيا بن أموص، [وهو المسمى في القرآن: (إلياس). وفي (السفر الثاني) من أسفار الملوك من التوراة، أن الله رفعه إلى السماء]، ثم أرميا، ثم حزقيال، ثم دانيال ثم هوشع، وهو المسمى في الكتاب يوشع، ثم يونان، وهو المسمى في القرآن يونس، والمسمى أيضًا بذي النون. ثم ميخا، ثم ناحوم، ثم حبقوق، ثم صفونيا، ثم حجي، ثم يوحنا، ويقال: (ملاحيا) وهو المسمى في القرآن (يحيى). ثم بعد هؤلاء بعث الله -عز وجل- المسيح ابن مريم عليهم وعلى نبينا صلاة الله وسلامه. وفي الزبور بما فيه التصريح بإثبات التوحيد مواضع كثيرة، فمنها في المزمور (¬2) السابع ¬

(¬1) أي سفر اللاوين (¬2) سفر المزامير: وهي مجموعة من الأشعار الملحنة وغرضها تمجيد الله وشكره وكانت ترنم على صورة المزمار وغيره من الآلات الموسيقية. وفي العبرانية يسمى (كتاب الحمد) وقد عرفت باسم (مزامير داود) بالنسبة لعدد المزامير التي نسبت إليه وبلغت (73) من (150) مزمورا وتنقسم هذه المزامير إلى خمسة أقسام، وتقرأ هذه المزامير في الكنيسة والعبادات الفردية والجماعية. انظر: ترجمته في سفر صموئيل الأول وسفر الملوك الأول، " السنن القويم" (ج16)، " قاموس الكتاب (430، 361، 366).

عشر ما لفظه: " كلام الرب مختبر، وهو ناصر جميع المتوكلين عليه؛ لأن من الإله غير الرب، أو من الإله سوى إلهنا"؟ انتهى. وفي المزمور الموفي ثمانين. ما لفظه [3]: "ولا يكن فيك إله جديد، ولا تسجد لإله غريب، لأنني أنا هو الرب إلهك" انتهى. وفي المزمور الخامس والثمانين ما لفظه: "الذي هو وحده إله، وله وحده أيضًا يجب أن يسجد الجميع ويخدموا" انتهى. وفيه أيضًا ما لفظه: "أنت وحدك الإله العظيم" انتهى. وفي المزمور الرابع والتسعين (¬1) ما لفظه: "بالمزمور يهلل له، لأن الرب إله عظيم، وملك كبير على جميع الآلهة" انتهى. وفي المزمور الخامس والتسعين (¬2) ما لفظه: "فإن الرب عظيم ومسبح جدا، مرهوب هو على كل الآلهة، لأن كل آلهة الأمم شياطين، فأما الرب فصنع السماوات" انتهى. وفي المزمور السادس والتسعين ما لفظه: " يخزى جميع الذين يسجدون للمنحوتات المفتخرون بأصنامهم. اسجدوا له يا جميع ملائكته" انتهى. وفي المزمور الخامس (¬3) بعد المائة: "وعبدوا منحوتاتهم (¬4) فصار ذلك عثرة لهم" انتهى. ¬

(¬1) بل هي في المزمور الخامس والتسعون مع اختلاف بسيط. (¬2) بل هي في المزمور السادس والتسعين مع تغير بسيط. (¬3) بل هي في المزمور السادس بعد المائة: (فصارت لهم شركاء). (¬4) وفي المزمور أصنامهم بدل (منحوتاتهم).

وفي المزمور الثالث عشر بعد المائة: " إلهنا في السماء وفي الأرض، وكلما شاء صنع. أوثان الأمم فضة وذهب، أعمال أيدي الناس لها أفواه، ولا تتكلم، لها أعين ولا تبصر، لها آذان ولا تسمع، لها مناخر ولا تشم، لها أيادي ولا تلمس، لها أرجل ولا تمشط، ولا تصوت بحنجرتها" انتهى. وفي المزمور الثالث والثلاثين بعد المائة، ما لفظه: "أوثان الأمم فضة وذهب، أعمال أيدي الناس، لهم أفواه ولا يتكلمون، ولهم أعين ولا يبصرون، ولهم آذان ولا يسمعون، وليس في أفواههم روح. مثلهم يصير الذين يصنعونهم، وجميع المتوكلين عليهم ". انتهى. وأما إنجيل المسيح -عليه السلام- فهو مشحون بالتوحيد، وبذم المشركين والمنافقين والمرائين، ومن أراد استيفاء ذلك، فليراجع الأناجيل (¬1) الأربعة التي جمعها الأربعة من ¬

(¬1) إن الأناجيل تمثل جزءا رئيسا من (الكتاب المقدس) عند النصارى، الذي ينقسم عندهم إلى قسمين رئيسين هما: 1 - ): العهد القديم: الذي يحتوي على أسفار الأنبياء الذين كانوا قبل المسيح ومنها التوراة. 2 - ): العهد الجديد: ويحتوي على الأسفار التي تبدأ بظهور المسيح عليه السلام، وتنقسم بحسب محتوياتها إلى ثلاثة أقسام هي: - قسم الأسفار التاريخية وتشمل الأناجيل الأربعة وسفر أعمال الرسل. - قسم الأسفار التعليمية وتشمل رسائل الحواريين وتلاميذ المسيح. - قسم رؤيا يوحنا اللاهوني. أما الإنجيل لغة: فهو كلمة مأخوذة من اللفظ اليوناني (إيفانجليون EVANGELION) ومعناه (الخير الطيب) أو البشارة. واصطلاحا: يزعم النصارى أن المسيح عليه السلام قد استعمل كلمة الإنجيل بمعنى (بشرى الخلاص من خطيئة آدم الأزلية) التي حملها إلى البشر، واستعملها تلاميذه من بعده بالمعنى نفسه، ثم استعملت هده الكلمة على الكتاب الذي يتضمن هذه البشرى وهي سيرة المسيح عليه السلام وقد غلب استعمالها بهذا المعنى على إنجيل متى، إنجيل مرقص وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنا. انظر: كتاب "يسوع المسيح" (ص 14)، للأب بولس إلياس، "قاموس الكتاب" (ص 120 - 121)، "قصة الحضارة" (11/ 206) لويورانت، ومحتويات هذه الأناجيل فيمكن تقسيمها إلى خمسة موضوعات. 1 - ) القصص: وبشغل الحيز الأكبر منها تتحدث عن قصة المسيح عليه السلام بدءا بولادته ثم دعوته ثم موته على الصليب ودفنه ثم قيامه من القبر ثم صعوده إلى السماء -حسب زعمهم-. 2 - ) العقائد: وتتركز بشكل رئيسي حول ألوهية المسيح وبنوته لله وتقرير أسس العقيدة النصرانية المنحرفة وأكتر الأناجيل صراحة في تقرير ذلك إنجيل يوحنا. 3 - ) الشريعة: يفهم من الأناجيل أنها أقرت شريعة موسى عليه السلام إلا ما ورد عن المسيح بتعديله أو نسخه في أمور محدودة وهي: الطلاق وقصاص الجروح ورجم الزانية. 4 - ) الأخلاق: يفهم منها الغلو والإمعان في المثالية والتسامح والعفو ودفع السيئة بالحسنة (متى الإصحاح 5). 5 - ) الزواج وتكوين الأسرة: لم تهتم الأناجيل كثيرا. مسألة الزواج، ولكن يفهم منها عموما أن المتبتل الأعزب أقرب إلى الله من المتزوج الذي يعاشر النساء. وقد اعتمدت هذه الأناجيل الأربعة عند النصارى مجمع نيقية عام 325 م.

الحواريين، ومن ذلك ما في الإنجيل الذي جمعه (القديس متى) في الفصل الخامس والخمسين منه ما لفظه: "إن أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه فيما بينك وبينه وحده، فإن سمع منك فقد ربحت أخاك، وإن لم يسمع منك، فخذ معك أيضًا واحدا أو اثنين لكي [تقوم كل كلمة] (¬1) على فم شاهدين أو ثلاثة، تثبت كل كلمة، وإن لم يسمع منهم، فقل للبيعة، وإن لم يسمع أيضًا من البيعة فيكون عندك كوثني وعشار" انتهى. وهكذا الرسائل (¬2) التي صنفها جماعة من الحواريين، فإنا مشحونة بالتوحيد، ونفي ¬

(¬1) زيادة يستلزمها السياق. (¬2) وهى رسائل الحواريين والتلاميذ - وتعتبر من الرسائل التعليمية لأنها توضح تعاليم النصرانية ومبادئها تشتمل على (21) رسالة موزعة كالآتي: - (14) رسالة لبولس عدد إصحاحاتها (99) إصحاحا. - رسالة واحدة ليعقوب عدد إصحاحاتها (5). - رسالة واحدة ليهوذا مكونة من إصحاح واحد. - رسالتان لبطرس عدد إصحاحاتها (8). - رسائل يوحنا عدد إصحاحاتها (7). - ومنها رسائل -رؤيا بوحنا- صاحب الإنجيل الرابع - وهو عبارة عن تنبؤات مستقبلية عدد إصحاحاتها 22 إصحاحا. انظر: "تاريخ الكنيسة" (ص 152، 153) يوسابيوس القيصري ترجمة القمص مرقص داود، "كتاب الغفران بين الإسلام والمسيحية" (ص33 - 35) للأستاذ إبراهيم خليل -الذي كان قسيسا وأستاذ اللاهوت بكلية اللاهوت بأسيوط ثم هداه الله إلى الإسلام-.

الشرك، والذم لأهله، ومثل ذلك الكتاب المشتمل على سيرة أصحاب المسيح المسمى عندهم (إبراكسيس) (¬1). وبالجملة فكتب الله -عز وجل- بأسرها، ورسله جميعا متفقون على التوحيد والدعاء إليه، ونفي الشرك بجميع أقسامه. وأما دعاء الأنبياء المتقدمين على موسى إلى التوحيد فقد تضمنت التوراة حكاية ما كانوا عليه من التوحيد والدعاء إليه ونفي الشرك [4] فإنها قد حكت ما وقع منهم من عند أبينا آدم ومن بعده من الأنبياء، كنوع، وإبراهيم، ولوط، وإسحاق، وإسماعيل، ويعقوب ويوسف إلى عند قيام موسى- سلام الله عليهم أجمعين-. ¬

(¬1) سفر أعمال الرسل ويسمى براكسيس: وهي كلمة يونانية تعني الأعمال- وينسب هذا السفر إلى لوقا- صاحب الإنجيل الثالث- وعدد إصحاحاته (28) إصحاحا يحتوي على سير الحواريين وتلاميذ المسيح وجهودهم في سبيل نشر تعاليم المسيح بعد رفعه عليه السلام -حسب زعمهم-. وهذه الأنواع الثلاثة [براكسيس ورسائل الحواريين والتلاميذ، رؤيا يوحنا] رسائل يزعم النصارى أن تلاميذ المسيح قد كتبوها إلى كنائس معينة أو أشخاص أو النصارى عامة، تم اعتبرتها الكنيسة أسفارا قانونية وأنها كتبت بإلهام من الروح القدس لمؤلفيها. وكان اعتمادها على مراحل منها [انعقد مجمع بيقيه سنة 325م ومجمع لوريسيا سنة 364 م ومجمع قرطاج سنة 397 م ومجمع ترلو سنة 692 م، مجمع فلورنس سنة 1439م، مجمع ترنت سنة 1542 - 1563م. . ".

الفصل الثاني في بيان اتفاق الشرائع على إثبات المعاد اعلم أنه سبق لي تأليف رسالة في هذا سميتها: (المقالة الفاخرة في بيان اتفاق الشرائع على إثبات الدار الآخرة) (¬1) ولما كان هذا هو أحد المقاصد الثلاثة التي جمعت لها هذا المختصر، فإن ذكر بعض ما في كتب الله -عز وجل- مما يتعلق به لازما. ففي التوراة في أولها عند الكلام على ابتداء الخليقة التصريح باسم الجنة، ولفظه: "فغرس الله جنانا في عدن شرقيا (¬2)، وابقا، ثم آدم الذي خلق وأنبت الله"، ثم كل شجرة حسن منظرها، وطيب مأكلها، وشجرة الحياة في وسط الجنان، وشجرة معرفة الخير والشر، وكان نهر يخرج من عدن، ليسقي الجنان. ومن ثم يتفرق، ويصير أربعة رؤوس. اسم أحدهما النيل، وهو المحيط بجميع بلد زويلة الذي ثم الذهب، وذهب ذلك البلد جيد، ثم اللؤلؤ، وحجارة البنور. واسم النهر الثاني جيحون، وهو المحيط بجميع بلد الحبشة. واسم النهر الثالث الدجلة وهو السائر شرقي الموصل. والنهر الرابع، هو الفرات". انتهى. وكما وقع التصريح في التوراة بالجنة كما ذكرنا، فقد وقع التصريح فيها باسم النار. ولفظها في التوراة (شول واش) قال علماء اليهود: ومعنى اللفظين (جهنم). وفي موضع آخر في التوراة ما لفظه: "وإن الله خلق خلقا وتفتح الأرض فاها فينزلون إلى الثرى، هؤلاء القوم الذين عصوا الله. وقال: أحجب رحمتي عنهم، وأريهم عاقبتهم، وكما أنهم كادوني بغير إله، وأغضبوني بغروراتهم، كذلك إني أكيدهم؛ لأن النار تتقدح من غصبي، وتتوقد إلى أسفال الثرى، فتأكل الأرض ونباتها، حتى تستطلع ¬

(¬1) سيأتي تحقيقها في القسم الأول هذا "الفتح الرباني" عقب هذه الرسالة. برقم (10). (¬2) في التوراة سفر التكوين الإصحاح الثاني.

أساسات الجبال، كذلك أزيد عليهما شرورا، وسهامي أفرقها فيهم" انتهى. وفي الفصل الثاني عشر من السفر الثالث من التوراة ما لفظه: "واحفظوا رسومي وأحكامي؛ فإن جزاء من عمل بها، أن يحيا الحياة الدائمة" انتهى. ولا حياة دائمة في الدنيا، بل في الآخرة. وفي التوراة من النصوص على هذا المعنى كثير. وفي الفصل السادس والعشرين من كتاب النبي أشعيا ما لفظه: "يقوم الموات، ويستيقظ [5] الذين في القبور" انتهى. وفي كتابه أيضًا ما لفظه: "مزكى الظالم لأجل الرشا، وزكاة الزكي يزيلونها عنه لذلك، كما تأكل القش لسان النار، والهشيم ما يخليه اللهيب عناصرهم تكون كالبرق، وفروعهم تصعد كالغبار، إن زهدوا في توراة رب الجيوش، وقول قدوس العالم رفضوا، آية أن الهاوية موعودة من أمس، وهي أيضًا أصلحت للملوك عمقها، فأوسعها نارا وحطبا كثيرا، وأمر الله كواد من كبريت مشتعل فيها، وقال: ويحرقون ينظرون إلى أجسام القوم الذين كفروا بي، إن دودهم لا تموت، ونارهم لا تطفأ، فيصيرون عبرة لباقي البشريين". انتهى. وقال أيضًا في كتابه المذكور في حقيقة تلذذ أهل الجنة: "لا عين تقدر [أن] (¬1) إلا علم الله تعالى" انتهى. وفي الفصل الثاني عشر من كتاب دانيال ما لفظه: "وكثير من الهاجعين في تراب الأرض يستيقظون: هؤلاء لحياة أبدية، وهؤلاء لتعيير وخزي أبدي" انتهى. وفي زبور النبي داود- عليه السلام- في المزمور السادس منه ما لفظه: "وأنت يا رب (فإلى متى توعد) يا رب، ونج نفسي وخلصني من أجل رحمتك، لأنه ليس في الموتى من ينكرك، ولا في الجحيم من يعترف لك". انتهى. وفي المزمور التاسع منه ما لفظه: "انتشبت الأمم في الفساد الذي عملوه، وفي الفخ الذي أخفوه، تعلقت أرجلهم، يعرف الرب أنه صانع الأحكام، والخاطئ بعمل يديه ¬

(¬1) زيادة يستلزمها السياق

يؤخذ، يرفع الخطاة إلى الجحيم". انتهى. وفي المزمور الخامس عشر (¬1) منه: "فرح قلبي وتهلل لمساني، وجسدي أيضًا يسكن على الرجاء، لأنك لا تترك نفسي في الجحيم، ولا تدع ضيفك أن يرى فسادا". انتهى. وفي المزمور الرابع والخمسين (¬2) ما لفظه: "ليأت الموت عليهم، ولينحدروا إلى الجحيم أحياء، لأن الشرور في مساكنهم وفي وسطهم" انتهى. وفي المزمور السابع والثمانين (¬3) ما لفظه: "يا رب، لأن نفسي قد امتلأت شرورا، وحياتي إلى الجحيم دنت، حسبت مع المنحدرين في الجب، صرت كإنسان فاقد المعونة بين الأموات، جرى كالمجرمين الراقدين في القبور، الذين يذكرهم أيضا، وهم أقصوا من يدك، وضعوني في جبّ أسفل السافلين في ظلمات وظلال الموت" انتهى. وفي وصايا النبي سليمان- عليه السلام- في الفصل الخامس منها ما لفظه: "لأن أرجل العبادة، تحذر الذين سيعلمونها، وتحطهم بعد الموت إلى الجحيم " انتهى. وفي الإنجيل المسيحي في الفصل الخامس منه، من الإنجيل الذي جمعه متى ما لفظه [6]: "ومن قال لأخيه يا أحمق فقد وجبت عليه نار جهنم" انتهى. وفي هذا الفصل ما لفظه: "إن شككتك عينك اليمنى فاقلعها، وألقها عنك، فإنه لخير لك أن تهلك أحد أعضائك من أن تهلك جسدك كله في جهنم، وإن شككتك يدك اليمنى فاقطعها وألقها عنك، فإنه لخير لك أن يهلك أحد أعصابك من أن يذهب جسدك كله في جهنم "انتهى. وفي الفصل العاشر منه ما لفظه: "لا تخافوا ممن يقتل الجسد ولا يستطيع أن يقتل النفس. خافوا ممن يقدر أن يهلك النفس والجسم جميعا في جهنم" انتهى. ¬

(¬1) بل هو في المزمور السادس عشر. (¬2) بل هو في المزمور الخامس والخمسين. (¬3) هو في المزمور الثامن والثمانين.

وفي الفصل الثالث عشر منه: "إن الملائكة يجمعون كل أهل الشكوك، وفاعلي الإثم، فيلقونهم في أتون النار حيث البكاء وصرير الأسنان". انتهى. ومنه أيضًا ما لفظه: "هكذا يكون في انقضاء هذا الزمان يخرج الملائكة، ويغرزون الأشرار من وسط الأخيار، ويلقونهم في أتون النار، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان" انتهى. وفي الفصل الخامس والعشرين منه ما لفظه: "حينئذ يقول الذين عن يساره: اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار المؤبدة المعدة لإبليس وجنوده" انتهى. وفيه أيضًا ما لفظه: "فيذهب هؤلاء إلى العذاب الدائم، والصديقون إلى الحياة المؤبدة" انتهى. وفي الفصل التاسع من الإنجيل الذي جمعه مرقص ما لفظه: "فإن شككتك يدك فاقطعها، فخير لك أن تدخل الحياة وأنت أعسم من أن يكون لك يدان وتذهب إلى جهنم في النار، حيث دودهم لا يموت، ونارهم لا تطفأ، وإن شككتك رجلك فاقطعها، فخير لك أن تدخل الحياة أعرج من أن يكون لك رجلان وتلقى في جهنم في النار، حيث دودهم لا يموت، ونارهم لا تطفأ" انتهى. وفي الفصل الثاني عشر منه، التصريح "بأن الزنادقة هم الذين يقولون: ليست تكون قيامة". انتهى. وفي الإنجيل الذي جمعه لوقا في الفصل السادس عشر منه ما لفظه: "ثم مات أيضًا ذلك الغبي وقُبر فرفع عينه، وهو يعذب في الجحيم" انتهى. وفيه أيضًا ذكر الزنادقة، وهم الذين يقولون: ليست قيامة، هكذا في الفصل العشرين منه. وفيه أيضًا ما لفظه: "فأما أن الموتى يقومون فقد أنبأ بذلك موسى" انتهى. وفي الفصل الثالث والعشرين منه: إن المسيح قال للمصلوب الذي آمن به: "إنك تكون معي في الفردوس" انتهى. وفي الإنجيل الذي جمعه يوحنا في الفصل الخامس منه ما لفظه: "فإنه ستأتي ساعة يسمع فيها جميع من في القبور صوته، فيخرج الذين عملوا الحسنات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة" انتهى. وفي الفصل السادس عشر منه ما لفظه: "يكون له الحياة المؤبدة، وأنا أقيمه في اليوم الآخر".

وفي الفصل السابع عشر منه ما لفظه: "الحق والحق أقول لكم: إنه من يؤمن بحياة دائمة" انتهى. إذا عرفت هذا المصرح به في الأناجيل، فهكذا صرح الحواريون من أصحاب المسيح في رسائلهم المعروفة (¬1). والحاصل أن هذا أمر اتفقت عليه الشرائع، ونطقت به كتب الله -عز وجل-، سابقها، ولاحقها، وتطابقت عليه الرسل: أولهم وآخرهم، ولم يخالف فيه أحد منهم [7]، وهكذا اتفق على ذلك أتباع جميع الأنبياء من أهل الملل، ولم يسمع عن أحد منهم، أنه أنكر ذلك قط. ولكنه ظهر رجل من اليهود زنديق، يقال له موسى بن ميمون اليهودي (¬2) الأندلسي، فوقع منه كلام، في إنكار المعاد. واختلف كلامه في ذلك، فتارة يثبته، وتارة ينفيه، ثم هذا الزنديق، لم ينكر مطلق المعاد، إنما أنكر بعد تسليمه للمعاد أن يكون فيه لذات حسية جسمانية، بل لذات عقلية روحانية، ثم تلقى ذلك عنه من هو شبيه به من أهل الإسلام كابن سينا، فقلده ونقل عنه ما يفيد أنه لم يأت في الشرائع السابقة على الشريعة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

(¬1) انظر: "رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس" الإصحاح الخامس عشر العهد الجديد. (¬2) موسى بن ميمون بن يوسف بن إسحاق، أبو عمران القرطبي: طبيب فيلسوف يهودي. ولد وتعلم في قرطبة -529 هـ- 601 هـ= 1135 - 1204 م، وتنقل مع أبيه في مدن الأندلس وتظاهر بالإسلام وقيل: أكره عليه فحفظ القرآن وتفقه المالكية فدخل مصر فعاد إلى يهوديته وأقام في القاهرة عاما كان فيها رئيسا روحيا لليهود كما كان طبيبا في تلك المدة قي البلاط الأيوبي. ومات بها ودفن في طبريا (بفلسطين). له تصانيف كثيرة بالعربية والعبرية منها: دلالة الحائرين ثلاثة أجزاء بالعربية والحروف العبرية وهو كتاب فلسفته، قال ابن العبري: سماه الدلالة وبعضهم يستجيده وبعضهم يذمه ويسميه الضلالة. وله الفصول-فصول القرطبي. انظر: "الأعلام" للزركلي (7/ 329 - 330).

المحمدية (¬1) إثبات المعاد، وتقليدا لذلك اليهودي الملعون الزنديق، مع أن اليهود قد أنكروا عليه هذه المقالة، ولعنوه، وسموه كافرا. قال في تاريخ النصراني في ترجمة موسى بن ميمون المذكور (أنه صنف رسالة في إبطال المعاد الجسمي، وأنكر عليه مقدمو اليهود، فأخفاها إلا عمن يرى رأيه قال: ورأيت جماعة من يهود بلاد الإفرنج بأنطاكية وطرابلس يلعنونه، ويسمونه كافرا". انتهى. فهذه رواية نصراني عن طائفة من اليهود، وأنهم كفروا ابن ميمون ولعنوه بسبب هذه المقالة على أن هذا الملعون الزنديق قد اعترف في كثير من كلامه بالمعاد فقال في تأليفه المسمى بالمشنا (¬2) في فقه اليهود: "إن هذا الموضوع الذي هو جن عيذا (¬3) هو موضوع خصيبة من كرة الأرض، كثير المياه والأثمار، وسيكشفه الله للناس في المستقبل، فيتنعمون به، ولعله يوجد فيه نبات غريب جدا، عظيم النفع، كثير اللذة غير هذه المشهورة عندنا، وهذا كله غير ممتنع ولا بعيد، بل قريب الإمكان بمشيئة الله تعالى"، ثم اعترف بذلك اعترافا آخر فقال في كتاب (اللغات) في حرف العين: "إن معنى هذا الاسم الذي هو "عيزا" التلذذ والتنعم، ومنه سميت لذات الآخرة، ونعيم أنفس الصالحين الكاملين (جن عيزا). ثم قال في هذا الكتاب في تفسير (جن عيزا): أي أن تلك هي جنات النعيم، وفردوس السعادة، وقد شرحوا معنى (جن عيزا) وماهية التلذذ فيها رجال من وصل ¬

(¬1) سيأتي التعليق عليها. (¬2) قد سماه موسى بن ميمون في "دلالة الحائرين" (مشنة التوراة) (1/ 15) ويسميه البعض "تثنية التوراة". انظر موسى بن ميمون (حياته ومصنفاته) للدكتور إسرائيل ولفنسون. مطبعة لجنة التأليف 1936م. (¬3) وقد صرح أيضًا باسم (جنة عدن) في كتابة دلالة الحائرين قال مخاطبا أحد تلاميذه (. . . كنت أيها التلميذ العزيز الربي يوسف بن الربى يهودا سكنت نفسه جنة عدن) (1/ 7).

إليها، واستقر في ظل غروسها، وشرب عذوبة أنهارها، وأكل من لذيذ أثمارها، قالوا: والصالحون باقون فيها ليستلذوا من نور الله"، قال: "وقال النبي أشعيا في حقيقة التلذذ: لا عين [تقدر تراه] (¬1) إلا علم الله تعالى". انتهى كلام موسى ابن ميمون المذكور. ثم قال هذا اللعين في كتابه المسمى بالمشنا بعد اعترافه فيه كما حكيناه عنه هاهنا ما لفظه: "اعلم أنه كما لا يدري الأعمى الألوان، ولا يدري الأصم الأصوات، ولا العنين شهوة الجماع؟ كذلك لا تدري الأجسام اللذات النفسانية. وكما لا يعلم الحوت اصطقص النار لكونه في حده، كذلك لا يعلم في هذا العالم الجسماني بلذات العالم الروحاني، بل ليس عندنا توجد لذة غير لذات الأجسام، وإدراك الحواس من الطعام والشراب والنكاح، وما سمي غير ذلك فهو عندنا غير موجود، ولا نميزه، ولا ندركه على بادئ الرأي إلا بعد تحذق كثير. وإنما وجب ذلك لكوننا في العالم الجسماني في لذات، فلا ندرك إلا لذته، فأما اللذات النفسانية فهي دائمة غير منقطعة، وليس بينها وبين هذه اللذة نسبة بوجه من الوجوه، ولا يصح لنا في الشرع، ولا عند الإلهيين من الفلاسفة أن نقول: إن الملائكة والكواكب والأفلاك ليس لها لذة، بل هي لذة عظيمة جدا لما عقلوه من الباري -عز وجل-، وهم بذلك في لذة غير منقطعة، ولا لذة جسمانية عندهم، ولا يدركونها؛ لأنه ليس لهم حواس مثلنا يدركون بها ما ندرك نحن، وكذلك نحن إذا تزكى منا من تزكى، وصار بتلك الدرجة بعد الموت، لا يدرك اللذات الجسمانية، ولا يريدها، كما لا يريد الملك عظيم الملك، أن ينخلع من ملكه ليرجع يلعب بالكرة في الأسواق، وقد كان في زمان ما بلا محالة يفضل اللعب بتلك الكرة على الملك، وذلك من حين صغر سنه عند جهله بالأمرين جميعا. كما نفضل نحن اليوم اللذة الجسمانية على النفسانية. ¬

(¬1) صوابه اللغوي [تقدر أن تراه].

وإذا ما بلغت أمر هاتين اللذتين نجد حساسة اللذة الواحدة، ورفعة الثانية، ولو في هذا العالم، وذلك أن نجد أكثر الناس يحملون أنفسهم وأجسامهم من الشقاء والتعب، ما لا مزيد عليه، كي ينال رفعة أو يعظمه الناس، وهذه اللذة ليست لذة طعام أو شراب، وكذلك كثير من الناس، يؤثر الانتقام من عدوه على كثير من لذات الجسم، وكثير من الناس يتجنب أعظم ما يكون من اللذات الجسمانية، خشية أن يناله في ذلك جزاء أو حشمة من الناس. فإذا كانت حالتنا في هذا العالم الجسماني هكذا، فناهيك بالعالم النفساني، وهو العالم المستقل الذي تعقل أنفسنا من الباري فيه مثل ما تعقل الأجرام العلوية، أو أكثر، فإن تلك اللذة لا تتجزأ، ولا تتصف، ولا يوجد مثل تمثل تلك اللذة، بل كما قال النبي داود متعجبا من عظمته: ما أكثر وما أجزل خيرك الذي خبأته للصالحين الطائعين لأمرك، وهكذا قال العلماء: العالم المستقبل ليس فيه لا أكل، ولا شرب، ولا غسل ولا دهن ولا نكاح، بل الصالحون باقون فيه، ويستلذون من نور الله تعالى، يريدون بذلك أن تلك الأنفس تستلذ بما تعقل من الباري بما تستلذ سائر طبقات الملائكة بما عقلوا من وجوده -سبحانه-. فالسعادة والغاية القصوى هي الوصول إلى هذا الملأ الأعلى. والحصول في هذا الحد. هو بقاء النفس كما وصفنا إلى ما لا نهاية له، ببقاء الباري -جل اسمه-، وهذا هو الخير العظيم الذي لا خير يقاس به، ولا لذة يمثل بها، وكيف [تمثل] (1) الدائم بما لا نهاية له بالشيء المنقطع، وهو قوله تعالى في نص التوراة: "لكي يطيب لك في العالم الذي كله طيب، ويطيل أيامك في العلم الذي كله طائل، والشقاوة الكاملة هو انقطاع النفس وأن لا تحصل باقية، وهو القطع المذكور (¬1) في التوراة كما بين". وقال: "انقطاعا ينقطع من هذا العالم، وينقطع من العالم المستقبل. ¬

(¬1) كذا في المخطوط والفصيح (يمثل) بالياء التحتية.

فكل من أخلد إلى اللذات الجسمانية، ونبذ الحق، وآثر الباطل انقطع من ذلك البقاء والعلو، وبقي مادة منقطعة فقط، وقد قال النبي أشعيا: "إن العالم المستقبل ليس يُدرك بالحواس. وهو قوله: لا عين تقدر أن تراه". وأما الوعد والوعيد المذكور في التوراة في لذات هذا العالم فتأويله ما أصف لك، وذلك أنه يقول لك: "إن امتثلت هذه الشرائع، نعينك على امتثالها، والكمال فيها، ونقطع عنك العلائق كلها، لأن الإنسان لا يمكنه العبادة لا مريض، ولا جائع، ولا عاطش، ولا في فتنة فوعد بزوال هذه كلها، وإنهم يصحون، ويتذهنون حتى يكمل لهم المعرفة، ويلتحقون بالعالم المستقبل. فليس غاية التوراة إلا أن تخصب الأرض، وتطول الأعمار، وتصح الأجسام، وإنما يعان على امتثالها هذه الأشياء كلها، وكذلك إن تعدوا كان عقابهم أن تحدث عليهم تلك العوائق كلها، حتى لا يمكن أن يعملوا صالحة. فإذا تأملت هذا التأمل العجيب تجده كأنه يقول: إن فعلت بعض هذه الشرائع بمحبة وفرض نعينك عليها كلها، بأن نزيل عنك العوائق والموانع، وإن ضيعت منها بعضا استخفافا، نجلب عليك موانع تمنعك من جميعها حتى لا يحصل لك كلام ولا بقاء" انتهى. فهذا خلاصة كلام ابن ميمون اليهودي زنديق اليهود في كتابه المذكور سابقا، وقد أوردنا لك كلامه هاهنا، لتعلم أنه لم يربطه شيء من كلام الله -سبحانه- يصلح دليلا عليه، بل هو مجرد زندقة، والتوراة والزبور والإنجيل، وكتب سائر الأنبياء منادية بخلاف ذلك، حسبما قدمنا لك. وها نحن نوضح لك فساد كلامه هذا فنقول: أولاً: إن حصر هذه اللذات النفسانية التي ذكرها لا ينافي حصول اللذات الجسمانية التي وردت في كتب الله -عز وجل-. وقوله: "وليست بلذة طعام أو شراب"، هذا مسلم، فإن اللذات النفسانية ليست بلذة طعام ولا شراب، ولكن من أين يلزم أنه لا لذة طعام وشراب ونحوهما في تلك الدار الآخرة؟ فإن كان بالشرع، فكتب الله -سبحانه- جميعها ناطقة بخلاف ذلك كما قدمنا ذلك

في كتب الله -عز وجل- المتقدمة، وكما في القرآن العظيم مما يكثر تعداده، ويطول إيراده، وهو لا يخفى مثله على أحد من المسلمين الذين يقرؤون القرآن لبلوغه في الكثرة إلى غاية يشترك في معرفتها المقصر والكامل. وإن كان بالعقل فليس في العقل ما يقتضي إثبات اللذة النفسانية، ونفي اللذة الجسمانية، بل لا مدخل للعقل هاهنا، ولا يتعول عليه أصلا. وإن كان لا يعتبر عقل، ولا شرع، بل لمجرد الزندقة، والمروق من الأديان كلها، والمخالفة لما ورد في كتب الله -سبحانه-[10] فبطلان ذلك مستغن عن البيان. وأما قوله: "كما قال النبي داود متعجبا من عظمتها: ما أكثر وما أجزل خيرك الذي خبأته للصالحين الطائعين لأمرك! "، فهذا عجب منه -عليه السلام- من كثرة خير الله -سبحانه-، وجزالة ما خبأه للصالحين (¬1) من عباده الطائعين لأمره في الدار الآخرة، وهو دليل على الملعون لا له، فإن كلامه هذا هو ككلام سائر أنبياء الله في استعظام ما أعده الله للصالحين من عباده، كما قال نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" (¬2). ومثله في القرآن الكريم في قوله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} (¬3). وأما قوله: "وهكذا العلماء: العالم المستقبل، ليس فيه لا أكل، ولا شرب إلى آخره" فيقال له: إن أردت علماء الملة اليهودية، فهم الذين لعنوك وكفّروك بسبب هذه ¬

(¬1) قال تعالى:} مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ {[محمد: 15]. وانظر الآيات: [البقرة: 25]، [الرعد: 35]، [إبراهيم: 23]. (¬2) أخرجه البخاري رقم (8498) ومسلم في صحيحه رقم (2/ 2824) من حديث أبي هريرة. (¬3) [السجدة: 17]

المقالة كما قدمنا، وهم جميعا يخالفونك، ويثبتون المعاد الجسماني، واللذات الجسمانية، ويكفرون من لم يثبتها كما كفروك ويلعنونه كما يلعنوك. وإن أردت علماء الملة النصرانية، فهم متفقون بأسرهم على إثبات المعاد الجسماني، وإثبات اللذات الجسمانية والنفسانية فيه، وكيف يخالف منهم مخالف في ذلك، والإنجيل مصرح هذا الإثبات تصريحا، لا يبقى عنده ريب لمرتاب. وإن أردت علماء الملة الإسلامية فذلك كذب بحت، وزور محضر، فإنهم مجمعون على ذلك، لا يخالف منهم فيه مخالف. ونصوص القرآن من فاتحته إلى خاتمته مصرحة بإثبات المعاد الجسماني، وإثبات تنعم الأجسام فيه بالمطعم والمشرب والمنكح وغير ذلك، أو تعذيبها بما اشتمل عليه القرآن من تلك الأنواع المذكورة فيه، وهكذا النصوص النبوية المحمدية مصرحة بذلك تصريحا يفهمه كل عاقل، بحيث لو جمع ما ورد في ذلك منها لجاء مؤلفا بسيطا. وأما استدلاله بقوله في التوراة: "لكي يطيب لك في العالم الذي كله طيب، ويطيل أيامك في العالم الذي كله طائل" فهذا دليل على الملعون، فإن الخطاب في الدنيا لمجموع الشخص الذي هو الجسم والروح. وظاهره أنه يكون له هذا على الصفة التي خوطب وهو عليها، وأنه يحصل له جميع ما يتلذذ به من اللذات الجسمانية والنفسانية، ومن ادعى التخصيص ببعض الشخص، أو ببعض اللذات، فهو يدعي خلاف الظاهر. ولكن المحرف المتزندق لا مقصد له إلا التلبيس على أهل الأديان. وكذلك قوله: "وقد قال النبي أشعيا: إن العالم المستقبل ليس يُدرك بالحواس، وهو قوله: "لا عين تقدر أن تراه". فإن هذا هو مثل ما قدمنا من كلام الأنبياء في استعظام ما عند الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة. وهذا تعرف أنه لم يكن في كلام هذا الملعون الزنديق ما يتمسك به متمسك، أو يغتر به مغتر [11]، بل هو خلاف ما في كتب الله جميعا كما قدمنا، وخلاف ما عند علماء الملل، بل خلاف ما أقره به في كلامه السابق إقرار مكررا. فيا عجبا لمن يتمسك بمثل هذا الكلام الذي لم يجر على نمط ملة من الملل، ولا وافق نصا من نصوص كتب الله -سبحانه-، ولا نصا من نصوص رسل الله جميعا!،

ويجعله نفس ما وردت به التوراة والإنجيل، ويجزم به ويحرره في كتبه مظهرا أن الشريعة المحمدية جاءت بما لم يكن في الشرائع السابقة، زاعما أن ذلك دليل على كمالها، مبطنا ما أبطنه هذا الزنديق ابن ميمون اليهودي، كما فعل ذلك ابن سينا (¬1)، وتبعه ابن أبي الحديد (¬2) في شرح (النهج) (¬3). بل جاوز ما قاله هذا إلى ما هو شر منه، فقال: إن التوراة لم يأت فيها وعد ووعيد يتعلق بما بعد الموت. وهذه فرية على التوراة، وجحد لما فيها، وتحريف لما صرحت به في غير موضح كما قدمنا بعض ذلك. وكذلك زعم أن المسيح وإن صرح بالقيامة فقد جعل العذاب روحانيا، وكذلك الثواب، وهذا أيضًا كذب محض. وقد قدمنا ما يفيدك ذلك، ويطلعك على كذبهما. والعجب أن ابن ميمون اليهودي لم يتجاسر على ما زعماه من أن التوراة لم يأت فيها وعد ووعيد يتعلق بما بعد الموت، بل أثبت ذلك، واستدل عليه بالتوراة كما عرفت من كلامه السابق المتضمن لاعترافه، ولمخالفته في إثبات اللذات الجسمانية. فإن قلت: قد جاء عن الصابئة، وعن جماعة من المتعلقين بمذاهب الحكماء ما يوافق كلام ابن ميمون المذكور. قلت: لسنا بصدد الرد على كل كافر ومتزندق، بل بصدد الكلام على ما جاءت به رسل الله، ¬

(¬1) هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسين بن علي بن سينا، البلخي، ثم البخاري يلقب بالشيخ الرئيس، فيلسوف، طبيب، شاعر ولد سنة 370 هـ كان هو وأبوه من أهل دعوة الحاكم العبيدي من القرامطة الذين لا يؤمنون بمبدأ، ولا بمعاد، ولا رب، ولا رسول. من تصانيفه الإشارات، القانون في الطب وتقاسيم الحكمة. انظر: شذرات الذهب (3/ 234)، معجم المؤلفين (4/ 20). (¬2) هو عز الدين أبو حامد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين بن أبي الحديد المدائني كان فقيها أصوليا، وله في ذلك مصنفات معروفة مشهورة، وكان متكلما جدليا، اصطنع مذهب الاعتزال ولد بالمدائن في غرة ذي الحجة سنة ست وثمانين وخمسمائة، ونشأ بها، نظم القصائد المعروفة بالعلويات السبع على طريقتهم، وفيها غالي وتشيع. من مصنفاته، الاعتبار، شرح نهج البلاغة. انظر: البداية والنهاية (13/ 213) وفوات الوفيات (2/ 259) والوافي في الوفيات (18/ 76، 77). (¬3) لم أجد هذه العبارات في شرح النهج.

ونطقت به كتبه، واتفقت عليه الملل المنتسبة إلى الأنبياء المقتدية بكتب الله ورسله دفعا لما وقع من الكذب البحت، والزور المحض، ممن زعم المخالفة بينها وبين ما جاءت به الشريعة المحمدية، فأوضحنا أن ذلك مخالف للملة اليهودية، ولما جاءت به التوراة، وما قاله علماء اليهود. ومخالف لما جاءت به الملة النصرانية، ولما جاء به الإنجيل، وما قاله علماء النصارى. ومخالف أيضًا لما جاء به أنبياء بني إسرائيل، وما نطقت به كتبهم حسبما قدمنا. ومخالف لما كان من الأنبياء المتقدمين على بعثة موسى كما يحكي ذلك ما تضمنته التوراة من حكاية أحوالهم، وما كانوا عليه، وما كانوا يدينون به، وكما يحكي ذلك عنهم القرآن الكريم، فإن فيه ما يفيد ما كانوا عليه، وما كانوا يدينون به، وما قالوا لقومهم، وما وعدوهم به من خير وشر، [12] بل فيه ما يفيد ما كان عليه أهل الكتب المتأخرة من البعثة لموسى، ومن بعده، وما كانوا يدينون به كقوله _سبحانه- حاكيا عن اليهود:} وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى {، وقوله تعالى:} يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ {(¬1)، وقوله حاكيا عن موسى (¬2) إلى فرعون:} وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ {إلى قوله:} وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ {إلى قوله:} فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ {(¬3)، وقوله:} إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ {(¬4). ¬

(¬1) [المائدة: 72]. (¬2) ليست عن موسى وإنما هي عن رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه كما في سورة غافر (28 - 32). (¬3) [غافر: 39 - 40]. (¬4) [آل عمران: 55 - 57].

وقال:} بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى {(¬1). ونصوص القرآن الحاكية عن اليهود والنصارى، وسائر الملل مثل هذا كثيرة جدا، ولا يتسع المقام لبسطها، وقد بعث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأهل الملة اليهودية والنصرانية في أكثر بقاع الأرض، وبلغهم ما حكاه القرآن عن أنبيائهم من إثبات المعاد، وإثبات النعيم الجسماني والروحاني، ولم يسمع عن أحد منهم أنه أنكر ذلك، أو قال هو خلاف ما في التوراة والإنجيل. وقد نزل أكثر القرآن على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المدينة، وكان اليهود متوافرين فيها وفيما حولها من القرى المتصلة بها، وكانوا يسمعون ما ينزل من القرآن، ولم يسمع أن قائلا منهم قال للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إنك تحكي عن التوراة ما لم يكن فيها من البعثة، وما أعده الله في الدار الآخرة من النعيم للمطيعين، والعذاب للعاصين، وقد كانوا يودون أن يقدحوا في النبوة المحمدية بكل ممكن. بل كانوا في بعض الحالات ينكرون وجود ما هو موجود في التوراة كالرجم (¬2)، فكيف سكتوا عن هذا الأمر العظيم، وهل كانوا يعجزون أن يقولوا عند سماعهم لقوله تعالى: ¬

(¬1) [الأعلى: 16 - 19]. (¬2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (6841) ومسلم رقم (26/ 1699) من حديث ابن عمر أنه قال: إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ "فقالوا: نفضحهم ويجلون. قال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم قالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم فأمرهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرجما، فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة".

} وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً {(¬1) , ما قلنا هذا، ولا نعتقده، ولا جاءت يه شريعة موسى؟!. وهكذا عند سماعهم لقوله تعالى:} وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى {(¬2). وقد كان أمر المعاد مشتهرا في أهل الكتاب، وكانوا يتحدثون به، واستمر ذلك فيهم استمرارا ظاهرا، وعلم به غيرهم من أهل الأوثان لما كانوا يسمعون منهم. ومن ذلك ما أخرجه ابن إسحاق (¬3) قال: حدثنا صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن محمود بن لبيد (¬4)، عن سلمة بن سلامة بن وقش قال: كان بين أبياتنا يهودي، فخرج على نادي قومه (¬5) بني عبد الأشهل ذات غداة، فذكر البعث والقيامة، والجنة والنار [13]، والحساب والميزان، فقال ذلك لأصحاب وثن لا يرون أن بعثا كائن بعد الموت. وذلك قبل مبعث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالوا: ويحك يا فلان، أو ويلك، وهذا كائن أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، يجزون من أعمالهم؟!. قال: نعم، والذي يحلف، به لوددت أن حظي من تلك النار أن توقدوا أعظم تنور في داركم، فتحمونه، ثم تقذفوني فيه، ثم تطينون علي، وأني أنجو من تلك النار غدا. فقيل: يا فلان، فما علامة ذلك؟ فقال: نبي يبعث من ناحية هذه البلاد، وأشار إلى مكة واليمن بيده، قالوا: فمن نراه؟ فرمى بطرفه فرآني وأنا مضطجع بفناء باب أهلي، وأنا أحدث القوم، فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه. . . إلى آخر الحديث (¬6). ¬

(¬1) [البقرة: 80]. (¬2) [البقرة: 111]. (¬3) في السيرة النبوية (1/ 270 - 272). (¬4) في السيرة زيادة [أخي بني عبد الأشهل]. (¬5) عبارة الشوكاني تشعر بأن هذا اليهودي من بني عبد الأشهل نسبا وصوابه كما في السيرة (1/ 271): "فخرج علينا من بيته، حتى وقف على بني عبد الأشهل، قال سلمة: وأنا يومئذ من أحدث من فيه سنا. . . ". (¬6) أخرجه أحمد في مسنده (3/ 467) والبخاري في التاريخ الكبير (2/ 2\ 68) وأبو نعيم دلائل النبوة (1/ 74 - 75) والبيهقي في الدلائل أيضًا (2/ 78 - 79) والطبراني في الكبير (7/ 41 - 42) رقم 6327) والحاكم (3/ 417 - 418) وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وسكت عنه الذهبي. وأورده الهيثمي في المجمع (8/ 230) وقال: رجاله رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع. والخلاصة أن الحديث صحيح. والله أعلم.

وأهل الكتاب إلى عصرنا هذا يقرون بالمعاد، والجنة والنار، والحساب والعقاب، والنعيم والثواب، ولا ينكر ذلك منهم منكر، ولا يخالف فيه مخالف. وإذا قيل لهم: قد قال قائل: إنكم لا تثبتون ذلك، أنكروا أشد الإنكار. فمن روى عنهم ما يخالف ذلك، فقد افترى، وجاء مما ترده الأحياء منهم والأموات، وبما تبطله الرسل المرسلة إليهم، والكتب النازلة عليهم، حسبما قد حكينا لك في هذا المختصر.

الفصل الثالث في إثبات النبوات [1 - تمهيد]: اعلم أن الأنبياء -عليهم السلام- على كثرة عددهم، واختلاف أعمارهم، وتباين أنسابهم، وتباعد مساكنهم، قد اتفقوا جميعا على الدعاء إلى الله- عز وجل- وصار الآخر منهم يقر بنبوة من تقدمه، وبصحة ما جاء به. وإذا خالفه في تحليل بعض ما حرمه الله على لسان الأول، أو تحريم ما أحله الله له ولأمته فهو مقر بأن الحكم الأول تحليلا أو تحريما هو حق، وهو حكم الله -عز وجل- وأنه الذي تعبد الله به أهل تلك الملة السابقة، واختاره لهم، كما اختار للملة اللاحقة ما يخالفه. والكل من عند الله -عز وجل- وذلك جائز عقلا وشرعا في ملة واحدة، فضلا عن الملل المختلفة. وما روي في بعض كتب أصول الفقه من أن اليهود ينكرون النسخ، فتلك رواية غير صحيحة، وقد نسبها من نسبها إلى طائفة (¬1) قليلة منهم، وما أظنه يصح عنهم ذلك؛ فإن التوراة مصرحة بنسخ كثير من الأحكام التي تعبدهم الله بها، تارة تخفيفا، وتارة تغليظا، وتارة إيجابا، وتارة تحريما. وبالجملة فلا شك، ولا ريب أن الأنبياء متفقون على تصديق بعضهم بعضا، وأن ما جاء به كل واحد منهم فهو من عند الله- عز وجل-[14] وقد عرفناك فيما سبق أن ¬

(¬1) قال صاحب الكواكب (3/ 533). يجوز النسخ عقلا باتفاق أهل الشرائع سوى الشمعونية- ينتسبون إلى شمعون بن يعقوب. وكذلك يجوز النسخ سمعا باتفاق أهل الشرائع سوى العنانية من اليهود فإنهم يجوزونه عقلا لا سمعا. العنانيه: فرقة من اليهود ينتسبون إلى عنان بن داود وهم يخالفون اليهود في سائر السبت والأعياد وينهون عن أكل الطير والظباء والسمك والجراد. . . ". الإرشاد (ص 185). نهاية السول (2/ 167). الملل والنحل (1/ 315).

عددهم بلغ إلى مائة (¬1) ألف وأربعة وعشرين ألفا، ولا خلاف بين أهل النظر أن اتفاق مثل هذا العدد يفيد العلم الضروري بصدق ما اتفقوا عليه، بل اتفاق عشر هذا العدد، بل اتفاق عشر عشره يفيد ذلك. ومن ينكر في هذا الاتفاق فعليه بمطالعة التوراة، فإنها قد اشتملت على حكاية حال الأنبياء من لدن آدم إلى بعثة موسى، وفيها التصريح بتصديق بعضهم بعضا، ولم يقع من واحد منهم الإنكار لنبوة أحد ممن تقدمه. ثم جاء من بعد موسى وهارون أنبياء بني إسرائيل، وكل واحد منهم يقر بمن تقدمه، ويثبت نبوته، كما اشتمل على ذلك كتب نبواتهم، وكثير منهم كان يجاهد من يعبد الأصنام من بني إسرائيل وغيرهم. وقد وقعت لهم قصص وحروب مع من كان يعبد الصنم المعروف (ببعل) الذي ذكره الله -سبحانه- في القرآن (¬2). وكذلك كان لهم قصص وحروب مع من كان يعبد غيره من الأصنام. وهكذا داود وسليمان، وهما من أنبياء بني إسرائيل، وممن يدين بالتوراة، ما زالا في حرب مع عباد الأصنام كما يحكي ذلك الزبور، وكتاب داود، وكما تحكيه وصايا سليمان، وهى كتاب مستقل. وهكذا الإنجيل، فإن المسيح - عليه السلام- كان يحتج على المخالفين له من اليهود بنص التوراة في غالب فصوله المشتملة على حكاية المسائل التي أنكرها عليه اليهود. ومع هذا فلم يقع اختلاف بينهم قط في الدعاء إلى توحيد الله، وإثبات المعاد، وصحة نبوة كل واحد منهم وصدقه، فيما جاء به من الشرع، وفيما حكاه عن الله - سبحانه-. وهذه هي الثلاثة المقاصد التي جمعنا هذا المختصر لتقرير اتفاقهم عليها، وإثباتهم لها، وكثيرا ما كان يقع التبشير من السابق منهم باللاحق، كما هو مصرح به في التوراة من تبشير موسى بيوشع بن نون، وكما هو مصرح به في الزبور من تبشير داود بعيسى، وهو الرابع عشر من أولاده، فإن بين داود والمسيح أربعة عشر أبا. وقيل أكثر من ¬

(¬1) تقدم تخريجه (ص484) وهو حديث ضعيف. (¬2) قال تعالى: (أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين) [الصافات: 125].

ذلك، حسبما يحكيه ما وقع في بعض نسخ الإنجيل، وكما وقع من يحيى بن زكريا المسمى عندهم يوحنا، فإنه بشر بالمسيح مع اتصال عصره بعصره، فإن يحيى بن زكريا إنما قتل بعد أن بعث الله المسيح كما يحكي ذلك الإنجيل. [2 - تبشير التوراة بمحمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:] والكلام في تبشير بعض الأنبياء ببعض يطول، وها نحن نذكر لك هاهنا ما وقع من التبشبر بنبينا محمد-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ممن تقدمه من الأنبياء، حتى يتضح لك أن هذه سنة الله- عز وجل- في أنبيائه- عليهم السلام-. فمن ذلك ما ثبت في التوراة في الفصل السابع عشر من السفر الأول منها: " قال الله سبحانه لإبراهيم، وقد سمعت قولك في إسماعيل، وها أنا مبارك فيه، وأثمره، وأكثره بمأذ مأذ" (¬1) انتهى قوله: "بمأذ مأذ" (¬2) هو اسم محمد بالعبرانية، وهذا صريح في البشارة بنبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. [15] وفي الفصل الثالث (¬3) والثلاثين من السفر (¬4) الخامس من التوراة، ما لفظه: "يا الله الذي تجلى نوره من طور سينا، وأشرق نوره من جبل سيعير، ولوح به من جبل فاران، وأتى ربوة القدس بشريعة نور من يمينه لهم" انتهى. هذا نص التوراة المعربة تعريبا صحيحا، وقد حكى هذا اللفظ من نقل عن التوراة بمخالفة لما هنا بسيرة: "هكذا جاء الله من طور سيناء، وأشرق من (ساعير) واستعلن من جبال فاران، وفي لفظ: "تجلى الله من طور سيناء إلخ". قال جماعة من العلماء: إن معنى تجلى نور الله -سبحانه- من طور سيناء، أو مجيئه ¬

(¬1) لا توجد هذه الكلمة في العهد القديم ويوجد بدلها " كثيرا جدا ". (¬2) لا توجد هذه الكلمة في العهد القديم ويوجد بدلها " كثيرا جدا ". (¬3) انظر العهد القديم (ص 234). ط: القاهرة. (¬4) أي سفر التثنية وقد تقدم.

من طور سيناء، هو إنزاله التوراة على موسى بطور سيناء، ومعنى إشراقه من جبل (سيعير)، إنزاله الإنجيل على المسيح، وكان المسيح من (سيعير)، أو (ساعير) (¬1) , وهي أرض الخليل من قرية منها تدعى (ناصرة) وباسمها سمى أتباعه نصارى، ومعنى لوح به من جبل فاران (¬2)، أو استعلن من جبل فاران، إنزاله القرآن على محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وجبال فاران هي جبال مكة بلا خلاف بين المسلمين، وأهل الكتاب. ومما يؤيد هذا ما في التوراة في السفر (¬3) الأول منها ما لفظه: "وغدا إبراهيم فأخذ الغلام يعني إسماعيل، وأخذ خبزا وسقاء من ماء، ودفعه إلى هاجر، وحمله عليها، وقال لها: اذهبي، فانطلقت هاجر، فظلت سبعا، ونفذ الماء الذي كان معها، فطرحت الغلام تحت شجرة، وجلست مقابلته على مقدار رمية سهم، لئلا تبصر الغلام حين يموت، ورفعت صوتها بالبكاء، وسمع الله صوت الغلام، فدعا ملك الله هاجر وقال لها: ما لك يا هاجر لا تخشي، فإن الله قد سمع صوت الغلام حيث هو، فقومي فاحملي الغلام، وشدي يديك به، فإني جاعله لأمة عظيمة، وفتح الله عينيها فبصرت بئر ماء، فسقت الغلام، وملأت سقاها، وكان الله مع الغلام فربى وسكن في برية فاران" انتهى. ولا خلاف أن إسماعيل سكن أرض مكة فعلم أنها فاران، وقد حكى الله -سبحانه- في القرآن الكريم ما يفيد هذا، فقال حاكيا عن إبراهيم:} رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ {(¬4). ¬

(¬1) في التوراة اسم لجبال فلسطين وهو من حدود الروم وهو قرية من الناصرة بين طبرية وعكا. معجم البلدان (3/ 171). (¬2) كلمة عبرانية معربة: وهو اسم لجبال مكة. انظر معجم البلدان (4/ 225). (¬3) أي سفر التكوين. الإصحاح الحادي والعشرون. انظر العهد القديم (29). (¬4) [إبراهيم: 37]

ولا خلاف في أن المراد بهذا الوادي أرض مكة، وفي الأحاديث الصحيحة (¬1) الحاكية لقصة إبراهيم مع هاجر وولدها إسماعيل ما يفيد هذا ويوضحه. ومما يؤيد هذه البشارة، المذكور في التوراة البشارة المذكورة في كتاب نبوة النبي شمعون (¬2) ولفظه: "جاء الله من جبال فاران، وامتلأت السماوات والأرض من تسبيحه، وتسبيح أمته". ومثل ذلك البشارة المذكورة في نبوة النبي حبقوق (¬3) ولفظه: " جاء الله من التيمن (¬4)، وظهر القدس على جبال فاران، وامتلأت الأرض من تحميد أحمد، وملك يمينه رفات الأمم، وأنارت الأرض لنوره، وحملت خيله في البحر" (¬5) انتهى. وفي هذا التصريح بحبال فاران مع التصريح باسم نبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-[16] بقوله: وامتلأت الأرض من تحميد أحمد تصريح لا يبقى بعده ريب لمرتاب. ومن البشارات بنبينا - محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الزبور (¬6) لداود - عليه السلام- ما لفظه: ¬

(¬1) انظر: فتح الباري (6/ 386 - 395). البداية والنهاية (1/ 150 - 155). (¬2) ونص الترجمة الحالية: "الله جاء من تيمان، والقدوس من جبل فاران، سلاه جلاله غطى السماوات والأرض، امتلأت من تسبيحه، وكان لمعان كالنور له من يده شعاع. وهناك استثار قدرته". سفر حبقوق، الإصحاح الثالث، العهد القديم 1046. (¬3) اسم عبري معناه (يعانق) أو ربما اسم نبات حديقة وهو نبي يهوذا ويستفاد من المزمور المنسوب إليه أنه كان من سبط لاوي وأنه أحد المفتين في الهيكل وهو عند أهل الكتاب ثامن الأنبياء الصغار الذين ظهروا في مملكة يهوذا. قاموس الكتاب المقدس (ص 287 - 288). (¬4) اسم عبري معناه اليمنين أو الجنوبي أو الصحراء الجنوبية. قاموس الكتاب المقدس (ص 288). (¬5) سفر حبقوق الإصحاح الثالث. (¬6) نص الترجمة الحالية: "رنموا للرب، باركوا اسمه، بشروا من يوم إلى يوم بخلاصة، حدثوا بين الأمم بمجده، بين جميع الشعوب بعجائبه؛ لأن الرب عظيم وحميد جدا". سفر المزامير، المزمور السادس والتسعون العهد القديم 704.

"إن ربنا عظيم، محمود جدا، ومحمد قد عم الأرض كلها فرحا" انتهى. ففي هذا التصريح باسمه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ومن ذلك قوله فيه "بارك عليك إلى الأبد. ويقلد أبونا الجبار السيف؛ لأن البهاء لوجهك، والحمد الغالب عليك، اركب كلمة الحق، وسمت التأله، فإن ناموسك وشرائعك معروفة هيبة يمينك، وسهامك مسنونة، والأمم يخرون تحتك" (¬1) انتهى. وهذه صفات نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنه لم يبعث نبي هذه صفته بعد داود سواه. ومثل هذا قوله في موضع آخر: "ويجوز من البحر إلى البحر، ومن لدن الأنهار إلى منقطع الأرض، وتخذى أهل الجزائر بين يديه، ويلحس أعداؤه التراب، ويسجد له ملوك الفرس، وتدين له الأمم بالطاعة والانقياد، ويخلص البائس المضطهد ممن هو أقوى منه، وينقذ الضعيف الذي لا ناصر له، ويرأف بالمساكين والضعفاء، ويصفى عليه ويبارك في كل حين" (¬2) انتهى. وهذه الصفات أيضًا ليست لأحد من الأنبياء غيره. فإنه لم يملك أحد ¬

(¬1) نص الترجمة الحالية: " فاض قلبي بكلام صالح، متكلم أنا بإنشائي للملك لساني قلم كاتب ماهر، أنت أبرع جمالا من بني البشر، انسكبت النعمة على شفتيك، لذلك باركك الله إلى الأبد، تقلد سيفك على فخذك - أيها الجبار- جلالك وبهاءك، وبجلالك اقتحم، أركب من أجل الحق والدعة والبر، فتريك عينيك مخاوف، نبلك المسنونة في قلب أعداء الملك، شعوب تحتك يسقطون". سفر المزامير، المزمور الخامس والأربعون العهد القديم 672. (¬2) نص الترجمة الحالية: "ويملك من البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض أمامه تجثو أهل البرية وأعداؤه يلحسون التراب، ملوك ترشيش والجزائر يرسلون تقدمه. ملوك شيا وسبأ يقدمون هدية ويسجد له كل الملوك. كان كل الأمم تتعبد له لأنه ينجي الفقير المستغيث والمسكين، إذ لا معين له، يشفق على المسكين والبأس ويخلص أنفس الفقر من الظلم والخطف، يفدي أنفسهم ويكرم دمهم في عينيه، ويعيش ويعطيه من ذهب شبا يصلي لأجله دائما اليوم كله يباركه". سفر المزامير، المزمور الثاني والسبعون. العهد القديم 688. وقوله من البحر إلى البحر: لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته حاز من البحر الرومي إلى البحر الفارسي ومن لدن الأنهار سيحون وجيحون إلى منقطع الأرض بالمغرب. * والجزائر: أهل جزيرة العرب الجزيرة بين الفرات ودجلة، جزيرة قبرص وأهل جزيرة الأندلس. * قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "زويت لي الأرض، مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها". أخرجه ابن ماجه في السنن رقم (4000) من حديث ثوبان، وله ألفاظ عند مسلم رقم (2889) وأبو داود رقم (4252) والترمذي في السنن رقم (2176) وهو حديث صحيح.

منهم من البحر إلى البحر، ومن لدن الأنهار إلى منقطع الأرض، كما ذلك معلوم لكل أحد، بل الذي انتشرت شريعته، وبلغت سيوف أمته إلى هذا المقدار هو نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وهكذا قوله: ويسجد له ملوك الفرس، فإنه لم يفتح الفرس، ويستعبد أهلها، ويضرب عليهم الجزية إلا أمة نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وهكذا قوله: "وتدين له الأمم بالطاعة والانقياد" فإنها لم تدن الأمم كلها لغيره. وهكذا قوله: "ويصلي عليه ويبارك (¬1) في كل حين" فإن هذا يختص بنبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لاستمرار ذلك له في كل وقت، ووقوع الأمر القرآني به، ولم يكن ذلك لغيره من الأنبياء. ومن البشارات، ما ذكره أشعيا (¬2) في كتاب نبوته من التبشير براكب الحمار، وراكب الجمل، ولا شك أن راكب الحمار، هو المسيح، وراكب الجمل هو نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وفي نبوة أشعيا أيضًا قوله: "إني جعلت أمرك يا محمد، يا قدوس الرب اسمك موجود من الأبد" (¬3). انتهى. ¬

(¬1) وقوله: "يصلى عليه ويبارك في كل حين": في كل صلاة والصلوات الخمس وغيرها اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد. . . . . . ". (¬2) نص الترجمة الحالية: لأنه هكذا قال لي السيد: اذهب أقم الحارس ليخبر بما يرى، فرأى ركابا أزواجا من الفرسان. ركاب حمير، ركاب جمال فأصفي إصفاء شديدا، ثم صرح كأسد: أيها السيد أنا قائم على المرصد دائما في النهار، وأنا واقف على المحرس كل الليالي، وهوذا ركاب من الرجال، أزواج من الفرسان فأجاب وقال: سقطت بابل، وجميع تماثيل آلهتها المنحوتة، كسرها إلى الأرض". سفر أشعياء، الإصحاح الحادي والعشرون العهد القديم 801. * وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سقطت أصنام بابل. (¬3) لم أقف عليه.

وهذا تصريح باسم نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على وجه ينفي كل شك ويقطع كل ريبة، وكذلك قوله في موضع آخر (¬1) من كتاب نبوته حاكيا عن الله سبحانه أشكر حبيبي أحمد فإن هذا التصريح باسم نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ومثل هذا قول حبقوق (¬2) النبي في كتاب نبوته: "أضاءت السماء من بهاء محمد، وامتلأت الأرض من شعاع منظره" (¬3) وكذا قوله في موضع آخر (¬4) من كتاب نبوته: "وتنزع في مشيك إعراقا ونزعا، وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء- فإن هذا تصريح أوضح من الشمس ومن البشارات قول حزقيال (¬5) النبي في كتاب نبوته مهددا لليهود:- وأن الله يظهرهم عليكم، وباعث فيهم نبيا، وينزل عليهم كتابا، ويملكهم رقابكم، فيقهرونكم،. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

(¬1) لم أقف عليه. * وإنما قال أشعياء "إنما سمعنا من أطراف الأرض صوت محمد". سفر أشعياء. الإصحاح السادس والستون العهد القديم 846. (¬2) انظر: سفر حبقوق الإصحاح الثالث العهد القديم (1046). * أشعيا بن آموص، ومعنى اسمه (الرب يخلص) ويعتبره النصارى من أعظم أنبياء العهد القديم ويلقبونه (بالنبي الإنجيلي) لكثرة نبواته عن المسيح ويغلب على ظن المؤرخين بأن أشعياء قد مات مقتولا في اضطهاد الملك منسي الإسرائيلي. وينسب إلى أشعياء سفر باسمه عدد إصحاحاته (66) إصحاحا ويعتبر ضمن أسفار الأنبياء المتأخرين. قاموس الكتاب المقدس ص 81 - 85. (¬3) وتمامه: مثل النور يحوط بلاده بعزة تسير المنايا أمامه، وتصحب سباع الطير أجناده، قام فمسح الأرض فتضعضعت له الجبال القديمة وانخفضت الروابي، وتزعزعت ستور أهل مدين". (¬4) انظر: سفر حبقوق الإصحاح الثالث، والعهد القديم 1046. (¬5) حزقيال: معناه (الله يقوي) وهو ابن بوزي من عشيرة كهنوتيه ويعتبرونه أحد الأنبياء الكبار وقد نشأ في فلسطين زمن النبي أرميا ثم حمل مسبيا مع ملك يهوذا (يهوياكين) إلى أرض بابل أثناء الغزو البابلي، ولا يعرف وقت ومكان موته. ينسب إليه (سفر حزقيال) عدد إصحاحاته (48) إصحاحا. القاموس (الكتاب المقدس) (301 - 304).

ويذلونكم (¬1) بالحق [17]، ويخرج رجال (بني قيذار) (¬2) في جماعات الشعوب، معهم ملائكة على خيل بيض" (¬3) انتهى. ففي هذا التصريح ببعثة نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقهر أمته للأمم، فإن (قيدار) هو ابن إسماعيل بن إبراهيم بلا خلاف، ولم يبعث الله فيهم نبيا إلا نبينا محمدا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا معلوم لكل أحد، لا يخالف فيه مخالف، ولا ينكره منكر. ومن البشارات ما في كتاب نبوة دانيال النبي، فإنه صرح فيها باسم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بمثل ما تقدم في نبوة حبقوق فقال: "ستنزع في مشيك إعراقا، وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء" (¬4) انتهى. وفي موضع آخر من كتابه هذا التصريح ببعثة نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال بعد ذكر التبشير بالمسيح ما لفظه: "حتى أبعث بي بني إسماعيل الذي بشرت به هاجر، وأرسلت إليها ملائكة فبشروها، فأوحي إلى ذلك النبي وأعلمه السماء، وأزينه بالتقوى، وأجعل البر شعاره، والتقوى ضميره، والصدق قوله، والوفاء طبيعته، والقصد سيرته، والرشد سنته، بكتاب مصدق لما بين يديه من الكتب، وناسخ لبعض ما فيها، أسري به إلي، وأرقيه من سماء إلى سماء حتى يعلو، فأدنيه، وأسلم عليه، وأوحي إليه، ثم أرده إلى ¬

(¬1) في المخطوط مكرر قوله: "ويملكهم رقابكم فيقهرونكم ويذلونكم ". (¬2) رجال بني قيدار هم ربيعة ومضر أبناء عدنان وهما جميعا من ولد قيدار بن إسماعيل والعرب كلهم من بني عدنان وبني قحطان، فعدنان -أبو ربيعة- ومضر وأنمار من ولد إسماعيل باتفاق الناس وأما قحطان فقيل: هم من ولد إسماعيل. . . .. البداية والنهاية (2/ 156) واللباب في معرفة الأنساب (3/ 222). (¬3) انظر: سفر حزقيال الإصحاح العشرين والعهد القديم 949. (¬4) النص الذي وجدته: "كنت أرى في رؤى الليل، وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام، فقربوه قدامه، فأعطي سلطانا ومجدا وملكوتا، لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة، سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول، وملكوته ما لا ينقرض". سفر دانيال. الإصحاح السابع، العهد القديم 1000.

عبادي بالسرور والغبطة حافظا لما استودع، صادعا بما أمر، يدعو إلى توحيدي باللين من القول، والموعظة الحسنة، لا فظ، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، رؤوف بمن والاه، رحيم بمن آمن به حتى على من عاداه" (¬1). انتهى، ولا ريب أن هذه صفات نبينا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنه لم يبعث الله نبيا من بني إسماعيل سواه. ومثل هذه الصفات، ما في حديث عبد الله بن عمرو وعند البخاري (¬2) وغيره أنه قيل له: أخبرنا ببعض صفة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في التوراة قال (إنه لموصوف في التوراة (¬3) ببعض صفته في القرآن (¬4):} يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا {(¬5) وحرزا للأميين. أنت عبدي ورسولي، حميتك المتوكل، لست بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة، ولكن يجزي بالسيئة الحسنة، ويعفو ويغفر، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، فأفتح به أعينا عمياء، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، بأن يقولوا لا إله إلا الله). قيل: قد يراد بلفظ التوراة جنس الكتب المتقدمة من التوراة والزبور والإنجيل، وسائر كتب أنبياء بني إسرائيل. فعلى هذا، يكون المراد بقول عبد الله بن عمرو: "إنه لموصوف في التوراة " هذه الصفات المذكورة في نبوة دانيال، ولا مانع من أن تكون هذه الصفات كانت موجودة في التوراة فحذفتها اليهود، فما ذلك بأول تحريف وتبديل وتغيير ¬

(¬1) انظر: سفر دانيال الإصحاح التاسع بكامله، والعهد القديم (1003 - 1004). * ودانيال: معناه (الله قضى) عاش في فترة السبي البابلي، ونال مكانة عالية عند نبوخذ نصر بعد أن فسر له دانيال حلما قد أزعجه وتوفي في عهد الملك كورش ملك الفرس وينسب إليه سفر باسمه عدد إصحاحاته (12) إصحاحا ويحتوي على تاريخ بني إسرائيل في فترة السبي وعلى تنبؤات مستقبلة. قاموس الكتاب المقدس (357 - 360). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2125) و (4838). (¬3) لفظ التوراة يقصدون به جنس الكتب التي عند أهل الكتاب، ولا يخصون بذلك كتاب موسى. (¬4) انظر: سفر أشعياء الإصحاح الثاني والأربعون (1/ 20) والعهد القديم (822). (¬5) [الأحزاب: 45].

منهم. [تبشير الإنجيل بمحمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:] ومن البشارات به في الإنجيل، ما في الفصل الخامس عشر من الإنجيل الذي جمعه يوحنا (أن الفار قليط روح الحق الذي يرسله الله هو [يعلم] (¬1) كل شيء) (¬2).انتهى. وفي موضع آخر منه: (والفار قليط روح القدس الذي يرسله [18] الله هو [يعلم] (¬3) كل شيء وهو يذكركم ما قلت لكم). وفي موضع آخر منه: (إذا جاء الفار قليط الذي أرسله الله روح الحق الذي هو يشهد لي، قلت لكم هذا، حتى إذا كان يؤمنون به، ولا يشكون فيه) (¬4). وفي الفصل السادس عشر منه: (لكني أقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق؛ لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفار قليط، فإذا انطلقت أرسلته إليكم فهو يوبخ العالم على الخطيئة، وعلى البر، وعلى الحكم. أما على الخطيئة فلأنهم لم يؤمنوا بي، وأما على البر فإني منطلق ولستم تروني، وأما على الحكم فإن رئيس هذا العالم يدان، وأن لي كلاما كثيرا لستم تطيقون كله الآن. لكن إذا جاء روح الحق ذاك، فهو يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بما يسمع، ويخبركم بكل ما يأتي) انتهى. وقد تكرر ذكر (الفار قليط) (¬5) في الإنجيل، وأنذر به المسيح وبشر به قومه في غير موضع منه. وقد اختلفوا في المراد، (فالفار قليط) في لغتهم على أقوال. وذهب الأكثر ¬

(¬1) كذا في المخطوط وصوابه. (يعلمكم). (¬2) إنجيل يوحنا (14/ 26). (¬3) كذا في المخطوط وصوابه. (يعلمكم). (¬4) يوحنا (15/ 26). (¬5) الفار قليط: هو محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أرسله الله بعد المسيح.

من النصارى إنه المخلص (¬1)، وقالوا هو مشتق من (فاروق) (¬2) أو من (فارق) قالوا: ومعنى (ليط) (¬3) كلمة تزاد كما يقال في العربية: رجل هو، وحجر هو، وعالم هو، وجاهل هو. وقد تقرر أنه لا نبي بعد المسيح غير نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وهذه البشارات قد تضمنت أنه سيأتي بعد المسيح نبي يخلص تلك الأمم مما هم فيه، ويوبخهم على الخطية، ويتكلم بما يسمع، ويخبر بكل ما يأتي، ولم يكن هذا لأحد بعد المسيح غير نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ومما يدل على أن المراد بالفار قليط هو نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه وقع الحذف هذا اللفظ من بعض نسخ الإنجيل مع ثبوته في غالبها. وليس ذلك إلا تغييرا وتبديلا من النصارى، لما يعلمونه من أن المراد هذا اللفظ هو التبشير بنبي يأتي بعد المسيح: ¬

(¬1) انظر: تخجيل من حرف التوراة والإنجيل (2/ 702) وقيل: إنه (الحماد) وقيل (الحامد) وقيل: (المعز)، وأكثر النصارى على أنه المخلص. * "إن الطبعات الحديثة للأناجيل لا توجد فيه لفظة (فار قليط) وأبدلت بألفاظ أخرى مثل (المعزي، المحامي، المعين، المخلص، الوكيل، الشافع) علما بأن كلمة (الفار قليط) كانت موجودة في الترجمة العربية للأناجيل المطبوعة في لندن سنة 1821 م، 1831 م، 1844 م، وقد وقفت على مخطوطة لترجمة التوراة والزبور والإنجيل في إسطنبول بمكتبة عاطف أفندي تحت رقم (7) وفيها ذكرت لفظة (الفار قليط). ومعلوم لدينا أن اليهود والنصارى يسعون إلى إخفاء البشارات بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كتبهم المقدمة لديهم أو تحريف معناها وذلك مما أخبرنا الله عز وجل عنهم فقال تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وإن فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة: 146]. فما معنى كلمة (فار قليط) التي اختلف النصارى في معناها؟ إن (فار قليط) معربة من كلمة (بيركليتوس) اليونانية ( perialytos) التي تعني اسم: أحمد صيغة المبالغة من الحمد" ا هـ. حاشية. "تخجيل من حرف التوراة والإنجيل" (2/ 703). (¬2) قال ابن القيم في "هداية الحيارى" ص 56: وهو بالسريانية فاروق وقالوا معنى (ليط) في السريانية أيضا. (¬3) قال ابن القيم في "هداية الحيارى" ص 56: وهو بالسريانية فاروق وقالوا معنى (ليط) في السريانية أيضا.

وأنها ستقوم عليهم بذلك الحجة فحذفوا هذا اللفظ لهذه العلة (¬1). وقد حكى الله - سبحانه- في القرآن العظيم أن المسيح بشر بنبينا محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال:} وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ {(¬2). وفي الإنجيل أيضًا الذي جمعه يوحنا أن المسيح قال: "أركون العالم سيأتي، وليس لي شيء" (¬3). وهذا اللفظ فيه أعظم بشارة بنبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فإن الأركون في لغة النصارى العظيم القدر، ولم يأت بعد المسيح من هو هذه الصفة إلا نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنه جعله أركون العالم، وقال عن نفسه: ليس له من الأمر (¬4) شيء، فدل هذا على أنه سيأتي بعده عظيم من عظماء العالم يكون منه الإصدار والإيراد، والحل والعقد في الدين، وإثبات الشرائع، وأن المسيح بالنسبة إليه كمن ليس له شيء. وهذا إنما يكون تبشيرا بمن هو أعظم من المبشر به [19]، أعني المسيح -عليه السلام- ولا يصح حمله على رجل عظيم القدر في الدنيا، أو في الملك، أو غير ذلك؛ لأن الأنبياء لا يبشرون بمن هو كذلك، ويجعلونه أركون العالم، ويجعلون الأمر إليه، وينفون الأمر عن أنفسهم، فإن هذا لا يكون أبدا من الأنبياء، ولا يصح نسبته إليهم، ولا صدوره منهم قط، بلا خوف بين أهل الملل. ولا يمكن أن يدعي مدع أنه جاء بعد المسيح من هو هذه الصفة غير نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فإن الحواريين إنما دانوا بدينه، ودعوا الناس إلى شريعته، ولم يستقل أحد منهم بشيء من جهة نفسه قط. ومن جاء بعدهم من أتباع المسيح فهو دونهم بمراحل. ¬

(¬1) [انظر التعليقة السابقة]. (¬2) [الصف: 6]. (¬3) ورد النص في إنجيل يوحنا (14/ 30) "لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس له في شيء". (¬4) قال ابن قيم الجوزية في "هداية الحيارى " (ص 65): تضمنت هذه البشارة أصلي الدين: إثبات التوحيد، وإثبات النبوة. . . ".

[4 - إشارة القرآن والسنة إلى بشارات الكتب السابقة] وقد حكى الله - سبحانه- في القرآن الكريم ما تتضمنه الكتب المنزلة، والرسل المرسلة، من التبشير بنبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما يغني عن جميع ما ذكرناه من نصوص تلك الكتب، وإنما أردنا بالنقل منها إلزام الحجة، وتكميل الفائدة لمن كان في قلبه ريب، وفي صدره حرج. فمن ذلك قوله -سبحانه-:} الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ {(¬1)، وقال -عز وجل-:} الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ {(¬2)، وقال تعالى:} وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ {(¬3)، وقال سبحانه:} وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ {(¬4)، وقال سبحانه:} وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ {(¬5)، وقال سبحانه:} قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ {(¬6)، وقال:} أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ {(¬7). ¬

(¬1) [الأعراف: 157]. (¬2) [البقرة: 146]. (¬3) [البقرة: 144]. (¬4) [البقرة: 89]. (¬5) [الأنعام: 114]. (¬6) [الرعد: 43]. (¬7) [الشعراء: 197].

وقال سبحانه:} وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ {(¬1). وقال تعالى:} إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا {(¬2)، وقال سبحانه:} الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ {(¬3). وقال سبحانه:} فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ {(¬4). وهذا بعض ما اشتمل عليه الكتاب العزيز، وفي الأحاديث ما يؤيده ذلك ويؤكده. فمن ذلك ما رواه ابن إسحاق (¬5) قال: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل بعثته، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن معرور، وداود بن سلم: يا معشر اليهود [20] اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونحن أهل الشرك، وتخبرونا بأنه مبعوث، وتصفونه بصفته، فقال سلام بن مشكم أحد بني النضير: ¬

(¬1) [المائدة: 83]. (¬2) [الإسراء: 107 - 109]. (¬3) [القصص: 52 - 53]. (¬4) [يونس: 94]. (¬5) كما في السيرة النبوية (2/ 224).

ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكره لكم. فأنزل الله -عز وجل-:} فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ {(¬1). وروى ابن إسحاق (¬2) نحو هذه القصة التي هي سبب نزول هذه الآية من طرق، ومنها: أنه قال: حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن محمود بن لبيد، حدثنا يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة الأنصاري قال: حدثني من شئت من رجال قومي عن حسان بن ثابت الأنصاري قال: "والله إني لغلام يفعة ابن سبع سنين أو ثماني سنين أعقل كل ما سمعت، إذ سمعت يهوديا يقول على أطم (¬3) يثرب، فصرخ: يا معشر اليهود، فلما اجتمعوا عليه، قالوا: ما لك وتلك؟ قال: طلع نجم أحمد الذي يبعث الليلة ". ومن ذلك، ما كان من خروج زيد بن عمرو بن نفيل، وسؤاله لأهل الكتاب، وإخبارهم عن أن نبينا يبعث في العرب، فرجع، وأدرك النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل أن يبعث، ومات قبل البعثة. وهذا الحديث في البخاري (¬4) وغيره. وأخرج البيهقي (¬5) بإسناد صحيح من حديث أنس بن مالك أن غلاما يهوديا كان يخدم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فمرض، فأتاه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعوده، فوجد أباه عند رأسه يقرأ التوراة. فقال له رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يا يهودي! أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد في التوراة صفتي؟ ومخرجي؟ قال: لا. قال الفتى: بلى والله يا رسول ¬

(¬1) [البقرة: 89]. (¬2) كما في "السيرة" لابن هشام (1/ 168). (¬3) الأطم: القصر، وكل حصن مبني بالحجارة، وكل بيت مربع مسطح. وجمعه آطام، وأطوم. "القاموس المحيط" ص 1390. (¬4) في صحيحه رقم (3827). (¬5) في "دلائل النبوة" (6/ 272) وأطرافه [51، 2681، 2804، 2941، 2978، 3174، 4553، 5980، 6260، 7196، 7541].

الله، إنا نجد في التوراة نعتك ومخرجك، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " أقيموا هذا من عند رأسه ولوا أخاكم ". وثبت في البخاري (¬1) ومسلم (¬2) وغيرهما من حديث ابن عباس، عن أبي سفيان بن حرب لما سأله هرقل ملك الروم عن صفات رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخبره، فقال: "إن يكن ما تقوله حقا إنه نبي، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه منكم، ولو أعلم أني أخلص إليه لأحسنت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه". وفي البخاري (¬3) حكاية عن هرقل هذا: "إنه كان حزاء ينظر في النجوم، فنظر فقال: إن ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة؟ قالوا: يختن اليهود، فلا يصمك شأنهم، وابعث إلى من كان في مملكتك من اليهود فيقتلونهم، ثم وجد إنسانا من العرب فقال: انظروا أمختتن هو؟ فنظروا فإذا هو مختتن، وسأله عن العرب فقال يختتنون". وفيه (¬4) أيضا: وكان (برومية) صاحب لهرقل. كان هرقل نظيره في العلم، فأرسل إليه وسار إلى حمص، فلم يرم حمص حتى أتى كتاب من صاحبه يوافق رأيه على خروج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ومن هذا، ما ثبت في كتب السير (¬5) والحديث من إسلام النجاشي وتصديقه بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-[21] وهو في الحبشة لم يشاهد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإنما وصل إليه بعض أصحابه وسمع ما تلوه عليه من القرآن، فآمن وصدق. ¬

(¬1) في صحيحه رقم (7). (¬2) في صحيحه رقم (1773). (¬3) في صحيحه رقم (7). (¬4) أي صحيح البخاري رقم (7). (¬5) انظر: "السيرة النبوية" (1/ 414 - 418).

وثبت في الصحيح (¬1) أن ورقة بن نوفل الذي دار في طلب الدين، وسأل طوائف أهل الكتاب، لما أخبره رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بما رأى من نزول جبريل عليه في غار حراء، وما قال له، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، ليتني كنت جذعا أدرك إذ يخرجك قومك، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أومخرجي هم؟! " فقال ورقة: لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي. ومن هذا ما رواه ابن إسحاق (¬2)، قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة قال: "هل تدري عما كان إسلام أسيد وثعلبة ابني سعية، وأسد بن عبيد نفر من هذيل لم يكونوا من بني قريظة، ولا النضير. كانوا فوق ذلك. فقلت: لا. قال: فإنه قدم علينا رجل من الشام من يهود يقال له: ابن الهيبان، فأقام عندنا، والله ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس خيرا منه، فقدم علينا قبل مبعث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بسنين، وكنا إذا قحطنا، أو قل علينا المطر نقول: يا ابن الهيبان، اخرج فاستق لنا، فيقول: لا والله حتى تقدموا أمام مخرجكم صدقة، فنقول: كم؟ فيقول: صاع من تمر، أو مدين من شعير، فنخرجه. ثم يخرج إلى ظاهر حرتنا ونحن معه فيستقي، فوالله ما نقوم من مجلسه حتى تمر السحاب. وقد فعل ذلك غير مرة، ولا مرتين، ولا ثلاثة، فحضرته الوفاة، فاجتمعنا إليه فقال: يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قالوا: أنت أعلم. قال: فإنه إنما أخرجني أتوقع خروج نبي قد أظل زمانه. هذه البلاد مهاجره فاتبعوه، ولا تُسبقن إليه إذا خرج، يا معشر يهود، فإنه يبعث ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3) ومسلم في صحيحه رقم (160) من حديث عائشة. (¬2) كما في "السيرة النبوية" (3/ 272 - 273). قلت: وأخرجه أبو نعيم في "الدلائل" (1/ 23 - 24) والبيهقى في "الدلائل" (2/ 80 - 81) بسند منقطع لجهالة الشيخ من بني قريظة. وهو حديث ضعيف.

بسفك الدماء، وسبي الذراري والنساء، ممن يخالفه، فلا يمنعكم ذلك منه. ثم مات. فلما كان الليلة التي فتحت فيها قريظة قال أولئك الثلاثة الفتية، وكانوا شبانا أحداثا: يا معشر يهود! والله إنه الذي ذكر لكم ابن الهيبان. فقالوا: ما هو به. قالوا: بلى. والله إنه بصفته، ثم نزلوا فأسلموا وخلوا أموالهم وأولادهم وأهاليهم، فلما فتح الحصن رد ذلك عليهم. وأخرج البخاري في تاريخه (¬1)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (¬2) عن محمد بن عمر بن إبراهيم بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: سمعت أبي جبير يقول: لما بعث الله نبيه، وظهر أمره بمكة خرجت إلى الشام، فلما كنت ببصرى أتتني جماعة من النصارى فقالوا لي: أمن الحرم أنت؟ قلت: نعم، قالوا: تعرف هذا الذي تنبأ فيكم؟ قلت: نعم، قال: فأخذوا بيدي، فأدخلوني ديرا لهم فيه تماثيل [22] وصور. قالوا لي: انظر هل ترى صورة هذا الذي بعث فيكم؟ فنظرت فلم أر صورته. قلت: لا أرى صورته. فأدخلوني ديرا أكبر من ذلك الدير فيه صور أكثر مما في ذلك الدير، فقالوا لي: انظر هل ترى صورته؟ فنظرت، فإذا أنا بصفة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصورته، وإذا أنه بصفة أبي بكر وصورته وهو آخذ بعقب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فقالوا لي: انظر هل ترى صورته؟ قلت: نعم. قالوا: هو هذا [23] وأشاروا إلى صفة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قلت: اللهم نعم أشهد أنه هو. قالوا: أتعرف هذا الذي أخذ بعقبه؟ قلت: نعم. قالوا: تشهد أن هذا هو صاحبكم، وأن هذا الخليفة من بعده. وقريب من هذه القصة (¬3) ما رواه موسى بن عقبة بن هشام بن العاص، ونعيم بن عبد الله، ورجل آخر قد سماه، بعثوا إلى ملك الروم زمن أبي بكر قال: فدخلنا على جبلة بن ¬

(¬1) (1/ 179). (¬2) (1/ 384 - 385). (¬3) انظر "دلائل النبوة" للبيهقي (6/ 386).

الأيهم وهو بالغوطة. . . فذكر الحديث. وأنه انطلق بهم إلى الملك، وأنهم وجدوا عنده شبه الربعة العظيمة مذهبة، وإذا فيها أبواب صغار ففتح بابا، فاستخرج منه حريرة، وفيها صورة نوح، ثم إبراهيم، ثم أراهم حريرة فيها صورة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال: هذا آخر الأبواب، ولكني عجلته لأنظر ما عندكم. وأمثال هذا كثيرة جدا يطول المقام ببسط بعضها، فضلا عن كلها، وفي القرآن الكريم من دلائل إثبات النبوات على العموم، وإثبات نبوة نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على الخصوص ما لا يخفى على من يعرف القرآن، ويفهم كلام العرب، فإنه مصرح بثبوت نبوة جميع الأنبياء من لدن آدم إلى محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وفيه ذكر كل واحد منهم بصفته، وإلى من أُرسل، وفي أي زمان كان، مع تقديم المتقدم، وتأخير المتأخر، وذكر ما وقع لكل واحد منهم من إجابة قومه له، وامتناعهم عليه، وردهم لما جاء به، وما وقع بينه وبينهم من المقاولة والمحاولة والمقاتلة. ومن نظر في التوراة وما اشتملت عليه من حكاية حال الأنبياء من لدن آدم إلى موسى، وجد القرآن موافقا لما فيها غير مخالف لها. وهكذا ما اشتملت عليه التوراة، مما اتفق لموسى وبني إسرائيل في مصر مع فرعون، وما كان من تلك الحوادث من الآيات البينات التي جاء بها، ومن تلك العقوبات التي عوقب بها فرعون وقومه، ثم ما كان من بني إسرائيل مع موسى من بعد خروجهم من مصر إلى عند موت موسى، مع طول تلك المدة، وكثرة تلك الحوادث. فإن القرآن حكى ذلك كما هو، وذكره بصفته من غير مخالفة، ثم ما كان من الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى إلى عند قيام المسيح. فإن القرآن الكريم حكى قصصهم، وما جرى لهم، وما قالوه لقومهم، وما قاله قومهم لهم، وما وقع بينهم من الحوادث، وكان ما حكاه القرآن موافقا لما في كتب نبوة أولئك الأنبياء من غير مخالفة. ثم هكذا ما حكاه القرآن عن نبوة المسيح، وما جرى له وأحواله، وحوادثه، فإنه موافق لما اشتمل عليه الإنجيل من غير مخالفة.

ومعلوم لكل عاقل يعرف أحوال نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان أميا لا يقرأ، ولا يكتب، وكان منذ ولد إلى أن بعثه الله -عز وجل- بين قومه، وهم قوم مشركون، لا يعرفون شيئا من أحوال الأنبياء، ولا يدرون بشيء من الشرائع، ولا يخالطون أحدا [24] من اليهود والنصارى، ولا يعرفون شيئا من شرائعهم، وإن عرفوا فردا منها، فليس ذلك إلا في مثل ما هو متقرر بينهم يعملون به في عباداتهم ومعاملاتهم باعتبار ما يشتهر عنهم في ذلك، كما يبلغ بعض أنواع العالم عن البعض الآخر. فإنه قد يبلغهم بعض ما يتمسكون به في دينهم باعتبار اشتهار ذلك عنهم. وأما العلم بأحوال الأنبياء، وما جاءوا به، وإلى من بعثهم الله، وما قالوا لقومهم، وما أجابوهم به، وما جرى بينهم من الحوادث كلياتها وجزئياتها، وفي أي عصر كان كل واحد منهم، وإلى من بعثه الله، وكون هذا النبي كان متقدما على هذا، وهذا متأخرا عن هذا، من كثرة عددهم، وطول مددهم، واختلاف أنواع قومهم واختلاف ألسنتهم وتباين لغاتهم، فهذا أمر لا يحيط بعلمه إلا الله -عز وجل-. ولولا اشتمال التوراة على حكاية أحوال من قبل موسى من الأنبياء لانقطع علم ذلك عن البشر، ولم يبق لأحد منهم طريق إليه ألبتة، فلما جاءنا هذا النبي العربي الأمي المبعوث من بين طائفة مشركة تعبد الأوثان، وتكفر بجميع الأديان، قد دبروا دنياهم بأمور جاهلية، "تلقاها الآخر عن الأول، وسمعها اللاحق من السابق، لا يرجع شيء منها إلى ملة، من الملل الدينية، ولا إلى كتاب من الكتب المنزلة، ولا إلى رسول الأنبياء المرسلة، بل غاية علمهم، ونهاية ما لديهم ما يجري بين أسلافهم من المقاولة والمقاتلة، وما يحفظونه من شعر شعرائهم، وخطب خطبائهم، وبلاغات بلغائهم، وجود أجوادهم وإقدام أهل الجرأة والجسارة منهم، لا يلتفتون مع ذلك إلى دين، ولا يقبلون على شيء من أعمال الآخرة، ولا يشتغلون بأمر من الأمور التي يشتغل بها أهل الملل، فإن راموا مطلبا من مطالب الدنيا، ورغبوا في أمر من أمورها، قصدوا أصنامهم، وطلبوا حصولها منها، وقربوا إليها بعض أموالهم، ليبلغوا بذلك إلى مقاصدهم ومطالبهم.

وكان هذا النبي العربي الأمي لا يعلم إلا بما يعلمون، ولا يدري إلا بما يدرون. بل قد يعلم الواحد منهم المتمكن من قراءة المكتوب، وكتابة المقروء بغير ما يعلمه هذا النبي. فبينما هو على هذه الصفة بين هؤلاء القوم البالغين في الجهالة إلى هذا الحد جاءنا هذا الكتاب العظيم، الحاكي لما ذكرناه من تفاصيل أحوال الأنبياء وقصصهم، وما جرى لهم مع قومهم على أكمل حال، وأتم وجه. ووجدناه موافقا لما في تلك الكتب، غير مخالف لشيء منها. كان هذا من أعظم الأدلة الدالة على ثبوت نبوته على الخصوص، وثبوت نبوة من قبله من الأنبياء على العموم. ومثل دلالة هذا الدليل لا يتيسر لجاحد، ولا لمكابر، ولا لزنديق مارق أن يقدح فيها بقادح، أو يعارضها بشبهة من الشبه كائنة ما كانت إن كان ممن يعقل ويفهم [25]، ويدري بما يوجبه العقل من قبول الأدلة الصحيحة التي لا تقابل بالرد، ولا تدفع بالمعارضة، ولا تقبل التشكيك، ولا تحتمل الشبهة. ومع هذا فقد كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الأمي المبعوث بين هؤلاء يصرح بين ظهرانيهم ببطلان ما هم عليه، ويزيف ما هم فيه أبلغ تزييف، ويقدح فيه أعظم قدح، ويبين لهم أنهم أعداء الله، وأنهم مستحقون لغضبه وسخطه وعقوبته، وأنهم ليسوا على شيء. فبهذا السبب صاروا جميعا أعداء له، يطعنون عليه بالمطاعن التي يعلمون أنه منزه عنها، مبرأ منها كقولهم: إنه كذاب، وإنه مجنون، وإنه ساحر. فلو علموا أنه تعلم من أحد من أهل الكتاب. أو أخذ عن فرد من أفرادها، لجاءوا بهذا المطعن بادئ بدء، وجعلوه عنوانا لتلك المطاعن الكاذبة، بل لو وجدوا إلى ذلك سبيلا لعولوا عليه، ولم يحتاجوا إلى غيره. فلما لم يأتوا بذلك، ولا تكلموا به، ولا وجدوا إليه سبيلا، علم كل عاقل أنه لم يتعلم من أحد من اليهود، ولا من النصارى، ولا من غير هاتين الطائفتين. إذا لم يطعن عليه بذلك هؤلاء الذين هم قومه وقد ولد بينهم، وعاش في ديارهم، يخالطهم، ويخالطونه، ويواصلهم ويواصلونه، ويعرفون جميع أحواله، ولا سيما من كان

من قرابته منهم الذين صاروا له بعد البعثة أشد الأعداء، وأعظم الخصوم، كأبي لهب، وأمثاله، فإنه لا شك، ولا ريب أنه لا يخفى عليهم، ما هو دون هذا من أحواله. وأيضا لو كان قد تعلم من أحد من أهل الكتاب، لم يخف ذلك على أهل الكتاب الذين صرح لهم بأنهم إن لم يؤمنوا به فهم من أعداء الله، ومن المستحقين لسخطه، وعقوبته، وأنهم على ضلالة، وأنهم قد غيروا كتابهم، وحرفوه، وبدلوه، وأنهم أحقاء بلعنة الله وغضبه. فلو كان له معلم منهم، أو من أمثالهم من أهل الكتاب، لجعلوا هذا المطعن عليه مقدما على كل مطعن يطعنونه به من تلك المطاعن الكاذبة، بل كان هذا المطعن مستغنيا عن كل ما طعنوا به عليه؛ لأن مسافته قريبة، وتأثره ظاهر، وقبول عقول العامة له من أهل الكتاب، ومن المشركين أيسر من قبولها لتلك المطاعن الكاذبة التي جاءوا بها. هذا معلوم لكل عاقل، لا يشك فيه شاك، ولا يتلعثم عنده متلعثم، ولا يكابره فيه مكابر. فلما لم يطعن عليه أحد منهم بشيء من ذلك علمنا علما يقينا انتفاء ذلك، وأنه لم يتعلم من أحد منهم. وإذا تقرر هذا البرهان الذي هو أوضح من شمس النهار أنه لم يكن له معلم من اليهود، ولا من النصارى، ولا من غيرهم، ممن له علم بأحوال الأنبياء، فلم يبق إلا أن يكون اطلع بنفسه منفردا عن الناس على مثل التوراة والزبور والإنجيل. ونحو ذلك من كتب الأنبياء. وقد علمنا علما يقينا بأنه كان أميا [26] لا يقرأ المكتوب، ولا يكتب المقروء. ثبت هذا بالنقل المتواتر عن أصحابه، مع عدم مخالفة المخالفين له في ذلك، فإنه لم يسمع عن واحد منهم أنه نسب إليه أنه يقدر على قراءة المكتوب، أو كتابة المقروء، وحينئذ انتفت هذه الطريقة أعني كونه اطلع على الكتب المتقدمة بنفسه منفردا عن الناس، وإنما قلنا منفردا عن الناس لأنا لو فرضنا قدرته على ذلك في محضر أحد من الناس لم يخف ذلك على أتباعه، ولا على أعدائه.

فإذا انتفت قدرته على قراءة المكتوب من حيث كونه أميا، وانتفى اطلاع أحد من الناس على شيء من ذلك علمنا أنه لم يأخذ شيئا من ذلك لا بطريق التعليم، ولا بطريق المباشرة منه لتلك الكتب، ولم يسمع عن أحد، لا من أتباعه، ولا من أعدائه، أنه كان بمكة من يعرف أحوال الأنبياء وقصصهم، وما جاءوا به من الشرائع، ولا كان بمكة من كتب الله -سبحانه- المنزلة على رسله شيء، ولا كانت قريش ممن يرغب إلى ذلك أو يطلبه، أو يحرص على معرفته، ومع هذا فقد كان أعداؤه من كفار قريش يعترفون بصدقه، ويقرون بأنهم لم يجربوا عليه كذبا، وفي حديث ابن عباس في الصحيحين (¬1) وغيرهما في قصة سؤال هرقل لأبي سفيان أنه قال له: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال أبو سفيان: لا. وفي الصحيحين (¬2) وغيرهما من حديث عبد الله بن مسعود أن سعد بن معاذ لما قال لأمية بن خلف أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذكر أنه سيقتل فقال ذلك لامرأته. فقالت والله ما يكذب محمد، وفي رواية أخرى أن أمية قال أيضا: والله ما يكذب محمد، وعزم على ألا يخرج خوفا من هذا. وأخرج البخاري في صحيحه (¬3) من حديث ابن عباس أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لقريش: "لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ " قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا. وأخرج البخاري في تاريخه (¬4)، وأبو زرعة في دلائله، وابن إسحاق (¬5) أن أبا طالب لما ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7) ومسلم في صحيحه رقم (1773) وقد تقدم. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3632). (¬3) رقم (4770) وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (208). (¬4) (4/ 1\ 50 - 51 رقم 230) من حديث عقيل بن أبي طالب. (¬5) أورده الهيثمى في "مجمع الزوائد" (6/ 15): وقال: رواه الطبراني في "الأوسط" و"الكبير" إلا أنه قال من جلس بدل مكان (كبس) وأبو يعلى باختصار في أوله. ورجال أبي يعلى رجال الصحيح. ا هـ.

قال للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يكف عن قريش، فقال: والله ما أقدر على أن أدع ما بعثت به، فقال أبو طالب لقريش: " والله ما كذب قط فارجعوا راشدين ". وأخرج ابن مردويه في كتاب التفسير، وأبو يعلى الموصلي في مسنده، وعبد ابن حميد، أن عتبة بن ربيعة قال لقريش: " وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب ". [5 - إخباره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمغيبات من دلائل النبوة] ومن أعظم دلائل نبوته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي يجد الجاحدون إلى جحدها سبيلا، ولا يمكن إسنادها إلى تعليم بشر، ولا نسبتها إلى سحر أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسأل عن أمور ماضية يتعنته بها أهل الكتاب والمشركون ن فينزل جبريل في تلك الحالة فيخبره بها في الموضع الذي سألوه فيه، من غير أن يفارقه أو يذهب إلى أحد من الناس يستعلم. وذلك كسؤالهم له عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الروح، ونحو ذلك من الأمور التي غالبها غير مذكور في التوراة ونحوها، بل قد يخبرهم ابتداء بشيء من أحوال الأنبياء، لم يكن في التوراة التي هي مرجع أهل الملل في تعرف أحوال الأنبياء من لدن آدم إلى موسى. وذلك كقصة هود، وصالح، وشعيب، وكثير من أحوال إبراهيم، وإسحاق، وإسماعيل، ويعقوب، ويوسف، ومثل قصة الخضر مع موسر، ومثل أحوال سليمان كقصة البساط، وقصة العفريت، وقصة الهدهد، ف'ن هذه لم تكن في التوراة، ولم يسمع عن أحد من أهل الكتاب أنه رد ذلك، أو كذبه، بل انبهروا، وأعجبوا منه. وفي صحيح البخاري (¬1) من حديث أنس قال: جاء عبد الله بن سلام [27] إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[بعد] مقدمه المدينة، فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمها إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ والولد ينزع إلى أمه أو إلى أبيه؟ قال: أخبرني جبريل آنفا، قال عبد الله: ذاك عدو اليهود من الملائكة. ¬

(¬1) في صحيحه رقم (3911).

أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام يأكله أهل الجنة، فزيادة كبد الحوت. وأما الولد، فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إلى أبيه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إلى أمه. فقال عبد الله بن سلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله. وفي صحيح مسلم (¬1) من حديث ثوبان قال: كنت قائما عند رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فجاء حبر من أحبار اليهود، وقال: السلام عليك يا محمد، فدفعته دفعة كاد يصرع منها، فقال: لم تدفعني؟ قال: قلت: ألا تقول: يا رسول الله، قال إنما سميته باسمه الذي سماه به أهله، فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ينفعك شيء إن حدثتك؟ قال: أسمع بأذني فنكث بعود معه، فقال له: سل. فقال اليهودي: أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: في الظلمة دون الحشر، قال: فمن أول الناس إجازة؟ قال: "فقراء المهاجرين". فقال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون؟ قال: زيادة كبد نون. قال: وما غذاؤهم على أثره؟ قال: ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها. قال: فما شرابهم عليه؟ قال: من عين فيها تسمى سلسبيلا. قال: صدقت. قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي، أو رجل أو رجلان. قال ينفعك إن حدثتك؟ قال: أسمع بأذني. قال: جئت أسألك عن الولد. قال: ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا. فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله. فقال اليهودي: صدقت، وإنك لنبي، ثم انصرف. فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إنه سألني هذا الذي سألني عنه، وما أعلم شيئا منه، حتى أتاني به الله تعالى. ¬

(¬1) (1/ 252 رقم 315).

وأخرج أبو داود الطيالسي (¬1) عن ابن عباس، قال: حضرت عصابة من اليهود يوما إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالوا: يا رسول الله، حدثنا عن خلال نسألك عنها، لا يعلمها إلا نبي، فقال: سلوني عما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة الله وما أخذ يعقوب على نبيه إن أنا حدثتكم بشيء تعرفونه صدقا، لتتابعوني على الإسلام. قالوا: لك ذلك. قال: فسلوني عما شئتم. قالوا: أخبرنا عن أربع خلال: أخبرنا عن الطعام الذي حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة. وأخبرنا عن ماء الرجل كيف يكون الذكر منه حتى يكون ذكرا، وكيف تكون الأنثى منه حتى تكون أنثى. وأخبرنا كيف هذا النبي في النوم؟ ومن وليك من الملائكة؟ فقال: عليكم عهد الله وميثاقه لئن أنا أحدثكم لتتابعوني؟ فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق. قال: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل -يعقوب- مرض مرضا شديدا طال سقمه فيه، فنذر لله نذرا لئن شفاه الله من سقمه ليحرم من أحب الشراب إليه، وأحب الطعام إليه؟، وكان أحب الشراب إليه ألبان الإبل، وأحب الطعام إليه لحوم الإبل. فقالوا: اللهم نعم. فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اللهم اشهد عليهم. قال: فأنشدكم الله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن ماء الرجل غليظ وأبيض، وأن ماء المرأة رقيق أصفر، فأيهما علا كان الولد والشبه له بإذن الله؟ قالوا: اللهم نعم. قال: اللهم اشهد. قال: أنشدكم بالله [28]، الذي لا إله إلا هو، وأنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن هذا النبي تنام عيناه، ولا ينام قلبه؟ قالوا: اللهم نعم. قال: اللهم اشهد. قالوا: أنت الآن حدثنا من وليك من الملائكة؟ فعندها نجامعك أو نفارقك. ¬

(¬1) في مسنده (356 - 357 رقم 2731).

قال: وليي جبريل -عليه السلام-، ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه. قالوا: فعندها نفارقك، لو كان غيره لاتبعناك وصدقناك قال: فما يمنعكم أن تصدقوه؟ قالوا: إنه عدونا من الملائكة، فأنزل الله:} قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ {(¬1). ففي هذه الأحاديث اعتراف هؤلاء السائلين من اليهود أن تلك المسائل التي سألوه عنها لا يعلمها إلا نبي، وقد أخبرهم بما سألوه وصدقوا في جميع ذلك، فاندفع بذلك شك كل جاحد، وبطل عنده ريب كل ملحد. 6 - القرآن معجزة الرسول الخالدة: واعلم أن دلائل نبوة نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يطول تعدادها، ويتعسر ذكرها. وقد صنف أهل العلم في ذلك مصنفات مبسوطة مشتملة على كثير منها. ولو لم يكن منها، إلا هذا الكتاب العزيز الذي جاء به من عند الله - سبحانه- مشتملا على مصالح المعاش والمعاد، وتحدى به فرسان الكلام، وأبطال البلاغة، وأفراد الدهر في العلم هذه اللغة العربية، وقال لهم: ليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين. ثم قال لهم:} فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {(¬2) ثم قال لهم:} فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ {(¬3). فلم يقدروا على ذلك، وكاعوا عنه، وعجزوا على رؤوس الأشهاد، وكان أكابر بلغائهم، وأعاظم فصحائهم، إذا سمعوا القرآن، اعترفوا بأنه لا يشبه نظمهم، ولا نثرهم، وأقروا ¬

(¬1) [97 - 98]. (¬2) [هود: 13]. (¬3) [البقرة: 23].

ببلاغته كما قال الوليد بن المغيرة لما سمع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقرأ:} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {. (¬1) فقال: أعد، فأعاد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما يقول هذا بشر" (¬2). وروى ابن إسحاق (¬3) من حديث ابن عباس قال: قام النضر بن الحارث فقال: يا معشر قريش، والله لقد نزل بكم أمر ما ابتليتم بمثله. لقد كان محمد فيكم غلاما حدثا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم به، قلتم ساحر!! لا والله ما هو بساحر، قد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم. وقلتم كاهن، لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وسمعنا سمعهم. وقلتم شاعر، لا والله ما هو بشاعر، لقد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلها بهزجه ورجزه وقريضه. وقلتم مجنون. لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا المجنون. فما هو بخنقه، ولا تخليطه. يا معشر قريش. انظروا في شأنكم؛ فإنه- والله- قد نزل بكم أمر عظيم (¬4). وروي عن الوليد بن المغيرة (¬5) نحو هذا، وروى ابن إسحاق أيضًا أن أبا جهل (¬6) قال: إني لأعلم أن ما يقول محمد حق. ولكن بني قصي قالوا: فينا الندوة، فقلنا: نعم، فينا الحجابة فقلنا: نعم. فينا السقاية: فقلنا نعم. وفي لفظ: "تنازعنا نحن وبنو عبد ¬

(¬1) [النحل: 90] (¬2) أخرجه ابن إسحاق كما في "السيرة النبوية" (1/ 334 - 336) معلقا، وانظر "الدر المنثور" (7/ 329 - 331). (¬3) كما في "السيرة النبوية" (1/ 369 - 370) معلقا. (¬4) كما في "السيرة النبوية" (1/ 362 - 364). (¬5) كما في "السيرة النبوية" (1/ 369 - 370) معلقا. (¬6) أخرجه البيهقي في " دلائل النبوة " (2/ 207).

مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، ثم إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به، ولا نصدقه أبدا. دع عنك ما حصل للإنس من استعظام أمر القرآن، والتعجب منه وتصديقه!! هؤلاء الجن قد وقع منهم ذلك كما حكاه الله -سبحانه- عنهم في كتابه [29]. وفي الصحيحين (¬1) من حديث ابن عباس قال: انطلق رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ. وقيل: حيل بين الشياطين، وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبن خبر السماء وأرسلت علينا الشهب. قالوا: ما ذاك إلا من نبأ حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة، فوجدوا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا:} إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا {(¬2). فأنزل الله -عز وجل- على نبيه محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:} قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ {(¬3). والأحاديث في هذا كثيرة جدا. واعلم أنه قد صنف جماعة من الحفاظ في دلائل النبوة مصنفات اشتملت على أنواع مما فيه الدلالة على نبوة نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعضه يحصل عنده العلم الضروري، فضلا عن كلها. فمن المصنفين في ذلك، الإمام أبو بكر بن عبد الله بن أبي الدنيا، والإمام أبو إسحاق الحربي، والإمام أبو جعفر الفريابي، والإمام أبو زرعة الرازي، والإمام أبو ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4921) ومسلم في صحيحه رقم (149/ 449). (¬2) [الجن: 1، 2]. (¬3) [الجن: 1].

القاسم الطبراني، والإمام أبو الشيخ الأصبهاني، والإمام أبو نعيم الأصبهاني، والإمام أبو بكر البيهقي والإمام أبو الفرج ابن الجوزي، والإمام أبو عبد الله المقدسي وغير هؤلاء. [7 - عود إلى الإخبار بالغيبيات كدلائل على نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] ولو لم يكن من دلائل نبوته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا ما وقع من الإخبار بالأمور الغيبية التي وقعت كما أخبر به، ولم يتخلف شيء منها، وهي كثيرة جدا وقد اشتمل القرآن الكريم على شيء من ذلك كقوله - عز وجل-:} هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ {(¬1). فوقع صدق هذا الخبر، وأظهر الله- سبحانه- دين الإسلام على جميع الأديان. وكذا قوله:} غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ {(¬2). فوقع ما أخبر به القرآن بعد المدة التي ذكرها، وذلك معلوم لا يختلف فيه الناس. وكذا قوله -سبحانه- في شأن اليهود:} ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ {(¬3) وقد كان هذا كما أخبر به القرآن، فإنهم ما زالوا تحت الذلة والمسكنة في جميع أقطار الأرض، لم يجتمع لهم جيش، ولا انتصروا في موطن من المواطن، ولا ثبتت لهم دولة قط، بل كل طائفة منهم في جميع بقاع الدنيا مضطهدون ¬

(¬1) [الفتح: 28]. (¬2) [الروم: 1 - 4]. (¬3) [آل عمران: 112].

متمسكنون، يسلمون الجزية إلى غيرهم، ويذلون لمن جاورهم. وكذلك قوله -سبحانه-} قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ {(¬1). وقوله:} وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ {. (¬2) وقد كان هذا، فإنه لم يعارض القرآن معارض، ولا جاء بمثله ولا بمثل بعضه أحد، لا من مسلم، ولا كافر، ولا من إنس، ولا جن [30]، وقد نفى -سبحانه- أن يفعلوا ذلك كما قال:} فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ {(¬3). فأخبر سبحانه، أنهم لن يفعلوا، ولم يقع ما يخالف هذا النفي المؤكد ألبتة. وقال -سبحانه-:} قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {(¬4). وقال مخاطبا لليهود:} قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ {(¬5) وقد كان هذا، فإنه لم يسمع أن يهوديا تمنى الموت إلى هذه الغاية، فإن اليهود الموجودين على ظهر البسيطة إذا قال لهم قائل: تمنوا الموت لم يتمنوه أبدا، ولا يساعد على ذلك واحد منهم قط. وقال سبحانه:} لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا {(¬6). ¬

(¬1) [الإسراء: 98]. (¬2) [البقرة: 23]. (¬3) [البقرة: 24]. (¬4) [الجمعة: 6]. (¬5) [البقرة: 94 - 95]. (¬6) [الفتح: 27].

ووقع هذا كما أخبر به -سبحانه- فدخلوا المسجد آمنين محلقين ومقصرين، كما وعدهم. وهكذا قوله:} إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا {(¬1) وقد دخل الناس في دين الله أفواجا. وما قبض -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا بعد أن دخل جميع العرب في دين الله، ولم يبق أحد منهم على الكفر. ومن ذلك ما وقع من إخباره- سبحانه- عن أمور مستقبلة، وكانت كما أخبر به، وذلك كثير جدا، كإخباره عن بعض الكفار بأنه لا يؤمن، وأنه من أهل النار كأبي لهب، فإنه قال فيه:} سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ {(¬2) فمات على الكفر. وقال في الوليد:} سَأُصْلِيهِ سَقَرَ {(¬3)، فمات على الكفر. وقد ثبت في الصحيحين (¬4) وغيرهما (¬5) من حديث حذيفة. أنه قال: قام فينا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مقاما، ما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته، فأراه فأذكره، كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه. وناهيك هذا، فإن الأخبار بجميع الحوادث المستقبلة إلى قيام الساعة أمر عظيم. وقد كان حذيفة راوي هذا الحديث مرجعا للصحابة في معرفة أحوال الفتن، ومعرفة أهل ¬

(¬1) [النصر: 1 - 3] (¬2) [المسد: 3] (¬3) [المدثر: 26] (¬4): أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6604) ومسلم في صحيحه رقم (2891). (¬5) كأبي داود في السنن رقم (4240).

النفاق، وتمييز أهل الحق من أهل الباطل، لما حفظ في هذا المقام الذي قامه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ومن ذلك سؤال عمر بن الخطاب -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له عن الفتن فقال: إن بينك وبينها بابا، فقال هل يفتح، أو يكسر؟ فقال: بل يكسر، فعرف عمر أنه الباب، وأنه يقتل. كما أخبر حذيفة من سأله عن ذلك هل علم عمر ذلك؟ فقال: نعم كما يعلم أن دون غد الليلة، فإني حدثته بحديث ليس بالأغاليط، وهذا ثابت في الصحيح (¬1). ومن ذلك ما ثبت في البخاري (¬2) أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لعدي بن حاتم: "لئن طالت لك حياة لتفتحن كنوز كسرى، فقال عدي: كسرى بن هرمز؟! فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: كسرى بن هرمز". وقد كان هذا كما أخبر به -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ففتح المسلمون مملكة كسرى بن هرمز، وأخذوا كنوزه، واستولوا على بلاده، وضربوا على رعيته الخراج والجزية. قال عدي: وكنت فيمن أتته كنوز كسرى ابن هرمز وقال له أيضًا كما في البخاري: "ولئن طالت" لك حياة لترين الظعينة، ترحل من الحيرة حتى تطوف الكعبة لا تخاف أحدا [31] إلا الله قال: قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين ذعار طيء الذين قد سعروا البلاد؟ ثم قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف إلا الله". وفي صحيح مسلم (¬3) من حديث نافع بن عتبة قال: حفظت من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أربع كلمات، أعدهن في يدي: "تغزون جزيرة العرب، يفتحها الله، ثم تغزون فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله". وقد وقعت الثلاث الكلمات الأول. وستقع الرابعة إن شاء الله. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (525) ومسلم في صحيحه رقم (144). (¬2) في صحيحه رقم (3595). (¬3) في صحيحه رقم (38/ 2900).

وفي الصحيحين (¬1) وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز، تضيء لها أعناق الإبل ببصرى"، قلت: وقد خرجت هذه النار في الحجاز في بضع وخمسين وستمائة. وأضاءت لها أعناق الإبل ببصرى. وفي صحيح البخاري (¬2) من حديث أبي بكرة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال في الحسن بن علي- رضي الله عنه -: "إن ابني هذا سيد، وسيصلح به الله بين فئتين عظيمتين من المسلمين"، قلت: وقد كان هذا، فإن الحسن أصلح بين طائفتين عظيمتين من المسلمين، وهما جيش العراق الذين كانوا معه، وجيش الشام الذين كانوا مع معاوية. وفي الصحيحين (¬3) وغيرهما من حديث أبي سعيد، وأسماء أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال في عمار بن ياسر: "تقتله الفئة الباغية"، قلت: وقد قتلته الفئة الباغية أهل الشام. وفي الصحيحين (¬4) وغيرهما عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه: أن امرأة سألت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شيئا، فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: إن جئت فلم أجدك يا رسول الله، قال جبير بن مطعم: كأنها تعني الموت، قال: إن لم تجديني، فأتي أبا بكر. قلت: وقد كان ذلك، فإنه ولي أمر المسلمين أبا بكر -رضي الله عنه- بعد موته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وفي الصحيحين (¬5) وغيرهما أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "زويت لي الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها". قلت: وقد كان ذلك ولله الحمد. وفي صحيح (¬6) مسلم، عن أبي ذر، عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: " ستفتح مصر، ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7118) ومسلم في صحيحه رقم (2902). (¬2) في صحيحه رقم (2704) وأطرافه [3629، 3746، 7109]. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (447) ومسلم في صحيحه رقم (2916). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3659) ومسلم في صحيحه رقم (2386). (¬5) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (19/ 2889) من حديث ثوبان. (¬6) (4/ 197 رقم 226/ 2543).

وهي أرض يسمى فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرا". قلت: وقد فتحت ولله الحمد في أيام الصحابة. وفي صحيح مسلم (¬1) عن عبد الله بن عمر أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا فتحت عليكم فارس والروم، أي قوم أنتم؟ قال عبد الرحمن بن عوف: نكون كما أمرنا الله. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أو غير ذلك؟ تتنافسون ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون، ثم تنطلقون في مساكن المهاجرين، فيحملون بعضهم على رقاب بعض". قلت: وقد كان هذا، فإنهم فتحوا فارس والروم، ثم وقع منهم ما ذكره -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في آخر أيام عثمان -رضي الله عنه- ثم عند قتله، ثم فيما بعد ذلك كما هو معلوم لكل عارف. وفي صحيح البخاري (¬2) من حديث سليمان بن صرد قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول حين أجلى الأحزاب عنه "الآن نغزوهم، ولا يغزونا". قلت: وقد كان ذلك، فإن كفار قريش لم يغزوا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعدها، ثم غزاهم غزوة الفتح. وثبت في الصحيحين (¬3) وغيرهما من طرق أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لذي الخويصرة: "إنه يخرج من ضئضئ هذا أقوام. . يحقر أحدكم صلاته مع صلاته "، الحديث، على اختلاف ألفاظه. وقد خرج بعد ذلك الخوارج في خلافه علي -رضي الله عنه- ثم ما زالت تخرج منهم على المسلمين طائفة بعد طائفة، ومنهم شرذمة باقية إلى الآن، يقال لهم الإباضية بأطراف الهند، لا يزالون يخرجون على المسلمين في برهم وبحرهم. وفي الصحيحين (¬4) وغيرهما أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سارر فاطمة ابنته - رضي الله عنها- ¬

(¬1) (4/ 2274 - 2275 رقم 7/ 2962). (¬2) رقم (4110). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4351) ومسلم في صحيحه رقم (1064) وقد تقدم. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3623، 3625) ومسلم في صحيحه رقم (2450).

[32] في مرض موته أنه سيموت في ذلك المرض، ثم أخبرها أنها أول أهله لحوقا به. قلت: وقد مات -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في ذلك المرض، وماتت فاطمة - رضي الله عنها- بعده بستة أشهر. وفي الصحيحين (¬1) وغيرهما من حديث أنس: "أن أم حرام بنت ملحان طلبت من رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يدعو لها أن تكون ممن يركب البحر فدعا لها ". قلت: وقد ركبت البحر في زمن معاوية، فلما خرجت منه صرعت عن دابتها فماتت. وفي الصحيحين (¬2) وغيرهما من حديث أبي هريرة: أنه قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوما: "أيكم بسط ثوبه، فيأخذ من حديثي فيجمعه إلى صدره، فإنه لن ينسى شيئا سمعه؟ فبسطت بردة علي حتى فرغ من حديثه ثم جمعتها إلى صدري فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئا سمعته منه " قلت: وقد كان أبو هريرة -رضي الله عنه- أحفظ الصحابة لما يرويه، وأتقنهم لما سمعه. وفي صحيح مسلم (¬3) عن أسماء بنت أي بكر - رضي الله عنها- عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "سيكون في ثقيف كذاب ومبير" قلت: وقد كان ذلك، فالكذاب المختار بن أبي عبيد الثقفي، والمبير الحجاج بن يوسف. وفي الصحيحين (¬4) وغيرهما عن سهل بن سعد أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال يوم خيبر: "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه" قلت: وقد فتح الله خيبر على يدي من أعطاه تلك الراية وهو علي - رضي الله عنه-. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2789) ومسلم في صحيحه رقم (1912). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (119) ومسلم في صحيحه رقم (2492). (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2545) ولفظه "أن في ثقيف كذابا ومبيرا". * المبر: المهلك، الذي يسرف في إهلاك الناس. لسان العرب (4/ 86). (¬4) أخرجه البخاري رقم (3701) ومسلم في صحيحه (2406).

وفي الصحيحين (¬1) من حديث أبي هريرة قال: شهدنا مع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حنينا فقال لرجل ممن يدعي الإسلام: "هذا من أهل النار" فلما حضر القتال، قاتل الرجل قتالا شديدا، فأصابته جراحة، فقيل: يا رسول الله، الرجل الذي قلت له آنفا إنه من أهل النار، قاتل اليوم قتالا شديدا، وقد مات، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إلى النار، فكاد بعض المسلمين أن يرتاب، فبينا هم على ذلك. إذ قيل فإنه لم يمت، ولكن به جرح شديد، فلما كان الليل لم يصبر على الجرح، فقتل نفسه، فأخبر بذلك النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله ". ولهذا الحديث (¬2) ألفاظ هذا حاصلها. وفي رواية "أن بعض الصحابة ما زال يرصده بعد أن سمع من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه من أهل النار حتى قتل نفسه ". وثبت في الصحيحين (¬3) وغيرهما من حديث علي: "أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمره وأمر الزبير بن العوام، وأبا مرثد الغنوي، أن ينطلقوا حتى يأتوا (روضة خاخ) فإن بها امرأة معها كتاب إلى مشركي قريش، فوجدوها ووجدوا ذلك الكتاب، من حاطب بن أبي بلتعة " قلت: والقصة مشهورة، وفيها اعتذار حاطب، ونزول قوله -سبحانه-:} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ {(¬4) الآية. وفي الصحيحين (¬5) وغيرهما من حديث أبي هريرة أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخبر بموت النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج إلى المصلى وكبر عليه أربع تكبيرات. قلت: وكان الأمر كذلك، فإنه جاء الخبر بموت النجاشي في ذلك اليوم الذي أخبرهم فيه ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (3062) ومسلم في (111). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2402) من حديث سهل بن سعد الساعدي. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3007 و3983) ومسلم في صحيحه رقم (2494). (¬4) [الممتحنة: 1] (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1245) ومسلم في صحيحه رقم (951).

رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وفي الصحيحين (¬1) من حديث حميد الساعدي، قال: خرجنا مع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غزوة تبوك فقال: "ستهب عليكم الليلة ريح شديدة، فلا يقم فيها أحد منكم، فمن كان له بعير، فليشد عقله فهب ريح شديد، فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبل طيء". وفي صحيح البخاري (¬2) أنه أرسل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الجيش في غزوة مؤتة وأمر عليهم زيد بن حارثة، وقال: "إن قتل فجعفر، وإن قتل فعبد الله بن رواحة، فقتلوا". وأخبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في اليوم الذي قتلوا فيه [33]. وفي صحيح البخاري (¬3) أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "أخبر بقتل القراء في بئر معونة، لما أخبره جبريل أنهم قد لقوا ربهم، فرضي عنهم، وأرضاهم" قلت: وقد كان ذلك قرآنا يتلى، حتى نسخ لفظه. فهذه شعبة يسيرة، من إخباره -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالأمور الغيبية التي وقعت كما أخبر به، وقد اقتصرنا من ذلك على ما في الصحيحين، وفيهما غير ذلك مما يطول بسطه، ويتسع استيفاؤه. وأما ما كان في غير الصحيحين من كتب الحديث والسير، فلا يتسع لذلك إلا مؤلف بسيط. [من الآيات والدلائل على نبوته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:] ومن دلائل نبوته وبراهين رسالته، ما وقع له من الآيات البينات، والبراهين المعجزات، فمن ذلك: انشقاق القمر، وقد نطق بذلك الكتاب العزيز، قال الله - عز وجل-:} اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ {(¬4). ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (1481) ومسلم في صحيحه رقم (1392). (¬2) في صحيحه رقم (4261) (¬3) في صحيحه رقم (4093) (¬4) [القمر: 1 - 2]

وفي الصحيحين (¬1) عن أنس " أن أهل مكة سألوا رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر مرتين". ومثله في الصحيحين (¬2) أيضًا عن ابن مسعود. وفي الصحيحين (¬3) أيضًا أن ابن مسعود قال "رأيت القمر منشقا شقين بمكة. قيل فخرج النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شقة على جبل أبي قبيس، وشقة على السويداء (¬4)، فقال كفار قريش [يا] أهل مكة، هذا سحركم ابن أبي كبشة (¬5) 0 انظروا السفار، فإن كانوا رأوا مثل ما رأيتم فقد صدق، وإن لم يكونوا رأوا مثل ما رأيتم فهو سحر، قال فسئل السفار وقدموا من كل وجه، فقالوا رأينا". وفي صحيح البخاري (¬6) عن ابن عباس أنه قال: " انشق القمر على زمان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي صحيح مسلم (¬7) عن ابن عمر في قوله تعالى:} اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ {قال: قد كان ذلك على عهد رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- انشق القمر فلقتين، فلقة ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2802) لم يخرجه البخاري هذا اللفظ (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3868) بنحوه ومسلم رقم (2802) (¬3) لم أجده هذا اللفظ قي الصحيحين. بل أخرجه البيهقي في الدلائل (2/ 265، 266 - 267) وأبو داود الطيالسي في مسنده (ص 38 رقم 295) وابن جرير في جامع البيان (13\ج27/ 85). (¬4) السويداء: موضع بالحجاز لسان العرب (3/ 231). وقال ابن حجر في الفتح (7/ 184) السويداء: ناحية خارج مكة عندها جبل (¬5) يقصد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن أبا كبشة أحد أجداده، وعادة العرب إذا انتقصت نسبت إلى جد غامض ... انظر الفتح (1/ 40) (¬6) رقم (4866) (¬7) رقم (2801)

من دون الجبل، وفلقة من خلف الجبل، فقال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " اللهم اشهد ". قلت: وقد روي في غير (¬1) الصحيحين من غير طريق هؤلاء المذكورين. ومن دلائل نبوته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صعوده (¬2) ليلة المعراج إلى ما فوق السماوات، وقد نطق بهذا الكتاب العزيز، وتواترت به الأحاديث تواترا لا يشك من له أدنى إلمام بعلم السنة، ولا ينكر ذلك إلا متزندق، وليس بيده إلا مجرد الاستبعاد، وليس ذلك مما تدفع به الأدلة، ويبطل به الضروريات وإلا لكان مجرد إنكار وقوع الشيء المبرهن على وقوعه كافيا في دفعه، وذلك خلاف العقل والنقل. وقد رفع الله- سبحانه- إلى السماء إدريس- عليه السلام-. وثبت في السفر الثاني من أسفار الملوك في التوراة، أن إيليا رفع إلى السماء، وبعض تلامذته ينظر إليه. وشاع ذلك، ولم يخالف فيه أحد من اليهود، وهذا إيليا هو المسمى في القرآن إلياس. وهكذا ثبت في الأناجيل كلها أن الله - سبحانه- رفع عيسى- عليه السلام- بعد الصلب في زعمهم كما هو محرر هنالك، ولا يخالف في ذلك أحد من النصارى. وقد نطق القرآن (¬3) الكريم بأنه رفعه إليه، ولم يصلب. وإلى ذلك ذهب بعض طوائف النصارى. والحاصل أن رفعه إلى السماء متفق عليه بين جميع المسلمين، وجميع النصارى، ولم يقع الخلاف بينهم إلا في كونه رفع قبل الصلب، أو بعده. ومن دلائل نبوته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما في الصحيحين (¬4) وغيرهما: أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة- والنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قائم يخطب- فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في السنن رقم (3289) من حديث جبير بن مطعم. (¬2) انظر صحيح البخاري رقم (4716) وانظر: تفسير ابن كثير (7/ 429). (¬3) قال تعالى: (إِنِّي مُتَوَفيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [آل عمران: 55]. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (933) ومسلم في صحيحه رقم (8/ 897) من حديث أنسى بن مالك - رضي الله عنه -.

وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا، [34] فرفع رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يده ثم قال: "اللهم أغثنا، اللهم أغثنا". قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب، وإن السماء لمثل الزجاجة، فوالذي نفسي بيده ما وضع يديه، حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته. ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة -ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائم يخطب- فقال يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها عنا، فرفع رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يده ثم قال: "اللهم حوالينا لا علينا، اللهم على الآكام، والظراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر". فما يشير بيده إلى ناحية إلا تفرجت حتى رأيت المدينة في مثل الجوبة، وسال (وادي قناة) شهرا، ولم يجئ أحد من ناحية إلا أخبر بجود. ومن دلائل نبوته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما تبت في البخاري (¬1) وغيره في قصة أبي رافع اليهودي، وأن عبد الله بن عتيك لما فرغ من قتله، انكسرت ساقه، فوصل إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: ابسط رجلك فمسحها. قال: وكأنما لم أشكها قط، والقصة مبسوطة في كتب الحديث والسير. ومن دلائل نبوته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما في البخاري (¬2) وغيره (¬3): " أنها أصابت سلمة بن الأكوع يوم خيبر ضربة في ساقه، فنفث فيها رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثلاث نفثات قال: فما اشتكيت منها حتى الساعة". ومن دلائل نبوته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما ثبت في الصحيحين (¬4) وغيرهما (¬5) من حديث جابر قال: ¬

(¬1) في صحيحه رقم (4039) (¬2) في صحيحه رقم (4206) (¬3) كأبي داود رقم (3894). كلاهما حديث يزبد ابن أبي عبيد (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3585)، ولم يخرجه مسلم (¬5) كالنسائي في السنن (3/ 102)

"كان رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا خطب يقوم إلى جذع من جذوع النخل، فلما صنع المنبر وقام عليه، سمعوا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار، حتى جاء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فوضع يده عليها، فسكنت". ولهذا الحديث طرق، وألفاظ ثابتة في الصحيحين وغيرهما. ومن دلائل نبوته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تكليم الشجر له. ومن ذلك ما في الصحيحين (¬1) وغيرهما عن معن بن عبد الرحمن قال: " سمعت أبي يقول: سألت مسروقا: من آذن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجن ليلة استمعوا القرآن؟ قال: حدثني أبوك، يعني عبد الله بن مسعود أنه قال: آذنته (¬2) بهم شجرة". ومن دلائل نبوته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما في الصحيحين (¬3) وغيرهما عن أنس "أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دعا بماء، فأتى بقدح رحراح (¬4)، فجعل القوم يتوضئون". وفي لفظ (¬5): "فانطلق رجل من القوم فجاء بقدح فيه ماء يسير"، وفي لفظ (¬6) لهما: "فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-"، وفي لفظ لهما: "فتوضأ الناس وشربوا"، وفي لفظ البخاري (¬7): " فشربنا، وتوضأنا، قلت كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة ". وفي لفظ للبخاري (¬8) أيضا: " كنا ألفا وأربعمائة أو أكثر من ذلك" وكذا لفظ مسلم (¬9)، وللحديث طرق وألفاظ في ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3859) ومسلم في صحيحه رقم (450) (¬2) آذنته: آذن بالمد: أعلم. مختار الصحاح ص 12 (¬3) أخرجه البخاري رقم (200) ومسلم رقم (2279). * رحراح: الواسع القصير الجدار (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3574). (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3574) (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3573) ومسلم في صحيحه رقم (2279) (¬7) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4152) (¬8) في صحيحه رقم (5639) (¬9) في صحيحه رقم (1856)

الصحيحين وغيرهما حاصلها أنهم شربوا وتوضئوا، وهم هذا العدد. ومن ذلك ما في الصحيحين (¬1) وغيرهما من حديث المرأة التي وجدوها ومعها مزادتان من ماء، فانطلقوا بها إلى رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فشربوا منها وهم أربعون، قد أصابهم الجهد من العطش، وملأ كل واحد منهم قربته، ولم يظهر في المزادتين نقص، فلما رجعت المرأة إلى قومها، قالت: لقد لقيت أسحر الناس. أو أنه بي كما زعم، كان من أمره (ذيت (¬2)، وذيت) فهدى الله- عز وجل- ذلك القوم بتلك المرأة فأسلمت وأسلموا. ومن دلائل نبوته-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما في الصحيحين (¬3) وغيرهما من حديث جابر: "أن شاته التي ذبحها لرسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع صاع من شعير أكل منها من كان يحفر الخندق مع رسول اله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهم ألف، وذلك لأن رسول الله بصق في البرمة، وبصق في العجين، وبارك في ذلك. قال جابر: فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه، وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو". ومن هذا في الصحيحين (¬4) وغيرهما من حديث أنس [35] في قصة أبي طلحة وامرأته أم سليم أنها أخرجت أقراصا من شعير، وعصرت عليه عكة لها، فقال فيه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما شاء الله أن يقول، ثم قال: ائذن لعشرة، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا، ثم قال ائذن لعشرة، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم كذلك حتى أكل القوم كلهم، وهم سبعون رجلا، أو ثمانون رجلا، ثم أكل رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأبو طلحة وأم سليم وأنس قال: وفضل فضلة فأهديناها لجيراننا". ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3571) ومسلم في صحيحه رقم (688) واللفظ لمسلم (¬2) ذيت وذيت. بمعنى: كيت وكيت وكذا وكذا (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4102) ومسلم رقم (39 30) لتغط: تغطي وتفور. انظر الفتح (7/ 299) (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5381) ومسلم في صحيحه رقم (2040)

ومن ذلك ما في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة (¬1)، وأبي سعيد، وسلمة بن الأكوع قالوا: "كنا في مسير لنا مع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فنفدت أزواد القوم، حتى هموا بنحر بعض حمائلهم، فقال عمر: يا رسول الله، لو جمعت ما بقي من أزواد القوم، فدعوت الله عليها! قال: ففعل، فجاء ذو البر ببره، وذو التمر بتمره، وذو النوى بنواه، فدعا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليها ثم قال: خذوا في أوعيتكم، فأخذوا في أوعيتهم، حتى ما تركوا في المعسكر وعاء إلا ملئوه، فأكلوا حتى شبعوا، وفضلت فضلة، فقال عند ذلك رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بها عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة". وفي صحيح مسلم (¬2) من حديث سلمة في غزوة خيبر قال: "أمرنا أن نجمع ما في أزوادنا (يعني من التمر) فبسط نطعا فنثرنا عليه أزوادنا، قال: فتطاولت، فنظرت فحرزته كربضة شاة، ونحن أربع عشرة مائة، فأكلنا، ثم تطاولت فحرزته كربضة الشاة". وفي البخاري (¬3)، قال: " فتطاولت لأحزره كم هو، فحرزته كربضة المعز، ونحن أربع عشرة مائة، فأكلنا حتى شبعنا جميعا، ثم حشونا جريبنا". ومن ذلك ما في صحيح مسلم (¬4) من حديت جابر، قال: "جاء رجل إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يستطعمه، فأطعمه شطر وسق شعير، فما زال الرجل يأكل منه، وامرأته وضيفهما، حتى كاله، فأتى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: لو لم تكله لأكلتم منه، ولقام لكم". ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2484) ومسلم في صحيحه رقم (27) من حديث أبي هريرة. (¬2) رقم (1729) (¬3) في صحيحه رقم (2484) بنحوه مختصرا (¬4) في صحيحه رقم (2281)

وفي صحيح مسلم (¬1) أيضًا من حديث جابر "أن أم مالك كانت تهدي للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في (عكة) لها سمنا، فيأتي بنوها، فيسألون الأدم، وليس عندهم شيء، فتعمد إلى الذي كانت تهدي فيه للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فتجد فيها سمنا، فما زال يقيم لها أدم بنيها حتى عصرته، فأتت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: عصرتيها؟ قالت: نعم. قال: لو تركتيها ما زال قائما ". ومن ذلك ما في الصحيحين (¬2) وغيرهما من حديث أنس قال: "تزوج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زينب، فدخل بأهله، قال: فصنعت أمي أم سليم حيسا فجعلته في تور من حجارة، فقالت: يا أنس، اذهب بهذا إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذهب فادع فلانا، وفلانا، وفلانا، ومن لقيت، وسمى رجالا، قال: فدعوت من سمى، ومن لقيت، قال الجعد، وهو الراوي عن أنس عددكم كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمائة، قال: فقال لي رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يا أنس، هات (التور) قال: فدخلوا حتى امتلأت الصفة والحجرة، فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليتحلق عشرة عشرة، وليأكل كل إنسان مما يليه، قال: فأكلوا حتى شبعوا، قال فخرجت طائفة، ودخلت طائفة، حتى أكلوا كلهم، يا أنس: ارفع فرفعت. فما أدري حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت" الحديث. ومن ذلك ما في البخاري (¬3) من حديث أبي هريرة "أنه أهدي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدح لبن، فدعا أصحاب الصفة، فشرب كل واحد منهم منه حتى روي، ثم شرب أبو هريرة حتى روي، ثم شرب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-". ¬

(¬1) في صحيحه رقم (2280) (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5163) ومسلم في صحيحه رقم (1428). (¬3) في صحيحه رقم (6452). وأخرجه الترمذي في السنن رقم (2477) وقال: هذا حديث حسن صحيح.

ومن ذلك ما في الصحيحين (¬1) من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، قال: "كنا مع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثلاثين ومائة، فأشترى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شاة وذبحها لهم، وأمر بسوار البطن أن يشوي. قال: وأيم الله ما في الثلاثين والمائة إلا من قد حز له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حزة من سوار بطنها، إن كان شاهدا أعطاه، وإن كان غائبا خبأ له، فجعل منها قصعة، وأكلوا [36] أجمعون، فشبعنا "وذكر أنهم حملوا الفضلة على البعير. ومن دلائل نبوته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما في صحيح البخاري (¬2) من حديث جابر، أن والده استشهد وترك دينا، وترك ست بنات، فلما حضر جداد النخل، قال أتيت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقلت: قد علمت أن والدي قد استشهد يوم أحد، وترك دينا كثيرا، وإني أحب أن يراك الغرماء، قال: اذهب فبيدر كل ثمر عدى ناحية، ففعلت، ثم دعوته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلما نظروا إليه، كأنهم أغروا بي تلك الساعة. فلما رأى ما يصنعون، أطاف حول أعظمها بيدرا ثلاث مرات، ثم جلس عليه، ثم قال: ادع لي أصحابك، فما زال يكيل لهم حتى أدى إليهم عن والدي أمانته، وأنا أرضى أن يؤدي إليهم عن والدي أمانته، ولا أرجع إلى أخواتي بتمرة، فسلم الله البيادر كلها حتى إني لأنظر إلى البيدر الذي كان عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كأنها لم تنقص تمرة واحدة. وفي رواية (¬3) أن جابر قد كان عرض على أهل الدين أن يأخذوا التمر كله فأبوا. ومن دلائل نبوته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما في الصحيحين (¬4) وغيرهما عن جابر بن سمرة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لا ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2618) ومسلم في صحيحه رقم (2056). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2396). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2395). (¬4) لم يخرجه البخاري وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (2277)، وأخرجه الترمذي رقم (3624). وقال: هذا حديث حسن غريب. قلت: وهو حديث صحيح.

أعرفه الآن". وفي الصحيحين (¬1) وغيرهما من حديث أنس قال: صعد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أحدا ومعه أبو بكر وعمر عثمان، فرجف بهم الجبل، فقال: "اسكن وضربه برجله، فليس عليك إلا نبى، وصديق، وشهيدان ". وفي صحيح مسلم (¬2) من حديث سلمة بن الأكوع: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غزوة حنين قبض قبضة من الأرض، واستقبل به وجوههم فقال: شاهت الوجوه فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة فولوا مدبرين فهزمهم الله. وفي صحيح مسلم (¬3) أيضًا من حديث العباس بن عبد المطلب أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخذ حصيات فرمى بها وجوه الكفار، ثم قال: "انهزموا ورب الكعبة". ومن دلائل نبوته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما نطق به القرآن الكريم من تأييد الله -سبحانه- له بالملائكة، كقوله:} أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ {(¬4)، وقوله:} أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ {(¬5)، وقوله:} فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا {(¬6)، وقوله} وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا (¬7). ونحو ذلك من الآيات. وقد شوهدت الملائكة ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3675) ورقم (3686 و3697). (¬2) رقم (1777). (¬3) رقم (1775). (¬4) [الأنفال: 9] (¬5) [آل عمران: 124 - 125] (¬6) [الأحزاب: 9] (¬7) [التوبة: 26]

في بعض حروبه _ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ _. ففي الصحيحين (¬1) عن ابن عباس قال: "بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة سوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا، فنظر إليه، فإذا قد حطم أنفه، وشق وجهه كضربة السوط، فأحضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري، فحدث بذلك رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة"، وذلك يوم بدر. وفي الصحيحين (¬2) وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال رأيت يوم أحد عن يمين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعن يساره رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشد القتال، ما رأيتهما قبل ذلك اليوم، ولا بعده، يعني جبريل وميكائيل -عليهما السلام-. وفي البخاري (¬3) عن أنس قال: "كأني أنظر إلى الغبار ساطعا في زقاق بني غنم موكب جبريل- عليه السلام- حين سار رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بني قريظة [37]. ومن دلائل نبوته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما في الصحيحين (¬4) وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: "قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قيل نعم؟ قال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، فما جاءهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، فقيل له ما لك؟ قال: إن بيني وبينه لخندقا من نار، وهولا، وأجنحة". ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3992 - 3995) مختصرا. ومسلم في صحيحه رقم (1763). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4054) مختصرا. ومسلم في صحيحه رقم (2306). (¬3) في صحيحه رقم (4118). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (4958) مختصرا ومسلم في صحيحه رقم (2797).

وفي الصحيحين (¬1) وغيرهما من حديث البراء بن عازب وقصة هجرته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أبي بكر قال: "واتبعنا سراقة بن مالك بن جعشم، ونحن في جدد من الأرض، فقلت: يا رسول الله، آتينا، فقال: لا تحزن إن الله معنا، فدعا عليه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فارتطمت فرسه إلى بطنها فقال: "علمت أنكما دعوتما علي، فادعوا لي، ولكما أن أرد عنكما الطلب، فدعا الله فنجا" الحديث. وفي الصحيحين (¬2) وغيرهما من حديث سراقة نفسه قال: "ساخت يدا فرسي في الأرض، حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان" الحديث. ومن دلائل نبوته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما في الصحيحين (¬3)، وغيرهما عن جابر قال: غزونا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزاة قبل نجد، فأدركنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في القائلة في واد كثير العضاة، فنزل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها، وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر. فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن رجلا أتاني، وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي، والسيف صلتا في يده، فقال: من يمنعك مني؟ قلت: الله، فشام السيف (¬4) فها هو ذا جالس، ثم لم يعرض لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان ملك قومه، فانصرف حين عفا عنه، فقال: لا أكون في قوم هم حرب لك". ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3615) بنحوه. ومسلم في صحيحه رقم (3009). * جدد من الأرض: هو المستوي من الأرض وعند مسلم (جلد) وهما روايتان. * صحيح مسلم (18/ 150 نووي). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3906) معلقا. قلت: وأخرجه البيهقي في "الدلائل" (2/ 485 - 489) موصولا. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2913) بنحوه، ومسلم في صحيحه رقم (843) واللفظ له. (¬4) شام السيف: أي أغمده. والشيم من الأضداد، يكون سلا وإغمادا.

وفي الصحيحين (¬1) وغيرهما عن أنس قال: كان رجل نصراني فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي _ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعاد نصرانيا، فكان يقول: ما يدري محمد، إلا ما كتبت له، فقال رسول الله: اللهم اجعله آية، فأماته الله، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذه فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم، نبشوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا له، وأعمقوا ما استطاعوا، فأصبحوا وقد لفظته الأرض، فقالوا: مثل الأول، فحفروا له، فأعمقوا، فلفظته الثالثة، فعلموا أنه ليس من فعل الناس فتركوه منبوذا". وفي الصحيحين (¬2) وغيرهما عن ابن مسعود قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وعقبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن ربيعة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط " قال ابن مسعود: فوالذي بعث محمدا بالحق، لقد رأيت الذي سمى صرعى يوم بدر سحبوا إلى القليب، قليب بدر، وكان هذا الدعاء منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهم لما وضعوا عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلا الجزور. ومن إجابة دعائه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما ثبت في الصحيحين (¬3) وغيرهما أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا لأنس بن مالك فقال: " اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته " فكان من أكثر الأنصار مالا وولدا، حتى روي عنه أنه دفن لصلبه إلى عند مقدم الحجاج بن يوسف بضعا وعشرين ومائة. وفي الصحيحين (¬4) وغيرهما أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعبد الرحمن بن عوف: " بارك الله لك، أولم ولو بشاة " فبلغ مال عبد الرحمن مبلغا عظيما، قال الزهري: إنه تصدق بأربع مائة ألف دينار، وحمل على خمسمائة فرس في سبيل الله، خمسمائة بعير في سبيل الله، وكان عامة ماله في التجارة. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3617) ومسلم في صحيحه رقم (2781). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (240) بنحوه. ومسلم في صحيحه رقم (1794). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6344) ومسلم في صحيحه رقم (2480). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3780).

وفي الصحيحين (¬1) وغيرهما أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا لابن عباس فقال: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل"، فكان له من العلم والدراية بالتفسير [38] ما هو معلوم عند كل عارف، حتى كانوا يسمونه البحر. وفي صحيح البخاري (¬2) أن عبد الله بن هشام كان يخرج إلى السوق فيتلقاه ابن الزبير، وابن عمر فيقولان: أشركنا، فإن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد دعا لك بالبركة فيشركهم، فربما أصاب الراحلة كما هي، فيبعث بها إلى المنزل. وفي صحيح مسلم (¬3) من حديث سلمة: "أن رجلا، أكل عند رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشماله، فقال له: كل بيمينك، فقال: لا أستطيع، قال: لا استطعت، ما منعه إلا الكبر قال: فما رفعها إلى فيه". واعلم -أرشدني الله وإياك- أن دلائل نبوة نبينا محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يحيط بها القلم، وإن طال شوطه، وقد صنف أهل العلم في ذلك مؤلفات مبسوطة مطولة كما عرفناك سابقا، وأرشدناك إلى مصنفات بعض المصنفين في هذا الشأن، ولم نذكرها هنا إلا نزرا يسيرا، وقدرا حقيرا مما في الصحيحين أو أحدهما، وقد بقي فيها غير ما ذكرنا كمالا يخفى على العارف بها، ولو ذكرنا جميع ما فيها وما في بقية الأمهات الست، وما في سائر كتب الحديث والسير لجاء من ذلك كتابا مطولا، ومؤلفا حافلا. ولكن لما كان الغرض هاهنا هو التنبيه على اتفاق جميع الشرائع على إثبات الثلاثة المقاصد التي جمعنا هذا المختصر لها كان فيما ذكرنا ما يفيد ذلك، ولو كتبنا هاهنا الآيات القرآنية الدالة على كل مقصد من هذه المقاصد لأتينا على غالب الآيات القرآنية، وعلى كثير من الأحاديث الصحيحة. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (75). ومسلم في صحيحه رقم (2477). (¬2) رقم (2501 و2502). (¬3) في صحيحه رقم (2021).

ثم اعلم ثانيا أن دلائل نبوة سائر الأنبياء قد اشتمل على كثير منها القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وكذلك التوراة والزبور، وسائر كتب أنبياء بني إسرائيل، والإنجيل، وإنما اقتصرنا على ذكر بعض دلائل نبوة نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأن ثبوته بهذه الدلائل وأمثالها تستلزم ثبوت نبوة جميع الأنبياء- عليهم السلام- لأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أخبرنا بأنهم أنبياء الله -سبحانه- كما اشتمل على ذلك القرآن الكريم، والسنة المطهرة. فثبوت نبوته يستلزم ثبوت نبوة سائر الأنبياء. ووجه ذلك أن ثبوت نبوته يستلزم ثبوت جميع ما أخبر به وصحته. ومما أخبر به ثبوت نبوة جميع الأنبياء، فكان في ذكر دلائل نبوته ما يغني عن ذكر دلائل نبوة سائر الأنبياء، ولهذا اقتصرنا على ذلك. وبمجموع ما ذكرناه تقرر اتفاق الشرائع جميعها على إثبات تلك المقاصد الثلاثة وهو المطلوب. والحمد لله أولا وآخرا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه. كان الفراغ من تحرير هذا المختصر يوم الأربعاء ليلة السابع والعشرين من شهر ربيع الآخر من شهور سنة إحدى وثلاثين بعد المائتين والألف. بقلم مؤلفه المفتقر إلى رحمة الله ومغفرته ورضوانه محمد بن علي الشوكاني- غفر الله لهما-.

المقالة الفاخرة في اتفاق الشرائع على إثبات الدار الآخرة

المقالة الفاخرة في اتفاق الشرائع على إثبات الدار الآخرة تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب وصف المخطوط 1 - عنوان الرسالة: المقالة الفاخرة في اتفاق الشرائع على إثبات الدار الآخرة. 2 - موضوع الرسالة: (الإيمان باليوم الآخر). 3 - أول الرسالة بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. إياك نعبد وإياك نستعين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمن، وآله الطاهرين. وبعد: يقول الحقير محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما أنه وقف على ما قاله ابن أبي الحديد شارح " فج البلاغة " ولفظه ... 4 - أخر الرسالة: . وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. حرره مؤلفه محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما في بعض نهار يوم السبت لعله الثاني عشر من شهر ربيع الآخر سنة (1224 هـ) حامدا لله، ومسلما ومسلما على رسوله واله. 5 - الناسخ: المؤلف رحمه الله. محمد بن علي الشوكاني. 6 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 7 - عدد الصفحات: 13 صفحة + صفحة العنوان. 8 - عدد الأسطر في الصفحة: 25 - 27 سطرا. 9 - عدد الكلمات في السطر: 11 - 13 كملة. . في هامش الصفحة الأخيرة قول الإمام الشوكاني رحمه الله: ((الحمد لله قد تعقبت هذه الرسالة رسالة مطولة سميتها: " إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات " وهي في المجلد الرابع من الفتاوى)) اهـ. قلت: وهذا يؤكد لنا أن المجلد الرابع من " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني " هو المجلد المتضمن الرسالة المشار إليها وهي " إرشاد الثقات " ولله الحمد والمنة.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، إياك نعبد وإياك نستعين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمن، واله الطاهرين. وبعد: فيقول الحقير محمد بن علي الشوكاني- غفر الله لهما- أنه وقف على ما قاله ابن أبي الحديد (¬1) شارح نهج (¬2) البلاغة، ولفظه: إن كل ما في التوراة من الوعد والوعيد فهو منافع الدنيا ومضارها، أما منافعها فمثل أن يقول: إن أطعتم باركت فيكم وكثرت من أولادكم، وأوسعت أرزاقكم، واستبقيت اتصال نسلكم، ونصرتكم على أعدائكم، فإن عصيتم وخالفتم اخترمتكم، ونقصت من إخائكم، وشتت كلكم، ورميتكم بالجوع والمخافة، وأقللت أولادكم، وأشمت بكم أعداءكم، ونصرت عليكم خصومكم، وشردتكم في البلاد، وابتليتكم بالمرض والذل، ونحو ذلك، ولم يأت في التوراة وعد ووعيد بأمر يتعلق. مما بعد الموت. وأما المسيح فإنه صرح بالقيامة، وبعث الأبدان، ولكن جعل العقاب روحانيا، وكذلك الثواب ... فأما العقاب فبالوحشة والفزع وتخيل الظلمة، وخبث الأنفس وكدرها، وخوف شديد. وأما الثواب فما زاد على أن قال أنهم يكونون كالملائكة، وربما قال يصعدون إلى ملكوت السماء، وربما قال أصحابه وعلماء ملته: الصفاء واللذة، والسرور والأمر من زوال اللذة الحاصلة لهم هذا هو قول المحققين منهم. وقد أثبت بعضهم نارا خفيفة، لأن لفظة النار وردت في الإنجيل، فقال محققوهم نارا قلبية- أي نفسية روحانية. وقال الآخرون نارا كهذه النار ومنهم من أثبت عقابا غير النار، وهو بدني فقال: الرعدة وصرير (¬3) الأسنان. وأما الجنة يعني ................................................. ¬

(¬1) لم أعثر عليه. (¬2) تقدمت ترجمته (ص 503). (¬3) قال المسيح في الإنجيل: " بحق أقول لكم إنه سيأتي قوم من المشرق والمغرب فيجلسون مع إبراهيم. =

الأكل (¬1) والشرب والجماع (¬2)، فإنه لم يقل به منهم قائل أصلا، لأن الإنجيل صرح بانتفاء (¬3) ذلك في القيامة تصريحا لا يبقى بعده ريب لمرتاب. وخاتم الأنبياء- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أثبت المعاد على وجه محقق كامل أكمل مما ذكره الأولون، فقال: " إن البدن والأنفس معا مبعوثان، ومحل منهما حظ في الثواب والعقاب " (¬4). ثم نقل بعد هذا كلام ابن سيناء (¬5) وحاصله: إن الشريعة المحمدية أثبتت المحاد الروحاني والجسماني، والنعيم لهما والعقاب، وأنكر على النصارى حيت أثبتوا بعث الأبدان وخلوها عن المطعم والملبس والمشرب والمنكح. واعلم أن أصل هذه المقالة الملعونة، والرواية عن التوراة والإنجيل المكذوبة مقالات ¬

= وإسحاق ويعقوب وملكوت السماء ومخرج بنو الملكوت إلى الظلمة البرانية، هنالك يكود البكاء وصرير الأسنان " إنجيل متي (8/ 10 - 12). (¬1) قال المسيح: " اعملوا لا للطعام الفاني، بل للطعام الباقي في الحياة المؤبدة لأن ذلك قد ختمه الله ". إنجيل يوحنا (6/ 27). (¬2) قال المسيح عليه السلام: " من ترك زوجة أو بنيئ أو حقلا من أجلى فإنه يعطى في الجنة مائة ضعف ويرث الحياة الأبدية ". إنجيل متى (19/ 25) ومرقس (10/ 29 ,30). (¬3) وما قدمنا من أقوال المسيح برد على أبي الحديد وقد صرح المسيح بأن المؤمن يعطى في الجنة مائيي زوجة وكما يعطى مائتي حقل. (¬4) قال ابن تيمية في مجموع فتاوى (14/ 167): والجنة والمار التي تفتح وتغلق غير ما في القلوب، ولكن ما في القلوب سبب له ودليل عليه وأثر من آثاره وقد قال تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتمى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا} [النساء: 10] وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الذي يضرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " يأكلون ويشربون ما سيصير نارا، وقيل: هو سبب النار. أخرجه البخاري رقم (5634) ومسلم رقم (2065). (¬5) تقدمت ترجمته (ص 553).

قالها جماعة من متزندقة اليهود والنصارى، كابن ميمون (¬1) اليهودي الأندلسي وأضرابه. قال في تاريخ النصراني في ترجمة ابن ميمون المذكور [1] أنه صنف رسالة في إبطال المعاد الجسماني، وأنكر عليه مقدمو اليهود فأخفاها إلا عمن يرى رأيه. قال: ورأيت جماعة من يهود بلاد الإفرنج بأنطاكية وطرابلس يلعنونه، ويسمونه كافرا ... انتهى. فهذه رواية نصراني عن طائفة من اليهود أكم كفروا ابن ميمون، ولعنوه بسبب هذه المقالة. وقد وقع من هذا الملعون التحريف لما قي التوراة كما سيأتيك بيانه. وها نحن نملي عليك ما في التوراة، ثم ما ني الزبور، ثم ما في الإنجيل، حتى تعلم أن الأمر على خلاف ما قاله زنادقة الملة اليهودية، والملة النصرانية، وتلفى ذلك عنهم زنادقة الملة الإسلامية استرواجا منهم لما يتضمن من القدح في شرائع الله- سبحانه-. أما التوراة فصرح الله (¬2) - سبحانه- باسم الجنة في أول التوراة عند الكلام على ابتداء خلق العالم ولفظه: فغرس الله جنانا في عيذا شرقيا وأبقا، ثم ادم الذي خلق، وأنبت الله ثم كل شجرة وحسنة، فنظرها وطيب مأكلها، وشجرة الحياة في وسط الجنان، وشجرة معرفة الخير والشر، وكان فر يخرج من عيذا ليسقي الجنان، ومن ثم يتفرق ويصير أربعة رؤس، اسم أحدها النيل، وهو المحيط بجميع بلد زويلة الذي ثم الذهب، وذهب ذلك البلد جيد، ثم اللؤلوء وحجارة البنور واسم النهر الثاني جيحون، وهو المحيط بجميع بلد الحبشة، واسم النهر الثالث الدجلة وهو السائر في شرقي الموصل، والنهر الرابع هو الفرات ... انتهى. فهذه هي الجنة التي ورد ذكرها في القران الكريم، وصح عن النبي - صلى الله عليه واله وسلم- أن هذه الأربعة صحيحه رقم (3207). ومسلم ي صحيحه رقم (164/ 264) وأحمد (4/ 207 - 208) وأبو عوانة (1/ 120 - 124) من طرق عن قتادة عن أنس بن مالك بن صعصعة مرفوعًا بحديث الإسراء بطوله: " وحدث نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه رأى أربعة أنهار، يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت: يا جبريل، ما هذه الأنهار؟ قال: أما النهران الباطنان فنهران قي الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات ". (¬3) الأنهار خارجة منها كما في دواوين الإسلام وغيرها. ¬

(¬1) تقدت ترجمته (496). (¬2) انظر: سفر التكوين والإصحاح الثاني والثالث. (¬3) يشير إلى الحديث الذي أحرجه البخاري في صحيحه رقم (5610) معلقا ووصله البخاري في

وقد اعترف هذا رأس زنادقة اليهود، وهو موسى بن ميمون القرطبي الأندلسي المتقدم ذكره في تأليفه المسمى: " المسمى في الفقه (¬1) "، فقال: إن هذا الموضع الذي هو جن عيذا هو موضع خصيب من كرة الأرض، كثير المياه، والأثمار، وسيكشفه الله للناس في المستقبل، فيتنعمون به. ولعل يوجد فيه نبات غريب جدا، عظيم النفع [2]، كثير اللذة، غير هذه المشهورة عندنا، وهذا كله غير ممتنع ولا بعيد، بل قريب الإمكان. بمشيئة الله تعالى. ثم اعترف بذلك اعترافا آخر فقال في كتاب اللغات (¬2) في حرف العن: إن معنى هذا الاسم الذي هو عيذا: هو التلذذ والتنعم، ومنه حميت لذات الآخرة، ونعيم أنفس الصالحين الكاملين جن عيذا. ثم قال في هذا الكتاب في تفسير جن عيذا: أي أن تلك هي جنات النعيم، وفردوس السعادة وقد شرحوا معنى جن عيذا وماهية التلذذ فيها، وحال من وصل إليها واستقر في ظل غروسها، وشرب عذوبة أنهارها، وأكل من لذيذ أثمارها. قالوا: والصالحون باقون فيها ليستلذوا من نور الله. وقال النبي يشيعا في حقيقة ذلك التلذذ قال: لا عين تقدر تراه إلا علم الله تعالى ... انتهى كلام ابن ميمون في ذلك الكتاب وقد اقتصرنا على نقل كلام هذا الملعون ابن ميمون في شأن الجنة، لأنه هو الذي قال بتلك المقالة التي اقتدى به فيها مثل ابن سينا ومن بعده ولكن انظر ما الفرق بين كلامه وبن كلام ابن أبي الحديد من أهل الإسلام، وتصريحه في كلامه الذي نقلناه عنه سابقا بأنه لم يأت في التوراة وعد وعيد يتعلق. مما بعد الموت، وإن كل ما في التوراة من ¬

(¬1) تقدم التعريف به في الرسالة السابقة " إرشاد الثقات " (9). (¬2) انظر " تاح العروس " (5/ 154).

ذلك إنما هو منافع الدنيا ومضارها. ثم قال في كلامه السابق: وأما الجنة يعني (¬1) الأكل والشرب والجماع، فإنه لم يقل به قائل منهم أصلا، لتعلم أنه قد جازف في هذا النقل غاية المجازفة، وافترى الكذب أو قلد من افتراه. وأما ما زعمه من تصريح الإنجيل بنفي ذلك فسيأتيك- إن شاء الله- عن الإنجيل ما تعلم به أن ما حكاه عنه كذب صراح. وإذا تقرر لك تصريح التوراة باسم الجنة وصفتها فهي أيضًا قد صرحت باسم النار، ولفظ التوراة شول واش. قال علماء اليهود: ومعنى اللفظين جهنم. وفي موضع آخر مع التوراة: وإن الله خلق خلقا، وتفتح الأرض فاها فينزلون إلى الثرى، هؤلاء القوم الذين عصوا الله. وقال: أحجب رحمتي عنهم، واريهم ما عاقبتهم، وكما أنهم كادوني بغير إله، وأغضبوني بغروراتهم، كذلك إني أكيدهم، لأن النار تنقدح من غصبي، وتتوقد إلى أسفال الثرى فتأكل الأرض ونباتها، حتى تستطلع أساسات الجبال، كذلك أزيد عليهم شرورا وسهامي [3] أفرقها فيهم. وقال النبي يشعيا (¬2): مزكي الظالم لأجل الرشا، وزكية الزكي يزيلوها عنه، لذلك ¬

(¬1) قال ابن تيمية في " مجموعة الرسائل الكبرى رسالة الإكليل " (2/ 11): واليهود والصابئون من المتفلسفة وغيرهم فإنهم ينكرون أن يكون في الجنة أكل وشرب ولباس ونكاح ويمنعون وجود ما أخبر به القرآن. والرد عليهم هو أن ما ورد في القرآن الكريم مر وصف ملذات الجمة أن حقيقتها ليست مماثلة لما في الدنيا، بل بينهما تبابن عظيم مع التشابه في الأسماء، فنحن نعلمه إذا خوطبنا بتلك الأسماء من جهة القدر المشترك بينهما ولكن تلك الحقائق خاصية لا يدركها في الدنيا، ولا سبيل إلى إدراكما لها لعدم إدراك عينها أو نطيرها من كل وجه وتلك الحقائق على ما هي عليه. (¬2) " وهو أشيعا ومعنى الاسم (خلاص يهوه) وهو من أشهر أنبياء العهد القديم إلا أنه لم يعرف عنه إلا القليل، وقد اختلف اليهود والنصارى في سفره، وفي مقدمة أسفار هوشع، وعاموص، وميخا ما يدل على أن هؤلاء معاصرين لأشعيا ... ". "الكتاب المقدس " عندهم (ص 92) لما العهد القديم.

كما يأكل القش لسان النار، والهشيم ما تجليه اللهيب عناصرهم يكون كالدف، وفروعهم تصعد كالغبار إن زهدوا في توراة رب الجيوش. وقول قدوس العالم: رفضوا به أن الهاوية موعودة من أمس، وهي أيضًا أصلحت للملوك، عمقها فأوسعها نارا وحطبا كثيرا، وأمر الله كواد من كبريت متشعل فيها. وقال: ويخرجون وينظرون إلى أجسام القوم الذين كفروا بي، إن دودهم لا تموت، ونارهم لا تطفى، فيصيرون عبرة لباقي البشرين. وفي هذا المقدار من التوراة ما يغنيك عن غيره، وفيها غير هذا كثير، فمن ذلك كما في الفصل الثامن عشر من السفر الثالث من التوراة ولفظه: احفظوا رسومي وأحكامي، فإن جزاء من عمل جما أن يحيا الحياة الدائمة ... انتهى. ولا حياة دائمة قي الدنيا بل في الآخرة. وفي الفصل الخامس من وصايا سليمان- عليه السلام- ما لفظه: لأن أرجل الغباوة تحذر الذي يستعملونها، وتخطفهم بعد الموت إلى الجحيم انتهى. وفي الفصل السادس والعشرين من نبوة أشعيا ما لفظه: تقوم الموات، ويستيقظ الذين في القبور. انتهى. وفي الفصل الثاني عشر من نبوة دانيال ما لفظه: وكثير من الهاجعين في تراب الأرض يستيقظون هؤلاء لحياة أبدية، وهؤلاء لتعبير وخزي أبدي. انتهى. وأما في الزبور فنصوص كثيرة. فمنها في التصريح بذكر النار في المزمور الثامن والأربعين من الزبور ما لفظه اجعلوا في الجحيم مثل الغنم والموت يرعاهم، ويسود عليهم المستقيمون بالغداة، ومعونتهم تتلى في الجحيم، ومن مجدهم أقصوا، بل إن الله ينقذ نفسي من يد الجحيم إذا أخذني. انتهى. وفي المزمور الرابع والخمسين من الزبور ما لفظه: ليأت الموت عليهم، وينحدروا إلى الجحيم ... انتهى. وفي المزمور الحادي والثمانين من الزبور ما لفظه: قام قي مجمع الآلهة بجكم إلى متى يقضون

ظلما، ويأخذون بوجوه الخطاة احكموا لليتيم والفقير، خلصوه من يد الخاطيء، لم يعلموا ولم يفهموا، لأنهم في الظلمة يسلكون. وفي الإنجيل ذكر الجنة والنار في مواضع كثيرة، ففي الفصل التاسع من الإصحاح الأول من الإنجيل الذي جمعه القديس متى (¬1) ما لفظه: ومن قال يا أحمق وجبت عليه نار جهنم، فإن قدمت قربانا على المذبح، وذكرت هناك أن أخاك واجد عليك شيئا فدع قربانك هناك أمام المذبح، وامض أولا فصاع أخاك، وحينئذ ائت وقدم قربانك. كن متفقا مع خصمك سريعا ما دمت معه في الطريق، لئلا يسلمك الخصم إلى الحاكم، والحاكم يسلمك إلى المستخرج، وتلقى في السجن. الحق أقول لك: إنك لا تخرج [4] من هناك حتى تؤدي آخر فلس عليك، قد جمعتم أنه قيل للأولين: لا تزن وأنا أقول لكم إن كل من نظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى ها في علبه، وإن شككتك عينك اليمين فاقلعها وألقها عنك فهو خير لك أن تهلك أحد أعضائك، ولا يلقى جسدك كله في جهنم، وإن شككتك يدك اليمين فاقطعها وألقها عنك بم فإنه خير لك أن هلك أحد أعضائك ولا يلقى جساك كله في جهنم ... انتهى. وفي الفصل الثامن والعشرين منه ما لفظه: ولا تخافوا ممن يقبلون الجسد، ولا يستطيعون أن يقبلوا الروح، لكن خافوا بالحرى ممن يقدر أن يهلك النفس والجسد في جهنم .... . انتهى. وفي الفصل التاسع والثلاثين منه (¬2) ما لفظه: هكذا يكون في منتهى هذا الدهر يرسل ملائكته، ويجمعون من مملكته كل الشكوك، وفاعلي الإثم، فيلقونهم في أتون النار، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان. ومثل هذا في الفصل الأربعين منه. فانظر كيف صرح هاهنا بحشر الأجساد فقال: ولا يلقى جسدك كله في جهنم. ثم ¬

(¬1) "الإنجيل متى" (5/ 25 - 26). وانظر "إنجيل لوقا " (13/ 57 - 59). (¬2) أي " إنجيل متى" (5/ 6 - 7).

صرح بجمع الملائكة لها، وإلقائها في النار، فإن هذا لا يكون إلا للأجساد، وهكذا البكاء وصرير الأسنان لا يكون إلا من جسم. وفي الفصل الخامس والخمسين منه صرح بذكر دخول النار المؤبدة، ويذكر دخول جهنم. وفي الفصل الثالث والسبعين منه ما لفظه: فإن الزنادقة الذين بقولون ليست قيامة ... انتهى. فانظر إلى هذا النص الصريح بالقيامة، وإلى التصريح بأن الذين يقولون لا قيامة هم الزنادقة، وكفى بهذا دافعا قي وجه من زعم أن إثبات القيامة إنما جاءت به شريعة الإسلام، ولم يكن مذكورا في الشرائع المتقدمة عليها فيقال له: بل الشرائع كلها متفقة على إثبات القيامة، ولكنه أنكر ذلك زنادقة في الشريعة السابقة كما أنكره زنادقة في هذه الشريعة المحمدية. وفي الفصل الثالث والثمانون منه ما لفظه: إن الرب يقول لأهل الميسرة يوم القيامة: اذهبوا يا ملاعين إلى النار المؤبدة المعدة لإبليس وملائكته. انتهى. وفي هذا [5] التصريح ما لا يحتاج معه إلى زيادة. وإلى هنا انتهى النقل من الإنجيل للمسيح- عليه السلام- الذي جمعه متى .. وفي إنجيل المسيح- عليه السلام- الذي جمعه القديس مرقص في الفصل الثلاثين منه ما لفظه: وإن شككتك يدك فاقطعها فخير لك أن تدخل إلى الحياة، أعسم (¬1) من أد تكون بيدين وتذهب إلى جهنم، إلى النار التي لا تطفئ، حيث دودهم لا تموت، ونارهم لا تطفئ. وكرر هذا اللفظ في هذا الفصل. ¬

(¬1) العسم: يبس في المرفق والرسغ تعوج منه اليد والقدم. وعمسم عسما وهو أعسم، والأنثى عسماء، والعسم: انتشار رسغ اليد من الإنسان. " لسان العرب " (9/ 212).

وفي الفصل الحادي عشر من الإنجيل للمسيح- عليه السلام- الذي كتبه يوحنا (¬1) ما لفظه: أقول لكم: إن من يسمع كلامي ويؤمن. ممن أرسلني فله الحياة المؤبدة، وليس يحضر إلى الدينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة. وفي هذا الفصل أيضًا ما لفظه: فلا تعجبون من هذا، فإنه ستأتي ساعة يسمع فيها جميع من في القبور صوته، فيخرج الذين عملوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة ... انتهى. وفي الفصل الخامس عشر منه (¬2) ما لفظه: اعملوا لا للطعام البائد، بل للطعام الباقي للحياة المؤبدة. انتهى. وفي هذا التصريح بالطعام في الحياة المؤبدة ما يتبين لك به بطلان ما قاله ابن أبي الحديد في كلامه الذي حكيناه سابقا أن الإنجيل صرح بانتفاء ذلك، يعني الأكل والشرب تصريحا لا يبقى بعده ريب لمرتاب. وليت شعري أين وجد هذا التصريح؟ ومن رواه له؟ فقد كررنا مطالعة الأناجيل الأربعة فلم نجد من ذلك شيئا قط، بل وجدنا ما يخالفه كما جمعت فهو كذب على الإنجيل ليس في ريب لمرتاب. وفي الفصل السادس عشر منه ما لفظه: يكون له الحياة المؤبدة، وأنا أقيمه في اليوم الآخر. انتهى. وفي الفصل السابع عشر منه ما لفظه: الحق والحق أقول لكم أن من يؤمن له حياة دائمة .. انتهى. وفي الإنجيل الذي جمعه لوقا (¬3) في الفصل العشرين منه ما لفظه: فأما أن الموتى ¬

(¬1) "إنجيل يوحنا " (6/ 27). (¬2) أي " إنجيل يوحنا " (4/ 35 - 36). (¬3) " إنجيل لوقا " (23/ 43).

يقومون فقد أنبأ بذلك موسى. وفي الفصل الثالث والعشرين منه ما لفظه: إن المسيح قال للمصلوب الذي امن به: إنك تكون معي في الفردوس. ولنقتصر على هذا [6] المقدار من النقل عن كتب الله السابقة ونذكر لك هاهنا طرفا مما وعدناك به من تحريفات (¬1) زنديق الملة اليهودية ابن ميمون المتقدم ذكره فنقول: قال اللين في كتابه المسمى بالمشنى بعد اعترافه فيه كما حكيناه عنه سابقا ما لفظه: اعلم أنه كما لا يدرك الأعمى الألوان، ولا يدرك كذلك الأصم الأصوات، ولا العنين شهوة الجماع، كذلك لا تدرك الأجسام اللذات النفسية، وكما لا يعلم الحوت استقص النار لكونه قي ضده كذلك لا يعلم في هذا العالم الجسماني بلذات العالم الروحاني، بل ليس عندنا بوجه لذة غير لذات الأجسام، وإدراك الحواس من الطعام والشراب والنكاح، وما سمي غير ذلك فهو عندنا غير موجود، ولا نميزه، ولا ندركه على بادي الرأي إلا بعد تحذق كثير، وإنما وجما ذلك لكوننا في العالم الجسماني في لذات، فلا ندرك إلا لذته. فأما اللذات النفسانية فهي دائمة غير منقطعة، وليس بينها وبن هذه اللذة نسبة بوجه من الوجوه. ولا يصح لنا قي الشرع ولا عند الإلهيين من الفلاسفة أن نقول: إن الملائكة والكواكب والأفلاك ليس لها لذة، بل لهم لذة عظيمة جدا لما عقلوه من الباري- عز ¬

(¬1) يستدل النصارى على ذلك بما ورد في " إنحيل متى " (22/ 22 - 35) و"مرقس " (12/ 18 - 25) و"لوقا" (20/ 27 - 35): (حين جاء إلى المسيح صدوقون- وهم فرقة مر اليهود- يسألونه عن امرأة تزوجت بسبعة أزواج واحدا تلو الآخر فلمن من السبعة تكون زوجة له في يوم القيامة؟ فقال المسيح: تضلون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله لأنهم في القيامة لا يزوجون ولا يتزوجون بل يكونون كملائكة الله في السماء). . وهذا النص من تحريف وأباطيل النصارى: فكما نعرف أن الأنبياء عليهم السلام قد بشروا المؤمنين بالجنة وما فيها من الملذات والنعيم. وكما ورد في نصوص التوراة والإنجيل عندهم قبل التحريف.

وجل-، وهم بذلك في لذة غير منقطعة، ولا لذة جسمانية عندهم، ولا يدركونها، لأنه ليس لهم حواسي مثلنا يدركون به ما ندرك نحن، وكذلك نحن إذا تزكى منا من تزكى، وصار بتلك الدرجة بعد الموت لا يدرك اللذات الجسمانية، فلا يريدها كما لا يريد الملك عظيم الملك أن ينخلع من ملكه ليرجع يلعب بالكرة في الأسواق. وقد كان في زمان ما بلا محالة يفضل اللعب بتلك الكرة على الملك، وذلك في حين صغر سنه عند جهله بالأمرين جميعا، كما نفضل نحيط اليوم اللذة الجسمانية على النفسانية. وإذا تأملت أمرها بين اللذتين نجد خساسة اللذة الواحدة، ورفقه الثانية، ولو في هذا العالم. وذلك أنا [7] نجد أكثر الناس يحملون أنفسهم وأجسامهم من الشقاء والتعب ما لا مزيد عليه، كي ينال رفعة، أو يعظمه الناس، وهذه اللذة ليست بلذة طعام أو شراب، وكذلك كثير من الناس يؤثر الانتقام من عدوه على كثير من لذات الجسم، وكثير من الناس يجتنب أعظم ما يكون من اللذات الجمسمانية خشية أن يناله في ذلك جزاء، أو خشية من الناس. فإذا كانت حالتنا في هذا العالم الجسماني هكذا فناهيك بالعالم النفساني، وهو العالم المستقبل الذي تعقل أنفسنا من الباري فيه مثلما تعقل الأجرام العلوية أو أكثر، فإن تلك اللذة لا تتجزأ، ولا تتصف، ولا يوجد مثل تمثل تلك اللذة، بل كما قال النبي داود متعجبا من عظمتها: ما أكثر وما أجزل خيرك الذي خبأته للصالحين الطائعين لأمرك!. وهكذا قال العلماء: العالم المستقبل ليس فيه لا أكل ولا شرب ولا غسل ولا دهن ولا نكاح، بل الصالحون باقون فيه، ويستلذون من نور الله تعالى، يريدون بذلك أن تلك الأنفس تستلذ مما تعقل من الباري كما تستلذ سائر طبقات الملائكة مما عقلوا من وجوده- سبحانه- فالسعادة والغاية القصوى هي الوصول إلى هذا الملأ الأعلى (¬1)، ¬

(¬1) والمسلمون أثبتوا جميع أنواع اللذات: سطعا، وبصرا، وشما وذوقا ولمسا، للروح والبدن جميعا وكان هذا هو الكمال: لا ما يثبته أهل الكتاب ومن هو شر منهم من الفلاسفة الباطنية، وأعظم لذات الآخرة لذة النظر إلى الله سبحانه وتعالى. كما قي الحديث الصحيح: " فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه أخرجه مسلم رقم (297) والترمذي رقم (2552) وابن ماجه رقم (187) وهو حديث صحيح. وهو نمرة معرفته وعبادته في الدنيا، فأطيب ما في الدنيا معرفته، وأطيب ما في الآخرة النظر إليه سبحانه ولهذا كان التجلى يوم الجمعة في الآخرة على مقدار صلاة الجمعة في الدنيا. " مجموع فتاوى " لابن تيمية (14/ 163).".

والحصول في هذا الحد هو بقاء للنفس كما وصفنا إلى مالا نهاية له ببقاء الباري- جل اسمه- وهذا هو الخير العظيم الذي لا خير يقاس به، ولا لذة يمثل بها، وكيف يمثل الدائم. مما لا نهاية له بالشيء المنقطع! وهو قوله تعالى في نص التوراة: لكي يطيب لك في العالم الذي كله طيب، وتطيل أيامك في العالم الذي كله طائل، والشقاوة الكاملة هو انقطاع النفس وتلافها، وأن لا يحصل باقية، وهو القطع المذكور في التوراة كما يبن. وقال انقطاعا ينقطع من هذا العالم، وينقطع من العالم المستقبل، فكل من خلد إلى اللذات [8] الجسمانية، ونبذ الحق، وآثر الباطل انقطع من ذلك البقاء والعلو، ويبقى مادة منقطعة فقط. وقد قال النبي يشعيا: إن العالم المستقبل ليس يدرك بالحواس وهو قوله: لا عين تقدر أن تراه. وأما الوعد والوعيد المذكور في التوراة في لذات هذا العالم فتأويله ما أصف لك، وذلك أنه يقول لك: إن امتثلت هذه الشرائع نعينك على امتثالها والكمال فيها، ونقطع عنك العلائق كفها، لأن الإنسان لا يمكنه العبادة لا مريض، ولا جائع، ولا عاطش، ولا في فتنة، فوعد بزوال هذه كلها، وأنهم يصحون ويتذهنون حتى تكمل لهم المعرفة، ويلتحقون بالعالم المستقبل، فليس غاية التوراة أن تخصب الأرض، وتطول الأعمار، وتصح الأجسام، وإنما يعان على امتثالها هذه الأشياء كلها. وكذلك إن تعدوا كان عقابهم أن تحدت عليهم تلك العوائق كلها حتى لا يمكن أن يعملوا صالحة، فإذا تأملت هذا التأمل العجيب تجده كأنه يقول: إن فعلت بعض هذه

الشرائع. بمحبة وحرص نعينك عليها كلها، بأن نزيل عنك العوائق والموانع، وإن ضيعت منها بعضها استخفافا نجلب عليك موانع تمنعك من جميعها، حتى لا يحصل لك كلام ولا بقاء ... انتهى. فهذا خلاصه كلام الملعون ابن ميمون زنديق اليهود، وغاية ما جاء به قد أوردناه لك هاهنا لتعرف أنه لم يربطه بشيء من كلام الله- سبحانه- يصفح دليلا عليه، بل هو مجرد زندقة، والتوراة والزبور والإنجيل منادية بخلافه. وهانحن نوضح لك فسماد كلامه فنقول: أولاً: إن حصول هذه اللذة النفسانية (¬1) التي ذكرها لا تنافي حصول اللذة الجسسمانية ¬

(¬1) قال ابن تيمية في مجموع فتاوى (4/ 312 - 314): الأكل والشرب في الجنة: ثابت بكتاب الله وسنة رسوله، وإجماع المسلمين وهو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، وكذلك الطيور والقصور في الجنة بلا ريب كما وصف ذلك في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك أن أهل الجنة لا يبولون ولا يتغوطون ولا يبصقون، لم يخالف من المؤمنين بالله ورسوله أحد، وإنما المخالف في ذلك أحد رجلين إما كافر، وإما منافق. أما الكافر فإن اليهود والنصارى ينكرون الأكل والشرب والنكاح في الجنة يزعمون أن أهل الجنة إنما يتمتعون بالأصوات المطربة والأرواح الطيبة مع نعيم الأرواح، وهم يقرون مع ذلك بحشر الأجساد مع الأرواح ونعيمها وعذابها. . وأما طوائف من الكفار وغيرهم من الصابئة والفلاسفة ومن وافقهم فيقرون بحشر الأرواح فقط، وأن النعيم والعذاب للأرواح فقط. . وطوائف من الكفار والمشركين وغيرهم ينكرون المعاد بالكلية، فلا يقرون: لا معاد الأرواح، ولا الأجساد، وقد بين الله تعالى في كتابه على لسان رسوله أمر معاد الأرواح والأجساد، ورد على الكافرين والمنكرين لشيء من ذلك بيانا في غاية التمام والكمال. وأما المنافقون من هذه الأمة الذين لا يقرون بألفاظ القرآن والسنة المشهورة فإنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، ويقولون هذه أمثال ضربت لنفهم المعاد الروحاني، وهؤلاء مثل القرامطة الباطنية الدين قولهم مؤلف من قول المجوس والصابئة، ومثل المتفلسفة الصابئة المنتسبين إلى الإسلام وطائفة ممن ضاهوهم من كاتب أو متطبب أو متكلم أو متصوف. . فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين ذلك بيانا شافيا قاطعا للعذر وتواتر دلك عند أمته خاصها وعامها، وقد ناظره بعض اليهود في جنس هذه المسألة وقال: يا محمد! أنت تقول: أن أهل الجنة يأكلون ويشربون ومن يأكل ويشرب لابد له من خلاء. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رشح كرشح المسك ". أخرجه أحمد (4/ 467، 371) والحديث له اصل في الصحيحين من حديث أبي هريرة من نحير ذكر القصة. البخاري رقم (3245) ومسلم رقم (17). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها ولا يمتخطون ولا يتغوطون آنيتهم فيها الذهب، أمشاطهم من الذهب والفضة ومجامرهم الألوة ورشحهم المسك ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد يسبحون الله بكرة وعشيا". وانظر: كتاب " حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح أو صفة الجنة " لابن قيم الجوزية.

التي وردت في كتب الله- سبحانه- ... وقوله: وليست بلذة طعام أو شراب مسلم أن اللذات النفسانية ليست بلذة طعام، ولا بلذة شراب، ولكن من أين يلزم أنه لا لذة طعام ولا شراب في تلك الدار؟. فإن كان بالشرع فكتب الله جميعها تدفع [9] ذلك، كما أوضحناه في النصوص السابقة، وإن كان بالعقل فليس في العقل ما يقتضي إثبات اللذة النفسانية، ونفي اللذة الجسمانية، ولا مدخل للعقل هاهنا، ولا معول عليه وإن كان بغير عقل ولا شرع بل. بمجرد الزندقة والمروق من الأديان كلها، والمخالفة لما ورد في كتب الله- سبحانه- فبطلان ذلك مستغنٍ عن النبيان. وأما قوله بل كما قال النبي داود متعجبا من عظمتها: ما أكثر وما أجزل خيرك الذي خبأته للصالحين الطائعين لأمرك!. فهذا تعجب منه- عليه السلام- من كثرة خير الله، وجزالة ما خبأه للصالحين من عباده الطائعين لأمره في الدار الآخرة. وهو دليل على الملعون ابن ميمون لا له، فإن كلامه هذا هو ككلام سائر أنبياء الله في استعظام ما أعده الله للصالحين من عباده كما قال نبينا محمد- صلى الله عليه واله وسلم-: " في الجنة

مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر " (¬1). ومثله ما في القرآن الكريم من قوله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين} (¬2). وأما قوله: وهكذا قال العلماء: العالم المستقبل ليس فيه لا أكل ولا شرب .... إلخ. فيقال: إن أردت علماء الملة اليهودية فهم الذين لعنوك وكفروك بسبب هذه المقالة كما قدمنا، وهم يخالفونك ويثبتون المعاد الجسماني، واللذات الجسمانيه، ويكفرون من لم يثبتها كما كفروك، ويلعنونه كما لعنوك. وإن أراد علماء الملة النصرانية، أو علماء الملة الإسلامية فكذب بحت، وزور محض، تدفعه نصوص القرآن والإنجيل. أما نصوص القرآن فهو من فاتحته إلى خاتمته مصرح بالجنة والنار، وبعثة الأجسام وتنعمها بالمطعم والمشرب والمنكح وغير ذلك، أو تعذيبها. مما اشتمل عليه القران من تلك الأنواع. وأما الإنجيل فقد قدمنا سياق نصوصه. وأما احتجاجه بنص التوراة [10] بقوله: لكي يطيب لك في العالم الذي كله طيب، وتطيل أيامك في العالم الذي كله طائل. فهذا دليل على الملعون ابن ميمون لاله؛ فإن الخطاب في الدنيا. مجموع الشخص الذي هو الجسم والروح، وظاهره أنه يكون له هذا على الصفة التي خوطب، وهو عليها. ومن زعم أن يكون ذلك لبعضه فهو يدعي خلاف الظاهر، ولكن المحرف المتزندق لا مقصد له إلا التلبيس على أهل الأديان. وكذلك قوله: وقد قال النبي يشيعا أن العالم المستقبل ليسر يدرك بالحواس. وهو قوله: لا عين تقدر تراه، فإن هذا هو مثل ما قدمنا من كلام الأنبياء في استعظام ما أعد الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة. وهذا تعرف أنه لم يكن في كلام هذا الملعون الزنديق ما يتمسك به متمسك، أو يغتر به مغتر، بل هو خلاف ما في كتب الله جميعا كما قدمنا، وخلاف ما عند علماء ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (3244) ومسلم رقم (2824). (¬2) [السجدة: 17]

الملل، بل خلاف ما أقر به هو في كلامه السابق إقرارا مكررا، فيا عجبا لمن يتمسك. ممثل هذا الكلام الذي لم يجر على نمط شرع ملة من الملل، ولا وافق نصا من نصوص كتب الله- سبحانه-! ويجعله نفس ما وردت به التوراة والإنجيل، ويجزم به، ويحرر في كتبه ذلك مظهرا أن الشريعة المحمدية جاءت. مما لم يكن في الشرائع السابقة، زاعما أن ذلك دليل على كمالها، ومبطنا ما أبطنه هذا الزنديق ابن ميمون اليهودي. وبالجملة فكلام ابن ميمون هذا كما هو مخالف للملة اليهودية، ولما جاءت به التوراة، وما قاله علماء اليهود، وهو أيضًا مخالف للملة النصرانية، ولما جاء به الإنجيل، وقاله علماء النصارى، ومخالف أيضًا لما جاءت به الشريعة الداودية، وما صرح به الزبور، ونحالف لما جاءت به الملة الإسلامية، وما صرح به القرآن الكريم، وأجمع عليه علماء الإسلام، بل مخالف لشرائع الأنبياء جميعا كما حكى [11] ذلك عنهم القران الكريم. فنحن وإن لم نقف على غير التوراة والزبور ونبوات أنبياء بني إسرائيل، والإنجيل من شرائع الأنبياء السابقة فقد حكاها لنا القرآن [الكريم] (¬1) في غير موضع، وكما أن كتب الله- سبحانه- التي نقلنا نصوصها فيما سبق ترد ما نقله ابن أبي الحديد، ومن تقدمه كابن سيناء (¬2) زاعمين أنه الذي في شريعة موسى وعيسى- عليهما السلام-، وأنه الثابت في التوراة (¬3) والإنجيل (¬4). وكذلك يرده القرآن كقوله سبحانه حاكيًا عن ¬

(¬1) زيادة يقتفيها السياق. (¬2) وقوله: " في أن المعاد لا يكون إلا روحانيا فلا تتصور اللذات الحسية إذ شرط إدراكها تعلق النفس بالبدن ". وما تقدم في الرسالة يبطله. وانظر: كتابه " الإشارات والتنبيهات " (ص 749 - 751). وقد رد ابن تيمية في كتابه " درء تعارض العقل والنقل " على الإشارات والتنبيهات لابن سينا في مواضع مختلفة منه. (¬3) تقدم ذكر نماذج على ذلك. (¬4) تقدم ذكر نماذج على ذلك.

اليهود: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} (¬1). وقوله: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى} (¬2). وقوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (¬3). وقوله حاكيا عن مؤمن آل فرعون: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} إلى قوله تعالى وإن الآخرة هي دار القرار. . . إلى قوله: {فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب} (¬4) وقوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (¬5) {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} وقال: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} (¬6) ومن تتبع ما في كتاب الله- سبحانه- من حكاية نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار عن الملل السالفة، وعن كتب الله المنزلة عليها وجده كثيرا جدا لا يتسع المقام لبسطه. وقد بعث النبي- صلى الله عليه واله وسلم- وأهل الملة اليهودية والملة النصرانية ¬

(¬1) [البقرة: 80] (¬2) [البقرة: 111] (¬3) المائدة: 72 (¬4) [غافر: 32 - 40] (¬5) [آل عمران: 55 - 57] (¬6) [الأعلى: 16 - 19]

في أكثر بقاع الأرض، ولم نسمع عن أحد منهم أنه أنكر ذلك، أو قال 1121 هو خلاف ما في التوراة والإنجيل. وقد سكن النبي- صلى الله عليه واله وسلم- بالمدينة الشريفة، ونزل عليه أكثر القرآن ها، وكان اليهود متوافرين فيها، وفيما حولها من القرى المتصلة ها، وكانوا يسمعون ما يزله الله على رسوله من القرآن، وينكرون ما ورد مخالفا لما في التوراة، ويجادلون أبلغ مجادلة كما حكى ذلك القران الكريم، وتضمنته كتب السير والتاريخ، ولم يسمع أن قائلا قال له أنك تحكى عن التوراة ما لم يكن فيها من البعثة، ونعيم الجنة وعذاب النار. وقد كانوا يتهالكون على ذلك، ويبالغون في تتبعه، بل كانوا في بعض الحالات ينكرون وجود ما هو موجود في التوراة كالرجم (¬1)، فكيف يسكتون عن هذا الأمر العظيم مع سماعهم لحكاية القرآن له عنهم وعن التوراة! وهل كانوا يعجزون عند أن يسمعوا ما حكاه الله عنهم من قولهم: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} (¬2). أن يقولوا: ما قلنا هذا، ولا نعتقده، ولا جاءت به شريعة موسى. وهكذا عند سماعهم قوله تعالى: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى} (¬3). وعند سماعهم قوله تعالى: {إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى} (¬4). وبهذا يتبين لك أن هذه المقالة لم تسمع ها اليهود ولا النصارى إلا في عصر الزنديق ابن ميمون- عليه لعائن الله-. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. حرره مؤلفه محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما في بعض فار يوم السبت، لعله الثاني عشر من شهر ربيع الآخر، سنة 1224 هـ، حامدا لله، ومصليا ومسلما على ¬

(¬1) تقدم ذكر ذلك (505). (¬2) [البقرة: 80] (¬3) [البقرة: 111] (¬4) [الأعلى: 18 - 19]

رسوله وآله (¬1). ¬

(¬1) في هامش المخطوط ما نصه: ((الحمد لله قد تعقبت هذه الرسالة رسالة مطولة سميتها: " إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات "وهي في المجلد الرابع من الفتاوى".

مقتطفات من الكتب المقدسة الإنجيل والزبور والتوراة

مقتطفات من الكتب المقدسة الإنجيل والزبور والتوراة تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

هذه الكلمات نقلتها من الإنجيل عند مطالعتي له في شهر رجب سنة 1217 هـ. في الفصل التاسع من الإصحاح الأول من الإنجيل (¬1) للمسيح- عليه السلام- الذي كتبه القديس ........................... ¬

(¬1) لغة: فهي كلمة مأخوذة من اللفظ اليوناني إيفا نجليون ومعناه (الخبر الطب) أو البشارة. اصطلاحا: يزعم النصارى أن المسيح عليه السلام قد استعمل كلمة الإنجيل. بمعنى (بشرى الخلاص من خطيئة آدم الأزلية) التي حملها إلى البشر، واستعملها تلاميذه من بعده بالمعنى نفسه ثم استعملت هذه الكلمة على الكتاب الذي يتضمن هذه البشرى وهي سيرة المسيح عليه السلام وقد غلب استعمالها إذا المعنى على إنجيل متى، إنجيل مرقس، إنجيل لوقا وإنجيل يوحنا. ومحتويات هذه الأناجيل فيمكن تقسيمها إلى خمسة موضوعات. ا/ القصص، 2/ العقائد، 3/ الشريعة، 4/ الأخلاق، 5/ الزواج وتكوين الأسرة. وقد تم توضيح ذلك كله في رسالة " إرشاد الثقات " رقم (9) وانظر قاموس الكتاب المقدس (عندهم) (ص120 - 121). . الإنجيل في الإسلام فهو كما قال تعالى: {وقفينا على ءاثرهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وءاتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين}، [المائدة: 146]. . فهو إذن وحى وكتاب أنزله الله على عبده عيسى عليه السلام فيه هدى ونور وموعظة ومصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهو إنجيل واحد وليس أناجيل متعددة- وقد كان المسيح يدعو بني إسرائيل للإيمان هذا الإنجيل كما ورد التصريح بذلك في إنجيل متى (26/ 13) ومرقس (14/ 9) وورد في رسالة بولس إلى رومية (15/ 19) نسبة الإنجيل إلى المسيح فقال: " قد أكملت التبشير بإنجيل المسيح " إلا أن هذا الإنجيل قد فقد واندثر أو لعبت به أيدي التحريف والتبديل والنسيان والإهمال حتى انطمست معالمه وآثاره باختلاط الحق بالباطل. أما هذه الأناجيل الأربعة فإنه ليس واحدا منها هو الإنجيل الصحيح لأنها تنسب إلى غير المسيح ولما فيها من الباطل ومع ذلك فإنه لا ينفى وجود بعض بقايا الوحي الإلهي في خطب المسيح ومواعظه التي نقلها تلاميذه وتوافق القرآن الكريم والسنة الصحيحة وفيها البشارة بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انظر: قاموس الكتاب المقدس (عندهم) ص 196 - 119.

مضى (¬1) ما لفظه: ومن قال: يا أحمق- يعني لأخيه كما يفيده السياق- وجبت عليه نار جهنم، فإن قدمت قربانك على المذبح، وذكرت هناك أن أخاك واجد شيئا عليك فدع قربانك هناك أمام المذبح وامض أولا فصاع أخاك، وحينئذ ائت وقدم قربانك، كن متفقا مع خصمك سريعا ما دمت معه في الطريق لئلا يسلمك الخصم إلى الحاكم، والحاكم يسلمك إلى المستخرج وتلقى في السجن. الحق أقول لك: إنك لا تخرج من هناك حتى تؤدي آخر فلس عليك. قد سمعتم أنه قيل للأولين: لا تزن، وأنا أقول لكم أن كل من نظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه، وإن شككتك عينك اليمنى فاقلعها وألقها عنك فهو خير لك ألا يهلك أحد أعضائك، ولا يلقى جسدك كله في جهنم، وإن شككتك يدك اليمنى فاقطعها وألقها عنك، فإنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم .. انتهى. وفي الإنجيل (¬2) أيضًا في الفصل التاسع أيضًا من الإصحاح الأول ما لفظه: قد سمعتم أنه قيل: العين بالعين، والسن بالسن. وأنا أقول لكم: لا تقاوموا الشرير لكن من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا، ومن أراد خصومتك وأخذ ثوبك فدع له قميصك أيضا، ومن سخرك ميلا واحدا فامض معه اثنين، ومن سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده. قد سمعتم أنه قيل: أحبب قريبك وأبغض عدوك. وأنا أقول لكم: أحبوا أعداءكم، أحسنوا إلى الذين يبغضونكم، وصلوا على الذين يطردونكم ويضطهدونكم انتهى. وفي الفصل التاسع من الإصحاح الأول من الإنجيل (¬3) ما لفظه: وإذا صنعت صدقة فلا تضرب قدامك بالبوق كما يصنع المرآؤون في المجامع والأسواق لكي يمجدوا من ¬

(¬1) إنجيل متى (5/ 38 - 48) (¬2) إنجيل متى (6/ 1 - 5) (¬3) إنجيل متى (6/ 1 - 5)

الناس. الحق أقول لكم: لقد أخذوا أجرهم. وأنت إذا صنعت رحمة فلا تعلم شمالك. مما تصنع يمينك، لتكن صدقتك في خفية. انتهى [1] وفي الفصل العاشر من الإصحاح الأول من الإنجيل (¬1) ما لفظه: وإذا صفيت فلا تكن كالمرأتين لأنهم يحبون أن يصلوا قياما في المجامع وفي زوايا الأزقة ليظهروا للناس. الحق أقول لكم: إنهم قد أخذوا أجرهم. وأنت إذا صليت فادخل إلى مخدعك وأغلق بابك. انتهى. وقال في هذا الفصل العاشر (¬2) أيضًا ما لفظه: وإذا صمتم فلا تكونوا معبسين كالمرأتين، لأهم يعبسون وجوههم ليظهروا للناس صائمين الحق أقول لكم: إنهم قد أخذوا أجرهم، أما أنت إذا صمت فادهن رأسك واغسل وجهك لئلا تظهر للناس صائما انتهى. وفي الفصل الثالث عشر منه (¬3): لا تدينوا لئلا تدانوا، لأنه بالدينونة التي تدينون تدانون، وبالكيل الذي تكيلون يكال لكم. ولماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك، ولا تفطن بالخشبة التي في عينك!؟ وكيف تقول لأخيك دعني أخرج القذى من عينك، وها أن الخشبة في عينيك, يا مرائي أخرج أولا الخشبة من عينك وحينئذ تنظر أن يخرج القذى من عين أخيك لا تعطوا القدس للكلاب، ولا تلقوا جواهركم قدام الخنازير لئلا تدوسها بأرجلها وترجع فتمزقكم انتهى. وفي الفصل الثامن والعشرين منه ما لفظه (¬4): ولا تخافوا ممن يقتلون الجسد ولا يستطعون أن يقتلوا الروح، لكن خافوا بالحري ممن يقدر أن يهلك النفس والجسد في جهنم انتهى. وفي الفصل التاسع والثلاثين منه ما لفظه: هكذا يكون في منتهى هذا الدهر يرسل ¬

(¬1) إنجيل متى (6/ 16 - 21). (¬2) من إنجيل متى (6/ 19 - 20). (¬3) من إنجيل متى. (¬4) من إنجيل متى.

ملائكته، ويجمعون من مملكته كل الشكوك وفاعلي الإثم فيلقونهم في أتون النار، هناك يكون البكاء، وصرير الأسنان، ومثل هذا في الفصل الأربعين منه. وفي الفصل الحادي والأربعين منه ما لفظه: أما يسوع- يعني المسيح- فقال لهم لا يهان نبي إلا في بلدته وفي بيته انتهى. وفي الفصل السادس والأربعين منه ما لفظه: وأعمى يقود أعمى يقع كلاهما في الحفرة انتهى. وفي الفصل الخامس والخمسين صرح بذكر دخول [2] النار المؤبدة، وبذكر دخول جهنم. وفي الفصل السابع والخمسين ما لفظه: إن أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه فيما بينك وبينه وحده، فإن جمع منك فقد ربحت أخاك، وإن لم يسمع منك فخذ معك أيضًا واحدا أو اثنتين لكي على فم شاهدين أو ثلاثة تثبت كل كلمة، وإن لم يسمع منهم فقل للتبعة، وإن لم يسمع أيضًا من التبعة فيكون عندك كوثني وعشار. انتهى. وفي الثامن والخمسين منه ما لفظه: جاء إليه بطرس وقال: يا رب إلى كم مرة يخطئ أخط وأغفر له، أ إلى سبع مرات؟ قال له يسوع: لست أقول لك إلى سبع مرات، بل إلى سبعين مرة سبع مرات انتهى. وفي الفصل الثالث والسبعين منه (¬1) قال: إن الزنادقة الذين يقولون ليست قيامة. وفي الفصل السادس والسبعين المعنون قبله بالإصحاح الثالث والعشرين من الإنجيل ما لفظه: ومن رفع نفسه اتضع، ومن وضع نفسه ارتفع. انتهى. وفي الفصل السابع والسبعين منه ما لفظه: الويل لكم أيها الكتبة والقديسيون والمرآؤون لأنكم تبنون قبور الأنبياء، وتزينون مدافن الصديقين .. انتهى. وفي الفصل الثالث والثمانين منه: أن الرب يقول لأهل المسيرة يوم القيامة: اذهبوا ¬

(¬1) انظر إنجيل متى الإصحاح الثاني والعشرين.

يا ملاعن إلى النار المؤبدة المعدة لإبليس وملائكته. انتهى. إلى هنا منقول من إنجيل المسيح عيسى- عليه السلام- الذي كتبه القديس متى وهو مائة فصل وفصل. وفي الفصل الثلاثين من إنجيل المسيح- عليه السلام- الذي كتبه القديس مرقص (¬1) ما لفظه وإن شككتك يدك فاقطعها فخير لك أن تدخل إلى الحياة أعسم من أن يكون لك يدان وتذهب إلى جهنم إلى النار التي لا تطفئ، حيثما دودهم لا تموت، ونارهم لا تطفأ. وكرر هذا اللفظ في هذا الفصل. انتهى. وهذا الإنجيل الذي كتبه مرقص هو أربعة وخمسون فصلا، وهى مشتملة على معاني مثلها من فصول الإنجيل الذي كتبه متى. وقد اتفقا على بعض ما نقلناه سابقا. وفي الفصل العشرين من إنجيل المسيح- عليه السلام- الذي كتبه القديس لوقا (¬2) ما لفظه: لكني أقول لكم أيها السامعون حبوا أعدائكم أحسنوا إلى من يبغضكم باركوا لاعنيكم وصلوا على من يثلبكم انتهى [3]. ¬

(¬1) قيل من السبعين- الحواريين- كتب إنجيله بالرموية، بالروم بعد صعود المسيح إلى السماء باثنتى عشرة سنة. وقيل: إنجيل مرقس ينسب إلى مرقس الذي لم يكن حواريا ولا من تلاميذ المسيح وإنما كان تلميذ بطرس ومرافقه وقيل لا يوجد أحد هذا الاسم وأنه على صلة وعلاقة خاصة بيسوع أو كانت له شهرة خاصة في الكنيسة الأولى .... محاضرات في النصرانية ص 46 - 47. (¬2) إنجيل لوقا (4/ 7 - 14، 34، 35). إنجيل لوقا: قيل: هو من السبعين- الحواريين- كتبه باليونانية بالإسكندرية وأيضا اختلف في شخصية لوقا رفي صناعته، وفي القوم الذين كتب لهم إنجيله ولا يعرف شيء عن زمن وكيفية موته. وقد اتفق الباحثون على أن لوقا ليس من تلاميذ المسيح ولم يكن أحد السبعين الذين أرسلهم المسيح للتبشير وإنما كان الصديق المخلص لبولس. قاموس الكتاب المقدس (عندهم) (ص 822).

وفي هذا الفصل أيضا: وكما تحبون أن يفعل الناس بكم فكذلك أيضًا أنتم افعلوا هم انتهى. وفيه أيضًا بالكيل الذي تكيلون يكال لكم انتهى. وفي الفصل الستين من الإنجيل الذي كتبه لوقا ما لفظه: الأمين في القليل يكون أمينا أيضًا في الكثير، والظالم في القليل يكون ظالما أيضًا في الكثير، فإن كنتم غير أمناء في مال الظلم فمن يأتمنكم في الحق! وإن كنتم فيما ليس لكم غير أمناء فمن يعطيكم مالكم؟ انتهى. والإنجيل الذي كتبه لوقا هذا هو ستة وثمانون فصلا، وهو مثل إنجيل متى المتقدم ذكره في جميع ما اشتمل عليه إلا ما ندر من زيادة ونقص. وفي الفصل الحادي عشر من إنجيل المسيح- عليه السلام- الذي كتبه القديس يوحنا (¬1) ما لفظه: الحق الحق أقول لكم أن من يسمع كلامي، ويؤمن. ممن أرسلني فله الحياة المؤبدة، وليس يحضر إلى الدينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة انتهى. وفي هذا الفصل أيضًا ما لفظه: فلا تعجبوا من هذا فإنه ستأتي ساعة يسمع فيها جميع من في القبور صوته، فيخرج الذين عملوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدنيوية ... انتهى. وفي الفصل الخامس عشر منه ما لفظه: اعملوا لا للطعام البائد، بل للطعام الباقي للحياة المؤبدة ... انتهى. ¬

(¬1) قيل: هو من الاثنى عشر حواريا كتبه- أي إنجيله- باليونانية. بمدينة أفسس بعد صعود المسيح بثلاثين سنة. وتزعم المصادر النصرانية بان كاتب إنجيل يوحنا هو الحواري يوحنا ابن زيدي وبأنه مات. بمدينة أفسس، وتنسب إليه كذلك ثلاث رسائل وسفر رؤيا يوحنا من العهد الجديد. قاموس الكتاب المقدس- عندهم- ص 1108 - 1114. . وجاء في دائرة المعارف الكبرى الفرنسية، (16/ 871 - 872) أما إنجيل يوحنا فإنه لا مرية ولا شك كتاب مزور ..... "

وفي الفصل السادس عشر منه ما لفظه: تكون له الحياة المؤبدة وأنا أقيمه في اليوم الآخر انتهى. وفي الفصل السابع عشر منه ما لفظه: الحق الحق أقول لكم أن من يؤمن له حياة دائمة ..... انتهى. وفي الفصل الثالث والعشرين منه: إن اليهود لما سمعوا كلام عيسى- عليه السلام- أن به شيطانا وقد جن فما استماعكم له انتهى. وهذا الإنجيل الذي كتبه يوحنا وهو ستة وأربعون فصلا، وغالبه نحالف (¬1) للأناجيل المتقدمة التي أشرنا إليها، وغالب ما فيه ليس فيها، وفصوله طويلة. وبعد هذه الأناجيل التي أشرت إليها رأيت في ذلك السفر فصولا مسماة إبركسيس (¬2) أي أعمال الرسل ذكر فيها [4] ما كان بعد المسيح- عليه السلام- من أصحابه الذين اختارهم، وما اتفق من الوقائع. ثم رأيت لبولص وهو ممن أدرك عصر المسيح أربع عشرة رسالة، كل رسالة مشتملة على فصول كتبها إلى جماعة من أهل القرى والمدن يحضهم على التمسك بشريعة المسيح وبعد ذلك رسالة للقديس يعقوب، ¬

(¬1) نجد كثير من الأناجيل صاحبه مجهول الهوية وكذلك مجهول مكان كتابته وتاريخ تدوينه. وما يزيد الأمر خطورة في- إنجيل يوحنا- كثرة الاختلافات المهمة بين إنجيل يوحنا والأناجيل الأخرى كالاختلافات في الفترة الزمنية لبعثة المسيح وظهوره لتلاميذه بعد قيامه من الموت وغيرها. وهذا ما دفع- د. موريس بوكاي- أن يتساءل إذن فمن يجب أن نصدق؟ أنصدق متى أم مرقص أو لوقا أو يوحنا؟ والجواب معروف لكل ذي لب وهداية هو رفض هذه الأناجيل المتناقضة لعدم التمكن من التمييز بينها ولأن الوحي الإلهي لا يكون فيه تناقض. الأسفار المقدسة ص 88 - 89. محاضرات في النصرانية ص 50. (¬2) وهو سفر براكسيس ( PRAXIS) وهى كلمة يونانية تعني الأعمال وينسب هذا السفر إلى لوقا - صاحب الإنجيل الثالث. وعدد إصحاحاته (28) إصحاحا يحتوي على سير الحواريين وتلاميذ المسيح وجهودهم في سبيل نشر تعاليم المسيح بعد رفعه عليه السلام. وقد تقدم في رسالة " إرشاد الثقات " رقم (9).

ورسالتين للقديس بطرس، وهو من أكبر أصحاب المسيح وله ذكر في الإنجيل في مواضع. وبعد ذلك ثلاث رسائل ليوحنا، ولعله كاتب الإنجيل المذكور سابقا، ثم رسالة للقديس يهوذا، ثم رسالة طويلة ليوحنا مشتملة على رؤيا رآها .... ورأيت في أول الإنجيل خارجا عنه غير داخل فيه ما لفظه: هذا هو في التوراة، والنقل في خارج الإنجيل منها وصايا الله العشر كما في الإصحاح العشرين من سفر الخروج (¬1)، كتب بإصبع الله في لوحن، ففي اللوح الأول أربع وصايا، وهي المشتملة ما هو الواجب عليهم لله: أنا الرب إلهك الذي أخرجتك من أرض مصر من بيت العبودية، لا يكن لك إله آخر غيري، لا تأخذ لك صورة، ولا تمثيل كل ما في السماء من فوق، وما في الأرض من أسفل، ولاما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن، ولا تعبدهم، فإني أنا الرب إلهك إله غيور أجتزئ ذنوب الآباء من الأنبياء إلى ثلاثة، وإلى أربعة أجيال الذين يبغضونى، وأفعل الحسنة إلى ألف جيل لأحبائي، حافظي وصاياي لا تحلف باسم الرب إلهك كاذبا، من أجل أنه لا يزكى الرب من حلف باسمه كاذبا. أذكر يوم السبت لتطهره ستة أيام. اعمل عملك جميعه، واليوم السابع سبت الرب إلهك لا تعمل فيه أن عمل أنت وابنك، وابنتك، وعبدك، وأمتك، ودوابك، والغريب الذي جوات أبوابك من أجل أن في ستة أيام خلق الرب السماء والأرض والبحر وما فيه، واستراح في اليوم السابع من أجل ذلك بارك الله في يوم السبت وطهره، وفي اللوح الثاني ست وصايا، وهي المشتملة على ما هو الواجب عليهم لجميع الناس: أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك. لا تقتل، لا تزن، لا تسرف، لا لشهد على قريبك شهادة زور [5]، لا تشته بنت قريبك، ولا تشته امرأة قريبك، ولا عبده، ولا أمته، ¬

(¬1) سفر الخروج: ويقع في (140) إصحاحا وسمى بذلك نسبة إلى حادثة خروج بني إسرائيل من مصر إلى أرض سيناء بقيادة موسى عليه السلام، وفيه ذكر الحوادث التي جرت لبني إسرائيل في أرض التيه، والوصايا العشر والكثير من الأحكام والتشريعات.

ولا ثوره، ولا حماره، ولا شيئا مما لقريبك، لا تزيدوا على الكلام الذي أقوله لكم، ولا تنقصوا منه. احفظوا وصايا الرب إلهكم التي أنا أوصيكم انتهى. بلفظه إلا لفظ عليهم في الطرفين، فإني حولته. وكان في الأصل علينا. ووجدت أيضًا هذه الوصايا العشر مكتوبة في آخر الزبور خارجة عنه، فالظاهر أنها من التوراة بدليل ذكر السبت، وذكر الألواح، وبقرينة ذكر الإفراج من مصر، ومد بحثت الإصحاح العشرين من الإنجيل فلم أجدها فيه. رأيت في المزمور (¬1) الثامن والأربعين من زبور داود- عليه السلام- ما لفظه: جعلوا في الجحيم مثل الغنم، والموت يرعاهم، ويسود عليهم المستقيمون بالغداة، ومعونتهم تبلى في الجحيم، ومن مجدهم أقصوا، بل إن الله ينقذ نفسي من يد الجحيم إذا أخذني. انتهى. وقي المزمور الرابع والخمسين من زبور داود- عليه السلام- ما لفظه: ليأتي الموت عليهم وينحدروا إلى الجحيم أحياء انتهى. وفي المزمور السبعين من الزبور ما لفظه: لم أعرف الكتابة فأدخل إلى قوة الرب انتهى. وفي المزمور الثمانين من الزبور ما لفظه: ابتهجوا بالله معينا، هللوا لإله يعقوب، خذوا مزمارا واضربوا دفا، مزمارا مطربا مع قيثاره، بوقوا في رؤوس الشهور بالبوق ني يوم عيدكم المشهور بالبهاء، لأنه وصية لإسرائيل هو وحكم لإله يعقوب شهادة وضعها في يوسف عند خروجه من أرض مصر انتهى. وقد ذكر في الزبور مثل هذا المعني في مواضع متعددة. ¬

(¬1) سفر المزامير: وهي مجموعة من الأشعار الملحنة وغرضها تمجيد الله وشكره وكانت ترنم على صوت المزمار وغيره من الآلات الموسيقية. وفي العبرانية يسمى (كتاب الحمد) وقد عرفت باسم (مزامير داود) بالنسبة لعدد المزامير التي نسبت إليه وبلغت 73 من 150 مزمورا وتنقسم هذه المزامير إلى خمسة أقسام تقدم ذكرها في " رسالة إرشاد الثقات " (9). قاموس الكتاب المقدس (عندهم) ص (430، 361، 366).

في المزمور الحادي والثمانين من الزبور ما لفظه: الله قام في مجمع الإلهية يحكم إلى متى تقضون ظلما، وتأخذون بوجوه الخطاة، احكموا لليتيم والفقير، خلصوه من يد الخاطيء لم يعلموا ولم يفهموا لأنهم في الظلمة يسلكون انتهى. في المزمور المائة والثالث عشر من الزبور ما لفظه: إلهنا في السماء وفي الأرض، وكلما شاء صنع، أوثان الأمم فضة وذهب، أعمال تدين الناس لها أفواه ولا تتكلم، له! أعن ولا تبصر، لها آذان ولا تسمع، لها مناخير ولا تشتم، لها أيادي ولا تلمس، [6] لها أرجل ولا تمشى، ولا تصوت بحنجرها انتهى. وفي المزمور المائة والسابع عشر من الزبور ما لفظه: افتحوا لي أبواب العدل لكي أدخل فيها، وأعترف للرب. هذا باب الرب والصديقون يدخلون فيه انتهى. وفي المزمور الخمسين بعد المائة، وهو آخر مزامير الزبور، لأنه مائة وخمسون مزمورا، كل مزمور نحو صفحة في نصف قطع وقد يزيد على ذلك، وقد ينقص عنه. ولفظ هذا المزمور الذي هو آخر المزامير: سبحوا لله في قديسية، سبحوه في فلك قوته، سبحوه على مقدراته، سبحوه نظير كثرة عظمته، سبحوه بصوت البوق، سبحوه بالمزمار والقيثارة، سبحوه بالدف والصنج، سبحوه بالأوتار والأرغن، سبحوه. بمعازف حسنة النغمة، سبحوه. بمعازف التهليل، كل نسمة فلتسبح الرب انتهى. وجميع ما اشتمل عليه الزبور الشكاية إلى الله من أعداء داود- عليه السلام- والاستنصار به عليهم، والشكر لله على نصره لداود عليهم، والإرشاد إلى التسبيح والشكر. هذا هو الغالب. وقد يذكر نادرا شيئا من الأحكام، وقد يذكر المسيح- عليه السلام- في مواضع منه على طريق التبشير به. وأول ذكر للمسيح في المزمور الثاني من مزامير الزبور في التوراة عند ذكر الأعياد في السفر الثالث (¬1): إذا دخلتم الأرض التي أعطيتكم ميراثا تسبت الأرض سبتا للرب. ¬

(¬1) وهو سفر اللاويين ويقع في (27) إصحاحا، ويحتوي على شئون العبادات وخاصة القرابين والطقوس الكهنوتية وكانت الكهانة موكولة إلى سبط لاوي بن يعقوب فلذلك نسب السفر إليهم.

ازرعوا مزارعكم ست سنين، واكسحوا كرومكم ست سنين، واستغلوا غلالكم ست سنين. فأما السنة السابعة فلتكن سنة الراحة للأرض، لا تزرعوا مزارعكم، ولا تكسحوا كرومكم، بل يكون سبت الراحة للأرض لكم [7]، ولبنيكم، ولعبيدكم، ولإمائكم، ولإخوانكم، وللسكان الذين يسكنون معكم. واحصوا سبع مرات سبعا سبعا تسعا وأربعين سنة، وقد سوا سنة خمسين، وليكن رد الأشياء إلى أرباها، ولا تزرعوا أرضكم في تلك السنة، ولا تحصدوا ما ينبت فيها ولا تقطعوا عشبها لأنها سنة الرد. إلى أن قال: وإن قلتم من أين نأكل في السنة السابعة التي لا نزرع فيها؟ فلا تهتموا لأني منزل لكم بركاتي في السادسة، وتغل لكم أرضكم في تلك السنة غلة ثلاث سنين، حتى إذا زرعتم في السنة الثامنة لم تحتاجوا إلى غلتها، لأنكم تأكلون من السنة السادسة إلى السنة التاسعة. وأما الأرض فلا تباع بيعا صحيحا أبدا، لأن الأرض لي، وإنما أنتم سكان، وحيث ما بيعت الأرض في ميراثكم فلتخلص، وترد في سنة الرد انتهى. ففي هذا أن الأرض تسبت السنة السابعة على الصفة المذكورة، وأن الأرض لا تباع بيعا صحيحا، وأنها ترد في سنة الرد، وهي السنة الموفية خمسين سنة. وفي السفر الثالث أيضًا من التوراة ذكر من يحرم نكاحه من النساء، وذكر تحريم الزنا، وتحريم اللواط، ولفظها في تحريم اللواط: أنا الله ربكم لا تضاجعوا الذكور، ولا تركب من الذكر ما ترتكب من المرأة، لأنه فعل نجس، ولا بهيمة، ولا تلق زرعك فيها فتنجس ها، والمرأة أيضًا لا تقوم بين يدي بهيمة تطؤها لأنه فعل نجس. وقال في السفر (¬1) الثاني: ولا تصدقن الحبر الكاذب، لا توال الخبيث لتكون له شاهد زور، لا تتبعن هوى الكبر فتسيء، لا تشايعن الكبر. وقال فيه: لا تحيفن في ¬

(¬1) وهو سفر الخروج وقد تقدم.

قضاء المسكين وتباعد عن القول الكاذب. وقال في السفر الخامس (¬1): ولا تحيفوا في القضاء، واسمعوا من الصغير كما تسمعوا من الكبير، ولا تهابوا الرجل ولو عظم شاع! نه، وكثرت أمواله. وقال فيه: صيروا لكم قضاة وكتابا في جميع قراكم، ويعطون للشعب قضاء العدل والبر لا تحيفن في القضاء، ولا تحابوا، ولا ترشوا، لأن الرشوة تعمى أعن الحكام في القضاء، ولكن أقضي بالحق [8]. وفي الفصل العشرين من السفر الثاني من التوراة ما لفظه: أنا الله ربك الذي أخرجتك من أرض مصر من بيت العبودية، لا يكن لك معبود آخر من دوني، لا تصنع لك منحوتا، ولا شبها لما في السماء من العلو، وما في الأرض مثلا، وما في الماء تحت الأرض لا تسجد لهم ولا تعبدها لأني الله ربك القادر الغيور، مطالب بذنوب الآباء مع البنين والثوالث والروابع لشأني انتهى. وفي الفصل الحادي والعشرين منه ما لفظه: ومن ضرب أباه وأمه فليقتل قتلا، وفيه ما لفظه: ومن شتم أباه وأمه فليقتل قتلا انتهى. وفي الفصل الثالث والعشرين منه ما لفظه: ولا تقبل خبرا زورا، ولا تخاطب ظالما لتكون له شاهد ظلم. وفيه ما لفظه: ولا تأخذوا رشوة، فإن الرشاء يعمى البصر، أو تزيف الأمور العادلة انتهى. وفي الفصل الثامن عشر من السفر الثالث من التوراة ما لفظه: واحفظوا رسومي وأحكامي، فإن جزاء من عمل ها أن يجي الحياة الدائمة انتهى. ¬

(¬1) وهو سفر التثنية: يقع في (34) إصحاحا وحمى بذلك لإعادة ذكر الوصايا العشر وتكرار الشريعة والتعاليم مرة ثانية على بط إسرائيل عند خروجهم من أرض سيناء، وهذا السفر الذي ينهى التوراة المنسوبة إلى موسى عليه السلام ورد في آخرها النص الآتي " فمات هناك موسى، عبد الرب في أرض مؤاب بأمر الرب وتم دفنه في الوادي قي أرض مؤاب تجاه بيت ناعور ولم يعرف إنسان قبره إلى اليوم وكان موسى ابن مائة وعشرين سنة حين مات .... ".

وفي الفصل التاسع عشر منه ما لفظه: لا تصنعوا جورا في الحكم، ولا تحابوا فقيرا ولا تجثوا عظيما، بل أحكم فيما بين قومك بالعدل انتهى. وفيه أيضًا ما لفظه: ولا تتطيروا ولا تتفاعلوا انتهى. وفيه: ولا تولوا إلى المشعوذين والعرافين، ولا تطلبوا أن يعصوني بذلك، أنا الله ربكم. انتهى. وفي الفصل العشرين منه ما لفظه: وقل لهم: أي إنسان من بني إسرائيل ومن الغرماء الدخيلين فيما بينهم يعطط من نسله للصنم فليقتل قتلا، وهو أن يرجمه أهل بلده بالحجارة انتهى. وفيه: وأي إنسان لعن أباه وأمه فليقتل قتلا لما لعن أباه وأمه فقد حل دمه. وأي رجل زنا بزوجة رجل، أو زنا بامرأة صاحبه فليقتل الزاني والزانية قتلا انتهى. وفيه: وأي رجل ضاجع ذكرا على فن مضاجعة النساء فقد صنعا جميعا كريهة، وليقتلا قتلا فقد حل دماهما انتهى. وفيه: وأي رجل جعل مضاجعته مع بهيمة فليقتل قتلا والبهيمة أيضًا فاقتلوها، وأي امرأة تقدمت إلى بهيمة لتتروها فاقتلوا المرأة والبهيمة لما صنعا داهية فقد حل دمهما بذلك انتهى. وفيه: وأي رجل أو امرأة كان واحدا منهما مشعوذا أو عرافا فليقتلا قتلا وبالحجارة يرجمونهما فقد حفت دماؤهما انتهى. وفي الفصل الخامس والعشرين منه ما لفظه: ولا تأخذ من عينة (¬1) ولا ربا، وخف ¬

(¬1) العينة: هو أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها منه. النهاية (3/ 333 - 334). وقد قال: صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ". من حديث ابن عمر. اخرج أبو داود رقم (3462) وهو حديث صحيح لطرقه.

من ربك حتى يعيش معك، ولا يدفع إليك ورقك وطعامك بعينة ولا بربا انتهى. وفي الفصل السادس والعشرين منه ما لافظه: ولا تصنعوا لكم أوثانا ومنحوتا ونصب، لا تصنعوا لكم (¬1) حجرا مزخرفا، لا تصنعوا في بلدكم لتسجدوا له أنا الله ربكم انتهى. وفي الفصل السابع والعشرين منه ما لفظه: وجميع أعشار الأرض من حبها ومن ثمر الشجر فهو لله قدسا، وإن أفتك إنسان شيئا من أعشاره فليرد عليه خمس ثمنه وجميع أعشار البقر والغنم ما يحز منه تحت أنعما فالعشر منه تكون قدسا لله، لا يفحص عن جيد أو رديء ولا يغيره، فإن غيره فقد صار هو وبدينه قدسا لله لا يفك انتهى [9]. وفي الفصل السادس عشر من السفر الخامس (¬2) من التوراة ما لفظه: واجعل لك حكاما وعرفاء في جميع محالك التي يعطيها الله ربك أسباطك، يحكموا فيما بين الناس حكم عدل، ولا تميلوا علماء، ولا تحابوا الوجوه، ولا تأخذوا الرشاء، لأن الرشا يعمى عيون العلماء عن الحق، وتزيف الأقوال العادلة انتهى. وفي الفصل الثامن عشر منه ما لفظه: لا يوجد فيكم مشتعل ابنه أو ابنته بالنار، ومنجم تنجيمات، ومتفائل، ومتطير، وساحر، وراق رقئ، وسائل مشعوذ، أو عراف، أو ملتمس من الموتى، لأن الله ربك يكره كل من يصنع هذه الصنائع وبجريرتها هو قارضهم من بين يديك، بل كن ساذجا لله ربك انتهى. وفي الفصل الحادي والعشرين منه: وإذا كان لرجل ابن زائغ مخالف، ليس يقبل أمر أبيه وأمر أمه، ويؤدبانه فلا يقبل منهما فليقبض عليه أبوه وأمه ويخرجا إلى شيوخ قريته، وإلى باب حاكم موضعه فيقولا لهم: ابننا هذا زائغ ومخالف ليس يقبل أمرنا، وهو مسرف ومفرط في الحرام، فيرجه جميع شيوخ قومه بالحجارة حتى يموت ... انتهى. وفي الفصل الثالث والثلاثين منه ما لفظه: يا الله الذي تجلى نوره من طور سيناء، ¬

(¬1) في المخطوط (و) زائدة حفظتها ليستقيم المعنى. (¬2) تقدم التعريف به.

وأشرق نوره من جبل سيعير (¬1)، ولوح به من جبل فاران (¬2) وأتى ربوة القدس بشريعة نور من يمينه لهم انتهى. وإلى هنا انتهى النقل عن التوراة مع مطالعتها وهى خمسة (¬3) أسفار كل سفر مشتمل على فصول. وفي الفصل الثالث والعشرين من كتاب يوشع بن نون (¬4) ما لفظه: وباسم معبوداتهم لا تذكرون، ولا تحلفون، ولا تعبدونهم، ولا تسجدون لهم، بل لله ربكم، وبه تتمسكون كما فعلتم إلى هذا اليوم ... انتهى. وفي الفصل الخامس من وصايا سليمان- عليه السلام- ما لفظه: لأن أرجل الغباوة تحذر الذين يستعملونها، وتحطهم بعد الموت إلى الجحيم. انتهى. وفي الفصل العاشر منها ما لفظه: الرب لن يقتل بالجوع نفسا عادلة ... انتهى. وفي الفصل السادس والعشرين من نبوة أشعيا النبي ما لفظه: تقوم الموات، ويستيقظ الذين في القبور انتهى. وفي الفصل الثاني عشر من نبوة دانيال (¬5) ما لفظه: وكثير من الهاجعين في تراب الأرض يستيقظون، هؤلاء لحياة أبدية، وهؤلاء لتعيير وخزي أبدي ... انتهى. جملة أنبياء بني إسرائيل بعد موسى الذين لهم كتب وقفنا عليها، أولهم ...................... ¬

(¬1) سيعير، فاران. تقدم في رسالة " إرشاد الثقات " رقم (9) وقد ذكرت في البشارات. (¬2) سيعير، فاران. تقدم في رسالة " إرشاد الثقات " رقم (9) وقد ذكرت في البشارات. (¬3) ذكر هنا السفر الثاني، الثالث، الخامس، أما الأول: وهو سفر التكوين: يقع قي (50) إصحاحا وعي بذلك لاشتماله على قصة خلق العالم ثم قصص آدم وذريته ونوح وإبراهيم وذريته وينتهي، هنا السفر باستقرار بني إسرائيل. بمصر ومرت يوسف عليه السلام. والرابع: هو سفر العدد ويقع في (36) إصحاحا، وعى بذلك لأنه حافل بالعد والإحصاء لأسباط بني إسرائيل ومما يتمكن إحصاؤه من شئونهم ويتخلل ذلك بعض الأحكام والتشريعات. (¬4) سيأتي التعريف به لاحقا. (¬5) تقدم التعريف به- رسالة " إرشاد الثقات " رقم (9).

يوشع (¬1) بن نون خادم موسى، ثم صمويل الصبي، ثم اليسع، ثم داود، ثم سليمان، ثم عزرا الكاتب، وهو المسمى في القرآن عزير، ثم إيليا، وفي السفر الثاني من أسفار الملوك من التوراة أنه رفع إلى السماء، وهو المسمى في القران إلياس، ثم أيوب، ثم أشعيا بن أموص، ثم أرميا، ثم خزقيال، ثم دانيال، ثم هوشع، ثم يوييل، ثم عاموص، ثم عويذا، ثم يونان وهو المسمى في القرآن يونس ذو النون، ثم ميخا ثم ناحوم، ثم حبقوق، ضم صفونيا، ثم حجي، ثم زكريا، ثم ملاخيا، ثم المسيح بن مريم- سلام الله عليهم (¬2) جميعا-. ¬

(¬1) يوشع بن نون عليه السلام كان احمه في الأصل (هوشع، يهوشوع) ثم دعاه موسى يوشع ومعناه (يهود خلاص) وهو خليفة موسى الذي قاد بني إسرائيل لدخول الأرض المقدسة ومحاربة لله أهلها وأنه أمر الشمس بالوقود والتأخير قي المغيب ليتم له فتح الأرض والنصر على أعدائه. . وينسب إليه سفر باسمه عدد إصحاحاته (24) إصحاحا، وكاتب هذا السفر مجهول وقد ينسب إلى أشخاص متعددين. قاموس الكتاب المقدس (عندهم) (ص 1068). . يوشع بن نون: ورد النص على نبوته وأنه خليفة موسى في بني إسرائيل فيما أخرجه البخاري رقم (3124) ومسلم رقم (1747). من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولم يبن، ولا آخر قد بنى بنيانا ولم يرفع سقفها، ولا آخر قد اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر أولادها. قال فغزا فدنا من القرية حين صلى العصر أو قريبا من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها على شيئا فحبست عليه حق فتح الله عليه .... ". . ويتبين لنا اسم هذا النبي الذي حبست له الشمس من الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده (2/ 325) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الشمس تحب على بشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس " وهو حديث صحيح. (¬2) إن الأنبياء الذين ورد ذلك هم في القرآن يجب الإيمان هم تفصيلا أي بأشخاصهم وأسمائهم وهم [آدم، ونوح، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وموسى، وهارون، وداود،

في الفصل الخامس من الإنجيل المسيحي جمع (متى) ما لفظه: ومن قال لأخيه أحمق فقد [10] وجبت ع! ليه نار جهنم انتهى. وفي هذا الفصل ما لفظه: إن شككتك عينك اليمنى فاقلعها وألقها عنك، فإنه لخير لك أن يهلك أحذ أعضائك من أن يهلك جسدك كله في جهنم، وإن شككتك يدك اليمنى فاقطعها وألقها عنك، فإنه لخير لك أن يهلك أحد أعضائك من أن يذهب جسدك كله في جهنم انتهى. وفي الفصل العاشر منه ما لفظه: لا تخافوا ممن يقتل الجسد، ولا يستطيع أن يقتل النفس، خافوا ممن يقدر أن يهلك النفس والجسد جميعا في جهنم ... انتهى. وفي الفصل الثالث عشر منه: إن الملائكة مجمعون كل أهل الشكوك، وفاعلي الإثم، فيلقونهم في أتون النار حيث البكاء وصرير الأسنان انتهى. وفيه أيضًا ما لفظه: هكذا يكون في انقضاء هذا الزمان تخرج الملائكة ويفرزون

_ = وسليمان، وأيوب، وإدريس، ويونس، وهود، وشعيب، وصالح، ولوط، وإلياس لم واليسع، وذو الكفل، وزكريا، ويحيى، وعيسى، ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين وكذلك يوشع بن نون كما تقدم ثبتت نبوته بالسنة النبوية. . وأما بقية الأنبياء فإنه يجب الإيمان هم جملة كما قال تعالى: {ورسلا قد قصصنهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك} [النساء: 164]. وقال تعالى: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} [فاطر: 24]. . وأما ما ورد عن بني إسرائيل وفي كتبهم المقدمة لديهما من أخبار بتسمية بعض الأشخاص بالأنبياء كأشعياء وأرميا وصفينا وهوشع وغيرهم ها لم يقم على نبوتهم دليل من القرآن الكريم أو السنة الصحيحة فإننا لا نكذبه ولا نصدقه لأن خبرهم يحتمل الصدق والكذب لحديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا: & ءامنا بالله وما أنزل إلينا " [البقرة: 136]. أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7542) ورقم (4485 و7362).

الأشرار من وسط الأخيار، ويلقونهم في أتون النار، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان ...... انتهى. في الفصل الثالث والعشرين منه: ذكر الزنادقة الذين يقولون ليس قيامة، وهذا التصريح بأن إنكار القيامة إنما هو قول الزنادقة لا قول أهل الملل المتقدمة. في الفصل الخامس والعشرين منه ما لفظه: حينئذ يقول للذين عن يساره: اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار المؤبدة المعدة لإبليس وجنوده انتهى. وفيه ما لفظه: فيذهب هؤلاء إلى العذاب الدائم، والصديقون إلى الحياة المؤبدة ... وفي التاسع من الإنجيل الذي جمعه مرقس ما لفظه: فإن شككتك يدك فاقطعها فخير لك أن تدخل الحياة وأنت أعسم (¬1) من أن تكون لك يدان وتذهب إلى جهنم في النار حيث دودهم لا يموت، ونارهم لا تطفأ. وإن شككتك رجلك فاقطعها؟ فخير لك أن تدخل الحياة أعرج من أن يكون لك رجلان وتلقى في جهنم في النار، حيث دودهم لا يموت، ونارهم لا تطفأ انتهى. وفي الفصل الثاني عشر منه التصريح بأن الزنادقة هم الذين يقولون: ليس تكون قيامة. وفي الإنجيل الثالث الذي جمعه لوقا في الفصل السادس عشر منه: ثم مات أيضًا ذلك الغني وقبر فرفع عينه وهو معذب في الجحيم ... انتهى. وفيه أيضًا ذكر الزنادقة الذين يقولون ليست قيامة، وذلك في الفصل العشرين منه. وفيه ما لفظه: فأما أن الموتى يقومون فقد أنبا بذلك موسى ... انتهى. ¬

(¬1) أعسم: القسم: يبس في المرفق والرسغ تعوج منه اليد والقدم. عسم عسما وهو أعسم، والأنثى عسماء، والقسم: انتشار رسغ اليد من الإنسان. لسان العرب (9/ 212)

وفي الفصل الثالث والعشرين منه: إن المسيح قال للمصلوب الذي آمن به: إنك تكون معي في الفردوس. وفي الإنجيل الرابع الذي جمعه يوحنا في الفصل الخامس منه: فإنه سيأتي ساعة يسمع فيها جميع من في القبور صوته، فيخرج الذين عملوا الحسنات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدنيوية ... انتهى. في الفصل السادس (¬1) عشر منه ما لفظه: لكني أقول لكم الحق أنه خير لكم أن أنطلق لأني إن لم أنطلق لم يأتكم المغربي (¬2)، فإذا انطلقت أرسلته إليكم، فإذا جادلكم فهو يوبخ العالم على الخطيئة، وعلى البر، وعلى الحكم. أما على الخطيئة فلأنهم لم يؤمنوا بي، وأما على البر فإني منطلق إلى الآن، ولستم تروني، وأما على الحكم فإن رئيس هذا العالم يدان، وأن لي كلاما كثيرا لستم تطيقون حمله الآن، فإذا جاء روح الحق ذلك فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه ليس ينطق من عنده، بل يتكلم. مما ع، ويخبركم. مما يأتي انتهى. وهذا متضمن لبشارة نبينا محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-[11] ¬

(¬1) من إنجيل يوحنا (16/ 7 - 16). (¬2) ولعل هذا في النسخة القديمة وفي الحالية " الفارقليط " وقد تقدم شرحها- رسالة " إرشاد الثقات "- رقم (91).

الإثبات لالتقاء أرواح الأحياء والأموات

الإثبات لالتقاء أرواح الأحياء والأموات تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط 1 - عنوان الرسالة: " الإثبات لالتقاء أرواح الأحياء والأموات ". 2 - موضوع الرسالة: في العقيدة. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الأكرمين، وصحبه الأعظمين. وبعد: وردت مسائل طلب السائل كثر الله فوائده الجواب: أولها: قوله: ما يخبرون من أحوال الموتى، وما آل إليه أمرهم في البرزخ، ويزعمون .... 4 - آخر الرسالة: ولا يأخذوا منها شيئا، فإن أخذوا فهو منكر يجب إظهاره عليهم ولو كان مصرفا فلا يجوز له أن يصرف زكاته في نفسه. وإلى هنا انتهى الجواب بقلم كاتبه: محمد ب! ت علي الشوكاني غفر الله له. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني. 7 - عدد الأوراق: (6) ورقات وورقة للعنوان. 8 - عدد الأسطر في الصفحة: 27 - 29 سطرا. 9 - عدد الكلمات في الأسطر: 12 كلمة. 10 - الرسالة من المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الأكرمين، وصحبه الأعظمين. وبعد: وردت مسائل طلب السائل- كثر الله فوائده- الجواب: أولها: قوله: ما يخبرون من أحوال الموتى، وما آل إليه أمرهم في البرزخ (¬1)، ويزعمون أهم يتكلمون ويخبرون. مما أسلفوه وراءهم من أعمال الدنيا مثل رد وديعة، أو يخلد من شيء في الذمة، أو شيء مما يتعلق بأحواله الماضية إلى أن قال: وهذا من غرائب المنفقات مع أنه قد قال تعالى في حال الموتى: {فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهليهم يرجعون} (¬2)، {وما أدرى ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلى} (¬3) فإن كان الأمر كما وصف فما الموصل إلى هذا الأمر وحقيقته؟ فهذا شيء ما جاء عن الرسول، ولا أحد من أهل العلم به يقول. أقول وبالله التوفيق وعليه التوكل: الجواب على هذا السؤال من وجوه: الوجه الأول: أنه قد ثبت عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- تواترا أن الأموات يسألون في قبورهم (¬4) عن ربهم، وعن نبيهم، وما قيل لهم، وما قالوا. وهذا يدل أبلغ ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (18) من مجلدنا هدا. (¬2) [يس: 50] (¬3) [الأحقاف: 9] (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1338) وطرفه رقم (1374) من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " العبد إذ وضع في قبره وتولى وذهب أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فأقعداه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد!؟ فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله: فيقال: انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا من الجنة". . وأخرج أحمد قي المسند (4/ 287، 288، 295، 296، 297). وأورده الهيثمي في المجمع (3/ 49 - 50) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وأخرجه الطيالسي في المسند رقم (753) والآجري في الشريعة (ص 367 - 370) والحاكم في المستدرك (1/ 37 - 40) وقال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي. وأقرهما الألباني في الجنائز (ص 202). وهو حديث صحيح. من حديث البراء بن عازب قال: حرجنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكث به في الأرض، فرفع رأسه فقال " استعيذوا بالله من عذاب القبر" مرتين أو ثلاثة. ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس .... إلى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فتعاد روحه، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول ديني الإسلام. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله ر!. فيقولان له: وما علمك؟ فيقول قرأت كتاب الله تعالى فآمنت به وصدقت. ". وهو حديث طويل.

دلالة على إمكان الكلام منهم في البرزخ، وإذا كان ممكنا فلا مانع من عقل، ولا من شرع أن يلتقي روح بعض الأموات مع روح بعض الأحياء، فيجري بينهم من الخطاب ما يجري بين الأحياء، ويعيى روح الحط ما سمعه من روح الميت. وسيأتي- إن شاء الله- وما وقع من ذلك في أيام الصحابة فمن بعدهم. الوجه الثاني: أنه قد ثبت بالأحاديث (¬1) المتواترة عذاب القبر لمن يستحقه، ومعلوم ¬

(¬1) نعم بلغت نصوص السنة في إثبات عذاب القبر مبلغ التواتر إذ رواها أئمة السنة وحملة الحديث وتعاده عن الجم الغفير والجمع الكثير من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم: 1/ حديث أنس تقدم تخريجه في هذه الرمالة وهو حديث صحيح (ص 619 - 620). 2/ البراء بن عازب تقدم تخريجه في هذه الرسالة وهو حديث صحيح (ص. 62). 3/ حديث عبد الله بن عباس أخرجه البخاري في صحيحه رقم (216) وأطرافه [218، 1361، 1378، 6052، 6055]. ومسلم في صحيحه رقم (292) وأبو داود رقم (20) والترمذي رقم (70) وابن ماجة رقم (3471) والنسائي (1/ 28 - 30 رقم 31). " مر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قبرين فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير " ثم قال: " بلى أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله " ثم قال: " أخذ عودا رطبا فكسره باثنتين ثم غرز كل واحد منهما على قبر ثم قال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا. 14 حديث عبد الله بن عمر أخرجه البخاري رقم (1379) وطرفاه 3240، 6515 ومسلم رقم (2866) والترمذي رقم (1072) والنسائي (4/ 107 - 108) وابن ماجة رقم (4270) وأحمد (2/ 51 - 113). أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة ". 5/ حديث عائشة أخرجه البخاري رقم (1049) وأطرافه [1055، 1272، 6366] عن عائشة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يهودية جاءت تسألها فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر. فسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيعذب الناس في قبورهم؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عائذا بالله من عذاب القبر ". 6/ حديث أسماء بنت أبي بكر أخرجه البخاري رقم (1373). " قام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطب فذكر فتنة القبر القط يفق فيها المرء، فلما ذكر ذلك ضج المسلمون ضجة ". 7/ حديث أبي أيوب الأنصاري أخرجه البخاري رقم (1375). قال: خرج البني صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد وجبت الشمس فسمع صوتا فقال: يهود تعذب في قبورها. 8/ حديث أم خالد فقد أخرجه البخاري رقم (1376): عن موسى بن عقبة قال: " حدثتني ابنة خالد بن سعيد بن العاص أنها سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يتعوذ من عذاب القبر ". 9/ حديث أبي هريرة أخرجه أحمد (4/ 364) وابن ماجة رقم (4268) وهو حديث صحيح. 0 1/ حديث أبي سعيد أخرجه أحمد (3/ 3، 233، 346) وهو حديث صحيح. وفيه " ..... وإن كان كافرا أو منافقا يقول له- ملك في يداه مطراقة- ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا، فيقول: لا دريت ولا تليت ولا اهتديت، ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقول: هذا منزلك لو كنت آمنت بربك، فأما إذ كفرت به فإن الله عز وجل أبدلك به هذا فيفتح له بابا إلى النار، ثم يقمعه قمعة بالمطراق فيصيح صيحة يسمعها خلق الله عز وجل كلهم غير الثقلين ". 11/ حديث حمرة أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1386) وهو حديث طويل.

أنه لا يعذب إلا وروحه معه، وإدراكه، ولو لم يكن كذلك لكان العذاب الواقع على مجرد الجسم بلا روح ولا إحساس ليس بعذاب، لأن إدراك الألم واللذة مشروط بوجود ما به الإدراك. وإلا فلا إدراك لمن ليس له حياة ولا إحساس لمن لا روح له. وهذا أمر معقول لا يخالف فيه من له أدنى تعقل فضلا عن من له التعقل التام، والإدراك الصحيح. وإذا تقرر لك [1 أ] هذا فأي مانع من ملاقاة روح الحي في منامه لروح هذا الميت فيخبره ببعض الأخبار. الوجه الثالث: أنه قد ثبت تواترا أن النبي- صلى الله عليه واله وسلم- كان يزور القبور، ويخاطبهم. مما يخاطب به الأحياء كقوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا بكم- إن شاء الله- لاحقون، نسأل الله ولكم العافية " (¬1). الوجه الرابع: أنه- صلى الله عليه واله وسلم- خاطب أهل قليب (¬2) بدر، ثم قال لمن عنده: (ما أنتم بأسمع منهم) ولا يسمع الخطاب إلا حي، ووقوع هذا منه- صلى الله عليه واله وسلم- مع أهل القليب متواتر، وما روي (¬3) عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها- من الاحتجاج بعموم القرآن لا ينافي هذا الخاص. الوجه الخامس: ما ثبت في الصحيحين (¬4) وغيرهما من حديث ابن عمر أن رسول ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (104/ 975) والنسائي (9414 رقم 2040) وابن ماجة رقم (1547) والبغوي في شرح السنة رقم (1555) وأحمد في المسند (5/ 353 و360). كلهم من حديث سليمان ابن بريدة عن أبيه. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (104/ 975) والنسائي (9414 رقم 2040) وابن ماجة رقم (1547) والبغوي في شرح السنة رقم (1555) وأحمد في المسند (5/ 353 و360). كلهم من حديث سليمان ابن بريدة عن أبيه. (¬3) انظره في الرسالة رقم (23) من هذا القسم. (¬4) تقدم تخريجه آنفا (ص 621).

الله- صلى الله عليه واله وسلم- قال: " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعد بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار " وقد نطق بذلك الكتاب العزيز في حين أهل النار (¬1) يعرضون عليها غدوا وعشيا. والعرض يستلزم الإدراك، وإلا كان عبثا ليس فيه فائدة. وفي العرض أحاديث (¬2) كثيرة. الوجه السادس: ما ثبت في أحاديث (¬3) كثيرة أنها تعرض أعمال الأحياء على الأموات، وذلك يستلزم الإدراك الذي لا يتم إلا بالحياة. الوجه السابع: ما أخرجه ابن حبان في كتاب الوصايا (¬4)، والحاكم في المستدرك (¬5)، والبيهقي (¬6) وأبو نعيم (¬7) كلاهما في الدلائل عن عطاء الخراساني قال: حدثتني ابنة ثابت- ¬

(¬1) قال تعالى: {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [غافر: 146]. (¬2) انظر الأحاديث المتقدمة (ص 619 - 621). (¬3) بل وردت أحاديث ضعيفة في " معرفة الموتى في قبورهم بحال أهليهم وأقاربهم في الدنيا " والحديث الضعيف لا تقوم به حجة. انظر: " أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور " لأبي الفرج زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي (ص 150 - 157). - " المنامات " لابن أبي الدنيا (ص 18 - 22). - " شرح الصدور " للسيوطي (ص 342 - 345). - كتاب الترغيب والترهيب للحافظ أبي القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الجوزي الأصبهاني المعروف بـ (قوام السنة). (1/ 42 - 145 رقم 156، 157، 158، 159، 165، 161، 162، 163، 164). - وضعيف الجامع رقم (1395) و (1396) والضعيفة رقم (863 و864). (¬4) عزاه إليه السيوطي في " شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور " (ص 353). (¬5) (3/ 235) وقال الحاكم: " صحيح " ووافقه الذهبي. (¬6) في الدلائل (356/ 6 - 357). (¬7) في الدلائل (2/ 730 - 731).

ابن قيس بن كاس أن ثابتا قتل يوم اليمامة وعليه درع له نفسية، فمر به رجل من المسلمين فأخذها، فبينا رجل من المسلمين نائم إذ أتاه ثابت في منامه فقال: أوصيك بوصية فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه: إني لما قتلت أمس مر بي رجل من المسلمين، فأخذ درعي، ومنزله في أقصى الناس، وعند خبائه وبين لبستي في طوله، وقد كفأ على الدرع برمة، وفوق البرمة رحل فأت خالد بن الوليد فمره أن يبعث إلى درعي فيأخذها، وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله- صلى الله عليه واله وسلم- يعني أبا بكر الصديق- رضي الله عنه - فقل له: إن علي من الدين كذا وكذا، وفلان وفلان من رقيقي عتيق، وفلان، فأتى الرجل خالدا وأخبره، فبعث إلى الدرع فأتى ها، وحدثت أبا بكر برؤياه فأجاز وصيته قال: ولا نعلم أحدا أجيزت وصيته بعد موته [1ب] أ غير ثابت، فهذا كما ترى وهو وحده يكفي في جواب السؤال. وأخرج الحاكم في المستدرك (¬1)، والبيهقي في الدلائل (¬2) عن كثير بن الصلت قال: أغفى عثمان- رضي الله عنه - في اليوم الذي قتل فيه فاستيقظ فقال: إني رأيت رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في منامي هذا فقال: إنك شاهد معنا الجمعة. وأخرج أيضًا (¬3) عن ابن عمر أن عثمان أصبح فحدث فقال: إني رأيت النبي- صلى الله عليه واله وسلم- الليلة في منامي، فقال يا عثمان: أفطر عندنا فأصبح عثمان صائما. وقتل من يومه. ¬

= وأورده الهيثمى في المجمع (9/ 322) وقال رواه الطبراني وبنت ثابت بت قيس لم أعرفها، وبقية رجاله ثقات. (¬1) (9913) وقال: هدا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (¬2) (7/ 47 - 48). وأورده الهيثمي في المجمع (7/ 232): رواه أبو يعلى وفيه أبو علقمة مولى عبد الرحمن بن عود ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. (¬3) أخرجه البيهقي والدلائل (7/ 48).

وأخرج الحاكم (¬1) والبيهقي في الدلائل (¬2) عن سلمى قالت: دخلت على أم سلمة وهى تبكى فقلت: ما يبكيك؟ قالت: رأيت رسول الله- صلى الله عليه واله وسلم- في المنام يبكي، وعلى رأسه ولحييه التراب، فقلت: مالك يا رسول الله؟ قال: وشهدت قتل الحسين آنفا. وأخرج ابن أبي الدنيا (¬3)، وابن الجوزي في كتاب عيون الحكايات (¬4) بسنده عن شهر ابن حوشب أن الصعب بن جثامة، وعوف بن مالك، وكانا متواخين، فقال الصعب لعوف: أي أخي، أينا مات قبل صاحبه فليتراءى له قال: أو يكون ذلك؟ قال نعم، فمات الصعب فراه عوف في اليوم فقال: ما فعل بك قال: غفر لي بعد المشاق. قال: ورأيت لمعة سوداء في عنقه، قلت: ما هذه؟ قال: عشره دنانير استلفتها من فلان اليهودي فهي في قرني فأعطوه إياها. واعلم أنه لم يحدث في أهلي حدث بعد موتي إلا قد لحق لي خبره حتى هرة ماتت يوم كذا. واعلم أن بنتي تموت إلى ستة أيام، فاستوصوا بها معروفا قال: عوف: فلما أصبحت أتيت أهله، فنظرت إلى القرن وهو بالقاف محركا حجبه النشاب فأنزلته، فإذا فيه عشرة دنانير في صرة، فبعثت إلى اليهودي فقلت: هل كان لك على صعب شيء؟ قال: رحم الله صعبا كان من خيار أصحاب رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ¬

(¬1) في المستدرك (4/ 19) وفي سند الحاكم تحريف عجيب. فقد أخرجه الترمذي رقم (3860) والطبراني في الكبير (23/ 882) وقال الترمذي: غريب. وذلك لجهالة سلمى. (¬2) (4817). وخلاصة القول أن الخبر ضعيف والله أعلم. (¬3) في المنامات رقم (25). وأورده ابن القيم نقلا عن ابن أبي الدنيا. وقال: صح عن حماد بن سلمة. ثم ذكر الأثر كاملا. وقال: وهذا من فقه عوف رحمه ألله (الروح ص 20 - 21). (¬4) عزاه إليه السيوطي في " شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور " (ص 352).

أسلفته عشرة دنانير فنقدتها إليه قال: هي والله بأعيانها فقلت: هل حدث فيكم حدث بعد موت الصعب قالوا: نعم حدث فينا كذا، وحدث فينا كذا، فمازالوا يذكرون حتى ذكروا موت الهرة، قلت: أين ابنة أخي؟ قالوا: تلعب فأتيت ها ومسستها فإذا هي محمومة فقلت: استوصوا ها معروفا فماتت لستة أيام. وأخرج ابن المبارك في الزهد (¬1) عن عطية بن قيس، عن عوف بن مالك الأشجعي أنه كان مؤاخيا لرجل يقال له: محلم، ثم إن محلما حضرته الوفاة، فأقبل عليه عوف فقال له: إذا أنت وردت فارجع إلينا فأخبرنا بالذي صنع بك قال محلم: إن كان ذلك يكون لمثلي فعلت، فقبض [2أ] محلم، ثم ثوى عوف بعده عاما فرآه في منامه فقال: يا محلم، ما صنعت، وما صنع بك؟ قال: وفينا أجورنا كفها إلا الأحراض (¬2)، وهم الذين يشار إليهم بالأصابع في الشر، والله لقد وفيت أجري كفه، حتى أجر هرة ضلت لأهلي قبل وفاتي بليلة فأصبح عوف إلى امرأة محلم، فلما دخل قالت: مرحبا فقال عوف: هل رأيت محلما منذ توفي قالت: نعم (¬3) رأيته البارحة، ونازعني ابنتي ليذهب بها معه، فأخبرها عوف بالذي رأى، وذكره الهرة التي ضلت. فقالت: لا علم لي بذلك، خدمي أعلم فدعت خدمها فسألتهم فأخبروها أنها ضلت لهم هرة قبل موت محلم بليله، ومحلم هو ابن جثامة أخو الصعب. وأخرج النسائي (¬4) عن خزيمة قال: رأيت في المنام كأني أسجد على جبهة النبي ¬

(¬1) (2/ 633 رقم 779) بسند ضعيف. (¬2) قال صاحب لسان العرب (12713): الحرض: الرديء من الناس والكلام. والجمع أحراض. وقيل: هم الدين يشار إليهم بالأصابع أي اشتهروا بالشر. وقيل: هم الذين أسرفوا في الذنوب فأهلكوا أنفسهم. وقيل: الذين فسدت مذاهبهم. (¬3) في الأصل مكرر. (¬4) في السنن الكبرى (4/ 384 رقم 7631/ 3).

- صلى الله عليه واله وسلم- فأخبرته بذلك. فقال: إن الروح لتلقى الروح. وأخرج ابن أبي (¬1) الدنيا أن عفيف بن الحارث قال لعبد الله بن عائذ الصحابي - رضي الله عنه - حين حضرته الوفاة: إن استطعت أن تلقاني فتخبرنا ما لقيت بعد الموت، فلقيه في منامه بعد حين فقال له: ألا تخبرنا قال: نجونا، ولم نكد أن ننجو نجونا بعد المشيبات فوجدنا ربا خير رب، غفر الذنب، وتجاوز عن السيئة إلا ما كان من الأحراض، قلت له: وما الأحراض؟ قال: الذين يشار إليهم بالأصابع في الشر. وأخرج ابن أبي الدنيا (¬2) عن أبي الزاهية قال: عاد عبد الأعلى بن عدي ابن أبي بلال الخزاعي فقاله عبد الأعلى: أقرء رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مش السلام، وإن استطعت أن تلقانا فتعلمني ذلك، وكانت أم عبد الله أخت أبي الزاهرية تحت ابن أبي بلال، فرأته في منامها بعد وفاته بثلاثة أيام فقال: إن ابنتي بعد ثلاثة أيام لاحقتي، فهل تعرفين عبد الأعلى؟ قالت: لا. قال: فاسألي عنه، ثم أخبريه أني قد قرأت رسول الله - صلى الله عليه واله وسلم- منه السلام فرد عليه، فأخبرت أخاها أبا الزاهية بذلك فأبلغه. وأخرج ابن عدي (¬3)، وابن عساكر في تاريخه (¬4) عن محمد بن يحيي الجحدري قال: قال لي ابن الأجلح: قال أبي لسلمة ابن كهيل: إن مت قبلي فقدرت أن تأتيني في يومي ¬

= وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (7/ 182) " رواه أحمد بأسانيد، أحدها هدا وهو متصل، والطبراني ورجالهما ثقات " اهـ. (¬1) في المنامات رقم (159) بسند حسن. وأوردهـ السيوطي في " شرح الصدور " (ص 339). (¬2) في المنامات رقم (160) بسند حسن. وأورده السيوطى في " شرح الصدور " ص 359. (¬3) في المنامات رقم (160) بسند حسن. وأورده السيوطى في " شرح الصدور " ص 359. (¬4) عزاه إليه السيوطى في شرح الصدور ص 360.

فافعل، قال سلمة: وأنت إن مت قبلي فقدرت أن تأتيني في نومي فتخبرني. مما رأيت فافعل، فمات ابن سلمة قبل الأجلح فقال لي: أي بني علمت أن سلمة أتاني في نومي فقلت: أليس قدمت؟ قال [2ب]: إن الله قد أحياني قلت: كيف وجدت ربك؟ قال: رحيما. قلت: أيش رأيت أفضل الأعمال التي يتقرب بها العباد؟ قال: ما رأيت عندهم أشرف من صلاة الليل. قلت: كيف وجدت الأمر قال: سهلا، ولكن لا تتكلموا. وأخرج أحمد في الزهد (¬1)، وابن سعد في الطبقات (¬2) عن العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - قال: كان عمر بن الخطاب- خنه- لي خليلا، وإنه لما توفي لبثت حولا أدعو الله أن يرنيه في المنام قال: فرأيته على رأس الحول يمسح العرق عن جبهته قلت: يا أمير المؤمنين، ما فعل بك ربك؟ فقال: هذا أوان فزعت، وإن كان عرشي ليهد لولا أني لقيت ربا رؤوفا رحيما. وأخرج ابن سعد (¬3) عن سالم بن عبد الله قال: سمعت رجلا من الأنصار يقول: دعوت الله أن يري! ط عمر في اليوم فرأيته بعد عشر سنين وهو يمسح العرق عن جبينه، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما! لت؟. فقال: الآن فرغت، ولولا رحمة ربي لهلكت. وأخرج ابن سعد (¬4) أيضًا عن عبد الله بن عمرو قال: ما كان شيء أحب إلي أن أعلمه من أمر عمر فرأيته في المنام قصرا فقلت: لمن هذا؟ قالوا: لعمر، خرج من القصر عليه ملحفة كأنه قد اغتسل فقلت: كيف صنعت؟ قال: خيرا، كاد عرشي يهوي لولا أني لقيت ربا غفورا. قلت: كيف صنعت؟ قال: متى فارقتكم؟ قلت: ¬

(¬1) عزاه إليه السيوطي في " شرح الصدور" (ص 360) (¬2) (3/ 375). (¬3) في الطبقات (3/ 375). (¬4) في الطبقات (3/ 376).

منذ ثنتى عشرة سنة قال: إنما نقلت الآن من الحساب. وأخرج ابن عساكر (¬1) عن مطرف أنه رأى عثمان بن عفان- رضي الله عنه - في اليوم فقال: رأيت عليه ثيابا خضرا قلت: يا أمير المؤمنين، كيف فعل الله بك؟ قال: فعل بي خيرا. قلت: أي الدين خير؟ قال: الدين القيم ليس بسفك الدم. وأخرج ابن أبي الدنيا (¬2) عن محمد بن النضر الحارثي قال: رأى مسلمة بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز- رحمه الله- بعد موته فقال: يا أمير المؤمنين، ليت شعري إلى أي الحالات صرت بعد الموت؟. قال: يا مسلمة، هذا أوان فراغي، والله ما استرحت إلا الآن. قلت: فأين أنت؟ قال: مع أئمة الهدى في جنات عدن، والقصص في هذا كثير جدا، والتقاء أرواح الأحياء بأرواح الأموات معلوم يتفق منه في كل عصر مع كثير من الناس قصص، فلا حاجة لنا إلى الاستكثار من ذلك. قال الشيخ عز الدين (¬3) بن عبد السلام: أجرى الله العادة [3أ] إن الروح إذا كانت في الجسد كان الإنسان مستيقظا، فإذا خرجت من الجسد نام الإنسان، ورأت تلك الروح المنامات إذا فارقت الجسد ". قال ابن القيم (¬4): تلاقي أرواح الموتى وأرواح الأحياء أدلته أكثر مع أن يحصيها إلا الله تعالى، والحس الواقع من أعدل الشهود فتتلاقى أرواح الأحياء وأرواح الأموات كما تتلاقى أرواح الأحياء. قال الله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى} (¬5) انتهى، قلت: وفي هذه الآية أعظم دلالة على التقاء أرواح الأحياء، والأموات، لأن أرواح الأحياء عندما يتوفى الأنفس التي لم تمت تصير مجتمعة بأرواح الأموات بجامع ¬

(¬1) عزاه إليه السيوطي في " شرح الصدور ص 361 (¬2) في المنامات رقم (27) لإسناد منقطع. (¬3) في القواعد الكبرى (2/ 381). (¬4) في كتاب الروح (ص 28 - 29). (¬5) [الزمر: 42].

كون الله سبحانه توفى الجميع. أما الأموات فظاهر، وأما الأحياء ففي حالة النوم، وعند ذلك يتساءلون بينهم. وقد أخرج بقي بن مخلد، وابن منده (¬1) في كتاب الروح، والطبراني في الأوسط (¬2) من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية قال: بلغني أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام، فيتساءلون بينهم، فيمسك الله أرواح الموتى، ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها. ولا يخفاك أن ابن عباس- ر! نه- لا يقول هذا من نفسه، إذ لا مجال للاجتهاد فيه، فله حكم الرفع. وأخرج ابن أبي حاتم (¬3) عن السدي معناه. وأخرج جويبر (¬4) عن ابن عباس في هذه الآية قال: سبب ممدود ما بين المشرق ¬

(¬1) عزاه إليه ابن كثير في تفسيره (7/ 101). (¬2) (1/ 45 رقم 122). وأورده الهيثمي في المجمع (7/ 100) وقال: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح. (¬3) في تفسيره (10/ 3252 رقم 13897). (¬4) ذكره السيوطي في الدر المنثور (7/ 231). * قال ابن القيم في " الروح " (ص 29 - 30): الأقوال في هذه الآية:- 1/ القول الأول: أن الممسكة من توفيت وفاة الموت أولا، والمرسلة من توفيت وفاة النوم، والمعنى على هذا القول: أنه يتوفى نفس الميت فيمسكها ولا يرسلها إلى جسدها قبل بوم القيامة، ويتوفى نفس النائم ثم يرسلها إلى جدها إلى بقية أجلها فيتوفاها الوفاة الأخرى. 2/ القول الثاني - في الآية-: أن الممسكة والمرسلة في الآية كلاهما توفى وفاة النوم فمن استكملت أجلها أمسكها عنده فلا يردها إلى جسدها، ومن لم تستكمل أجلها ردها إلى جسدها لتستكلمه واختار شيخ الإسلام- ابن تيمية- هذا القول وقال: عليه يدل الكتاب والسمة. قال: فإنه سبحانه ذكر إمساك التي قضى عليها الموت من هذه الأنفس التي توفاها وفاة النوم، وأما التي توفاها حين موتها فتلك يصفها بإمساك ولا بإرسال، بل هي قسم ثالث. والذي يترجح هو القول الأول لأنه سبحانه أخبر بوفاتين وفاة كبرى وهي وفاة الموت، ووفاة صغرى وهي وفاة النوم، وقسم الأرواح قسمين: قسما قضى عليها بالموت فأمسكها عمده وهى التي توفاها وفاة الموت وقسما لها بقية أحل فردها إلى جسدها إلى استكمال أجلها، وجعل سبحانه الإمساك والإرسال حكمين للوفاتين المذكورتين أولا فهذه ممسكة وهذه مرسلة، وأخبر أن التي لم تمت هذه التي توفاها في منامها، فلو كان قد قسم وفاة النوم إلى قسمين: وفاة موت، ووفاة نوم لم يقل {والتي لم تمت في منامها} فإنها من حين قبضت ماتت، وهو سبحانه قد أخبر أنها لم تمت فكيف يقول بعد ذلك {يمسك التي قضى علتها الموت} ولمن نصر هذا القول أن يقول: قوله تعالى: {فيمسك التي قضى عليها الموت} بعد أن توفاها وفاة النوم، فهو سبحانه توفاها أولا وفاة نوم، ثم قضى عليها الموت بعد ذلك، والتحقيق أن الآية تتناول النوعين، فإله سبحانه ذكر وفاتين وفاة نوم، ووفاة موت، وذكر إمساك المتوفاه وإرسال الأخرى ومعلوم أنه سبحانه يمسك كل نفس ميت سواء مات في النوم أو في اليقظة، ويرسل نفس من لم يمت. فقوله سبحانه & يتوفى الأنفس حين موتها، يتناول من مات في اليقظة ومن مات في المنام.

والمغرب بين السماء والأرض، فأرواح الموتى إلى أرواح الأحياء إلى ذلك السبب، فتعلق النفس الميتة بالنفس الحية، فإذا أذن لهذه الحية بالانصراف إلى جسدها لتستكمل رزقها أمسكت النفس الميتة، وأرسلت الأخرى. وأخرج أبو الشيخ ابن حبان في كتاب الوصايا عن قيس بن قبيصة مرفوعًا " من لم يوصي لم يؤذن له في الكلام مع الموتى. قيل: يا رسول الله، وهل يتكلم الموتى؟ قال: نعم. ويتزاورون ". وأخرج أبو أحمد الحاكم في الكني (¬1) عن جابر مرفوعا: " من مات عن غر وصية لم يؤذن له في الكلام إلى يوم القيامة. قيل: يا رسول الله، ويتكلمون قبل يوم القيامة؟ قال: نعم. ويزور بعضهم بعضا ". وأخرج الديلمي (¬2) من طريق أبي هدبة عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ [3ب]: " رأيت امرأتان: واحدة تتكلم، والأخرى لا تتكلم، كلتاهما من أهل الجنة. فقلت لها: أنت تتكلمين، وهذه لا تتكلم فقالت: أما أنا فأوصيت، ¬

(¬1) عزاه إليه السيوطي في " شرح الصدور " (ص 349). (¬2) في الفردوس. بمأثور الخطاب (2/ 258 رقم 3202).

وهذه ماتت بلا وصية لا تتكلم إلى يوم القيامة ". وأخرج الطبراني في الأوسط (¬1)، وابن أبي الدنيا وأورده الهيثمي في المجمع (32712) وقال فيه مسلمة لن على، وهو ضعيف. (¬2) عن أبي أيوب الأنصاري- رضي الله عنه - أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: " إن نفس المؤمن إذا قبضت يلقاها أهل الرحمة من عباد الله كما يلقون البشر من أهل الدنيا، فيقولون: انظروا صاحبكم يستريح، إنه كان في كرب شديد، ثم يسألونه: ما فعل فلان وفلانة هل تزوجت؟ إذا سألوه عن الرجل قد مات قبله فيقول: هيهات قد مات ذاك قبلي، فيقولون: إلا لله وإلا إليه راجعون، ذهب به إلى أمه الهاوية ". والحاصل: أن رؤية الأحياء للأموات في المنام كائنة في جميع الأزمنة منذ عصر الصحابة إلى الآن. وقد ذكر من ذلك الكثير الطيب القرطبي في تذكرته، وابن القيم (¬3) في كثير من مؤلفاته، والسيوطي في شرح الصدور (¬4) بشرح أحوال الموتى في القبور. الوجه الثامن: من وجوه الأدلة المقتضية لالتقاء أرواح الأحياء والأموات، وهو دليل عقلي لا يمكن الإنكار له، ولا القدح في دلالته، ولا التشكيك عليه، وذلك أنه قد وقع في عصرنا فضلا عن العصور المتقدمة أخبار كثيرة من الأحياء أفم رأوا في منامهم أمواتا فأخبروهم بأخبار هي راجعة إلى دار الدنيا، إما بأن فلانا يموت في وقت كذا تصريحا منهم بذلك، أو تلويحا، أو بأن أهلي تركوا كذا أو فعلوا كذا، أو لم ينفذوا وصيتي، أو لم يواصلوني بالدعاء، أو عندي لفلان كذا، أو عند فلان لي كذا، أو يذكر شيئا قد أودعه بطن الأرض، أو خبأه عند بعض من يعرفه فينكشف ذلك صدقا وحقا ¬

(¬1) (1/ 53 - 54 رقم 148) مرفوعا. وفي الكبير رقم (3887). (¬2) في المنامات (ص 28 - 45) مختصرا بإسناد حسن. (¬3) في الروح (ص 28 - 45). (¬4) (ص 351 - 356).

مطابقا لخبره (¬1). فهذا من الأدلة العقلية القوية. وإذا ضمت هذا الدليل العقلي إلى ما قدمناه لك من الأدلة النقلية انقلع عنك شكال الإشكال، واندفع عنك عضل الإعضال- إن شاء الله-. وأما قول السائل- كثر الله فوائده-: فإن قيل أنها خصائص لبعض الأفراد فقد يتأهل لها ناس كير مرضين، فهل يجوز العمل هذه الأخبار ويترتب عليها أحكام أم ماذا يكون حالها؟ [4أ]. أقول: أما من لم يكن من أهل العدالة فأخباره مردودة غير مقبولة في اليقظة عن الأحياء فضلا عن الأموات، ولكن إذا أخبرنا عن الميت بشيء مطابق للواقع توجه العمل بذلك الخبر لكونه انكشف صحيحا، وأما إذا كان المخبر عدلا فيتعين قبول خبره، لكن إذا كان في حق له على الغير وجب الكشف كما وقع في الدليل السابع الذي قدمناه عن ثابت بن قيس بن تهاس، وأما إذا أخبر بأن عند فلان لفلان كذا، أو فلان فعل بفلان كذا فيجعل ذلك قرينة، فإن صح ما ذكره برهان شرعي عمل عليه، وإلا كان على المدعى عليه اليمن، وأما إذا أخبر بأن عنده لفلان كذا، فإن لم يصدقه الورثة كان عليهم اليمن أنهم لا يعلمون صحة هذا الخبر، ولا مطابقته للواقع، لأن من شرط الخبر أن يكون المخبر به حصل له سببه في اليقظة، لا في النوم، لأن النوم ليس فيه ضبط صحيح، والنائم غير ضابط ضبطا معتبرا في الرواية، ولكن لا يترك هذا الخبر هملا بل ¬

(¬1) في هامش المخطوط: ومن ذلك ما وقع للمجيب شيخ الإسلام- رضي الله عنه - وهو أنه قبيل موته بقليل قام من مرقده فظن من لديه أنه يريد الحاجة، فقاموا معه لئلا يتعثر فمشى خطوتين، ثم سجد سجدة طويلة كان يفعلها بعد الصلاة، ثم قام ورجع إلى محله، وتوفي بعد ذلك بنحو ساعتين أو ثلاث، فرأته بعض أفاضل الناس فقالت له:. بمعنى أنك سجدت قبل الموت فلم ذلك؟ قال: إنه ورد أن الإنسان ينظر ما سيؤول إليه وأين محله، فلما نظرت ذلك قمت لأسجد لله شكرا، وكذلك ل مص ض ولده كانت الأخوف، فطال المرض فوصل إلى بعض الخدم، وذكر أنه رأي شيخ الإسلام فقال: كيف ولدي أحمد؟ فذكر له أنه باق في مرضه، فقال: قل له يفعل كابلي من الذي كان معه يعرفني فتحيرت لأن الكابلى لا يناسب ذلك العارض ثم فعلته فبرئت بإذن الله رحمه الله وغفر له ورضي عنه.

يجب على الورثة اليمين (¬1). فإن قلت: قد جعل السائل قول الله- عز وجل-: {فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم ويرجعون} (¬2) دليلا على عدم قبول ما يرويه الأحياء عن الأموات في المنام. قلت: هذه الآية في شيء آخر، وهم الذين تقوم عليهم القيامة، وينفخ في الصور فيموتون جميعا، لا يستطيع أحدهم أن يوصي إلى الآخر بأن يبلغ أهله عنه. والسياق يوضح المعنى قال- عز وجل-: {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهليهم يرجعون} (¬3). ويدلا على ذلك ما أخرجه عبد الرزاق (¬4)، والفريابي (¬5)، ¬

(¬1) لا تثبت الأحكام بالإلهام والأحلام، وكذا صحة الأحاديث والأخبار: قال المحدث المباركفوري: " إن الحديث الذي لا يعلم صحته لا يكون صحيحا بتصحيحه قي المنام ولا بالكشف والإلهام، فإن أمثال هذا الحكم لا تثبت بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام وإنما تثبت بقوله في حياته في الدنيا ولأن مدار الحديث على الإسناد، تال القاري في شرح النخبة وأما الكشف والإلهام فخارجان عن المبحث لاحتمال الغلط فيهما ". انظر: مقدمة تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي (1/ 309). وقال ابن القيم في مدارج السالكين (1/ 77 - 78): وأما رؤيا غير- الأنبياء فتعرض على الوحي الصريح، فإن وافقته وإلا لم يعمل ها. فإن قيل؛ فما تقولون إذا كانت رؤيا صادقة، أو تواطأت؟ قلنا: مني كانت كذلك استحال مخالفتها للوص، بل لا تكون إلا مطابقة له، منبهة عليه، أو منبهة على اندراج قضية خاصة في حكمه، لم يعرف الرائي اندراجها فيه فيتنبه بالرؤيا على ذلك. (¬2) [يس: 50] (¬3) [يس: 48 - 50] (¬4) في تفسيره (2/ 144). (¬5) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (7/ 62).

وعبد بن حميد (¬1)، وابن المنذر (¬2)، وابن مردويه (¬3) عن أبي هريرة في تفسير الآية وهي: {فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهليهم يرجعون} (¬4) قال: تقوم الساعة والناس في أسواقهم يتبايعون، ويذرعون الثياب، ويجلبون اللقاح (¬5)، وفي حوائجهم فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون. وأخرج عبد بن حميد (¬6)، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد (¬7)، وابن المنذر عن الزبر ابن العوام قال: إن الساعة تقوم والرجل يذرع الثوب، والرجل يحلب الناقة، ثم قرأ {فلا يستطيعون توصية} (¬8) الآية. وأخرج البخاري (¬9) ومسلم (¬10) وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله " لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما فلا يتبايعانه، ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقط فيه " الحديث إلى آخره. وأما ما استدل به- عافاه الله- من قوله: " ولا أدري ما يفعل بي ولا بكم " (¬11). فهذا قاله رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في الدنيا فلا دخل له في مسألة السؤال، والأمر ظاهر واضح [4ب]. قال السائل- كثر الله فوائده-: المسألة الثانية: مسألة المقذيين (¬12)، وهذه المسألة أشد إشكالا من الأولى، وعذابه كون فاعلها يستخرج أشياء من الجوف الحيواني ¬

(¬1) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (7/ 62). (¬2) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (7/ 62). (¬3) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (7/ 62). (¬4) [يس: 50] (¬5) اللقاح: ذوات الألبان. النهاية (4/ 262). (¬6) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (7/ 62). (¬7) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (7/ 62). (¬8) [يس: 50] (¬9) في صحيحه رقم (7121). (¬10) في صحيحه رقم (157). (¬11) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1243) من حديث أم العلاء. (¬12) قذت قذيا وأقذيتها إذا أخرجت منها القذى، والقذى، ما يقع في العين وما ترس به. والمقصود ها هنا رقية باطلة يفعلها بعض الجهلة. لسان العرب (11/ 77).

والجمادي مثل الطعام والحصاة والرصاص والشعري، وغير ذلك إلى آخر ذكره. أقول: قد ثبت عنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- صحة الرقية للحمة (¬1) من الحية والعقرب ونحوهما، وقال للذي (¬2) يرقى بالفاتحة: وما يدريك أنها رقية! متعجبا من إصابته وقال له: اضربوا لي معكم بسهم، يعني في الجعل الذي أخذوه من المرقط للراقي. وهو القطيع (¬3) من الغنم وهذا ثابت في الصحيح (¬4). فإذا كان الذي يرقط من شيء من أخلاط الجوف، أو من شيء نشب في الحلق، أو نحو ذلك بصيرا في هذه الصناعة، مجربا فيها فلا بأس بأن يطلب منه ذلك، ونحمله على أن عنده رقيه غير مخالفة للشرع، ما لم نعلم أن تلك الرقية التي استخرج ها ذلك مخالفة للشرع. وقد ورد مدح الذين لا يسترقون ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون كما في الأحاديث (¬5) الصحيحة. ولكن ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (10/ 205) رقم الباب 37. باب رقية الحية والعقرب، وذكر فيه حديث عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال: سألت عائشة عن الرقية من الحمة فقالت: رخص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الرقية من كل ذي حمة. أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5741) ومسلم في صحيحه رقم (2193). (¬2) أخرجه البخاري قي صحيحه رقم (5736) ومسلم رقم (2201) من حديث أبي سعيد الخدري. (¬3) وهو قول البخاري في صحيحه (10/ 198) رقم الباب (34). باب الشرط في الرقية بقطع من الغنم. (¬4) عند البخاري رقم (5737) من حديث ابن عباس رضي الله عنه: " أن نفرا من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مروا. بماء فيه لديغ أو سليم فعرض لهم رجل من أهل الماء فقال: هل فيكم من راق؟ إن في الماء رجلا لديغا أو سليما، فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء فبرأ، فجاء بالشاء إلى أصحابه فكرهوا ذلك وقالوا: أخذت على كتاب الله أجرأ، حتى قدموا المدينة فقالوا: يا رسول الله، أخذ على كتاب الله أجرا، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله ". (¬5) (منها): ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5752) ومسلم رقم (374/ 220) من حديث ابن عباس قال: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يدخل الجنة من أمتي سبعون ألف بغير حساب هم الذين لا يسترقون ولا يتطرون ولا يكتوون على ربهم يتوكلون ".

ذلك فضيلة لا حتم. فقد قرر- صلى الله عليه واله وسلم- أصل الرقية، ومدح عليها، وأخذ من الجعل المجعول لصاحبها كما تقدم في حديث الرقية. وهذا باب من أبواب الطب والتداوي به. وقد صح عنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الأمر (¬1) بالتداوي وإن كان التوكل (¬2) أفضل من ذلك، فإنه قد يشفط الله المريض على يد ذلك الراقي برقية حق لا برقية باطل، فإنه أخبرني بعض ثقاة العلماء أن والده وكان من كبار العلماء الحريصين على العمل بالسنن، وهجر البدع نشب بحلقه عظم، وأعيت الحيلة في استخراجه، فجاء رجل من أهل هذه الصناعة الذين يقال لهم في بلادنا مقذيون، وهم من جملة من يندرج تحت اسم الراقين، فرقاه فخرج العظم من حلقه. فهذا صنع حسن، وطب محمود، ورقية نافعة. ولهذه القصة أخوات كثيرة. والحاصل أنه لا فرق بين من يرقط من حمة، وبن من يرقي مما يؤذي، لأن الجامع بينهما أنه استخراج من البدن لما يحصل به التأذي، وإن اختلفا بشدة التألم والإفضاء إلى الموت في البعض دون البعض، مهما كانت بحق لا بباطل، فالكل من باب [5أ] الطب المحمود، وفيه أجر عظيم، لأن الإنسان يشح بنفسه فوق شحه. بماله، والتسبب لعافيته من مرضه أعظم أجرا من التسبب لغناه ودفع الحاجة عنه، ولذا قال الشاعر: يجود بالنفس إن ضن الجبان بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود وهذا معلوم لكل فرد من أفراد بني آدم أنه يطلب ما يدفع عنه المرض طلبا فوق طلب ¬

(¬1) (منها) ما أخرجه مسلم في صحيحه (69/ 2204) من حديث جابر: " أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء بريء بإذن الله ". (ومنها) ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5678) من حديث أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء". (¬2) لما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5652) ومسلم في صحيحه رقم (2576) من حديث ابن عباس لا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأتته امرأة سوداء فقالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي قال: إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله أن يعافيك قالت: أصبر ".

شيء من الدنيا. ثم الدليل العقلي قد دل على جواز الاستشفاء بالأدوية، بل على مشروعية ذلك، وهذا منها. وقد يكون المدعي لذلك مخرقا متحيلا لطلب ما يحصل له من الجعل، وهذا لا شك أنه إذا عرف منه ذلك لم يجز قصده، ولا التداوي كما لو عرف من يدعى الطب. ممثل ذلك، وليس كلامنا إلا فيمن عرف حاله بإدراك تلك الصناعة وجرب. قال- كثر الله فوائده-: المسألة الثالثة: إذا أتى الرجل الجماعة، فوجد قد أم رجل غير مرضى عنده، وإن كانت أحوال الناس مبنية على السلامة، وإحسان الظن بالمسلمين أولى من الوساوس الشيطانية، والأوهام الفاسدة- أعاذنا الله من ذلك- وإنما قد يفضل ذلك كثير من الفقهاء المتسميين، فهل يجوز له اجتناب الجماعة؟ إلخ ما ذكره. أقول: هذا الداء العضال لا يتعلق إلا بأحد رجلن: إما جاهل للشرائع وكفى بجهله حجة عليه، ويجب على أولي الأمر ومن لهم قدرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يعاقبوه حتى يترك ما خيله له جهله ويكرهوه على أن يسلك مسلك غيره من عباد الله من الائتمام. ممن يؤمهم، فالجاهل يقتدي بغيره، ويسأل أهل العلم، حتى ترتفع عنه الجهالة، ويعرف المسالك الشرعية، فما جئ عليه سوى جهله، وعلى براقش نفسها (¬1) تجئ وإما رجل قد تلبس بشيء من العلم من دون أن يمعن فيه، ويعرف ما ورد في تحسين الظن الحسن، ويقبح الظن السيئ، فهذا أشد الرجلين ذنبا، وأكثرهم إثما، فإنه لا يفعل ذلك إلا وقد صار معجبا بنفسه، وصار مستحقرا لغيره، فجمع بين ذنبن عظيمين، ولا سيما إذا كان له هيئة. بملبوسه، فإنه يقتدي به من يراه من العوام، ويصنعون كصنعه، [5ب] فيضل ويضل. وقد تأملنا حال جماعة ممن أصيب هذا الداء فوجهناهم متفقين في ¬

(¬1) قال الميداني في مجمع الأمثال (2/ 337): كانت براقش كلية لقوم من العرب، فأغير عليهم، فهربوا ومعهم براقش فاتبع القوم آثارهم بنباح براقش، فهجموا عليهم فاصطلموهم، قال حمزة بن بيض. لم تكن عن جناية لحقتني ... لا يساري ولا يميني رمتني بل جناها أخ علي كريم ... وعلى أهلها براقش تجني

صفة واحدة هي كما ذكرنا أن يظن أنه قد نال نصيبا من العلم ظنا فاسدا، وجهالة مركبة، وقد يجمع عليه جماعة من العامة الذين لا يفهمون حقيقة، فيريد أن ينبل في أعينهم بالعلم والورع، فينتقص أهل العلم وأهل الدين، وضميره المستتر أنه بحاله أعلى من حالاتهم، وجلالة أكبر من جلالتهم، فيوقعه ذلك في هذا الذنب العظيم. وصار لا علم ولا عمل ولا تورع عن أعراض أهل العلم وصالحي عباد الله. قال السائل- عافاه الله-: ثم كذلك ما يفعل بعض المتفقهين من أنه يأتي إلى الصلاة في آخر وقتها فيؤم يصلى هم مثلا الظهر في آخر وقتها، ثم يتبعها بصلاة العصر بعد دخول الوقت. ممن صفى هم، وقد ينضم إليه جماعة آخرون من المنتظرين لصلاة العصر مع الإمام الراتب، والإمام الراتب قد صار في المسجد متأهبا إما يتوضئ أو يركع إلى آخر كلامه. أقول: هذا الذي أخر الظهر إلى آخر وقتها قد أحرم نفسه الأجر العظيم، وأحرم من اقتدى به، فإنه قد صح أن الصلاة لأول (¬1) وقتها من أفضل الأعمال، وجمع بين الصلاتين لا لسبب، بل لمجرد استثقال العبادة، وعدم الرغوب إليها، وفعل منكرا عظيما بالتجميع في مسجد فيه راتب يؤم فيه، وفرق الجماعة مع صحة النهى (¬2) عن النبي - صلى الله عليه واله وسلم- عن تفريق الجماعة، وقال: ...................... ¬

(¬1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري قي صحيحه رقم (527) ومسلم رقم (85) من حديث عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: " الصلاة على وقتها " قلت: ثم أي؟ قال " بر الوالدين " قلت: ثم أي؟ قال: " الجهاد في سبيل الله ". (¬2) (منها) ما أخرجه مسلم قي صحيحه رقم (1848/ 53) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فميتته جاهلية ". (ومنها) ما أخرجه البخاري قي صحيحه (7143) ومسلم قي صحيحه رقم (55/ 1849) من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من رأى من أمره شيئا يكرهه فليصب فإن فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية ".

مالي أراكم عزين (¬1)، أي متفرقين! وأدخل الشحناء بين المسلمين، ووثب على وظيفة هي لغيره فيتوجه الإنكار عليه وزجره. وإذا لم يرعو عزر بالحبس وغيره. ولا يصدر ذلك من عارف قط، بل يقع في هذا المنكر جاهل ظن بنفسه العلم، وعاص ظن أنه مطيع مع ما يصحب ذلك من التكبر والعجب، وظن الشمر بالناس، والانقياد للشيطان بزمام. قال السائل- كثر الله فوائده-: المسألة الرابعة: في الرجل يتولى على شيء من أموال المصالح من طريق إمام الزمان، ويفرض له أجرة معلومة، فيتوسع في التكليف، فإن كان من أهل الرياسة توسع في الأعوان والمراكيب والسلاح والفراشات والنفائس العظيمة، وإن كان من أهل العلم توسع في جمع الكتب العظيمة النفيسة إلى آخر كلامه. أقول [6أ] إن كان رزق هذا الذي فرضه له الإمام من بيت المال معلوما، وكان لا يقوم ذلك. مما توسع به في النفقة والكسب فهو خائن إن كان متوليا على شيء من بيت المال، أو من الأوقاف، أو من سائر الأعمال، وإن كان قاضيا فهو مرتش، آكل لأموال الناس بالباطل. هذا على تقدير أن دخله معلوم، وأنه لا دخل له من عمل آخر غير ذلك، وإن كان له من بيت المال دخل غير ما هو معلوم عند من لا يعرف حاله، أو هو متول على أعمال متعددة بحيث يمكن منها أن يتوسع التوسع الذي صار فيه، فينبغي تحسين الظن به، وإعمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في شأنه ويشافهه، فهو إن كان من أهل العلم لا يحرج من ذلك، وأما ما يجوز له تناوله فإن كان له من بيت المال ¬

(¬1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه رقم (119/ 430) من حديث جابر بن حمرة قال: خرج علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس؟ اسكنوا في الصلاة " قال ثم خرج علينا فرآنا حلقا. فقال: " مالي أراكم عزين؟ ". . خيل شمس: أي لا تستقر بل تضرب وتتحرك بأذنابها وأرجلها. عزين: أي جماعات في تفرقة.

ما يكفيه لا يجوز له أن يأخذ أجرة غير ذلك، بل يقتصر على ذلك، وإذا قصرت الجراية عن تكليفه طلب من الإمام أن يزيد على ما جعله له من بيت المال إلى القدر الذي يقوم به، فإن لم يفعل الإمام ترك العمل الذي فوضه فيه، واشتغل بغيره، واتكل على خالقه في رزقه، فقد جرت عاده الله- عز وجل- أن من ترك ما لا يحل له عوضه الله من حلاله، ووسع عليه، فقد تكفل- سبحانه- برزق عباده، وأمرهم بطاعته والقيام. مما شرعه لهم. قال- كثر الله فوائده-: المسألة الخامسة: في أموال المصالح المعشرية مثل المناهل والمساجد والس! بل، هل يجب فيها الزكاة إلى آخر كلامه؟. أقول: إن كانت الأموال مكسوبة من فاضل الغلة لمثل المساجد والمناهل ونحوهما ففيهما الزكاة كغيرها من أموال الناس، وعموم أدلة الزكاة متناولة لها، لأنها أموال، وإما أنها تجب الزكاة في نفس الزكاة المسوقه إلى بيت المال فلا، وكذلك الجزية المسوقة إلى من هي له لا تجب فيها الزكاة، لأنها من أموال الله- عز وجل- وقد صارت إلى مصرفها، فإخراج بعضها زكاة يحالف موضوعها الشرعي، ويجوز للعامل على هذه الأمور إذا كانت له ولاية شرعية عليها أن يأخذ أجرته بالمعروف، وأما من كان أمر زكاته إليه بتفويض من الإمام كالإجبار فواجب عليهم أن يصرفوها في مصارفها، ولا يأخذوا منها شيئا، فإن أخذوا فهو منكر يجب إظهاره عليهم، ولو كان مصرفا فلا يجوز له أن يصرف زكاته في نفسه. وإلى هنا انتهى الجواب بقلم كاتبه محمد بن على الشوكاني- غفر الله له [6ب]-.

بحث في مستقر أرواح الأموات

بحث في مستقر أرواح الأموات تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط 1 - عنوان المخطوط: (بحث في مستقر أرواح الأموات). 2 - موضوع الرسالة: في العقيدة. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله الطاهرين. اعلم أنه قد طال الخلاف بين أهل العلم في مستقر أرواح الأموات ... 4 - آخر الرسالة: وفي أن البدن يصير حيا جما كحالته في الدنيا، أو حيا بدوها حيث شاء الله، فإن ملازمة الحياة للروح أمر عادي لا عقلي وفي وهذا القدر كفاية. انتهى. 5 - نوع الخط: حط نسخط معتاد. 6 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني. 7 - عدد الأوراق: ورقتان. 8 - عدد الأسطر في الصفحة: الأولى: 9 سطرا. الثانية: 34 سطرا. الثالثة: 31 سطرا. الرابعة: 20 سطرا. 9 - عدد الكلمات في السطر: 9 - 11 كلمة. 10 - الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله الطاهرين. اعلم أنه قد طال الخلاف بين أهل العلم في مستقر أرواح الأموات من المؤمنين والعاصين بعد مفارقتها للأجساد. فذهب جمهورهم إلى أنها في حواصل طيور في الجنة يذهب حيث شاءت، واستدلوا. مما ورد من الأحاديث التي يتضمن بعضها مستقر أرواح الشهداء على الخصوص، وبعضها مستقر أرواح المؤمنين على العموم، فمن ذلك ما ثبت في صحيح مسلم (¬1) وغيره من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-[1أ]:" أرواح الشهداء عند الله في حواصل طيور خضر تسرح في أنهار الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش "، وأخرجه أحمد (¬2)، وأبو داود (¬3)، والحاكم (¬4)، والبيهقي (¬5) من حديث ابن عباس. وأخرج نحوه بقى بن مخلد (¬6) من حديث أبي سعيد، وأخرج نحوه أيضًا أبو الشيخ من حديث أنس، وأخرجه أيضًا هناد بن السري (¬7)، وابن منده (¬8) من حديث أبي سعيد الخدرى من وجه آخر, وأخرج ابن أبي حاتم (¬9) من حديث ابن مسعود: " أن أرواح ¬

(¬1) في صحيحه رقم (121/ 1887). (¬2) في المسند (1/ 266). (¬3) في السن رقم (2520). (¬4) في المستدرك (2/ 88): وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. (¬5) في السنن الكبرى (9/ 163) في الدلائل 3/ 304) وهو حديث صحيح. (¬6) عزاه إليه ابن القيم في "الروح " (ص 114). والسيوطى في " شرح الصدور " (ص 305). (¬7) في كتاب الزهد (1/ 121 رقم 156) بإسناد ضعيف جدا. (¬8) عزاه إليه السيوطي في " شرح الصدور " (ص 305). (¬9) عزاه إليه السيوطي في " شرح الصدور " (ص 373).

المؤمنين في أجواف عصافير تعرج في الجنة حيث شاءت ". وأخرج مالك في الموطأ (¬1)، وأحمد (¬2)، والنسائي (¬3) بإسناد صحيح من حديث كعب بن مالك أن رسول الله- صلى الله عليه واله وسلم- قال: " إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه "، ومعنى يعلق يأكل وهو بضم اللام. وأخرج أحمد (¬4)، والطبراني (¬5) بإسناد حسن عن أم هانيء عن النبي- صلى الله عليه واله وسلم- مثله. وأخرج نحوه ابن عساكر (¬6) من حديث أم بضر، والبيهقي في الشعب (¬7) من حديثها نحوه من طريق أخرى. وأخرج ابن منده (¬8)، والطبراني (¬9)، وأبو الشيخ (¬10) من حديث ضمرة بن حبيب نحوه أيضا. ¬

(¬1) (1/ 240). (¬2) في المسند (3/ 456). (¬3) في السنن (4/ 108) وهو حديث صحيح. (¬4) في المسند (6/ 425) بإسناد ضعيف. (¬5) في الكبير (24/ 4384 رقم 1072). وأورده الهيثمي في " المجمع " (2/ 329) وقال رواه أحمد والطبراني في الكبير وفيه ابن لهيعة وفيه كلام. (¬6) عزاه إليه السيوطي في " شرح الصدور " (ص 307). وعزاه في كنز العمال (15/ 687 - 688) لابن سعد عن أم بشر بن البراء. (¬7) في البعث والنشور رقم (205). (¬8) عزاه إليه السيوطى في " شرح الصدور " (ص 307). (¬9) في الكبير (19/ 66) بنحوه. (¬10) عزاه إليه السيوطي في " شرح الصدور " (ص 307).

وأخرج ابن مردويه (¬1) من حديث ابن عمر نحوه أيضا. وقالت طائفة من الصحابة والتابعين: إن أرواح المؤمنين عند الله ولم يزيدوا على ذلك. واستدلوا. ممثل ما رواه سعيد بن منصور (¬2) في سننه عن ابن عمر عنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: (الأرواح عند الله في السماء)، ويندرج في هذا القول قول من قال: إنها في السماء السابعة، وقول من قال: إنها في دار فيها، لأنها عند الله - سبحانه-. وقال جماعة من الصحابة والتابعين: إن الأرواح تجمع في موضع من الأرض، فأرواح المؤمنين بالجابية (¬3)، وأرواح الكفار في بير برهوت (¬4). وقيل أرواح المؤمنين بزمزم، وقيل بأريحا، وقيل بالأردن، وقيل ما بين السماء والأرض. ¬

(¬1) عزاه إليه السيوطى في " شرح الصدور" (ص 310) من حديث أبي سعيد الخدري. ولم أعثر عليه من حديث ابن عمر معزوا لابن مردويه (¬2) في سننه (3/ 1104 - 1105 رقم 539) من حديث عبد الله بن مسعود. (¬3) الجابية. بكسر الباء وياء مخففه وأصله في اللغة الحوض الذي يحيى فيه الماء للإبل. وهى قرية من أعمال دمشق ثم من عمل الجيدور من ناحية الجولان قرب مرج الصفر في شمال حوران وبالقرب منها تل يسمى تل الجابية. معجم البلدان (2/ 91) (¬4) واد باليمن، وقيل برهوت بئر بحضر موت وقيل هو اسم للبلد الذي فيه هذه البئر. وقيل: بئر ماؤها أسود منتن تأوي إليه أرواح الكفار. وقال الأصمعي عن رجل من حضر موت قال: إنا نجد من ناحية برهوت الرائحة المنتنة الفظيعة جدا. معجم البلدان (1/ 405 - 406).

واستدلوا بمثل ما أخرجه ابن مردويه (¬1)، وابن عساكر (¬2) من حديث عبد الله بن عمر: " أن أرواح المؤمنين تجمع بالجابية، وأرواح الكفار تجمع ببير برهوت ". وأخرج ابن أبي الدنيا (¬3) عن على قال: (أرواح المؤمنين في بير زمزم، وأرواح الكفار ببير برهوت). وأخرج الحاكم في المستدرك (¬4)، وابن منده (¬5) عن عبد الله بن عمر: " أن أرواح ¬

= قال ابن القيم في "الروح" (ص 126): أما قول من قال إن أرواح المؤمنين تجتمع بير زمزم فلا دليل على هذا القول من كتاب ولا سنة يجب التسليم لها ولا قول صاحب يوثق به وليس بصحيح فإن تلك البئر لا تسع أرواح المؤمنين جميعا وهو مخالف لما ثبتت به السنة الصريحة من أن نسمة المؤمن طائر يعلف في شجر الجنة. قال ابن القيم في الروح (ص 125): أما قول عبد الله بن عمر إن أرواح المؤمنين بالجابية- فإذا أراد عبد الله بن عمر بالجابية التمثيل والتشبيه وأنها تجمع في مكان فسيح يشبه الجابية لسعته وطيب هوائه فهذا قريب وإن أراد نفس الجابية دون سائر الأرض فهذا لا يعلم إلا بالتوقيف ولعله مما تلقاه عن بعض أهل الكتاب. وأما من قال إن أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة فهذا قول قد قاله جماعة من السلف والخلف ويدل عليه قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم الرفيق الأعلى" ... ولكن هذا لا يدل على استقرارها هناك بل يصعد بها إلى هناك للعرض على ربها فيقضى فيها أمره ويكتب كتابة من أهل عليين أو من أهل سجين، ثم تعود إلى القبر للمسألة ثم ترجع إلى مقرها التي أودعت فيه فأرواح المؤمنين في عليين بحسب منازلهم وأرواح الكفار في سجين بحسب منازلهم. (¬1) لم يعزه السيوطي لابن مردويه بل عزاه لابن منده في " الجنائز" وابن عساكر من حديث عبد الله بن عمر (¬2) عزاه إليه السيوطي في " شرح الصدور " (ص 312) (¬3) عزاه بليه السيوطى في "شرح الصدور" (ص 313) (¬4) (3/ 528) وقال الذهبي: الأخنس تابعي كبير أودعه البخاري في الضعفاء، وقواه أبو حاتم وغيره (¬5) عزاه إليه السيوطي في " شرح الصدور " (ص 313)

المسلمين تجتمع بأريحا، وأرواح المشركين بصنعاء " فبلغ ذلك [1 ب] كعب الأحبار فقال صدق. وقالت طائفة: إن أرواح المؤمنين في الجنة، وأرواح الكفار في النار. واستدلوا. مما أخرجه ابن ماجة (¬1)، والطبراني (¬2)، والبيهقي في الشعب (¬3) بإسناد حسن من حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أم بشر بنت البراء أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: " إن نسمة المؤمن تسرح في الجنة حيث شاءت، ونسمه الكافر في سجين ". وبما أخرجه أبو داود (¬4) من حديث أبي هريرة أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، لما رجم الأسلمي الذي اعترف عنده بالزنا قال: "والذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة ينغمس". وبما أخرجه البزار (¬5)، والطبراني (¬6) من حديث جابر أن النبي- صلى الله عليه وآله ¬

(¬1) في السنن رقم (4271) (¬2) في الكبير (19/ 64 رقم 120) (¬3) في البعث والنشور رقم (205) قلت: وأخرجه أحمد (3/ 455) والنسائي (4/ 108) ومالك (1/ 186) وأبو نعيم في الحلية (9/ 156) كلهم من طريق مالك به وهو حديث صحيح. (¬4) في السنن رقم (4428). قلت: وأخرجه النسائي في السنن الكبرى (4/ 276 - 277 رقم 7164/ 1) والدار قطني في السنن (3/ 196 رقم 339). وهو حديث ضعيف انظر الضعيفة رقم (2957). (¬5) لم أعثر عليه ولم يعزه الهيثمي في المجمع (9/ 223 - 224) للبزار. (¬6) في الأوسط (8/ 120 رقم 8153). وأورده الهيثمي في المجمع (9/ 223) وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير باختصار، ورجالهما رجال الصحيح غير مجالد بن سعيد، وقد وثق وخاصة في حديث جابر

وسلم- سئل عن خديجة فقال: " أبصرتها على نهر من أنهار الجنة في بيت من قصب لا لغو فيه ولا نصب". وأصله في الصحيح (¬1). ويدل على ذلك أحاديث كثيرة مصرحة بأن أرواح المؤمنين في الجنة، وأرواح الكافرين في النار. وقالت طائفة: إن أرواح المؤمنين عن يمين آدم، والكفار عن شماله. واستدلوا. بما ثبت في الصحيح (¬2) في حديث الإسراء أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لما أسرى به وجد آدم في سماء الدنيا، وأرواح أهل السعادة عن يمينه، وأرواح أهل الشقاوة عن يساره، فإذا نظر إلى أهل السعادة ضحك، وإذا نظر إلى أهل الشقاوة بكى. قال محمد بن نصر المروزي (¬3): إن إسحاق بن راهوية قال: وعلى هذا أجمع أهل العلم، وقال ابن حزم (¬4) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيم (¬5) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (¬6): وهو قول جميع أهل الإسلام. ¬

(¬1) عند البخاري في صحيحه رقم (3820) من حديث أبي هريرة قال: أتى جبريل النبي فقال: "يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب " (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (263/ 163) (¬3) في " الرد على ابن قتيبة " في تفسير قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بنى أدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم} (الأعراف: 172)، كما ذكره ابن القيم في الروح (ص 129) وابن حزم في الفصل (4/ 124) (¬4) في المحلى (1/ 24رقم المسألة 43) وفي "الفصل" (4/ 124) وذكره ابن القيم في الروح (ص 128). وذكره السيوطي في "شرح الصدور" ص 315، قال ابن حزم: وهو قول جميع أئمة الإسلام، وهو قول الله تعالى: (¬5) [الواقعة: 8 - 12]. وقول: (¬6) [الواقعة: 88] إلى أخرها، فلا تزال الأرواح هناك حتى يتم عددها بنفخها في الأجساد ثم برجوعها إلى البرزخ، فتقوم الساعة، فيعيدها عز وجل إلى الأجساد، وهى الحياة الثانية

قلت: ولا تصح (¬1) هذه الدعوى للإجماع، فإن الطوائف مختلفة حسبما قدمنا، والأدلة متنافية في الظاهر، وكون أرواح الكفار في السماء غير مسلم وإن كان ذلك مجرد العرض على آدم. من دون استقرار فلا بأس، ولكن الخلاف في مستقر الأرواح. وقالت طائفة: إن أرواح المؤمنين والكافرين على أفنية القبور إلا أرواح الشهداء فإنها في الجنة. وحكاه ابن حزم (¬2) عن عامة أصحاب الحديث. وقالت طائفة: إن أرواح المؤمنين في عليين، وأرواح الكفار في سجين. ورجح هذا القول الحافظ ابن حجر (¬3) وقد تقدم في الأحاديث التي ذكرناها ما يخالفه. وقد استدل بعض أهل العلم لهذا القول. مما في حديث الجريدة (¬4)، وأنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: " إنه يخفف على القبرين ما دامت رطبة" ولا يتم [2أ] هذا الاستدلال، فان التخفيف لا يستلزم أن تكون الروح المخفف عنه في ذلك المكان. وقالت طائفة من المتكلمين: إن الأرواح (¬5) تموت. بموت الأجساد، وهذا القول باطل ¬

(¬1) انظر " الروح " لابن القيم (127 - 128) (¬2) في "الفصل" (4/ 12): ثم قال عقبه وهذا قول لا حجة له أصلا تصححه إلا خبر ضعيف لا يحتج. ممثله. وقال ابن القيم في " الروح " ص 119: وأما قول من قال الأرواح على أفنية قبورها، فإن أراد أن هذا أمر لازم لها لا تفارق أفنية القبور أبدأ فهذا خطأ ترده نصوص الكتاب والسنة. وإن أراد أنها تكون على أفنية القبور وقتا، أولها إشراف على قبورها وهى في مقرها فهذا حق ولكن لا يقال مستقرها أفنية القبور. ودليلهم على ذلك حديث ابن عمر: " أن أحدكم إذا مات عرض عليه معقدة بالغداة والمشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة. (¬3) ذكره السيوطي في "شرح الصدور" (ص 320) (¬4) تقدم تخريجه في الرسالة رقم (12) (ص620 - 621) (¬5) ذكره السيوطي في "شرح الصدور" (ص 332)

ترده الأدلة الصحيحة، وتدفعه الإجماعية المحكية عن أهل الإسلام من طرق وقد نص هذا القول إلى المعتزلة (¬1)، ولا يصح ذلك، وقد جمع بين هذه الأقوال بأن الأرواح متفاوتة في مستقرها، وأن الأدلة إلى قدمناها كل نوع منها وارد على فريق من الناس، وهذا جمع حسن، قال القرطبي (¬2): الأحاديث دالة على أن أرواح الشهداء خاصة في الجنة دون غيرهم، فإن أرواحهم تكون في السماء تارة، وفي الجنة تارة، وعلى أفنية القبور تارة. وقد ورد أن أرواح الشهداء على بارق نهر بباب الجنة، وفي بعض ألفاظه ما يدل على أن النهر خارج الجنة، ويمكن الجواب عن هذا بأنها تفارق الجنة في بعض الحالات اختيارا منها، وتعود إلى حيث كانت. قال ابن تيمية (¬3): الأحاديث متواترة على عود الروح إلى الجسد وقت السؤال. وقال تقي الدين (¬4) السبكي: عود الروح إلى الجسد ثابت في الصحيح بجميع الموتى فضلا عن الشهداء، وإنما النظر في استمرارها في البدن، وفي أن البدن يصير حيا بها كحالته في الدنيا، أو حيا بدونها حيث شاء الله، فإن ملازمة الحياة للروح أمر عادي لا عقلي. وفي هذا القدر كفاية انتهى. ¬

(¬1) المعتزلة: اسم يطلق على فرقة ضالة منحرفة ظهرت في الإسلام في القرن الثاني الهجري ما بين (105 - 110هـ) بزعامة رجل يسمى: "واصل بن عطاء الغزال". نشأت هذه الطائفة متأثرة بشيء الاتجاهات الموجودة في ذلك العصر. وقد تفرقت المعتزلة فرقا كثيرة، واختلفوا في المبادئ والتعاليم ووصلوا إلى اثنتين وعشرين فرقة. الملل والنحل (1/ 56 - 96)، الفرق بين الفرق (ص112 - 187) (¬2) في "التذكرة" (1/ 300 - 301) (¬3) في مجموع فتاوى (24/ 365) (¬4) في "فتاوى السبكي" (2/ 636 - 638)

سؤال عن حديث (الأنبياء أحياء في قبورهم)

سؤال عن حديث (الأنبياء أحياء في قبورهم) وقول المفسرين أن مريم بنت ناموس دلت على عظام يوسف عليه السلام تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط 1 - عنوان الرسالة: سؤال عن حديث: " الأنبياء أحياء في قبورهم" وقول المفسرين أن مريم بنت ناموس دلت على عظام يوسف عليه السلام. 2 - موضوع الرسالة: في العقيدة. 3 - أول الرسالة: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أقول: حديث الأنبياء أحياء في قبورهم صححه البيهقي ... 4 - آخر الرسالة: ... في أن المقالة حق يجوز التمسك بها كما يجوز التمسك بالدليل فهو لا يقوله إلا من لاحظ له في العلم ولا نصيب له من العقل والله سبحانه أعلم. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد صفحات الرسالة: (5) صفحات. الأولى: 8 أسطر. الثانية: 22سطرا. الثالثة: 22 سطرا. الرابعة: 22 سطرا. الخامسة: 4 أسطر. 7 - عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة في السطر تقريبا. الرسالة من المجلد الأول من " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني ". حصلت عليها من الأخ/ عادل حسن أمين. الذي أحضرها من الهند أثناء دراسته هناك فجزاه الله خيرا.

بسم الله الرحمن الرحيم سؤال عن حديث "الأنبياء أحياء في قبورهم " وقول المفسرين أن مريم (¬1) بنت ناموس دلت على عظام يوسف عليه السلام قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أقول: حديث الأنبياء أحياء في قبورهم صححه البيهقي (¬2) وألف فيه جزأ ويؤيد ذلك ما ثبت أن الشهداء (¬3) أحياء يرزقون في قبورهم وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأس الشهداء. قال الأستاذ أبو منصور (¬4) البغدادي: قال المتكلمون المحققون من أصحابنا أن نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ¬

(¬1) أخرج أبو يعلى في مسنده رقم (13/ 7245) بسند ضعيف، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 170) وقال: رواه أبو يعلى .... ورجال أبي يعلى رجال الصحيح وهذا الذي حملي على سياقها. قلت: فيه محمد بن يزيد أبو هشام الرفاعي، قال البخاري عنه: رأيتهم مجمعين على ضعفه قاله ابن حجر في التقريب رقم (6402) عن أبي موسى قال: أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعرابيا فأكرمه فقال له: إئتنا، فأتاه، فقال رسول اللة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سل حاجتك" فقال: ناقة نركبها وأعترا بحلبها أهلي. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"عجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل" فقال: إن موسى لما صار ببني إسرائيل من مصر ضلوا الطريق فقال: ما هذا؟ فقال علماؤهم: إن يوسف لما حضره الموت أخذ علينا موثقا من الله أن لا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا قال: فمن يعلم موضع قبره؟ قال: عجوز من بني إسرائيل فبعث إليها فأتته فقال: دلني على قبر يوسف. قالت: حتى تعطني حكمي. قال: وما حكمك؟ قالت: أكون معك في الجنة، فكره أن يعطها ذلك فأوحى الله إليه أن أعطها حكمها فانطلقت هم إلى بحيرة موضع مستنقع ماء فقالت: أنضبوا هذا الماء فأنضبوه، قالت: احتفروا واستخرجوا عظم يوسف. فلما أقلوها إلى الأرض إذا الطريق مثل ضوء النهار" (¬2) في كتاب "حياة الأنبياء في قبورهم " (ص 69 - 74) ط 1 سنة 1414 هـ مكتبة العلوم والحكم - المدينة (¬3) قال سبحانه وتعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]. انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 161 - 162) (¬4) قال ابن رجب الحنبلي في " أهوال القبور" (ص 160) أما الأنبياء عليهم السلام فليس فيهم شك أن أرواحهم عند الله في أعلى عليين وقد ثبت في الصحيح أن أخر كلمة تكلم بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند موته: "اللهم الرفيق الأعلى" وكررها حتى قبض- أخرجه البخاري رقم (3669) ومسلم رقم (2191) وقال رجل لابن مسعود: قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأين هو قال: في الجنة. وانظر: شرح العقيدة الطحاوية (ص 454)

حي (¬1) بعد وفاته. انتهى. ويعكر على هذه أمور: الأول: ما ورد في الصحيح (2) في حديث الإسراء أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقى جماعة من الأنبياء في السماوات [ا أ]. وثانيًا: ما ورد أن الأنبياء لا يتركون في قبورهم فوق ثلاث وروي فوق أربعين يوما إن صح ذلك والله أعلم. وقد تكلم على ذلك أهل العلم فأطالوا وأطابوا فبعضهم ضعف حديث الأنبياء أحياء في قبورهم وبعضهم جمع بينه وبين ما عارضه فإنه لا مانع من رفعهم إلى السماء ثم عودهم. وبعضهم جزم بأنهم باقون في قبورهم وفي السماء ملائكة على ¬

(1):. (2): أخرجه مسلم في صحيحه رقم (263/ 163) من حديث أنس بن مالك قال ابن تيمية في مجموع فتاوى (4/ 328 - 329): " وأما رؤيته الأنبياء ليلة المعراج في السماء لما رأى آدم في السماء الدنيا، ورأى يحيى وعيسى في السماء الثانية، ويوسف في الثالثة، وإدريس في الرابعة وهارون في الخامسة، وموسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة أو العكس، فهذا رأى أرواحهم مصورة في صور أبدانهم. وقد قال بعض الناس: لعله رأى نفس الأجساد المدفونة في القبور وهذا ليس بشيء، لكن عيسى صعد إلى السماء بروحه وجسده وكذلك قد قيل في إدريس. وأما إبراهيم وموسى، وغيرهما فهم مدفونون في الأرض .... ". (¬1) وقد ثبت نقلا وعقلا أن الأنبياء من الأموات، قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (الزمر: 130). قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144]. وإن ورد في أخبار صحيحة أن الأنبياء في قبورهم أحياء فتلك حياة برزخية لا تماثل الحياة الدنيوية ولا تثبت لها حكمها. انظر فتح الباري (6/ 441)

صورهم (¬1) والحاصل أن المقام من المحارات لا باعتبار القصة المسئول عنها فهي لا تنهض لمعارضة ما ثبت عن الشارع، ولا تستشكل الأحاديث باعتبارها فكثيرا ما وقع من الأكاذيب في كتب التفسير (¬2) لا سيما المشتملة على حكاية القصص المطولة فهي متلقاة من أهل الكتاب المنصوص على أنهم يحرفون (¬3) الكلم عن مواضعه ويبدلون القول، بل كثير من ¬

(¬1) فتح الباري (6/ 444) (7/ 212). (¬2) أ- من هذه التفاسير ما يذكر فيها مؤلفوها كل ما عندهم منها مقبولا كان أو غير مقبول ولكن يستمدون ما يروى من ذلك إلى رواته إسنادا تاما عملا بالقاعدة لدى علماء الحديث "من أسند لك فقد حملك". ب- ومنها كتب تعرض للإسرائيليات فترويها بأسانيدها ولكن لا يكتفي أصحاب هذه الكتب بذكر الأسانيد خروجا من العهدة، بل إنهم يتعقبون ما يرونه منها بالنقد الذي يكشف عن حقيقتها وقيمتها. ج- ومنها - أي التفاسير - نذكر من الإسرائيليات كل شاردة وواردة ولا تسند شيئا من ذلك مطلقا، ولا تعقب عليه بنقده وبيان ما فيه من حق وباطل كأنما كل ما يذكر فيها من ذلك مسلم لدى أصحابها رغم ما في بعضها من سخف ظاهر يصل أحيانا إلى الهذيان، وأحيانا أخرى يصل إلى خطل الرأي وفساد العقيدة. هـ- ومنها كتب لذكر الإسرائيليات ولا تسندها ولكنها - أحيانا - تشير إلى ضعف ما ترويه بذكره بصيغة التمريض (قيل) وأحيانا تصرح بعدم صحته وأحيانا تروى ما تروى من دلك، ثم تمر عليه دون أن تنقده بكلمة واحدة على ما في بعض دلك من باطل، يصل أحيانا إلى حد القدح في الأنبياء ونفط العصمة عنهم. و- ومنها كتب تذكر الإسرائيليات ولا تسندها، وهي حين تذكرها لا تقصد - في الأعم الأغلب - إلا بيان ما فيها من زيف وباطل، وكأنما نظر أصحاب هذه الكتب في تفاسير من سبقهم فنقلوا عنها بعض ما فيها لينبهوا على خطه وفساده، حتى لا يغتر به من ينظرون في هذه الكتب، ويرون لأصحابها من المكانة العلمية ما يجعلهم يصدقون كل ما جاء فيها. ز- ومنها كتب وجدنا أصحاب يحملون حملة شعواء على من سبقهم من المفسرين الذين تطرقوا في تفاسيرهم إلى الإسرائيليات. . . (¬3) أ- من هذه التفاسير ما يذكر فيها مؤلفوها كل ما عندهم منها مقبولا كان أو غير مقبول ولكن يستمدون ما يروى من ذلك إلى رواته إسنادا تاما عملا بالقاعدة لدى علماء الحديث "من أسند لك فقد حملك". ب- ومنها كتب تعرض للإسرائيليات فترويها بأسانيدها ولكن لا يكتفي أصحاب هذه الكتب بذكر الأسانيد خروجا من العهدة، بل إنهم يتعقبون ما يرونه منها بالنقد الذي يكشف عن حقيقتها وقيمتها. ج- ومنها - أي التفاسير - نذكر من الإسرائيليات كل شاردة وواردة ولا تسند شيئا من ذلك مطلقا، ولا تعقب عليه بنقده وبيان ما فيه من حق وباطل كأنما كل ما يذكر فيها من ذلك مسلم لدى أصحابها رغم ما في بعضها من سخف ظاهر يصل أحيانا إلى الهذيان، وأحيانا أخرى يصل إلى خطل الرأي وفساد العقيدة. هـ- ومنها كتب لذكر الإسرائيليات ولا تسندها ولكنها - أحيانا - تشير إلى ضعف ما ترويه بذكره بصيغة التمريض (قيل) وأحيانا تصرح بعدم صحته وأحيانا تروى ما تروى من دلك، ثم تمر عليه دون أن تنقده بكلمة واحدة على ما في بعض دلك من باطل، يصل أحيانا إلى حد القدح في الأنبياء ونفط العصمة عنهم. و- ومنها كتب تذكر الإسرائيليات ولا تسندها، وهي حين تذكرها لا تقصد - في الأعم الأغلب - إلا بيان ما فيها من زيف وباطل، وكأنما نظر أصحاب هذه الكتب في تفاسير من سبقهم فنقلوا عنها بعض ما فيها لينبهوا على خطه وفساده، حتى لا يغتر به من ينظرون في هذه الكتب، ويرون لأصحابها من المكانة العلمية ما يجعلهم يصدقون كل ما جاء فيها. ز- ومنها كتب وجدنا أصحاب يحملون حملة شعواء على من سبقهم من المفسرين الذين تطرقوا في تفاسيرهم إلى الإسرائيليات. . . انظر الإسرائيليات في التفسير والحديث، الدكتور: محمد السيد حسين الذهبي (ص 119 - 121)

الحكايات المدونة في كتب التقصير لا مستند لها إلا ما يعتاده القصاص من تطويل ذيول المقال بالأكاذيب الحرية بالإبطال، فما كان كذلك لا ينبغي أن يلتفت إليه أو يعتقد صحته على فرض عدم معارضته لشيء مما ورد عن الشارع فكيف إذا عارض ما ورد وإن كان قاصرا عن رتبة الصحة. والحاصل أن التفسير الذي ينبغي الاعتداد به والرجوع إليه هو تفسير كتاب (¬1) الله حل جلاله باللغة العربية حقيقة ومجازا إن لم يثبت في ذلك حقيقة شرعية فإن ثبتت فهي مقدمة على غيرها وكذلك إذا ثبت تفسير ذلك من الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو أقدم من كل شيء بل حجة متبعة لا تسوغ مخالفتها لشيء آخر ثم تفاسير علماء الصحابة المختصين برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يبعد كل البعد أن يفسر أحدكم كتاب الله ولم يسمع [1ب] في ذلك شيئا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى فرض عدم السماع فهو أحد العرب الذين عرفوا من اللغة دقها وجلها وأما تفاسير غيرهم من التابعين ومن بعدهم فإن كان من طريق الرواية نظرنا في صحتها سواء كان المروى عنه الشارع أو أهل اللغة وإن كان. محض الرأي فليس ذلك شيء ولا يحل التمسك به ولا جعله حجة، بل الحجة ما قدمناه ولا نظن بعالم من علماء الإسلام أن يفسر القرآن برأيه فإن ذلك مع كونه من الإقدام على ما لا يحل. مما لا يحل قد ورد النهي عنه في حديث "من فسر القرآن برأيه فأصاب فقد أخلى، ومن فسر القران برأي، فأخطأ فقد كفر" (¬2) أو كما قال: إلا أنا لم نتعبد. بمجرد هذا الإحسان للظن على أن نقبل تفسير (¬3) كل عالم كيف ما كان بل إذا لم نجلى مستندا إلى الشارع. ¬

(¬1) انظر مقدمة في "أصول التفسير" لابن تيمية (ص 15 - 16). (¬2) أخرجه الترمذي في السنن رقم (2952) وهو حديث ضعيف. (¬3) قال ابن تيمية في "مقدمة في أصول التفسير (ص 92 - 93): " في أحسن طرق التفسير": 1/ أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر. 2/فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد ابن إدريس الشافعي: كل ما حكم به أصول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو كما فهمه من القران قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105]. وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 144]. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه "- أخرجه أبو داود رقم (4604) وأحمد (4/ 131) وهو حديث صحيح. 3/ وحينئذ إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة، رجعت في ذلك إلى أقوال الصحابة- فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن والأحوال التي اختصوا بها ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح، لاسيما علماؤهم وكبراؤهم، كالأئمة الأربعة والخلفاء الراشدين والأئمة المهدين وعبد الله بن مسعود. وعبد الله ابن عباس. . إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته من الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر فإنه كان أية في التفسير وكسعيد بن جبر، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري. . وأما تفسير القرآن. كمجرد الرأي حرام قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لم أعلم". انظر تفسير ابن كثير (4/ 473)، فتح القدير للشوكاني (5/ 376). . وعندما سئل ابن تيمية عن أي التفاسير أقرب إلى الكتاب والسنة فقال: "الحمد لله أما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها (تفسير محمد بن جرير الطبري) فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين كمقاتل بن بكر، والكلبي". انظر: مقدمة ابن تيمية في أصول التفسير (ص 103)

ولا إلى أهل اللغة لم يحل لنا العمل به مع التمسك بحمل صاحبه على السلامة .. ونظر ذلك. اختلاف العلماء في سائر المسائل العلمية فلو كان إحسان الظن مسوغا للعمل. مما ورد عن كل واحد منهم لوجب علينا قبول الأقوال المتناقضة في تفسير آية واحدة أو في مسألة

علمية واللازم باطل فالملزوم مثله وكثيرا ما نسمع من إسراء التقليد الذين يعرفون الحق بالرجال لا بالاستدلال إذا قال لهم القائل: الحق في هذه المسألة كذا أو الراجح قول فلان قالوا لست أعلم من فلان يعنون القائل من العلماء بخلاف الراجح في تلك المسألة فنقول لهم نعم لست أعلم من فلان ولكن هل يجب على إتباعه والأخذ بقوله فيقولون لا ولكن الحق لا يفوته فتقول لهم لا يفوته وحده بخصوصية فيه أم لا يفوته هو ومن يشابهه [2أ] من العلماء ممن بلغ إلى الرتبة إلى بلغ إليها في العلم فيقول نعم لا يفوته هو وأشباهه ممن هو كذلك فيقال لهم له من الأشباه والأنظار في علماء السلف والخلف آلاف مؤلفة بل فيهم أعداد متعددة يفضلونه ولهم في المسألة الواحدة الأقوال المتقابلة فربما كانت العين الواحدة عند بعضهم حلالا وعند الآخر حراما فهل تكون العين حلالا حراما لكون كل واحد منهم لا يفوته الحق كما زعمتم فإن قلتم نعم فهذا باطل ومن قال بتصويب المجتهدين إنما يجعل قول كل واحد منهم صوابا لا إصابة وفرق بين المعنيين أو يقول القائل في جواب مقالتهم فلان أعرف منك بالحق لكونه أعلم إذا كان الأسعد بالحق الأعلم فما أحد إلا وغره أعلم منه ففلان الذي يعنون غيره أعلم منه فهو أسعد منه بالحق فلم يكن الحق حتى بيده ولا بيد أتباعه وهذه المحاورات إنما يحتاج إليها من ابتلى. بمحاورة المقصرين الذين لا يعقلون الحجيج ولا يعرفون أسرار الأدلة ولا يفهمون الحقائق فيحتاج من ابتلي هم وبما يرد عليه من قبلهم إلى هذه المناظرات التي لا يحتاج إلى مثلها من له أدق تمسك بأذيال العلم فإن كل عارف يعرف أن وظيفة المجتهد ليست قبول قول العالم المختص بمرتبة من العلم فوق مرتبته إنما هي وظيفته قبول حجته فإذا لم تبرز الحجة لم يحل للمجتهد الأخذ بذلك القول الخالي عن الحجة في علمه وإن كان في الواقع ربما له حجة لم يطلع عليها العالم الآخر إلا أن مجرد هذا التجويز يجوز التمسك به [2ب] في إحسان الظن بالعالم الأول وحمله على السلامة لا أنه يجوز التمسك به في أن المقالة حق يجوز التمسك بها كما يجوز التمسك بالدليل فهو لا يقوله إلا من لاحظ له من العلم ولا نصيب له من العقل والله سبحانه أعلم.

بحث في الرد على من قال إن علوم الإنسان تسلب عنهم في الجنة

بحث في الرد على من قال إن علوم الإنسان تسلب عنهم في الجنة تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط 1 - عنوان الرسالة: " بحث في الرد على من قال إن علوم الناس تسلب عنهم في الجنة). 2 - موضوع الرسالة: في العقيدة. 3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم، إياك نعبد وإياك نستعين، ولك الحمد يا رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله وصحبه الأكرمين، وبعد: فإنه وصل السؤال ... 4 - آخر الرسالة: وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية والله ولي التوفيق حرره كاتبه محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما في يوم السبت تاسع شهر شوال سنة 1245هـ. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني. 7 - عدد الورقات: (3) ورقات. 8 - عدد الأسطر في الصفحة: 34 سطرا. 9 - عدد الكلمات في السطر: 12 - 14 كلمة تقريبا. 10 - الرسالة من المجلد الخامس من مجلدات الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم إياك نعبد، وإياك نستعين، ولك الحمد يا رب العالمين. والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله وصحبه الأكرمين، وبعد: فإنه وصل السؤال عن الكلام الذي وقعتم عليه للحافظ الذهبي (¬1) من أن علوم أهل الجنة تسلب عنهم في الجنة، ولا يبقى لهم شعور بشيء منها، فاقشعر جلدي عند الإطلاع على هذا الكلام من مثل هذا الحافظ الذي أفنى عمره في الكتاب والسنة والتراجم لعلماء هذا الشأن. وقد كنت قديما وقفت على شيء من هذا، لكن لفرد شاذ من أفراد الحكماء قاله لا عن دراية ولا رواية، فلم ألمه لجهله بالكتاب والسنة. فيا ليت شعري كيف يجري قلم أحقر عالم من علماء الشريعة. ممثل هذا! وعجبت ما أدخل هذا الحافظ (¬2) في مثل هذه المداخل المقفرة المكفهرة التي يتلون الخريت (¬3) في شعابها وهضابها، ويتحمل هذا الثقل الثقيل، والعبء الجليل! والحاصل أن الطوائف الإسلامية على ¬

(¬1) هو محمد بن أحمد بن عثمان ابن قايماز بن عبد الله التركماني الأصل، الفارقي ثم الدمشقي، أبو عبد الله شمس الدين الذهبي الحافظ الكبير المؤرخ الكبير صاحب التصانيف السائرة في الأقطار ولد ثالث شهر ربيع الآخر سنة 673 هـ. قال ابن حجر: حتى كان كثر أهل عصره تصنيفا، وجمع تاريخ الإسلام فأربى فيه على من تقدمه بتحرير أخبار المحدثين خصوصا. من مصنفاته: النبلاء، العبر، تلخيص التاريخ، طبقات الحفاظ، طبقات القراء. الميزان في نقد الرجال. قال البدر النابلسي في مشيخته: كان علامة زمانه في الرجال وأحوالهم جيد الفهم ثاقب الذهن. انظر: الدرر الكامنة (3/ 336 رقم 894). البدر الطالع (ص 626 رقم 411) (¬2) أي الذهبي رحمه الله تعالى. (¬3) الخريت: الماهر الذي يهتدي لأخرات المفاوز، وهي طرقها الخفية ومضايقها. لسان العرب (4/ 52).

اختلاف مذاهبهم، وتباين طرقهم متفقون على أن عقول أهل الجنة تزداد صفاء وإدراكا لذهاب ما كان يعتريهم من الكدورات الدنيوية، وكيف يسلبون ما هو عندهم من أعظم النعم، وأوفر القسم! وهم في دار فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ به الأعين، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر (¬1). فكأن هذا القائل لم يقرأ القرآن الكريم، وما أسهل عليه من تحاور أهل الجنة (¬2) وأهل النار وتخاصمهم بتلك الحجج التي لا تصدر إلا عن أكمل الناس عقلا، وأوفر الخلائق فهما! وما يذكرونه من حالهم الذي كانوا عليه في أهليهم، بل ما يودونه من إبلاغ الأحياء عنهم ما صاروا فيه من النعم قال {يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} (¬3) وورد مثل هذا المعنى في القرآن التي رفع لفظه من المصحف، كما ثبت في الصحاح (¬4) تركيب ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (8498) ومسلم رقم (2/ 2824) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ملا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فاقرؤوا إن شئتم: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون". (¬2) (منها) قوله تعالى: {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَقَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِين} [المدثر: 39 - 47]. ومنها قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف: 50 - 51]. (¬3) [يس: 26 - 27]. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4093) ورقم (4095).

الحديث عن أولئك الشهداء بلفظ: "بلغوا قومنا أن قد لقب ربنا فرضي عنا وأرضان! " وكذلك ما ثبت من اجتماع أهل الجنة (¬1) ومذاكرتهم. مما كانوا فيه في الدنيا، وما صاروا إليه في الجنة كما في الآيات المشتملة على ما في الجنة مما أعده الله لهم حيث يقول: وفيها (¬2) وفيها في آيات كثيرة، وذكر أن أهلها على ............... ¬

= من حديث عائشة رضي الله عنها " ..... لما قتل الذين ببئر معونة وأسر عمرو بن أمية الضمري قال له عامر بن الطفيل: من هذا؟ فأشار إلى قتيل، فقال له عمرو بن أمية: هذا عامر بن فهرة. فقال: لقد رأيته بعدما قتل رفع إلى السماء حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض. ثم وضع، فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبرهم فنعاهم فقال: إن أصحابكم قد أصيبوا، وإنهم قد سألوا ربهم فقالوا: ربنا أخبر عنا إخواننا بما رضينا عنك ورضيت عنا ". (¬1) نعم أهل الجنة يزور بعضهم بعضا، ويجتمعون في مجالس طيبة يتحدثون ويذكرون ما كان منهم في الدنيا، وما من الله به عليهم من دخول الجنان. قال تعالى في وصف اجتماع أهل الجنة: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47]. وأخبرنا بلون من ألوان الأحاديث التي يتحدثون ما في مجتمعاتهم: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 25 - 28]. ومن ذلك تذكرهم أهل الشر الذين كانوا يشككون أهل الإيمان ويدعوهم إلى الكفران: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 50 - 61] وقال سبحانه وتعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71]. وقال سبحانه وتعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25] (¬2) قال سبحانه وتعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة: 20 - 21]

سرر (¬1) متقابلين، وأنه يطوف عليهم ولدان مخلدون (¬2) وثبت أنهم يدخلون (¬3) الجنة على تلك الصفات من الجمال والشباب، وكمال الخلق، وحسن الهيئة [1ب] مردا جردا، أبناء ثلاث وثلاثين سنة، وأنهم يخيرون في الجنة ما يشتهون. وكم يعد العاد من الآيات القرآنية، والأحاديث (¬4) الصحيحة! ولا يتم هذا النعيم ولا بعضه إلا وهم ذو عقول ¬

(¬1) قال تعالى: {في جنت النعيم عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} (الصافات: 43 - 46). وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان: 51 - 54]. وقال تعالى: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة: 15 - 18] (¬2) قال تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا} [الإنسان: 19]. وانظر الواقعة [17 - 18] (¬3) أخرج الترمذي في السنن رقم (3539) من حديث أبو هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أهل الجنة جرد مرد كحل، لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم" وهو حديث حسن. وأخرج الترمذي في السنن رقم (3545) من حديث معاذ بن جبل أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يدخل أهلي الجنة، جردا مردا مكحلين، أبناء ثلاثين أو ثلاث وثلاثين سنة ". وهو حديث حسن. (¬4) أخرج البخاري في صحيحه رقم (3254). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين على آثارهم كأحسن كوكب دري في السماء إضاءة قلوبهم على قلب رجل واحد، لا! تباغض بينهم ولا تحاسد لكل امرئ زوجتان من الحور العين، يرى مح سوقهن من وراء العظم واللحم "

صحيحة بالضرورة العقلية، كما ثبت بالضرورة الدينية. ومعلوم أنهم إذا كانوا ذوى عقول فمهما وجدت معهم فهي بالإمكان العام والخاص قادرة على كسب ما تحدد لها من العلوم، ذاكرة لما حصل لها منها من قبل هذا ما لا يحتاج إلى بيان، ولا يفتقر إلى برهان. ولو فقدوها لفقدوا الإنسانية الكاملة، وصاروا مشاهن للدواب، وأي نعمة لمن عقل له كما هو مشاهد من المصابين بالجنون في الدنيا! وأي فائدة للمبالغة في نعيم من كان ذاهب العقل. مما ثبت في الكتاب والسنة من أنهم على صفات فوق صفاتهم في الدنيا. بمسافات! لا يقادر قدرها، ولا يحاط بكنهها. وكذلك لا يتم نعيمهم إلا بوجود الحواس (¬1) الظاهرة والباطنة، ولو فقدوا أحدها لما تنعموا كما ينبغي وكذا لو فقدوا ¬

(¬1) أخرج مسلم في صحيحه. رقم (18/ 2835) من حديث جابر قال: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون" قالوا: فما بال الطعام؟ قال: " جشاء ورشح كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد، كما يلهمون النفس". قال القاضي عياض في " إكمال المعلم بفوائد مسلم (8/ 368) تعليقا على الحديث: "أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ": هذا مذهب أهل السنة وعامة المسلمين أن نعيم أهل الجنة وملاذها بالمحسوسات وغيرها من الملاذ العقليات كأجناس نعيم أهل الدنيا، إلا ما بينهما من الفرق الذي لا يكاد يتناسب، وأن ذلك على الدوام لا أخر له .... " وقال القرطبي في "المفهم" (7/ 180): بأن نعيم أهل الجنة وكسوتهم ليس عن دفع ألم اعتراهم، فليس أكلهم عن جوع، ولا شرابهم عن ظمأ ولا تثيبهم عن نتن، وإنما هي لذات متوالية ونعم متناهية. وحكمة ذلك أن الله تعالى نعمهم في الجنة بنوع ما كانوا يتنعمون به في الدنيا وزادهم على ذلك مالا يعلمه إلا الله ... ". وقال ابن تيمية في "مجموع فتاوى" (4/ 330): فإن أهل الجنة يتنعمون بالنظر إلى الله- سبحانه وتعالى- ويتنعمون بذكره وتسبيحه ويتنعمون بقراءة القرآن ويقال لقارئ القرآن اقرأ وارق، ورتل- كما كنت ترتل في الدنيا فان منزلك عند آخر آية تقرؤها. ويتنعمون. بمخاطبتهم لربهم ومناجاته

بعضها لم يكن له شعور بالتنعم الذي وصفه الله- سبحانه-، وبالغ فيه. وأي فائدة لفاقد العقل! وأي شعور له بكونه على صفة كمالية في جماله، ولباسه الحرير والديباج وتحليه بالذهب والجواهر، وأكله من أطيب المأكل، وشربه من أنفس المشروب، وكذا لا نعمه تامة فضلا عن أن يكون فاضلا لمن كان أعمى أو أصم، أو لا يفهم شيئا، أو لا يذكر ما مضى له، ولا يفكر في ما هو فيه. وإذا تقرر لك هذا علمت أن أهل الجنة لهم العقول الفائقة، والحواس الكاملة إلى حد يتقاصر عنه ما كان لهم من العقول والمشاعر في دار الدنيا، كما كان لهم الهيئة الفائقة هيئة الدنيا شبابا وجمالا، وقوة وفهما، وفكرا وذكرا، وحفظا وسلامة من كل نقص. ولو لم يكن الأمر هكذا لم يكن لهم فائدة. مما بولغ في شأنهم من الصفات، بل يعود ذلك بالنقص لما أثبت لهم منها في الجنة. هذا معلوم بالعقل والشرع، لا يتمارى فيه قط. وأقل حال أن يكون النعيم المحكوم لهم به في الجنة كتابا وسنة ناقصا. والمفروض أنه بالغ في الكمال إلى غاية فوق كل غاية هذا خلف يدافع نصوص الكتاب والسنة مدافعة يفهمها كل من له عقل وإدراك. فيا عجبا كل العجب من التجري على أهل هذه الدار التي هي دار النعيم المقيم على الحقيقة. مما ينغص نعيمهم، ويشوش حالهم، ويكدر [2أ] صفوهم، ويمحق ما أعده الله لهم! ومن التجري على الله- سبحانه-، وعلى رسوله. مما يستلزم عدم ثبوت ما أثبته الكتاب والسنة لهم، وتكديره وذهاب أثره، ومحق بركته! وأنت تعلم أن مثل هذا يستلزم الكفر الصراح. فأين هذا القادح الفادح من نعيم دار يعدل موضع سوط أحدهم فيها الدنيا بأسرها، وجميع ما فيها، ومن دار نصيف إحدى زوجاتهم يعدل الدنيا وما فيها، ومن دار لو أشرفت إحدى الجواري (¬1) المعدة لهم ¬

(¬1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2796) من حديث أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " .... ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحا، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها". وأخرج البخاري في صحيحه رقم (3245) وقد تقدم ذكره. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن"

على أهل الدنيا لفتنتهم أجمعين، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة. ومع هذا قد ثبت قرآنا أنهم على سرر (¬1) متقابلين، وأنه يطوف عليهم ولدان مخلدون، وثبت سنة أنهم يجتمعون (¬2) ويزاورون (¬3). فليت شعري ما فائدة هذا الاجتماع والتزاور لمن لا عقل له، ولا فهم، ولا فكر، ولا ذكر! والحامل أن التقول. بمثل هذا القول هو أن التقول على الله- سبحانه-. مما لم يقل، وعلى رسله، وعلى شرائعه. مما لم يكن منها. وقد ثبت في القرآن الكريم الحكم على المتقولين (¬4). مما هو معلوم لكل من يعرف القرآن، وإذا ثبت أن مثل هذا باطل في الدار ¬

(¬1) تقدم ذكر ذلك (ص 678) (¬2) تقدم ذكر الآيات في ذلك. وقد أخرج مسلم في صحيحه رقم (2833) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة- فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم ليزدادون حسنا وجمالا، فيرجعون إلى أهلهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا، فتقول لهم أهلوهم، والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا " (¬3) وهى أحاديث ضعيفة انظر الترغيب (4/ 453 - 455). وحادي الأرواح ص 373 أما اجتماعهم ومذاكرتهم. مما كانوا في الدنيا وما صاروا إليه في الجنة فقد ورد في القرآن ذلك وقد تقدم ذكره (¬4) قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]. وقال سبحانه وتعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأعراف: 37]

الآخرة، فانظر إلى هذه الدار دار الدنيا التي ليست بشيء بالنسبة إلى الدار الآخرة، لو قيل لأحدهم أنه سيكون لك ما تريد من جمال الهيئة وكمالها، ومن النعيم البالغ، ومن الرياسة التامة، ولكن ستصاب بالجنون، أو تفقد جميع المشاعر لقال لا ولا كرامة، دعوني أعش صعلوكا فقيرا شحاذا فهو أطيب لي مما عرضتموه علي، وأحب إلي مما جئتموني به. خذوا رفدكم لا قدس الله رفدكم ... سأذهب عنه لا علي ولا ليا وإنما أوردنا لك هذه الأمور ليعلم أن الروح للإنسان إذا كان ساذجا كان كله ساذجا، إذ الروح هو الإنسانية التي يتميز بها صاحبها عن الدواب، وجميع ما ذكرنا من العقل والحواس الباطنة والظاهرة هو له، لا للحم ولا للدم ولا للعظم، فإذا كان الروح ساذجا فلم يبق إلا صورة اللحم والدم، وهو المقصود بقولهم في بيان ماهية الإنسان أنه حيوان ناطق، أي مدرك للمعقولات، وليس ذلك للقالب الذي هو فيه. وكما أن ما ذكرناه وقررناه هو إجماع الطوائف الإسلامية على إخلاف أنواعهم فهو أيضًا إجماع أهل الشرائع كلها كما تحكي ذلك كتب الله- عز وجل- المرسلة على رسله، وتحكيه أيضًا كتبهم المؤلفة من أحبارهم ورهبانهم، فإنه لا خلاف بينهم في المعاد وفي النعيم المعد لأهل الجنة، كما حكاه الكتاب العزيز. وقد أوردنا من ذلك في الحرة الفاخرة (¬1) في إثبات الدار الآخرة، وفي إرشاد الثقات (¬2) إلى اتفاق الشرائع على إثبات التوحيد والمعاد والنبوات كثيرا من نصوص (¬3) التوراة والإنجيل والزبور وسائر كتب نبوات أنبياء الله ¬

(¬1) يشير إلى الرسالة رقم (10) من هذا القسم " المقالة الفاخرة ". (¬2) وهى الرسالة رقم (9) من هذا القسم. (¬3) تقدم في تحقيق الرسالة رقم (10)، (9) من هذا القسم.

- تعالى-[2ب]، ولم يشذ منهم إلا اليهودي الزنديق موسى بن (¬1) ميمون، وقد تبرأ منه قدما اليهود، وحرموه أي: أخرجوه من دينهم، بل وكذلك النصارى، وإن لم يكن من أهل ملتهم، فقد صرحوا بخذلانه وزندقته. قال البصراني في تاريخه (¬2): ورأيت كثيرا من يهود بلاد الإفرنج بأنطاكية وطرابلس يلعنونه ويسمونه كافرا انتهى. قلت: وقد وقع لهذا الملعون من تحريف كثير ما يدل على إلحاده وزندقته، وقد رددت ما حرفه في المؤلفين المذكورين سابقا، وأوضحته بأتم إيضاح وأما يهود عصرنا فصاروا يعظمونه، وذلك لجهلهم بحقيقة الحال، وقد ذكرت لجماعة من أحبارهم بعض تحريفاته فلعنوه وتبرؤوا منه، وكما أن هذا الذي ذكرناه مجمع عليه بين أهل الملل التابعين لأنبيائهم فهو أيضًا مجمع عليه بين المشتغلين بالعقل والنظر كالكلدانيين (¬3) والصابئين أتباع صاب بن إدريس (¬4) كما رويناه في حكاية مذاهبهم التي ذهبوا إليها في شأن المعاد، ومنهم اليونان فإنهم جميعهم من عند اسقلنييوس (¬5) إلى عند .... .... .. ¬

(¬1) تقدم ترجمة في الرسالة رقم (10) من هذا القسم (ص 496). (¬2) لم أعثر عليه؟! (¬3) الكلدانيون: يطلق هذا الاسم على تلك الأمة التي يرجح أنها نزحت من جنوب الجزيرة العربية فسكنت العراق وأقاموا ملكهم هناك بعد قضائهم علي السومريين وعرفت بلادهم باسم "بابل" وقد بعث الله بليهم إبراهيم الخليل يدعوهم إلى عبادة الله وحده ونبذ الأوثان التي كانوا يعبدونها. وذلك أيام ملك النمرود بن كنعان، وقد كسر خليل الله أصنامهم وجرت بينه وبينهم مجادلات انتهت بتفوقه على ملكهم كما قص الله ذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} إلى قوله تعالى: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ}. أنظر النهاية لابن كثير (1/ 40 وما بعدها) كشف الظنون (1/ 29 - 30). (¬4) لم أعثر على ترجمته. بما لدي من كتب التراجم. (¬5) الأول فيمن تولى رئاسة الطب ضمن الثمانية- من عهده إلى عهد جالينوس- الفهرست لابن النديم (ص 398).

جالينوس (¬1) مصرحة كتبهم. مما للأرواح عليه في دار المعاد، وهكذا المشتغلون بالحكمة الإلهية من أهل الإسلام كالكندي ومن جاء بعده، كالفارابي (¬2) ومن جاء بعده منهم، كابن سينا (¬3) فإن كتبهم مصرحة بذلك تصريحا لا شك فيه ولا ريب. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية والله ولي التوفيق. حرره كاتبه محمد بن علي الشوكاني- غفر الله لهما- في صبح يوم السبت تاسع شهر شوال سنة 1245. [3أ] ¬

(¬1) ظهر جالينوس بعد 665 سنة من بقراط وانتهت إليه الرياسة في عصره وهو الثامن من الرؤساء الذين أولهم استليادس مخترع الطب وكان معلم جالينوس ارمينس الرومي وأخذ عن اغلوقن وله إليه مقالات. وكان جالينوس وجيها عند الملوك، أكثر أسفاره إلى مدينة رومية. من كتبه [الفرق، الصناعة، كتب العلل والأغراض، الحمايات، التشريح الكبير، ..... ] ومعنى جالينوس الساكن. انظر الفهرست لابن النديم (ص 402 - 405) (¬2) أبو نصر محمد بن محمد بن محمد بن طرفان. أصله من الفاريان من أرض خراعان من المتقدمين في صناعة المنطق والعلوم القديمة. من كتبه مراتب العلوم، تفسير قطعة من كتاب الأخلاق لارسطاليس وفسر من كتب ارسطاليس: كتاب القياس قاطيفورياس. كتاب البرهان انالوطيقا الثاني. (¬3) تقدمت ترجمته في الرسالة رقم (9) من هذا القسم (ص 503).

بحث في أطفال الكفار

بحث في أطفال الكفار تأليف محمد بن علي الشوكاني حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه محفوظة بنت علي شرف الدين أم الحسن

وصف المخطوط 1 - عنوان الرسالة: بحث في أطفال الكفار. 2 - موضوع الرسالة: مصير أطفال الكفار في الآخرة. 3 - الرسالة ضمن مجموعة من الرسائل للإمام محمد بن علي الشوكاني. 4 - أول الرسالة: " الحمد لله وحده. حديث عائشة ... " 5 - آخر الرسالة: " أن وجود العمل وعدمه هما المستقلان بالسعادة والشقاوة وجودا وعدما وإثباتا ونفيا هذا ما سدد الله الفهم واستغفر الله ". 6 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 7 - عدد الأوراق: أربعة. 8 - المسطرة: الورقة الأولى: 17 سطرا. الورقة الثانية: 20 سطرا. الورقة الثالثة: 20 سطرا مع سطر بالعرض. الورقة الرابعة: 21 سطرا مع سطرين بالعرض. 9 - عدد الكلمات في السطر: 7 - 9 كلمة. 10 - الناسخ: المؤلف محمد بن علي الشوكاني. 11 - الرسالة من المجلد الثالث من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

الحمد لله وحده. حديث عائشة (¬1) أنها قالت لما توفي صبي من الأنصار: " طوبى له عصفور من عصافر الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه " فقال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أو غير ذلك يا عائشة، إن الله تعالى خلق للجنة أهلا خلقهم وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهي في أصلاب آبائهم" هكذا ساقه مسلم في صحيحه (¬2). قال النووي في شرح (¬3) مسلم عند ذكر ما نصه: " أجمع (¬4) من يعتد به من علماء ¬

(¬1) عائشة بنت أبي بكر الصديق، زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأمها أم رومان بنت عامر بن عويمر، تزوجها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. بمكة قبل الهجرة بسنتين. هذا قول أبي عبيدة. وقال غره: بثلاث سنين وهى بنت ست سنين وقيل: بنت سبع، وابتنى بها بالمدينة، وهى ابنة تسع، ولم ينكح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكرا غيرها، واستأذنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الكنية فقال لها: " اكتني بابنك عبد الله بن الزبير " يعني ابن أختها. قال الزهري: لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل. روت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علما طيبا مباركا فيه، بلغ مسندها (2210). اتفق البخاري ومسلم ب (174) حديثا وانفرد البخاري ب (54) وانفرد مسلم بـ (69). توفيت سنة ثمان وخمسين، وصلى عليها أبو هريرة، فدفنت بعد الوتر بالبقيع. انظر: الاستيعاب رقم (3463) وشذرات الذهب (1/ 9) الإصابة رقم (11457) وسير أعلام النبلاء (2/ 135 - 201) (¬2) (4/ 2050 رقم 31/ 2662) (¬3) (16/ 207) (¬4) الإجماع لغة: 1) العزم والتصميم قال تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} [يونس: 71]. 2) الاتفاق، يقال: أجمع القوم على كذا، أي اتفقوا. الإجماع في الاصطلاح: اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عصر من الأعصار على حكم واقعة من الوقائع. انظر: أصول مذهب الإمام أحمد (ص 347)، والأحكام للأمدي (1/ 196)، وتيسير التحرير (3/ 244).

المسلمين أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة، لأنه ليس مكلفا (¬1). وتوقف منهم بعض من لا يعتد به لحديث عائشة ". وأجاب العلماء عنه بأنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع، كما أنكر على سعد بن أبي وقاص في قوله: " أعطه إني لأراه مؤمنا" فقال "أو مسلما هو" .... الحديث (¬2). ويحتمل أنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة فلما علم قال ذلك كما في قوله [1] " ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث (¬3) إلا ¬

(¬1) التكليف: لغة: إلزام ما فيه مشقة، فإلزام مشقة، فإلزام الشيء، والإلزام به: هو تصيره لازما لغره، لا ينفك عنه مطلقا أو وقتا ما. وقال صاحب القاموس (ص 1099) والتكليف: الأمر. مما يشق، وتكلفه: تجشمه، وقال أيضا: " ألزمه إياه فالتزمه، إذا لزم شيئا لا يفارقه". التكليف في الاصطلاح: إلزام مقتضى خطاب الشرع، فيتناول الأحكام الخمسة: الوجوب والندب الحاصلين عن الأمر. الحظر والكراهة الحاصلين عن النهي. والإباحة الحاصلة عن التخير إذا قلنا: إنها من خطاب الشرع. ويكون معناه في المباح وجوب اعتقاد كونه مباحا. انظر: الكوكب المنير (1/ 483) المدخل إلى مذهب الإمام أحمد ص 58. (¬2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (27) ومسلم رقم (236/ 150) و (131/ 150) وأبو داود رقم (4683) (¬3) الحنث: الإدراك والبلوغ. وقيل إذا بلغ مبلغا جرى عليه القلم بالطاعة والمعصية. وقوله: لم يبلغوا الحنث: أي لم يبلغوا مبلغ الرجال، ويجري عليهم القلم فيكتب عليهم الحنث والطاعة. وقيل: الحنث الحلم. وقيل: الحنث: الإثم. لسان العرب (3/ 354) مادة حنث. وانظر: الصحاح (1/ 280)

أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم" (¬1) وغير ذلك من الأحاديث (¬2). والله أعلم. انتهى ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (1248) و (1381) وفي الأدب المفرد رقم (151) من حديث أنس بن مالك. (¬2) (منها): حديث أبي هريرة قال: أتت امرأة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصبي لها، فقالت: يا نبي الله ادع الله له. فلقد دفنت ثلاثة. قال: "دفنت ثلاثة ". قالت: نعم. قال: " لقد احتظرت بحظار شديد من النار". أخرجه البخاري في الأدب المفرد رقم (144و 147) ومسلم رقم (2636) وابن أبي شيبة في المصنف (3/ 352) والبيهقي (4/ 67). وهو حديث صحيح. (ومنها): حديث أبي حسان- خالد بن غلاق- قال: قلت: لأبي هريرة: انه مات لي ابنان. فما أنت محدثني عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحديث تطيب به أنفسنا عن موتانا؟ قال: نعم: " صغارهم دعاميص الجنة يتلقى أحدهما أباه- أو قال أبويه- فيأخذ بثوبه- أو قال: بيده- كما آخذ أنا بصنفة ثوبك هذا فلا يتناهى، أو قال: فلا ينتهي- حتى يدخله الله وأباه الجنة ". أخرجه البخاري في الأدب المفرد رقم (145) ومسلم رقم (2635) وأحمد في المسند (2/ 488و509 - 510) هو حديث صحيح. . " دعاميص الجنة " الدعاميص: جمع دعموص، وهى دويبة تكون في مستنقع الماء والدعموص أيضا: الدخال في الأمور: أي أنهم سياحون في الجنة دخالون في منازلهم لا يمنعون من موضع، كما أن الصبيان في الدنيا لا يمنعون من الدخول على الحرم ولا يحتجب منهم أحد. النهاية (2/ 120). (ومنها): حديث أبي سلمة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " بخ بخ ما أثقلهن في الميزان!!! لا إله إلا الله وسبحان الله والحمد لله والله أكبر. والعبد الصالح يتوفى للمسلم ليحتسبه". . أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة رقم (167) وابن أبي عاصم في السنة رقم (781) وابن حبان رقم (2328 - موارد) والحاكم في المستدرك (1/ 511) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وهو حديث صحيح. انظر: الصحيحة رقم (1204).

كلامه (¬1) منقولا من باب معنى " كل مولود يولد على الفطرة .... " وقال (¬2) في باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه ما لفظه: " وفي هذه الأحاديث دليل على كون أطفال المسلمين في الجنة. وقد نقل جماعة فيه إجماع المسلمين ". وقال المازري (¬3): " أما أولاد الأنبياء- صلوات الله عليهم وسلامه- فالإجماع متحقق على أنهم في الجنة، وأما أطفال من سواهم من المؤمنين فجماهير العلماء على القطع لهم بالجنة (¬4). ونقل جماعة الإجماع في كونهم من أهل الجنة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (¬5). وتوقف بعض (¬6) المسلمين فيها، ¬

(¬1) أي كلام النووي في صرحه لصحيح مسلم (16/ 182) (¬2) في شرحه لصحيح مسلم (16/ 180 - 183) (¬3) في " المعلم بفوائد مسلم " (3/ 180) (¬4) للحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1382) عن عدي بن ثابت أنه سمع البراء رضي الله عنه قال: لما توفي، إبراهيم عليه السلام قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن له مرضعا في الجنة" (¬5) [الطور: 21] (¬6) قال القرطبي في الجامع " لأحكام القرآن " (17/ 66 - 67): " واختلف في معناه فقيل عن ابن عباس أربع روايات: الأولى: إن الله لرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقر كم عينه. وقيل: أن الله يجمع لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم، وبمزاوجة الحور العين وبموانسة الإخوان المؤمنين، وباجتماع أولادهم ونسلهم هم. الثانية: وعن ابن عباس أنه قال: إن الله ليلحق بالمؤمن ذريته الصغار الذين لم يبلغوا الإيمان. الثالثة: وقال ابن عباس: إن المراد بالذين أمنوا المهاجرون والأنصار والذرية التابعون. الرابعة: وفي رواية عن ابن عباس قال: إن كان الآباء أرفع درجة رفع الله الأبناء إلى الآباء، وإن كان الأبناء أرفع درجة رفع الله الآباء إلى الأبناء. فالآباء داخلون في اسم الذرية. وقال ابن زيد: المعنى " واتبعتهم ذريتهم بإيمان " ألحقنا بالذرية أبنائهم الصغار الذين لم يبلغوا العمل، فالهاء والميم على هذا القول للذرية انظر: الجامع لأحكام القرآن (17/ 67)

وأشار أنه لا يقطع لهم كالمكلفين .... والله أعلم. انتهى (¬1). وأقول: التأويل للحديث (¬2) متعين لقيام البرهان على ثبوت الحكمة، ولا ريب أن تعذيب من لا ذنب له ينافيها، هذا على فرض وجود وجه يصح الحمل عليه كالحمل على أنه دال ذلك قبل أن يعلم حكم أطفال المسلمين، ولو فرضنا [2] عدم وجود وجه يسوغ الحمل عليه لكان هذا الحديث معارضا. مما يوجب سقوطه ظاهرا كالآية المذكورة. وحديث "كل مولود يولد على الفطرة." (¬3). ¬

(¬1) أي كلام المازوري في " المعلم بفوائد مسلم " ص 180 - 181 (¬2) أي حديث عائشة المتقدم. (¬3) أخرجه البخاري رقم (1319) ومسلم رقم (2658) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كل مولود يولد على الفطرة. فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كمثل البهيمة تنتج البهيمة، هل ترى فيها جدعاء ". وفي صحيح مسلم ألفاظ منها: الحديث رقم (22/ 2658): "ما من مولود إلا ولد على الفطرة أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء". الحديث رقم (00/ 2658): ولفظه " ما من مولود إلا يولد على الفطرة". الحديث رقم (00/ 2658) ولفظه " ما من مولود يولد إلا وهو على الملة". الحديث رقم (00/ 2658) ولفظه " ليس من مولود يولد إلا على هذه الفطرة حتى يعبر عنه لسانه". الحديث رقم (24/ 2658) ولفظه "من يولد على هذه الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه". الحديث رقم (25/ 2658). ولفظه " كل إنسان تلده أمة على الفطرة فأبواه بعد يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه فإن كانا مسلمين فمسلم ". الحديث رقم (27/ 2658) ولفظه: "فأبواه يهودانه وينصرانه ويشركانه فقال رجل: يا رسول الله أرأيت لو مات قبل ذلك. قال الله أعلم بما كانوا عاملين". وفي رواية رقم (27/ 2659): " أرأيت من يموت صغيرا منهم" وأما معنى الحديث فللعلماء فيه أربعة أقوال: 1/وهو الذي نختاره عليه أكثر العلماء أم المراد بالفطرة الطبع السليم المهيأ لقبول الدين وذلك من باب إطلاق القابل على المقبول. فإن الفطرة هي الخلقة. يقال فطره أي خلقه وخلقه الآدمي فرد من ذلك وتهيأ لقبول الدين وصف لها فهذه ثلاث مراتب وذلك المقبول وهو الدين أمر رابع فاسم الفطرة أطلق عليه فكأنه قال: " كل مولود يولد مسلما بالقوة ". لأن الدين وهو الإسلام حق مجاذب للعقل غير ناء عنه وكل مولود خلق على قبول ذلك وجبلته وطبعه وما ركزه الله فيه من العقل لو ترك لاستمر على لزوم ذلك ويفارقه إلى غيره وإنما يعدل عنه لأفة من آفات البشر والتقليد كما يعدل ولد اليهودي وولد النصراني والمجوسي بتعليم آبائهم وتلقينهم الكفر لأولادهم فيتبعوهم ويعدلون بمن عن الطريق المستقيم الذي فطرهم الله عليه وأنعم عليه به. 2/ أن معناه أن كل مولود يولد على معرفة الله تعالى والإقرار به فليس أحد يولد إلا وهو يقر بأن له صانعا وإن سماه بغير اسمه أو عبد معه غيره. وهذا القول بينه وبين الأول تقارب في شيء وتفاوت في شيء والأول خير منه. 3/ أن الفطرة ما قضي عليهم من السعادة والشقاوة. وقالوا: الفطرة البداءة واحتجوا بقوله تعالى: {كما بدأكم تعودون}، [الأعراف:29]. 4/ أن الفطرة الإسلام ونسب هذا القول إلى أبي هريرة والزهري وعامة السلف في قوله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الروم: 30. ومعنى الحديث على هذا خلق الله سليما من الكفر مؤمنا مسلما على الميثاق الذي أخذه الله على ذرية أدم واحتجوا بحديث " إن الله خلق آدم على صورته ونبيه حنفاء مسلمين" أخرجه البخاري رقم (6227) ومسلم رقم (2841) من حديث أبي هريرة. وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " .... وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم. وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم " من حديث عياض بن حمار المجاشعي. أخرجه مسلم في صحيحه رقم (63/ 2865). فالطفل على الميثاق الأول وله ميثاق ثاني وهو قبول الفرائض بعد وجوده وأهلية التكليف فمن مات قبل ذلك مات على الميثاق الأول فدخل الجنة. ولا نعتقد أن أصحاب هذا القول يقولون انه يولد- معتقد الإسلام. هذا لا يقوله عاقل وإنما أرادوا أن يجري عليهم حكم الإسلام على من أسلم حقيقة ثم نام أو مات الذي أقر به في الميثاق الأول. انظر: فتح القدير (4/ 313 - 314) والجامع لأحكام القرآن (14/ 25 - 30). وقال ابن عطية: والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أنها الخلقة والهيئة التي في نفس الطفل التي هي معده ومهيأة لأن يميز ها مصنوعات الله تعالى، ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه ويؤمن به، فكأنه تعالى قال: أقم وجهك للدين الذي هو الحنيف، وهو فطرة الله الذي على الإعداد له فطر البشر، لكن تعرضهم العوارض، ومنه قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه"، فذكر الأبوين إنما هو مثال للعوارض التي هي كثرة. الجامع لأحكام القرآن (14/ 29). فائدة: إن الله تعالى خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات، فما دامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام وهو الدين الحق. وقد دل على صحة هذا المعنى قوله: "كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ". يعني أن البهيمة تلد ولدها كامل الخلقة سليما من الآفات، فلو ترك على أصل تلك الخلقة لبقى كاملا بريئا من العيوب، لكن يتصرف فيه فيجدع أذنه ويوسم وجهه فتطرأ عليه الآفات والنقائص فيخرج عن الأصل، وكذلك الإنسان، وهو تشبيه واقع ووجهه واضح. الجامع لأحكام القرآن (14/ 29)

وحديث " من مات له من الولد .... " (¬1) وسائر الأحاديث المقتضية لرفع (¬2) قلم ¬

(¬1) أخرجه أحمد في المسند (3/ 306) والبخاري في الأدب المفرد رقم (146) وعزاه الحافظ في الفتح (11/ 243) لأحمد وقال: رجاله موثقون. وأورده الهيثمي في المجمع (3/ 7) وقال أخرجه أحمد ورجاله ثقات. من حديث جابر بن عبد الله قال: جمعت رسول الله يقول: "من مات له ثلاثة من الولد فاحتسبهم دخل الجنة" قلنا: يا رسول الله واثنان؟ قال: "واثنان" قلت لجابر: والله أرى لو قلتم: وواحد؟ لقال. قال: وأنا أظنه والله. وهو حديث حسن. (¬2) (منها) حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رفع القلم عن ثلاث، فذكر: الصبي حتى يحتلم، والمجنون حتى يفيق" أخرجه أبو داود رقم (4398) والنسائي (6/ 156) وابن ماجه رقم (2041) والدارمي (2/ 171) وأحمد (6/ 100 - 101) وابن حبان رقم (1496 - موارد) والحاكم (2/ 59). وهو حديث صحيح. وله شواهد من حديث علي بن أبي طالب وابن عباس، وأبي هريرة وغيرهم

التكليف عن غير البالغ. ولكنه يمكن أن يقال أن حديث عائشة خاص صحيح يصلح لتخصيص هذه العمومات، وإن خالف في ذلك بعض الطوائف باعتبار عموم القرآن، ولهذا قلنا ظاهرا. ويمكن أن يقال أنه لا إشكال في الحديث، وبيانه أن قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعائشة: " أو غير ذلك ... " (¬1) لم يقع بيانه بأن هذا الطفل قد يكون في النار بل قال " بأن الله خلق للنار خلقا وللجنة خلقا ". وفي ذلك إشارة إلى الأحاديث الصحيحة (¬2) الواردة في كتب السعادة والشقاوة عند وضع النطفة. فيتوجه اعتراضه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- على عائشة إلى ما ذكرته في آخر كلامها لتعليل كونه عصفورا من عصافير الجنة قائلة لم يعمل السوء ولم يدركه فأرشدها- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إلى شيء يخالف هذا التعليل ببيان خلق الجنة وخلق النار، وأنه قد جف القلم (¬3). مما فيه، وكأنه قال لها: هاهنا مقتضى [3] آخر ¬

(¬1) تقدم تخريجه (¬2) عن أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الله عز وجل وكل بالرحم ملكا، يقول يا ربي نطفة، يا رب علقة يا رب مضغة، فماذا أراد أن يقضي خلقه قال: أذكر أم أنثى أم سعيد، فما الرزق والأجل فيكتب في بطن أمه". . أخرجه البخاري في صحيحه رقم (312) ومسلم رقم (5/ 2646) (¬3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه الترمذي رقم (2516) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وهو كما قال. عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كنت خلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوما، فقال لي: يا غلام، إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف"

للثواب والعقاب، وهو أن الله خلق للجنة خلقا وللنار خلقا، وهم في أصلاب الرجال، وليس المقتضى مجرد العمل. وفي ذلك إشارة إلى حديث: " سددوا وقاربوا، واعلموا أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله" (¬1) قيل ولا أنت يا رسول الله؟ قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته" فهذا ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (6467) ومسلم رقم (2818) من حديث عائشة رضي الله عنها. قال الحافظ في الفتح (11/ 295): " قال ابن بطال في الجمع بين هذا الحديث وقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72]. ما محصله أن تحمل الآية على أن الجنة تنال المنازل فيها بالأعمال، فإن درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال، وأن يحمل الحديث على دخول الجنة والخلود فيها. ثم أورد على هذا الجواب قوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فصرح بأن دخول الجنة أيضًا بالأعمال، وأجاب بأنه لفظ مجمل بينه الحديث، والتقدير ادخلوا منازل الجنة وقصورها. مما كنتم تعملون، وليس المراد بذلك أصل الدخول. ثم قال: ويجوز أن يكون الحديث مفسرا للآية. والتقدير ادخلوها. مما كنتم تعملون مع رحمة الله لكم وتفضله عليكم لأن اقتسام منازل الجنة برحمته. وكذا أصل دخول الجنة هو برحمته حيث ألهم العاملين ما نالوا به ذلك. ولا يخلو شيء من مجازاته لعباده من رحمته وفضله وقد تفضل عليهم ابتداء بإيجادهم ثم برزقهم ثم بتعليمهم، وقال عياض طريق الجمع أن الحديث فسر ما أجمل في الآية. وبعد ذلك نقل الحافظ كلام ابن الجوزي: يتحصل عن ذلك أربعة أجوبة: الأول: أن التوفيق للعمل من رحمة الله، ولولا رحمة الله السابقة ما حصل الإيمان ولا الطاعة التي يحصل بها النجاة. الثاني: أن منافع العبد لسيده فعمله مستحق لمولاه، فمهما أنعم عليه من الجزاء فهو من فضله. الثالث: جاء في بعض الأحاديث أن نفس دخول الجنة برحمة الله، واقتسام الدرجات بالأعمال. الرابع: أن أعمال الطاعات كانت في زمن يسير والثواب لا ينفد فالإنعام الذي لا ينفد في جزاء ما ينفد بالفضل لا. بمقابلة الأعمال ثم ذكر الحافظ بعد ذلك كلام ابن القيم فقال: قال ابن قيم الجوزية في كتابه " مفتاح دار السعادة " كما في الفتح (11/ 296) الباء المقتضية للدخول غير الباء الثانية، فالأولى السببية الدالة على أن الأعمال سبب الدخول المقتضية له كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها، والثانية باء المعاوضة نحو اشتريت منه بكذا فأخبر أن دخول الجنة ليس في مقابلة عمل أحد، وأنه لولا رحمة الله لعبده لما أدخله الجنة، لأن العمل. بمجرده ولو تناهى لا يوجب بمجرده دخول الجنة، ولا أن يكون عوضا لها. لأنه ولو وقع على الوجه الذي يحبه الله لا يقاوم نعمة الله، بل جميع العمل لا يوازي نعمة واحدة، فتبقى سائر نعمة مقتضية لشكرها وهو لم يوفها حق شكرها. ا هـ. انظر فتح الباري (11/ 296)

الحديث. بمجرده يسوغ الاعتراض على من جعل السعادة والشقاوة منوطة بالعمل فقط. وعائشة- رض الله عنها- قد جعلت ما يقتضيه كلامها من سعادة هذا الصبي معللة بعدم عمل السوء مع أنه يمكن أن تكون العفة في سعادته هي ما جرى له من اللطف بتوفي الله له في تلك السن، فإن ذلك. بمجرده لطف مع قطع النظر عن العمل. فالحاصل أنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أبان لها مقتضيا آخر للسعادة، وهو أن الله لطف به وتغمده برحمته بقبضه في ذلك الوقت، ولو كان العمل هو سبب الشقاوة والسعادة كما قالت عائشة لما تم ما تلاه عليها- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من أن الله خلق للجنة خلقا وللنار خلقا، وهم في أصلاب آبائهم. ويقوي هذا ما وقع في غير صحيح مسلم بلفظ: " أولا تدرين أن الله خلق الجنة وخلق النار فخلق لهذه أهلا ولهذه أهلا ... " (¬1). فإن جعل عدم الدراية عنوانا لما أرشدها إليه (¬2) يشعر بأن إيصال الدراية ¬

(¬1) تقدم تخريجه (¬2) والخلاصة: أن القول الصحيح الذي ذهب إليه المحققون من العلماء وارتضاه جمع من المفسرين والمتكلمين هو أن أطفال الكافرين في الجنة والله أعلم. وانظر: فتح الباري (3/ 246 - 252). وطريق الهجرتين لابن القيم (387 - 401). وبحث مصير أطفال الكافرين في الآخرة إعداد محمد صبحي بن حسن حلاق ص 43 - 58

إليها هو المقصود، ومنشأ ذلك ما فهمه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من عدم الدراية عندها لما جرى على لسانها من تعليل السعادة بعدم العمل المستفاد منه أن وجود العمل وعدمه هما المستقلان بالسعادة والشقاوة وجودا وعدما، وإثباتا ونفيا. هذا ما سبق إليه الفهم وأستغفر الله [4]. ((انتهى البحث))

بحث في مسألة وهو المسمى البغية في مسألة الرؤية

بحث في مسألة وهو المسمى البغية في مسألة الرؤية تأليف محمد بن على الشوكاني حققه وعلى عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط (أ) 1 - عنوان الرسالة: بحث في مسألة الرؤية وهو المسمى" البغية في مسألة الرؤية" (¬1). 2 - موضوع الرسالة: رؤية الله في الآخرة. 3 - أول الرسالة: قال رضي الله تعالى عنه: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فما له من هاد والصلاة واللام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد وآله وصحبه الناصبين رايات الدين الخافضين أعلام العناد. وبعد: فإنا لما جرت المذاكرة وبين بعض الأعلام في مسألة الرؤية التي طال فيها بين الفريقين اللجاج وكثر الخصام .... 4 - آخر الرسالة: ومهما غفلت عن شيء فلا تغفل عن تلك النصوص القوية التي جاها مدعي التخصيص لأدلة الرؤية فإن عليها حامت طيور النقاد وإليها سافرت أنظار علماء الإنصاف وأئمة الاجتهاد، فخذها مجملة غير مفصلة تستأنس ها عن وجه هذه المسألة المعضلة والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا والصلاة والسلام على سيدنا محمد حبيب الله ورسوله وعلى آله وصحبه. 5 - نوع الخط: خط نسخط جيد. 6 - عدد الصفحات: (45) صفحة. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: في بعضها (15) سطرا والبعض الآخر (25) سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 7 - 9. 9 - الناسخ: حسين بن محسن الأنصاري اليماني. ¬

(¬1) قدم الأخ العزيز/ عادل حسن أمين/ هذه الرسالة وغيرها من الرسائل المخطوطة إلي خصيصا عندما أحضرها من الهند رجاء التواب والأجر من الله فالله أسأل أن يحفظه ويرعاه ويثبت على الحق حطاه. وأن يغفر لنا وله وللمسلمين أجمعين.

وصف المخطوط (ب) 1 - عنوان الرسالة: " البغية في مسألة الرؤية ". 2 - موضوع الرسالة: رؤية الله في الآخرة. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل الله فما له من هاد. والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد وآله وصحبه الناصبين رايات الدين الخافضين أعلام العناد. وبعد: فإنا لما جرت المذاكرة بيني وبين بعض الأعلام في مسألة الرؤية التي طال فيها بين الفريقين اللجاج وكثر الخصام .... 4 - آخر الرسالة: . تستأنس ها عن وحشة هذه المسألة المعضلة، والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد حبيب الله ورسوله وعلى آله وصحبه، كمل من خط جامعه الإمام المجتهد القاضي بدر الدين، العلامة النحرير محمد بن على الشوكاني حفظه الله تعالى، ومتع جميع المسلمين بحياته آمين آمن. وكان التأليف في شهر الحجة الحرام سنة 1203 ثلاث ومائتين وألف وصلى الله وسلم على محمد وآله. 5 - نوع الخط: خط نسخط معتاد. 6 - عدد الصفحات: 28 صفحة + صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرا. عدد الكلمات في السطر: 15 كلمة تقريبا. 9 - في هامش الصفحة الأولى ما نصه: " هذه الرسالة إن جمعها في أدام الطب بقصد تقييد الفايدة ".

قال رضي الله تعالى عنه: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فما له من هاد، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد وآله وصحبه الناصبين رايات الدين الخافضين أعلام العناد. وبعد: فإنها لما جرت المذاكرة بيني وبن بعض الأعلام في مسألة الرؤية التي طال فيها بين الفريقين الفجاج، وكثر الخصام، وقفت على كتب الطائفتن وقوف شحيح ونظرت في حجج القبيلين أفي نظر صحيح، فحررت هذه الأحرف اليسيرة مشيرا ها إلى تلك المطولات وأثرت الاختصار في نقل أدلة الفريقين، فجاء بحمد الله من أجل المختصرات. فأقول: قالت العترة (¬1) والمعتزلة (¬2) وصفوة الشيعة (¬3) والمرجئة (¬4) ........ ¬

(¬1) العترة في اصطلاح الإمام المهدي صاحب البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار (ص ش 8) هم القاسمية والناصرية. والقاسمية: هم أتباع الإمام القاسم ابن إبراهيم الرص الحسني ولد سنة 170 هـ وتوفي بالرس سنة 224هـ وأما أن الناصرية: هم أتباع الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الحسيني ولد سنة 230 هـ وتوفي سنة 304 هـ وقيل في " العترة " غير ذلك. (¬2) تقدم التعريف بها (656) (¬3) تقدم التعريف بها (¬4) من أوائل الفرق التي تنتسب إلى الإسلام في الظهور، وقد احتفت مكانا واسعا في أدهان الناس، وفي اهتمام العلماء بأخبارهم وبيان معتقداهم. والمرجئة هم الذين كانوا يؤخرون العمل عن الإيمان،. بمعنى أنهم كانوا يجعلون مدار الإيمان على المعرفة بالله والمحبة له والإقرار بوحدانيته ولا يجعلون هذا الإيمان متوقفا على العمل. وأكثر المرجئة يرون أن الإيمان لا يتبعض ولا لزيد ولا ينقص، وبعضهم يقول إن أهل القبلة لن يدخلوا النار مهما ارتبكوا من المعاصي. انظر: التبصير في الدين (ص: 59 - 61) الفرق بينها الفرق (ص:122 - 125).

والخوار (¬1) وأكثر الفرق الخارجة عن الإسلام: لا تجوز على الله الرؤية أصلا في الدنيا ولا في الآخرة ولا من نفسه ولا من غيره. وقالت: الأشعرية (¬2) والمجسمة (¬3) وضرار بن عمرو (¬4) أكثر فرق المجبرة (¬5) أنه يصح أن يرى نفسه، ويصح أن يراه غيره وقيل يصح أن يرى نفسه ولا يصح أن يراه غيره، حكاه الرازي (¬6) عن بعضهم، وحكاه البعض عق أبي القاسم البلخي (¬7) وهو غير مشهور عنه. ¬

(¬1) تقدم التعريف بهم (ص 153 وص 856) (¬2) تقدم التعريف جما (ص 151). (¬3) المجسمة هم القائلون بأن الله جسم من الأجسام، وقد أورد الأشعري في (المقالات) (1/ 102 - 105) آراء حمس فرق من الشيعة الأوائل وكلها تذهب إلى التجسيم مثل قول هشام بن الحكم بأن الله تعالى جسم (طوله مثل عرضه، وعرضه مثل عمقه). انظر دائرة المعارف الإسلامية مادة جسم (6/ 460 - 461). (¬4) هو ضرار بن عمرو من كبار المعتزلة طمع في رياستهم في بلده فلم يدركها فحالفهم فكفروه وطردوه، صنف نحو ثلاثين كتابا بعضها قي الرد عليهم وعلى الخوارج، وفيها ما كحو مقالات خبيثة شهد عليه الإمام بن حنبل عند القاضي سعيد بن عبد الرحمن الخمس فأفئ بضرب عنقه فهرب. وقيل: إن يحي بن خالد البرمكي أخفاه، قال الجشمي: ومن عده من المعتزلة فقد أخطأ لأنا نتبرأ منه فهو من المجبرة توفي سنة 190هـ نحو805 م. انظر: " الملل والنحل " للشهرستاني (1/ 102 حاشية). (¬5) تقدم التعريف ها (ص 252). (¬6) تقدمت ترجمته (ص 268) (¬7) هو عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي المعروف بابي القاسم الكعبي تلميذ الخياط وأحد المعتزلة البغداديين توفي سنة 309 هـ. وقد خالف قد ثرية البصرة في أشياء منها: 1/ قوله: إن الله تعالى لا يرى نفسه ولا يراه غيره. 2/ قوله: إن الله سبحانه وتعالى لا يسمع ولا يبصر وكان يزعم أن معي وصفه بالسميع والبصير. بمعنى أن عالم بالمسموع والمرئي. 3/ نفى الإرادة عن الله سبحانه وتعالى. 4/ أنه كان يقول بإيجاب الأصح للعبد على الله تعالى، والإيجاب على الله تعالى محال لاستحالة موجب فوقه يوجب عليه شيئا. انظر المعتزلة وأصولها الخمسة (ص 74، 75)

[الأدلة العقلية للقائلين بامتناع الرؤية] احتج الأولون على الامتناع بأدلة عقلية ونقليه، وسنشرع في تحرير أدلة الفريقين العقلية. فمن أدلة المانعين العقلية قولهم: كل محسوس (¬1) جسم أو عرضي فقط، وكل جسم أو عرض محدث والله ليس. محدث إجماعا. قال: المجوز مجيبا على ذلك لا نسلم كلية الصغرى بقيد فقط بل هو مصادرة على المطلوب، فإنكم جعلتم المدعى أعلى أن كل محسوس جسم أو عرض جزعا من الدليل، وصيرتموه صغرى القياس فيلزم الدور، إذ لا يصح المدعى حتى يصح الدليل بتمام أجزائه، ولا يصح الدليل حتى يصح المدعى إذ هو جزؤه على هذا التقدير، وهو عين الدور المحال. وأجيب بأن المعقول من الرؤية ما ذكرناه فاستدلالنا مبني عليه فلا مصادرة ودعوى إحساس لا يعقل ليس مما نحن بصدد إبطاله، فإنه يكفينا في نفيه كونه لا يعقل أن تلك الرؤية ذكرتم أنا لا تفتقر إلى شعاع ولا إلى لنطاع ولا إلى غيرهما من الشرائط إحساس فضلا عن إحساس لا يعقل. ورد بأن الرؤية تتعلق بكل موجود. فتكون الصغرى حينئذ جزية هكذا (¬2) بعض الموتى جسم وعرض ركل جسم وعرض محدث، فبعض الموتى محدث وهو مسلم. وأجيب بأنا لا نسلم تعلق الرؤية بكل موجود، ودعوى كلية التعلق مبنية على تلك الرؤية التي قلتم إنا لا تفتقر ... الخ. ولولا ذلك لم تتم لكم الصغرى. فجوابنا السالف ¬

(¬1) انظر رد ابن تيمية على ذلك في منهاج السنة (3/ 344 - 350). (¬2) هكذا في المخطوط ولا يخفى أن العبارة تفتقد إلى رابط.

شامل لما ذكرتم أنا اشتغلنا عنه بغيره. قالوا منع السند بلا دليل مكابرة. وأجيب بأنه لم يكن منعنا له مجردا على أنا نمنع كونه سندا ونجعله من باب إقحام دعوى على دعوى. قالوا إنما جعلنا ذلك التعلق سندا لأنكم قد اعترفتم بأن الجسم (¬1) والعرض كل منهما محسوس يصح أن يحس، فقد ثبت أن صحة الرؤية مشترك بين [2] الجسم والعرض، وهذه الصحة لهما علة مختصة بحال وجودهما. وذلك لتحققها عند الوجود كما اعترفتم به وانتفائها عند العدم، فإن الأجسام والأعراض لو كانت معدومة لاستحال كونها مرئية بالضرورة والاتفاق، ولولا تحقق أمر مصحح حال الوجود غير شقق حال العدم- لكان ذلك- أي اختصاص الصحة بحال الوجود- ترجيحا بلا مرجع، لأن نسبة الصحة- على تقدير استغنائها عن العلة- إلى طرفي الوجود والعدم على سواء، وهذه العلة المصححة للزوم لا بد أن تكون مشتركه بين الجوهر والعرض، وإلا لزم تعليل الأمر الواحد- وهو صحة كون الشيء مرتبا بالعلل المختلفة والأمور المختصة- إما بالجواهر وإما والأعراض، وهو غير جائز كما تقرر في محله. ثم نقول: وهذه العلة إما الوجود وإما الحدوث إذ لا مشترك بين الجوهر والعرض سواهما، فإن الأجسام لا توافق الألوان في صفة عامة بتوهم كونها مصححة سوى هذين، لكن الحدوث لا يصلح أن يكون علة للصحة، لأنه عبارة عن الوجود مع اعتبار عدم سابق، والعدم لا يصلح أن يكون جزاء للعلة، لأن التأثير صفة إثبات فلا يتصف به العدم ولا ما هو مركب منه، وإذا سقط العدم عن درجة الاعتبار لم يبق إلا الوجود، فإذن هي- أي العلة المشتركة- الوجود، فإنا مشتركة بينهما وبن الواجب لما تقرر من اشتراك الوجود بين الموجودات كلها. فعلة صحة الرؤية متحققة في حق الله تعالى بتحقق صحة الرؤية وهو المطلوب. وأجيب بأنه قد اعترف [3] بركاكة هذا الدليل- الذي هو أشهر أدلتكم- كثير ¬

(¬1) انظر: مجموع فتاوى 6/ 102 - 108 - 299).

من فضلائكم، وصرح بضعفه كل محققيكم، حتى قال سعد الله: في شرح المقاصد: الإنصاف أن ضعف هذا الدليل جلط، ومع هذا فإنه يرد على قولكم ا: وهذه الصحة لها علة إلخ- أن الصحة معناها الإمكان، وهو أمر اعتباركم فلا يفتقر إلى علة موجودة، فكيفية الحدوث هو أمر اعتباري فيكون هو المصحح لرؤية الجوهر والعرض، وذلك لا يجزئ في الواجب قطعا وعلى قولكم، وإلا لزم تعليل الأمر الخ. أن الممتنع (¬1) أن يعلل بالعلل المختلفة إنما هو (¬2) الواحد الشخصي لا الواحد النوعي، كالحرارة بالذي، والنار، فيصح تعليل رؤية الجوهر والعرض. مما لا يلزم أن يكون مشتركا بينهما، بل يكون مختصا بالجوهر تارة وبالعرض أخرى، ومع ذلك لا يلزم إمكان رؤية تعالى، وعلى قولكم، إذ لا مشترك بين الجوهر والعرض سواهما (¬3) بأن الإمكان مشترك أيضًا بينهما، ولو سلم أنه ساقط من درجة الاعتبار لأن مرجعه إلى العدم والتأثير صفة إثبات تأثير العلة فلا يتصف ها العدم وكذا الحدوث ساقط عن درجة الاعتبار لذلك فمن أين جاء الحصر بقولكم لا مشترك- سلمنا (¬4)، فالدليل منقوض بصحة المخلوقية والملموسية وغيرهما، فإنا مشتركة بين الجوهر (¬5) والعرض فيلزم صحة كون الباري تعالى مخلوقا وملموسا لكونه موجودا، أو الوجود هو العلة على ما قررتم حيث قلتم لا علة لصحة الرؤية إلا الوجود، وعلى قولكم إن العلة المشتركة هي الوجود بأنكم قائلون إن وجود كل شيء عينه، وحكمكم باشتراك الوجود يقضى بأن الأشياء كفها متفقة الحقيقة، لا أنا مشتركة فيما هو على لها، واشتراك [4] الشيئيين فيما هو تمام عينيهما قاض بأن حية واحدة وهو. معزل عن المعقول، ويرد عليكم أيضًا على مقتضى ذلك الدليل- أعني صحة ¬

(¬1) الظاهر أن العبارة أدركها بعض التحريف ولعل كلمة " أن " محرفة من الاسم الموصول " الذي ". (¬2) زيادة من [ب]. (¬3) لعل اللفظة "فإن" بالفاء بدل الباء. (¬4) جواب ولو سُلم. (¬5) انظر درء تعارض العقل والنقل (6/ 267 وما بعدها).

الرؤية لكل موجود- أن الطعوم والروائح والأصوات والاعتقادات مرئية وهي لا تدرك بالاتفاق. قالوا: ندفع الأول. مما قاله الجويني (¬1) من أنه ليس المراد من العلة ما هو المتبادر من التأثر، أي ليس المراد، بالعلة هو المؤثر في الصحة حتى يرد ما ذكر، بل المراد مجرد ما يصلح متعلقا للرؤية وقابلا لها ولا بد من وجوده، فلا يكون مثل الحوادث كافيا إذ لا تحقق له في الأعيان. والثاني بأن متعلق الرؤية لا يجوز أن يكون من خصوصيات الجوهر أو العرض، بل يجب أن يكون مما يشتركان فيه، للقطع بأنه قد يرى الشيء من بعيد ولا يدرك منه إلا هويته دون خصوصية كونه جوهرا أو عرضا، فرسا أو إنسانا .. إلى غير ذلك من الخصوصية وهذا معي كون الرؤية المشتركة مشتركة. والثالث: بأن الإمكان أمر اعتباري فلا يمكن تعلق الرؤية به وأن علية الصحة يجب أن تكون مختصة بحال الوجود والإمكان ليس كذلك كما لا يخفى، وأيضا فالمعدوم متصف بالامكان فيلزم صحة رؤيته وهو باطل بالضرورة. والرابع:. مما قاله صاحب المواقف (¬2) متأولاً الكلام. . . . ¬

(¬1) هو أبو المعالي عبد الله بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني أبو المعالي ركن الدين الملقب بإمام الحرمين: أعلم المتأخرين من أصحاب الشافعي ولد في جوين من نواحي (نيسابور) 419 هـ- 1028م رحل إلى بغداد فمكة حيث جاور أربع سنين. وذهب إلى المدينة فأفئ ودرس جامعا طرق المذاهب. من مصنفاته: - البرهان في أصول الفقه. -الإرشاد في الأصول. - التلخيص. - الشامل في أصول الدين. انظر: الأعلام للزركلي (4/ 160). (¬2) للقاضي عضد الدين الإيجي (ت 756 هـ).

الأشعري (¬1) وذلك حيث قال بأن مراد الشيخ: أنه ليس في الخارج هويتان إحداهما الوجود والأخرى الماهية، فالاتحاد بينهما بحسب التحقيق لا بحسب المفهوم، فلا ينافي اشتراكهما في مفهوم مطلق الوجود. وأجيب عن الأول بأن تفسير العلة. مما يكون متعلقا للرؤية [5] يقضي أن علة الصحة هي الموجود لا الوجود. أما لو قيل إن متعلق الرؤية هو الوجود كما هو المفروض لم يتم الدفع، لأن الوجود أيضًا لا تحقق له في الأعيان كالحدوث، وإلا لكان موجودا. [وعن] (¬2) الثاني ما قاله التفتازاني (¬3) معترضا على ذلك الدفع بلفظ وفيه نظر، لجواز أن يكون متعلقا الرؤية هو الجسمية وما يتبعها من الأعراض من غير اعتبار الخصوصية. وبما قاله اللقاني (¬4) في شرح الجوهرة من أن مفهوم الهوية أمر اعتباري أيضًا لا تحقق له في الأعيان فكيف يكون متعلقا للرؤية بل متعلقا ليس إلا خصوصيات المرئيات، ولا يلزم أن يكون كل إدراك صالحا لأن يتوصل به إلى تفصيل المدرك إلى ما فيه من الجواهر والأعراض، بل قد يكون إجمالي من حيث هو مدرك. ¬

(¬1) تقدمت ترجمته (ص151). (¬2) في المخطوط (من) وسياق البراهين يقتضي أن يكون حرف الجار "عن" أسوة بالباقي. (¬3) مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني سعد الدين: من أئمة العربية، والبيان والمنطق. ولد بتفتازان (من بلاد خراسان) وأقام بسرخس وأبعد تيمورلنك إلى سمرقند. فتوفي فيها. ودفن في سرخس. كانت في لسانه لكنة. من مكتبة " قذيب المنطق " مقاصد الطالبين في الكلام. " شرح العقائد النسفية " حاشية على شرح العضد على مختصر ابن الحاجب. الأعلام للزركلى (7/ 219). (¬4) واللقاني: هو إبراهيم بن إبراهيم بن حسن الفقاني ( ... -1041 هـ) أبو الإمداد، برهان الدين. فاضل متصوف مصري مالكي. نسبته إلى " لقائه من البحيرة. ممصر. توفي بقرب العقبة عائدا من الحج. له مصنفات منها: جوهرة التوحيد، منظومة قي العقائد، وبهجة المحافل. انظر: الأعلام للزركلى (1/ 28).

وبما قاله الخيالي (¬1) من أن حاصل هذا الدفع من أن متعلق الرؤية أمر مشترك في الواقع أي الهوية، وهو لا يدفع الاعتراض المذكور ويستلزم استدراك التعريض لرؤية الجوهر والعرض، وذكرهم لاشتراك الصحة بينهما ولا يستلزم الاشتراك في المعلول الاشتراك في العلة، إذ يكفى أن يقال إذا رأينا زيدا فإنا لا ندرك منه إلا هوية ما، وهى مشتركة بين الواجب والممكن. وعن الثالث بأن كون الإمكان أمرا اعتباريا قد سبق ما فيه على أن الحدوث أيضًا اعتباري نظرا إلى أنه عبارة عن الوجود مع اعتبار عدم سابق، وهذا المفهوم أمر اعتباري لا وجود له في الأعيان، فما وجه التخصيص للحدوث دون الإمكان؟ وأما كون الرؤية [6] لا تتعلق إلا بالموجود: فإن أريد به أنه لا علة لصحة الرؤية إلا الوجود فذلك عين الدعوى الممنوعة أول البحث، وإن أريد أن الرؤية إنما تتعلق في الواقع بالموجود فلا يضرنا ولا ينفعكم، ولا يلزم منه أن الوجود هو العلة المصححة للرؤية، بل يجوز أن تكون الرؤية متعلقة بخصوص المرئيات من الجوهر والعرض كما سبق. وعن الرابع:. مما قاله الحواني (¬2) في شرح العضدية من أن ذلك في غاية البد، ثم قال وقيل: إن الشيخ وإن أنكر اشتراك الوجود فإنما أقام هذا الدليل على سبيل إلزام المخالفين القائلين بالاشتراك. ¬

(¬1) هو أحمد بن موسى الخيالي شمس الدين فاضل، كان مدرسا بالمدرسة السلطانية في بروسه بتركيا، له كتب منها: " حاشية على شرح السعد على العقائد النسفية ". الأعلام للزركلى (1/ 262). (¬2) هو محمد بن أسعد الصديقي الدواني جلال الدين، قاض باحث. يعد من الفلاسفة ولد في دوان (من بلاد كازرون) وسكن شيراز. المتوفى سنة 907 هـ. له مصنفات منها - شرح العقائد العضدية. - حاشية على شرح التوضيح لتجويد الكلام. - حاشية على تحرير القواعد المنطقية للقطب الرازي. الأعلام للزركلى (6/ 32).

وهذا القائل هو الآمدي (¬1) لأنه اضطرب في الدفع عن الشيخ ولم يجد إلى الجواب سبيلا، وأيضا متفق الرؤية ليس هو نص مفهوم الوجود، فإن المفاهيم. ممعزلي عن الكون في الأعيان فلا يتم كلا الشيخ الأشعري (¬2) على ما فيه من البعد. ثم بعد الإغماض عن هذا كله لا دفع للنقض بصحة المخلوقية والملموسية وغيرهما من الأمور المشتركة كوجوب الوجود بالغير، وسائر الأمور العامة كالماهية والمعلومية وغيرهما وعلى فرض المناقشة في النقض بالأمور العامة فلا مناقشة بالنقض بصحة الملموسية والمخلوقية، إلا أن البعض جعل النقض بصحة الملموسية قويا دون المخلوقية، وفيه نظر يؤخذ من شرح التجريد [القوشجي] (¬3) ثم اعلم أن محقق الأشعرية بعد اعترافهم بركة هذا الدليل العقلي وضعفه معترفون بأن التعويل على الدليل العقلي في هذه المسألة متعذر ¬

(¬1) هو أبو الحسن علي بن أبي محمد سالم الثعلبي الأصولي الفقيه الملقب سيف الدين الآمدي ولد سنة 551هـ كان أول شبابه، وأول اشتغاله بالعلم حنبلي المذهب انحدر إلى بعداد ثم انتقل إلى المذهب الشافعي. من مصنفاته: أبكار في علم الكلام اختصره في كتاب سماه " منائح القرائح ورموز الكنوز ". - دقائق الحقائق. - الأحكام قي أصول الأحكام. توفي سنة 631 هـ دفن بسفح جبل فاسيون. انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان (2/ 456) البداية والنهاية (13/ 140 - 141). (¬2) تقدم التعريف به (ص151). (¬3) علي بن محمد القوشجى. علاء الدين، فلك رياضي، من فقهاء، الحنفية أصلة من سمر قند [ ... - 879 هـ.] كان ألوه خادم الأمير "الغ لك " ملك ما وراء النهر يحفظ له البزاة (ومعنى القوشجي في لغتهم حافظ البازي).

فلا نطول الكلام بنقل حججهم العقلية، وأجودها [7] لديهم الدليل السمي بدليل الوجود وقد أدرجناه فيما سلف. قال السيد المحقق في شرح المواقف (¬1) ما نصه: (ولقد بالغ المصنف في ترويج المسلك العقلي لإثبات صحة رؤية الله تعالى لكي لا يلتبس على الفطن النصفي أن مفهوم الهوية المطلقة المشتركة بين خصوصيات الهوايات أمر اعتباري كمفهوم الهوية والحقيقة، فلا تتعلق ها الرؤية أصلا وأن المذكور من الشيخ البعيد هو خصوصيته الموجودة إلا أن إدراكها إجمال لا يتمكن به على تفصيلها، فإن مراتب الإجمال متفاوتة قوة وضعفا كما لا يخفى على ذي بصيرة فليس يجب أن يكون كل إجمالي وسيلة إلى تفصيل أجزاء المدرك وما يتعلق به من الأحوال ألا ترى إلى قولك كل شيء فهو كذا، وفي هذا الترويج تكلفات يطلعك عليها أدنى تأمل. فإذن الأولى ما قد قيل من أن التعويل في هذه المسألة على الدليل العقلي متعذر فليس إلى ما اختاره الشيخ أبو منصور الماتريدي (¬2) من التمسك بالظواهر النقلية) (¬3) انتهى كلامه. إذا عرفت هذا الاعتراف بتعذر التعويل على أدلة العقل والتصريح بأن لا متمسك إلا أدلة النقل فسنطلعك على نصيب تبصر به إن شاء الله تعالى الحق، ولكنا لما رأينا القائلين بعدم جواز الرؤية مصرحين في كتبهم الكلامية بعكس ما صرح به حذاق الأشعرية حتى ¬

(¬1) للقاضي عضد الدين الإيجي (ت 756 هـ) المواقف في علم الكلام. (¬2) محمد بن محمد بن محمود أبو منصور الماتريدي (نسبة إلى ماتريد بسمرقند) توفي سنة 333 هـ من أئمة المتكلمين ورأس الماتريدية، وقد خالف الأشعري في مسائل أوردها أبو عذبة في كتابه " الروضة البهية فيما بين الأشاعرة والماتريدية ". الأعلام (24217). تاريخ الأدب العربي (4/ 41 - 43). وانظر: الماتريدية (ص 85) وما بعدها. (¬3) انظر أراء الماتريدية في " الرؤية" تلبيس الجهمية (8812) منهاج السنة (2/ 331 - 333).

جزموا بأن الاعتماد في المسألة ليس إلا على أدلة العقل لكونها مفيدة للقطع بخلاف النقل. قال في شرح القلائد (¬1) ما نصه: "و قد اقتصر الإمام على العقلية فقط وإنما ذكر السمعية في آخر المسألة معارضة لما احتج به المخالف من [8] السمع، وهذا هو الذي يقتضيه النظر الصحيح لأن كون تلك السمعية مفيدة للقطع محل نزاع مبني على أن كون العموم يفيد القطع والظن، فكان الاقتصار على الأدلة العقلية المفيدة للقطع بكل حال هو الأولى انتهى. أحببنا (¬2) نوقفك على ما هو العمدة منها عندهم لتنقطع عن قلبك علائق الشكوك يهون لذلك خطب التهويل، فنقول: قد استكثروا من الأدلة العقلية، وقد ذكرنا فيما سلف طرفا منها، وسنذكر هاهنا أشهر أدلة هذه المسألة عندهم وهو دليلان: (الأول): الموانع. (والثاني) دليل المقابلة. وقد وقع بينهما الخلاف في ترجيح أحدهما على الآخر فمنهم من ذهب إلى ترجيح دليل الموانع وهو المأخوذ من أصول أبي هاشم (3) وبه قال محمود بن الملاحمي (¬3)، ورجحه المهدي أحمد بن يحط. ومنهم من رجح دليل المقابلة وهو المأخوذ من أصول أبي علي (¬4) وهو من معتزلة البصرة وقد ترجم له في الرسالة (24) من هذا القسم. (¬5) وبه قال السيد المؤيد بالله ومنهم من قال بالاستواء وهو القاضي عبد الجبار (¬6) وغيره. ¬

(¬1) " شرح القلائد في تصحيح العقائد " تأليف الشيخ عبد الله بن محمد النجري وهذا الشرح في علم الكلام. مؤلفات الزيدية (174/ 2 رقم 1971). (¬2) لعل الحرف المصدري " أن " سقط من الناسخ. (¬3) هو محمد بن أحمد بن محمد الملاحمي (أبو نصر). وقيل محمود طبقات الشافعية (5/ 231) (¬4) تقدمت ترجمته في الرسالة (¬5) وهو من كبار المعتزلة (ص 264). (¬6) هو أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد بن الخليل بن عبد الله الهمداني الأسد آبادي ولد سنة 320 هـ على الأرجح وتوفي سنة 415 هـ كان أشعريا ثم انتقل إلى الاعتزال بعد اتصاله بالعالم المعتزلي أبي إسحاق بن عياش. وبقى على هذا المذهب طيلة حياته، عاصر بي بوية وولي القضاء في الري سنة 385 هـ من مؤلفاته: المغني في أبواب العدل والتوحيد، شرح الأصول الخمسة، وتنزيه القران عن المطاعن ومتشابه القرآن معجم المؤلفين (78/ 5، 79) الأعلام للزركلى (3/ 273 - 274)

أما دليل الموانع فتحريره أن يقال: القديم تعالى حاصل على الصفة إلى لو رؤي لما رؤى إلا لكونه عليها، والواحد منا حاصل على الصفة إلى لو رؤي لما رؤي إلا لكونه عليها. من صحة الحاسة وارتفاع الموانع فلو صحت رؤيته لوجب أن [يرى] (¬1) الآن فهذه ثلاثة أصول: (الأول): أن القديم حاصل على الصفة .. الخ. (والثاني): أن الواحد منا .. الخ. (والثالث): أن لو صحت رؤيته .. الخ. أما الأول: فلا خلاف في ذلك لأن الأكثر يقولون الشيء إنما تصح رؤيته لأجل صفته المقتضاه، فهو من أحكامها، وعند الشيخ أبي عبد الله أنه لأجل الصفة الذاتية، وعند الأشعريه لأجل الوجود، وعند ضرار (¬2) لأجل ماهيته (¬3) التي يختص بعلمها، والله ¬

(¬1) في [ب] أن نراه (¬2) تقدمت ترجمته (ص 714). (¬3) قال ضرار بن عمرو: إن الباري يستحيل أن يدرك بالحواس الخمس، ولكن يجوز أن يخلق الله تعالى لأهل الثواب حاسة سادسة تخالف الحواس الخمس فيدركونه ها. ثم قال هذا الرجل: لله عز وجل مائية لا يعلمها في رقتنا إلا هو ثم تردد فقال مرة: لا يصح أن يعلم مائية الرب تعالى في الدنيا والعقبى غيرة. وقال مرة: بل يعلمها من يدرك الرب تعالى ويراه، وهو سبحانه رأى نفسه عالم. ممائيته ونحن إذا رأيناه علمنا مائيته ذكر ذلك ابن تيمية في تلبيس الجهمية (1/ 344 - 349). وانظر الرد عليه هناك

حاصل على كل هذه الأمور [9]. وأما الثاني: فلأن الواحد (¬1) منا إنما يرى لأجل كونه حيا لشرط صحة الحاسة وارتفاع الموانع ووجود المدرك، وقد اختلف في هذه الأشياء أهي كافية في كون أحدنا مدركا أم لا؟. فقال الجمهور إن كافية، فمن حصلت هذه الأشياء أدرك المدركات، ومن تخلف شيء منها لم تدرك. وقال أبو علي والأشعري: بل لا بد من أمر آخر وهو الإدراك، إذ هو معن عندهم يخلقه الله عند المشاهدة ونحوها من الحواس. واختلف الجمهور الذين قالوا هذه الأمور كافية: هل العلم بذلك ضروري أو اكتسابي؟. فقال أبو الحسن: (¬2) هو ضروري فإنا نعلم ضرورة أن أحدنا من كان صحيح الحاسة والموانع مرتفعة والمدرك موجود وجب أن يدرك، ومن تخلف شيء منها استحال أن يدرك. وقال (¬3) الجمهور بل اكتسابي استدلالي وذلك أنا وجدنا الإدراك يتحصل عند اجتماع هذه الأمور عند انتفاء شيء منها على طريقة واحدة ووتيرة مستمرة، فعلمنا أن كافية في الإدراك وأن لا تفتقر إلى أمر سواها، وإذا ثبت ذلك فلا التباس أن هذه الأمور مجتمعة في أحدنا بالنسبة إلى القديم تعالى، أما صحة الحاسة فظاهر وأما ارتفاع الموانع فلأن الموانع منحصرة في الثمانية المعروفة وكلها إنما تمنع من رؤية الأجسام والألوان، والله تعالى ليس بجسم ولا لون فلا تكون مانعة من فثبت الأصل الثاني. وأمما الثالث فلأنه إذا حصل الموجب للإدراك- وهو كون أحدنا حيا واجتمعت الشرائط- وجب حصول المقتضى وهو الإدراك، وإلا خرج المقتضى عن كونه مقتضيا، وهو محال. فهذا تحرير دليل الموانع [10] على سبيل الاختصار. ¬

(¬1) انظر تلببس الجهمية (2/ 85 - 86). (¬2) أبو الحسن الأشعري وقد تقدم التعريف به (ص151) (¬3) انظر تلبيس الجهمية (2/ 105 - 107).

وأما دليل المقابلة فتحريره أن يقال: أحدنا إنما يرى بالحاسة والرائي بالحاسة لا يرى إلا ما كان (¬1) مقابلا أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل، والله تعالى ليس بشيء من ذلك، وقد حرر السيد ما ذكرتم في شرح الأصول تحريرا مطولا، وقد يحرر دليل المقابلة على تحرير آخر فرارا من الاعتراض الوارد على هذا التحرير من أن ذلك إنما يحصل باستمرار العادة وإن كان يصح خلافه، أو أن ذلك إنما هو شرط في رؤية الأجسام والألوان، وأما رؤية الله فلا يشترط فيها ذلك. وصورة ذلك التحرير أن يقال: الواحد منا إنما يرى بالشعاع، والرائي بالشعاع إنما يرى ما كان متحيزا أو مختصا بجهة يتصل ها الشعاع، فلو صحت رؤيته لكان متحيزا ولا مختص بجهة يتصل ها الشعاع، فهذه ثلاثة أصول: أما الأصل الأول: وهو أن أحدنا إنما يرى بالشعاع، فلأن الرؤية المعقولة في الشاهد إنما هي الرؤية بالشعاع، فإن الله تعالى ركب بنية العين تركيبا مخصوصا وجعل لها شعاعا، وهو أجزاء نور مناسبة لتلك البنية فبمجموعها يحصل الإدراك، ولهذا فإن أحدنا إذا اشتد عليه الظلام زال إدراكه لزوال الشعاع، وإن كانت حاسته في نفسها صحيحة، فعلم أن أحدنا إنما يرى بالشعاع (¬2). وأما الأصل الثاني: وهو أن الرائي بالشعاع لا يدرك إلا ما كان متحيزا أو مختصا بجهة يتصل الشعاع- فلأن أحدنا إذا اثبت أنه رأى بالشعاع لم ير إلا ما وقع عليه ذلك الشعاع واتصل به، إذ لو رأى ما لم يتصل به لما كان أحدنا رائيا بالشعاع حينئذ، بل لا يفتقر إليه البتة، بل كان يلزم صحة أن يدرك جميع المدركات، ولو وجد من الموانع ما وجد، إذ تلك الموانع كلها تمنع من اتصال الشعاع، والمعلوم خلافه، فعلم أنه لا بد من اتصال الشعاع المرئي، والشعاع حاصل في الجهات لأنه أجزاء رقيقة نورية ¬

(¬1) انظر مناقشة ابن تيمية لذلك في تلبيس الجهمية (1/ 359) (¬2) انظر الإرشاد للجويني (ص:160)

حاصلة بين الحاسة والمرئي فلا بد حينئذ من أن يكون المرئي حاصلا في جهة إذ لا يعقل الاتصال بين ما هو في جهة وهو الشعاع وبن ما ليس في جهة وهو المرئي، وأما اللون فمعي اتصال الشعاع به هو أن يتصل. محله وجهة محله، فثبت أن المرئي بالشعاع لا بد أن يكون مختصا بجهة يتصل ها الشعاع. وأما الأصل الثالث: وهو أن الله تعالى لا يختص إنه فقد ثبت أن اختصاصه. مكان يستلزم أن يكون من جنس الأجسام، وسواء كان جسما مركبا (¬1) من ثمانية جواهر أو أقل أو أكثر، وإنما قلنا إن القول بذلك يستلزمها لأدت كل (¬2) ما تمكن في الأماكن أو شغل الجهات فهو متحيز، وكل متحيز فهو من قبيل الأجسام، والجسمية تستلزم الحدوث لما تقرر من أن كل جسم محدث، وهو على هذين الدليلين، أعنه دليل الموانع، ودليلي المقابلة اعتراضات ومناقشات ودفوع. فمما أورد على دليل الموانع أن قولكم إن أحدنا حاصل على الصفة التي لو ورث لما رئي إلا لكونه عليها- غير مسلم، بل يفتقر إلى أمر آخر وهو الإدراك الذي هو المعني، وأما استدلالكم على نفيه بأن أحدنا إذا كان صحت الحاسة والموانع مرتفعة والمدرك موجود أن تدرك .. الخ. فجوابه أن يقال ما أنكرتم أن الله تعالى قد أجرى العادة أن يخفق الإدراك الذي هو المعني عند اجتماع هذه الأمور ولا يخلقه عند شماء منها، وجعل ذلك مستمرا على طريقة واحدة. وأجيب عن هذا بأنه يستلزم أن كون احدنا أن يكون بين يديه أجسام عظيمة وهو يراها بأن لا يخلق الله له ذلك المعنى، والمعلوم أن أحدنا يعلم أنه لا شطء بحضرته، وأن هذا العلم مسند إلى أنه لو كان شيء بحضرته لرآه. ¬

(¬1) انظر تلبيس الجهمية (1/ 609 وما بعدها). (¬2) في المخطوط (كلما) وهو خطأ إملائي إذ وردت فيه موصولة كالشرطية "كلما" والصواب ما أثبتناه.

واعترضه المؤيد بالله عليه السلام (¬1) وغيره أنا لا نسلم أن هذا العلم إلى ما ذكرتم بل يجوز أن يكون علما ابتدائيا يخلقه الله تعالى فينا ابتداء إلى غير ذلك من الاعتراضات على هذا الدليل. ومما أورد على دليل المقابلة أن قولكم إن أحدنا لا يرى الشعاع معترض بأن يقال إن هذا إنما هو في رؤية الأجسام والألوان فقط في الكريم أن الله لا تصح رؤيته ولا يفتقر فيها إلى شعاع فلا يلزم حينئذ أن يكون صح أصلا في جهة كما ذكرتم. وأجيب بأنا إنما ننفي عن الله تعالى الرؤية المعقولة والرؤية إلى نعقلها إنما هي بالشعاع كما تقدم. وأما ما لا يعقل فيكفيه نفيا أنه لا يعقل، على أن الرؤية بغير الشعاع كالرؤية بغير الحاسة في أفما لا يسميان رؤية أحمية لغوية إلى غير ذلك من الاعتراضات الواردة على هذا الدليل، على أن أبا هاشم قد ذهب إلى أن الشيء إذا كان تصح رؤيته في نفسه فإنه يصح أن يرى وإن لم يكن مقابلا ولا حالا في المقابل ولا في حكم المقابل، ولهذا أقر جماعة من القائلين بعدم جواز رؤية الله أن اعتمادهم في هذه المسألة ليس إلا على دليل الموانع وممن صرح بذلك النجري (¬2) في شرح القلائل. قال: قالت الأشعرية: ورؤيته تعالى بلا كيف، أي لا يرى في جهة من الجهات ولا على صفة من الصفات. وتحقيق ذلك ما قاله الرازي: ونصه: (المراد من الرؤية أن يحصل انكشاف قام بالنسبة إلى ذاته المخصوصة ويجري مجرى الانكشاف الحاصل عند اتصال الألوان والأضواء، وهذا الانكشاف لا أن يكون المكشوف حاصلا في جهة). وقال في موضع آخر: (ربما عاد الخلاف بين أصحابنا ¬

(¬1) ثم التعليق على هذا " اللفظ " في رسالة " الصوارم الحداد " رقم (24) من مجلدنا هذا. (¬2) ولد (825 - 877 هـ) من مؤلفاته " شرح القلائد في تصحيح العقائد " انظر الأعلام للزركلي (12714) الضوء اللامع (5/ 62).

وبين المعتزلة في هذه المسألة إلى اللفظ وإلى العبارة، يعني أن هذا الانكشاف الذي يسمونه الرؤية بالحاسة هو الذي تسميه المعتزلة علما ضروريا، لكن المشهور أن الخلاف بين الفريقين معنوي" (¬1) انتهى. وأجيب على دعوى رؤيته تعالى بلا كيف بأن ذلك مما لا يعقل. قالوا إنكارنا شيء عما هو معتاد في الرؤية، والحقائق لا تؤخذ من العادات لأنا لا نشترط في الروية ما ذكرتم من الضوء والمقابلة وغير ذلك من الشروط، وخروج الشعاع أو الانطباع أمر عادي قد جرت عادة الله بذلك وهو قادر على خلق الرؤية فينا من غير هذه الشروط ولا يلزم من صحة رؤية الشيء تحقق الرؤية. ودفع هذا الجواب بأنه سفسطة (¬2)، وعدم اشتراطكم الضوء والمقابلة واتصال الشعاع بالمرئي إن كان مع بقاء العن على هذا التركيب وهذه البنية المخصوصة فذلك خارج عن العقل، وإن كان لامع البقاء بل إذا شاء الله ذلك وأراده يجعل العن بغير هذه البنية وعلى غير هذا التركيب الخاص فلا نزاع لأحد في هذا لكمال اقتداره تعالى. وقولهم: الحقائق لا تؤخذ من العادات قلنا قد صرحتم أن تصديق الرسول بالمعجزة وثبوت صدقه وصدق ما جاء به لا طريق له غير العادة، فإذا تركتم أخذ الحقائق من العادات تركتم الشريعة بأسرها ومن جملتها أدلتكم النقلية التي جزمتم بأن المعتمدة في هذا ¬

(¬1) انظر: تلبيس الجهمية (2/ 75 - 76). (¬2) السفسطة قياس مركب من الوهميات والغرض منه تغليط الخصم وإسكاته كقولنا الجوهر موجود في الذهن وكل موجود في الذهن قائم بالذهن عرض لينتج أن الجوهر عرض. التعريفات للجرجاني (ص 234). ومنها السوفسطائية اسم المهنة إلى ها يقدر الإنسان على المغالطة والتمويه والتلبيس بالقول والإيهام ... وهو مركب في اليوناتيه من (سوفيا) وهي الحكمة رمن (أسطس) وهى المموهة، فمعناه حكمة مموهة: انظر الصفديه لابن تيمية (1/ 97 - 98) ط الرياض سنة 396 هـ.

البحث. ومما يصلح لدفع هذه الدعوى أعني: أن الرؤية بلا كيف ما أوردوه في هذا المقام مستدلين [4] به على الرؤية كحديث تشبيه رؤية تعالى برؤية البدر والقمر (¬1)، وحديث أبي هريرة عند مسلم (¬2) وفيه " فيأتيهم الله تعالى ني صورة غر صورته المط يعرفون* وحديث جابر عند مسلم (¬3) أيضًا وفيه " فيقول: أنا ربكم. فيقولون: حتى ننظر إليك. فيتجلى لهم تبارك وتعالى ". وغير ذلك فإنها كفها مصرحة بالكيف. وأيضا يشهد على ضعفه أنه خلاف ما عليه جميع الفرق. قال الرازي: في المحصل ما نصه: (مسألة: الله تعالى يصح أن يكون مرئيا لنا خلافا لجميع الفرق. أما الفلاسفة والمعتزلة (¬4) فلا إشكال في مخالفتهما وأما المشبهة (¬5) والكرامية (¬6) فلأنهم إنما جوزوا رؤيته لاعتقادهم كونه تعالى في المكان والجهة. أما بتقدير ¬

(¬1) أخر به البخاري رقم (554) ومسلم رقم (633) من حديث جرير بن عبد الله. (¬2) بل في الصحيحين أخرجه البخاري رقم (806) ومسلم رقم (299/ 182). (¬3) في صحيحة رقم (316/ 191). (¬4) تم التعريف بها (ص 656). (¬5) المشبهة: هي فرقة من الشيعة الغالية، والحشويه صرحوا بالتشبيه ومنهم الهشاميين من الشيعة ومضر وهمس وأحمد الهجنمى. قالوا: معبودهم على صورة ذات أعضاء وأبعاض إما روحانية، وإما جسمانية ويجوز عليه الانتقال والنزول والصعود والاستقرار والتمكن. والمشبهة الحشوية: قد أجازوا على رهم الملامسة والمصافحة وان المسلمين المخلصين يعانقونه في الدنيا ولآخر إذا بلغوا في الرياضة والاجتهاد إلى حد الإخلاص والاتحاد المحض. وحكى الكعبي عن بعضهم أنه كان يجوز الرؤية في دار الدنيا. وانظر الملل والنحل (118/ 1 - 123). (¬6) الكرامية: وهم أصاحب أبي عبد الله محمد بن كرام كان ممن يثبت الصفات إلا أنه ينتهي فيها إلى التجسيم والتشبية. والكرامية طوائف يبلغ عددها ثنى عشرة فرقة، وأصولها ستة العابدية والتونية، والزرينية، رالإسحاقية، والواحدية، وأقرهم الهيصمية ولكل واحد منهم رأي. =

أن يكون هو تعالى منزها عن الجهة فهم يحيلون رؤيته فثبت أن هذه الرؤية المنزهة عن الكيفية مما لا يقول به أحد إلا أصحابنا) انتهى. تنبيه: قال: ضرار بن عمرو (¬1) أنه تعالى يرى بحاسة سادسة، وذلك لما رأى باقي إدراكه هذه الحواس من المحالات، ورد قوله بأن هذه الحاسة إن كانت شعاعا لزم كونه جسما لما تقدم في (¬2) دليل المقابلة، وإن لم يكن شعاعا فغير معقول، على أن تسميتها رؤية ممنوعة، لأن الرؤية اسم للإدراك هذه الحاسة، ومن الإلزامات العامة له، وللأشعرية تجويز أن يكون الله تعالى مطعوما ومسموعا وملموسا ومشموما: إما على وجه غير ما نعقله في الشاهد كما قالت الأشعرية في الرؤية، أو بحواس أخر كما قال ضرار، فإن منعوا ذلك ورد عليهم ما أوردوه على المانعين من الرؤية من أن المنع طعن في قدرة الله وإلا فما الفرق؟ مقدمة ينتفع ها بين يدي الأدلة النقلية وسنشرع الآن في سرد أدلة الفريقين النقلية والكلام عليها وسنهدي إليك قبل الشروع فيها مقدمة تنتفع ها في هذه المسألة وأخواتها إن كنت ممن رزق الإنصاف، وتستعن ها على السلامة من موبقات التعصب ومزالق الاعتساف. فنقول: اعلم أن فرقتي الأشعرية (¬3) والمعتزلة (¬4) قد اشتهر بينهما من الخلاف ما ملأ الأقطار وظهر بلا مرية ظهور النهار، وأفضى ذلك إلى العصبية التي هي من أقبح المشارب الوبية، ثم تزايد الشر وتضاعف في كل عصر حتى بلغ إلى الترامي بالكفر والفسق، فلا تكاد تقف على كتاب من كتب إحدى الطائفتين في مسائل الخلاف إلا وأشار فيه من ¬

(¬1) ذكره ابن تيمية في تلبيس الجهمية (1/ 344) (¬2) في [أ] "و" والصواب ما أثبتناه من [ب] (¬3) تم التعريف بها (ص 151). (¬4) تم التعريف ها (ص 656).

التشنيع والتبشيع على الطائفة الأخرى ما تقشعر منه الجلود، فترى كل فرقة تسمي ما تشبثت به في نصرة مذهبها- وإن كان في غاية من الضعف- بالدليل والحجة والواضح والصريح والقطعي والمحكم وتطلق على متشبث الأخرى، وإن كان في غاية القوة اسم الشبهة والمتشابه والخفي ونحو ذلك، وتبالغ في كتم الناهض وإهماله وتستكثر من ذكر المردود وأمثاله محبة للغلب والانتصار للأسلاف، بل ربما أفضى ذلك إلى ما هو أطعم من ذلك وأطعم، ولا أحب التصريح بأنه الافتراء على بعضهم بعضا، وقل من ينجو من هذه البلية التي هي أقبح التغرير والتلبيس على المقصرين، لإيقاعهم (¬1) في المضايق ولا حط الله علما يكون هذا نتيجته. ولعمري أن الجهل أسلم منه فإن ثمرة العلم النافعة بعد الاهتداء به- الهداية إليه لا الترويج للبدع والمصائب التي لا يفلح من علقت به ولا سيما إن كان من المقصرين المغرورين، ولهذا ترى عندهم من العداوة ما لم تجده عند المحقق [16] والسر في ذلك أن المقصر المقتصر إذا عثر على كتب قومه الذي هو هم حسن الظن قطع بصحة ما فيها وجزم بأن الطائفة الأخرى لا متشبث لها في تلك المسألة إلا تلك الشبهة إلى ذكرها أسلافه فيكون ذلك من أعظم الأسباب الداعية إلى التبديع والتكفير، ثم انضم إلى هذا الترويج التنفير عن كتب الخصوم ورمي من رام العثور عليها بالابتداع. والبلعث على هذا الحذر من أن يعثر المطلع على كتب الخصم على حجة له قوية تخدش في وجه ما قرره له أسلافه، أو يقف على بطلان ما نسبوه إليه فيفتضحوا عنده. وهذا السبب اتسع الخرق وعظم البلاء، فإياك إن كنت متبصرا أن ينفق عندك شيء من هذا الجنس فتزل بأول قدم، فإن ما دون هذه العداوة بكثير موجب لعدم قبول رواية بعضهم عن بعض وشهادته عليه، وقد صح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحكم بعدم قبول شهادة أرباب الإحن على بعضهم بعضا كما في حديث: " لا تقبل شهادة ذي الظنه والإحنة " (¬2) وهكذا ما ¬

(¬1) في المخطوط [أ- ب] العطف بالواو (وإيقاعهم) والصواب ما أثبتناه. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (10/ 201) من طريق الأعرج مركسي وأخرجه الحاكم (4/ 99) من حديت العلاء، عن أبيه، عن أبى هريرة يرفعه مثله

بين من حاله كحال هاتين الطائفتين من الفرق الإسلامية فخذها كلية تنتفع ها انتفاعا جيدا، وعليك- إذا حاولت النظر- بأخذ مذهب كل طائفة ودليلها من كتبها كما فعلناه في هذه الرسالة والله المستعان. أدلة المانعين من الرؤية إذا عرفت هذا فنقول: استدل المانع من الرؤية بعد الاستدلال بالأدلة العقلية بقول الله عز وجل: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103] وتقرير الاستدلال ها أن الإدراك المسند إلى الأبصار إنما هو الرؤية أو هما متلازمان، والآية نفت أن تراه الأبصار وذلك [17] بتناول جميع الأبصار بواسطة اللام الاستغراقية، والوقوع في سياق النفي في مقام المبالغة في جميع الأوقات، لأن قولك: فلان تدركه الأبصار لا يفيد عموم الأوقات فلا بد أن يفيده ما يقابله فلا يراه شيء من الأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولأنه تعالى [بأنه لا يرى] (¬1)، لأنه ذكر في اثنان المدائح. وما كان من الصفات عدمه مدح كان وجوده نقصا يجب تنزيه الله عنه، كالقدم ينفي الصاحبة والولد، فيكون انتفاء الرؤية كانتفائها بشهادة الذوق السليم من كل جزء سالم الفطرة، واعترض على هذا التقرير بوجوه (منها): أن الإدراك هو الإحاطة (¬2) بجوانب المولى إذ هو في الأصل النيل والوصول البلوغ ثم نقل إلى الرؤية ¬

= قال الحاكم صحيح على شرط مسلم وخالفه الذنهي وقال على شرط البخاري قال الحافظ في التلخيص (4/ 204) وفي إسناده نظر. * الإحنة: الحنة الذي بينك وبينة عداوة. (¬1) هكذا في المخطوط والكلمة محرفة بلا شك أو مشكلة قراءتها وكأها (بائن لا يرى) (¬2) قال ابن القيم في حادي الأرواح (ص 370): وأنة لعظمته لا يدرك بحيث يحاط به، فإن الإدراك هو الاحاطة بالشيء، وهو قدر زائد على الرؤية كما قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا} [الشعراء: 61 - 62] فلم ينف موسى- صلوات الله عليه نفى إدراكهم إياهم بموله: (كلا) وأخبر الله سبحانه أنة لا يخاف دركهم بقوله: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طه: 77] الروية والإدراك كل منهما يوجد مع الأخر وبدونه، فالرب يرى، ولا يدرك كما يعلم ولا يحاط به وانظر الدر المنثور (3/ 37) الإبانة عن أصول الديانة (ص30).

المحيطة لكونها أقرب إلى تلك الحقيقة، وهذه الرؤية المكيفة بكيفية الإحاطة أخص مطلقا من الرؤية المطلقة، وسلب الأخص لا يستلزم سلب الأعم. وأجيب: بأن اعتبار فقد الإحاطة في الإدراك ممنوع لا يثبت في شيء من أصلا، لا فيما هو الأصل على زعمكم- أعني- النيل والوصول والبلوغ، ولا في المنقول إليه أعني الرؤية، على أن الإدراك إذا اقترن بالبصر كان حقيقة في مجرد الرؤية، سواء قلنا إنه حقيقة لغوية (¬1) كما هو الظاهر أو عرفية (¬2) فدعوى النقل ممنوعة أيضا، وأيضًا ¬

(¬1) الحقيقة ويراد ها ذات الشيء وما هيته، كما يقال حقيقة العالم: من قام به العلم. وتطلق. بمعنى اليقين. وتطلق ويراد ها المستعمل في اصل ما وضعت له في اللغة. وقال ابن سيده في " المحكم " الحقيقة في اللغة: ما أقر في الاستعمال على اصل رضعه. وتنقسم الحقيقة إلى لغوية، وعرفية وشرعية لأن الوضع المعتبر فيه إما اللغة وهي اللغوية كالأسد للحيوان المفترس أولا. وهو إما وضع الشارع وهي الشرعية كالصلاة للأركان وقد كانت في اللغة للدعاء أولا. وهي العرفية المنقولة عن موضوعها الأصلي إلى غره بعرف الاستعمال ولتتبه لأمرين. 1/: أن اللغوية أصل الكل، فالعرف نقلها عن اللغة إلى العرف والشرع نقلها عن اللغة والعرف. 2/:أن الوضع في اللغوية غر الوضع في الشرعية والعرفية، فأنه في اللغة تعليق اللفظ بإزاء معنى لم يعرف به يخر ذلك الوضع. وأما الشرعية والعرفية فبمعنى غلبة الاستعمال دون المعني السابق. انظر البحر المحيط (153/ 2 - 155). والكوكب المنير (1/ 149). (¬2) والحقيقة العرفية إما أن تكون عامة، وهي أن لا يختص تخصيصها بطائفة دون أخرى (كدابة) فإن وضعها بأصل اللغة لكل ما يدب على الأرض من ذي حافر وغيره، ثم هجر الوضع الأول- وصارت في العرف حقيقة الفرس) ولكل ذات حافر. وكذا ما شاع استعماله في غير موضوعه اللغوي كالغائط والعذرة والراوية فإن حقيقة الغالي المطمئن من الأرض والعذر في فناء الدار والرعية: الجمل يستقى عليه الماء. أن تكون (خاصة) وهي ما خصته كل طائفة من الأسماء بشيء من مصطلحاتهم، كمشد وخبر، وفاعل ... في اصطلاح النحاة انظر: الكوكب المنير (1/ 150).

نفط الرؤية المحيطة بالجوانب كما ذكرتم مشعر بأن له تعالى جوانب وحدودا، لأنه يصير الكلام في قوة أنه لا يرى تعالى رؤية محيطة بجوانبه وحدوده، ولو سلم عدم إشعاره بذلك فلا أقل من إبهامه له لأن توجه النفط إلى القيد أكثري، وأنه باطل قطعا وإجماعا: ومنها أن إلا تدركه الأبصار) موجبة كلية لا موضوعة جمع يحلى باللام الاستغراقية وقد [18] دخل عليها النفي فرفعها. ورفع الموجبة الكلية سالبة جزئية كما هو مقرر في محله. ولهذا جعل المنطقيون ليس (كل) من أسرار السالبة الجزئية. هذا إذا ثبت أن اللام للاستغراق وإلا عكسنا القضية إلا تدركه الأبصار) سالبة مهملة وهي في قوة الجزئية، فالآية في قوة: بعض الأبصار لا تدركه ونحن نسلمه، لأن الرؤية مختصة بالمؤمنين دون الكافرين. وأجيب: بأن الشائع في الاستعمال، والمأنوس في المقامات الخطابية- باتفاق أهل التحقيق- أن النفط الداخل على (¬1) الجمع المحلى باللام الاستغراقية لعموم السلب لا ¬

(¬1) قال صاحب البحر المحيط (3/ 95): " ... إن قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} الأنعام:103، أنه الاستغراق دون الجنس وان المعني لا يدركه كل بصر، وهو سلب العموم اعني نفي الشمول فيكون سلبا جزئيا، وليس معنى لا يدركه شيء من الأبصار ليكون عموم السلب، أي شمول النفي لكل واحد، فيكون سلبا كليا، كما أن الجمع المعرف باللام في الإثبات لإيجاب الحكم لكل فرد فكذلك هو في النفط لسلب الحكم عن كل فرد كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المنافقون:6] وأجاب بعضهم بجواز أو بكون ذلك باعتبار أنه للجنس، والجنس في النفط يعم وبأن الآية الأولى تعم الأحوال والأوقات وبأن الإدراك بالبصر أخص من الرؤية فلا يلزم من نفيه نفيها

سلب العموم، حتى قال بعضهم إنه لا يوجد في التنزيل واستعمال فصحى إلا بالمعنى الأول. وقد اعترف هذا سعد الدين (¬1) في شرح المختصر والمطول وشرح المقاصد، ومن أحب الوقوف على حقيقة ذلك فلينظر المطول في شرح قول القزويني: واستغراق المفرد أشمل .. الخ. وقد أطال تحقيق ذلك في شرح المقاصد ما خلاصته: أن النسبة قد تعتبر أولا إلى الكل ويعتبر دخول النفط عليه فتفيد سلبه، وقد يعتبر دخول النفط أولا ثم النسبة إلى الكل فلا يكون النفط متوجها إليه وإنما يتوجه إلى ما دخل عليه من الكلام الخالي عن حلية العموم فيفيد عموم السلب، والأول يفيد سلب العموم .. الخ. حتى قال: وبالجملة فالأول من قبيل نفى الجمع، والثاني من قبيل نفي المفرد وهو أشمل كما صرحوا به. وهذا جار في جميع القيود لا في مجرد العموم، ثم ذكر لذلك شواهد قرآنية. ثم قال: إلى ما لا يحصى في الكتاب والسنة وغيرهما من كلام الفصحى جار كفه على الاعتبار الثاني. وقال الكابي في " شرح المتحصل ". وهو إمام- ما نصه: " إنه تعالى عن بقوله لا تدركه الأبصار أي [19] لا يدركه واحد من الأبصار وذلك يقتض بأنه لا يدركه شيء من الأبصار في شيء من الأوقات أصلا، لأن قولنا تدركه الأبصار بالإطلاق العام ينقض قولنا لا تدركه الأبصار، بدليل أنه يستعمل كل واحد منهما في كذب الأخر، وإنما يتناقضان لو كان المراد من السالبة المذكورة هو السالبة الكلية الدائمة لما عرفت في المنطق أن المطلقتين القائمتين لا تتناقضان لجواز صدق كل واحدة منهما مع الأخرى في زمان، فإذا كان وثبت صدق قولنا لا يدركه شيء من الأبصار في شيء من الأوقات لزم كذب قولنا تدركه الأبصار لأن صدق أحد النقيضين يوجب كذب الآخر، وإذا ثبت كذب ¬

(¬1) تقدمت ترجمته أنفا (ص 719).

قولنا تدركه الأبصار ثبت كذب قولنا يدركه بصر واحد أو بصران لعدم القائل بالفرق والفصل انتهى. ولم يتعرض للقدح فيه بل قال إنا نقول. موجبه، وجاء. مما سبق من أن نفى الإدراك لا يستلزم نفط الرؤية قوله: وإلا عكسنا. أجيب بأنا لو سلمنا عدم العموم لكانت القضية قبل دخول حرف السلب موجبة جزئية فحصل بحرف السلب رفع الإيجاب الجزئي وهو سلب كلى فثبت المطلوب ولا نسلم ما ادعيته من الإهمال، ولو سلم لكان في قوة: لا يدرك بعض شيء من الأبصار، والبعض نكرة ني سياق النفي فيعم. ومنها أن الإدراك غير موضوع بالحقيقة للرؤية أصلا لكنه قد يستعمل في رؤية الشيء المحدود على سبيل المجاز، وقد تقرر في أصول الفقه أنه لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز بدون دليل إجماعا (¬1) فيجب حمل الإدراك على حقيقته التي هي اللحوق، فإذا قام الدليل [20] على العدول إلى المجاز وجب أن يلاحظ المجاز الموافق حكمه حكم الحقيقة وهو الرؤية، مع بعد الاحاطة بجوانب المرئي وحدوده، فما لا جوانب لذاته ولا حد له يمتنع فيه ذلك بالضرورة، فيجب العدول عن هذا المجاز أيضًا والحمل على إبصار العقول وإدراكها كما مر. وأجيب. منع اعتبار نعت الإحاطة في اللحوق، وأنه لو لم يوجد في اللغة أصلا كما سلف، وبمنع أن الإدراك مجاز في الرؤية، بل حقيقة لغوية أو عرفية كما سبق وإبصار العقول مجاز بلا خلاف فلا يصار إليه إذ لا بد في المجاز من غرض صحيح ونكتة مقتضية له وقرينة وعلاقة، وليس مهنا شيء من ذلك إلا ما غالطتم به وقد منعناه. (ومنها) أن الآية (¬2) محمولة على نفط الرؤية في الدنيا لا في الآخرة، جمعا بين الأدلة وذلك لأنها وإن عمت في الأشخاص على مدعاكم، فهي لا تعم في الأزمان لأنها سالبة ¬

(¬1) انظر البحر المحيط (2/ 231 - 232) والكوكب المنير (1/ 196 - 198) (¬2) انظر حادي الأرواح لابن القيم (ص371).

مطلقة لا موجهة دائمة. وأجيب: بأن عموم الأزمان لقد سبق أنه مستفاد من الآية، وملاحظة القدح يأبى هذا التخصيص لأن عدم الرؤية في الدنيا ليس فيما يختص به الباري جل جلاله لجريه في أشياء كثيرة فلم يبق للتمدح فائدة يعتد ها ثم لا فرق بين قول من قال إن العام في الأشخاص عام في الأوقات والأحوال، وقول من قال إنه مطلق فيها كما حققه ابن دقيق (¬1) العيد في "شرح العمدة". (ومنها) أنكم إما أن تحملوا الأبصار على حقيقتها، أو تجعلوها. بمعنى المبصرين: إن قلتم بالأول لم يصح لكم الاستدلال لأنا نقول إن الأبصار هي المذكورة، وإنما يدركه المبصرون، وإن قلتم بالثاني لزمكم في قوله تعالى: {وهو يدرك الأبصار} (¬2) أن يكون معناه وهو تعالى مبصر [21] مدرك فيدرك نفسه، وكل من قال بأنه يدرك نفسه قال بأنه يدركه غيره. وأجيب بأن المراد بالأبصار ليس معناه الحقيقة إذ لا مدح حينئذ، ولا المبصرين مطلقا إذ لا دليل على ذلك بل المبصرين بالأبصار فيكون المعنى لا يدركه أهل الأبصار وهو يدرك أهل الأبصار، والقديم ليس من أهل الأبصار فاندفع الإشكال. غاية ما يلزم ألا لا يكون في الآية دليل على نفى إدراكه لنفسه صريح، بل إدراك أهل الأبصار فقط، لكن يلزم من ذلك نفط إدراكه لنفسه، لأن كل من قال بأنه لا يدركه غيره قال بأنه لا يدرك نفسه. (ومنها) أن التمدح بنفي الرؤية يدل على صحتها لأنها لو امتنعت ما حصل التمدح بنفيها إذ لا مدح للمعدوم بأنه لا يرى حيث لم يكن له ذلك. وأجيب:. منع الملازمة، والسند التمدح بنفي الصاحبة والولد مع امتناعهما غاية ¬

(¬1) هو العلامة الشيخ الدين أبو الفتح الشهر بابن دقيق العيد المتوفى سنة 702 هـ (¬2) [الأنعام:103]

الامتناع. وقولكم "لا مدح للمعدوم" مريدين بذلك أنها لو كانت مدحا له تعالى بأنه لا يرى لشاركه المعدوم في ذلك لأنه لا يرى- باطل، لأن الله تعالى قد تمدح بأنه لمس كمثله شيء (¬1) وأيضا فإن الممتنع لا يجوز التمدح به إلا إذا كان على ضرب من الكناية، كالتمدح بانتفاء الرؤية لانتفاء لازمها من الجهة ونحوها، إذ لا معنى للتمدح بانتفاء الرؤية من حيث ذات الرؤية فقط، فإن المعدوم لا يرى ولا مدح في عدم رؤية، وقس على ذلك التمدح بانتفاء السنة والنوم والولد والصاحبة، وأيضا فأنتم قائلون بأن قوله تعالى: {ولا يظل ربك أحدا} (¬2) من قبيل التمدح [22] بانتفاء الممتنع لذاته، إذ الظلم محال لا يقدر عليه تعالى عندكم فما بالكم أبيتم ذلك (¬3) هنا. (ومنها): سلمنا دلالة الآية على ما ذكرتم، وعدم ورود شيء من هذه الأمور التي أسلفناها، فعمومها مخصص بالأحاديث البالغة رتبة التواتر كما صرح به الإمام محمد بن إبراهيم الوزير في "الروض الباسم (¬4) وغره، والعلامة السيوطي في "البدور السافرة في أمور الآخرة (¬5) حتى جزم الإمام المذكور أنها تزيد على ثمانين حديثا من طريق أكثر من ثلاثين صحابيا منهم: أبو هريرة (¬6)، وأبو سعيد الخدري (¬7)، ................................. ¬

(¬1) [الشورى: 11] (¬2) [الكهف: 49] (¬3) انظر حادي الأرواح (ص: 369 - 371) (¬4) (1/ 182 - 183) (¬5) (477 - 491) (¬6) تقدم أيضًا (ص730) (¬7) أخرجه البخاري رقم (7439) ومسلم في صحيحة رقم (302/ 183) وهو حديث طويل وفيه " ..... فيقول ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا (مرتين أو ثلاثا) حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب. فيقول هل بينكم وبينه آية، فتعرفونه ها؟ فيقولون: نعم. فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى

وأبو موسى (¬1)، وعدي بن حاتم (¬2)، وانعمن بن مالك (¬3)، وجرير بن عبد الله (¬4)، وكل هؤلاء أحاديثهم متفق عليها مخرجة في صحيح البخاري ومسلم معا، وفي غيرهما من كتب الحديث. ومنهم بريدة بن الحصيب (¬5)، وأبو رزين العقيلي (¬6)، .............. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (8784) ومسلم في صحيحة رقم (180)، من حديث أبي موسى أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " جنتان من فضة، بنيتها وما فيهما وجنتان من ذهب. آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبن أن ينظروا إلى ربهم إلا، داء الكبر على وجهه في جنة عدن". (¬2) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (1413) ومسلم رقم (1016) من حديث حاتم بر عدي ..... ثم ليقفن أحدكم بين يدي الله ليس بينه وبينه حجاب، ولا ترجمان يترجم له ثم ليقولن له: أولائك مالا؟ فليقولن: بلى ثم ليقولن أرسل إليك رسولا؟ فليقولن: بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا اذر ثم ينظر عن كاله فلا يرى فليتقين أحدكم اذر ولو بشق تمرة، بان أ يجد فبكلمة طيبة. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (1413) ومسلم في صحيحة رقم (132/ 1059) من حديث أنس مرفوعًا وفيه" .. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني أعطي رجالا حديث عهدهم بكفر، أما ترضون أن بذهب الناس بالأموال، وترجعون إلى رحالكم برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فو الله ما تنقلبون به " خير مما ينقلبون به " قالوا: بلى يا رسول قد رضينا. فقال لهم:" سترون بعدي أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الحوض " قال أنس: فلم نصبر. (¬4) تقدم تخريجه آنفا (ص730). (¬5) أخرجه الدارقطني في الرؤية" رقم (251) عنه، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به، كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر بسند ضعيف. (¬6) أخربه أحمد (4/ 11،12) وعبد الله في السنة رقم (448 و450 و451 و454 و455) وابن أبي عاصم في السنة رقم (459 - 460) واللالكائي رقم (837،838، 839) وابن خزيمة في التوحيد

وجابر بن عبد الله (¬1)، وأبو أمامة (¬2) , وزيد بن ثابت (¬3)، وعمار بن ياسر (¬4)، وعبد الله ¬

(¬1) تقدم تخريجه (ص 730). (¬2) أخرجه أبو داود رقم (4322) وابن ماجة رقم (4077) وعبد الله بن أحمد في السنة رقم (1008). والدارقطني قي الرؤية رقم (78) من حديث أبي أمامة مرفوعًا بلفظ" خطبنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان أكثر خطته ما يحدثنا عن الدجال وذكر الحديث بطوله وقال فيه: فإنه سيبدأ فيقول: أناني ولا في بعدي، ثم يثن فيقول: أنا ربكم ولن تروا ربكم حتى تموتوا وإنه أعور وإن ربكم ليس بأعور. وهو حديث ضعيف. (¬3) أخرجه اللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد" رقم (846) بسند ضعيف عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلن يدعو: اللهم إني أسألك برد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائد في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة" (¬4) أخرجه النسائي (5013 - 54) وابن حبان رقم (509 موارد) والحاكم في المستدرك (1/ 24 - 25) والطبراني في الدعاء رقم (624) من طرق وهو حديث ضعيف من حديث عمار بن ياسر قال: أما إني قد دعوت فيها بدعاء كان نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو به" اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أن ما كانت الحياة خسيرا لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الإخلاص في الرضاء والغضب وأسألك نعيما لا ينفد وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بالقضاء وبرد العيش بعد الموت ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك وأعوذ بك من ضراء مضرة وفتنه مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين.

بن عمر (¬1) وعمارة بن روبية (¬2) وأبو بكر الصديق (¬3) وعائشة أم المؤمنين (¬4) وعمار ابن ياسر (¬5) وحذيفة (¬6). . . . . . . . ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (4685) ومسلم في صحيحة رقم (2768) قال رجل لابن عمر: كيف عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في النجوى؟ قال: سمعته يقول: " يدنوا المؤمنون يوم القيامة من ربه عز وجل حتى يضع كنفه عليه، فيقرره بذنوبه فيقول هل تعرف؟ فيقول: رب أعرف، فيقول: فإني سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها اليوم لك، فيعطى صحيفة حسناته، وأما الكافر والمنافق ينادي هم على رؤوس الأشهاد {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [هود: 18]. (¬2) عن عمارة بن روبية عن أبية قال: نظر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القمر ليلة البدر سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضارون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروها فافعلوا أخرجه ابن بطة في "الإبانة" كما في "حادي الأرواح" لابن القيم (ص: 405 - 406). (¬3) عن عامر بن سعد أن أبا بكر الصديق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: في هذه الآية {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} بزيادة، أيونى: 126 قال " الزيادة النظر إلى وجه وهم تبارك وتعالى" أخرج الأثر عبد الله بن أحمد في السنة رقم (47،471) وابن أبي عاصم في السنة رقم (474) واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد رقم (784) وغيرهم. وهو أثر صحيح. (¬4) لا خلاف بين أهل العلم أن عائشة رضي الله عنها إنما نفت الرؤية في الدنيا وقد اتق أهل السنة على أن أهل الجنة يرون رهم عيانا بغير إحاطة ولا كيفية وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع والعقل وخالف في ذلك أهل البدع من الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الخوارج الإمامية انظر فتح الباري (13/ 426) مجموع فتاوى (1/ 26)، (3/ 137) الاقتصاد في الاعتقاد (ص:41) التوحيد لابن حزيمة (1/ 406 - 476). (¬5) مكرر في المخطوط. وقد تقدم تخريج حديث عمار (ص741). (¬6) أخرج اللالكائي في" شرح أصول اعتقاد أهل السنة" رقم (784) وعبد الله أبن أحمد في " السنة "رقم (278) وابن أبي عاصم في "السنة" رقم (474) عن حذيفة في قول الله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [سورة يونس:26] قال: النظر إلى وجه الله عز وجل وفيه عنعنة أبي إسحاق

وعبد الله بن العباس (¬1)، وعبد الله بن عمرو بن العاص (¬2) وكعب بن عجرة (¬3)، وفضالة بن عبيد (¬4)، والزبير بن العوام (¬5)، ولقيط بن صبرة (¬6)، وعمر بن ثابت الأنصاري (¬7)، وعبد الله ¬

(¬1) أخرج الأجري في كتاب " التصديق بالنظر إلى الله في الآخرة " (ص:65) رقم (44) عن عبد الله ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إنا أهل الجنة يزورون ربهم عز وجل في كل يوم جمعة في رمال الكافور، وأقرنهم منه مجلسا أسرعهم إليه يوم الجمعة، وأبكرهم غدوا بإسناد ضعيف. (¬2) أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (2/ 8):- وفيه" .... فإذا كان يوم القيامة وتجلى لهم تعالى، ونظروا إلى وجهة الكريم قالوا: سبحانه ما عبدناك حق عبادتك " (¬3) أخرجه عبد الله بن احمد في السنة رقم (484) بإسناد ضعيف واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهلي السنة والجماعة رقم (781) عن كعب بن عجرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [سورة يونس:26] قال: الزيادة: النظر إلى وجه رهم عز وجل. (¬4) أخرجه الدارقطني في الرؤية رقم (123) وابن أبي عاصم في السنة رقم (427) وأحمد (324/ 5) واللالكالي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة رقم (847) بإسناد صحيح. عن أبي الدرداء أن فضالة بن عبيد كان يدعوا يقول: " اللهم أسالك الرضى بعد القضاء وبسرد العيش بعد الموت ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لظنك في يخر ضراء مضرة ولا فتنة مضلة ". (¬5) فلينظر من أخرجه. (¬6) أخرجه الحاكم في المستدرك (58614) وابن أبي عاصم في السنة رقم (636) والطبراني في الكبير (211/ 19) بإسناد ضعيف من حديث لقيط بن صبرة " قال: قلت يا رسول الله كيف وهو شخص واحد، ونحن ملء الأرض ننظر إلية وينظر إليها قال: أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله: الشمس والقمر صغيران وترونها في ساعة واحدة وتريانكم ولا تضامون في رؤيتهما، ولعمري إلهك لهو على أن يراكم وترونه) قدر منهما على أن يريانكم وتروها (¬7) أخرجه مسلم في صحيحة (4/ 2245 رقم 169) قال ابن شهاب، أخبرني عمر بن ثابت الأنصاري أنه أخبره بعض أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يوم حذر الناس الدجال " أف مكتوب بين عينية كافر، يقرؤه من كره عمله أو يقرؤه كل مؤمن " وقال: " تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت

ابن بريدة (¬1)، وأبو برزة الأسلمي (¬2)، وأبو الدرداء (¬3)، وأبو ثعلبة الخشني (¬4)، وعبادة بن الصامت (¬5)، وأبي بن كعب (¬6). وعلى الجملة فإن أحاديث الرؤية مروية في جميع دواوين الإسلام من طرق كثيرة حتى رووه من طريق زيد بن على (¬7)، وفي الصحيحين منها ثلاثة عشر حديثا اتفقا منها على ¬

(¬1) أخرجه عبد الله بن أحمد في السمة رقم (469) وفي سنده أبو خالد القرشي- عمرو بن خالد- متروك ورماه وكيع بالكذب مات بعد سنة 120 هـ. انظر التقريب (2/ 69). قال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما منكم من أحد إلا سيخلو الله عز وجل به يوم القيامة ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان ". (¬2) لم أعثر عليه. (¬3) انظر حديث فضالة بن عبيد (ص 743). (¬4) لم أعثر عليه. (¬5) أخرجه أبو داود رقم (0 432) وأحمد (5/ 324) وابن أبي عاصم في السنة رقم (428) عن عبادة ابن الصامت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " قد حدثتكم عن الدجال حتى خشيت أن لا تعقلوا فإن أشكل عليكم منه شيء فاعلموا أنه أعور وأن ربكم ليس بأعور وإنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا " وهو حديث صحيح. (¬6) أخرجه الدارقطني في الرؤية رقم (119) واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة رقم (849). (¬7) أخرجه اللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة " رقم (852) بإسناد رآه. عن زيد ابن على عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب قال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يزور أهل الجنة الرب تبارك وتعالى في كل جمعة ". وذكر ما يعطون. قال ثم يقول تبارك وتعالى اكشفوا حجابا فيكشف حجاب ثم حجاب ثم يتجلى لهم تبارك وتعالى عن وجهه فكأنه لم يرو نعمة قبل ذلك وهو قوله تبارك وتعالى: {ولدينا مزيد}

ثمانية أحاديث وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بثلاثة أحاديث وقد استوفى [23] الحافظ النفيس العلوي اليمني (¬1) في كتابه (شرح الأربعين) (¬2) أحاديث الرؤية ورواها من طريق نحو خمسين صحابيا، وهكذا ابن القيم في "حادي الأرواح (¬3) وكلها مصرحة برؤية المؤمنين له يوم القيام فهلا خصصتم ها عموم الآية؟ وأجيب بأن هذه الأحاديث تتضمن الجبر والتشبيه فيجب القطع بأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقلها وإن قالها فعلى جهة الحكاية عن قوم، والراوي حذف الحكاية ونقل الخبر، ودعوى التواتر ممنوعة، وقد اعترف بأنها أحاديثه جماعة من محققيكم من جملتهم شارح التجريد الكوسجى وغيره، وأيضا فإنها مخالفة لدليل العقل والنقل، وللآيات التي ذكرنا بعضها، وسنذكر بقيتها ولأن قوله ليس كمثله- شيء (¬4) يستلزم أنه سبحانه وتعالى لا تدركه الأبصار، لأنها لو أدركته لي الأشياء، ولو سلم ذلك لكان المراد بالرؤية المذكورة في الأحاديث العلم (¬5)، أي: ستعلمون ربكم والرؤية هذا مما نطق به ¬

(¬1) هو محدث اليمن في وقته: سليمان بن إبراهيم بن عمر أبو ربيع التعزي الحنفي (ت هـ) الضوء اللامع (3/ 259) والبدر الطالع (1/ 265) (¬2) ذكر السخاوي أن الحافظ ابن حجر خرج له أربعين حديث وورطاها " الأربعين المهذبة " ولعله الجزء الذي جمعه منه الحافظ كما في " المجمع المؤسس ": (3/ 115) (¬3) (ص: 373). (¬4) [الشورى: 11] (¬5) قال القاضي عياض في "الإيمان من إكمال المعلم بفوائد صحيح مسلم (2/ 774) وتأولت المعتزلة أن معنى الرؤية هنا العلم وأن المؤمنين يعرفون الله يوم القيامة ضرورة وهذا خطأ لأن رؤية العلم تتعدى إلى مفعولين ورؤية العين إلى واحد .... ". قال ابن تيميه في منهاج السنة (313/ 2): وأما الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين، كمالك والتوري والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي حنيفة وإلى يوسف وأمثال هؤلاء، وسائر أهل السنة والحديث والطوائف المنتسبين إلى السنة والجماعة كالكلايبة والأشعرية والسالية وغيرهم، فهؤلاء كلهم متفقون على إثبات الرؤية له تعالى، والأحاديث ها

القرآن وورد به كلام الفصحاء، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} (¬1)، وقال: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} (¬2) وقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (¬3)، وقال: {} (¬4)، وقال الشاعر: رأيت الله إذ سمي نزارا ... وأسكنهم. بمكة قاطنينا وقال حاتم (¬5): أماوي إن يصح صداي بقفرة ... من الأرض لا ماء لدي ولا خمر ترى أن ما أنفقت لم يك ضرني ... وأن يدي مما بخلت به صفر وأيضا قد أسلفنا أن الرؤية المذكورة في الأحاديث مكيفة، وأنتم تقولون بلا كيف؟. قالوا هذه الأحاديث واردة مورد البشارة، وأي بشارة في أم يعلمون الله تعالى في ¬

(¬1) [الفرقان: 45] (¬2) الأنبياء: 30 (¬3) البقرة:246 (¬4) التكاثر:6 - 7 (¬5) أي حاتم الطائي

دار الآخرة 1241 ومعلوم أنه يعلمونه في دار الدنيا. " وأجيب: بأن المبشر به هو العلم الضروري وهو غير حاصل في دار الدنيا، ومثله قوله تعالى {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} (¬1) فإن كل مؤمن بالوعد والوعيد شأنه الإيمان بالنار في الدنيا، قالوا: وأي فائدة في البشارة بالعلم الضروري أيضا؟. وأجيب: بأنه موجب للاستراحة من مؤمنة النظر وتعب الفكر، قالوا: فيجب على هذا لاشتراك جميع العباد في ذلك من مؤمن وكافر لحصول العلم الضروري (¬2) هنالك لجميعهم. وأجيب بأن المنافقين والكفار إذا علموا الله ضرورة لم يكن حالهم كحال المؤمنين لأن علم المؤمنين موجب لحصول البشارة، وعلم من عداهم موجب لحصول الكآبة والحسرة. قالوا: أجمع على أن (رأى) إذا كان قلبيا اقتضى مفعولين (¬3)، ثانيهما عبارة عن الأول وإن كان بصريا فلا يقتضى إلا مفعولا واحدا، فإن جعل قوله "سترون ربكم كما ترون القمر (¬4) مفعولا مطلقا، أي: سترون ربكم رؤية مثل رؤية القمر، كان رؤية بصرية قطعا، لأنه متعد إلى مفعول واحد حينئذ ولا مجال لدعوى الحذف. وإن جعلناها قلبية فلا بد أن يكون كالقمر هو المفعول الثاني لعدم صلاحية (يوم القيامة وليلة البدر) لذلك ويلزمهم حينئذ الفساد لأن المقرر في النحو الثاني عبارة عن الأول محمول عليه حمل مواطأ فيكون معني الحديث: ستعلمون مثل القمر، والمثل. معني المماثل أي ستعلمون ربكم، مماثلا للقمر، وهو تشبيه بلا تجسيم صحيح، فإن المتماثلين هما المتشاركان في ¬

(¬1) التكاثر:6. (¬2) انظر الإبانة (ص: 43 - 44). (¬3) انظر الإيمان من "إكمال المعلم بفوائد صحيح مسلم" (2/ 774). (¬4) تقدم آنفا.

النوع، وهو ظاهر البطلان بالضرورة والاتفاق، فبطل أن تكون الرؤية. معني العلم. وأجيب بأن [25] يلزم أولاً: من جعل القمر مفعولا مطلقا كما ذكرتم أن تكون هذه الرؤية من نوع رؤية القمر، وإذا تشاركا في النوع لم يتميز أحدهما من الآخر فيلزم الجهة والكيف، فانكي مطلوبكم، وإذا جعلنا الرؤية. معني العلم لم يلزم شيء من ذلك، وسواء كان المفعول الثاني محذوفا لأغني ذكر المفعول المطلق عنه أي المفهوم من قوله كالقمر، أو مذكورا هو نفس (كالقمر) وقوله لا مجال للدعوى باطل لتصريح فحول النحاة بجواز الحذف مع القرينة كابن مالك، وجار الله (¬1) في تفسير قوله تعالى: {لترون الجحيم} [التكاثر:6] وإنما أطلق بعض النحاة المنع، نظرا إلى أن أصل الكلام مبتدأ وخبر، لكنك قد علمت جواز حذف أحدهما مع القرينة، وشواهد الحذف مما لا ينكره من له متمسك بالفن، ولنقتصر في الكلام على هذه الآية على هذا المقدار وإن كان الكلام عليها من الجانبين في غاية الطول. تنبيه: اعلم أن بعض القائلين بعدم جواز الرؤية جاء في دفع هذه الأحاديث الحط جاء ها المجوز بكلام ينادي على صاحبه بقصر الباء وحقارة الإطلاع. فقال: إنه لم يرد في الرؤية إلا خبر واحد، وهو، سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر (¬2) وهو من رواية: قيس بن أبي حازم (¬3) عن جرير بن عبد الله ¬

(¬1) أي الزمخشري في الكشاف (6/ 425). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) واسمه حصين بن عوف ويقال عوف بن عبد الحارث وبقال: عبد عوف بن الحارث بن عوف البجلي الأحمدي، أبو عبد الله الكوفي أدرك الجاهلية، ورحل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليبايعه، فقبض وهو في الطريق وأدوه له صحبة. قال الذهني أجمعوا على الاحتجاج به، ومن تكلم فيه فقد أذى نفسه. =

البجلي، وقيس مطعون فيه من جهة أنه كان يرى رأي الخوارج (¬1)، وأنه خولط في عقله آخر عمره، هذا معنى ما صرح به [السيد مانكديم] (¬2) في شرح جامع الأصول الخمسة (¬3)، وتبعه جماعة، وهو باطل من جهات: (الأولى): أن أحاديث الرؤية قد أسلفنا أنها أكثر من ثمانين حديثا عن أكثر من ثلاثين صحابيا، والقدح في حديث منها لا يستلزم [26] القدح في جميعها. (الثانية): أن قيس بن أبي حازم وإن صح عنه رأي الخوارج (¬4) لم يوجب طرح رواية، لما تقرر من قبول رواية المبتدع فيما لا يقوي بدعته، كما روي ذلك عن جماعة من العلماء، حتى روى المنصور بالله (¬5) في "المهذب (¬6) و"الصفوة (¬7) الإجماع على ¬

= وقال ابن معين: هو أوثق من الزهري. وقال مرة ثقة. مات سنة سبع أو ثمان وتسعين وقيل مات في آخر خلافة سليمان. انظر الإصابة رقم (7310). وتذهيب التهذيب (3/ 444 - 445). (¬1) انظر: المصادر السابقة. (¬2) هو قوام الدين مانكديم أحمد بن أبي الحسين بن أبي هاشم المعروف بششديو. (¬3) انظر مؤلفات الزيدية (2/ 136رقم 1883) وهو في علم الكلام أوله " قال قاضى القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد رحمة الله في الشرح لسؤال الأصول الخمسة " (¬4) الأسلم النفي بـ[لا] (¬5) الإمام المنصور عبد الله بن حمزة الحسني اليمني [561 - 614 هـ] إمام مجتهد، مجاهد. (¬6) المهذب من الفتاوى " فتاوى الإمام المنصور عبد الله بن حمزة الحسني اليمني. جمعها محمد بن أسعد بن علي بن إبراهيم المراد كما، فضم كل جنس إلى بابه وألحقه بنوعه. (¬7) صفوة الاختيار " للإمام المنصور عبد الله بن حمزة الحسين اليمني فصول في قواعد الأصول بشيء من التوسع تضم المهم من أقوال العلماء ويخص أصول الأئمة

قبول المبتدع فيما لا يقوي بدعته، وكذا الإمام يحي بن حمزة (¬1) في " الانتصار (¬2)، والقاضي زيد (¬3) في شرحه (¬4)، والشيخ أبو الحسن البصري في " المعتمد (¬5)، والشيخ الحسن الرصاص (¬6) في كتابه وحفيده ........................ ¬

(¬1) الإمام المؤيد بالله يحي بن حمزة بن على بن إبراهيم احد أعلام الفكر الإسلامي في اليمن إمام مجتهد ولد بصنعاء 271 صفر سنة 669 هـ توفي سنة 749 هـ له مصنفات منها- إكليل التاج وجوهرة الوهاج. - الأزهار الصافية شرح مقدمة الكافية. أعلام المؤلفين الزيدية (ص 1124 رقم 1193). (¬2) الانتصار الجامع لمذاهب علماء الأمصار في ثمانية عشر مجلدا، وهو في تقرير المختار من مذاهب الأئمة وأقاويل علماء الأمة في المباحث الفقهية والمضطردات الشرعية وكان مشغولا به في سنوات (743 - 748). مؤلفات الزيدية (42/ 11 رقم 433). (¬3) زيد بن محمد بن الحسن الكلاري نسبة إلى كلار من بلاد الجبل أحد علماء الزيدية في الجبل والديلم. أعلام المؤلفين الزيدية (ص: 449 رقم 438). (¬4) الجامع في تشرح وهو المعروف بشرح لتحرير وشرح لقاضى زيد لتحرير وشرحه للإمام أبي طالب الهروني وهو في معاني مجلدات أعلام المؤلفين الزيدية (ص 444) (¬5) (2/ 134) (¬6) ذكره ابن الوزير في الروض الباسم (482/ 2).

أحمد (¬1) في " الجوهرة (¬2) وعبد الله بين زيد في " الدار المنظومة (¬3) والحاكم (¬4) في "شرح العيون (¬5)، هكذا قال السيد العلامة محمد بن إبراهيم الوزير رحمه الله. (الثالثة): أن قيسا وإن خول (¬6) في آخره، فذلك غير موجب المقدح رواه من هذه الحيثية، إلا إذا علم أن ما رواه كان في آخر عمره. وقد تنازع الفريقان في قول الله تعالى: حاكيا عن موسى عليه السلام: " {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، فقال المانع: هي من أدلة مذهبه، وقال المجوز: مثله. واحتج كل منهم بحجج سنورد بعضها. ¬

(¬1) أحمد بن محمد الرصاص. (¬2) جوهرة الأصول " إلي هي مدرس الزيدية في هذه الأعصار ما لفظه: واختلفوا في قبول الفاسق من جهة التأويل، فذهب الفقهاء بأسرهم أنه يقبل خبره، وهو قول القاضي وأبي رشيد ... " (¬3) ذكره ابن الوزير في العواصم (326/ 2). والروض الباسم (2/ 482) (¬4) الشيخ العلامة الحاكم أبي سعد المحسن بن محمد بن كرامة انظر " العواصم " (2/ 328). (¬5) حيث قال الفاسق من جهة التأويل يقبل خبره عند جماعة الفقهاء وهو قول القاسم البلخي، وقاضي القضاة وأبي رشيد. انظر: " العواصم" (3/ 328). (¬6) انظر تذيب التهذيب (3/ 445)

أما المجوز فقال: هي حجة له، على جواز الرؤية، واحتج على ذلك بوجهين: (الأول): أن موسى- عليه السلام- سأل الرؤية ولو امتنع كونه تعالى مرئيا لما سأل، لأنه إن علم امتناعه، فالعاقل لا يطلب المحال، وإن جهله فالجاهل. مما لا يجوز على الله لا يجوز أن يكون نبيا. (الثاني): أنه علق تعالى الرؤية على استقرار الجبل، واستقرار الجبل أمر ممكن عقلا، وما علق على الممكن ممكن، إذ لو كان ممتنعا لأمكن صدق اللازم بدون الملزوم وهو محال. [27] وأجيب عن هذين الوجهين من جهة المانع بوجوه (منها)، أن موسى- عليه السلام- إنما سأل الرؤية بسبب قومه لا لنفسه، لأنه كان عالما بامتناعها، لكن قومه اقترحوا عليه وقالوا: (أرنا الله جهرة (1)، وإنما نسبه إلى نفسه في قوله: (أرني أنظر إليك) (¬1)، ليمنع عن الرؤية، فيعلم قومه امتناعها بالنسبة إليهم بالطريق الأولى، وفيه مبالغة لقطع دابر اقتراحهم، وفي أخذ الصاعقة لهم دليل على امتناع المسئول وهذا تأويل الجاحظ (¬2) وأتباعه (¬3) ا لزمخشري (¬4). ودفعه المجوز: بأن ذلك خلاف الظاهر، حيث لم يقل ننظر إليك فلابد له من دليل، ومع ذلك لا يستقيم، لأن موسى، لو كان بينهم لكفاه أن يقول: هذا ممتنع، بل كان ذلك هو الواجب عليه، لا تأخير الرد، وتقرير الباطل لا يجوز على مثله، ولأن موسى أيضًا زجرهم وردعهم لما قالوا: {أرنا الله جهرة} (¬5)، وعن السؤال، بأخذ ¬

(¬1) الأعراف: 143 (¬2) تقدمت ترجمته (¬3) كذا في المخطوط وصوابه واتبعه (¬4) في الكشاف (1/ 270 - 271) (¬5) النساء:153

الصاعقة، فلم يحتج موسى إلى زجرهم إلى سؤال الرؤية وإضافتها إلى نفسه، وليس في اخذ الصاعقة دلاله على امتناع المسئول، لجواز أن يكون الأخذ لقصد إعجاز موسى عن الإتيان. مم طلبوه تعنتا مع كونه ممكنا، فأنكر الله ذلك عليهم كما أنكر قولهم: {لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا} (¬1) وقولهم: {فأسقط علينا كسفا من السماء} (¬2) بسبب التعنت وإن كان المسئول أمرا ممكنا في نفسه، فأظهر الله عليهم ما يدل على صدقه لقصد الإعجاز والردع. قال المانع: أما قولكم إن ذلك خلاف الظاهر، فلا يقوله إلا مكابر، فإن قول موسى- عليه السلام-: {أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} (¬3)، قوله: {فقد سألوا موسى أكبر من ذالك} (¬4) وقوله- حاكيا عنهم-: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهره} (¬5) قد بلغ في الظهور إلى الغاية. وأما قولكم حيث لم يقل " ينظرون ¬

(¬1) الإسراء: 90 (¬2) الشعراء: 187 (¬3) الأعراف: 155 (¬4) النساء:153 (¬5) البقرة: 55

[28] إليك " فمندفع. مما في الكشاف (¬1)، حيث قال: " فإن قلت هلا قال " أرهم ينظرون إليك "، قلت لأن الله سبحانه إنما كلم موسى- عليه السلام- فلما جمعوا كلام رب العزة، أرادوا أن يرى موسى ذاته، فيبصروه معه كما أجمعهم كلامه، إرادة مبنية على قياس فاسد فلذلك قال موسى: {أرنا أنظر إليك} (¬2) ولأنه [إنما] (¬3) زجر عما طلب وأنكر عليه في ثبوته واختصاصه ولفته عند الله. وقيل: لن يكون ذلك (¬4) كان غيره أولى {} بالإنكار ولأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمام أمته، فكان ما يخاطب به راجعا إليهم. وقوله: أنظر إليك، وما فيه من معي المقابلة الذي هي محض التشبيه والتجسيم دليل أنه ترجعه عن مقترحهم وحكاية لقولهم " إلى آخر كلامه وأما قولكم: " لو كان موسى مصدقا بينهم ". فجوابه: أفم كانوا على عظيم من اللجاج، أو ليسوا هم القائلين أنزل علينا مائدة والمجيبين عليه حيث قال لهم: {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬5)، بقولهم: {نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} (¬6) والمجيبين عليه بقولهم: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (¬7) الآيات. أن مجرد كونه مصدقا لا يكف في ردعهم. وهذا لا تعلم ... ¬

(¬1) (2/ 503) (¬2) سورة الأعراف: 143 (¬3) في المخطوط [أ, ب] إذا والصواب ما أثبتناه. (¬4) العبارة غير واضحة ولعلها " إذا لم يكن ذلك (¬5) [المائدة: 112] (¬6) المائدة:113 (¬7) البقرة:67

وأما قولكم: وليس في أخذ الصاعقة الخ. فباطل، إذ ما ساقه الله تعالى من حكايتهم، دال على أفم قد فهموا أن هذه الصاعقة بسبب الرؤية إلى اقترحتموها وترجم موسى عن مقترحهم، وحصل عندهم علم ضروري بذلك، كيف وقد قال الله تعالى: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} (¬1) وقد عرفتم أنه ليس هناك إلا صاعقة واحدة، وسؤال واحد وإنما حكاه الله تعالى في مقامين كما حكا غيره من قصص الأنبياء في مواضع، ثم قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} (¬2)، دليل واضح على أن الظلم هو سؤال رؤية رب العزة. وأما قولكم: " فأنكر الله ذلك عليهم ". ففاسد. ولو كان الإنكار عليهم ليس إلا من هذه الحيثية لما كان لوصف سؤالهم كونه جهرة معي يعتد به. (ومنها) أن موسى، لم يسأل الرؤية، بل تجوز ها عن العلم الضروري لأنه لازمها، وإطلاق اسم الملزوم على اللازم شائع، فكأنه قال: اجعلني عالما بك علما ضروريا، وهذا تأويل أبي الهزيل العلاف (¬3)، وتبعه فيه الجبائي (¬4) وأكثر البصريين. وأجيب: بأن الرؤية المطلوبة في " أرنا " لو كانت. معي العلم لكان النظر المترتب عليها. بمعناه أيضا، واستعمال النظر المعدي بإلى بمعنى العلم إن ثبت مخالف للظاهر، فلا يجوز إلا بدليل ولا دليل، فوجب حمله على الرؤية البصرية. ومما يدل على امتناع حملها على العلم هاهنا استلزام السؤال ألا يكون موسى عالما ¬

(¬1) [البقرة:55] (¬2) النساء:153 (¬3) هو أبو الهزيل محمد بن الهزيل بن عبد الله، البصري العلاف شيخ المعتزلة أخذ الاعتزال عن عثمان ابن خالد الطويل عن واصل بن عطاء، واختلف في وفاته فقيل سنة 266 هـ وقيل 235 هـ. وله فضائح كثيرة فيما أحدثه من البدع انظر: الملل والنحل (1/ 64) شذرات الذهب (2/ 85). (¬4) تقدمت ترجته (264).

بربه ضرورة مع أنه يخاطبه وذلك لا يعقل لأن المخاطب في حكم الحاضر المشاهد. والجواب ب " لن تراني " وهو لنفى الرؤية البصرية لا العلم، بإجماع المنكرين، ولهذا جعلوه دليلا لهم، ومطابقة الجواب للسؤال لازمة. ودفعه المانع بقوله: أما قولكم: واستعمال النظر المعدي بإلى. الخ نحن نسلم أكثريته في البصري، ولا مانع من استعمال الشيء في القليل، لا سيما مع قيام الدليل المانع من استعماله في الأكثر، وهو ما حررناه سابقا من الدليل العقلي على امتناع الرؤية فكيف قلتم: ولا دليل على أن الأكثرية. ممجردها غير كافيه في دعوى النص على المطلوب، وقولكم يلزم ألا يكون موسى عالما بربه ... الخ. مبثت على عدم تفاوت مراتب الضروري [30] قوة وضعفا، ومعلوم أن المحسوس بالنظر أقوى من المعلوم بحاسة السمع. وأما قولكم: والجواب على تراني ... الخ ". فجوابه: ما ذكره العلامة في الكشاف (¬1): من قوله: " وتفسير آخر وهو أن يريد بقوله: {أرنا أنظر إليك}، عرفني نفسك تعريفا واضحا جليا كأنه رآه في جلائها بأية مثل آيات القيامة التي تضطر الخلق إلى معرفتك: أنظر إليك: أعرفك معرفة اضطرار وكأني أنظر إليك، كما جاء في الحديث: " سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر " (¬2) يعني: ستعرفونه معرفة جلية هي في الجلاء، كإبصاركم القمر إذا امتلأ واستوى، قال: " لن تراني " لن تطيق معرفتي على هذه الطريقة ... " إلى آخر كلامه. وكون هذا التأويل خلاف الظاهر غير مضر، لأن العدول عن الظاهر لقيام الدليل على خلافه، وليس في هذا التأويل من مخالفة الظاهر ما في تأويل الرازي (¬3) لقوله: {لا تدركه الأبصار} (¬4) ¬

(¬1) الكشاف (2/ 501 - 504) (¬2) تقدم تخريجه في هذه الرسالة (¬3) انظر التفسير الكبير (13/ 25 - 126) (¬4) الأنعام: 103

حيث قال لا تدركه العقول كما سلف. (ومنها): أن موسى عليه السلام، سأل الرؤية لنفسه وإن علم استحالتها بالعقل ليتأكد دليل العقل بدليل السمع، فيتقوى علمه بتلك الاستحالة. وأجيب بأن موسى- عليه السلام- كان يمكنه طلب التأكيد من غير ارتكاب سؤال ما هو محال، ودفع: بأن السؤال لم يكن في الحقيقة طلبا للمحال بل كان طلبا لإظهار ما يردع بعض الأوهام عن الضلالي ولاستفادة ما لم يخطر له على بال ويظهر لقومه امتناع رؤية الكبير المتعال. فرسخ الأمر عندهم كرسوخ الجبال. كما قال من قال: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} (¬1) وقال: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} (¬2) مع إمكان غير [31] المطالبة لهم بسؤالهم لكونها أنفع وأقطع. وإلى هنا انتهت الوجوه المعترض على الوجه الأول. واعترض على الوجه الثاني باعتراضات أحسنها أنه علق الرؤية على استقرار الجبل، إما حال سكونه أو حال حركته، الأول ممنوع والثاني مسم. بيانه: أنه علق وجود الرؤية (¬3) عليه حال سكونه للزوم وجود الرؤية بحصول الشرط الذي هو الاستقرار وهو باطل، فإذن قد يقال إنه علقه عليه حال حركته، ولا خفاء في أن الاستقرار حال الحركة محال، فيكون تعليق الرؤية عليه تعليقا بالمحال فلا يدل على إمكان المعلق بل على استحالته. وأجيب: بأنه علقه عليه من حتى هو من غير قيد نشط، والراجح عين المرجع فيكون مطلقا عن القيد أيضًا وإلا لزم الإضمار في الكلام وهو خلاف الأصل الذي لا ¬

(¬1) البقرة:260 (¬2) الأنبياء:63 (¬3) انظر: التفسير الكبير للرازي (14/ 231 - 232)

يصار إليه إلا بدليل، ولا دليل. ولا شك أن استقرار الجبل من حيث هو ممكن. ودفع بأن التعليق على استقرار الجبل من حيث هو لا مانع له إذ الواقع في الخارج لا يكون مطلقا إنما يكون مقيدا، والتعليق ليس على ما يقع في الخارج- أعي: المعلق المعقول من دون قيد حركة ولا سكون- وعلى الجملة فإن التعليق في ظاهر الأمر بادئ بدء تعليق على ممكن، لكن عدم استقرار الجبل كشف عن كون التعليق على غير ممكن. فمن نظر إلى انه علق على ممكن كصاحب الغايات فقد نظر إلى بادي الأمر، ومن نظر إلى عاقبة الأمر وقال المانع: هي- أعني قوله تعالى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} (¬1) في دالة على عدم وقوع الرؤية في جميع الأزمان لوجهين [32]: (الأول): أن لن لتأبيد النفط وتأكيده كما صرح بذلك الزمخشري في مؤلفاته، نص على التأبيد في النموذج (¬2) والتأكيد في كشافه (¬3) ومفصله قال المحلى في " شرحه على جمع الجوامع ": وقد نقل التأبيد عن غير الزمخشري ووافقه في التأكيد كثير، حتى قال بعضهم: إن منعه مكابرة، انتهى. وقد ذكره السيوطي على هذا في الإتقان (¬4) ناقلا عن بعضهم وحكى موافقة ابن عطية (¬5) على التأييد. وأجيب عن ذلك. مما ذكره ابن مالك (¬6) من أنها لو كانت للتأبيد لم يقيد منفيها ¬

(¬1) الأعراف:143 (¬2) ذكره صاحب مغني اللبيب عن كتب الأعاريب (1/ 284). (¬3) (502/ 2 - 504). (¬4) (551/ 1 - 552) (¬5) ذكره السيوطي في الإتقان (1/ 552). (¬6) في شرح الكافية الشافية لا بن مالك (1515/ 3) حيث يقول ابن مالك في الكافية وقال محمد محي الدين عبد الحميد في عدة السالك إلى تحقيق أوضح المسالك (4/ 136 - 137) التعليقة رقم (2). ادعى جار الله الزمخشري دعويين كل منهما غير مسلمة له. أما الدعوى الأولى فذكرها في كتابه الأنموذج، وحاصلها أن لن تدل بحسب وضعها على تأبيد النفي، وأنه لا غاية له ينتهي بليها، وعلى قوله: هذا يبطل تقسيمنا نفى لن إلى الضربين اللذين ذكرناهما وهما نفى له غاية ينتهي إليها- ونفي لن مستمرا إلى غير غاية- ويكون نفى نوعا واحدا، رقد استدل لما ذهب إليه بنحو قوله تعالى: {لن يخلقوا ذبابا}. ولا صحة لما ادعاه، ولا دليل له فيما استدل به، فأما عدم صحة دعواه فيدل له ثلاثة أمور: أولاً: أن لن لو كانت دالة على تأبيد النفط في كل مثال ترد فيه لكان ذكر طر00ف دال على وقت معين معها تناقضا وقد ذكر القران الكريم لفظ (اليوم) معها في قوله: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} إذ كيف ينتفي تكليمها إنسيا نفيا مستمرا لا إلى غاية ثم يقيد ذلك بقوله اليوم في أفصح كلام وأبعده عن التناقض والاختلاف. الوجه الثاني: أن لن لو كانت تدل كلما ذكرت على تأبيد النفي لكان ذكر لفظ (أبدا) معها تكرار لأن المفروض أنه مستفاد منها، وقد ورد ذكر أبدأ معها في القرآن في نحو قوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} والقرآن مصون عن التكرار. الوجه الثالث: أنها لو كانت دالة على تأبيد النفي لم يصح أن يذكر معها ما يدل على انتهاله نحو ما ذكرنا من قوله تعالى: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} وقوله جلت كلمته: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} وأما استدلاله على أنها تدل على تأبيد النفط بقوله تعالى نم لن يخلقوا ذبابا " فغير صحيح، لأن الدلالة على استمرار عجزهم عن خلق الذباب لم تدل عليه لن، وإنما يدل عليه دليل عقلي كما قلناه في أول كلامنا، وكلامه في دلالة لن وضعا، ولئن سلمنا جدلا دلالتها على تأبيد النفي في هذه الآية. معونة العقل فأنا لا نسلم أنها في كل تعبير ترد فيه تدل على تأبيد النفط فبطلت دعواه ولم يسلم له استدلاله وأما دعواه الثانية فإنه ذكر في الكشاف في تفسير قوله تعالى لموسى: {لن تراني} أن لن

باليوم في {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} (¬1) و لم يصح التوقيت في {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} (¬2) ولكان ذكر الأبد في {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} (¬3) تكرارا إذ الأصل عدمه، ودفع بأن التقييد المذكور من أقوى الأدلة على أنها للتأبيد، فانعكس مطلوبكم وأما ذكره التأبيد في قوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} (¬4) فهو تأييد لا تأسيس وإلا لزم أن يكون قيدا فيتوجه النفط إليه على ما هو الأكثر في الاستعمال فيفسد المعني، ولا يقدح في ذلك مخالفة التأكيد للأصل في العربية. (والثاني) أن الرؤية علقت على أمر لا يكون، ولا يمكن من استقرار الجبل مكانه حين تدكدكه، أي حصول التدكدك والاستقرار معا، وإلا لم يبق لما في الآية- من التعليق وذكر التدكدك- وجه. ومعلوم أن ذلك ليس إلا بيان امتناع وقوع المعلق عليه لا بيان لإمكانه، ولأن المراد الاستقرار بدل التدكدك في زمانه، وعلى فرض التسليم فلا نسلم المقدمة المقابلة أن ما علق على الممكن ممكن أو لا نسلم كليتها، والسند ما سلف. وقد سبقت الإشارة إلى مثل هذا الكلام في جواب المانع على المجوز [33] عند استدلاله هذه الآية على مذهبه وسبق دفع ذلك (¬5) ودفع الدفع فراجعه. ¬

(¬1) مريم: 26 (¬2) طه:91 (¬3) البقرة:95 (¬4) البقرة:95 (¬5) قال صاحب العقيدة الطحاوية (ص: 206 - 208) تعليقا على الآية {لن تراني} الأعراف:143 في الاستدلال منها على ثبوت رؤيته سبحانه تعالى من وجوه 1/ أنه لا يظن بكليم الله ورسوله وأعلم الناس بربه في وقته أن يسأل مالا يجوز عليه، بل هو عندهم من أعظم المحال. 2/ أن الله لم ينكر عليه سؤاله، ولما سأل نوح ربه نجاة ابنه أنكر سؤاله وقال سبحانه: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} هود: 146 3/ أنه تعالى قال: {لن تراني} ولم يقل: إني لا أرى، أو لا تجوز رؤيتي أو لست. مرئي والفرق بين الجوابين ظاهر. وهذا يدل على أن الله سبحانه مرئي، ولكن موسى لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته سبحانه وتعالى. 4/ ويوضح ما تقدم قوله تعالى: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} الأعراف: 143. فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت للتجلط في هذه الدار، فكيف بالبشر الذي خلق من أن الله سبحانه قادر على أن يجعل الجبل مستقرا، وذلك ممكن، وقد علق به الرؤية، ولو كان محالا لكان نظير أن يقول: إن استقر الجبل فسوف احمل وأشرب وأنام. والكل عندهم سواء. 6/ وقوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} الأعراف: 143. فإذا جاز أن يتجلى للجبل، الذي هو جماد لا ثواب له ولا عقاب، فكيف يمتنع أن يتجلى لرسوله وأوليائه في دار كرامته؟ ولكن الله أعلم موسى أن الجبل إذا لم بثبت لرؤيته في هذه الدار، فالبشر أضعف. 7/أن الله كلم موسى ناداه وناجاه، ومن جاز عليه التكلم والتكليم وأن يسمع مخاطبه كلامه بغر واسطة- فرؤيته أولى بالجواز، ولهذا لا يتم إنكار رؤيته إلا بإنكار كلامه وقد جمعوا- المعتزلة- بينهما، وانظر: تلبيس الجهمية لابن تيمية (358/ 359) الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص: 68).

ومن أدلة المانعين ما قالته عائشة كما ثبت ذلك في " الصحيح (¬1) عنها لما سمعت من ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (4855) - والفظ له- ومسلم في صحيحة رقم (287/ 177) من حديث مسروق.

ذكر الرؤية كما لقد قف شعري وقالت مرة أخرى (¬1) من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ". وأجيب: بأن احتجاج عائشة بذلك على من زعم أن محمدا رأى ربه ليلة المعراج. ومحل النزاع رؤيته في الآخرة، على أن عائشة كانت إذ ذاك في أوان ولادتها، وقد ألفها جماعة من الصحابة، وقد جزم النووي (¬2) وغيره بأن عائشة لم تنفي الرؤية بحديث مرفوع، إنما اعتمدت على الاستنباط على ما ذكرت من ظاهر الآية (¬3) وقد ذكر ابن حجر (¬4) عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قيل له ما تقول في قول عائشة من زعم أن محمدا رأى، فقد أعظم على الله الفريلي" بم تدفع قولها، قال: بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رأيت ربي (¬5) وقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكبر. ودفع بأنه عائشة رض الله عنها إن لم تعلم ذلك من قبيل المشاهدة فقد علمته من قبيل الرواية الصحيحة عن بعض نسائه، وإن جزم النووي بذلك يخالف ما في صحيح مسلم الذي شرحه (¬6) بنفسه، من طريق داود بن هند عن الشج عن مسروق، أنه قال لها- أي عائشة- لم أنكرت الرؤية؟ أ لم يقل الله} وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى & (¬7) فقالت (¬8): أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله ع! عن ذلك، فقال: " إنما هو ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (4855) ومسلم في صحيحة رقم (287/ 177) واللفظ له. (¬2) في شرحه لصحيح مسلم (3/ 5). (¬3) قوله تعالى: {لا تدركه الأبصار} الأنعام: 103 وقوله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا} الشورى: 151 {. (¬4) في فتح الباري (8/ 607) حيث قال روى الخلال في كتاب " السنة " عن المروزي (¬5) أخرجه مسلم رقم (177/ 287). (¬6) أي النووي في شرحه لصحيح مسلم (9 - 513). (¬7) النجم:13 (¬8) أخرجه البخاري رقم (4855) ومسلم رقم (177/ 287).

جبريل، أو هذا جبريل " وهذا خبر مرفوع وبأن المخالف لها من الصحابة ليس إلا ابن عباس (¬1)، وقد قال بقولها ابن [34] مسعود (¬2) وأبو ذر الغفاري (¬3)، كيف وقد أجابه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: " نور إني أراه ... الخ"، كما في رواية مسلم (¬4)، وبقوله: " قد رأيت نورا، كما في رواية أحمد وبقوله كل: رآه بقلبه ولم يره بعينه كما في رواية ابن خزيمة (¬5) عنه. قالوا: سلمنا جميع ذلك، وليس فيه إلا نفى الرؤية ليلة المعراج فمن أين يدل على النفط الأبدي، على أنكم لا ترضون بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نور أني أراه ". بل تؤولونه باستفهام الإنكار فتقولون: أنور هو؟ كيف! أراه، كما صرح بذلك محققكم السيد مانكديم (7) في " شرح الأصول الخمسة ". ومن أدلة المانعين ما أورد السيد أمانكدمم (¬6) سابقا في " شرح الأصول " عن جابر ابن عبد الله (¬7) عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال: " لن يرى الله أحد في الدنيا والآخرة ". ¬

(¬1) فقد روي عنه من طرق لا تحصى كثرة قال: رأى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه فقد أخرج مسلم في صحيحة رقم (176/ 284) والترمذي في السنن رقم (3281) وابن أبي عاصم في " السنة " رقم (439) وهو حديث صحيح. عن عطاء عن ابن عباس قال رآه بقلبه وأخرج مسلم في صحيحة رقم (176/ 285) عن ابن عباس قال ما كذب الفؤاد ما رأى ولقد رآه نزلة أخرى قال رآه بفؤاده مرتين. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحة رقم (174/ 280) وأحمد (1/ 460) بسند صحيح (¬3) أخرجه مسلم في صحيحة رقم (178) وابن خزيمة في " التوحيد " رقم (305) وهو حديث صحيح. (4): في صحيحة رقم (178). (¬4) في المسند (5/ 157،171،175) من طرق. (¬5) في " التوحيد " (516/ 2 رقم ... ) بسند صحيح. (¬6) في المخطوط [أ. ب] ما نكدم والصواب ما أثبتناه من مؤلفات الزيدية (2/ 136) وهو قوام الدين مانكديم أحمد بن أبي الحسين بن أبي هاشم المعروف بششديو. (¬7) خبر باطل ليس له وجود في دواوين الإسلام.

وما روي عن على (¬1) رض الله عنه وقد قيل: هل رأيت ربك؟ قال: " ما كنت أعبد شيئا لم أره، فقيل كيف رأيت؟ فقال: لم تره الأبصار. مشاهدة العيان، لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، موصوف بالدلالات، معروف بالآيات، هو الله الذي لا إله إلا هو الحط القيوم ". وأجيب عن ذلك بأن الخبر مما لا وجود له في دواوين الإسلام ولا فيما يلتحق ها ولا أصل له في الصحة والأثر عن علي عليه السلام ولا يدل على المطلوب، وغاية ما فيه نفط (¬2) الرؤية في الدنيا بشهادة لم القابلة لمعنى المستقبل إلى المضي كما عرف في موضعه، ¬

(¬1) أثر باطل ليس له وجود في دواوين الإسلام (¬2) هذه المسألة- رؤية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لربه- وقع الخلاف فيها قديما وحديثا. القول الأول: ذهب قوم إلى إنكارها وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه، ومن هؤلاء. عائشة وابن مسعود وأبو هريرة. أخرج البخاري في صحيحة رقم (8855) ومسلم رقم (177) عن عائشة رضي الله عنها- قالت: " ثلاث من حدثك هن فقد كذب، من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب ... " واللفظ للبخاري. القول الثاني: إثبات رؤية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لربه، وهذا قول ابن عباس وأنس وإليه ذهب عكرمة والحسنى، والربيع بن سليمان، وابن خزيمة والإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، وأبو إسماعيل الهروي وكعب الأحبار والزهري، وعروة بن الزبر، ومعمر- وهو قول الأشعري وغالب أتباعه ورجحه النووي. القول الثالث: التوقف في المسألة ذكره القاضي عياض حيث قال: ووقف بعض مشايخنا في هذا وقال: ليس عليه دليل واضح لكنه جائز .. " وقال القرطي في المفهم (1/ 402): " والوقف في هذه المسألة أرجح وذكر أنه ليس في الباب دليل قاطع وغاية ما استدل به للطائفتين ظواهر متعارضة قابلة للتأويل، قال وليست المسألة من العمليات فيكتفي فيها بالأدلة الطيه، وإنما هي من المعتقدات فلا يكتفي فيها إلا بالدليل القطعي. القول الراجح:- قال ابن حجر في الفتح (8/ 608) وعلى هذا فيمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفى عائشة بأن يحمل نفيها على رؤية البصر وإثباته على رؤية القلب. ثم المراد برؤية الفوائد روية القلب لا مجرد حصول العلم، لأنه كان عالما بالله على الدوام. بل مراد من أثبت له أنه رآه بقلبه

وإلى هنا انتهت أدلة المانع النقلية. أدلة القائلين بالرؤية وأما المجوز فاستدل بأدلة (منها) ما سبق من الأحاديث الكثيرة التي قال الإمام العلامة محمد بن إبراهيم الوزير (¬1) متواترة وتابعه على وصفها بالتواتر العلامة الأسيوطي (¬2) وقد ذكرنا أنها رويت من طريق ثلاثين صحابيا وأن متونها تزيد على ثمانين حديثا ومنها قوله تعالى: {رب أرني أنظر إليك} (¬3) الآية وقد سلف الكلام على ذلك. ومنها قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (¬4) والنظر معنى الرؤية والإبصار، لا سيما مع اقترانه بالوجوه. والآية قد دلت على الوقوع فرع الجواز والصحة فه! دليل على الصحة بلا شبهة. ¬

(¬1) في الروض الباسم (1/ 182 - 183) (¬2) في البدور السافرة في أمور الآخرة (ص: 477 - 491) (¬3) الأعراف: 143 (¬4) القيامة: 22 - 23

تمنعون أن يكون النظر إلى الله في جهة مع الجهات، وقلتم إنه لا يستلزم إثبات الكيف والجهة أصلا، فلا بد لكم من تأويل النظر إليه تعالى بالنظر إلى جهته في العرف، وهي الجهة المعلومة إلى يلتفت إليها عند الرجوع إليه تعالى كما تقتضيه العادة والفطرة، وهي التي يترقب فيها نزول الرحمة والفيض، فيكون المعنى أن النظر حينئذ ينتهي إلى جهة رحمته ومكان ملائكته وحملة عرشه "، فلا يصح أن يكون المعنى أن النظر ينتهي إليه تعالى فإن ذلك باطل محال قطعا وإجماعا. فالآية على هذا حجة عليكم لا لكم، وقد اعترف سعد الدين وكيره من الأشاعرة بأنها لا تفيد القطع ولا تنفي الاحتمال، ودفع بأن هذا لا يستلزم الحذف، وهو خلاف الأصل، ودعوى المحالية مصادرة على المطلوب، وقد شهد. مما قلناه الحديث (¬1) الصحيح الذي رواه ابن عمر رض الله عنهما قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعمه وخدمه [36] وسرره مسيرة ألفي سنة. وأكرم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ثم قرأ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (¬2) رواه الإمام أخض (¬3) والترمذي (¬4) وابن أبي شيبة (¬5) وعبد بن حميد (¬6) واللالكائي في السنة (¬7) وابن جرير (¬8) ¬

(¬1) بل هو حديث ضعيف (¬2) القيامة:22 - 23 (¬3) في المسند (13/ 2،64). (¬4) في السنن رقم (2553). (¬5) في المصنف (13/ 111 رقم 15847). (¬6) في المنتخب رقم (817) ط: دار الأرقم. (¬7) في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة " رقم (866) (¬8) في جامع البيان (14/ج: 29/ 193).

وابن المنذر (¬1) والدارقطني في الرؤية (¬2)، والحاكم (¬3) وابن مردويه (¬4) والبيهقى لم، وهذا نمى في أن النظر. معي الرؤية والإبصار. قال المانع: العدول عن الأصل لازم لا محالة إذا لم يقر محذوف ضرورة أن " إلى " لا تكون حينئذ للانتهاء الذي هو الأصل في وضعها، بل لا بد من التجوز فيها مع أنكم قد عرفتم أن المطرزي والسكاكي (¬5) والقزويي والسعد التفتازاني (¬6) وغيرهم قائلون بأن الحذف (8) إذا لم يتغير به الحكم الإعراب لا يكون من المجاز في شيء، فلا يكون الذهاب ¬

(¬1) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (8/ 350). (¬2) (190،191). (¬3) في المستدرك (2/ 559 - 510). (¬4) عزاه بليه السيوطي في الدر المنثور (8/ 350) (¬5) في البعث والنشور (ص: 251 - 252 رقم 432) (¬6) قال الحاكم: " حديث مفسر في الرد على المبتدعة، وثوير، وإن لم يخرجاه فلم ينقم عليه غير التشيع

إليه عدولا عن الأصل، والحديث ليس فيه زيادة على ما في الآية أصلا، وقد عرفتم ما فيها، والآية الكريمة فيها مقابلة بين الوجوه الناضرة والوجوه الباسرة، فمقابل الناضرة هي الباسرة الظانة أن يفعل ها فاقرة، ومقتضى هذه المقابلة أن يكون نظرها إلى ربها. معنى الرجاء ليقابل الخوف الذي هو معنى الظن، وجعله. معني الرجاء مجاز مشهور، ولهذا أسمى به العلامة في الكشاف (¬1) وشيء آخر وهو أن النظر لفظه مشترك بين [37] معان (¬2) خمسة: تقليب الحدقة، ¬

(¬1) (6/ 270 - 271). (¬2) قال ابن الجوزي في نزهة الأعين النواظر (ص: 587). النظر: قي الأصل: إدراك المنظور إليه بالعين ويسمى ما يقع به النظر من العين: الناظر- وقد يستعار في مواضع تدل عليها القرينة. ويقال: نظرت فلانا:. معني انتظرته. ونظرته: أخرته. والنظرة: التأخير. والنظير: المثل: وهو الذي إذا نظر إليه وإلى نظيره كانا سواء. وقيل النظر على وجوه:- ا/ الإدراك بحاسة البصر. 2/.معنى الانتظار. 3/.معنى الرحمة. 4/.معنى المقابلة والمحاذاة يقال: دورهم تتناظر، أي تتقابل. 5/. معنى الفكرة في حقائق الأشياء لاستخراج الحكم. وذكر أهل التفسير أن النظر في القران على أربعة أوجه:- أحاط: الرؤية والمشاهدة ومنه قوله تعالى: {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] الثاني: الانتظار: ومنه قوله تعالى: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35] {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [ص: 15] الثالث: التفكر والاعتبار ومنه قوله تعالى: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ} [الأنعام:99] {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق: 5]

والانتظار، والفكر، والرحمة، والتقابل، قال النجري (¬1) في " شرح القلائد " هكذا قال أصحابنا واحتجوا على كل من هذه المعاني بشيء من كلام العرب. واختار الإمام المهدي أنه مشترك بين الثلاثة الأول فقط، وأما الأخيران فإنما يستعمل فيهما على سبيل التجوز، فحمل النظر في الآية الكريمة على الرؤية حمل على المجاز إذ ليس الرؤية من معانيه، وحمله على الانتظار حمل على الحقيقة، وحمل كلام الله على الحقيقة مهما أمكن هو الأولى، فيحمل النظر حينئذ على انتظار ثوابه، وهذا التأويل مروي عن على لمحبه ومجاهد والحسن البصري وغيرهم (¬2) انتهى. قال في " شرح الأصول" (¬3) والنظر. معنى الانتظار قد ورد، قال تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (¬4) وقال حاكيا عن بلقيس: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35] أي منتظرة، وقال الشاعر (¬5): فإن يكون صدر هذا اليوم ولى ... فإن غدا لناظره قريب وقال آخر (¬6): ¬

(¬1) هو عبد الله بن محمد بن أبي القاسم بن علي الزيدي العبسي المعروف بالنجري فقيه زيدي. نسبه إلى نجرة من قرى عبس حجة باليمن. البدر الطالع (1/ 397) (¬2) أخرجه ابن جرير في "جامع البيان" (14/ 29\ 191 - 192) (¬3) للقاضي عبد الجبار (ص: 242). (¬4) البقرة:280 (¬5) نسبه القاضي في الشرح (ص: 44) إلى المثقب العبدي أو الممزق. والمثقب: هو عائذ بن محصن بن ثعلبة. والممزق: شأس بن فار بن الأسود. طبقات فحول الشعراء (ص: 271 - 272) جامعة الإمام. (¬6) قال فخر الدين الرازي: إنه موضوع والرواية الصحيحة.

نراه على قرب وإن قرب المدى ... ... بأعين آمال إليك نواظر [38] وقال آخر (¬1): وجوه يوم بدر ناظرات ... إلى الرحمن يأتي بالخلاص وقال الخليل: " إنما أنظر إلى الله وإلى فلان من بين الخلائق، أي أنظر خيره وخر فلان " وجعل في الأساس من ذلك قوله تعالى حاكيا عن الأشقياء: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} (¬2) أي انتظرونا، وقوله تعالى: {وَقُولُوا انْظُرْنَا} (¬3) أي انتظرنا. قال المجوز: إذا لم يكفكم الآجال في وجه الاحتجاج بالآية، فاسمعوا على التفصيل لينزاح عنكم الإشكال وينحل عن قلوبكم عقد هذا الإعضال. فنقول: النظر في اللغة (4) جاء. معنى الانتظار، ويستعمل بغير صلة بل يتعدى بنفسه قال تعالى: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} (¬4) أي: انتظرونا، وقال: {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} (¬5) أي ما ينتظرون، ومعنى قوله: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} (¬6) ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة (¬2) الحديد:13 (¬3) البقرة:104 (¬4) الحديد:13 (¬5) ص:15 (¬6) النمل:35

أي منتظرة (¬1)، وكذا قول الشاعر (¬2): فإن غدا لناظره قريب وجاء. معنى التفكر (¬3) والاعتبار، ويستعمل حينئذ بفي يقال نظرت في الأمر الفلاني أي: تفكرت، وجاء. معنى الرأفة والتعطف، ويستعمل حينئذ باللام، يقال: نظر الأمور [39] لفلان أي رأف به وتعطف، وجاء. معنى الرؤية ويستعمل بإلى قال الشاعر (¬4): نظرت إلى من أحسن الله وجهه ... فيا نظرة كادت على وامق تقضي (¬5) والنظر في الآية موصول "بإلى" (¬6) مقرون بالوجوه فوجب حمله على الرؤية فتكون واقعة في ذلك اليوم، وهو فرع الصحة فاستشهادكم. مما هو متعد بنفسه خارج عن محل ¬

(¬1) الخلاصة: ليس قول من قال إن (ناظرة). معنى منتظرة. مستقيم لأن نظرة إذا كانت. معنى الأنظار لا يدخل عليها حرف الغاية. يقال: نظرت فلافا أي أنظرته، ولا يقال نظرت إليه وقول من قال من- غلاة المعتزلة- إن (إلى) هنا اسم. معنى النعمة وهو واحد، أي: منتظرة نعمة رها ليس. مستقيم أيضا، لأن الله تعالى أخبر عن الوجوه أنها ناعمة، فدخل النعيم ها وظهرت أماراته عليها، فكيف تنظر ما اخبر الله عز وجل أنه حال فيها، إنما ينظر إلى الشيء الذي هو غر موجود والوجه الذي ليه الجمهور: أن المراد رؤية الله سبحانه وتعالى ومن اعتقد غير ذلك فهو مبتدع انظر: الفريد في إعراب القرآن المجيد (4/ 576 - 577)." الدر المصون " (1/ 574). (¬2) سبق ذكره (¬3) أي تعدى بـ (في) قال تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (لأعراف:184). (¬4) أورده الإيجي في "المواقف" (ص: 305). (¬5) في المخطوط [أ] تقصر. الوامق: ومق ومقة وومقا أحبه، وقيل الوامق: العشق، لسان العرب (15/ 409). ومعلوم أن الذي يقضي على الوامق هو رؤية المعشوق لا تقليب الحدقة ونحوه. "الأربعين "للرازي (ص: 201، 202). (¬6) قال صاحب العقيدة الطحاوية (ص: 305): فإن تعدى ب (إلى) فمعناه: المعاينة بالأبصار، فكيف إذا أضيف إلى الوجه الذي هو محل البصر

النزاع، وبما هو متعد بإلى كقوله: " وجوه يوم بدر ناظرات " يحتمل أن يكون المعنى " ناظرات إلى جهة الله في العرف وهو العلو، ولذلك ترفع الأيدي في الدعاء مع الاعتقاد بأن الله منزه عن أن يكون جسما أو ذا جهة، والمعنى: ناظرات إلى آثار أفعاله لنصرة المؤمنين يوم بدر. فإن قلت: الأصل عدم الحذف قلت: والزيادة فما هو جوابكم في منتظرات؟ فهو جوابنا هنا على أنه قد ذكر بعض الرواة أن الرواية هكذا: " وجوه ناظرات يوم بكر " وأن قائله شاعر من أتباع مسلمة (¬1) الكذاب، والمراد بيوم بكر يوم القتال مع بني حنيفة، وإلا لما جاز أن يقال: نظرت إلى الهلال فلم أره. ولم لا يجوز أن تكون [40] ناظرة. معنى منتظرة، مع تعدية بإلى كما قال ابن جني (¬2) في كتابه الموسوم ب "الخصائص" (¬3) أن ¬

(¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) هو عثمان بن جني كان الوه جني روميا يونانيا وكان مملوكا لسليمان بن فهد بن أحمد الأزدي ومن ثم ينتسب ابن بكما أزديا بالولاء ولد بالموصل قبل الثلاثين والثلاثمائة من الهجرة. وقيل كانت وفاته سنة302. أخذ النحو عن الأخفش، فتح ابن جني في العربية أبوابا لم يتسنى فتحها لسواه ووضع أصولا في الاشتقاق ومناسبة الألفاظ والمعاني. وكان حنفي المذهب في الفقه. وذكر السيوطي في المزهر (1/ 7) أن ابن جما كان معتزليا كشيخه أبي على. من مصنفاته:- الخصائص. - سر الصناعة. - تفسير ديوان المتنبي. - اللمع في العربية. - المقتضب. وغيرها كثير. انظر: " البغية " (ص 391)، نزهة الألباء (ص 408) ط أولى. (¬3) (2/ 308).

الفعل إذا كان. معنى فعل آخر وكان أحدهما يتعدى بحرف الآخر بآخر فإن لعرب قد "تتسع فتوقع" (¬1) أحد الحرفين موقع ناحبه إيذانا بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر ثم قال (¬2): ووجدت في اللغة من هذا شياء كثيرة لا يكاد يحاط به، ولعله لو جمع أكثره لا جميعه لجاء كتابا ضخما، وقد عرفت طريقته، فإذا مر بك شيء عنه فاقبله وانس به فإنه فصل من العربية لطيف حسن. انتهى. وقد نقله السيوطي في " الأشباه والنظائر " (¬3) والقاضي كريا ونقل مثله " شارح شواهد المغني" (¬4) عن ابن عصفور (¬5) وقال ابن هشام في المغني (¬6): قد يشربون لفظا معنى لفظ فيعطون حكمه ويسمى ذلك تضمينا " انتهى. وقد صرح صاحب (¬7) [41] القاموس (¬8) وهو من الأشعرية بأن النظر الذي هو العامل وتقليب الحدقة كما يتعدى بإلى كذلك يتعدى بنفسه، بل قدم تعديته بنفسه. فإن قلت: إن ذلك مجاز، فالمجاز قد شحن به القرآن، ولك أن تقول هو من باب: أنا ناظر إلى من عند الله، أي: ملتفت إليه فإن قلت: يلزم على هذا التأويل العدول إلى المجاز أو إلى الإضمار وكلاهما خلاف الأصل والظاهر قلت: العدول إلى مثل ذلك سائغ مع قيام الدليل بالإجماع ولك أن تقول ناظرة إلى ثواب رها ناظرة، لا يقال هذا غير تام: أما أولا فلأن الثواب ليس مرئيا في نفسه وإنما المرئي أثره فيلزم الإضمار الكثير وهو ¬

(¬1) في [ب] تمنع وقوع (¬2) أي ابن جئ في الخصائص (31012) (¬3) (7813 - 0 8) (¬4) (8218) (¬5) ذكره السيوطي في الأشباه والنظائر في النحو (3/ 751). (¬6) (685/ 2). (¬7) أي الفيروز آبادي (¬8) (ص: 623).

خلاف الأصل وأما ثانيا فلأن النظر يمتنع أن يكون معه رؤية لا للثواب ولا لأثره. أما الثواب فكما ذكرناه، وأما أثره فلأن النظر في الآية قبل أوان أثر الثواب بدليل مقابلة [42] تظن أن يفعل بها فاقرة {(¬1) إذ لا معنى للظن بعد الوقوع، فلا وقوع للعقاب ولا للثواب كما هو مقتضى المقابلة فالنظر بلا رؤية إنما هو عبارة عن مجرد تقليب الححقة كما هو حقيقته وهو غم أي تقليب الحدقة إلى المرثي بلا رؤية، والآية في سياق النعم على فريق الجنة فإن يومئذ في سرور لا غم فيه، لأنه يقال في الجواب عن الأول بأن إطلاق الثواب (¬2) على أثره مطابق للتنزيل في كذا وكذا آية، بل لم يطلق الثواب في الكتاب والسنة وسائر الكلام إلا على أثره، ولا معنى لإطلاقه على [43] نفس الثواب، أي المصدر في مقام الوعد والإضمار وإن كان خلاف الظاهر والأصل، إلا أفم قد صرحوا بأنه من أكثر أنواع الكلام ورودا. على أن الذاهب إلى القول بالرؤية من هذه الآية لا بد له من المجاز لأن الرؤية على وجه الإحاطة بذاته تعالى ممتنعة الفاقا، ولا شك أن حمل قول القائل رأيت زيدا على وجه الإحاطة مجاز، وقد حاول القاضي زكريا دفع هذا فما جاء بشيء. وعن الثاني، بأن تقليب الحدقة إلى محل الرجاء والتلفت نحو المطلوب فرع من فروع توقعه لا محالة، هذا هو المفهوم من الآية ولا شبهة أن الاستشراف بحصول المعلوم بالوعد الصادق من الكريم المطلق تعالى في مقام إنجازه سرور وحبور، ومما يخش في وجه الاستدلال هذه الآية ما ذكره العلامة جار الله في "كشافه" (3) في تفسير هذه الآية قال " تنظر إلى ربها خاصة لا تنظر إلى غيره وهذا معنى تقلم المفعول، ألا ترى إلى قوله:} إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ {(¬3)} إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ & (¬4) ¬

(¬1) القيامة:25 (¬2) انظر لسان العرب (2/ 145) (¬3) القيامة:12 (¬4) القيامة:30

{إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} (¬1)، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬2)، {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} (¬3) {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (¬4)، كيف دل التقديم فيها على معنى الاختصاص، ومعلوم أفم ينظرون إلى أشياء لا يحيط ها الحصر ولا تدخل تحت العدد في محضر يجتمع فيه الخلائق كلهم، فإن المؤمنين نظارة ذلك اليوم لأنهم الآمنون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فاختصاصه بنظرهم إليه لو كان منظورا إليه محال فوجب حمله على معنى يصح به الاختصاص. والذي يصح معه الاختصاص أن يكون من قول الناس- أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي- معنى التوقع والرجاء، ومنه قول القائل (¬5): وإذا نظرت إليك من ملك ... والبحر دونك زدتني نعما وسمعت سروية (¬6) [44] مستجيبة. بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقايلهم تقول: عيني نويظرة إلى الله وإليكم" (¬7) انتهى كلامه (¬8) ¬

(¬1) الشورى:53 (¬2) البقرة:245 (¬3) آل عمران:28 (¬4) هود:88 (¬5) من (الكامل) كذا ذكره الزمخشري في الكشاف (6/ 270) وصاحب " الدر المصون " (10/ 576). (¬6) السروية: النسبة إلى بلدة بطبرستان يقال لها: سارية. وانظر القاموس (سري) (ص: 1669 - 1670). (¬7) ذكره صاحب الدر المصون (10/ 576 - 578). (¬8) أي الزمخشري في الكشاف (6/ 270). والمعنى أفم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم " فقال صاحب الدر المصون (10/ 577) تعقيبا على ذلك: وهذا كالحوم على قول من يقول: إن " ناظرة ". بمعنى منتظرة. إلا أن مكيا قد رد

وإلى هنا انتهى ما قصدنا إيراده من الكلام على هذه المسألة وقد جلبنا إليك من أدلة الفريقين ما تصير به بعون الله قرير عين، وأوردنا من حجج الطائفتين ما يذهب به عن قلبك كل صدى ورين،- وجمعنا في هذا المختصر بين الضب والنون (¬1)، وخلطنا فيه الخاص به عند أرباب الاصطلاح بفنون، وقررنا فيه الغث بالسمن اتكالا على تمييز الناظرين، وحكينا لك فيه الأقوال وأوضحنا مقامات الجدال والنضال، ولم نتعقب ما ركب به قائله كأهل الاعتساف، وخرج به عن أرباب الفطن عن مسالك الإنصاف، لأن الناظر في هذا المختصر إنها كامل قد استغنى بعرفانه عن التعريف أو مقصر لا يفرق وإن بالغت في التبيين بين قوي وضعيف، ومهما غفلت عن شيء فلا تغفل عن تلك النصوص القوية إلى جاء ها مدعى التخصيص لأدلة الرؤية فإن عليها حامت طيور النقلد، وإليها سافرت أنظار علماء الإنصاف وأئمة الاجتهاد فخفها مجملة غير مفصلة، نستأنس عن وحشة هذه المسألة المعضلة، والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا والصلاة والسلام على سيدنا محمد حبيب الله ورسوله وعلى آله وصحبه [45]. أكمل من خط جامعه الإمام المجتهد، القاضي بدر الدين، العلامة النحرير محمد بن علي الشوكاني حفظه الله تعالى، ومتع جميع المسلمين بحياته آمين. وكان التأليف في شهر الحجة الحرام سنة 1253 هـ ثلاث ومائتين وألف. وصلى الله وسلم على محمد وآله (¬2) ¬

= هذا القول في إعراب مشكل القران (2/ 431) فقال: ودخول "إلى" مع النظر يدل على أنه نظر العين، وليس من الانتظار ولو كان من الانتظار ولم تدخل معه " إلى " ألا ترى أنك لا تقول: انتظر إلى زيد وتقول: نظرت إلى زيد. ف " إلى " تصحب نظر العين ولا تصحب نظر الانتظار، فمن قال: إن " ناظرة ". معنى منتظرة فقد أخطأ في المعنى وفي الإعراب ووضع الكلام في غير موضعه. (¬1) تقدم توضيح ذلك (ص 253). (¬2) زيادة من المخطوط [ب]

كشف الأستار في إبطال قول من قال بفناء النار

كشف الأستار في إبطال قول من قال بفناء النار تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط (أ) 1 - عنوان الرسالة: " كشف الأستار في إبطال قول من قال بفناء النار ". 2 - موضوع الرسالة: في العقيدة. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الطاهرين وصحبه المكرمين. وبعد: فإنه سألني سيدي العلامة المفضال، بقية أعلام الآل، .... 4 - آخر الرسالة:. ولكنا لم نقف على شيء يصلح للتمسك به غير ما قد حررناه، وحسبنا الله ونعم الوكيل. حرره جامعه محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني. 7 - عدد الأوراق: صفحة العنوان+ 11 ورقة. 8 - عدد الأسطر في الصفحة: 23 سطرا. 9 - عدد الكلمات في السطر: 11 - 12 كلمة. 10 - الرسالة من المجلد الرابع من " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني ".

وصف المخطوط (ب) 1 - عنوان الرسالة: " كشف الأستار في إبطال قول من قال بفناء النار " 2 - موضوع الرسالة: في العقيدة. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الطاهرين وصحبه المكرمين. وبعد: فإنه سألني سيدي العلامة المفضال، بقية أعلام الآل، ..... 4 - آخر الرسالة: قد كانت مقابلتي والولد الأبر التقط حسين بن أحمد بن محمد بن محمد بن زبارة لهذه النسخة على الأم المنقولة منها في ليلة ثلاثين غرة شعبان سنة 370 هـ سبعين وثلاثمائة وألف بصنعاء اليمن والحمد لله رب العالمين: محمد ابن محمد بن يحيى زبارة. 5 - نوع الخط: خط نسخط متوسط. 6 - الناسخ: محمد بن محمد بن يحي زبارة. 7 - عدد الأوراق: (7) ورقات. 8 - عدد الأسطر في الصفد": (27) سطرا. 9 - عدد الكلمات في السطر: (15 - 17) كلمة.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الطاهر (ين) (¬1) وصحبه المكرمين. وبعد: فإنه سألني سيدي العلامة المفضال، بقية أعلام الآل، وحسنة أهل الكمال الحسن بن يوسف زبارة (¬2) أعلى الله في الدارين منارة، وثبت إيراده وإصداره عن مسألة فناء النار، وما استدل به القائل، وأجاب المانع، وما هو الظاهر من الأدلة؟. فأقول وبالله الاستعانة، وعليه التوكل: أعلم أن جملة ما استدل به القائلون بذلك الفناء هو ثلاث آيات من كتاب الله العزيز: الأولى: الآية إلى في الأنعام، وهي قول الله سبحانه: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (¬3) والآية الثانية: قول الله سبحانه في سورة هود: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (¬4) ¬

(¬1) زيادة من [ب] (¬2) الحسين بن يوسف بن الحسين بن أحمد بن صلاح بن أحمد بن الأير الحسين المعروف بزبارة الحسني اليمني الصنعاني. ولد سنة 1150 هـ ونشأ بصنعاء والروضة أخذ عن والده النحو والصرف والبيان. قال الشركاني في ترجمته: هو احد علماء العصر المفيدين حسن السمت والخلق والأخلاق متين الديانة حافظ للسانه كثير العمادة وقد أجازني في جميع ما لرويه عن أليه يوسف عن جده الحسين توفي سنة 1231هـ. انظر: نيل الوطر (ص:407 رقم 207) والبدر الطالع رقم (157) (¬3) الأنعام:128 (¬4) هود:105 - 108

والآية الثالثة: قوله تعالى في سورة عم {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} (¬1) وتقرير استدلالهم بآية الأنعام هو أنها واردة في الكفار، وقد استثني من خلودهم فقال: {إلا ما شاء الله} (¬2) فأفاد ذلك أهم يخلدون فيها إلا وقت هذه المشيئة الإلهية. وتقرير الاستدلال بآية هود من وجهين: الأول: قوله: {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} (¬3) ففي هذا دليل على أن خلودهم هو مدة عقابهم مساوية لمدة بقاء السماوات والأرض: ولا خلاف أن مدة بقاء السماوات والأرض متناهية، فيلزم أن تكون مدة عقاهم متناهية. والوجه الثاني: الاستثناء بقوله: {إلا ما شاء ربك} فإنه استثنى عن مدة عقوبتهم، وذلك يدل على زوال ذلك العقاب في وقت هذا الاستثناء. وتقرير الاستدلال بآية عم هو أن لبثهم في ذلك العقاب لا يكون إلا أحقابا [1أ] معدودة. وقد تقرر أن (أفعالا) (¬4) هو من جموع القفة المعروفة. فهذا حاصل ما استدلوا به من ¬

(¬1) الآية: 23 (¬2) الأنعام:128 (¬3) هود:107 (¬4) قال ابن هشام في أوضح المسالك إلى ألفيه ابر مالك (4/ 236) ولجمع التكسير سبعة وعشرون بناء: منها أربعة موضوعة للعدد القليل، وهو من الثلاثة إلى العشرة وهى

النقل، وهو أربعة أدلة كما عرفت. ولم يكن في السمنة المطهرة ما يصلح لتمسكهم به، وأما ما سيأتي من قول جماعة من السلف فستعرف- إن شاء الله- الكلام عليه. وقد ضموا إلى هذا الاستدلال النقلي الاستدلال العقلي فقالوا: إن معصية الكفار متناهية. ومقابلة الجرم المتناهي بعقاب غير متناه ظلم وأنه لا يجوز. وأجاب الجمهور من هذه الأمة عن هذه الأدلة التي استدلت ها هذه الطائفة القائلة بالفناء بأجوبة: أما عن آية الأنعام فقالوا: إن المراد بالاستثناء بقوله: {إلا ما شاء الله} (¬1) استثناء أوقات المحاسبة، لأنهم في تلك الأوقات لم يكونوا في النار. قال الزجاج (¬2): إن الاستثناء يرجع إلى يوم القيامة، أي خالدين في النار إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم، ومقدار ملقم في الحساب. قال: فالاستثناء منقطع. الجواب الثاني: أن المراد بالاستثناء (¬3) الأوقات التي ينتقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير، فقد روي (¬4) أفم يدخلون واديا شديد البرد يكون تضررهم برده أشد من تضررهم بحر النار، حتى يطلبوا الرجوع إلى النار. الجواب الثالث: أن المراد: (إلا ما شاء الله) من ص ض في الدنيا بغير عذاب (¬5) الجواب الرابع: أن هذا الاستثناء لا يرجع إلى الخلود، بل هو راجع إلى الأجل ¬

(¬1) الأنعام:128 (¬2) في معاني القران وإعرابه (2/ 291) (¬3) انظر فتح القدير (2/ 167). (¬4) ذكره الزمخشري في الكشاف (2/ 396) بدون سند. (¬5) ذكره الشوكاني فتح القدير (2/ 167).

المؤجل لهم في قوله: {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} (¬1) فكأنهم قالوا: وبلغنا الأجل الذي حميته لنا إلا من أهلكته قبل الأجل المسمى كما في قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} (¬2) وكما فعل في قوم نوح، وعاد، وثمود ممن أهلكه الله قبل الأجل الذي آمنوا فيه، فبقوا إلى أن يصلوا إليه، فالمعنى إلا من شئت أن تخترمه فاخترمته قبل ذلك لكفره وضلاله. الجواب الخامس: أن هذا الاستثناء معناه الإرشاد إلى الوقف في جميع الكفار الأحياء، لأنه قد يسلم منهم من يسلم، ويموت مسلما (¬3) الجواب السادس: أن المقصود هذا الاستثناء التهديد كما يقول الموتور لواتره بعد الظفر به: أهلكني الله إن عفوت عنه، إلا إذا شئت وقد علم أنه لا يشاء إلا إهلاكه، قالوا: وفي هذا وعيد شديد، وتهديد بالغ مع كم عن وقع الوعيد به (¬4) الجواب السابع: أن هذا الاستثناء راجع إلى مدة البرزخ، أي إلا ما شاء الله من لبثهم في البررخ (¬5) الرحمن: 20 (¬6) البلد:20 (¬7) المؤمنين: 100 ¬ ¬

(¬1) الأنعام:128 (¬2) الأنعام:6 (¬3) انظر زاد المسير (4/ 158 - 161) (¬4) ذكره الزمخشري في الكشاف (2/ 396) الموتور: الثائر أي صاحب الوتر الطالب بالثأر لسان العرب (15/ 205) (¬5) البرزخ: الحاجز والحد بين الشيئيين، وقيل أصله برزه فعرب وقوله تعالى: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} (¬6) والبرزخ في القيامة: الحائل بين الإنسان وبين بلوغ المنازل الرفيعة في الآخرة وذلك إشارة إلى العقبة المذكورة في قوله عز وجل {فلا اقتحم العقبة} (¬7) وقال تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}

الجواب الثامن: أن الاستثناء راجع إلى أهل الإيمان، أي إلا ما شاء الله من خروج الموحدين (¬1). ويجاب عن الجواب الأول: بأن ظاهرة الآية أن الاستثناء بعد دخولهم النار، وبعد لبثهم فيها مدة تتصف بالخلود، لأن الخلود هو اللبث الطويل، كما تقرر في كتب اللغة (¬2)، وهم في وقت المحاسبة لم يكونوا قد دخلوا النار، والحمل على الانقطاع خلاف الظاهر. ويجاب عن الجواب الثاني: بأن المراد بعذاب النار الوارد في الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية هو العذاب. مما فيها من أنواع العذاب، لا. مجرد الإحراق بالنار فقط، فإن النار اسم للدار التي يكون فيها تعذيب العصاه كما أن الجنة اسم للدار التي كون فيها تنعيم أهل الطاعة، فالمعذب بالزمهرير هو في عذاب النار، أي في عذاب الدار التي يقال إلا النار، فلا يصح أن يكون المراد بالاستثناء عذاب الزمهرير. ويجاب عن الجواب الثالث. ممثل ما أجبنا به عن الجواب الأول. ويجاب عن الجواب الرابع بأنه خروج عن مقصود الآية، ورجوع إلى مسألة أخرى هما استيفاء الأجل المضروب للأحياء، واحترامه، وذلك غير ما سيق له الكلام القرآني، ورجوع إلى الكلام الواقع من الكفار بعد أن تعقبه الجواب عليهم بقوله: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ} (¬3) ¬

(¬1) انظر فتح القدير (2/ 537) و" الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي (9/ 99) (¬2) انظر لسان العرب (12/ 219 - 220) وقال الأصفهاني في "المفردات" (ص: 733): لبث بالمكان: إقام به ملازما له. (¬3) الأنعام:128

ويجاب عن الجواب [2أ] الخامس. ممثل هذا الجواب عن الجواب الرابع، فإن ذلك خروج إلى مسألة أخرى لم يسق لها الكلام، ولا هي مرادة منه. ويجاب عن الجواب السادس بأن فيه من التكلف والتعسف ما لا ينبغي حمل كلام الله سبحانه عليه. وعلى تسليم أن ذلك قد يقع التكلم به في الأحوال النادرة الشاذة فلا ينبغي الحمل على هذا النادر الشاذ، وترك ما هو الأعم الأغلب، فإن معنى الاستثناء (¬1) في لغة العرب الإخراج لا الإدخال، وأيضا يقال: إن ذلك لا يكون حقيقة أبدا، بل هو نوع من أنواع المجاز لا يصار إليه إلا لعلاقة مع قرينة. ويجاب عن الجواب السابع. ممثل ما أجبنا به عن الجواب الأول. ويجاب عن الجواب الثامن بأنه يدفع ذلك أن هذه الآية لم تكن عامة للمسلم والكافر، حتى يراد بالاستثناء خروج الموحدين من النار، وأيضا لو كان ذلك هو المراد على تسليم عمومها لقال: إلا من شاء الله ولم يقل: إلا ما شاء الله، فتدبر هذه الأجوبة عن تلك الجوابات، فإنها مما لم أقف عليه لأحد من أهل العلم (¬2) وقد أخرج ابن جرير (¬3)، وابن المنذر (¬4)، وابن آبي حاتم (¬5) وأبو الشيخ (¬6) عن ابن عباس- وبه- أنه قال: " إن هذه الآية تدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه لا ينزلهم جنة ولا نارا ". وأما ما أجاب به الجمهور عن الاستدلالين المتقدم ذكرهما في آية هود، فأجابوا عن الاستدلال الأول أعني: قوله تعالى: .... ¬

(¬1) انظر اللمع في العربية لابن جنبي (ص: 121) (¬2) انظر فتح القدير (2/ 167) (¬3) في جامع البيان (5/ج: 8/ 34) (¬4) عزاه إليه السيوطى في الدر المنثور (3/ 357) (¬5) في تفسيره (4/ 388 رقم 7897). (¬6) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (3/ 357).

{ما دمت السموات والأرض} (¬1) بجوابين: الأول: أن المراد حموات الآخرة وأرضها، قالوا: والدليل على أن في الآخرة حموات وأرضا قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} (¬2) [2ب]، قوله تعالى: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} (¬3)، وأيضا لا بد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم، وذلك هو الأرض والسماء (¬4). [و] (¬5) الجواب الثاني: قالوا: إن العرب يعبرون عن الدوام والأبد بقولهم: ما دامت السماوات والأرض كما يقولون: ما اختلف الليل والنهار، فخاطب الله العرب ني هذه الآية على عرفهم، وبما تقتضيه لغتهم. قال الرازي (¬6) مجيبا عن الجواب الأول: ولقائل أن يقول: التشبيه إنما يحسن ويجوز إذا كان حال المشبه به معلوما مقررا، فيشبه به غيره لثبوت الحكم في المشبه، ووجود السماوات والأرض في الآخرة غير معلوم، وبتقدير أن يكون وجودهما معلوما إلا أن بقاءها على وج لا يفئ البتة غير معلوم. فلذا كان أصل وجودهما مجهولا لأكثر الخلق، ودوامهما أيضًا مجهولا للأكثر كان تشبيه عقاب الأشقياء به في الدوام كلام عديم الفائدة: أقصى ما في الباب أن يقال: ثبت بالقرآن وجود حموات وأرض في الآخرة، وثبت دوامهما وجب الاعتراف به، وحينئذ يحصل التشبيه. إلا أنا نقول: لما كان الطريق في إثبات دوام حموات وأرضي في الآخرة هو السمع، ضم السمع دل على عقاب الكافر، فحينئذ الدليل الذي دل على ثبوت الأصل في الحكم حاصل معتبر في الفرع. وفي هذه الصورة أجمعوا على أن القياس ضائع، والتشبيه ¬

(¬1) هود:107 (¬2) إبراهيم: 48 (¬3) الزمر:74 (¬4) ذكره القرطبي في "الجامع لأحكام القران" (9/ 99) (¬5) زيادة من [ب]. (¬6) في التفسير الكبر (18/ 64).

باطل. فكذا هاهنا انتهى. ولا يخفاك أن قوله: ووجود السماوات والأرض في الآخرة غير معلوم ممنوع، لأنا نقول: إن أراد غير معلوم بالسمعي فباطل، لوجود الدليل السمعي عليه، وهو قوله تعالى: {يوم تبدل الأرض ... الآية} (¬1)، وقوله: (وأورثنا الأرض الآية& (¬2) وكذلك ما وفى عن السلف مما سيأتي بيانه، وإن أراد غير معلوم بالعقل فليس البحث هاهنا في أدلة العقل، على أن كونه لا بد لأهل الدار الآخرة مما يقلهم ويظلهم، وذلك هو الأرض والسماء هو دليل عقلي، وأما قوله (3): وبتقدير أن يكون وجودهما معلوما إلا أن بقاءها على وجه لا يفئ البتة غير معلوم. فيجاب عنه بأنه قد ورد السمع كتابا وسنة [2أ/ب] ببقاء الدار الآخرة، وعدم تناهي ما فيها، وهذا الدليل [3أ] يكفي في كل ما ثبت وجوده فيها. وأما قوله (3): أقصى ما في الباب ... إلى آخره. فيجاب عنه بأن القياس إذا اشتمل على فائدة زائدة على أصل الدليل فلير بضائع، وكذلك التشبيه إذا كان الغرض الحاصل منه، وهو التقرير والمبالغة في التصوير موجودا فليس بباطل. قال الرازي (¬3) مجيبا عن الجواب الثاني: ولقائل أن يقول: هل يسلمون أن قول القائل: خالدين فيها ما دامت السماوات يمنع من بقائهم في النار بعد فناء السماوات، أو يقولون: إنه لا يدل على هذا المعنى؟ فإن كان الأول فالإشكال لازم، لأن النص لما دل على أنه يجب أن يكون مدة كونهم في النار مساوية لمدة بقاء السماوات، ويمنع من حصول بقائهم في النار بعد فناء السماوات، فعندها يلزمكم القول بانقطاع ذلك العقاب. وأما إن قلتم: إن هذا الكلام لا يمنع من بقائهم في النار بعد فناء السماوات فلا ¬

(¬1) إبراهيم:48 (¬2) الزمر:74 (¬3) في تفسره (18/ 64)

حاجة لكم إلى هذا الجواب البتة. فثبت أن هذا الجواب على كلا التقديرين ضائع. قال: واعلم أن الجواب الحق في هذا الباب عندي شيء آخر هو أن "المعهود" (¬1) من الآية أن من كانت السماوات والأرض باقيتين كان كونهم في النار باقيا. فهذا يقتضي أنه كلما حصل الشرط حصل المشروط، ولا يقتض أنه إذا عدم الشرط انعدم المشروط الأبدي. إلا أنا نقول: إن كان هذا إنسانا فهو حيوان، فإن قلنا: لكنه إنسان، فإنه ينتج أنه حيوان. أما إذا قلنا: لكنه ليس بإنسان لم ينتج أنه ليس بحيوان، لأنه ثبت في علم المنطق أن استثناء نقيض المقدم لا ينتج شيئا، فكذا هاهنا. إذا قلنا: من دامت السماوات والأرض لزم أن يكون عقابهم حاصلا. أما إذا قلنا: لكنه ما بقص السماوات والأرض لم يلزم (¬2) أعدم (¬3) دوام عقباهم انتهى (¬4). ويجاب عن الترديد الذي ذكره في جوابه الأول بأنا نختار الضيق الثاني. وقولك: لا حاجة لكم إلى هذا الجواب البتة ممنوع، فإنه قد حصل به المقصود، من دفع استدلال من استدل به الآن (¬5) التبصر عن بقاء السماوات والأرض مراد به الدوام والأبد. وأما أقوله: (¬6) واعلم أن الجواب الحق في هذا الباب ... الخ، فلا نسلم أن قوله خالدين فيها مادامت السماوات والأرض هو في قوة الجملة الشرطية هي المفهومة من الآية فلا يصح ما رتبه على هذه الدعوى من قوله: فهذا يقتضي أنه كلما حصل الشرط الخ ثم لا نسلم ما ذكره آخرا من التمثيل، فإن النسبة بين دوام ¬

(¬1) في المخطوط:"لمفهوم" وما أثبتناه من التفسير المذكور أنفا. (¬2) زيادة من [ب] (¬3) زيادة من التفسير الكبر (18/ 65). (¬4) أي كلام الرازي في تفسيره (18/ 65) (¬5) في [ب] لا أن (¬6) في [ب] قولكم

السماوات والأرض، وبن لزوم العقاب ليست مثل النسبة التي بين الإنسان والحيوان. قال الرازي (¬1) بعد كلامه السابق-: فإن قالوا: فإذا كان العقاب حاصلا سواء بقيت السماوات والأرض أو لم تبق لم يكن لهذا التشبيه فائدة. قلنا: بل فيه أعظم الفوائد، وهو أنه يدلا على بقاء ذلك العقاب دهرا. مما ألا (¬2) يحيط العقل بطوله وامتداده. فأما إنه هل يحصل له أمجرى (¬3) أم لا فذلك يستفاد من دلائل أخر. وهذا الجواب الذي قررته جواب حق، ولكن إنما يفهمه إنسان ألف شيئا من المعقولات انتهى (¬4) وأقول ليس النزاع إلا في كون ذلك العقاب له آخر أم لا؟ ولا نزاع في مجرد الطويل الذي لا تحيط العقول بطوله، فإن ذلك مستفاد من الخلود والأبد، فلم يكن هذا الجواب شيئا، والإحالة على الدلائل إلا لم خر مع عدم الجزم منه بدلالتها على أحد الأمرين لا يفيد شيئا، على أنه لو جزم بأنها تفيد أحد الأمرين، ولم يبينها لم تكن هذه الإحالة مفيدة. وإذا تقرر لك جميع ما ذكره وذكرناه عرفت الصواب- إن شاء الله-. وأما ما أجاب به الجمهور عن الاستدلال أوله: {إلا ما شاء ربك} (¬5) فهو أربعة عشر جوابا. الأول: أنه استثناء من قوله: {ففي النار} كأنه قال: إلا ما شاء ربك من تأخير قوم عن ذلك، وهم من شاء الله أن لا يدخلهم النار، وإن شقوا بالمعصية. حكى هذا ¬

(¬1) في تفسيره (18/ 65) (¬2) في [ب] لم. (¬3) في [ب] أخرى (¬4) أي كلام الرازي في. تفسيره (18/ 65) (¬5) هود:107

أبو نضرة (¬1) عن أبي سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله. ويكون على هذا ما في {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} (¬2) للعدد لا للأشخاص، كقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} (¬3) وتقرير هذا الجواب: فأما الذين شقوا ففي النار إلا عددا من هؤلاء الأشقياء، فإنهم ليسوا في النار ولا يدخلونها (¬4) ويجاب عنه بأنه مخالف للظاهر من وجهن: الأول: طول الفصل ما بين المستثني والمستثني منه. والثاني: التعسف في تأويل ما بذلك التأويل، فإنه مخالف لمعناها، وأيضا ليس المقام مقام ذكر الأعداد حتى تحمل على العدد، بل المقام مقام ذكر الأشخاص التي أثبت الله لهم هذه الأحوال. الجواب الثاني: ما قاله ابن قتيبة (¬5)، وابن الأنباري (¬6)، والفراء (¬7) أن هذا الاستثناء استثناه الله تعالى ولا يفعله البته، كقولك: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك، مع عزيمتك على ضربه، فكذا هنا، وأطالوا الكلام في تقرير هذا. ¬

(¬1) ذكره القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (9/ 99). (¬2) النساء: 3 (¬3) النساء:3 (¬4) انظر فتح القدير (2/ 535) (¬5) عزاه إليه الشوكاني في " فتح القدير " (2/ 535) (¬6) عزاه إليه القرطبي في " جامع أحكام القرآن " (9/ 100) (¬7) في " معاني القرآن " (2/ 28): حيث قال: ففي ذلك معنيان أحدهما أن تجعله استثناء يستثنيه ولا يفعله كقولك: والله لأضربنك إلا أن أرى غير دلك وعزمحك لحى ضرر والقول الآخر أن العرب إذا استثنت شيئا كبيرا مع مثله أو مع ما هو أكبر منه كان معنى إلا ومعنى الواو سواء، فمن ذلك قوله (خالدين فيها مادامت السماوات والأرض) سوى ما يشاء من زيادة الخلود فيجعل (إلا) مكان (سوى) فيصلح. كأنه قال:: خالدين فيها مقدار ما كانت السماوات وكانت الأرض سوى ما زادهم من الخلود والأبد

قال الرازي (¬1) في الجواب عن هذا الجواب: ولقائل أن يقول: هذا ضعيف، لأنه إذا قال: لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك فمعناه لأضربنك إلا إذا رأيت أن الأولى ترك الضرب، وهذا لا يد البته على أن هذه الرؤية قد حصلت أم لا، بخلاف قوله تعالى: {خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك} (¬2) فمعناه الحكم بخفودهم فيها إلا المدة إلى شاء ربك، فهاهنا اللفظ يدل على أن هذه المضيئة قد حصلت، فكيف يحصل قياس هذا الكلام على ذلك الكلام!. انتهى. وأقول: لا يخفاك أن هذا إنما لتم لو أرادوا بالمثال الذي ذكره معناه الذي يدل عليه اللفظ، وهو إيقاع الضرب، إلا إذا رأى الضارب غير ذلك، وهم لم يريدوا ذلك، بل أرادوا أن العزيمة من الضارب كائنة على الضرب على كل حال، ولهذا قالوا مع عزيمتك على ضربه فقوله: إلا أن أرى قد حصل في الحال بيان معناه، وهو كل حمال، وأنه لا يرى غير ذلك، فلا لتم ما ذكره الرازي من الفرق بين الآية والمثال بالحصول وعدمه، فالأولى الجواب عن هذا الجواب. مما ذكرناه في "لأجوبة (3) "قدمناه على قوله تعالى: {خالدين فيها إلا ما شاء الله} (¬3) الجواب الثالث: أن كلمة الاستثناء هنا وردت. معنى سوى، والمعنى أنه تعالى لما قال: (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض {(¬4) فهم منه أفم يكونون في النار في جميع بقاء السماوات والأرض في الدنيا. ثم قال: سوى ما يتجاوز ذلك من الخلود الدائم، فذكر أولا في خلودهم ما ليس عند العرب أطول منه، ثم زاد عليه الدوام الذي لا آخر له بقوله:} إلا ما شاء ربك& (¬5) من الزيادة التي .............. ¬

(¬1) في تفسيره18/ 75 (¬2) هود:108 (¬3) 4ب (¬4) هود:108 (¬5) هود:108

لا آخر لها (¬1) ويجاب عنه بأن جعل حرف الاستثناء. معنى سوى، وإفادته لهذا المعنى الذي هو عكس معناه، وضد مدلوله ممنوع بل مدفوع. الجواب الرابع: هو أن المراد من هذا الاستثناء زمان وقوفهم في الموقف، فكأنه تعالى قال: فأما الذين شقوا ففي النار إلا وقت وقوفهم للمحاسبة، فإنهم في ذلك الوقت لا يكونون في النار (¬2) ويجاب عن هذا الوجه. ممثل ما قدمناه في جوابنا على الجوابات التي أجاب ها الجمهور في قوله: {إلا ما شاء الله}. الجواب إن مس: أن المراد هذا الاستثناء مدة البرزخ، وقد قدمناه الجواب عن هذا الوجه في الكلام على آية الأنعام. ¬

(¬1) قال الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" (3/ 79 - 80): قوله تعالى: "إلا ما شاء ربك ". فيها أربعة أقوال: قولان لأهل اللغة البصريين والكوفيين جميعا: قالوا: المعنى (خالدين فيها إلا ما شاء ربك). كل! ت سوى ما شاء ربك كما تقول: لو كان معنا رجل إلا زيدا أي رجل سوى زيل ولك عندي ألف درهم سوى الألفين، وألا الألفين اللذين لك عندي فالمعنى على هذا خالدين فيها مقدار دوام السماوات والأرض سوى ما شاء ربك من الخلود والزيادة كما قلت سوى الألفين اللتين علي. 2/ وقالوا: إلا ما شاء ربك وهو لا يشاء أن يخربهم إنها، كما أول أنا أفعل كذا وكذا إلا أن أشاء كر ذلك ثم تقيم على ذلك الفعل وأنت قادر على غر ذلك، فتكون الفائدة في هذا الكلام أن لو شاء يخرجهم لقدر ولكنه قد أعلمنا أفم خالدون أبدا. وقولان آخران: قال بعضهم إذا حشروا وبعثوا فهم في شروط القيامة فالاستثناء وقع من الخلود. مقدار موقفهم للحساب، والمعنى خالدين فيها مادامت السماوات والأرض إلا مقدار موقفهم للمحاسبة. القول الرابع سيذكره الشوكاني بعد قليل. (¬2) قال الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" (3/ 79 - 80): قوله تعالى: "إلا ما شاء ربك ". فيها أربعة أقوال: قولان لأهل اللغة البصريين والكوفيين جميعا: قالوا: المعنى (خالدين فيها إلا ما شاء ربك). كل! ت سوى ما شاء ربك كما تقول: لو كان معنا رجل إلا زيدا أي رجل سوى زيل ولك عندي ألف درهم سوى الألفين، وألا الألفين اللذين لك عندي فالمعنى على هذا خالدين فيها مقدار دوام السماوات والأرض سوى ما شاء ربك من الخلود والزيادة كما قلت سوى الألفين اللتين علي. 2/ وقالوا: إلا ما شاء ربك وهو لا يشاء أن يخربهم إنها، كما أول أنا أفعل كذا وكذا إلا أن أشاء كر ذلك ثم تقيم على ذلك الفعل وأنت قادر على غر ذلك، فتكون الفائدة في هذا الكلام أن لو شاء يخرجهم لقدر ولكنه قد أعلمنا أفم خالدون أبدا. وقولان آخران: قال بعضهم إذا حشروا وبعثوا فهم في شروط القيامة فالاستثناء وقع من الخلود. مقدار موقفهم للحساب، والمعنى خالدين فيها مادامت السماوات والأرض إلا مقدار موقفهم للمحاسبة. القول الرابع سيذكره الشوكاني بعد قليل.

الجواب السادس: أن المراد هذا الاستثناء مدة بقائهم في الدنيا، وقد قدمنا الجواب عن هذا في الكلام على آية الأنعام أيضا. الجواب السابع: أن الاستثناء يرجع إلى قوله تعالى: ا لهتم فيها زفير وشهيق وتقريره أن الزفير والشهيق ثابت لهم، إلا ما شاء ربك من عدم زفيرهم وشهيقهم في وقت من الأوقات (¬1) ويجاب عنه بأن رجوع الاستثناء إلى ذلك مع الفصل قوله: (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض {(¬2) خلاف الظاهر، بل الظاهر رجوع الاستثناء إلى ما هو الأقرب إليه، والألصق به، وهو الخلود المؤقت بدوام السماوات والأرض. الجواب الثامن: أن المعنى إلا ما شاء ربك من تعذيبهم بغير النار كالزمهرير ونحوه. ويجاب عن هذا. مما قدمنا في جوابنا عن مثله في آية الأنعام. الجواب التاسع: يفيد خروج أهل التوحيد من النار، ويجاب عنه. ممثل ما قدمنا على جوابنا على مثله في آية الأنعام. الجواب العاشر: أن المعنى خالدين في النار لا يموتون فيها ولا يحيون إلا ما شاء ربك، وهو أن يأمر النار فتأكلهم وتفنيهم، ثم تجدد خلقهم. ويجاب ن هذا بأنه إخراج لهذا الاستثناء عن هذه الآية إلى اتصل ها إلى شيء آخر لم تدل عليه الآية، وهو عدم الموت والحياة. الجواب الحادي عشر: أن (إلا) (¬3) في قوله:} إلا ما شاء ربك & بمعنى ¬

(¬1) ذكره الزجاج في معاني القرآن وإعرابه (3/ 79 - 80). وانظر فتح القدير (535/ 2) ومعاني القرآن للفراء (2/ 28). (¬2) هود: 108 (¬3) في (ب) الاستثناء

الواو (¬1) والمعنى: وما شاء ربك من الزيادة. ويجاب عنه بأنه إخراج لحرف الاستثناء عن معناه إلى معنى يخالفه ويناقضه بغير دليل. الجواب الثاني عشر: أن قوله: {إلا ما شاء ربك} معناه كما شاء ربك، كقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} أي إلا كما قد سلف. والجواب عنه كالجواب عن الذي قبله. الجواب الثالث عشر: أن هذا الاستثناء هو على سبيل الاستثناء الذي ندب إليه الشرع في كل (¬2) كلام بقوله: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (¬3)، وقوله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} (¬4) وقد ذكر نحو هذا أبو عبيد (¬5)، والفراء (¬6) ويجاب عنه بأنه خروج عن الظاهر، والتشريع الوارد في التقييد بالمشيئة هو باب آخر بلفظ آخر لمعنى أخر (¬7). ¬

(¬1) انظر زاد المسير (4/ 160 - 161) (¬2) قال القرطي في "الجامع لأحكام القرآن" (9/ 101 - 102): فهو استثناء في واجب، وهدا الاستثناء في حكم الشرط كذلك كأنه قال: إن شاء ربك، فليس يوصف. بمتصل ولا منقطع ويؤيده ويقويه قوله تعالى: {عطاء غير مجذوذ}. (¬3) الكهف:23 - 24. (¬4) الفتح: 27. (¬5) في " معاني القران " (2/ 28) فقد قال: تقدمت عزيمة المشيئة من الله تعالى في خلود الفريقين إلي الدارين فوقع لفظ الاستثناء- والعزيمة قد تقدمت في الخلود- قال: وهذا مثل قوله تعالى: & لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين وقد علم أكم يدخلونه حتما فلم يوجب الاستثناء في الموضعين خيارا، إذ المشيئة قد تقدمت بالعزيمة في الخلود في الدارين والدخول في المسجد الحرام. (¬6) في "معاني القرآن" (2/ 27 - 28). (¬7) انظر "الكوكب المنير" (3/ 293 - 308)

الجواب الرابع عشر: المعارضة بقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} فإن [ما] (¬1) قيل في الأشقياء لزم مثله في السعداء، لأن العبارة العبارة، واللفظ اللفظ، والمعنى المعنى. ويجاب عنه بأنه أقدا (¬2) وقع الإجماع من جميع الأمة على عدم انقطاع نعيم أهل الجنة، وأنه غير متناه بخلاف انقطاع عذاب أهل النار، فقد قال له طائفة من أهل العلم، فكان الفارق بين ما قيل في جانب الأشقياء، وجانب السعداء هو إجماع على امتناع الحمل على الظاهر في السعداء، فكان التأويل به مقبولا، ولم يقع الإجماع على امتناع الحمل على الظاهر في جانب الأشقياء، فكان التأويل فيه غير مقبول إلا بوجه يسلمه المخالف ولا يمنعه ولا يدفعه. وأيضا فإن الله سبحانه لمحال فيهم في هذه الآية: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (¬3) أقي: غير مقطوع. وبذلك فسره ابن عباس كما أخرجه عنه ابن جرير (¬4)، وابن أبي حاتم (¬5)، وأبو الشيخ، وابن مردويه (¬6) والبيهقي (¬7). ¬

(¬1) زيادة من [أ] (¬2) زيادة من [أ] (¬3) هود:108 (¬4) في " جامع البيان " رقم (8587 - شاكر) (¬5) في فسيره (6/ 2088 رقم 11245) (¬6) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (4/ 478). (¬7) في البعث والنشور (ص: 333 رقم605). كلهم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله {لهم فيها زفير وشهيق} قال: الزفير الصوت الشديد في الحلق والشهيق الصوت الضعيف في الصدر. وفي قوله {غير مجذوذ} قال: إني مقطوع. وفي لفظ: غير منقطع. وقال ابن كثير عقب قول ابن عباس: لئلا يتوهم متوهم بعد ذكره المشيئة- إلا ما شاء ربك- أن ثم انقطاعا، أو لبسا، أو شيئا، بل ختم له بالدوام، وعدم الانقطاع كما بين هنا أن عذاب أهل

وأما ما أجاب به الجمهور عن الاستدلال بقوله تعالى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} (¬1) فخمسة أجوبة: الأول: أن الأحقاب جمع حقب، وهو مختلف فيه عند أهل (¬2) اللغة، فقيل ثمانون سنة، وقيل زمان من الدهر لا وقت له، وقيل إنه ثمانون سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يوما، واليوم ألف سنة من أيام الدنيا. وقيل: الحقب مائه سنة، والسنة اثنا عشر شهرا، والشهر ثلاثون يوما، واليوم ألف سنة، وقيل: الأحقاف لا يدري أحد ما هي، ولكن الحقب الواحد سبعون ألف سنة، اليوم منها كألف سنة مما يعجبون (¬3) قالوا: فلما كان الخلاف في معنى الأحقاب هو هذا لم لتم ما قدره المستدلون هذه الآية على فناء النار كما سلف. ويجاب عنه بأنه لم يكن في هذه الأقوال ما يفيد مطلوب المجيبين من أن الحقب أو الأحقاب غير متناهية، بل هي وإن فسرت بزمان طويل فهو متناه، وليس النزاع إلا في التناهي وعدمه. الجواب الثاني: أن لفظ الأحقاب لا تدل على النهاية، وإنما المتناهي هو الحقب الواحد، ويجاب عنه بأن أحقابا هي من جموع (¬4) القملة فهي متناهية، وتقدير الحقب ¬

(¬1) النبأ:23 (¬2) انظر " مفردات ألفاظ القرآن " للأصفهاني (ص: 248) (¬3) انظر هذه الأقوال في "جامع لأحكام القرآن" للقرطبي (19/ 178 - 179). (¬4) تقدم آنفا.

الواحد بأي زمان كان، وإن كثر عدده كما يستلزم تناهيه فهو أيضًا يستلزم تناهي الأحقاب. الجواب الثالث: أن المعنى أفم يلبثون في النار أحقابا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا. ذكر معناه الزجاج (¬1)، وتقريره أن هذه الأحقاب التي يلبثونها في النار هي توقيت لنوع من العقاب، وهو كونهم لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا، ثم يعذبون بعد انقضاء هذه الأحقاب بغير ذلك من العذاب. ويجاب عن هذا بان ذلك إنما يتم إذا كانت جملة لا يذوقون قيدا لقوله {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} (¬2) وهو ممنوع. وأقل الأحوال الاحتمال، ولا تقوم [6أ] الحجة [لمحتمل] (¬3). الجواب الرابع: أن لو سلمنا دلالة هذه الآية على التناهي فهي دلالة مفهوم، وهى لا تنته على معارضة ما ورد من تأييد الخلود. ويجاب عنه بأن هذا الذي ورد في تأييد الخلود إن كان ما في الآيات كمثل خالدين، وكمثل أبدا، فقد تقرر عند أهل اللغة (¬4) أفما يدلان على اللبث الطويل، لا على عدم التناهي، وإن كان بغيرهما فما هو؟. ¬

(¬1) في " معاني القران وإعرابه " (5/ 273): قال: ولابثين، يقال: لبث الرجل فهو لابث، ويقال هو لبث. مكان كذا أي صار اللبث شأنه والأحقاب واحدها حقب، والحقب ثمانون سنة، كل سنة اثنا عشر شهرا وكل شهر ثلاثون يوما، وكل يوم مقداره ألف سنة من سني الدنيا، والمعنى أفم يلبثون أحقابا لا يذوقون في الأحقاب بردا ولا شرابا وهم خالدون في النار أبدا كما قال عز وجل: {خالدين فيها أبدا} (¬2) النبأ:23 (¬3) في (ب) بمحتمل (¬4) تقدم ذكر ذلك.

الجواب الخامس: (¬1) أن معنى الأحقاب مأخوذ من حقب عافنا إذا قل مطره وخيره، وحقب فلان إذا أخطأه الرزق، وأن أحقابا منتحب على أنه حال عنهم. معنى لابثين فيها حقبين، أي لا خير عندهم، ولا رزق يطيب لهم. ولا يخفاك أن في هذا من التعسف ما لا يخفى، فإن أحقابا منتصب على الظرفية لا على الحالية، وذلك المعنى لحقب شاذ نادر لا ينبغي الحمل عليه مع وجود الكثير الغالب. وإذا عرفت جميع ما سقناه تقريرا وجوابا ودفعا، فلا بد أن نتكلم. مما هو الصواب، ونصرح. مما هو الحق- إن شاء الله-. ولكنا نقدم هاهنا نقل ما روي عن السلف الصاع في تفسير هذه الآيات التي تمسك جما القائلون بفناء النار، ثم نبين بعد ذلك ما يظهر أنه ا لصواب. فمن جملة ما روي عن السلف في تفسير هذه الآيات [4أ/ب] ما قدمنا عن ابن عباس (¬2) في تفسير آية الأنعام. وأما ما ورد عنهم في آية هود فأخرت ابن أبي حاتم (¬3)، وأبو الشيخ، وابن مردويه (عن ابن عباس في تفسير قوله سبحانه: {فمنهم شقي وسعيد} قال: هم قوم من أهل الكبائر، من أهل هذه القبلة، يعذبهم الله بالنار ما شاء بذنوبهم، ثم يأذن في الشفاعة لهم، فيشفع لهم المؤمنون، فيخرجهم من النار، فيدخلهم الجنة فسماهم أشقياء حين عذبهم في النار. {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} (¬4) حين ¬

(¬1) انظر التفسير الكسير للرازي (31/ 14). (¬2) تقدم تخريجه آنفا. (¬3) في تفسيره (6/ 2085 رقم 11223). (¬4) هود:106 - 107

أذن في الشفاعة لهم، وأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة، وهم هم. {وأما الذين سعدوا} يعني بعد الشقاء الذي كانوا فيه {ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك} (¬1) يعني الذين كانوا [فيه] (¬2) ففي الجنة خالدين فيها مادامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك. يعني الذين كانوا في النار وأخرج عبد الرزاق (¬3) وابن الضريس (¬4)، وابن جرير (¬5)، وابن المنذر والطبراني (¬6) والبيهقي في الأسماء والصفات (¬7) عن أبي نضرة، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، أو عن أبي سعيد الخدري، أو رجل من أصحاب رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في قوله (إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد قال: هذه الآية قاضية على القرآن كفه، يقول: حيث كان في القران خالدين فيها تأتي عليه. وأخرج ابن أبي حاتم (¬8) عن ابن عباس في قوله: (ما دامت السماوات والأرض قال: أسماء الجنة (¬9) وأرضها وأخرج البيهقي في البعث والنشور (¬10) عن ابن عباس أيضًا في قوله: {إلا ما شاء ربك} ¬

(¬1) سورة هود: 108 (¬2) في [ب] فيها (¬3) في تفسيره (2/ 312 - 313). (¬4) في فضائل القرآن (ص151 رقم 321) (¬5) في جامع البيان (7/ج: 12/ 118). (¬6) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (4/ 476) (¬7) (1/ 414رقم 336) بإسناد صحيح. (¬8) في تفسيره (6/ 2585 رقم 11229) (¬9) كذا في المخطوط وفي التفسير المذكور "لكل جنة سماء وأرض (¬10) (ص: 333 رقم 606)

قال: فقد شاء ربك أن يخلد هؤلاء في النار، وأن يخلد هؤلاء في الجنة. وأخرج ابن جرير (¬1) عن ابن عباس- أيضا- في قوله: {إلا ما شاء ربك} قلل: استثنى الله أمر النار أن تأكلهم. وأخرج [إسحق بن راهويه (¬2)] (¬3) عن أبي هريرة قال: سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد، وقرأ (فأما الذين شقوا ... الآية. وأخرج ابن جرير (¬4) وابن أبي حاتم (¬5) عن خالد بن معدان في قوله {إلا ما شاء ربك} قال: إنها في الموحدين من أهل القبلة. وأخرج أبو الشيخ (¬6) عن الضحاك في قوله: {إلا ما شاء ربك} قال: إلا من استثنى من أهل القبلة. وأخرج ابن أبي حاتم (¬7)، وأبو الشيخ (¬8) عن السدي في قوله: {ما دامت السماوات والأرض} قال: سماء الجنة وأرضها. وأخرج ابن أبي حاتم (¬9)، وأبو الشيخ (¬10) عن الحسن في قوله: {ما دامت السماوات والأرض} قال: تبدل سماء غير هذه السماء، " أرض غير هذه الأرض، ¬

(¬1) في "جامع البيان" (7/ج12/ 118). (¬2) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (4/ 478) (¬3) في المخطوط (أ، ب) [بن اسحق وابن راهويه] والتصويب (¬4) في جامع البيان (17ج: 12/ 118). (¬5) قي تفسيره (6/ 2087 رقم 1235). (¬6) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (4/ 476). (¬7) في تفسيره (87/ 206رقم11238). (¬8) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (4/ 477). (¬9) في تفسيره (6/ 2086 رقم 11230). (¬10) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (4/ 477).

فمادامت تلك السماء وتلك الأرض. وأخرج ابن أبي حاتم (¬1) عن الحسن قال: إذا كان يوم القيامة أخذ الله السماوات السبع، والأرض السبع، فطهرهن من كل أقذرا (¬2) ودنس، فصيرهن أرضا بيضاء فضة تتلألأ أنورا (¬3) للجنة. وأخرج أبو الشيخ (¬4) عن السدي في قوله: {فأما الذين شقوا} قال: فجاء بعد ذلك من مشيئة الله أما نسخها (¬5) فأنزل بالمدينة: {إن الذين كفروا وظلموا لتم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلى آخر الآية، فذهب أرجاء لأهل النار [7أ] بأن يخرجوا منها، وأوجب لهم خلود الأبد، وقوله:} وأما الذين سعدوا {قال: فجاء بعد ذلك من مشيئة الله ما نسخها، فأنزل الله بالمدينة:} وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ إلى قوله- ظِلًّا ظَلِيلًا {فأوجب لهم خلود الأبد. وأخرج ابن المنذر (¬6) عن الحسن قال: قال عمر: لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم يوم على ذلك يخرجون فيه. وأخرج ابن المنذر (¬7) وأبو الشيخ (¬8) عن إبراهيم النخعي قال: ما في القران آية أرجى لأهل النار من هذه الآية: خالدين فيها [4ب/ب]} ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك & قال: وقال ابن مسعود: ليأتين عليها زمان تخفق أبوابها. ¬

(¬1) في تفسيره (6/ 2086 رقم11231). (¬2) في [ب] وزر (¬3) زيادة من [ب] (¬4) عزاه إليه السيوطي في الدر المنشور (4/ 477). (¬5) في الدر المنثور (4/ 477) (فنسخها). (¬6) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (4/ 478) (¬7) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (4/ 478) (¬8) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (4/ 478)

وأخرج ابن جرير عن الشجي قال: جهنم أسرع الدارين عمرانا، وأسرعهما خرابا. وأخرج عبد الرزاق (¬1)، وابن جرير (¬2)، وابن أبي حاتم (¬3) عن قتاده في قوله: {إلا ما شاء ربك} قال: الله أعلم. بمشيئته على ما وقعت. وأخرج ابن جرير (¬4) وابن زيد قال: قد أخبر الله بالذي شاء لأهل الجنة فقال: (عطاء غير مجذوذ ولم يخبر بالذي شاء لأهل النار. قال ابن كثير في تفسيره (¬5) - عند الكلام على هذه الآية من سورة هود-: وقد اختلف المفسرون في المراد من هذا الاستثناء على أقوال كثيرة، حكاها الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي في كشابه زاد المسير (¬6)، وغيره من علماء التفسير، ونقل كثيرا منها الإمام أبو جعفر ابن جري (¬7) (8) - رحمه الله- في كتابه، واختار هو ما نقله عن خالد بن معدان، والضحاك، وقتاده، وأبي سنان. ورواه ابن أبي حاتم (¬8) عن ابن عباس، والحسن أيضل أن الاستثناء عائد على العصاه من أهل التوحيد ممن يخرجهم الله من النار شفاعة للشافعين من النبيين والملائكة والمؤمنين حين يشفعون في أصحاب الكبائر، ثم تأتي رحمة أرحم الراحمين فيخرج من النار من لم يعمل خيرا قط، وقال يوما من الدهر: لا إله إلا الله. ¬

(¬1) في تفسيره (2/ 312) (¬2) في "جامع البيان" (7/ج: 12/ 117) (¬3) قي تفسيره (87/ 206 رقم 11237). (¬4) في جامع البيان (7/ج12/ 119). (¬5) (4/ 351) (¬6) (4/ 160\ 161). (¬7) (7/ج:12, 18) (¬8) في تفسيره (6/ 208رقم11233, 11234).

كما وردت بذلك الأخبار الصحيحة المستفيضة عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-. مضمون ذلك من حديث أنس (¬1)، وجابر (¬2)، وأبي سعيد (¬3)، وأبي هريرة (¬4)، وغرهم من الصحابة. ولا يبقى بعد هذا في النار إلا من وجب عليه الخلود فيها، ولا مخلد له عنها. وهذا الذي عليه كثير من العلماء وقديما وحديثا في تفسير هذه الآية الكريمة. قال ابن كثير (¬5) أيضًا وقد روي في تفسير هذه الأدلة عن أين المؤمنين عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وجابر، وأبي سعيد من الصحابة. وعن أبي مجلز، والشجي وغيرهما من التابعين، وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وإسحاق ابن راهويه، وغيرهما من الأئمة أقوال غريبة، وورد حديث غريب في معجم الطبراني الكبير (¬6) عن أبي أمامه صدي بن عجلان الباهلي، ولكن سنده ضعيف. والله أعلم. انتهى. ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحة رقم (325/ 193) عن أنس بن مالك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يحرج من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعرة، ثم يحرج من اك ر من قال: لا إله إلا الله ومن في قلبه من الخير ما يزن بره، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه من الحر ما يزن ذرة " وأخرج مسلم في صحيحة رقم (302/ 183) عن أنس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يجمع الله المؤمنين يوم القيامة فيلهمون لذلك" .. وذكر في الرابعة فأقول: يا رب، ما بقط في النار إلى من حبسه القرآن أي وجب عليه الخلود ". (¬2) أخرجه مسلم قي صحيحة (رقم 316/ 191). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحة (7439) ومسلم في صحيحة رقم (302/ 183). (¬4) عن أبي سعيد الخدري وفيه " .... فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا يضرا قط " (¬5) في تفسيره (4/ 352). (¬6) (8/ 292رقم 7957). وأورده الهيثمي في المجمع (7/ 142) وقال: فيه جعفر بن الزبير وهو ضعيف

وأما كلام السلف في قوله تعالى: {لابثين فيها أحقابا} أخرج ابن أبي حاتم (¬1) عن ابن عباس في قوله: {لابثين فيها أحقابا} قال: سنين. وأخرج عبد بن حميد (¬2) عن الحسن قال: الحقب الواحد سبعون سنة، كل يوم منها ألف سنة. وأخرج عبد الرزاق (¬3)، وعبد بن حميد (¬4)، وابن جرير (¬5)، وابن المنذر (¬6) عن قتاده في الآية قال: الأحقاب ما لا انقطاع له، كفا مضى حقب جاء بعده حقب. قال: وذكر لنا أن الحقب ثمانون سنة من سنين يوم القيامة. وأخرج عبد بن حميد (¬7) عن الحسن قي الآية قال: ليس لها أجل، كلما مضى حقب دخل في الآخر. وأخرج عبد بن حميد (¬8)، وابن جرير (¬9)، وأبو الشيخ (¬10) عن الربيع في الآية قلل: لا يدري أحدكم تلك الأحقاب، إلا أن الحقب الواحد ثمانون سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يوما، اليوم الواحد مقدار ألف سنة. وأخرج ابن جرير (¬11) عن بشير بن كعب في الآية قال: بلغني أن الحقب ثلاثمائة سنة، ¬

(¬1) في تفسير (10/ 3394). (¬2) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (8/ 394). (¬3) في تفسيره (2/ 342) (¬4) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (8/ 394). (¬5) قي جامع البيان (15/ج:30/ 11). (¬6) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (8/ 394) (¬7) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (8/ 394) (¬8) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (8/ 394) (¬9) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (8/ 394) (¬10) عزاه بليه السيوطي في الدر المنثور (8/ 394). (¬11) قي جامع البيان (15/ج:30/ 11)

كل سنة ثلاثمائة وستون يوما، كل يوم ألف سنة. وأخرج عبد الرزاق (¬1)، والفريابي (¬2)، وهناد (¬3)، وعبد بن حميد (¬4)، وابن جرير (¬5)، وابن المنذر (¬6) عن سالم بن أبي الجعد قال: سأل علي بن أبي طالب هلال الهجري: ما تجدون الحقب في كتاب الله؟ قال: نجده ثمانين سنة، كل سنة منها اثنا عشر شهرا، كل شهر [5أ/ب] أ ثلاثون يوما، كل يوم ألف سنة. وأخرج سعيد بن منصور (¬7)، والحاكم (¬8) وصححه عن ابن مسعود في الآية قال: الحقب الواحد ثمانون سنة. وأخرج البزار (¬9) عن أبي هريرة في الآية قال: الحقب الواحد ثمانون سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يوما، واليوم كألفي سنة مما تعدون. وأخرج عبد بن حميد (¬10) عن أبي هريرة أيضًا في الآية قال: الحقب ثمانون عاما، اليوم منها كسدس الدنيا. وأخرج بن عمر، العدني (¬11) في ................. ¬

(¬1) في تفسيره (2/ 342 - 343) (¬2) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (8/ 395) (¬3) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (8/ 395) (¬4) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (8/ 395) (¬5) في جامع البيان (15/ ج: 11/ 30). (¬6) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (8/ 395) (¬7) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (8/ 395). (¬8) في المستدرك (512/ 2) وقال: هذا حدث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. (¬9) قي مسنده (78/ 3 رقم 2278 - كشف) وأورده الهيتمي قي " المجمع " (33/ 17) وقال: " البزار وفيه حجاج بن نصير وثقة ابن حبان وقال: يخطئ ويهم، وضعفه جماعه وبقية رجاله ثقات. (¬10) عزاه إليه السيوطي (8/ 395). (¬11) في المخطوط بن أبي عمر والعدني.! والصواب ما أثبتناه من الدر المنثور.

مسنده (¬1)، وابن أبي حاتم (¬2)، والطبراني (¬3)، وأبن مردويه (¬4) قال السيوطي (¬5): بمسند ضعيف عن أبي أمامة عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- {لابثين فيها أحقابا} قال: الحقب ألف شهر، والشهر ثلاثون يوما، والسنة اثنا عشر شهرا، ثلاثمائة وستون يوما، كل يوم منها ألف سنة مما تعدون) [80أ] وأخرج البزار، وابن مردويه (¬6)، والديلمي (¬7) عن ابن عمر عن النبي- صلى الله عليه وآلة وسلم- قال: "والله لا يخرج من النار من دخلها، حتى يمكث فيها أحقابا والحقب بضع وثمانون سنة، كل سنة ثلاثمائة وستون يوما، واليوم ألف سنة مما تعدون" قال ابن عمر: فلا يتكلن أحد على أنه يحرج من النار. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: الحقب ثمانون سنة. وأخرج سعيد بن منصور (¬8)، وابن المنذر (¬9) عن عبد الله بن عمرو في قوله: لنثرر فيها أحقابا قال: الحقب الواحد ثمانون سنة. وأخرج ابن مردويه (¬10) عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله- صلى الله عليه ¬

(¬1) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (8/ 395) (¬2) قي تفسيره (10/ 3395 رقم19099) (¬3) تقدم انظر لفظه (¬4) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (8/ 395). (¬5) في الدر المنثور (8/ 395) (¬6) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (8/ 395). (¬7) في الفردوس. مأثور الخطاب رقم (7029) (¬8) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (8/ 395). (¬9) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (8/ 395). (¬10) عزاه إليه السيوطى في الدر المنثور (8/ 396).

واله وسلم-: "الحقب أربعون سنة ". وأخرج ابن جرير (¬1) عن خالد بن معدان في قوله: {لابثين فيها أحقابا} و [في] (¬2) قوله: {إلا ما شاء ربك} نهما في أهل التوحيد. فإن قلت: قد ذكرت ما وعدت به من كلام السلف في هذه المسألة بعد أن أجبت على كل جواب من جوابات الجمهور، وإذا كان ما أجاب به الجمهور عن هذه الآيات التي استدل القائلون بالفناء مدفوعا انتهت الدلالة، وصفت عن شوب الكدر. قلت: لكلم أن استدلال الجمهور على عدم تناهي العذاب للكفار. ممثل "خالدين فيها "، وبمثل (أبدا،، وبمثل الأدلة الدالة على تطويل محق العذاب كما في الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، لا يصح ولا يصلح لمعارضة ما في آية الأنعام (¬3)، وما في آية هود (¬4)، لأن المشيئة فيهما وقعت قيدا للخلود. ولا معارضة بين مطلق ومقيد، بل الواجب حمل المطلق على المقيد، ولا سيما إذا كان القيد متصلا بالمقيد (¬5) متحدا معه سببا ونزول كما صرح بذلك أهل الأصول في مباحث الإطلاق والتقييد، وصرحوا به أيضًا في مباحث العام والخاص، فإنهم جعلوا الاستثناء (6) من جملة التخصيص بالمخصصات المتصلة. وإذا تقرر ألك (¬6) هذا، وعرفته حق معرفته فلا يصار إلى شيء من تلك التأويلات [8ب] التي وقع بها التأويل لتلك الآيات إلا بدليل يوجب ذلك، ويلجئ إليه؛ فإن جاء ¬

(¬1) في جامع البيان (15/ج: 30/ 12). (¬2) زيادة من [أ] (¬3) الآية128 (¬4) (105 - 108). (¬5) انظر: الكوكب المنير (3/ 396) فإنه السول (2/ 140) (¬6) ذلك من [أ]

الدليل المقتضى لذلك وجب المصير إلى أفض تلك التأويلات. وقد جاء الدليل الدال على عدم خروج الكفار من النار بحال من الأحوال كمثل قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (¬1) فإن في هذه الآية الشريفة دليلين جليلين على عدم خروجهم (2) منها بحال من الأحوال. الأول: قوله: {وما هم بخرجين منها}، فإن هذا النفط المؤكد يفيد أنه لا خروج لهم منها، فلو فرض في وقت من الأوقات، أو حال من الأحوال أفم يخرجون منها لم يكن هذا في مطابقا للواقع، واللازم باطل بالإجماع فالملزوم [5ب/ب] مثله. وهكذا لو فرض أن النار نفسها تفئ فإنه يصدق عليهم أفم قد خرجوا منها، لأن مفارقتها خروج منها، وذلك يستلزم أن لا يكون هذا الخبر مطابقا للواقع، واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله. وأما الدليل الثاني من هذه الآية فقوله تعالى: {ولهم عذاب مقيم} (¬2) فإنه يدل على أن هذا العذاب مقيم عليهم، مستمر لهم، فلو خرجوا من النار في وقت من الأوقات، أو فنيت النار لم يكن عذابها مقيما عليهم. ومثل هذه الآية الآيات فيها العفو عنهم، والآيات التي فيها نفى المغفرة لهم، والآيات التي فيها استمرار غضب الله عليهم، ودوام سخطه، وهي كثيرة جدا في الكتاب العزيز فلو فرضنا في وقت من الأوقات أفم يخرجون من النار، أو أن [19] النار تفئ لكان ذلك مما يصدق عليه العفو والمغفرة، ومما يستفاد منه ارتفاع الغضب والسخي. وقد أخبرنا الله بأنه لا عفو عنهم، ولا مغفرة لهم، وأن غضبه مستمر عليهم، وسخطه دائم لهم، فيلزم عدم مطابقة الخبر للواقع، واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله. وهكذا يدل على ذلك الآيات التي فيها ¬

(¬1) المائدة:37 (¬2) المائدة:37

أنهم كلما اخرجوا (¬1) منها أعيدوا فيها، و {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها} (¬2)، وكلما استغاثوا (¬3) أغيثوا بكذا مما ذكره الله، فإن هذه الآيات تدل على أفم لا يزالون كذلك، ولا ينفكون عن هذه الأمور التي أثبتها الله لهم، ولو فرض ما زعمه القائلون بأنهم يخرجون من النار، أو أنها تفئ عنهم لكانت هذه الأخبار غير مطابقة للواقع، واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله. وبالجملة فلا نطيل بذكر الأدلة الدائمة على هذا المعنى، فمن تدبر آيات الكتاب العزيز وجد فيها مما يفيد هذا المفاد، ويدل هذه الدلالة ما تتعسر الإحاطه به، والاستيفاء لجمعيه. فإن قلت: إذا كان الأمر هكذا فما هو تأويل المرضي لديك لما في آية الأنعام (¬4) وآية هود (¬5). قلت: أقرب التأويلات وأظهرها وأحسنها أن يكون ما قبل الاستثناء في الآيتين المذكورتين شاملا لكل من يعذب بالنار من جاحد، وموحد ممن استحق دخول النار، وحقت عليه كلمة العذاب. ولا ينافي هذا التعميم كونهما في سياق الكفار، فقد يأتي بعض ما يكون في نمط خاص وأمر معين عاما [9ب] لذلك البعض وغيره، شاملا- المعين وما يناسبه. وهذا كثير في الكتاب العزيز، وشائع في لسان العرب. ولهذا كان الاعتبار بعموم الألفاظ (¬6) هود:114 (¬7) لا بخصوص الأسباب، كما هو مقر ر في مواطنه. وقد ثبت ¬

(¬1) قال سبحانه وتعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج: 22]. وقال سبحانه وتعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: 20] (¬2) النساء:56 (¬3) قال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف:29] (¬4) [128] (¬5) [105 - 108] (¬6) العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ويريدون هذه العبارة، أن العام يبقى على عمومه وإن كان وروده بسبب خاص كسؤال أو واقعة معينة. لعبرة بالنصوص وما اشتملت عليه من أحكام، وليست العبرة بالأسباب إلى دعت إلى مجيء هذه النصوص. فهذا جاء النص بصيغة عامة لزم العمل بعمومه، دون الالتمات إلى السبب الذي جاء النص العام من أجله سؤالا كان هذا السب أو واقعة حدثت لأر مجيء بصيغة العموم، يعني أد الشارع أراد أن يكون حكمه عاما لا خاصا بسببه، وهذا مذهب الحنابلة والحنفية وغيرهم. ودليلهم على دلك الحديث الصحيح عن ابن مسعود صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أن رجلا أصاب من امرأة قبلة "، فأتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر ذلك له. فأنزلت عليه: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (¬7) قال الرجل: ألي هذه؟ قال: " لمن عمل ها من أمتي "

تواترا عن الرسول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه لا يبقى في النار (¬1) إلا من حب! سه القرآن من الكفار، فكان من عداهم من أهل التوحيد بخلافهم، فيكون الاستثناء في الآيتين متوجها إلى أهل التوحيد، فإنهم بعض من كله المستثنى منه. وأما التعبير بلفظ ما في الآيتين عن العقلاء وهي لغير (¬2) العقلاء فهذا وإن كان هو الأعم الأغلب لكنه قد ورد ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (7440) من حديث أنس. (¬2) قال القرطبي في "الجامع لأحكام القران " (9/ 99): وإنما لم يقل من شاء لأن المراد العدد لا الأشخاص كقوله: {ما طاب لكم} [النساء: 3]. وقال صاحب الدر المصون (5/ 151): "وما" هنا بمعنى (من) التي للعقلاء وساغ وقوعها هنا لأن المراد بالمستثنى نوع وصنف، و (ما) تقع على أنواع من يعقل وقال صاحب الدر المصون (3/ 561 - 562): ما طاب في ما هذه أوجه أحدهما: أنها. بمعنى الذي، وذلك عند من يرى أن (ما) تكود للعاقل. وهي مسألة مشهورة الثاني: أنها نكرة موصوفة. انكحوا جنسا طيبا أو عددا طيبا. الثالث: أنها مصدرية. الرابع: أنها ظرفية تستلزم المصدرية. ثم تابع كلامه فقال وقرأ ابن أبي عبلة " س طاب " وهو مرجح كون (ما)، معنى الذي للعاقل

كثيرا التعبير بأحد الحرفين عن الآخر في مواضع (¬1) من كتاب الله، وفي كثير من كلام الفصحاء، وكان هذا محمولا عليه، لا سيما إذا ألجأ إلى ذلك الدليل الصحيح، فإن المصير إليه متعين، والقول به متحتم على أنه لو كان في تلك التأويلات ما هو أقرب منه إلى الصواب لكان المصير إليه أولى، والقول به أحق، لكنه أقر ها وأظهرها. ومن وجد غيره أولى منه بالمصير إليه فلا حجر عليه، فليس المراد إلا الجمع بين ما يظهر فيه التعارض من آيات الكتاب العزيز، ومما يؤيد وجوب المصير إلى الجمع. ممثل ما ذكر له أن هذه المشيئة [6أ/ب] التي وقعت بعد الأشقياء قد وقعت بعد السعداء كما في سورة هود، وإجماع المسلمين على تأويلها في جانب السعداء يقوي تأويلها في جانب الأشقياء. فإن قلت: فما تقول فيما قدمته عن السلف الصالح، فإن بعضهم قد صرح. مما قالت به هذه الطائفة القائلة بفناء النار، وانقطاع العذاب عن أهلها؟. قلت: قد عرفناك أنه لم يصح عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- شيء في ذلك. وأما ما روي عن بعض الصحابة فقد قالوا. مما فهموه من التقييد بالمشيئة، وليس ذلك حجة على غيرهم. وأيضا قد خالف هذا البعض من الصحابة بعض آخر فقالوا بالتأويل لتلك المشيئة، فلو كان قول البعض منهم يجب المصير إليه لكان قول البعض الآخر كذلك، فيستلزم القول بالشيء ونقيضه، وهو باطل، وما استلزم الباطل باطل مثله. وهكذا قول من بعدهم من التابعين وتابعيهم، وسائر الأئمة لا حجة في ذلك على أحد من الناس، ولا سيما وقد خالفهم الجمهور الكبير، والسواد الأعظم. وعلى كل حال فالموافق للدليل الحق هو الأسعد بالحق، سواء وافقه غيره أو خالفه، فلا اعتبار بغير الدليل. وإذا عرفت هذا الجمع بالنسبة إلى ما في سورة الأنعام وسورة هود فهكذا ما في سورة عم، فإنه يجعل ذلك خاصا. ممن عقابه متناه كما سلف، أو يقال: إنه مقيد. مما ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة.

بعده وهو: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا} (¬1) على حسب ما سبق تقريره، ويكون المسوغ لهذا مع احتماله هو الدليل الموجب للمصير إلى أحد الاحتمالين كما سلف. ومما يقوي هذا المسلك الذي سلكناه ويرجحه هو ما تقرر بإجماع أهل النظر أن الجمع مقدم [10ب] على الترجيح، وأن إعمال الأدلة جميعها أولى من إهمال بعضها. وقد أفرد جماعة من متأخر العلماء هذه المسألة بالتصنيف، ولم نقف عند تحرير هذا الجواب على شيء من ذلك، فمن وجد فيها غير ما أوردناه هاهنا فليعط النظر حقه، ويستعمل من الإنصاف ما لا بد منه، ويذهب إلى ما يرجحه. ولكنا لم نقف على شيء يصلح للتمسك به غير ما قد حررناه، وحسبنا الله، ونعم الوكيل. حرره جامعه محمد بن علي الشوكاني- غفر الله لهما-[11أ] أقد كانت مقابلي والولد الأبر التقي حسين بن أحمد بن محمد بن محمد ابن زباره لهذه النسخة على الأم المنقولة منها في ليلة ثلاثين غرة شعبان سنة 1370 سبعين وثلاثمائة وألف بصنعاء اليمن. والحمد لله رب العالمين. محمد بن محمد بن يحي زباره (¬2) ¬

(¬1) النبأ:24 (¬2) زيادة من [ب] خلاصة: الإيمان بأن أهل الجنة خالدون فيها أبدا، وأد اهل النار من الكفار والمنافقين خالدون فيها أبدا. انقسم الناس في هذه المسألة إلى ثلاثة أقسام:- 1 - القائلون بأن الجنة والنار دائمتان لا تفنيان ولا تبيدان، وهذا قول الجمهور من الأئمة من السلف والخلف، وهو الراجح الذي يدل عليه الكتاب والسنة وأقوال الأئمة. الأدلة من الكتاب: قال تعالى: {خالدين فيها أبدا} الأحزاب:65. فقد أخبر عن أبديتهم. وفى تعالى خرجهم منها: {وما هم بخراجين من النار} البقرة: 167. ونفى تعالى انقطاعها عنهم: {وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36] وقوله تعالى: {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} لزخرف: 175. ونفط سبحانه وتعالى فناءهم فيها: {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} [الأعلى:13] وقوله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] فقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات وأمثالها أن أهل النار الذين هم أهلها خلقت لهم وخلقوا لها وأنهم خالدون فيها أبد الآبدين ودهر الداهرين. لا فكاك لهم منها ولا خلاص. ولات حين مناص انظر: معارج القبول (3/ 1542 - بتحقيقنا). الأدلة من السنة: 1/ ما أخرجه البخاري رقم (4730) ومسلم في صحيحة رقم (40/ 2849) من حديث أبي سعيد الخدري خب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح، المحيادي مناد يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادي: يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت وكلهم قد رآه فيذبح ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت- ويا أهل خلود فلا موت، ثم قرأ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} مريم: 139. . وأخرج مسلم في صحيحة رقم (42/ 2850) من حديث ابن عمر قال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يدخل الله أهل الجنة وأهل النار، ثم يقوم مؤذن بينهم فيقول: يأهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت، كل خالد فيما هو فيه ". وأخرجه البخاري في صحيحة رقم (6548) من حديث ابن عمر دون قوله (كل خالد ... ). وأخرجه البخاري رقم (6548) ومسلم رقم (43/ 2850) من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا صار أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار ثم يذبح، ثم ينادي مناد: يأهل الجنة لا موت، ويأهل النار لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم. 2/ القائلون بفناء الجنة والنار: وهذا قول الجهم بن صفوان، إمام المعطلة- وأتباعه، وقد أنكر عليه هذا القول وكفروه به قال شارح العقيدة الطحاوية (ص: 480): وقال بفناء الجنة والمار الجهم بن صفوان- إمام المعطلة- وليس له سلف قط، لا مر الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا من أئمة المسلمين، ولا من أهل السنة، وأنكره عليه عامة أهل السنة، وكفروه له، وصاحوا به ولإتمامه من أقطار الأرض. وهدا قاله لأصله الفاسد الذي اعتقده، وهو إمتاع وجود ما لا يتناهى من الحوادث وهو عمدة أهل الكلام المذموم. التي استدلوا على حدوث الأجسام، وحدوث ما يخل من الحوادث، وجعلوا دلك عمدهم حدوث العالم القائلون بفناء النار دون الجنة: قال شعار الطحاوية (ص: 483 - 484): أما ألدية النار ودوامها للناس في ذلك ثمانية أقوال: أحدها: أن من حلها لا يحرج منها أبد الآباد وهدا قول الخوارج والمعتزلة. الثاني: أن أهلها يعذبون فيها، ثم تقلب طبيعتهم وتبقى طبيعة المارية يتلذذون جما لموافقتها لطبعهم وهذا فول إمام الاتحادية ابن عربي الطائي. الثالث: أن أهلها يعذبون فيها إلى وقت محدود، ثم يخرجون سها، ويحلفهم فيها قوم آخرون وهذا القول حكاه اليهود للبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأكد فيه، وقد أكد بم الله تعالى فقال عر من قائل: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} الرابع: يخرجون منها، وتبقى حالها ليس فيها أحد. الخامس: أنها تفئ بنفسها، لأنها حادثة وما تبت حدوثه استحال بقاؤه وهذا قول الجهم وشيعته ولا فرق عنده في ذلك بين الجنة والمار. السادس: تفي حركات أهلها ويصيرون جمادا، لا يحسون بألم، وهذا قول أبي الهذيل العلاف: السابع: أن الله يخرج منها من يشاء كما ورد في الحديث تم يبقيها شيئا، ثم يفنيها فإنه جعل لها أمدا تنتهي إليه ومن أدلتهم قوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:128] وقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:106] ولم يأت بعد هذين الاستثناءين ما أتى بعد الاستثناء المذكور لأهل الجنة وهو قوله تعالى: {عطاء غير مجذوذ}، هود: 108. وقوله تعالى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23] الثامن: أن الله تعالى يخرج منها من شاء كما ورد في السنة، ويبقى فيها الكفار بقاء لا انقضاء وقد تقدم ذكر الآيات التي تثر إلى ذلك قال تعالى: {ولهم عذاب مقيم} المائدة: 37) وقوله تعالى: {خالدين فيها أبدا} [البينة: 8]. وتلك الأقوال كلها ظاهرة البطلان ما عدا [السابع والثامن]. انظر: شرح العقيدة الطحاوية (ص: 480 - 484). معارج القبول (3/ 1040 - 1046) بتحقيقنا. الشريعة للأجر كما (3/ 1371 - 1382)

إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي صلى الله عليه وسلم

إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تأليف محمد بن علي الشوكاني "ت: 1250هـ" حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط (أ) 1 - عنوان الرسالة: " إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" 2 - موضوع الرسالة: موقف أهل البيت من صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي أرشدنا إلى الدعاء للسلف الصاع بقوله: " والذين جاعوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين أمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم " والصلاة والسلام .... 4 - آخر الرسالة: ". وليس علينا إلا القيام بعهدة البيان للناس الذي أوجبه الله ورسوله علينا ليهلك من هلك عن بينة. اللهم ارشد الخاصين من عبادك والعائم، واسلك بنا سبل السلام إلى دار السلام " انتهى. 5 - نوع الحط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الأوراق: 8 ثمانية. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 24 - 25 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر:11 - 13 كلمة. 9 - الناسخ: محمد علي المنصور.

وصف المخطوط (ب) عنوان الرسالة: " إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". موضوع الرسالة: موقف أهل البيت من صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذمي أرشدنا إلى الدعاء للسلف الصاع بقوله: " والذين جاعوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم " والصلاة والسلام على حبيبه المصطفى ... ". آخر الرسالة: وليس علينا إلا القيام بعمدة البيان للناس الذي أوجبه الله ورسله علينا ليهلك من هلك عن بينة. اللهم ارشد الخاص من عبادك والعام، واسلك بنا سبل السلام إلى دار السلام. نوع الحط: خط نسخط جيد. عدد الصفحات: 13 صفحة. عدد الأسطر في الصفحة: 26 - 27 سطرا. عدد الكلمات لي السطر: 3 ا-14 كدمة.

بين يدي الرسالة: 1 - الصحابة كلهم عدول: ا- قال الحافظ ابن حجر: " اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة ". الإصابة (1/ 10). 2 - قال الخطيب في الكفاية ص 46 - 47: " عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم واختباره لهم في نص القرآن ". 3 - قال ابن عبد البر في الاستيعاب (1/ 2) " ثبت عدالة جميعهم بثناء الله عز وجل عليهم وثناء رسوله عليه السلام، ولا أعدل ممن ارتضاه الله لصحبة نبيه ونصرته ولا تزكية أفضل من ذلك ولا تعديل أكمل منه ". 4 - قال ابن الصلاح في مقدمته: " للصحابة بأسرهم خصصه وهي أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم بل ذلك مفروع منه لكونهم على الإطلاق معدلين بنصوص الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به في الاجماع من الأمة ". 2 - موقف أهل السنة هن المطالب التي تنقل عن الصحابة: قال ابن تيمية في منهاج السنة (5/ 81 - 84): أن ما ينقل عن الصحابة من المثالب فهو نوعان. أحدها: ما هو كذب، إما كذب كله، وإما محرف قد دخله من الزيادة والنقصان ما يخرجه إلى الذم والطعن. وأكثر المنقول من المطاعن الصريحة هو من هذا الباب يرويها الكذابون المعروفون بالكذب مثل أبي مخرف لوط بن يحيى، هشام بن محمد بن السائبة الكلبي- لهذا تستشهد الروافض. مما صنفه هشام الكلي في ذلك وهو أكذب الناس وهو شيعي يروى عن أبيه وعن أبي خنف. - انظر ما كتبه محب الدين الخطيب- عن الكلبي- في المنتقى ص 318 - 319.

الثاني: ما هو صدق. وأكثر هذه الأمور لهم فيها معاذير تخرجها عن أن تكون ذنوبا وتجعلها من موارد الاجتهاد، التي إن أصاب المجتهد فيها فله أجران وإن أخطأ فله أجر. وعامة المنقول الثابت عن الخلفاء الراشدين من هذا الباب. وما قدر من هذه الأمور ذنبا محققا فإن ذلك لا يقدح فيما علم من فضائلهم وسوابقهم وكونهم من أهل الجنة لأن الذنب المحقق يرتفع عقابه في الآخرة بأسباب متعددة: 1) التوبة الماحية. 2) الحسنات الماحية للذنوب، فإن الحسنات يذهبن السيئات. وقد قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]. 3) المصائب المكفرة. 4) ومنها دعاء المؤمنين بعضهم لبعض، وشفاعة نبيهم، فما من سبب يسقط به الذم والعقاب عن أحد من الأمة إلا والصحابة أحق بذلك، فهم أحق بكل مدح، ونفى كل ذم ممن بعدهم من الأمة. . ونحن نذكر قاعدة جامعة في هذا الباب لهم ولسائر الأمة فنقول: لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات وجهل وظلم في الكليات فيتولد فساد عظيم. 3 - حكم من سب الصحابة: أجمع العلماء القائلون بعدم تكفير ساب الصحابة على أن سبهم فسق، مع الأخذ بالأمور التالية: أ) القول بتكفير من يطعن فيهم ويعتقد كفرهم هو الصحيح.

قال علي القاري في " شم العوارض في ذم الروافض " (ص 61 - 62) " وأما من سب أحدا من الصحابة، فهو فاسق ومبتدع بالإجماع، إلا إذا اعتقد أنه مباح. كما عليه بعض الشيعة وأصحابهم، أو يترتب عليه ثواب كما هو دأب كلامهم، أو اعتقد كفر الصحابة وأهل السنة في فصل خطاهم، فإنه كافر بالإجماع ولا يلتفت إلى خلاف مخالفتهم في مقام النزاع ". وانظر: الصارم المسلول (3/ 1109 - 1110). 2) القول بتكفير من يطعن في جميع الصحابة لا محيد عنه، بل هو من لمات إذ إنه يؤدي إلى إبطال الشريعة، ومحال أن تركن النفوس وتطمئن إلى شريعة نقلها ضلال: كفرة أو فسقة! ومن هنا جزم العلماء بتكفير الكميلية الرافضة لتضليلهم جميع الصحابة وتكفيرهم. فتاوى السبكط (2/ 575)، الصواعق المحرقة (1/ 128)، الصارم المسلول (3/ 111). وقال القاضي عياض في الشفا (286/ 2): وكذلك نقطع بتكفير كل قائل قولا يتوصل به إلى تضليل الأمة وتكفير جميع الصحابة، كقول الكميلية من الرافضة بتكفير جميع الأمي بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ لم تقدم عليا، وكفرت عليا إذ لم يتقدم ويطلب حقه في التقدم. 3) إن من صادم نصا صريحا وأنكر دليلا قاطعا، فلا ريب في كفره وضلاله ومن هذا المنطلق ذهب العلماء إلى تكفير من قذف السيدة عائشة أم المؤمنين فقد روى عن مالك: " من سب أبا بكر جلد ومن سب عائشة قتل، قيل له قال: من رماها فقد خالف القران وقال ابن شعبان عنه: لأن الله يقول: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} النور: 17] فمن عاد لمثله فقد كفر. الشفا لعلي القاري (2/ 1108).

4 - ) أن من سب أحدا من الصحابة من حيث إنه صحابي، فلا شك أن في ذلك تعريضا بسب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإيذاء له، يخرج به السالب من الدين وانتقاص له، وحط من مكانته- عليه الصلاة والسلام- لأنهم أصحابه الذين رباهم وزكاهم وذكرهم بخير وأوصى هم خيرا. ومعلوم أن إيذاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيكون سب أصحابه كفرا. انظر الصارم المسلول (3/ 1112)، الشفا (4/ 564) لعلي القاري، فتاوى السبكي (2/ 575). والخلاصة: أن القول بعدم تكفير من سب الصحابة- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس على إطلاقه، وإنما هو مشروط بعدم مصادمة النصوص الصريحة من الكتاب والسنة الصحيحة، وعدم إنكارها هو معلوم من الدين بالضرورة وعلى هذا يحمل كلام من أطلق القول بعدم التكفير. وانظر: تنبيه الولاة والحكام (1/ 367). لمعة الاعتقاد (ص 28). تنبيه هام: إن أكثر التراجم في كتاب (أعلام المؤلفين الزيدية) وكتاب (مؤلفات الزيدية) ينصر أصحابها الاعتزال ولم يتسع المجال لبيان عقيدة من أترجم لهم من هذين الكتابين، فلزم التنبيه والتحذير.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أرشدنا إلى الدعاء للسلف الصالح بقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (¬1) والصلاة والسلام على حبيبه المصطفى، الذي قال: لا تسبوا أصحابي، فوائدي نفسي بيده؟ لو أن أحدكم أنفق مثل جبل ذهبا؟ ما بلغ مد أحمم ولا نصفه " (¬2). وعلى آله الذين صح إجماعهم من طرق كثيرة (¬3) على تعظيم الصحابة. وبعد: فإنها لما خفيت على غالب أهل الزمان مذاهب أئمة لآل، وجهلت مصنفاتهم التي تقطع في الرحلة إلى مثلها أكباد الإبل فلم يبق بأيدي أهل عصرنا من أتباعهم غير القيل والقال، فلا تكاد ترى إلا رجلا قد رغب عن جميع أصناف العلوم، وهجر- لخسة همته ودناءة نفسه- الاشتغال. منطوقها (¬4) والمفهوم (¬5)، أو آخر هجر من علوم العترة المطهرة الحديث والقدم، واشتغل بعض الاشتغال بعلوم غيرهم، فلم يفرق بمن الصحيح والسقيم أو رجلا ينتحل إتباعهم والانتساب إلى مذاهبهم ولكنه قد قنع من البحر المتدفق ¬

(¬1) الحشر:10 (¬2) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (3673) ومسلم في صحيحة رقم (2540) من حديث أبي سعيد الخدري. (¬3) انظر: الصارم المسلول على شاتم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن تيميه (3/ 1067 - 1072) والصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي (2/ 609 - 615). (¬4) المنطوق: هو المعنى المستفاد من اللفظ من حيث النطق له. (¬5) المفهوم: هو المعنى المستفاد من حيث السكوت اللازم للفظ انظر الكوكب المنير (3/ 473) وتيسير التحرير (1/ 91)

بقطرة، وقصر همه على الاشتغال، بمختصر من مختصرات كتبهم فلم يحظ من غيره بنظرة، فحصل بسبب ذلك الخبط والخلط من الجم الغفير، ونسب إلى أهل البيت من المسائل ما يخالف قول كبيرهم والصغير. وكان من جملة ذلك مسألة تعظيم القرابة للصحابة، فإن كثيرا من الغافلين عن العلوم يتجاري على ثلث أعراض جماعة من أبر خير القرون (¬1)، فإذا عوتب في ذلك قال: هذا مذهب أمل البيت وذلك فرية، صانهم الله، فإنهم عند من له أدنى إلمام. مذاهبهم مبرؤون عن هذه الخصلة الشنيعة. فأحببت بيان مذاهبهم في هذه المسألة بخصوصها؟ لأنها هي التي ورد فيها السؤال من بعض أهل العلم، ليستدل بذلك على صحة ما ذكرنا من اندراس معاهد علومهم الشريفة في هذه الأزمنة. وقد اقتصرت على مقدار يسير من نصوصهم، لأن الإكثار من دواعي الإملال، ولم اشتغل بإيراد الأداة، لأن غرض السائل ليس إلا بيان ما يذهبون إليه في ذلك، فأقول. قد ثبت إجماع الأئمة من أهل البيت على تحريم سب الصحابة، وتحريم التكفير ¬

(¬1) أخرج البخاري في صحيحة رقم (2652) ومسلم رقم (2533) من حديث عبد الله بن مسعود. رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: خير الناس قربى، ثم الذين يلوهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته. وأخرج مسلم في صحيحة رقم (2534) من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خر أمتي القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم ". والله وأعلم أذكر الثالث أما لا قال: " ثم يخلف قوم يحبون السمانة. يشهون قبل أن يستشهدوا ". وأخرج مسلم في صحيحة رقم (2536) عن عائشة قالت: سأل رجل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي الناس خير؟ قال: " القرن الذي أنا فيه ثم الثاني، ثم الثالث ". وأخرجه البخاري رقم (2651) ومسلم رقم (2535) من حديث عمران بن حصين بلفظ " خيركم

والتفسيق (¬1) لأحد منهم، إلا من اشتهر. مخالفته الدين، والمعاندة لسنة سيد المرسلين، فإن الصحبة ليست. موجبة لعصمة من اتصف ها. على ما ذهب إليه الجمهور، بل هو إجماع كما حققناه، ذلك في الرسالة المسماة" القول المقبول في رد رواية المجهول من غير صحابة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬2) وهذا الإجماع الذي قدمنا ذكره عن أهل البيت مروي من طرق ثابتة عن جماعة من أكابرهم: الطريق الأول: عن الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسن (¬3) الهاروني، فإنه روى عن جميع آبائه من أئمة الآل تحريم سب الصحابة. حكى ذلك عنه صاحب حواشي الفصول. الطريقة الثانية: قال المنصور بالله عبد الله بن حمزة (¬4) في رسالته في جواب المسألة التهامية (¬5) بعد ¬

(¬1) سيأتي ذكر ذلك والدليل عليه. (¬2) وهى ضمن كتابنا هذا "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني بتحقيقنا " في القسم الثالث- الحديث. (¬3) هو أحمد بن الحسين بن هارون القطع من أبناء زيد بن الحسن العلوي الطالي القرشي. من أهل طبرستان ولد بأمل سنة 333 هـ/ 945 م لقب بالسيد المؤيد بالله. له مصنفات منها الآمال، "التجريد" لا علم الأثر وشرحه في أربعة مجلدات. توفي سنة 421 هـ الأعلام (1/ 116) (¬4) عبد الله بن حمزة الحسني اليمني إمام مجتهد، مجاهد مجدد 5611 - 614 هـ له مصنفات: حديقة الحكمة النبوية في شرح الأربعين السيلقية الاختبارات المنصورية في المسائل الفقهية/ الأجوبة الكافية بالأدلة الوافية. انظر: أعلام المؤلفين الزيدية (ص: 578 رقم 592). (¬5) الرسالة الأمامية في الرد على المسائل التهامية. أجاب فيها على أسئلة وردت من الفقيه

أن ذكر تحريم سب الصحابة- ما لفظه: " وهذا ما يقضى به علم آبائنا إلى على عليه السلام (¬1) ثم قال فيها ما لفظه: " وفي الجهة من يرى محض الولاء سب الصحابة رضي الله عنهم والبراعق منهم، فيتبرأ من محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ من حيث لا يعلم: فإن كنت لا أرمي وترمي كناني ... تصب جانحات النبل كشحي ومنكي انتهى. قال في الترجمان (¬2) عند شرح قوله في الصحابة: ورضي عنهم كما رضي أبو حسن ... أوقف عن السب إما كنت ذا حذر ما لفطة: " قال المنصور بالله عبد الله بن حمزة: ولا يمكن أحدا أن يصحح دعواه على أحد من سلفنا الصاع أفم نالوا من المشايخ أو سبوهم، بل يعتقدون فيهم أفم خير الخلق بعد محمد وعلي وفاطمة (¬3) صلوات الله عليهم وسلامه، ويقولون: قد أخطئوا ¬

(¬1) قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد في " المناهي اللفطية " (ص: 349 - 350). وقد غلب هذا على كثير من النساخ للكتب أن يفرد على-رضي الله عنه- بأن يقال: عليه السلام. من دون سائر الصحابة أو كرم الله وجهة. هذا وإن كان معناه صحيحا لكن ينبغي أن يسوى بين التعظيم والتكريم، فالشيخان وأمر المؤمنين عثمان أولى بذلك منه- رضي الله عنهم أجمعين. (¬2) لعله الترجمان المفتح لثمرات كمائم البستان من مؤلفات الزيدية مؤلفه محمد بن أحمد بن يحي بن أحمد ابن علي من اليمنى الحميري فقيه عالم. والترجمان- منه أربع نسخ في الغربية رقم 59، 60 (تاريخ). شرحه على كتابه " البستان " بذكر علل مسألة وأدلتها وفي أوله قسم كبير مما يتعلق بالأسانيد بعض التواريخ وأحوال الرجال. مؤلفات الزيدية (1/ 282) وأعلام المؤلفين الزيدية (ص 855). (¬3) الصلاة والسلام على غير الأنبياء- تبعا أو استقلالا- أما على سبيل التبعية فهي جائزة بالإجماع كما في صيغ الصلاة الإبراهيمية وإنما الخلاف على سبيل الانفراد فهذا فيه نزاع على قولن فالجمهور منهم الثلاثة. على عدم الجواز ولهم في ذلك ثلاثة أوجه: أحدها: أنه منع تحريم. والثاني: قول الأكثرين، أنه منع كراهه تنزيه. والثالث: انه من باب ترك الأولى وليس مكروه، ذكره النووي في الأذكار (1/ 328). وانظر جلاء الافهام ص: 638 - 639. والصحيح الذي عليه الأكثرون أنه مكروه كراهه تنزيه، لأنه شعار أهل البدع وقد فينا عن شعارهم انظر المناهي اللفظية (ص: 349) وانظر فتح الباري (8/ 534)

التقدم وعصوا معصية لا يعلم قدرها إلا الله سبحانه، والخطأ لا يبرا منه [1ب] إلا الله تعالى وقد عصى آدم ربه فغوى، فإن حاسبهم الله فبذنب فعلوه وإن عفا عنهم، فهو أهل العفو، وهم يستحقونه بحميد سوابقهم " انتهى. . الطريقة الثالثة: قال المؤيد بالله يحط بن حمزة (¬1) حمزة عليه السلام في آخر " التصفية" (¬2) ما لفظه: ¬

(¬1) هو الإمام المؤيد بالله يحط بن حمزة بن علي بن إبراهيم، أحد أعلام الفكر الإسلامي اليمني كان مولده بصنعاء 27 صفر منة 969 هـ. وصحب الإمام المتوكل على الله المطهر بن يجيء في حربه. توفي في حصن هران قبلي ذمار سنة 450 هـ م. من مصنفاته: الإفحام لأفئدة الباطنية الطعام، الانتصار الجامع لمذاهب علماء الأمصار، التحقيق في الإكفار والتفسيق. انظر: أعلام المؤلفين الزيدية (ص: 1124). البدر الطالع (2/ 331) "الأعلام" (8/ 143 - 144). (¬2) التصفية: تصفية القلوب عن درن الأوزار والذنوب. تأليف الإمام المؤيد في بن حمزة أبو مجلد يتناول الأخلاق الفاصلة والأوصاف الحميدة التي لابد للمسلم أن يتحلى ها. وهو مرتب قي عشر مقالات. مؤلفات الزيدية: (ص: 291). قال صاحب أعلام المؤلفين الزيدية (ص: 1126): طبع مرارا ونسخه الخطية كثيرة. وطبع بتحقيق الدكتور/حسن محمد مقبولي الأهدل/ مكتبة الجيل الجديد/ صنعاء

تنبيه (¬1): اعلم أن القول في الصحابة على فريقين: القول الأول: مصرحون بالترحم عليهم والترضية، وهذا هو المشهور عن أمير المؤمنين، وعن زيد بن علي، وجعفر الصادق، والناصر للحق، والمؤيد بالله، فهؤلاء مصرحون بالترضية والترحم والموالاة، وهذا هو المختار عندنا، ودللنا عليه، وذكرنا أن الإسلام مقطوع به لا محالة، وعروض ما عرض من الخطأ في مخالفة النصوص ليس فيه إلا الخطأ لا غير، وأما كونه كفرا أو فسقا، فلم تدل عليه دلالة شرعية، فلهذا البطل القول به، فهذا هو الذي نختاره ونرتضيه مذهبا، ونحب أن نلقى الله به ونحن عليه. والفريق الثماني متوقفون عن الترضية والترحم، وعن القول بالتكفير والتفسيق، وهذا دل عليه كلام القاسم والهادي وأولادهما، وإليه يشير كلام المنصور بالله، فهؤلاء يحكمون بالخطأ، ويقطعون به، ويتوقفون في حكمه. فأما القول بالتكفير والتفسيق في حق الصحابة فلم يؤثر عن أحد من أكابر أهل البيت عليهم السلام وأفاضلهم، كما حكيناه وقررناه، وهو مردود على ناقله " انتهى. وقال الإمام يحط بين حمزة في رسالته " الوازعة للمعتدين (¬2) عن سب أصحاب سيد المرسلين - بعد أن حكى عن أهل البيت أنهم لم يكفروا ولم يفسقوا من لم يقل بإمامة أمير المؤمنين، أو تخفف عنه، أو تقدمه- ما لفظه: " ثم إن لهم بعد القطع بعدم التكفير والتفسيق مذهبين: الأول: مذهب من صرح بالترحم والترضية عنهم، وهذا هو المشهور عن علما، وزيد بن على، وجعفر الصادق، والباقر، والناصر، والمؤيد بالله، وغيرهم، وهو المختار عندنا ". ثم قال (¬3): ¬

(¬1) (ص 185). (¬2) (ص 185). (¬3) أي الإمام يحي بن حمزة في الرسالة الوازعة للمعتدين "ص: 185"

المذهب الثاني: من توقف عن الترضية والترحم والإكفار؟ التفسيق، وإلى هذا يشير كلام القاسم، والهادي، وأولادهما، والمنصور بالله، لأنهم قطعوا على الخطأ، ولم يدل دليل على عصمتهم بم فيكون الخطأ صغيرة في حقهم، وجاز أن يكون خطؤهم كبيرة فلذلك توقفوا عن الجهر بالترضية ". . قال (¬1): " ويقابله ألا قاطعون على إيمانهم قبل هذه المعصية، فنستصحب الأصل، ولا ننتزع عنه إلا لدلالة قاطعة تدل على كفر أو فسق" قال (¬2): وما روي عن المنصور بالله أنه قال: من رض عنهم فلا تصلوا خلفه (¬3)، ومن سبهم فاسألوه: ما الدليل؟ فالرواية المشهورة: من سبهم فلا تصلوا خلفه، ومن رضي عنهم فاسألوه: ما الدليل (¬4)؟ ". ¬

(¬1) " أي الإمام يحي بن حمزة في الرسالة" الوازعة للمعتدين (ص: 192). (¬2) " أي الإمام يحي بن حمزة في الرسالة" الوازعة للمعتدين (ص: 192). (¬3) المرجع السابق (ص: 195). (¬4) الدليل من قول الله وقول رسوله: قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74] وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18]

"واعلم أن القائلين بالترضية على الصحابة من أهل البيت هم: أمر المؤمنين، والحسن، والحسين، وزين العابدين علي بن الحسن، والباقر، والصادق، وعبد الله بن الحسن، ومحمد بن عبد الله النفس الزكية، وإدريس بن عبد الله، وزيد بن علي، وكافة القدماء من أهل البيت. ومن المتأخرين: سادة الجبل والديلم: المؤيد بالله، وصنوه أبو طالب، والناصر الحسن بن علي الأطروش، والإمام الموفق بالله، وولده السيد المرشد بالله، والإمام يحيى ابن حمزة. ومن المتأخرين باليمن: الإمام المهدي أحمد بن يحط، والسيد محمد بن إبراهيم وصنوه الهادي، والإمام أحمد بن الحسن، والإمام عز الدين بن الحسن، الحسن ابن عز الدين، والإمام شرف الدين، وغيرهم. وسائر الأئمة يتوقف: كالهادي، والقاسم، مع أن في رواية الهادي الترضية. والمنصور بالله عبد الله (¬1) بن حمزة له قولان: التوقف، في كتابه الشافي (¬2). والترضية كما في " الجوابات التهامية (¬3). ¬

(¬1) عبد الله بن حمزة الحسني اليمني الإمام المنصور بالله- إمام مجتهد، مجاهد. (361 هـ- 614 هـ) له مصنفات كثيرة أعلام المؤلفين الزيدية (ص: 578) وقد تقدم. (¬2) الشافي: تأليف: الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة الحسني اليمني. (614). رد على كتاب " الرسالة الخارقة " للفقيه عبد الرحيم بن أبى القبائل المتوفى سنة 616 هـ وهو في أربع مجلدات. طبع مؤسسة الأعلمي في بيروت 1406 هـ في أربعة أجزاء. مؤلفات الزيدية. (ص: 121 - 122). (¬3) تقدم التعليق عليها.

وكثير منهم لا حاجة بنا إلى تعداد أعيانهم، لأنه يكفي في ذلك القول الجملي بأن أئمة أهل البيت كافة بين متوقف ومترض، لا يرى أحد منهم السب للصحابة أصلا، يعرف ذلك من عرف " انتهى بلفظه. الطريقة الرابعة: حكى السيد الهادي بن إبراهيم (¬1) الوزير في كتابه المعروف بـ"تلقيح الألباب" (¬2): أنه سئل الإمام ناصر (¬3) محمد بن على المعروف بصلاح الدين عن المتقدمين لأمر المؤمنين وسائر من خالفه؟ فأجاب: "بأن مذهب الزيدية القول بالتغطية لمن تقدم أمير المؤمنين [2ب]. قال: " وهؤلاء فرقتان: فرقة تقول باحتمال الخطأ، ويتوقفون في أمرهم، وفرقة يتولونهم، ويقولون: إن خطأهم مغتفر في جنب مناقبهم وأعمالهم وجهادهم ¬

(¬1) الهادي بن إبراهيم بن علي الوزير أحد أعلام الفكر الإسلامي في اليمن وعلماء الزيدية (7581 - 822) منها توفى في عيد الأضحى. كلدينة ذمار. له مصنفات: درة الغواص في نظم خلاصة الرصاص. رياض الأبصار في ذكر الأئمة الأقمار. هداية الراغبين إلى مذهب العترة الطاهرين. انظر: أعلام المؤلفين الزيدية (ص 1069)، الضوء اللامع (10/ 206)، الأعلام (8/ 58)، والبدر الطالع (2/ 506). (¬2) تلقيح الألباب في شرح ألباب اللباب. تأليف: السيد الهادي بن إبراهيم الوزير (822). شرح على منظومته " الباب المصاصة في نظم مسائل الخلاصة " واستعرض فيه جملة أقوال أئمة المذهب في المسائل الكلامية بالإضافة إلى ما أوردة من الأدلة العقلية والنقلية. مؤلفات الزيدية (ص: 326). (¬3) الناصر محمد بن على بن محمد (المشهور بصلاح الدين) ولد سنة (739 هـ) وتوفي سنة 793 هـ في قصر صنعاء انظر: ترجمته في البدر الطالع (ص: 742)

وصلاحهم. قال: وهذا القول الثاني هو الذي نراه، إذ هم وجوه الإسلام، وبدور الظلام ". وحكى السيد الهادي في ذلك الكتاب عن الإمام المهدي عل! ط بن محمد بن علي والد الإمام صلاح الدين: أنه سئل عمن تقدم أمير المؤمنين أو خالفه؟ فأجاب أن مذهب جمهور الزيدية أن النص وقع على وجه يحتاج في معرفة المراد به إلى نظر وتأويل، ولا يكفرون من دافعه، ولا يفسقونه ... إلى آخر كلامه في ذلك. ولا يخفى أن حكايته لذلك عن جمهور الزيدية تنافي حكاية غيره له عن لأن الحاكي [عن] (¬1) الجميع ناقل للزيادة، وقبولها متحتم، وغاية ما عند ما حكي عن البعض أو الأكثر أنه لم يعلم بأن ذلك قول الجميع، وعدم العلم ليس علما بالعلم، وقد علم غيره ذلك، ومن علم حجة على من لم يعلم. الطريقة الخامسة: قال يحي بن الحسين بن القاسم (¬2) بن محمد في كتابه "الإيضاح (¬3) لما خفي من الاتفاق على تعظيم الصحابة - بعد حكاية أقوال الأئمة من أهل البيت- ما لفظه: " وإذا تقرر ما ذكرنا، وعرفت أقوال أئمة العلم الهداة؟ علم من ذلك بالضرورة إلى لا تنتفي بشك ولا بشبهة: إجماع أئمة الزيدية على تحريم سب الصحابة؟ لتواتر ذلك عنهم، والعلم به، فما خالف ما علم ضرورة لا يعمل به " إلى آخر كلامه، انتهى. الطريقة السادسة: حكاها السيد إدريس (¬4) في كتابه المعروف. . . . . . . . . . . . . . ¬

(¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) تقدمت ترجمته (¬3) تقدم التعليق عليه (¬4) إدريس بن على بن عبد الله بن الحسن بن حمزة بن سليمان الحمزي الحسني اليمني أمير، عالم، أديب، شاعر توفي سنة 714 هـ له عده مصنفات: كنز الأخيار في معرفة السير والأحبار مسائل على الحرية. (الطبقات). الأدب المذهب. انظر: الدرر الكامنة (1/ 345) "الأعلام " (1/ 280) أعلام المؤلفين الزيدية. (ص: 217).

ب "كنز الأخيار" (¬1) الطريقة السابعة: حكاها الديلمي (¬2) من كتاب " عقائد اعتقاد آل محمد (¬3). ¬

(¬1) " كنز الأخيار في معرفة السير والأخبار ". تأليف: السيد إدريس بن علي الحمزي اليمني (714). هو في أربعة أجزاء: الأول: في سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والخلفاء بعده. الثاني: في أخبار الملوك إلى قريب المائه الثانية للهجرة. الثالث: في أخبار في العباس وسائر الملوك في أخره نبذه مختصره من أخبار اليمن. الرابع: في أحبار الملوك قبل النحو وفتنة الخوارج. الكتاب في الأصل مختصر من كتاب "الكامل" لابن الأثير مضيفا إليه أخبار العراق ومصر الشمام واليمن ست سنة تأليفه 7140 هـ مؤلفات الزيدية (ص: 388). (¬2) محمد بن الحسن الديلمى. عالم أصولي، متصوف أصله "من الديلي انتقل إلى اليمن وسكن صنعاء توفي بوادي مر في رجوعه إلى بلاده سنة 711 هـ. من مصنفاته: التصفية عن الموانع المردية والمهلكة. الصراط المستقيم والدبر القويم. أعلام المؤلفين الزيدية (ص:883)، الأعلام (8616 - 87)، ملحق البدر الطالع (ص:194). (¬3) قواعد عقائد آل محمد، تأليف عز الدين محمد بن أحمد بن الحسين الديلمي 711 هـ. استعرض بتفصيل المسائل الكلامية على قواعد آل الرسول من الزيدية وأجاب على من خالفهم باستدلالات طويلة وهو في ثلاثة فنور في كل ست منها لمحصول وهي: الفن الأول: في أصول الدين وما يليق به من الكلام وليه سبعة فصول الفن الثاني: في إمامة أهل البيت من المعقول والمنقول. رفيه ستة فصول. الفن الثالث: في مذهب أهل البيت في الفروع، وفيه خمسة فصول. نشره محمد زاهد الكوثري في القاهرة ط السعادة 950 أم في (157) صفحة ونشر قسما من الكتاب بعنوان " بيان مذهب الباطنية وبطلانه " شتروثمان في استانبول عن مطبعة الدولة سنة 939 أم في (137) صفحة وهو من أصول كتب الزيدية. وطبع في اليمن مرارا. مؤلفات الزيدية (ص: 357). أ علام المؤلفين الزيدية (ص: 884).

الثامنة: حكاها حميد بين أحمد (¬1) المحلي في كتابه " عقيدة أهل البيت " (¬2) التاسعة: حكاها السيد صارم الدين إبراهيم بن محمد في " المسائل التي اتفق عليها الزيدية ". العاشرة: حكاها الكني في كتاب " كشف الغلطات " (¬3) له. الحادية عشرة: ¬

(¬1) حميد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الواحد المحلي التميمي، الوادعي الهمذاني 582هـ - 652 هـ. أبو عبد الله الشهيد، الفقيه من أكابر علماء الزيديه. عاصر الإمام عبد الله بن حمزة. له مصنفات: الحدائق الوردية في مناقب أئمة الزيدية. نصيحة الولاة الهادية إلي سبل النجاة. مناهج الأنظار العاصمة من الأخطار. انظر: أعلام المؤلفين الزيدية، (ص 407)، الأعلام (2/ 282 - 283) (¬2) ذكره الحسيني في مؤلفات الزيدية برقم (2267) عن رجال الأزهار 13 ولعله عمدة المسترشدين. (¬3) كشف الغلطات. تأليف الكني. في رد أراء القاضي أبي مضر ضريح بن المريد وغلطاته. مؤلفات الزيدية (ص: 383).

حكاها الإمام شرف الدين (¬1) في شرح مقدمة " الأثمار " (¬2) الثانية عشرة: حكاها [3 أ] في شرح البسامة (¬3) الصغير لبعض بني الوزير. الثالثة عشرة: ¬

(¬1) الإمام المتوكل على الله، يحط شرف الدين بن شمس الدين، أحد أعلام الفكر الزيدي ولد سنة 877 هـ. في حصن حضور الشيخ من أعمال كوكبان شبام. توفي سنة 965 هـ ودفن بحصن الصفير. له مصنفات منها: الرسالة الصادعة بأسنى المطالب الجوابات والرسائل. منظومة قصص الحق في مدح وذكر معجزات سيد الخلق. أعلام المؤلفين الزيدية (ص: 1134)، البدر الطالع (1/ 278) الأعلام (8/ 150). (¬2) الأثمار في فقه الأئمة الأطهار. تأليف: الإمام المتوكل شرف الدين بن شمس الدين الحسيني اليمني 965 مختصر من كتاب " الأزهار " للإمام المهدي، وهو من أشهر كتب فقه الزيدية. انظر مؤلفات الزيدية (ص: 44). (¬3) البسامة. نظم صارم الدين إبراهيم بن محمد الوزير الصنعاني (914). تاريخ منظوم بالغ الشهرة لأئمة الزبدية الحاكمين على اليمن وبعض البلدان الأخرى، وهو في نحو مائتين وأربعين بيتا، ويسمى " جواهر الأخيار في سيرة الأئمة الأخيار " واعتني العلماء بشأنه كثرا فنظموا له ذيولا في العصور المختلفة. أوله: الدهر ذو عبر عظمى وذو غير ... وصرفه شامل للبدو والحضر. مؤلفات الزيدية (ص: 206)، أعلام المؤلفين الزيدية (ص: 70). وقد ثبت لدينا أن صاحب 11 البسامة الصغير " هو إبراهيم بن محمد بن عبد الله الوزير وذلك بالرجوع إلي فهرس مخطوطات المكتبة الغربية- صنعاء- (ص: 853).

حكاها القاضي عبد الله (¬1) الدوارى في كتاب "السير" من آخر "الديباج" (¬2) انتهى. فهذه طرق متضمنة لإجماع أهل النبيت من أئمة الزيدية ومن غيرهم؟ كما في بعض هذه الطرق، والناقل لهذا الإجماع من أسلفنا ذكره من أكابر أثمتهم. فيا من أفسد دينه بذم خير التيرون وفعل بنفسه ما لا يفعله المجنون إن قلت إنك اقتديت في سبهم بالكتاب العزيز [كذبك] (¬3) في هذه الدعوى من كان له في معرفة القرآن أدنى تبريز؛ فإنه مصرح بأن الله جل جلاله قد رضي عنهم ومشحون. بمناقبهم ومحاسن أفعالهم، ومرشد إلي الدعاء لهم. وإن قلت: اقتديت بسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المطهرة؟ قام في وجه دعواك الباطلة العاطلة ما في كتب السنة الصحيحة من مؤلفات أهل البيت وغيرهم، من النصوص المصرحة بالنهي عن سبهم وعن أذية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، وأنهم خير القرون (¬4) وأنهم من أهل الجنة): (¬5) وأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مات وهو راض عنهم، وما في طي الدفاتر الحديثة من ذكر ¬

(¬1) عبد الله بن الحسن بن عطية المؤيد الدواري، الصعدي. عالم ففيه، مجتهد مصنف ولد سنة (715 هـ وتوفي سنة 805 هـ). من مصنفاته: الإرادات على الزيادات (المستطاب). شرح جواهر الأصول. الدر النضيد الكاشف لمشكلات الوسيط. أعلام المؤلفين الزيدية (ص: 571)، الأعلام (4/ 78)، البدر الطالع (1/ 381). (¬2) الديباج النضير على لمع الأمير. تأليف: شيخ الإسلام عبد الله بن الحسن الدواري الصعدي (800) جمعه وقت قراءته لكتاب "اللمع" للأمير علي بن الحسيني، وكان قد سماه أولا " الطراز " ثم غير اسمه. وهو شرح عليه فيه فوائد وتحاصيل للمسائل الواردة فيه. مؤلفات الزيدية (ص: 479). (¬3) في المخطوط (كذلك) والصواب ما أثبتناه. (¬4) تقدم تخريجه (ص 255، ص 840). (¬5) من مثل قوله تعالي: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100].

مناقبهم الجمة، كجهادهم بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبيعهم نفوسهم (¬1) وأموالهم من الله، ¬

(¬1) قال الله تعالي: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:218]. . وقوله تعالي: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِفينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج: 58 - 59]. . وقوله تعالي: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]. في هذه الآية الكريمة، أثني الله تعالي على جميع المؤمنين الذين اتبعوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنهم يكفونه في جميع أموره أو أنهم يكفونه الحرب بينه وبن أعدائه من الكفار والمشركين، وفي ذلك تنويه بفضلهم وبيان لعظم شرفهم. وهذا المعنى يتأتى إذا اعتبرنا أن من اتبعك في محل الرفع عطفا على اسم الله تعالي. وأما إذا اعتبرناه في محل النصب على أنه مفعول به فيكون المعنى. كفاك وكفى أتباعك الله ناصرا، وقيل هو في موضع الجر عطفا على الضمير كما هو رأى الكوفيين فيكون المعنى: كافيك وكافيهم. انظر: روح المعاني (10/ 30) وإرشاد العقل السليم (4/ 33 - 34) بتحقيقنا. . ومن مثل قوله تعالي: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:110] جعل سبحانه ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى للمهاجرين والأنصار والذين جاعوا من بعدهم مستغفرين للسابقين وداعين لله أن لا يجعل في قلوهم غلا لهم فعلم أن الاستغفار لهم وطهارة القلب من الغل لهم أمير يحبه الله ويرضاه، ويثنى على فاعله، كما أنه قد أمير بذلك رسوله في قوله تعالي: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا آله إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19] وقال تعالي: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [آل عمران:159] ومحبة الشيء كراهة لضده- فيكون الله- سبحانه وتعالي- يكره السب لهم الذي هو ضد الاستغفار والبغض لهم الذي هو ضد الطهارة وهذا معنى قول عائشة رضي الله عنها: "أمروا بالاستغفار لأصحاب محمد فسبوهم " أخرجه مسلم في صحيحه (4/ 2317 رقم 3022) وكان هذا في ذم الروافض. وانظر "الصارم المسلول " (3/ 1070 - 1071).

ومفارقتهم الأهل والأوطان والأحباب والأخدان، طلبا للدين وفرارا من مساكنة الجاحدين وكم يعد العاد من هذه المناقب التي لا يتسع لها إلا مجلدات، ومن نظر في كتب السمير والحديث، عرف من ذلك ما لا يحيط به الحصر. وإن قلت أيها الساب في هذه الأمة من الأصحاب إنك اقتديت بأئمة أهل النبيت (¬1) في هذه القضية الفظيعة بم فقد حكينا لك في هذه الرسالة إجماعهم على خلاف ما أنت عليه من تلك الطرف. وإن قلت إنك اقتديت بعلماء الحديث، أو علماء المذاهب الأربعة، أو سائر المذاهب، فلتأتنا بواحد منهم يقول. ممثل مقالتك! فهذه كتبهم قد ملأت الأرض، وأتباعهم على ظهر البسيطة أحياء، وقد اتفقت كلمة متقدميهم ومتأخريهم على أن من سب الصحابة مبتدع، وذهب بعضهم إلي فسقه وبعضهم إلي كفره (¬2)؛ كما حكى ذلك جماعة من علمائهم؟ منهم: ابن حجر الهيثمي [3ب] فإنه ذكر في كتابه المعروف بـ " الصواعق المحرقة " (¬3) أن كثيرا من الأئمة كفروا من سب الصحابة. وفي " البحر "- في كتاب ¬

(¬1) قال الشوكاني في وبل الغمام على شفاء الأوام (1/ 474 - 475) بتحقيقي: "والحاصل أن من صار من أتباع أهل البيت مشغولا بسب الصحابة وثلبهم والتوجع منهم- فليس هو من مذهب أهل البيت في شيء، بل هو رافضي خارج عن مذهب جماعتهم وقد تبت إجماعها من ثلاث عشرة طريقة - كما تقدم في هذه الرسالة - أنهم لا يسبون أحدا من الصحابة الذين هم أهل السوابق والفضائل، وقد قال الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة: من زعم أن أحدا من آبائه يسب أحدا من الصحابة، فهو كاذب"اهـ (¬2) انظر هذه الآراء في " فتاوى السبكي " (2/ 570 - 579) وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (2/ 689) وشرح أصول الاعتقاد (4/ 706). وشرح الشفا للقاضي عياض (2/ 522 - 523). (¬3) (1/ 128 - 152).

"الشهادات " في قوله: فصل: والخلاف ضروب- ما لفظه: وضرب يقتضى الفسق لا غير، كخلاف الخوارج (¬1) الذين يسبون عليا. والروافض (¬2) الذين يسبون الشيخين لجرأتهم على ما علم تحريمه قطعا. انتهى. وإن قلت أيها الساب: إنك اقتديت بفرقة من غلاة الإمامية، فنقول: صدقت؛ فإن فيهم فرقة مخذولة تصرح بسب أكابر الصحابة، وقد أجمع على تضليلهم جميع علماء الإسلام من أهل البيت وغيرهم وهم الرافضة، الذين رويت الأحاديث في ذمهم. ¬

(¬1) الخوارج: فرقه خرجت على علي رضي الله عنه، ويلقب الخوارج بالحرورية والنواصب والمارقة والشرارة والبغاة، وهم الذين يكفرون أصحاب الكبائر، ويقولون أفم مخلدون في النار، ووجوب الخروج على أئمة الجور، وهم يكفرون عثمان وعلى وطلحة والزبير وعائشة رض الله عنهم. انظر: " فرق معاصرة " للعواجي (1/ 63 - 123). و" المقالات " (1/ 86) " الفصل في الملل والأهواء والنحل " (2/ 132). (¬2) الرافضة: يطلق على تلك الطائفة ذات الأفكار والآراء الاعتقادية الذين رفضوا خلافة الشيخين. وأكثر الصحابة، وزعموا أن الخلافة في علي وذريته من بعده بنص من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وتقول الغرابية من الروافض: إن جبريل أخطأ بالوحي، وإنما كان النبي هو على بن أبي طالب وسموا بهذا الاسم لقولهم: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشبه بعلي من الغراب بالغراب. ومن فضائح الروافض أن القرآن غير وبدل وخولف بين نظمه وترتيبه ... " انظر: المعتمد في أصول الدين (ص: 256)، الشفا (2/ 302). ومن أهم المسائل الاعتقادية عندهم:- 1):قصر الخلافة على علي وذريته. 2):دعواهم عصمة الأئمة والأوصياء. 3):تدينهم بالتقية. 4):دعواهم بالمهدية. 5):دعواهم بالرجعة. 6):القول بالبداءة على الله تعالي. انظر: " فرق معاصرة " للعواجي (1/ 163 - 167).

فمن جملة من روى ذلك: الإمام الأعظم الهادي يحي بن الحسين (¬1) عليه السلام (¬2) فإنه روى في كتابه " الأحكام " (¬3) في كتاب الطلاق، منه بسنده المتصل بآبائه الأئمة الأعلام إلي أمير المؤمنين علي عليه السلام: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: " يا علي يكون في آخر الزمان فرقة لهم نبز يعرفون به، يقال لهم: الرافضة، فإذا لقيتهم، فاقتلهم، قتلهم الله، فاقتلهم فإنهم كافرون " (¬4) أو كما قال. ¬

(¬1) تقدت ترجمته. (¬2) نجد المصنف- رحمه الله - أكثر من استخدام هذه العبارة في رسالتنا هذه في مواطن عديدة. وقد تقدم التعليق على ذلك فتنبه هداك الله (ص 842). (¬3) الأحكام الجامع لقواعد دين الإسلام. تأليف: الإمام الهادي يحيى بن الحسين الهاشمي اليمني 2980. كتاب فقه معروف فيه شيء من الأدلة على الأحكام وعناوينه "باب القول ... " وقد طبع مرارا. مؤلفات الزيدية (1/ 80 - 81). (¬4) وتمام الحديث: " قلت: يا رسول الله ما العلامة فيهم؟ قال: يقرضونك بما ليس فيك ويطعنون على أصحاب ويشتمونهم ". أخرجه ابن أبن أبي عاصم في " السنة " رقم (979) بإسناد ضعيف، فيه محمد بن أسعد التغلنى، قال أبو زرعة والعقيلى: منكر الحديث. وله شاهدان: الأول: من حديث أم سلمة أحرجه ابن أبى عاصم في السنة رقم (981) إسناده ضعيف جدا. آفته سوار بن مصعب، قال البخاري منكر الحديث وقال النسائي وغيره: متروك. والثاني: من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أخرجه ابن أبي عاصم في السنة رقم (981) وإسناده ضعيف، فيه الحجاج بن تميم ضعيف وقال النسائي ليس بثقة. وضعفه الأزدي والعقيلى وابن عدي. وساق الذهب في الميزان (3/ 237) هذا الحديث في ترجمة عمران بن زيد- راويه عن الحجاج- وقال: وحجاج واه. وخلاصة القول أن ضعف الأحاديث المتقدمة شديد لا ينجبر فيبقى الحديث ضعيفا.

فهذا الإمام الأعظم يروي هذا الحديث عن آبائه الأئمة، حتى قيل: إنه لم يكن في كتابه " الأحكام " حديث مسلسل من أول إسناده إلي آخره إلا هذا الحديث، ذكر ذلك العلامة محمد بن الوزير (¬1) وغره، وفيه التصريح بكفرهم. فكيف اقتديت أيها المغرور في مثل هذه المسألة التي هي مزلة الأقدام. ممثل هذه الفرقة؟! فكيف تزعم أنك متبع لأهل البيت وهم مخالفون للإمامية ومصرحون بشتمهم ومتوجعون من اعتقاداتهم الفاسدة؟! ولقد بالغ المؤيد (¬2) بالله في ذلك، حتى صرح في كتابه المعروف (بالإفادة) (¬3)، بأنها لا تقبل الأخبار المروية من طريقهم، قال: لأنهم يعتقدون أن كل ما يروى عن كل من يشار إليه من أئمتهم يجوز أن يروى عن رسول الله! كل. وقد بالغ الإمام الهادي في التوجع منهم في كتبه. فإن قلت: ومن أين لك أنهم الرافضة؟ فأقول: قال في " القاموس " (¬4): " الرافضة فرقة من الشيعة، بايعوا زيد بن علي، ثم قالوا: تبرأ من الشيخين، فأبى، وقال: كانا وزيري جدي، فتركوه، ورفضوه وارفضوا عنه، والنسبة رافضي ... " [4أ] انتهى. فتقرر بهذا أن الروافض من رفض ذلك الإمام لتركه لسب الشيخين، والإمامية يسبون الشيخين وجمهور الصحابة، بل وسائر المسلمين، ما عدا من كان على مثل اعتقادهم، ويسبون أيضًا زيد بن علي؟ كما يعرف ذلك من له إلمام بكتبهم. ¬

(¬1) العلامة محمد بن إبراهيم الوزير في " العواصم والقواصم ". (¬2) وهو أحمد بن الحسيني الهاروني الديلمي تقدمت ترجمته. (¬3) و"الإفادة" في الفقه، ويسمى (التفريعات) وهو في مجلد تولى جمعه تلميذه القاضي أبو القاسم ابن تال، وسمي في بعض المصادر "بالفائدة". مؤلفات الزيدية (1/ 138) وأعلام المؤلفين الزيدية (ص: 101). (¬4) أي القاموس المحيط (ص: 829 - 830) مادة رفض.

وقال النووي في " شرح مسلم " (¬1) في مباحث المقدمة ما لفظه: " وسموا رافضة من الرفض وهو الترك. قال الأصمعي وغيره: لأنهم رفضوا زيد (¬2) بن علي وتركوه " انتهى. وهكذا صرح جماعة من العلماء بأن الرافضة هم هؤلاء، وصرح جماعة أيضًا بأن ¬

(¬1) (1/ 103). (¬2) قال ابن تيمية في منهاج السنة (1/ 34 - 35): إنما ظهر لفظ الرافضة لما رفضوا زيد بن على بن الحسيني في خلافة هشام وقصة زيد كانت بعد العشرين ومائه سنة إحدى وعشرين أو اثنتين ومائه. قال أبو حاتم البسي مثل زيد بن علي بن الحسين بالكوفة سنة اثنتين وعشرين ومائه وصلب على خشبة، وكان من أفاضل أهل البيت وعلمائهم، وكانت الشيعة تنتحله. قال ابن تيمية عقب ذلك: ومن زمن خروج زيد افترقت الشيعة إلي رافضة وزيدية فإنه لما سئل عن أبي بكر وعمر فترحم عليهم، رفضه قوم فقال لهم: رفضتموني فسموا الرافضة لرفضهم إياه. وسمي من لم يرفضه من الشيعة زيديا لا تنساهم إليه، ولما صلب كانت العباد تأتي إلي خشبته بالليل فيتعبدون عندها. . وقال ابن تيمية في منهاج السنة (1/ 39): وهم يتبرأون من جمهور هؤلاء بل من سائر أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا نفرا قليلا نحو بضعة عثر. وكذلك هجرهم لاسم أبي بكر وعمر وعثمان ولم يتسمى بذلك حتى إنهم يكرهون معاملته .. وقد اتفق أهل العلم بالنقل والرواية والإسناد على أن الرافضة أكذب الطوائف. وقال الشافعي: ما رأيت في أهل الأهواء قوما أشهر بالزور من الرافضة. وقال ابن تيمية في مناهج السنة (1/ 20 - 21): ولهذا قال علماء السنة: " الرافضة من أكذب الناس في النقليات، وأجهل الناس في العقليات. وقد دخل منهم على الدين من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد. فالنصيرية والإسماعيلية من بأنهم دخلوا، والكفار المرتدون لطريقهم وصلوا وليسوا أهل خبرة بطريق من طريق الحق ولا معرفة لهم بالأدلة وما يدخل فيها من المنع والمعارضة. وقد اعتمدوا على تواريخ منقطعة الإسناد، وكثر منها من وضع الزنادقة وذوي الإلحاد ولذا لما سئل الإمام مالك عنهم قال: " لا تكلمهم ولا ترو عنهم فإنهم يكذبون ". انظر منهاج السنة (1/ 55 - 65).

الرافضة هم الذين يسبون الصحابة من غير تقييد. ويا لله العجب من هذه الفرقة! كيف تبلغ هم محبة أمير المؤمنين إلي مالا يرضاه بلى إلي ما هو على خلافه كما أسلفناه عن الإمام يحط: أن مذهب أمير المؤمنين جواز الترضية. وقد حكى الإمام عبد الله (¬1) بن حمزة في كتابه " الكاشف للإشكال (¬2) الفارق بين التشميع والاعتزال " ما لفظه: " والمسلك الثاني: أن أمير المؤمنين هو القدوة، ولم يعلم من حاله عليه السلام لعن القوم، ولا التبرؤ منهم، ولا تفسيقهم "؛ يعني: المشايخ. قال: " وهو قدوتنا، فلا نزيد على حده الذي وصل إليه، ولا ننقص شيئا؟ لأنه إمامنا وإمام المتقن، وعلى المأموم اتباع آثار إمامه، [ومقلده] (¬3)، فإن تعدى خالف وظلم " انتهى. وقد حكى هذا الكلام بألفاظه السيد الهادي (¬4) بن إبراهيم الوزير في كتابه المعروف ب " تلقيح الألباب في شرح (¬5) أبيات اللباب "، وحكى في " البسامة " (¬6) أن عليا عليه السلام كان يترضي عليهم، فقال شعرا: ورض عنهم كما رضي أبو حسن ... أوقف عن السب إما كنت ذا حذر وروى الإمام المهدي (¬7) في. . . . . . . . . . ¬

(¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) قال الحبشي (خ) جامع بأخر أمالي الإمام أحمد بن عيسى. أعلام المؤلفين الزيدية (ص: 582). (¬3) في المخطوط (ومقالد) والصواب ما أثبتناه. (¬4) تقدمت ترجمته. (¬5) تقدم التعريف به. (¬6) تقدم التعريف به. (¬7) هو أحمد بن يحيى بن المرتضى بن مفضل بن منصور الحسني اليمني عالم ففيه لمجتهد ولد سنة 775 هـ وتوفي سنة 840 هـ في بلاد الضفير (حجة) أثرى المكتبة الإسلامية. بمؤلفاته وهي عمدة المذهب الزيدي. من مؤلفاته: من الأزهار في فقه الأئمة الأطهار. الغيث المدرار المفتح لكمائم الأزهار. رياضة الأفهام في علم الكلام، والبحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار. أعلام المؤلفين الزيدية (ص 206)، البدر الطالع (1/ 122) الأعلام (1/ 296).

"يواقيت (¬1) السير": أنه حين مات أبو بكر؛ قال علي عليه السلام: "رض الله عنك، والله لقد كنت بالناس رؤوفا رحيما " (¬2) انتهى. وقد روى أئمة الحديث والسير عن أمير المؤمنين: أنه كان يترضي عن الصحابة، ويترحم عليهم، ويمدحهم ويبالغ في الثناء، وذلك أمير معروف عند أهل العلم، ولكنا اقتصرنا على نقل كلام أولئك الأئمة من أولاده، لأن روايتهم أقطع لعرق الشك، وأحسم لداء اللجاج من رواية غيرهم. فهل يليق من يعد نفسه من شيعة أمير المؤمنين أن يخالفه هذه المخالفة، قيلعن من كان يرضي عنه ويترحم عليه؟! وهل هذا إلا من المعاندة له عليه السلام والمخالفة [41 ب] لهديه القويم، والخروج عن الصراط المستقيم؟! فأي خير في تشيع يفضي إلي ميل ويوقع في الهلكة كما ورد: " أنه يهلك فيك فرقتان: محب غال، ومبغض قال " (¬3) ¬

(¬1) اسم الكتاب " يواقيت السير في شرح سيرة سيد البشر وأصحابه العشرة الغرر والأئمة المنتجين الزهر " وهو الجزء الخامس من موسوعة المؤلف " غايات الأفكار ونهايات الأنظار" يشتمل على سيرة أئمة الزيدية من الإمام علي عليه السلام إلي أئمة عصره مرتب على ثمانية كتب. مؤلفات الزيدية (3/ 172) وأعلام المؤلفين الزيدية (ص:209). (¬2) أخرج الإمام أحمد في فضائل الصحابة رقم (122, 178) عن أبي سريحة شيخ من أحمس قال: سمعت عليا يقول: " ألا إن أبا بكر كان أواه منيب القلب، ألا وإن عمر ناصح الله فنصحه الله " بإسناد ضعيف لضعف كثير النواء. (¬3) أخرجه أبو يعلى في المسند (1/ 406 - 407 رقم 274/ 534) وعبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند (1/ 160) وابن أبي عاصم في السنة رقم (983 - 987) و (1004 - 1005) وأحمد في فضائل الصحابة رقم (951, 952, 964, 1147) والبزار رقم (2566 - كشف) والحاكم في المستدرك (12313). والبغوي في الجعديات رقم (126) والأصبهاني في الحجة (2/ 367رقم 361) من طرق عن على. صححه الحاكم وتعقبه الذهبي بقوله: الحكم بن عبد الملك وهاه ابن معين. قلت: وقال أبو حاتم: مضطرب الحديث، وليس بقوي وقال أبو داود: منكر الحديث وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال يعقوب بن شوبة: " ضعيف الحديث جدا، له أحاديث مناكير ". وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 133): وقال: رواه عبد الله والبزار باختصار وأبو يعلى. وفي إسناد عبد الله وأبي يعلى الحكم بن عبد الملك وهو ضعيف، وفي إسناد البزار محمد بن كثير القرشي الكوفي وهو ضعيف. قلت: وفي بعض الطرق مرسلة لأن أبا البحتري لم يلق عليا ويرسل عنه، كما قال شعبة وأبو حاتم الرازي (المراسيل ص: 74). وفي بعض الطرق إسنادها حسن كطريق أبي مريم ...

وفرقة الإمامية هي الفرقة التي غلت في المحبة فهلكت فمن اقتدى بهم؛ فهو من جملة الهالكين، بنصوص الأحاديث الصحيحة وتصريح علماء الدين. فيا من يدعي أنه من أتباع الإمام زيد بن علي كيف لا تقتدي في ذلك المنهج الجلي؟! ألا تراه رضي بمفارقة تلك الجيوش التي قامت تنصره على منابذة سلاطين الجور، ولم يسمح بالتبري من الشيخين أبي بكر وعمر؟ بل احتج على الرافضة بأنهما كانا وزيري رسول الله!، ولا شك أنه يؤلم الرجل ما يؤلم وزيره، ومن أهان الوزير، فقد أهان السلطان. ولهذا قال المنصور (¬1) بالله عليه السلام في كلامه السابق، " أن من تبرأ من الصحابة فقد تبرأ من محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولقد قال الإمام المهدي (¬2) في ....................... ¬

(¬1) تقدت ترجمته. (¬2) تقدت ترجمته.

- وإني والله لا أغير شيئا من صدقة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله! ولأعملن فيها. بما عمل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". فأبى أبو بكر أن يدفع إلي فاطمة منها شيئا، فوجدت فاطمة على أبي بكر ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت. وعاشت بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ستة أشهر .... وانظر: العواصم من القواصم (ص: 49 - 50).

وقد جاءت بعلي وأم أيمن، فقال: المرأة مع المرأة، أو رجل مع الرجل. قال الإمام يحط فغضبت فاطمة لذلك، وإنما طلب أبو بكر الحق فإذا غضبت لأجله؟ فالحق أغضبها ". هذا كلام الإمام يحي بن (¬1) حمزة في ذلك الكتاب، وقد حكاه أيضًا السيد الهادي (¬2) ابن الوزير في كتابه المعروف ب " فأية التنويه: (¬3) في إزهاق التمويه ". فانظر كيف صوب هذا الإمام أبا بكر في حكمه، ولو كان كير عدل عنده، لكان حكمه باطلا، سواء وافق الحق أو خالفه، لأن العدالة شرط في صحة الحكم. وقال محمد بن المنصور بالله من قصيدة يفتخر ها على قحطان: ومنا أبو بكر وصاحبه الذي ... على السنن الغر الكريمة يغضب ولو كان أبو بكر وعمر عند هذا السيد الجليل من الظلمة المتغلبين لما افتخر هما، والوصف بالغضب على السنن الغر الكريمة من آداب المتقن المناصرين لها. ويا من [5أ] يدعى أنه من أتباع الإمام الهادي ير بن الحسين! هلا سلكت مسلكه، ومشيت على سنن مذهبه، فتوقف كما صح عنه التوقف. بما أسلفناه من حكاية الإمام الأجل يحط بن حمزة عنه! ¬

(¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) تقدمت ترجمته. (¬3) قصيدة قيمة نظمها الشارح نفسه في اثنين وسبعين بيتا سأل فيها عن عدة أشياء من المذهب الزيدي حول بعض الصحابة والأئمة التي يقول في أولها: أقاويل غي في الزمان نواجم ... وأوهام جهل بالضلال هواجم وهذا الشرح يقع في عشرة مسائل: انظرها في مؤلفات الزيدية (3/ 133) والبدر الطالع رقم (561).

وهلا عملت بكلامه الذي صرح به عليه السلام في كتابه الذي كتبه من المدينة جوابا على أهل صنعاء، قال فيه ما لفظه: "ولا ابغض أحدا من الصحابة رضي الله عنهم الصادقين، والتابعين لهم بإحسان المؤمنين منهم والمؤمنات، أتولى جميع من هاجر، ومن آوى منهم ونصر، فمن سب مؤمنا عندي استحلالا، فقد كفر، ومن سبه استحراما، فقد ضل عندي وفسق: ولا أسب إلا من نقض العهد والعزيمة، وفي كل وقت له هزيمة، من الذين بالنفاق تفردوا، وعلى الرسول مرة بعد مرة تمردوا، وعلى بيته اجتروا فطعنوا، وإني أستغفر الله لأمهات المؤمنين، اللاتي خرجن من الدنيا على يفين، وأجعل لعنة على من تناولهن. مما لا يستحققن من سائر الناس أجمعين " انتهى كلامه. فأنت أيها الساب المدعى أنك من أتباع هذا الإمام بصريح كلامه هذا إما كافر أو ضال فاسق، وهذا الذي صرح به عليه السلام هو مذهب أتباعه من الهادوية إلي الآن. قال ابن مظفر (¬1) في " النبيان " (¬2) - مدرسا لهادوية هذه الأزمان ما لفظه: مسألة: قال الإمام يحيى: ولا يصح الائتمام بفاسق التأويل، ولا بمن يفسق الصحابة الذين تقدموا عليا عليه السلام " انتهى. ولم يحك خلافا لأحد. ¬

(¬1) ير بن أحمد بن علي بن مظفر القاضي، عماد الدين من علماء الزيدية عالم مجتهد اخذ عن علماء عصره قرأ على الإمام المهدي أحمد بن يحي بن المرتضى. توفي سنة 875 هـ في قرية حمدة من قبيلة عيال سريح. من مصنفاته: النبيان الشافي المنتزع من البرهان الكافي. الجامع المفيد إلي طاعة الحميد المجيد. أعلام المؤلفين الزيدية (ص: 1092) 0 الأعلام (8/ 136). (¬2) " النبيان الشافي المنتزع من البرهان الكافي ". في مجلدين كبيرين وهو معتمد كثير من علماء الزيدية في الفقه وهو يجمع باختصار في كل مسألة آراء الأئمة وعلماء المذهب بالإضافة إلي ما يؤدي إليه اجتهاد المؤلف ونظره. مؤلفات الزيدية (1/ 224)

قال في " البستان " (¬1): " قال عليه السلام- يعني: الإمام يحي-: لا من يفسق الصحابة، فهو فاسق تأويل، لأنه اعتقد ذلك لشبهة طرأت عليه، وهو تقدمهم على أمير المؤمنين، فلا تصح الصلاة خلف من يسبهم لأنه جرأة على الله، واعتداء عليهم، مع القطع بتقدم إيمانهم، واختصاصهم بالصحبة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والفضائل الجمة، وكثرة الثناء عليهم من الله سبحانه ومن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأكثر الأئمة وعلماء الأمة، ولا دليل قاطع على كفرهم ولا فسقهم، فأما مطلق الخطأ، فهو- وإن قطع به- لا يكون كفرا ولا فسقا، إذ لا بد فيهما من دليل قطعي شرعي، وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يؤمنكم ذو جرأة لي دينه " (¬2)، وأي جرأة أعظم من اعتقاد هلاك من له الفضل والسبق إلي الإسلام ¬

(¬1) البستان في شرح البيان. تأليف: القاضي محمد بن أحمد المظفر الحمدي 925. شرح على كتاب " النبيان لشافي المنتزع من البرهان " لجده يحي بن أحمد الحميدي فذكر فيه أدلة المذاهب ووجه المسألة وعلتها. اسمه الكامل " البستان الجامع للفواكه الحسان المثمر للياقوت والمرجان الناطق بحجج النبيان من السنة والقرآن. مؤلفات الزيدية (1/ 207). (¬2) قال القاضي حسين في " شفاء الأوام " (1/ 335): (خبر) وعن على عليه السلام قال أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلي بني مجمم ذكره القاضي زيد وهو الذي ذكره في " المنتخب " وروى المؤيد بالله مجمم فقال: " من يؤمكم؟ فقالوا فلان، قال: لا يؤمكم ذو جرأة في دينه " ورواية المؤيد بالله ذو جرأة في دينه اهـ. وقال محمد بن يحي بهران الصعدي في كتاب "جواهر الأخبار والآثار المستخرجة من لجة البحر الزخار " (1/ 312): (قوله) لا يؤمنكم الخ. روى عن على عليه السلام أنه قال: " أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلي بني مجمم، يحمحم فقال: من يؤمكم؟ قالوا فلان. قال: لا يؤمكم ذو جرأة في دينه ". وقال: حكاه في الشفاء. وقال الشوكاني في نيل الأوطار (3/ 163) عن هدا الحديث قد ثبت في كتب جماعة من أئمة أهل البيت: كأحمد بن عيسى والمؤيد بالله، وأبي طالب وأحمد ابن سليمان والأمير الحسين وغرهم عن على مرفوعا. وقد ضعفه الصنعاني في سبل السلام (3/ 99بتحفيقى) ط 1.

والهجرة [5ب]، وإحراز الفضل والمراتب العلية، والإنفاق في الجهاد، وبذل النفوس والأموال لله ولرسوله، وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لو أنفق أحدكم مثل احد ذهبا ما بلغ مد أحدهم " (¬1) فنعوذ بالله من الجهل والخذلان " انتهى بلفظه. وقال المنصور بالله في كتابه " الكاشف للإشكال الفارق بين التشيع والاعتزال " ما لفظه: " إن القيوم - يعني: الصحابة - لهم حسنات عظيمة،. بمشايعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونصرته، والقيام دونه، والرمي من وراء حوزته، ومعاداة الأهل والأقارب في نصرة الدين، وسبقهم إلي الحق، وحضور المشاهد التي تزيغ فيها الأبصار، وتبلغ القلوب الحناجر. . . " إلي آخر كلامه. وعلى الجملة: إنه إذا لم يقنع المتبع لأهل البيت. مما أسلفناه من إجماعاتهم ونصوصهم؛ فهو إما جاهل لا يفهم ما يخاطب به ولا يدري ما هو العلم، وإما مكابر قد أعمى التعصب بصر بصيرته، واستحوذ عليه الشيطان، فماده بزمام الغي والطغيان، إلي هذه المصيبة التي هي مهلكة الأديان، بإجماع حملة السنة والقرآن، وكلا الرجلين لا ينفعه التطويل والاستكثار، من نقل نصوص الأئمة، ومن صرائح الأدلة، فلنقتصر على هذا المقدار، فإن لم ينتفع به، لم ينتفع بأكثر منه (¬2) ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) وقد ذكر الشوكاني في كتابه أدب الطلب منتهى الأرب (ص: 40 - 41) بتحقيقي أثر هذه الرسالة التي بين أيدينا فقال: " وظننت أن نقل إجماع أهل العلم يرفع عنهم العماية. ويردهم عن طرق الغواية. فقاموا بأجمعهم، حرروا جوابات زيادة على عشرين رسالة مشتملة على الشتم والمعارضة. مما لا ينفق إلا على بهيمة، واشتغلوا بتحرير ذلك وأشاعوه بين العامة ولم يجدوا عن الخاصة إلا الموافقة، تقية لشرهم، وفرارا من معرتهم، وزاد الشر وتفاقم، حتى أبلغوا ذلك إلي أرباب الدولة، والمخالطين للملوك من الوزراء وغيرهم، وأبلغوه إلي مقام خليفة العصر- المنصور على بن العباسي- حفظه الله وعظم القضية عليه جمعة ممن يتصل به، فمنهم من يشير عليه بحبسي، ومنهم من ينتصح له بإخراجي من مواطن ... ".

فالعاقل المراعى لحفظ دينه، إذا لم يعمل. مما ورد في الصحابة الراشدين من نصوص القرآن والسنة القاضية بأنهم أفضل من غيرهم من جميع الوجوه [وأن بين طبقتهم وطبقة من بعدهم من الأمة كما بين السماء والأرض فأقل الأحوال] (¬1) أن ينزلهم منزلة سائر المسلمين. وقد ثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح أن: " قتال المسلم كفر، وسبابه فسوق " (¬2). وثبت عنه في الصحيحين (¬3) أن: " لعن المؤمن كقتله ". وثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ في صحيح مسلم (¬4) أنه: " لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة ". وفي سنن أبي داود (¬5) أنه قال: " إن العبد إذا لعن شيئا؛ صعدت اللعنة إلي السماء، ¬

(¬1) زيادة في المخطوط [ب أ] (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4044) ومسلم رقم (64) من حديث عبد الله بن مسعود. وأخرج النسائي (7/ 121) من حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " قتال المسلم كفر وسبابه فسق ". وهو حديث صحيح. . سباب المسلم فسوق وقتاله كفر: قيل هذا محمول على من سب مسلما أو قاتله من غير تأويل. وقيل: إنما قال ذلك على جهة التغليظ، لا أن قتاله كفر يخرج عن الملة. جامع الأصول (10/ 68). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6652) ومسلم وصحيحه رقم (110) من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه. مرفوعا. (¬4) رقم (2598). قلت: وأخرجه أحمد في المسند (44816) وأبو داود رقم (4907) والبخاري في " الأدب المفرد " رقم (316) والحاكم في المستدرك (1/ 48) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعا. وهو حديث صحيح. (¬5) رقم (4905) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعًا. وله شواهد انظر في الصحيحة رقم (1269). والخلاصة أن الحديث صحيح.

فتغلق أبوابها [دونها، ثم تهبط إلي الأرض فتغلق أبواها دونها (¬1)] ثم تأخذ يمينا وكالا، فماذا لم تجد مساغا؛ رجعت إلي الذي لعن، فمان كمان أهلا لذلك، وإلا رجعت إلي قائلها ". وفي، مسند أحمد (¬2) وصحيح البخاري (¬3) وسنن النسائي (¬4)،: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا تسبوا الأموات؛ فأنهم أفضوا إلي مما قدموا ". وفي حديث آخر رواه أحمد (¬5) والنسائي (¬6): " لا تسبوا أمواتنا، فتؤذوا أحياءنا ". [6أ] وفي صحيح مسلم (¬7) وسنن أبي داود (¬8) والترمذي (¬9) والنسائي (¬10): أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أتدرون ما الغيبة؟ ". قالوا: الله ورسوله أعلم. قال:" ذكرك أخاك بما يكره ". قال: [أرأيت] (¬11) إن كان في أخي ما أقول؟ قال: " إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما لقول فقد بهته ". ¬

(¬1) ما بين المعكوفتين ساقط من [أ. ب] واستدركته من سنن أبي داود. (¬2) (180/ 6). (¬3) رقم (1393 ورقم 6516). (¬4) (53/ 4) كلهم من حديت عائشة وهو حديث صحيح. (¬5) في المسند (252/ 4) (¬6) في السنن (33/ 8) بسند حسن. قلت: وأخرجه الترمذي رقم (1982) والطبراني في الكبير رقم (1013). وابن حبان رقم (1987 - موارد) كلهم من حديث المغيرة بن شعبة مرفوعا. وهو حديث صحيح. (¬7) رقم (2589). (¬8) رقم (4874). (¬9) في السنن رقم (1934). (¬10) في السنن الكبرى- كتاب التفسير رقم (538). (¬11) ما بين المعكوفتين سقط من [أ. ب] واستدركته من مصادر الحديث.

قال الترمذي (¬1): " حديث حسن صحيح ". وفي " سنن أبي داود (¬2) والترمذي (¬3) قلت: (¬4): أن عائشة ذكرت صفية، فقالت: أنها قصيرة فقال عليه الصلاة والسلام: " كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته". وفي سنن أبي داود (¬5): أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لما عرج بي مررت على أقوام لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟! فقال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم ". والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وهي متناولة للأموات تناولا أوليا، وبعضها نص في الأموات. تنبيه: ربما قال من يطلع على ما سقناه من الروايات القاضية بإجماع أهل البيت على عدم سب الصحابة: أنه قد وجد في مؤ! ف! لفرد من أفرادهم ما يشعر بالسب. ¬

(¬1) في السنن (4/ 329). قلت: وقد أخرجه أحمد في المسند (2/ 458,386,384,230). والبغوي في " شرح السنة ". (13/ 138 - 139) والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 247) كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وهو حديث صحيح. (¬2) رقم (4875). (¬3) في السنن رقم (2502). (¬4) وأخرجه أحمد (6/ 206,189,136) وأبو نعيم في أخبار أصفهان (2/ 278) كلهم من حديث عائشة رضي الله عنها. وهو حديث صحيح. (¬5) رقم (4878). قلت: وأخرجه أحمد في المسند (3/ 224) كلاهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعًا وهو حديث صحيح انظر الصحيحة رقم (533).

فنقول له - إن كان ممن بعقل الخطاب -: هذا الفرد الذي تدعي انه وجد في مؤلفه ما يشعر بالسب، إن كان عصره متقدما على عصر الأئمة الذين روينا عنهم إجماع أهل البيت فمن البعيد أن يحكوا الإجماع عن جميعهم، وثم فرد يخالفهم، للقطع بأنهم أخبر من غيرهم بعلم بعضهم بعضا، فدعواهم الإجماع من دون استثناء مشعر بعدم صحة ما وجد عن ذلك الفرد، فالمتوجه عليك وعلينا اعتقاد أن ذلك الموجود مدسوس [في ذلك المؤلف من بعض أهل الرفض لأن إثبات كونه من كلام المؤلف له] (¬1) يخالف ما حكاه الأئمة من أهله المختبرين. بمذهبه. وإن كان ذلك الفرد عصره متأخرا عن عصر الأئمة الذين حكوا الإجماع عن أهل البيت؛ فكلامه مردود؛ لأنه خالف إجماع آبائه، وشذ عن طريقتهم ومضى في غير منهجهم القويم، وسلك في غير صراطهم المستقيم، وما كان هذه المثابة فلا ينبغي لأحد أن يعمل به، ولا يحل لمؤمن أن يتمسك به في معارضة إجماع المتقدمين والمتأخرين من العترة المطهرة. ومع هذا، فمسألة السب وما يترتب عليها من التكفير والتفسيق من المسائل المط لا يجوز التقليد فيها [6ب] عند أهل البيت، كما صرحت به مطولات كتبهم ومختصراتها، فعلى فرض أنه قد صرح فرد من أفراد العلماء من أهل البيت أو من غيرهم بجواز السب، لا يجوز لأحد أن يقلد في ذلك؛ لأن التقليد في المسائل الفرعية العملية، لا في المسائل العلمية، ولا فيما يترتب عليها، فمن رام اتباع الشيطان في سب أهل الإيمان؟ فليقف حتى يجتهد في المسألة، ثم يعمل. مما رجح له، ولا يخالف كتاب الله وسنة رسوله، وإجماع المسلمين من أهل البيت وغيرهم، وهو موثق بربقة التقليد، قاصر الباع، حقير الاطلاع، لا يعقل الأدلة ولا يعرف الحجج. ¬

(¬1) ما بين المعكوفتين زيادة من المخطوط [ب].

* خاتمة: ربما تجاوز بعض جهال الشيعة من أهل عصرنا سب الصحابة فيحكم على من لم يسب بأنه ناصبي (¬1)!! وهذه قضية أشد من قضية السب؛ لأن ذلك الجاهل حكم على أهل بيت رسول الله أجمع، وعلى جميع العلماء من السلف والخلف بالنصب، والناصبي كافر، فيستلزم هذا الحكم تكفير جميع المسلمين وليس بعد هذا الخذلان خذلان، ولا أشنع من هذه الخصلة التي تبكى لها عيون الإسلام، ويضحك لمثلها ثغر الكفران! وما درى هذا المخذول أن من كفر مسلما واحدا؟ صار كافرا بنصوص (¬2) السنة المطهرة، فكيف. ممن كفر جميع المسلمين؟! فيالله العجب من رجل يبلغ به جهله الفظيع إلي الكفر المضاعف، نسأل الله السلامة!! وإنما قلنا: إن الناصبي كافر: لما تقرر في كتب اللغة وغيرها: أن النصب بغض أمير المؤمنين عليه السلام. قال في " القاموس " (¬3) ما لفظه: " النواصب والناصبية وأهل النصب: المتدينون ¬

(¬1) النواصب: جمع ناصب وناصبي وهو الغالي في بغض على بن أبي طالب وهي من أسماء الخوارج وعوا بذلك لمبالغتهم في نصب العداء لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. " فرق معاصرة " غالب بن علي عواجي (1/ 69) الملل والمحل (1/ 131) للشهرستاني. (¬2) من مثل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يرمي رجلا بالفسوق والكفر إلا ارتد عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك "، أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6045,3508) ومسلم رقم (61) من حديث أبي ذر رضي الله عنه. وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (60) من حديث ابن عمر قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أيما أمرئ قال لأخيه: يا كافر. فقد باء ها أحدها. إن ط ن كما قال. وإلا رجعت عليه ". وأخرج البخاري في صحيحه رقم (6104) ومسلم رقم (111/ 60) من حديث ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما ". (¬3) (ص 176 - 177).

ببغضة علي رضي الله عنه، لأهم نصبوا له؛ أي: عادوه " انتهى. وإذا ثبت أن الناصبي من يبغض عليا عليه السلام؛ فقد ثبت بالأحاديث الصحيحة الصريحة في كتب الحديث المعتمدة أن بغضه - كرم الله وجهه - نفاق وكفر: فمن ذلك ما رواه مسلم في " صحيحه " (¬1)، وابن أبي شيبة (¬2)، والحميدي (¬3)، وأحمد (¬4)، والترمذي (¬5)، والنسائي (¬6)، وابن ماجه (¬7)، وابن حبان (¬8)، وأبو نعيم في "الحلية " (¬9)، وابن أبي عاصم (¬10)؛ عن علي عليه السلام: أنه قال: " والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي إلي: أن لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق " [7أ]. وأخرج نحوه: الترمذي (¬11)، وعبد الله بن أحمد في " زيادات المسند " (¬12) عن أم ¬

(¬1) رقم (78). (¬2) في المصنف (12/ 56). (¬3) في المسند رقم (58). (¬4) في المسند (1/ 128,95,84) وفي فصائل الصحابة رقم (1102,1059,961,948). (¬5) في السنن رقم (3736). (¬6) في السنن (8/ 117,115) وخصائص على رقم (100 - 102). (¬7) في السنن رقم (114). (¬8) في صحيحه رقم (6885). (¬9) (4/ 85). (¬10) في السنة رقم (1325). كلهم من حديث علي بن أبي طالب. وهو حديث صحيح. (¬11) في السنن (5/ 635). (¬12) (6/ 292). قلت: وأخرجه أبو يعلى في المسند رقم (6931,6904) والطبراني في الكبير (23/ رقم 885 - 886). كلهم من طريق مساور الحميري عن أمه عن أم سلمه قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا يحب عليا منافق ولا يبغضه مؤمن بسند ضعيف لجهالة مساور وأمه لكن الحديث صحيح لغيره."

سلمة والديلمي (¬1) عن ابن عباس والخطيب في "تاريخه" (¬2) عن أنس. وثبت أن: "من أبغض عليا، فقد أبغض الله ورسوله"، وبغض الله ورسوله كفر. فمن ذلك ما رواه: الطبراني (¬3)، وابن عساكر، عن عمار بن ياسر. والدارقطني، والحاكم في "مستدركه "، والخطيب، عن علي (¬4) كرم الله وجهه. والطبراني (¬5) عن أبي رافع. ¬

(¬1) في الفردوس (5/ 319 رقم 8313) بسند واه وفي بعض ألفاظه نكارة. (¬2) (9/ 345) مطولاً وفيه: "لا يحبكم إلا مؤمن تقي، ولا يبغضكم إلا منافق شقي". وقال الخطيب عقبه: " هذا الحديث منكر جدا لا أعلم رواه هذا الإسناد إلا ضرار بن سهل وعنه الغباغي وهما جميعا مجهولان". (¬3) كما في مجمع الزوائد (9/ 108 - 109) وقال الهيثمي: "رواه الطبراني بإسنادين أحسب فيهما جماعة ضعفاء وقد وثقوا". وأخرجه ابن عدي في الكامل (6/ 2126). وقال ابن عدي: "ولمحمد بن عبيد الله غير ما ذكرت من الحديث وهو كوفي ويروي عنه الكوفيون، وغيرهم. وهو في عداد شيعة أهل الكوفة، ويروي من الفضائل أشياء لا يتابع عليها ". وأورد المقدسي الحديث في ذخيرة الحفاظ (2/ 1019 رقم 2141) وقال: ومحمد بن عبيد الله ليس بشيء. وخلاصته القول أن الحديث ضعيف جدا. (¬4) أخرج أبو يعلى في المسند (1/ 402 - 403 رقم 268/ 528) عن علي رضي الله عنه قال طلبني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فوجدني في جدول نائما فقال قم .... وفيه ومن مات يحبك بعد موتك ختم له الله بالأمن والإيمان ما طلعت شمس أو غربت، ومن مات يبغضك مات ميتة جاهلية وحوسب بما عمل في الإسلام" إسناده ضعيف. وأورده الهيثمي في "المجمع" (9/ 121 - 122) وقال: "رواه أبو يعلي وفيه زكريا الصهباني وهو ضعيف". (¬5) أخرجه البزار رقم (2559 - كشف) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 129)، وقال: رواه البزار وفيه رجال وثقوا على ضعفهم.

وأخرجه ابن عساكر عن عمرو (¬1) .. وقال: " إسناد رجاله مشاهير؛ غير أبي عيسى المعروف ببلبل؛ فإنه غير مشهور ". وأخرجه أيضًا ابن النجار عن ابن عباس (¬2). وفي الباب أحاديث كثيرة من طرق عن جماعة من الصحابة. وفي هذا المقدار كفاية؛ فإن به يثبت أن الناصبي كافر، وأن من قال لرجل: يا ¬

(¬1) أخرجه أحمد في المسند (3/ 483) وفي فضائل الصحابة رقم (981) والبراز رقم (561 - كشف) وابن حبان في صحيحة رقم (2202 - موارد) من حديث عمرو بن شاش الأسلمى وفيه: " من آذى عليا فقد آذاني " وإسناد ضعيف ومنقطع. (¬2) أخرجه الحاكم في " المستدرك " (3/ 128). والخطيب في تاريخ بغداد (4/ 41) وابن الجوزي في " العلل المتناهية " رقم (348) والطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد (9/ 133) من حديث ابن عباس بلفظ " يا علي أنت سيد في الدنيا سيد في الآخرة حبيبك حبيبي وحبيبي حبيب الله وعدوك عدوي وعدوي عدو الله والويل لمن أبغضك بعدي ". قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين وأبو الأزهر بإجماعهم ثقة، وإذا تفرد الثقة بحديث فهو على أصلهم صحيح، وتعقبه الذهبي في " التلخيص " فقال: وهذا وإن كان رواته ثقات فهو منكر ليس ببعيد من الوضع وإلا لأي شيء حدث به عبد الرزاق سرا ولم يجرؤ أن يتفوه به لأحمد وابن معين، والخلق الذين رحلوا إليه، وأبو الأزهر ثقة ذكر انه رافق عبد الرزاق من قرية له إلي صنعاء قال فلما ودعته قال وجب حقك علي وأنا أحدثك بحديث لم يسمعه مني غيرك. فحدثني بهذا الحديث لفظا. وقال ابن الجوزي في العلل (1/ 222): " لا يصح عن رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعناه صحيح فالويل لمن تكلف في وضعه إذ لا فائدة في ذلك. ثم روى بسنده عن أبي حامد الشرفي أنه سئل عن هذا الحديث فقال: باطل والسبب فيه أن سرا كان له ابن أخ رافضيا يمكنه من كتبه فأدخل عليه الحديث هذا، وكان سر مهيبا لا يقدر عليه أحد في السؤال والمراجعة ". قلت: والخلاصة أن علة الحديث ما ذكر، وأن الحمل فيه ليس على أبي الأزهر ومما يدل عليه متابعة محمد بن علي النجار له كما عند الخطيب في " تاريخ بغداد " (2/ 42).

ناصبي! فكأنه قال: له يا كافر! ومن كفر مسلما كفر كما تقدم وقد أحسن من قال: علي يظنون بي بغضه ... فهلا سوى الكفر ظنوه بي وقد أراح الله سبحانه وتعالي من النواصب - وهم الخوارج ومن سلك مسلكهم - فلم يبق منهم أحد، إلا شرذمة يسيرة بعمان، وطائفة حقيرة بأطراف آلهند؟ يقال لهم: الإباضية (¬1). فليحذر المتحفظ من إطلاق مثل هذه اللفظة على أحد من أهل الإسلام غير هؤلاء؟ فإنه. بمجرد ذلك الإطلاق يخرج عن الإسلام، وهذا ما لا يفعله عاقل بنفسه. ما يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه ومن العجائب أنا سمعنا من جهال عصرنا من يطلق اسم النصب على من قرأ في كتب الحديث، بل على من قرأ في سائر علوم الاجتهاد! ويطلقونه أيضًا على أئمة الحديث! وأهل المذاهب الأربعة! وهذه مصيبة مهلكة لدين من تساهل في ذلك، ولا يكون إلا أحد رجلين: إما جاهل لا يدري ما هو النصب؟ ولا ما هو الناصبي؟ أو غير مبال بهلاك دينه، ومن كان هذه المنزلة، لا ينتفع. ممثل هذا النصح الذي أودعناه هذه الرسالة، وليس علينا إلا القيام بعهدة النبيان للناس الذي [7ب] وجبه الله ورسوله علينا ليهلك من هلك عن بينة. ¬

(¬1) الأباضية: إحدى الفرق الأربع الكبرى من فرق الخوارج وهى الأزارقة، والنجدات، والصفرية، والأباضية. وحميت (الأباضية) نسبة إلي عبد الله بن أباض أحد بنى مرة من بني تميم وهو من زعماء الخوارج ويوافقهم في غالب أصولهم المعروفة في زمانه، خارجا عن جماعه المسلمين وعلى ألمتهم، منابذا للأئمة العداء كما كان ناقما على عثمان بن عفان وعلى رضي الله عنه. وأشهر مسألة اختلفوا فيها مع غيرهم من فرق الخوارج بعد أن فارقوا ابن الزبير حيث لم يبرأ من عثمان رضي الله عنه. [انظر مقالات الإسلاميين (1/ 207) وفرق معاصرة للعواجي (1/ 78)].

اللهم أرشد الخاص من عبادك والعام، واسلك بنا سبل السلام إلي دار السلام. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله. تم نقل هذه الرسالة الكريمة من خط مؤلفها شيخ الإسلام الحافظ العلامة محمد بن علي الشوكاني رحمه الله، الموجودة في مكتبه الجامع الكبير بصنعاء والحمد لله رب العالمين. بتاريخ 29 شهر محرم الحرام سنة 1458 بخط المفتقر إلي رحمة الله محمد بن علي المنصور وفقه الله.] (¬1) [انتهى منقول من خط مؤلفه القاضي العلامة القدوة إمام السنة النبوية، قامع البدعة الغوية محيي معالم الدين حافظ سنة سيد المرسلين: محمد بن علي بن محمد الشوكاني جعله الله قرة عين للمسلين، وأحيا بعلومه ما اندرس منها بحق سيد المرسلين آمن اللهم أمين. إنه جواد كريم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الأكرمين] (¬2). ¬

(¬1) ما بين المعقوفتين زيادة من المخطوط (أ). (¬2) ما بين المعقوفتين زيادة من المخطوط (ب).

قال المؤيد بالله يحيى بن حمزة في آخر التصفية ما لفظه: تنبيه: أعلم أن القول في الصحابة على فريقين

(20) 21/ 1 قال المؤيد بالله يحيى بن حمزة في آخر التصفية ما لفظه: تنبيه: أعلم أن القول في الصحابة على فريقين تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط 1 - عنوان الرسالة: قال المؤيد بالله يحط بن حمزة في آخر التصفية ما لفظه: تنبيه اعلم أن القول في الصحابة على فريقين. 2 - موضوع الرسالة: موقف أهل البيت من صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 3 - أول الرسالة: " الفريق الأول: مصرحون بالترحم عليهم والترضية، وهذا هو المشهور عن أمير المؤمنين، وعن زيد بن علي ... 4 - آخر الرسالة: " لا تفي لها إلا مجلدات، دع عنك ما قال الناس ولكن أسراء التقليد لا يكف شراشر ألسنتهم إلا أقوال الرجال فذكرنا هذه القطرة دفعا لذلك. 5 - عدد صفحات الرسالة: 5 صفحات. 6 - عدد الأسطر في الصفحة: (25 - 28) سطرا. 7 - عدد الكلمات في السطر: (12 - 14) كلمة. 8 - نوع الخط: خط نسخط جيد.

[بين يدي الرسالة: قال القاضي عياض في الشفا (611/ 2 - 615): من توفيره وبره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:- 1) توفير أصحابه وبرهم ومعرفة حقهم. 2) الاقتداء بهم. 3) وحسن الثناء عليهم. 4) الاستغفار لهم. 5) الإمساك عما شجر بينهم. 6) معاداة من عاداهم. 7) الإضراب عن أخبار المؤرخين، وجهلة الرواة وضلال الشيعة والمبتدعين القادحة في أحد منهم. 8) أن يلتمس لهم فيما نقل عنهم من مثل ذلك فيما كان بينهم من الفن أحسن التأويلات، ويخرج لهم أصول المخارج إذ هم أهل ذلك. 9) لا يذكر أحد منهم بسوء، ولا يغمض عليه أمير، بل تذكر حسناتهم وفضائلهم، وحميد سيرقم ويسكت عما وراء ذلك. كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إذا ذكر أصحابي فأمسكوا .. " من حديث عبد الله بن مسعود. - أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (0 243/ 1 رقم 0448 1) وأورده الهيثمي في المجمع (7/ 202) و (7/ 223). وقال فيه مسهر بن عبد الملك وثقه ابن حبان وغيره وفيه خلاف، وبقية رجاله رجال الصحيح. ولكن المحدث الألباني انتقد الحافظ الهيثمي في قوله رجاله رجال الصحيح، لأن شيخ الطبراني ليس من رجال الصحيح ولا من رجال سائر الستة. وقد حكم عليه في الصحيحة رقم (34) بالصحة للشواهد والمتابعة.

قال مالك- رحمه الله-: هذا النبي مؤدب الخلق الذي هدانا الله به، وجعله رحمة للعالمين، يخرج في جوف الليل إلي البقيع فيدعو لهم ويستغفر كالمودع لهم، وبذلك أمره الله، وأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحبهم، وموالاتهم ومعاداة من عاداتهم. انظر: فضائل الصحابة للإمام أحمد. الصارم المسلول (3/ 1072 - 1075)]

قال (¬1) المؤيد بالله يحيى (¬2) بن حمزة عليه السلام في آخر التصفية ما لفظه: تنبيه: اعلم أن القول في الصحابة على فريقين: الفريق الأول: مصرحون بالترحم عليهم، والترضية، وهذا هو المشهور عن أمير المؤمنين، وعن زيد بن علي، وجعفر الصادق، والناصر للحق، والمؤيد بالله، فهؤلاء مصرحون بالترضية والترحم والموالاة، وهذا هو المختار عندنا، ودللنا عليه، وذكرنا أن الإسلام مقطوع به لا محالة، وعروض ما عرض من الخطأ في مخالفة النصوص ليس فيه إلا الخطأ لا غير. وأما كونه كفرا أو فسقا فلم يدل عليه دلالة شرعية، فلهذا بطل القول به، فهذا هو الذي نختاره ونرتضيه مذهبا، ونحب أن نلقى الله ونحن عليه. والفريق الثاني: متوقفون عن الترضية والترحم، وعن القول بالتكفير والتفسيق، وهذا دل عليه كلام القاسم، والهادي، وأولادهما، وإليه يشير كلام المنصور (¬3) بالله، فهؤلاء يحكمون بالخطأ، ويقطعون به، ويتوقفون في حكمه. فأما القول بالتكفير والتفسيق في حق الصحابة، فلم يؤثر عن أحد من أكابر أهل البيت وأفاضلهم كما حكيناه وقررناه، وهو مردود على ناقله انتهى بلفظه. قال في الترجمان عند شرح قوله في البسامة (¬4): ورضي الله عنهم كما رضي أبو حسن الخ ما لفظه: قال المنصور بالله عليه السلام: ولا يمكن أحد أن يصح دعواه على أحد من سلفنا الصالح أفم نالوا من المشائخ أو سبوهم، بل يعتمدون فيهم أنهم خير الخلق بعد محمد، وعلي، وفاطمة صلوات الله عليهم وسلامه ويقولون: قد أخطئوا في التقديم، ¬

(¬1) وجد في صفحة العنوان ما لفظه: هذا الكلام المنقول إلي أخره قد اشتملت عليه الرسالة السابقة: "إرشاد الغبي إلي مذهب أهل البيت في صحب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فهي مغنية عنه، وتحريره كان قبل تحريرها فلتعلم ذلك. (¬2) تقدمت ترجمته في الرسالة السابقة. (¬3) تقدمت ترجمته في الرسالة السابقة. (¬4) تقدم التعريف به في الرسالة السابقة.

وعصوا معصية لا يعلم قدرها إلا الله سبحانه، والخطأ لا يبرا منه إلا الله، وقد عصي آدم ربه فغوى، فإن حاسبهم الله فبذنب فعلوه، وإن عفا عنهم فهو أهل العفو، وهم مستحقون بحميد سوابقهم (¬1) انتهى بلفظه. وهكذا قال المنصور بالله في رسالته، في جواب المسائل التهامية (¬2) بعد أن ذكر تحريم سب الصحابة، وهذا ما يقضي به علم آبائنا [1] منا إلي علي عليه السلام (¬3) انتهى بلفظه ثم قال فيها ما لفظه: وفي هذا الجهد من يرى محض الولاء سب الصحابة رض الله عنهم والبراعة منهم فيتبرأ من محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ من حيث لا يعلم. فإن كنت لا أرمى وترمى كنانتي ... تصب حائجات النبل كشحى ومنكبى انتهى بحروفه. ومثل ذلك روي عن المؤيد بالله، ذكره صاحب حواشي الفضول، وروى (¬4) المهدي أحمد بن يحيى في يواقيت (¬5) السير أنه حتى مات أبو بكر قال علي (¬6) رضي الله عنه: والله لقد كنت بالناس رؤوفا رحيما أو كما قال: وقد صرح (¬7) في القلائد (¬8) أن حكم أبي بكر في فدك ¬

(¬1) انظر: منهاج السنة (5/ 81 - 83) تقدم نصه في الرسالة السابقة. (¬2) تقدم التعريف بها. (¬3) أكثر المصنف- عفا الله عنا وعنه- من استخدام هذه العبارة وقد أوضحنا في الرسالة السابقة حكم استخدامها. فتنمه لهذا هداك الله. وهذه العبارة وغيرها من شعار أهل البدع في تخصيص على - رضي الله عنه - وآل البيت، فينبغي اجتنابه. انظر معجم المناهي اللفظية (ص 349 - 350). (¬4) تقدمت ترجمته في الرسالة السابقة. (¬5) تقدم التعريف به. (¬6) أخرجه أحمد في فضائل الصحابة رقم (112, 178) بإسناد ضعيف وقد تقدم في الرسالة السابقة. (¬7) أي مؤلفه المهدي أحمد بن يحيى المرتضى الحسني. (¬8) وقد تقدم التعريف بالكتاب في الرسالة السابقة. وانظره في مؤلفات الزيدية (2/ 353).

صحيح، وروي فيها عن زيد (¬1) بن على قال: لو كنت أبا بكر الصديق لما قضيت إلا بما قضى .. ولو كان فاسقا عندهم أو غير عدل لم يصح قضاؤه. قال زيد بن على: كيف أرفضهما يعني: أبا بكر وعمر، وهما وزيرا جدي. ذكر ذلك صاحب القاموس (¬2) في مادة رفض. وقال محمد بن المنصور عبد الله بن حمزة يفتخر على قحطان في قصيدة: ومنهم أبو بكر وصاحبه الذي ... على السنن الغر الكريمة يغضب قال في بيان ابن مظفر (¬3): مسألة: قال الإمام يحط: ولا يصح الإئتمام بفاسق التأويل، ولا بمن يفسق الصحابة الذين لقدموا عليا انتهى. ولم يحك خلافا لأحد، قال في البستان (¬4): قال- عليه السلام-: يعني الإمام يحي: لمن يفسق الصحابة فهو قاس تأويل لأنه اعتقد ذلك لشبهة طرأت عليه، وهو يقدمهم على أمير المؤمنين، فلا تصح الصلاة خلف من يسبهم، لأنه جرأة على الله، واعتداء عليهم مع القطع بتقدم إيمانهم، واختصاصهم بالصحبة لرسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- والفضائل الجمة، وكثرة الثناء عليهم من الله- سبحانه- ومن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وأكثر الأئمة، وعلماء الأمة. ولا دليل قاطع على كفرهم ولا فسقهم. فأما مطلق الخطأ فهو وإن قطع به لا يكون كفرا ولا فسقا، إذ لا بد فيهما من دليل لطعي شرعي. وقد قال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " لا يؤمنكم ¬

(¬1) انظر الحجة للأصبهاني (2/ 352). وسيأتي تفصيل هذه القصة ودحض الشبهة فيها، في الرسالة اللاحقة بعنوان " هل خص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل البيت بشيء من العلم ". (¬2) أي القاموس المحيط (ص830) مادة رفض، (¬3) تقدمت ترجمته. (¬4) تقدم التعريف به.

ذو جرأة لي دينه " (¬1) وأي جرأة أعظم من اعتقاد هلاك من له الفضل والسبق إلي الإسلام والهجرة، وإحراز الفضل والمراتب العلية، والإنفاق في الجهاد، وبذل النفوس والأموال لله ولرسوله! وقد قال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " لو أنفق أحدكم ملء الأرض ذهبا ما بلغ مد أحدهم " (¬2) فنعوذ بالله من الجهل والخذلان انتهى. مال العلامة يحط بن (¬3) الحسن بن القاسم بن محمد في كتابه الإيضاح (¬4) بما خفي من الاتفاق على تعظيم [2] الصحابة ما لفظه: وإذا تقرر ما ذكرناه، وعرفت أقوال أئمة العلم الهداة علم من ذلك بالضرورة التي لا تنتفي بشك، ولا شبهة إجماع أئمة الزيدية على تحريم لسب الصحابة، لتواتر ذلك عنهم، والعلم به، فما خالف ما علم ضرورة لا يعمل به إلي آخر كلامه انتهى. وحكى المنصور بالله (¬5) عبد الله بن حمزة في كتابه الكاشف للإشكال (¬6) الفارق بين التشيع والاعتزال ما لفظه: والمسلك الثاني أن أمير المؤمنين هو القدوة، ولم يعلم من حاله- عليه السلام- لعن القوم (¬7) ولا تبرأ منهم، ولا تفسيقهم. قال: وهو قدوتنا- عليه السلام- فلا تزد على حده الذي وصل إليه، ولا تنقص شيئا من ذلك، لأنه إمامنا وإمام المتقن، وعلى المأمور اتباع آثار إمامه، واحتذاء مثاله، وإن تعدى خالف وظلم انتهى، وقد حكى هذا الكلام عن المنصور بالله بألفاظه السيد الهادي بن إبراهيم (¬8) الوزير في تلقيح الألباب (¬9) في شرح أبيات اللباب، بلى ¬

(¬1) تقدم تخريجه في الرسالة السابقة وهو حديث ضعيف. (¬2) تقدم تخريجه في الرسالة السابقة. وهو حديث صحيح. (¬3) تقدمت ترجمته. (¬4) تقدم التعريف به. (¬5) تقدمت ترجمته. (¬6) تقدم التعريف به. (¬7) في هامش المخطوط " يعني المشائخ المتقدمين عليه ". (¬8) تقدمت ترجمته. (¬9) تقدم التعريف به.

حكى في البسامة أن عليا- عليه السلام- كان يترضى عنهم فقال: ورض عنهم كما رضي أبو حسن ... أوقف عن السب إن ما كنت ذا حذر وقال المنصور بالله في ذلك الكتاب: إنا إنما توقفنا في أميرهم لما قدمنا طرفا من ذكره، وهو أن لهم حسنات عظيمة (¬1) بمشايعة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ونصرته والقيام دونه، والرمي من وري حوزته، ومعادات الأهل والأقارب في نصرة الدين، وسبقهم إلي الحق وحضور المشاهد إلي تزيغ فيها الأبصار، وتبلغ القلوب الحناجر إلي آخر كلامه. وذكر الإمام المهدي محمد بن (¬2) المطهر- عليه السلام- في كتابه الكواكب (¬3) الدرية جلة وافية، ونبذة شافية في أحوال المشائخ، وأشار إلي مثل كلام المنصور بالله في لزم التوقف، قال الهادي بن إبراهيم (¬4) الوزير في ................................... وقد قدمنا في الرسالة السابقة نصوص من القرآن والسنة. ¬

(¬1) انظر: قطر الولي (ص 292 - 296). و" فضائل الصحابة " للإمام احمد بن حنبل. (¬2) الإمام محمد بن المطهر بن يحي أحد أعلام الزيدية، باليمن ولد سنة 660 هـ هجرة الكريش شرق مدينة شهارة أخذ العلم عن أبيه، حقق في فنون العلم وكان كثر التدريس ى للعلوم تخرج عليه مشاهير العلماء منهم ولده الإمام الواثق بالله المطهر بن محمد. توفي سنة 728 هـ بحصن ذمرمر. من مصنفاته: عقود العقيان في الناسخ والمنسوخ من القرآن. البغية في الفرائض. الرياض الندية في نبذ من الأموال المهدية. أعلام المؤلفين الزيدية (ص 997) الأعلام (7/ 234) البدر الطالع (2/ 171). (¬3) " الكواكب الحرية سرح الأبيان الفخرية " شرح على قصيدة الحسن بن وهاس الرائية في إمامة أمير المؤمنين. أعلام المؤلفين الزيدية (ص 998). وقال في مؤلفات الزيدية (2/ 391) الكواكب الدرية في شرح الأبيات البدرية. (¬4) تقدمت ترجته.

تلقيح (¬1) الألباب: وأكثر من انتصر لجواز الترضية والموالاة الأمام يحط بن حمزة؟ فإنه بالغ في ذلك في كتبه الكلامية، وأفرد لذلك كتابه المسمى بالتحقيق (¬2) في الإكفار والتفسيق، وله في هذا المعنى من الكلام ما لا يمكن إيراده. وروى الترضية عن جماعة من أهل البيت وحماهم بأعيانهم، ومن أراد ذلك طالعه من كتاب التحقيق انتهى. وحكى السيد الهادي أيضًا في ذلك الكتاب أنه سئل الإمام المهدي على بن محمد بن علي عن حكم من تقدم على أمير المؤمنين، أو خالفه، فأجاب أن مذهب الجمهور من الزيدية أن النص وقع على وجه يحتاج في معرفة المراد به إلي نظر وتأمل، ولا يكفرون من دافعه، ولا يفسقونه ... إلي آخر كلامه. وحكى السيد الهادي أيضًا في ذلك الكتاب عن الإمام الناصر محمد (¬3) بن علي المعروف بصلاح الدين أنه سئل عن ذلك، فأجاب بأن مذهب أئمة الزيديه [3] القول بالتخطية لو تقدم أمير المؤمنين. قال: وهؤلاء فرقتان: فرقة تقول باحتمال الخطأ، ويتوقفون في أميرهم، وفرقة يتولونهم ويقولون بأن خطأهم مغتفر في جنب مناقبهم، وأعمالهم، وجهادهم، وصلاحهم. وهذا القول الذي نراه أوهم وجوه الإسلام، وبدور الظلام إلي آخر كلام الإمام صلاح الدين (¬4) قال السيد الهادي بعد إيراده لكلام الناصر صلاح الدين ما لفظه: فقد بان لك اختلاف رأي الإمامين المهدي وولده الناصر، فرأى المهدي التوقف وشدد فيه، ورأى ولده الترضية، ورضي عنهم. قال: نقلته من خطه، قال: فرأته ورأي الإمام يحيى بن ¬

(¬1) تقدم التعريف به. (¬2) تأليف المؤيد يحط بن حمزة الحسيني اليمني (749). أوله " ... الحمد لله ......... هذا كتاب يجب معرفة ما تضمنه من المسائل على كل مكلف ". مؤلفات الزيدية (1/ 271). (¬3) تقدمت ترجمته في الرسالة السابقة. (¬4) انظر كلام ابن تيمية في منهاج السنة (5/ 83) وقد تقدم في الرسالة السابقة.

حمزة في هذه المسألة واحد، ورأي والده ورأي المنصور بالله واحد في التوقف، ثم قال: واعلم أيها المكلف أن أئمة العترة في هذا المعنى كما رأيت، والحق أنهم أخطئوا بالتقدم على أمير المؤمنين، ولكن سوابقهم الجميلة ومآثرهم الصالحة، وما كان لهم من مودة النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- والقدم الراسخة في الإسلام لم يقطع على هذه المعصية بأنها كبيرة، وربك الغفور ذو الرحمة فنسأل الله التوفيق والعصمة. انتهى كلام السيد الهادي الوزير. وقال الإمام يحط بن حمزة في رسالته الوازعة (¬1) بعد أن حكى عن أهل البيت أفم لم يكفروا، ولا فسقوا من لم يقل بإمامة أمير المؤمنين، أو تخفف عنه، أو تقدمه، ما لفظه: ثم إن لهم بعد القطع بعدم الكفر والفسق مذهبين: الأول: مذهب من صرح بالترحم والترضية عليهم، وهذا هو المشهور عن علما- عليه السلام- وزيد بن على، وجعفر الصادق، والباقر، والناصر، والمؤيد بالله، وغيرهم، وهو المختار عندنا ثم قال: المذهب الثاني: من توقف عن الترضية، والترحم، والإكفار، والتفسيق. وإلي هذا يشير كلام القاسم والهادي وأولادهما، والمنصور بالله، لأنهم لما قطعوا على الخطأ ولم يدل دليل على عصمتهم، فيكون الخطأ صغيرة في حقهم جاز أن يكون خطؤهم كبيرة، ولذلك توقفوا عن الترضية قال: ويقابله آنا قاطعون على إيمانهم قبل هذه المعصية، فيستصحب الأصل، ولا ينتزع عنه إلا لدلالة قاطعة تدل على كفر أو فسق (¬2) ¬

(¬1) (ص 185 - 190) بتحقيق الشيخ مقبل بن هادي الوادعي. (¬2) وقوله هذا مخالف لقوله تعالي: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] وقوله تعالي: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100]. وانظر: الجامع لأحكام القرآن (8/ 236).

قال: وما روي عن المنصور بالله أنه قال: من رض عنهم فلا تصلوا خلفه، ومن سبهم فاسألوه ما الدليل، الرواية المشهورة: من سبهم فلا تصلوا خلفه، ومن رضي عنهم فاسألوه ما الدليل (¬1) 0 انتهى كلام الإمام ير بن حمزة في تلك الرسالة (¬2). والصحابة رضي الله عنهم أجل وأعظم من أن ينقل في تنزيه شأنهم- صانهم الله مثل هذا الكلام، فإن مناقبهم التي في نصوص القرآن والسنة [4] لا تفي لها إلا مجلدات، دع عنك ما قال الناس، ولكن إسراء التقليد لا يكفى شراشر ألسنتهم إلا أقوال الرجال، فذكرنا في هذه التيطرة دفعا لذاك. كمل من خط المؤلف القاضي الفهامة، قطب علم الدين محمد بن علي الشوكاني حفظه الله على مر الدهور والأزمان بحق محمد وآله وصحبه وسلم تسليما [5]. ¬

(¬1) تقدم التعليق على ذلك في الرسالة السابقة. (¬2) أي الرسالة الوازعة للمعتدين عن سب صحابة سيد المرسلين (ص 195).

هل خص النبي صلى الله عليه وسلم أهل البيت بشيء من العلم

(21) 26/ 1 هل خص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل البيت بشيء من العلم تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: هل خص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل البيت بشيء من العلم. 2 - موضوع الرسالة: الرد على من زعم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خص أهل البيت بشيء من العلم. 3 - أول الرسالة: الحمد لله وحده وصلى الله على من لا نبي بعده، وآله من بعده، وصحبه الراشدين. وبعد: فإني قد كنت استنبت في جواب السؤال المنقول في هذا القرطاس. 4 - آخر الرسالة: ... ولهذا قال الإمام يحط ما قال، والهداية بيد ذي الجلال وكذلك صحح المهدي في قلائده القضاء، ونظر إليه بعين الرضا. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - عدد الصفحات: 4 صفحات. 7 - المسطرة: الصفحة الأولى: 19 سطرا. الصفحة الثانية: 26 سطرا. الصفحة الثالثة: 25 سطرا. الصفحة الرابعة: 9 أسطر. 8 - عدد الكلمات في السطر: (13 - 15) كدمة. 9 - تاريخ النسخ: سنة 1323 هـ.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، وصلى الله على من لا بي بعده، وآله من بعده، وصحبه الراشدين، وبعد: فإني قد كنت استنبت في جواب السؤال المنقول في هذا القرطاس بعض من أخذ عنى العلم، وكتبت بقلمي بعد جوابه ما فيه الإشارة إلي ما اعتقده في جواب السؤال الأول، حيث قلت: إنه يمكن التأويل بأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أراد أن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ما خلف عندنا من العلم المكتوب بالتيلم إلا هذا، لأنه لم يكن عنده مكتوبا إذ ذاك إلا مصحفه، وما (¬1) في الصحيفة، وهذا التأويل غير مناف لجميع تلك الروايات السابقة إلي ساقها السائل- عافاه الله-. ووجه هذا أن النفط لو كان ما هو أعم من المكتوب لكان مستلزما أنه لم يكن عنده من جميع العلم إلا ما ذكره - صلى الله عليه وسلم -. واللازم باطل، فالملزوم مثله. ¬

(¬1) يشير إلي الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6915) عن أبي جحيفة قال: " سألت عليا رضي الله عنه: هل عندكم شيء مما ليس في القرآن؟ وقال ابن عيينة مرة: ما ليس عند الناس- فقال: والذي خلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن، إلا فهما يعطى رجل في كتابه وما في الصحيفة قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسر وأن لا يقتل مسلم بكافر ". وأخرجه احمد (1/ 119) وأبو داود رقم (4530) والنسائي (8/ 19). والحاكم في المستدرك (2/ 141) وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهي، والطحلوي في " شرح معاني الآثار " (3/ 192) والدارقطني (98/ 3 رقم 61) والبيهفي (29/ 8) وهو حديث صحيح بشواهده. وانظر الإرواء رقم (2209). ولفظه: عن فيس بن عباد، قال: انطلقت أنا والأشتر إلي علي عليه السلام. فقلنا: هل عهد إليك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئا لم يعهده إلي الناس عامة؟ قال: لا، إلا ما في كتابي هذا؟ قال مسدد: قال: فأخرج كتابا، وقال احمد: كتابا من قراب سيفه، فإذا فيه: " المؤمنون تكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده، من أحدث حدثا فعلى نفسه، ومن أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ".

أما الملازمة فظاهرة، [لآن تعميم النفط (¬1) يستلزم تعميم النفط] (¬2)، وأما بطلان اللازم فمعلوم بالتواتر أن عند أهل بيت النبوة، لا سيما أمير المؤمنين من العلوم النافعة التي يرونها عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- غير المصحف والصحيفة المشار إليها، ومن لم يتواتر له هذا فعليه. بمطالعة أي كتاب كان من كتب الحديث، فإنه يجد المرويء عن على رضي الله عنه، وعن أهله قد اشتمل على غير الأميرين المثبتين في كلامه. وإذا تقرر هذا طاح الإشكال من أصله، فإن الإثباتات المخالفة لهذا النفي هي باعتبار مطلق العلم لا باعتبار مكتوبه، وأما ما استشكله السائل- حفظه الله- من إثبات من أثبت من أهل العلم لبعض الصحابة في العلم مزايا دون بعض. فأقول: إن كان التخصيص لبعض الصحابة منه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، بأنه يعلم نوعا من أنواع العلم [1] كما حكاه أبو هريرة (¬3) عن نفسه، وكما أطبق عليه. ¬

= قال ابن تيمية في منهاج السنة (8/ 137): ليس فيه- الحديث- أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خص أبا هريرة. مما في ذلك الجراب، بل كان أبو هريرة أحفي من غيره فحفظ ما لم يحفظه غيره. ويوضح هذا الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (119) من حديث أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله إني أمع منك حديثا كثيرا أنساه؟ قال: " ابسط ردائك " فبسطه قال: فغرق بيديه ثم قال: " ضمه " فضممته، فما نسيت شيئا بعده. والحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (118وأطرافه 119، 3074 و2350 و3648 و7354) من حديث أبي هريرة قال: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا ثم يتلو {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَآلهدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 159 - 1160]. إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموآلهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله ك! بشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ ما لا يحفظون. والحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه رقم (25/ 2892) من حديث عمرو بن أخطب قال: صلى بنا رسول الله! الفجر، وصعد المنبر فخطبا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى، ثم صعد المنبر، فخطبا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر. فخطب حتى غربت الشمس، فأخبرنا كان وبما هو كائن. فأعلمنا أحفظنا ". وأبو هريرة أسلم عام خيبر، فلم يصحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا أقل من أربع سنين، وذلك الجراب لم يكن فيه شيء من علم الدين. علم الإيمان والأمير والنهى- وإنما كان فيه الأخبار عن الأمور المستقبلة، مثل الفن التي جرت بين المسلمين: فتنة الجمل، صفين، وفتنة ابن الزبير ومقتل الحسين، ونحو ذلك، ولهذا لم يكن أبو هريرة ممن دخل في الفن. ولهذا قال ابن عمر: لو حدثكم أبو هريرة أنكم تقتلون خليفتكم وتفعلون كذا وكذا، لقلتم: كذب أبو هريرة. انظر منهاج السنة (8/ 138). (¬1) انظر: البحر المحيط (3/ 114 - 116). (¬2) كفا في المخطوط ولعل صوابه " النكرة في سياق النفي تعم، أنها تفيد عموم النفي، لا لفظ العموم (¬3) يشير إلي الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (120): من حديث أبي هريرة قال: حفظت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعاءين: فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم ".

الصحابة في علم حذيفة (¬1)، وروي مرفوعا، فلا شك أن مثل هذا العلم يجوز الوصف ¬

(¬1) يشير إلي الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3742). عن إبراهيم النخعي عن علقمة قال: " قدمت الشام، فصليت ركعتين، ثم قلت: اللهم يسر لي جليسا صالحا. فأتيت قوما فجلست إليهم، فإذا شيخ قد جاء حتى جلس إلي جبي، قلت من هذا؟ قالوا: أبو الدرداء. فقلت: إن دعوت الله أن ييسر لي جليسا صالحا، فيسرك لي: قال: ممن أنت؟ قلت: من أهل الكوفة. قال: أو ليس عندكم ابن أم عبد صاحب النعلين والوسادة والمطهرة؟ أفيكم الذي أجاره الله من الشيطان. يعني على لسان نبيه!؟ أو ليس فيكم صاحب سر النبي خ! الذي لا يعلم أحد غيره؟ قال ابن تيمية في منهاج السنة (8/ 139) وذلك السركان معرفته- حذيفة- بأعيان ناس من المنافقين كانوا في غزوة تبوك، هموا بأن يحلوا حزام ناقة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالليل ليسقط، فأعلمه الله بهم، وكان حذيفة قريبا، فعرفه هم، وكان إذا مات الميت المجهول حآله لا يسلط عليه عمر حتى يصلى عليه حذيفة خشية أن يكون من المنافقين.

للرجل المخصص بذلك، بأنه عالم بالنوع المذكور، وإن كان التخصيص للرجل بفرد من أفراد الحوادث، مثل أنه يعمل حدوث كذا في وقت كذا، فلا ريب أنه يجوز الوصف للرجل المخصص بذلك الفرد بأنه عالم به، وأهل الحديث قد وفوا لهذا، ووصفوا كل أحد. مما يختص به، فإنهم كما خصصوا حذيفة. مما ذكره السائل خصصوا أمير المؤمنين. مما ذكروه من قصة المدلج (¬1) ورووا ذلك في كتبهم، فماذا يصنعون بعد ¬

(¬1) يشير إلي الحديث الذي أخرجه النسائي في الخصائص (ص 28) والحاكم (3/ 140 - 141) وأحمد (4/ 263) من طريق محمد بن إسحاق حدثي يزيد بن محمد بن خيثم المحاربي عن محمد بن كعب التيرظي عن محمد بن خيثم عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: " كنت أنا وعلي رفيقين في غزوة ذي العشرة، فلما نزلها رسول الله! وأقام ها رأينا ناسا من بني مدلج يعملون في عين لهم في نخل - فقال لي على: يا أبا اليقظان: هل لك أن نأتي هؤلاء فننظر كيف يعملون؟ فجئناهم فنظرنا إلي عملهم ساعة- ثم غشينا النوم، فانطلقت أنا وعلى، فاضطجعنا في صور من النخل، في دقعاء من التراب فنمنا والله ما أيقظا إلا رسول الله! يحركنا برجله وقد تقربنا من تلك الدقعاء- فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أبا تراب! لما يرى عليه من التراب، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألا أحدثكما بأشقى الناس رجلين؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك على هذه (يعني قرن على) حتى تبتل هذه من الدم- يعني اللحية. والسياق، للحاكم، وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهي. وقد وهما فإن محمد بن خيثم، ويزيد بن محمد بن خيثم، لم يخرج لهما مسلم شيئا بل ولا احد من بقية الستة إلا النسائي في " الخصائص " وفيهما جهالة. وأورد الحديث آلهيثمي في " المجمع " (9/ 136) وقال: رواه احمد والطبراني والبزار باختصار، ورجال الجميع موثقون إلا أن التابعي لم يسمع من عمار. لكن للحديث شواهد من حديث صهيب، وجابر بن حمرة، وعلى. أوردها آلهيثمى في المجمع (9/ 136 - 137). فقال عن حديث صهيب: " رواه الطبراني وأبو يعلى وفيه رشدين بن سعد وقد وثق وبقية رجآله ثقات ". قلت: بل إسناده ضعيف. وقال عن حديث جابر بن حمره: " رواه الطبراني وفيه ناصح بن عبد الله وهو متروك " قلت: إسناده ضعيف جدا. وقال عن حديث على: رواه الطبراني وإسناده حسن. وانظر الصحيحة (4/ 324 - 325 رقم 1743). وخلاصة القول أن حديث علي الأول حديث حسن لغره والله أعلم. العشرة: ناحية من نواحي ينبع بين مكة والمدينة غزاها النبي! في) وآخر جمادى الأولى السنة الثانية. البداية والنهاية (246/ 3). الدقعاء: الأرض التي لا نبات فيها التياموس (ص 924).

هذا؟ أو من ظن أفم غالوا في وصف أحد الصحابة. مما لم يصح، أو قالوا على عدم وصف بعضهم. بما صح، فليبين لنا ذلك بيانا شافيا، على وجه صحيح، عند أهل الحديث مثلا، يقول: ما بال الصحابي الفلاني لم يوصف بكذا، وهو ثابت بإسناد من طريق على شرط أهل الحديث. فلان عن فلان عن فلان، كما يفعله أهل المستدركات (¬1). ولابد أيضًا أن يكون ذلك الوصف غير مذكور عند جميع أهل الحديث حتى شم لمن زعم أنهم قالوا على التطفيف لبعض الصحابة دون بعض، وما أظنه يجد السبيل إلي هذا. وأما أنه يلزمهم أن يصفوا الرجل. مما لا يصح عندهم نحو ما يختلقه التيصاص والغلاة فهذا لا ينبغي أن يعدوا في مثالبهم، بل يتوجه جعله من مناقبهم. وقد زيفوا فضائل مختلفة لجماعة من الصحابة، ولم يكن انتفاؤهم مختصا بفرد دون فرد، ومن أحب الوقوف على حقيقة هذا فالمطالع كتب الجرح (¬2) والتعديل؟ فإنه يقف في كث!! ر من تراجم الضعفاء على تزييف فضائل مروية لأبي بكر (¬3)،. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

(¬1) كـ (مستدرك الحاكم). المستدرك على الصحيحين. (¬2) " الجرح والتعديل " لابن أبي حاتم. تهذيب التهذيب لابن حجر. الكامل لابن عدي. " الضعفاء " للعقيلي. ولسان الميزان لابن حجر. (¬3) (منها) حديث: " إن الله يتجلى للناس عامة، ويتجلى لأبي بكر خاصة ". رواه على بن عبدة المكتب عن يحي بن سعيد التيطان عن ابن أبي ذب عن محمد بن المنكدر عن جابر. أخرجه ابن عدي في الكامل (5/ 1858) وقال المقدسي في الذخيرة (2/ 604رقم 1006): " وهذا حديث باطل هذا الإسناد والله أعلم. انظر: الأسرار المرفوعة (ص 452)، اللؤلؤ المرصوع (ص 107) " المنار المنيف " (ص 239). و (منها) حديث: " إن الله يكره فوق بمائه أن يخطأ أبو بكر الصديق في الأرض ". أورده الطرابلسي في الكشفى الآلهي عن شديد الضعف والموضوع والواهي (1/ 209 رقم 216) وقال: أورده أبو الفرج " ابن الجوزي " في الموضوعات ثم حكم بوضعه. وانظر: فيض التيدير (2/ 135). (ومنها): حديث: " رأيت ليلة أسري بي على العرش: لا آله إلا الله محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، عمر الفاروق، عثمان ذو النورين يقتل مظلوما ". انظر: اللألىء مصنوعة في الأحاديث الموضوعة (1/ 298).

ولعمر (¬1)، ولعثمان (2)، ولغيرهم. وكيف يسوغ للإنسان أن يظن بهم المبالغة في نشر ¬

(2): (منها) حديث " نزول دم عثمان عند قتله على كتاب الله تعالي على لفظ: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} قال في أسني المطالب رقم (1605) باطل لا أصل له. (ومنها): حديث " إن لله سيفا مغمودا في غمده، ما دام عثمان بن عفان حيا فإذا قتل: جرد ذلك السيف فلم يغمد إلي يوم التييامة ". أخرجه ابن عدي في الكامل (5/ 1797) ومن طريقه أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات رقم (235) وأورده المقدسي في الذخيرة 2/ 955 رقم 1982) وقال: وهذا منكر لا أعلمه إلا من عمرو ابن فائد هذا. (¬1) (منها) حديث: أتاني جبريل عليه السلام، فقال: أقرئ عمر السلام وقل له: إن رضاه حكم، وإن غضبه عز ". أخرجه الطبراني في الكبير (3/ 60 - 61 رقم 12472) عن خالد بن يزيد العمري: نا جرير ين حازم عن زيد العمي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعا. وأورده آلهيثمى في " المجمع " (9/ 69) وقال: رواه الطبراني في " الأوسط " وفيه خالد بن يزيد العمري وهو ضعيف. قلت: لعله سهو أو خطأ من الناسخ وإلا فهو في " الكبير ". وخالد بن يزيد العمري متهم بالكذب او الوضع قال الذهي في الميزان (2/ 432رقم 2479/ 3147): " كذبه أبو حاتم، ويحي وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات. و (ومنها): حديث " إن الله يباهي الملائكة عشية عرفة بعمر بن الحطاب ". أخرجه ابن الجوزي في " العلل المتناهية " رقم (306).

فضائل هذا، وكتم فضائل هذا، أو تصحيح فضائل هذا، وتضعيف فضائل هذا, فهم أجل من ذاك، ولو جوزنا فيهم مثل هذا لجوزناه في جميع ما جاؤونا به من أحكام الصلاة، والصيام، وسائر شرائع الإسلام. والحاصل آنا نمنع ذلك، وننزه جنابهم الشريف عن خطوره بخواطرهم، فضلا عن جريه على ألسنتهم، فمن كان ناقلا لخلاف هذا فالصحة، ومن كان مدعيا فالدليل على الصفة التي شرحناها. وما أشار إليه السائل- حماه الله- من الاعتراض على جواب من أجاب بأن النفط عائد إلي الشرائع المتعبد ها، مسندا ذلك لعدم مطابقته لسؤال أبي جحيفة (¬1) لكونه في الجهاد. فأقول: أحكام الجهاد من الشرائع المتعبد ها، فهو دليل عليه لا له، لأن المجيب حمل النفط على ما كان شرعا تعبدنا الله به، إما كلا أو بعضا، أي ليس عندي من هذا العلم الذي يجب علي [2] وعلى غيري، أو يحرم، أو يندب، أو يكره غير المصحف والصحيفة، فلا منافاة بين هذا النفي، وبين إثبات تخصيصه بعلم قصة المدلج (¬2) إلي هي في معزل عن ذلك، إنما هي علم بواقعة من الوقائع، ليست كالصلاة، والصيام، والحج، والجهاد، فظهر هذا أن الاعتراض معترض، وإن كنت لا أقول. مما دفعت عنه الاعتراض، بل بالأول. وأما الجواب على السؤال الثاني، فقد كتبت بعد جواب المستناب أن الجواب إقناعي لا تحقيقي، كما نقله السائل- كثر الله فوائده-، فيحصن ههنا الإشارة إلي الجواب التحقيقي، وهو أن يقال للسائل: إن كنت مثبتا للعصمة، فليس المقام مقام إنصاف من ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه.

بادئ بدء، ويكون المهم الكلام في العصمة قبل الكلام في حديث الغضب (¬1)، وإن كنت غير مثبت لها، فأخبرنا عمن لم يكن معصوما، هل يقع منه الغضب لبعض الأمير الذي يثير غضبه، سواء كان محقا أو غير محق؟. فإن قلت: نعم، فنقول: أخبرنا عن حديث الغضب الذي تسبب عنه ما تسبب، هل هو الغضب على أي صفة كان، سواء كان منشؤه مخالفة الحق أو موافقته؟. فإن قلت: نعم يجب ذلك، فنقول: وما الدليل على هذا؟ فإن قلت: عموم حديث الغضب، فنقول: كيف أوجبت على راوي حديث معاشر الأنبياء (¬2) أن يدع ما بلغه عن الشارع مع اعتقاده أنه الحق الصراح، وأن خلافه على خ! فه، فإن غاية م! ا! ص العمل الأصولي في هذا بعد تسليم تعميم الغضب هو أن يقال: إن أسباب الغضب عامة، لأنها تكون بالمنع (¬3) من الميراث، وبأخذ ماهو مستحق، وبإغلاظ الكلام، ¬

(¬1) سيأتي تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه في رسالة " إرشاد الغبي " (ص 863). (¬3) ولتمام الفائدة نعرض رد ابن تيمية على تلك التيضية مفصلا:- في "منهاج السنة" (4/ 226 - 256). قال الرافضي: ومنع أبو بكر فاطمة إرثها فقالت يا ابن أبي قحافة أترث أباك ولا أرث أبي. قال ابن تيمية والجواب على ذلك من وجوه: أن ما ذكر من قول فاطمة رضي الله عنها: أترث أباك ولا ارث أبي؟ لا يعلم صحته عنها، وإن صح فليس فيه حجة، لأن أبابها صلوات الله عليه وسلامه لا يقاس بأحد من البشر وذلك وليس أبو بكر أولى بالمؤمنين من أنفسهم- كأبيها، ولا هو بمن حرم الله عليه صدقة الفرض والتطوع كأبيها، ولا هو أيضًا ممن جعل الله محبته مقدمة على محبة الأهل والمال. كما جعل أبابها كذلك. قال الرافضي: والتجأ في ذلك إلي رواية انفرد ها. قال ابن تيمية: كذب فان قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لا نورث ما تركنا فهو صدقة ". رواه عند أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف والعباس بن عبد المطلب وأزواجه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو هريرة. والرواية عن هؤلاء ثابته في الصحاح والمسانيد مشهورة يعلمها أهل العلم. فقوله- أي الرافضي- إن أبا بكر انفرد بالرواية يدل على فرط جهله أر تعمده الكذب. قال الرافض: وكان هو الغريم لها. قال ابن تيمية " كذب فإن أبا بكر رضي الله عنه لم يدع هذا المال لنفسه ولا لأهل بيته وإنماهو صدقة لمستحقها. ولم يكن الصديق رضي الله عنه من أهل هذه الصدقة بل كان مستغنيا عنها ولا انتفع هو ولا أحد من أهله هذه الصدقة. كما لو شهد قوم من الأغنياء على رجل أنه وصى بصدقة للفقراء فإن هذه شهادة مقبولة. وقال ابن تيمية: أن هذا لو كان فيه ما يعود نفعه على الراوي له من الصحابة لقبلت روايته لأنه من باب الرواية لا من باب الشهادة والمحدث إذا حدث بحديث في حكومة بينه وبين خصمه قبلت روايته للحديث، لأن الرواية تتضمن حكما عاما يدخل فيه الراوي وغيره، وهذا من باب الخبر كالشهادة برؤية آلهلال، فإن ما أمير به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتناول الراوي وغيره، وكذلك ما في عنه وكذلك ما أباحه. وهذا الحديث تضمن رواية بحكم شرعي، ولهذا تضمن تحريم الميراث على ابنة أبي بكر عائشة رضي الله عنها، وتضمن تحريم شرائه لهذا الميراث من الورثة واتها به لذلك منهم وتضمن وجوب صرف هذا المال في مصارف الصدقة. . قال الرافضي: على أن ما رووه عنه فالقرآن يخالف ذلك لأن الله تعالي قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] ولم يجعل الله ذلك خاصا بالأمة دونه. قال ابن تيمية بعد تفصيل كامل تعليقا وشرحا لآية الميراث-: وإذا كان سياق الكلام إنماهو خطاب للأمة دونه لم يدخل هو في عموم هذه الآية فإن قيل: بل الخطاب متناول له وللأمة في عموم هذه الآية، لكن خص هو من آية النكاح والصداق. قيل: وكذلك خصي من أية الميراث فما قيل في تلك يقال مثله في هذه وسواء قيل: إن لفظ الآية كله وخص منه- أو قيل: إنه لم يشمله لكونه من المخاطبين: يقال مثله هنا. - ويقال: هذه الآية لم يقصد ها بيان من يورث ومن لا يورث ولا بيان صفة الموروث والوارث، وإنما قصد بها أن المال الموروث يقسم بين الوارثين على هذا التفصيل، فالمقصود هنا بيان مقدار أنصباء هؤلاء المذكورين إذا كانوا ورثة. ولهذا لو كان الميت مسلما وهؤلاء كفارا لم يرثوا باتفاق المسلمين. وكذلك لو كان كافرا وهؤلاء مسلمين لم يرثوا بالسنة وقول جماهير المسلمين وكذلك لو كان عبدا وهم أحرار أو كان حرا وهم عبيد، وكذلك التياتل عمدا عند المسلمين. - ويقال: هب أن لفظ الآية عام، فإنه خص منها الولد الكافر والعبد والتياتل بأدلة هي أضعف من الدليل الذي دل على خروج النبي! منها، ..... يقال: كون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يورث ثبت بالسنة المقطوع بها وبإجماع الصحابة، وكل منهما دليل قطعي، فلا يعارض ذلك. مما يظن أنه عموم، وإن كان عموما فهو مخصوص لأن دلك لو كان دليلا لما كان ظنيا، فلا يعارض التيطعي، إذ الظني لا يعارض التيطعي وذلك أن هذا الخبر رواه غير واحد من الصحابة في أوقات ومجالس وليس فيهم من ينكره، بل كلهم تلقاه بالتيبول والتصديق ولهذا يصر أحد من أزواجه على طلب الميراث - ولا أصر العم على طلب الميراث بل من طلب من ذلك شيما فأخبر بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجع عن طلبه. - يقال: أن أبا بكر وعمر قد أعطا عليا وأولاده من المال أضعاف أضعاف ما خلفه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المال. والمال الذي خلفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم ينتفع واحد منه بشيء بل سلمه عمر إلي على والعباس رضي الله عنهم يليانه ويفعلان فيه ما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعله وهذا مما يوجب انتفاء التهمة عنهما في ذلك. قال الرافضي: وكذب روايتهم فقال تعالي: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} [النمل:16]. قال ابن تيمية: لا يدل على محل النزاع، لأن الإرث اسم جنس تحته أنواع والدال على ما به الاشتراك لا يدل على ما به الامتياز. وذلك أن لفظ: " الإرث " يستعمل في إرث النبوة والعلم والملك وغير ذلك من أنواع الانتقال. قال تعالي: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 10 - 11]. وقال تعالي: [الأعراف: 128]. فاستدلال المستدل هذا الكلام على خصوص إرث المال جهل منه بوجه الدلالة: - يقال: المراد بهذا الإرث إرث العلم والنبوة ونحو ذلك لا إرث المال. وذلك لأنه قال: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} [النمل: 16] ومعلوم أن داود كان له أولاد كثكل ون غير سليمان فلا يختص سليمان. بمآله. والآية سبقت في بيان المدح لسليمان وما خصه الله به من النعمة. منهاج السنة (4/ 226 - 256).

وبغير ذلك. وحديث معاشر الأنبياء، هو أحد الأسباب المقتضية للغضب، فيبنى العام على الخاص، ويخصص بحديث معاشر الأنبياء أحد الأسباب، وتبقى الأسباب الآخرة، نحيف تركت العمل الأصولي، وطرحت الخاص من دون موجب، وهو مقدم على

العام بالاتفاق! فلا محيص لكل من أحد أميرين. أما الجمع بين الحديثين بجعل الغضب مختصا بالأسباب التي هي حق في اعتقاد من تسبب لإثارته، ومن صدر عنه، أو تقديم الخاص على العام، فإن أبيت هذا وهذا، أو قلت: إن الحديثين عمومان تعارضا، وكل واحد منهما أعم من وجه، وأخص من وجه، فأخبرنا بالطريق التي دلتك على هذا، وبنسبة صحيحة معتبرة على أنك بعد هذا النبيان لم تخلص [3] من حلبة البرهان، لأن تأثير أحد الدليلين ترجيح بلا مرجح؛ فإن قلت: إن لديك مرجحا فما هو؟ فإن قلت: السبب في حديث الغضب الجمع وهو حلال. قلت: من أين كان هذا الحل؟ هل من كتاب الله؟ فما هو؟ أو من سنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، فهو يقول: " لا يحل الجمع بين بنت حبيب الله وعدو الله " (¬1) وهذا عليك لا لك، فأمعن النظر- كثر الله فوائدك- فقد سلكت معك مسلك الجدل، ليكون البحث محجوبا عن المحجوب!! ن، مع علم أنك طالب للإفادة والاستفادة. ¬

(¬1) يشير إلي الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (3110) ومسلم رقم (95/ 2449) من حديث السور ابن مخرمة " ... إن على بن أبي طالب حطب بنت أبي جهل على فاطمة، فسمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهر يخطب الناس في ذلك على منبره هذا، وأنا يومئذ محتلم، فقال " إن فاطمة مني وإني أتخوف أن تفتن في دينها. قال: ثم ذكر صهرا له من بني عبد شمس، فاثني عليه في مصاهرته إياه فأحسن. قال: "حدثني فصدقني. ووعدتي فأوفى لي وإني ليست أحرم حلالا ولا أحل حراما ولكن، والله لا تجتمع بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبنت عدو الله في مكان واحد أبدا ". وفي رواية لمسلم في صحيحه رقم (93/ 2449) من حديث السور بن مخرمة أنه جمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المنبر، وهو يقول: " إن بني هاشم بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم، علي بن أبي طالب، فلا إذن لهم. ثم لا إذن لهم. ثم لا إذن لهم. إلا أن يحب ابن أب طالب أن يطلق ابني وينكح ابنتهم فإنما ابنتي بضعة مني. يريبني ما رأبها ويؤذيني ما آذاها.

والمقام من المضايق، ولهذا قال الإمام (¬1) ير ما قال، وآلهداية بيد ذي الجلال، وكذلك صحح المهدي (¬2) في قلائده (¬3) القضاء، ونظر إليه بعين (¬4) الرضا. انتهى من خط يد المجيب القاضي العمدة العالم الرباني محمد بن على الشوكاني- حفظه الله-، وبارك لنا وللمسلمين في أيامه، بحق محمد وآله وصحبه. ¬

(¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) تقدمت ترجمته. (¬3) تقدم التعريف به. (¬4) وقد تقدم: في رسالة " إرشاد الغ! ط " أنه قال في " القلائد " إن قضاء أبي بكر في فدك والعوالي صحيح ". وروي في شرح هذا الكتاب عن زيد بن على أنه قال: " لو ك! ت أبا بكر لما قضيت إلا. مما قضى وقد تقدم مناقشة القضية في أول هذه الرسالة. وانظر منهاج السنة النبوية لابن تيمية (8/ 41، 56، 131 - 259).

بحث في حديث أنا مدينة العلم وعلى بابها

(22) 11/ 3 بحث في حديث أنا مدينة العلم وعلى بابها تأليف محمد بن علي الشوكاني حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه محفوظة بنت شرف الدين أم الحسن

وصف المخطوط: 1/ عنوان الرسالة: بحث في حديث أنا مدينة العلم وعلى بابها. 2/ موضوع الرسالة: جواب على معني حديث: " أنا مدينة العلم وعلى بابها ". 3/ الرسالة ضمن مجموعة من الرسائل للإمام محمد بن علي الشوكاني. 4/ أول الرسالة: الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم المرسلين وعلى آله المطهرين ... هذا لفظ السؤال الوارد 5/ آخر الرسالة: ... فلنقتصر على الجواب على محل السؤال والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. كتبه محمد الشوكاني غفر الله له. 6/ نوع الخط: خط نسخط معتاد، دقيق في الصفحتين الأوليتين والباقي غليظ. 7/ عدد الأوراق: سبعة. 8/ المسطرة: الورقة الأولى: 22 سطرا. الورقة الثانية: 22 سطرا. الورقة الثالثة: 19 سطرا. الورقة الرابعة: 17 سطرا. الورقة الخامسة: 18 سطرا. الورقة السادسة: 17 سطرا. الورقة السابعة: 16 سطرا. 9/ عدد الكلمات في السطر: بالنسبة للصفحتين الأولى والثانية (17 - 18) كدمة وبالنسبة لباقي الصفحات (11 - 12) كلمة. 10/ الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.

[السؤال] الحمد له رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم المرسلين، وعلى آله المطهرين. هذا لفظ السؤال الوارد: قال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " أنا مدينة العلم وعلى بابها، فمن أراد العلم فليأت من بابها " (1) ظاهر الحديث أن من أراد أخذ شيء ¬

(1): وهو حديث موضوع. روي من حديث على، وابن عباس، وجابر. . أما حديث علي - رضي الله عنه - فله خمسة طرق: - (الطريق الأول) من طريق محمد بن عمر بن الرومي، قال: حدثنا شريك عن سلمة بن كهيل، عن الصنابحي، عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنما دار الحكمة وعلي بابها ".أخرجه الترمذي في "السنن" (10/ 225 - 227 مع التحفة). وقال: " هذا حديث غريب منكر، روى بعضهم هذا الحديث عن شريك، ولم يذكروا فيه عن الصنابحي ولا نعرف هذا الحديث عن أحد من الثقات غير شريك .. ". وأخرجه أبو جعفر الطبري في "تذهيب الآثار" مسند على بن أبي طالب (ص 104 رقم 8)، وأبو نعيم في " معرفة الصحابة " (1/ 308 رقم 346)، وابن الجوزي في " الموضوعات " (1/ 349)، والسيوطي في " اللآلئ" (1/ 329). قلت: وفيه محمد بن عمر بن الرومي: لين الحديث. قآله ابن حجر في " التقريب " (2/ 193). وقال الدارقطني في " العلل " (3/ 247 - 248 س 386): " رقد رواه سويد بن غفلة عن الصنابحي ويسنده " والحديث مضطرب غير ثابت وسلمة يسمع من الصنابحي " اهـ. وقال عبد الرحمن بن يحي المعلمي اليماني في " تحقيق الفوائد المجموعة " (ص 350 - 351): ". . . . والحق أن الخبر غير ثابت عن شريك " اهـ. - (الطريق الثاني): من طريق: الحسن بن سفيان، قال: حدثنا عبد الحميد بن بحر، قال حدثنا شريك عن سلمة بن كهيل عن الصنابحي، عن على بن أبي طالب! ه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا دار الحكمة وعلي بابها". أخرجه أبو نعيم في " الحلية " (1/ 64) وابن الجوزي في " الموضوعات " (1/ 349)، والسيوطي في " اللآلئ " (1/ 329). قلت: وفيه عبد الحميد بن بحر، قال عنه ابن حبان في " المجروحين " (2/ 142): " كان يسرق الحديث، ويحدث عن الثقات. مما ليس من حديثهم لا يجوز الاحتجاج به بحال " وكذا قال ابن عدي كما في " الميزان " (2/ 538 رقم 4765). (الطريق الثالث): من طريق أبي منصور شجاع بن شجاع، قال: حدثنا عبد الحميد بن بحر البصري، قال حدثنا شريك، قال حدثنا سلمة بن كهيل عن أبي عبد الرحمن عن على رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا مدينة الفقه وعلى بابها". أخرج ابن الجوزي في " الموضوعات " (1/ 350) والسيوطي في " اللآلئ " (1/ 329). قلت: وفيه عبد الحميد بن بحر هالك كما تقدم ي الطريق الثاني. - (الطريق الرابع): من طريق محمد بن قيس، عن الشعبي، عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا دار الحكمة وعلي بابها ". أخرجه ابن الجوزي في " الموضوعات " (1/ 350) والسيوطى في "اللآلئ " (1/ 329) وفيه محمد بن قيس مجهول قآله ابن الجوزي (1/ 353). - (الطريق الخامس): رواه ابن مردريه من طريق الحسن بن علي عن أبيه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب ". أخرجه ابن الجوزي في " الموضوعات " (1/ 350) وقال: " وفيه مجاهيل ". وأما حديث ابن عباس فله عشرة طرق: - (الطريق الأول): من طريق جعفر بن محمد البغدادي الفقيه، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " أنا مدينه العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فلبت الباب ". أخرجه ابن الجوزي في " الموضوعات " (1/ 350) والسيوطى في " اللآلئ " (1/ 329) وفيه: جعفر بن محمد البغدادي وهو متهم بسرقة هذا الحديث قآله ابن الجوزي (1/ 354). (الطريق الثاني): من طريق رجاء بن سلمة، حدثنا أبو معاوية- الضرير- عن الأعمش عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب ". أخرجه ابن الجوزي (1/ 350 - 351) والخطب في " تاريخ بغداد " (4/ 348). وفيه جابر بن سلمة. وقد اتهموه بسرقة هذا الحديث قآله ابن الجوزي (1/ 354). - (الطريق الثالث): من طريق أحمد بن عبد الله لن شابور، قال حدثنا عمر بن إسماعيل بن مجالد، قال حدثنا أبو معاوية الضرير عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنما مدينة العلم وعلى بابها فمن أراد العلم فليأت الباب ". أخرجه ابن عدي في " الكامل " (5/ 1722) وابن الجوزي (1/ 351). وفيه عمر بن إسماعيل. قال يحي بن معين: ليس بشيء كذاب خبيث رجل سوء. وقال الدارقطني: متروك. انظر " الضعفاء " للعقيلي (3/ 149 - 150) و" المجروحين " (2/ 92) و" الميزان " (3/ 182) و" الجرح والتعديل " (3/ 99). - (الطريق الرابع): من طريق: أحمد بن محمد بن يزيد الزعفراني، حدثنا عمر بن إسماعيل بن مجالد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله!: " أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد بابها فليأت عليا ". أخرجه ابن الجوزي (1/ 351) والسيوطي في اللآلئ (1/ 329). وفيه عمر بن إسماعيل هالك وقد تقدم في الطريق الثالث. - (الطريق الخامس): من طريق أبي الصلت، عبد السلام بن صالح بن سليمان بن ميسرة آلهروي قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مجاهد عن بن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أنا مدينة العلم وعلما بابها ". أخرجه ابن الجوزي في " الموضوعات " (1/ 351) والحاكم في " المستدرك " (3/ 126 - 127) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأبو الصلت ثقة مأمود .. ". وتعقبه الذهي فقال: "بل موضوع .. وأبو الصلت: لا والله لا ثقة ولا مأمون ". قلت: لا يخفى تساهل الحاكم رحمه آله في تصحيح الأحاديث الضعيفة بل الموضوعة ولذلك لا يعتمد على تصحيحه. انظر " مدخل إرشاد الأمة إلي فقه الكتاب والسنة "، الفائدة الثالثة: شذرات من علوم الحديث. المسألة: الخامسة عشرة. تأليف: محمد صبحي بن حسن حلاق. وقال العلامة محمد بن إسماعيل الأمير في كتابه: " إرشاد النقاد إلي تيسير الاجتهاد " (ص 18): " ولهم في مستدركه ثلاثة أقوال: إفراط وتفريط وتوسط. فأفرط أبو سعيد الماليني، وقال: ليس فيه حديث على شرط الصحيح، وفرط الحافظ السيوطي فجعله مثل الصحيح وضمه إليهما في كتابه الجامع الكبير، وجعل العزو إليه معلما بالصحة. وتوسط الحافظ الذهبي فقال: فيه نحو الثلث صحيح ونحو الربع حسن وبقية ما فيه مناكير وعجائب " اهـ. وأخرجه الطبراني في " الكبير " (11/ 65 رقم 11061)، وأورده آلهيثمي في " مجمع الزوائد " (9/ 114) وقال: رواه الطبراني وفيه عبد السلام بن صالح آلهروي وهو ضعيف. وانظر " الميزان " (2/ 616 رقم 51 0 5) و" الكامل " لابن عدي (5/ 1968). وأخرج ابن الجوزي في " الموضوعات " (1/ 351) والخطب في " تاريخ بغداد " (11/ 49) والسيوطى في " اللآلئ " (1/ 329). - (الطريق السادس): من طريق أحمد بن سلمة أبو عمرو الجرجاني، قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا مدينة العلم وعلي بابها " فمن أراد مدينة العلم فليأت من بابها ". أخرجه ابن عدي في " الكامل " (1/ 193): وابن الجوزى في " الموضوعات " (1/ 351 - 352) والسيوطى في " اللآلئ " (1/ 330): وفيه احمد بن سلمة: يحدث عن الثقات بالبواطيل، ويسرق الحديث. وليس هو ممن يحتج بروايته. قآله ابن عدي. - (الطريق السابع): من طريق سعيد بن عقبة أبي الفتح الكوفي، قال: حدثنا، الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت من قبل بابها ". أخرجه ابن عدي في " الكامل " (3/ 1247 - 1248) وابن الجوزي في " الموضوعات " (1/ 352) وفيه سعيد بن عقبة مجهول غر ثقة قآله ابن عدي. - (الطريق الثامن): من طريق أبي سعيد العدوى، حدثنا: الحسن بن علي بن راشد، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد مدينة العلم فليأت من بابها ". أخرجه ابن عدى في " الكامل " (2/ 752 - 753) وابن الجوزي في " الموضوعات " (1/ 352) والسيوطي في " اللآلئ " (1/ 330) وفيه أبو سعيد العدوى الكذاب صراحا الوضاع. قآله ابن الجوزي. (الطريق التاسع): من طريق إسماعيل بن محمد بن يوسف. قال: حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام عن أبي معاوية عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا مدينة العلم وعلي بابها , فمن أراد الدار فليأتها من قبل بابها" أخرجه ابن الجوزي (1/ 352) والسيوطي في " اللآلئ " (1/ 330). وابن حبان في " المجروحين " (1/ 130) وقال: إسماعيل بن محمد بن يوسف ممن يقلب الأسانيد ويسرق الحديث، لا يجوز الاحتجاج به. - (الطريق العاشر): رواه أبو بكر بن مردويه من حديث الحسن بن عثمان عن محمود ابن خداش عن أبي معاوية ... وقال ابن الجوزى في "الموضوعات " (1/ 354): فيه الحسن بن عثمان. قال ابن عدي كان يضع الحديث. قلت: وحكم المحدث الألباني على حديث ابن عباس بالوضع في "ضعيف الجامع " (2/ 13رقم1416). والضعيفة رقم (2955). وأما حديث جابر فله طريقان: - (الطريق الأول): من طريق أحمد بن عبد الله أبو جعفر المكتب قال أنبانا عبد الرزاق قال أنبأنا سفيان، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن عبد الرحمن بن بهمان قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الحديبية وهو آخذ بيد علي- وقال ابن عدى أخذ بضبع على- " هذا أمير البررة وقاتل الفجرة، منصور من نصره، مخذول من خذله- يمد صوته- أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن - أراد العلم- وقال ابن عدي- فمن أراد الدار فليأت الباب ". أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات " (1/ 353)، والحاكم في "المستدرك " (3/ 127) وقال إسناد. صحيح، وتعقبه الذهبي فقال: العجب من الحاكم وجرأته في تصحيحه هذا وأمثآله من البواطيل. وأحمد بن عبد الله ابر جعفر المكتب- هذا دجال كذاب. وأخرجه ابن عدى في " الكامل " (1/ 195) وقال: هذا حديث منكر موضوع لا أعلم رواه عن عبد الرزاق إلا أحمد بن عبد الله بن يزيد المردب أبو جعفر المكتب وأخرجه الخطب في " تاريخ بغداد " (2/ 377). والسيوطي في " اللآلئ " (1/ 330). - (الطريق الثاني): من طريق أحمد بن طاهر بن حرملة بن يحي المصري عن عبد الرزاق مثله سواء، إلا أنه قال: " فمن أراد الحكم فليأت الباب ". أخرجه ابن الجوزي في " الموضوعات " (1/ 353) والسيوطي في " اللآلئ " (1/ 330). وفيه أحمد بن طاهر بن حرملة، قال ابن عدي في " الكامل " (1/ 199): ضعيف جدا، يكذب في حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا روى، ويكذب في حديث الناس إذا حدث عنهم. قلت: وحكم المحدث الألباني على حديث جابر بالوضع في ضعيف الجامع (2/ 13 رقم 1416) والضعيفة رقم (2955). قلت: وحديث أنا مدينة العلم وعلى بابها: أورده البخاري في " المقاصد الحسنة " (ص 169 رقم 189). وقال بعدما تكلم على طرقه " .. وبالجملة فكلها ضعيفة، وألفاظ أكثرها ركيكة، وأحسنها حديث ابن عباس، بل هو حسن " اهـ. - وأورده الشوكاني في " الفوائد المجموعة " (ص 348 رقم 52). وتكلم عليه. ثم نقل كلام ابن حجر بأن الحديث من قسم الحسن، لا يرتقي إلي الصحة ولا ينحط إلي الكذب، وأيده قائلا هذا هو الصواب. قلت: تعقب العلامة عبد الرحمن بن يحي المعلمي اليماني في تحقيقه لكتاب الفوائد المجموعة (ص 349 - 353)، ابن حجر والشوكاني وبين أنه لا يصح طريق. ولولا ال

من الشرائع فليتوصل في أخذ ذلك من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بأمير المؤمنين، مع أن الواقع في زمن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بخلافه؛ فإنهم كانوا يأخذون عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من دون أن يتوصلوا بأمير المؤمنين، ولم ينكر عليهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، ولا أرجعهم إلي أمير المؤمنين ... اهـ. وقد أجاب أحد أولاد آلهادي أن المراد به بعد موته، وهو خلاف ظاهر الحديث (¬1) ¬

(¬1) قال ابن تيمية في "منهاج السنة" (7/ 515 - 516): وحديث: " أنا مدينة العلم وعلي بابها " أضعف وأوهى فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ كان مدينة العلم، ولم يكن لها إلا باب واحد، ولم يبلغ عنه العلم إلا واحد، فسد أمير الإسلام ولهذا اتفق المسلمون على أنه لا يجوز أن يكون المبلغ عنه العلم واحدا بل يجب أن يكون المبلغون أهل التواتر، الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب. وخبر الواحد لا يفيد العلم إلا بالقرائن، وتلك قد تكون منتفية أو خفية عن كثر الناس، فلا يحصل لهم العلم بالقرآن والسنن المتواترة. وإذا قالوا: ذلك الواحد المعصوم يحصل العلم بخبره. قيل لهم: فلا بد من العلم بعصمته أولا. وعصمته لا تثبت. بمجرد خبره قبل أن يعلم عصمته، فإنه دور، ولا تثبت بالإجماع، فإنه لا إجماع فيها. وعند الإمامية إنما يكون الإجماع حجة، لأن فيهم الإمام المعصوم، فيعود الأمير إلي إثبات عصمته. بمجرد دعواه، فعلم أن عصمته لو كانت حقا لا بد أن تعلم بطريق آخر غير خبره. فلم لم يكن لمدينة العلم باب إلا هو، لم يثبت لا عصمته ولا غير ذلك من أمور الدين، فعلم أن هذا الحديث إنما افتراه زنديق جاهل ظنه مدحا، وهو مطرق الزنادقة إلي القدح في دين الإسلام، إذا يبلغه إلا واحد. ثم إن هذا خلاف المعلوم بالتواتر، فمان جميع مدائن الإسلام بلغهم العلم عن الرسول من يخر علي. أما أهل المدينة ومكة فالأمير فيهما ظاهر، وكذلك الشام والبصرة، فإن هؤلاء لم يكونوا يروون عن على إلا شيئا قليلا. وبكما كان غالب علمه في الكوفة، ومع هذا فأهل الكوفة كانوا يعلمون القرآن والسنة قبل أن يتولى عثمان، فضلا عن علي. وفقهاء أهل المدينة تعلموا الدين في خلافة عمر، وتعليم معاذ لأهل اليمن ومقامه فيهم كثر من على، ولهذا روى أهل اليمن عن معاذ بن جبل كثر مما رووا عن علي. وشريح وغيره من أكابر التابعين إنما تفقهوا على معاذ بن جبل، ولما قدم علي الكوفة كان شريح فيها قاضيا ... فانتشر علم الإسلام في المدائن قبل أن يقدم على الكوفة.

وأجاب فخر الإسلام عبد الله بن الإمام (¬1) شرف الدين أن المراد به علم الباطن، وهو غير صحيح. وأجوبة كثيرة لم تفد شيئا في ظاهر الحديث ... اهـ. أ جواب العلامة لأشرف الدين بن إسماعيل بن إسحاق والجواب: - والله أعلم بالصواب - أن هذا الحديث الشريف قد وردت فيه روايات، فمنها: " أنا مدينة العلم وعلى بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب " (¬2) كما ذكر في السؤال، ومنها أنه ورد من دون زيادة: " فمن أراد العلم فليأت الباب "، ومنها: " أنا دار الحكمة وعلي بابها " (¬3) من دون الزيادة. ومنها: " علي باب علمي " (¬4). ومبنى السؤال على الزيادة الواردة، أعني قوله: " فمن أراد العلم فليأت الباب " ¬

(¬1) عبد الله ابن الإمام شرف الدين بن شمس الدين ابن الإمام المهدي أحمد بن يحي وهو من العلماء المحققين في عدة فنون، وله مصنفات منها: شرح قصيدة والده المسماة (القصص الحق) ذكر فيه فوائد جليلة. ومنها كتاب اعتراض على القاموس وسماه (كسر الناموس) واعترض عليه في هذه التسمية بأنها ليست لغوية بل عرفية وبعض شرح معيار النحوي وكتب تراجم لفضلاء الزيدية. انظر: " البدر الطالع " (1/ 383). (¬2) انظر: (الطريق الخامس) من طرق تخريج الرواية وقد تقدم. (¬3) انظر: (الطريق الأول) من طرق تخريج الرواية وقد تقدم. (¬4) أخرجه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" رقم (355)، وأورده الديلمى في "الفردوس. بمأثور الخطاب " من حديث أبي زر رضي الله عنه (3/ 65 رقم 4181). وذكره الذهبي في ترجمة " ضرار بن صرد " بلفظ " علي عيبة علمي " وقال فيه البخاري: متروك، وقال يحي بن معين كذابان بالكوفة هذا وأبو نعيم النخعى. الميزان (2/ 327 رقم 3951) والكامل (4/ 101). قلت: وهو حديث مرفوع.

وقد علم قطعا من غير تردد أن الصحابة شاركوا (¬1) أمير المؤمنين - عليه السلام - في تحمل العلم عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ولم يأميرهم بالرجوع إلي أمير المؤمنين - عليه السلام -. كما ذكره السائل- أبقاه الله - فلو كان الأمير هاهنا للوجوب لما أقدموا على مخالفة الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وهم. بمرأى ومسمع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، ولنهاهم عن تحمل العلم من دون واسطة أمير المؤمنين- عليه السلام-. ولم ¬

(¬1) قال ابن حزم في " الفصل " (4/ 212 - 314): " واحتج من احتج من الرافضة بأن عليا كان أكثرهم علما ". قال: "وهذا كذب، وإنما يعرف علم الصحابي بأحد وجهين لا ثالث لهما: أحدهما: كثرة روايته وفتاويه. والثاني: كثرة استعمال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له. فمن المحال الباطل أن يستعمل النبي! من لا علم له. وهذا أكبر شهادة على العلم وسعته، فنظرنا في ذلك فوجدنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد ولى أبا بكر الصلاة بحضرته طول علته، وجميع أكابر الصلاة حضور، كعمر وعلي وابن مسعود وأبي. . . . وهذا بخلاف استخلافه عليا إذا عزا، لأن ذلك على النساء وذوي الأعذار فقط فوجب ضرورة أن يكون أبو بكر أعلم الناس بالصلاة وشرائعها، وأعلم المذكورين ها وهي عمود الدين. ووجدناه استعمله على الصدقات. . . . واستعمل أبا بكر على الحج. . . . ثم وجدناه قد استعمله على البعوث ... وذلك يشير إلي صحة تقدم أبي بكر على علي وغيره في العلم، الصلاة، الزكاة، الحج وساواه في الجهاد. وأما الرواية والفتيا. قال ابن حزم في "الفصل " (4/ 213): ولم يرو عن علي إلا خمسمائه، وستة وثمانون حديثا مسندة، يصح منها نحو خمسين حديثا وقد عاش بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أزيد من ثلاثين سنة. ونقل إلينا عن الصحابة رضي الله عنهم أضعاف ما رواه على رضي الله عنه. قال ابن حزم في "الفصل " (4/ 214): ووجدنا مسند عائشة ألفي مسند ومائتي مسند وعشرة مسانيد وحديث أبي هريرة خمسة ألاف مسند وثلاثمائه مسند وأربعة وستون مسندا "، ولكل من- أبي هريرة وأنس وعمر - من الفتاوى أكثر من فتاوى على أو نحوها فبطل قول هذا الجاهل. وانظر تفصيل ذلك في " منهاج السنة " (7/ 516 - 524) لابن تيمية. و" الفصل " لابن حزم (4/ 210 - 218). وانظر كتاب " الطليعة وهو مع رياض الجنة " ص 178 للشيخ مقبل بن هادي الوادعي.

يرد شيء بل قد ورد ما يعارض هذا الأمير بالأمير للصحابة بالتحمل عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كما جاء عنه: " بلغوا عني " (¬1)، ونحو قوله: " فيبلغ الشاهد الغائب " (¬2) وتكرر عنه ذلك. وورد الدعاء منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لمن بلغ عنه. أخرج أحمد في مسنده (¬3)، وابن ماجه (¬4) عن أنسى عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها، ثم بلغها عني، فرب حامل فقه غرر ففيه، ورب حامل فقه إلي من هو أفقه منه ". وأخرج أحمد في مسنده (¬5)، وابن ماجه (¬6)، والحاكم في مستدركه (¬7) عن جبير بن مطعم، وأبو داود (¬8)، وابن ماجه (¬9) عن زيد بن ثابت، والترمذي (¬10) وابن ماجه (¬11) ¬

(¬1) أخرجه البخاري (6/ 496رقم 3461) والترمذي (5/ 40رقم 2669) وقال حديث حسن صحيح. من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. (¬2) أخرجه البخاري (1/ 157 رقم 67) ومسلم (3/ 1305 رقم 29/ 1679) وابن ماجه في " السمن " (1/ 85 رقم 233) وأحمد في " المسند " (5/ 40 - 41) والبيهقي في " دلائل النبوة " (1/ 23) كلهم من حديث أبي بكرة. (¬3) (3/ 225). (¬4) في " السنن " رقم (236) وهو حديث صحيح. (¬5) (4/ 80 و82). (¬6) في " السنن " رقم (231). (¬7) (1/ 871) وهو حديث صحيح (¬8) في " السنن " (10/ 94 - مع العون). (¬9) في " السنن " رقم (330) وهو حديث صحيح. (¬10) في " السنن " (7/ 417 - مع التحفة) وقال: حديث حسن صحيح. (¬11) في " السنن " رقم (232). قلت: مدار حديث ابن مسعود في كل طرقه على ابنه: عبد الرحمن وهو مدلس من المرتبة الثالثة، ولم يصرح بالسماع، ولكن يشهد له حديث زيد بن ثابت المتقدم وحديث جبير بن مطعم المتقدم وحديث أنس المتقدم. والخلاصة أن حديث ابن مسعود صحيح بشواهده.

عن ابن مسعود عنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أن قال: " نضر (¬1) الله عبدا سمع مقالتي فوعاها، وحفظها، ثم أذاها إلي من لم يسمعها، فرب حامل فقه يخر ففيه، ورب حامل فقه إلي من هو أفقه منه ". والحديث في هذا المعنى متسع، وكتاب عمرو ابن حزم في دية الأصابع مشهور (¬2) متداول بين أئمة العلم. وقد روى هذا الحديث جماعة من الحفاظ، وأئمة الأثر كالنسائي، وأبي زرعة الدمشقي، والحافظ الطبراني، وابن حبان في صحيحه. وكان الصحابة والتابعون يرجعون إليه [1] آراءهم فجرى مجرى الإجماع على الأخذ منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من غير طريق باب مدينة العلم - عليه السلام -. وثبت بالتواتر المعنوي (¬3) إرسآله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. . . . . . . . . . . . . . . . ¬

(¬1) نضره ونضره وأنضره: أي نعمه. ويروى بالتخفيف والتشديد من النضارة، وهي في الأصل: حسن الوجه والبريق، وإنما أراد حسن خلقه وقدره. النهاية (5/ 71). (¬2) أخرجه أبو داود في المراسيل رقم (92) ورجآله ثقات. رجال الشيخين. غر محمد بن عمارة - وهو ابن عمرو بن حزم الأنصاري الحزمي المدني - فإنه ا يخرجا له ولا أحدهما. وهو صدوق. وثقه ابن معين، وذكره ابن حبان في " الثقات " (5/ 380) وقال أبو حاتم: صالح. ابن إدريس: هو عبد الله ابن إدريس بن يزيد الأودي الكوفي. والنساني في السنن (8/ 75 - 58 رقم 4853) مختصرا. وابن خزيمة رقم (2269) مختصرا وابن الجارود في " المنتقى " رقم (784) وابن حبان في صحيحه رقم (793 - موارد) والحاكم (39511 - 397) والبيهقي (8/ 73) ولمعظم فقراته شواهد انظر نصب الراية (1/ 196 - 197) و (2/ 340 - 341) و" تلخيص الحبيرر " (4/ 17 - 18). والخلاصة أن الحديث صحيح. (¬3) المتواتر: هو ما رواه جمع كثر، تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، أو وقوعه منهم من غير قصد التواطؤ، عن جمع مثلهم، حتى يصل المنقول إلي منتهى السند، ويكون مستند علمهم بالأمير المنقول عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المشاهدة أو السماع. المتواتر نوعان: لفظي: وهو ما اتفق رواته في لفظه - ولو حكما - وفي معناه، وذلك كحديث: " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ". انظره في " نظم المتناثر من الحديث المتواتر " ص 20 للكتاني. والمتواتر المعنوي: هو ما اختلفوا في لفظه ومعناه مع رجوعه لمعني كلي، وذلك بان يخبروا عن وقائع مختلفة تشترك كلها في أمير واحد فالأمير المشترك المتفق عليه بين الكل هو المتواتر فمنه أحاديث رفع اليدين في الدعاء، فقد روى عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحو مائه حديث فيه رفع يديه في الدعاء. لكنها في قضايا مختلفة، فكل قضية منها لم تتواتر، والقدر المشترك فيها، وهو الرفع عند الدعاء تواتر باعتبار المجموع. انظر: المسودة ص 233 - 237، إرشاد الفحول ص 46 - 48.

الآحاد (¬1) لتبليغ الحكام، وكذلك جرى الأمير بعد موته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - على ما كان في حياته، ولم ينكر أمير المؤمنين - عليه السلام - على أحد ذلك، بل اشتهر عنه تحليف الرواة (¬2)، وقبل حديث أبي بكر من دون تحليف، فيتوجه حينئذ حمل الأمير في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " فمن أراد العلم فليأت الباب " على ¬

(¬1) كالحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2448) ومسلم في صحيحه رقم (29/ 19) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذ بن جبل حين بعثه إلي اليمن: " إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلي أن يشهدوا أن لا آله الله وأن محمدا رسول الله فإن هم أطوعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموآلهم. واتق دعوة المظلوم فائه ليس بينها وبين الله حجاب ". (¬2) يشير المؤلف رحمه الله إلي الحديث الذي أخرجه الترمذي (5/ 228رقم 3006) وأبو داود رقم (1521) وابن ماجة رقم (1395) عن أسماء بن الحكم الفزاري قال: سمعت عليا يقول: إني كنت رجلا إذا سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثا نفعني الله منه. مما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني رجل من أصحابه استحلفته فإذا حلف لي صدقته، وإنه حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ما من رجل يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر، ثم يصلي ثم يستغفر الله إلا غفر له، ثم قراهذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} [آل عمران: 135] وهو حديث حسن.

الإرشاد، لا على الوجوب، فإن صيغة الأمير وإن كانت ظاهرها في الأصل للوجوب لكنها قد وردت في موارد شرعية (¬1) لمعان كثيرة، منها الإرشاد فتصرفها عن ظاهرها إلي غيره، كما ذكره أهل الأصول (¬2)، فيحمل الأمير هنا على ذلك. ولا شك في أرجحية طريق المؤمنين - عليه السلام - على غيره لتبحره في العلم، وكمالي ضبطه، واختصاصه بكمال المعرفة في استنباط الأحكام الشرعية، وزيادة علمه على غيره، كما ورد في الحديث عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " على أعلم الناس بالله، وأشد حبا لله، وتعظيما لأهل لا آله إلا الله " أخرجه أبو نعيم في المعرفة (¬3). قال ابن حجر في " المنح المكية في شرح آلهمزية " في قوله (¬4): [وعلى صنو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ¬

(¬1) الأول: الوجوب نحو قوله تعالي: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]. الثاني: للندب نحو قوله تعالي: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]. الثالث: كونها بمعنى " الإباحه " نحو قوله تعالي: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]. وقوله تعالي: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]. الرابع: كونها بمعنى الإرشاد نحو قوله تعالي: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]. والضابط في الإرشاد: أنه يرجع إلي مصالح الدنيا، بخلاف الندب، فإنه يرجع إلي مصالح الآخرة، وأيضا: الإرشاد لا ثواب فيه - والندب فيه الثواب. وقد ذكر صاحب الكوكب المنير ما يقارب خمسا وثلاثين م! ت لصيغ الأمير. انظر الكوكب المنير (3/ 11 - 38) المستصفى (1/ 419)، نهاية السول (2/ 17). (¬2) انظر: جمع الجوامع (1/ 372) وأصول السرخسي (1/ 14) والإحكام للآمدي (2/ 142). (¬3) لم أجده في " المعرفة " لأبي نعيم بل عزاه صاحب الكنز (11/ 615) لأبي نعيم بلفظ " علي بن أبي طالب أعلم الناس بالله وأشد الناس، حبا وتعظيما لأهل لا آله إلا الله " والذي وجدته في " الحلية " (1/ 74): عن على قال: " أنصح الناس وأعلمهم بالله أشد الماس حبا وتعظيما لحرمة لا آله إلا الله " بسند ضعيف جدا. (¬4) في المخطوط هنا بياض، ثم بيت شعر تام من الخفيف " مدور ". والتصويب من كتاب " المنح المكية ي شرح آلهمزية " وهو مخطوط.

أي مثله من حيث اجتماعهما في أصل واحد وهو عبد المطلب، فهما كنحلتين أصلهما واحد، وفي حديث الترمذي (¬1): " فإنما عم الرجل صنو أبيه " وهو من هذا القبيل. "ومن " أي الذي " دين " أي اعتقاد" فؤادي " أي قلبي " وداده " أي حبه. " والولاء " أي مناصرته والذب عنه. . .] ما لفظه: قال أحمد بن حنبل في مسنده ما جاء لأحد من الفضائل ما جاء لعلي (¬2). وقال إسماعيل (¬3) القاضي، وأبو على النيسابوري (¬4): لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الحسان ما ورد في حق على (¬5) وقال أيضا: وصح أن ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في السنن رقم (3758) وقال: هذا حديث حسن صحيح وهو كما قال. (¬2) انظر المستدرك (3/ 108) تاريخ الحلفاء ص 140. الرياض النضرة (21312). (¬3) انظر المستدرك (3/ 108) تاريخ الحلفاء ص 140. الرياض النضرة (21312). (¬4) انظر المستدرك (3/ 108) تاريخ الحلفاء ص 140. الرياض النضرة (21312). (¬5) منها: ا- ما أخرجه البخاري (8/ 112 رقم 4416) ومسلم (4/ 1870 رقم 31/ 2404) عن سعد ابن أبي وقاص قال: خلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بن أبي طالب، في غزوة تبوك. فقال: يا رسول الله! تخلفني في النساء والصبيان؟ فقال: " أما ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ غير أنه لا نبي بعدي ". " أنت منهي بمنزلة هارون من موسى ". قال القاضي: هذا الحديث مما تعلقت به الروافض والإمامية وسائر فرق الشيعة، في أن الخلافة كانت حقا لعلى. وأنه وصي له بها. قال: ثم اختلف هؤلاء فكفرت الروافض سائر الصحابة في تقديمهم غيره. وزاد بعضهم فكفر عليا لأنه ا يقص في طلب حقه، بزعمهم. وهؤلاء أسخف مذهبا وأفسد عقلا من أن يرد قولهم أو يناظروا. قال القاضي: ولا شك في كفر من قال هذا. لأن من كفر الأمة كلها والصدر الأول فقد أبطل نقل الشريعة، وهدم الإسلام. وأما من عدا هؤلاء الغلاة فإنهم لا يسلكون هذا المسلك. فأما الإمامية وبعض المعتزلة فيقولون: هم مخطئون في تقديم غيره، لا كفار. وبعض المعتزلة لا يقول بالتخطئة لجواز تقلم المفضول عندهم. وهذا الحديث لا حجة فيه لأحد منهم. بل فيه إثبات فضيلة لعلى، ولا تعرض فيه لكونه أفضل من غيره أو مثله. وليس في دلالة لاستخلافه بعده. لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما قال هدا لعلى، حينما استخلفه في المدينة في غزوة تبوك. ويؤيد هذا أن هارون، المشبه به، لم يكن خليفة بعد موسى، بل توفي في حياة موسى وقبل وفاة موسى بنحو أربعين سنة. على ما هو مشهور عند أهل الأخبار والقصص. قالوا: وإنما استخلفه حين ذهب لميقات ربه للمناجاة. 2 - ومنها: ما أخرجه البخاري (7/ 70 رقم 3701) ومسلم (4/ 1872رقم 34/ 2406) عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه. قال فبات الناس يدركون ليلتهم أيهم يعطاها. فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: يشتك عينيه يا رسول الله. قال: فأرسلوا إليه فأتوني به. فلما جاء بصق في عينيه ودعا له، فبرأ حتى كان لم يكن به وجع، فأعطه الراية، فقال علي: يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، فقال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلي الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لان يهدي الله بك رجلا واحدا يضر لك من أن يكون لك حمر النعم ". . " حمر النعم " هي الإبل الحمر. وهي أنفس أموال العرب. يضربون بها المثل في نفاسة الشيء وإنه ليس هناك أعظم منه. 3 - ومنها: ما أخرجه مسلم (4/ 1871 رقم 33/ 2405). عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يوم خيبر " لأعطين هذه الراية رجلا يحب الله ورسوله. يفتح الله على يديه " قال عمر بن الخطاب: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ قال فتساورت لها رجاء أن أدعى لها. قال فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بن أبي طالب. فأعطاه إياها. وقال: " امش. ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك ". قال فسار على شيئا ثم وقف ولم يلتفت. فصرخ يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟ قال: " قاتلهم حتى يشهدوا أن لا آله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموآلهم. إلا بحقها. وحسابهم على الله ". * تساورت لها: معناه تطاولت لها. أي حرصت عليها. أي أظهرت وجهي وتصديت لذلك ليتذكرني. 4 - ومنها: ما أخرجه مسلم (1/ 86 رقم 131/ 78) والنسائي (8/ 117 رقم 5022) والترمذي (5/ 643 رقم 3736) عن زر بن حبيش، قال: قال علي: والذي فلق الحبة وبرا النسمة، إنه لعهد النبي الأمي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلي " أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق ". . فلق الحبة: أي شقها بالنبات. برأ النسمة: إي خلق الإنسان، وقيل: النفس. 5 - ومنها: ما أخرجه الترمذي (5/ 633 رقم 3713) عن أبي سريحة، أو زيد بن أرقم - شك شعبة - عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من كنت مولاه فعلي مولاه "، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، قلت: وأخرجه أحمد في " المسند " (4/ 368 و370 و382). وهو حديث صحيح. 6 - ومنها: ما أخرجه الترمذي (5/ 636 رقم 3719) عن حبشي بن جنادة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "علي مني وأنا من علي، ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي ". وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. قلت: وأخرجه أحمد في " المسند " (4/ 164 و165)، وهو حديث حسن

النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أرسله إلي اليمن ليقضي بينهم فقال: لا أدري بالقضاء، فضرب بيده على صدره وقال: " اللهم اهد قلبه، وثبت لسانه ". قال على: والذي فلق الحبة ما شككت في قضاء [بين اثنين] (¬1) ¬

(¬1) في المخطوط " آخر " والصواب ما أثبتناه من كتب الحديث. أما الحديث فهو صحيح لطرقه وشواهده. . أخرجه ابن ماجه (2/ 774 رقم 2310)، والحاكم في " المستدرك " (3/ 135). ووكيع في " أخبار القضاة " (1/ 84 - 85). والنبيهقي في " السنن الكبرى " (10/ 86) وابن سعد في " الطبقات " (2/ 337) وأحمد في " المسند " (1/ 83) والنسائي في " تهذيب خصائص الإمام على " (ص 40 - 41 رقم 31) - من طريق الأعمش عن عمرو بن مرة، عن أبي البحتري عن علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلي اليمن، فقلت: يا رسول الله بعثتني وأنا شاب أقضى بينهم ولا أدري ما القضاء! فضرب صدري بيده ثم قال: اللهم اهد قلبه وثبت لسانه فوالذي فلق الحبة ما شككت في قضاء بين اثنين ". قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي. قلت: واعجبا وقد صرح النسائي في " الخصائص " (ص 44): بأن أبا البحتري لم يسمع من على ابن أبي طالب رضي الله عنه. ويؤيد ذلك رواية شعبة ص عمرو بن مرة، قال: سمعت أبا البحتري الطائي قال: أخبريى من سمع عليا يقول: فذكره. أخرجه أحمد في " المسند " (1/ 136) والطيالسى في " المسند " (ص16 رقم 98)، والبيهقى (10/ 86 - 87) ووكيع في " أخبار القضاة " (1/ 85) وإسناده صحيح لولا هذا المبهم. كما قال ابن حجر في " التلخيص " (4/ 182). وأخرجه أبو داود (4/ 11رقم 3582) والترمذي (3/ 618رقم 1331)، وابن سعد في "الطبقات " (2/ 337) وأحمد (1/ 111) والله في " زوائده " (1/ 111، 149) والطيالسى (ص 19رقم 125) والحاكم (4/ 93)، والبيهقي (10/ 86) ووكيع في " أخبار التيضاة " (1/ 86,85)، من طرق كثيرة عن سماك بن حرب عن حنش بن المعتمر عن على. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يحرجاه. روافقه الذهبي. قلت: وأ يتفرد به شريك بل تابعه زائدة بن قدامة عن أحمد (1/ 155) والطيالسي (ص 19رقم 125) وأسباط بن نصر، وأبان بن تغلب، وسليمان بن قدم وغر! م عن وكيع. جميعهم يماك به. وسماك وهو ابن حرب فيه كلام، وحديثه حسن. وحنش بر المعتمر الكوفي ضعفه جماعة. وشهيك وهو ابن عبد الله القاضي سيئ الحفظ، ولكنه توبع كما تقدم. وأخرجه البزار كما في " نصب الراية " (4/ 61)، وابن سعد في " الطبقات " (2/ 337) ووكيع في " أخبار القضاة " (1/ 85)، وأحمد (1/ 88، 156) من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن على رضي الله عنه - حد فذكره لنحوه. قال البزار: " هذا أحسن إسناد فيه عر على ". وله شواهد: عن ابن عباس، وبريدة الأسلمي، وأبى رافع وغيرهم. والله أعلم. قال المحدث الألباني في " الإرواء " (8/ 228) بعد الكلام على هذا الحديث: " وجملة القول أن الحديث. بمجموع الطرق حسن على أقل الأحوال. والله أعلم "

وقال ابن حجر (¬1) أيضا: ولم يكن أحد من الصحابة يقول: سلوني إلا على، وكان عمر يتعوذ من معضلة ليس فيها أبو الحسن - يعني عليا رضي الله عنه (¬2) - وقال: والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيما نزلت، وأين نزلت، وعلى من نزلت، إن ربط وهب لي قلبا ¬

(¬1) أحرجه ابن عبد البر في " الاستيعاب " (8/ 157) عن سعيد بن المسيب. (¬2) ذكره ابن حجر في " الإصابة " (7/ 59).

عقولا، ولسانا ناطقا. وقال: سلوني عن كتاب الله، فإنه ليس من آية إلا وقد عرفت بليل نزلت أم نهار، أم في سهل أم بجبل (¬1). . . انتهى كلام ابن حجر. . . وناهيك. مما أفاده قوله عليه السلام حذا من كمال الضبط الذي هو شرط الرواية. ثم قال ابن حجر في موضع آخر ما لفظه: مما يدل على أن الله - سبحانه - اختص عليا من العلوم. بما تقصر عنه العبارات قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " أقضاكم على "، وهو حديث صحيح (¬2) بلا نزاع فيه ... انتهى. وبما ذكرناه من حمل الأمير هاهنا على غير الوجوب بالأدلة الواضحة التي ليس فيها اختلال بجمع شمل الأحاديث، وينحل الأشكال من دون ملجئ إلي التكلفات التي حكاها السائل - أبقاه الله - في السؤال والله سبحانه أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. حرره العبد الفقير إلي ربه الغني، شرف الدين بن إسماعيل بن محمد - أصلح الله له أحوال الدارين -[2]. ¬

(¬1) أخرجه أبو نعيم في " حلية الأولياء " (1/ 67 - 68) بلفظ مقارب وذكره ابن حجر في " الإصابة " (7/ 60). (¬2) أخرج البخاري في صحيحه (8/ 167 رقم 4481) عن ابن عباس قال: قال عمر - رضي الله عنه: " أقرؤنا أبي وأقضانا علما .. ". وأخرجه أحمد في "المسند" (5/ 113). وأخرجه ابن ماجه (1/ 55رقم 154) والترمذي (5/ 665رقم 3791) وقال: حديث حسن صحيح، والحاكم (3/ 422) وقال: هدا إسناد صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي وأقرهما الألباني في الصحيحة (3/ 223) وابن حبان (ص 548رقم 2218) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان. وأقضاهم علما بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل. وأفرضهم زيد بن ثابت. ألا وإن لكل أمة أمينا. وأمن هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ". وهو حديث صحيح.

[جواب الإمام محمد بن علي الشوكاني] الحمد لله على كل حال، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله خير آل. وبعد: فإن السائل - كثر الله فوائده - وصل إلي راقم الأحرف - غفر الله له - طالبا منه أن يرقم ما يظهر له في توجيه ما سأل عنه، فوجدت هذا الجواب الذي حرره مولاي العلامة ضياء الإسلام، شرف الدين بن إسماعيل بن محمد بن إسحاق (¬1) - عافاه الله - قد أفاد وأجاد، وحصل به المراد من الإرشاد، فإن حمل الأمير على الندب الذي هو أحد معانيه ايثزية بقرينة مشاركة سائر الصحابة - رضي الله عنهم - لأمير المؤمنين - كرم الله وجهه - في أخذ الشريعة عن الرسول الأمين - صلى الله عليه وآله الطاهرين- دون إنكار هو وجه صحيح، وجمع جامع لكل معني صبيح. وخطر بالبال وجه آخر يصلح أن يكون ملتحقا بذلك الوجه، وهو أن يقال: إن كان الألف واللام في (العلم) (¬2) للاستغراق كان ذلك من صيغ العموم كما تقرر في علم الأصول، وعلم المعاني، ويكون هذا العموم مخصصا. مما اشترك فيه أمير المؤمنين هو وسائر الصحابة من العلوم التي أخذوها عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من دون إنكار منه، وهي العلوم الشرعية التي أميره الله بأن يبلغها إلي أمته، فيبقى من العلم ما لم يشاركه فيه غيره، ويكون ذلك هو المراد بالحديث، ويبني العام (¬3) على. . . . . ¬

(¬1) السيد شرف الدين بن إسماعيل بن محمد بن إسحاق بن المهدي أحمد بن الحسن بن القاسم بن محمد ولد سنة 1140 هـ، وهو أحد علماء العصر وفضلائه ونبلائه. له في كل علم نصيب وافر لا سيما علم الأصول فهو المتفرد به غير مدافع. وله رسائل رصينة وإذا حرر بحثا جاء. مما يشفط ويكفى، وهو من بقايا الخير في هذا العصر لجمعه بين طول الباع في جميع العلوم مع السن والشرف، وتوفي في آخر شهر رجب سنة 1223 هـ رحمه الله. " البدر الطالع " (1/ 277 - 278). (¬2) انظر: " جمع الجوامع " (1/ 412) و" الكوكب المنير " (3/ 34). " المستصفي " (2/ 37). (¬3) العام: هو لفظ دال على جميع أجزاء ماهية مدلوله أي مدلول اللفظ. انظر "الكوكب المنير" (3/ 101). وقيل: هو اللفظ الموضوع وضعا واحدا للدلالة على جميع ما يصلح له من الأفراد على سبيل الشمول والاستغراق من غير حصر في كمية معينة أو عدد معين. انظر: " تفسير النصوص " (2/ 9 - 10) د. محمد أديب الصالح.

الخاص (¬1) وقد تقرر في الأصول أنه متفق عليه بين المسلمين أجمعن من أئمة الآل وغيرهم. وهذا [3] العلم الذي قلنا أنه لم يشاركه فيه غيره، وأنه الباقي بعد التخصيص لذلك العموم هو علم كثير من الملاحم، والأمور المستقبلة، فإن أمير المؤمنين قد كان يعلم من ذلك ما لم يعلم به غيره، يعرف ذلك من عرف ما خصه به رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من هذا العلم كما ثبت أنه رضي الله عنه قال يوم النهروان (¬2) لما وقع المصاف أنه لا يقتل منكم - يعني أصحابه - عشرة ولا ينجو منهم - يعني الخوارج - عشرة، فكان الأمير كما قال (¬3). ¬

(¬1) الخاص: هو إخراج بعض ما تناولته العامة عما يقتضيه ظاهر اللفظ من الإرادة والحكم. انظر: " تفسر النصوص " (2/ 161). (¬2) كانت وقعة النهروان مع الخوارج سنة 38 هـ. ونهروان: هي ثلاث نهروانات: الأعلى والأوسط والأسفل وهى كورة واسعة بين بغداد وواسط من الجانب الشرقي حدها الأعلى متصل ببغداد وفيها عدة بلاد متوسطة، منها إسكاف وجرجرايا والصافية وديرقني وغير ذلك. بها وقعة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع الخوارج. وقد خرج منها جماعة من أهل العلم والأدب. انظر: " معجم البلدان " (5/ 324 - 326). (¬3) أخرجه البيهقي في " دلائل النبوة " (6/ 425) عن لاحق. قال: كان الذين خرجوا عن علي رضي الله عنه بالنهروان أربعة آلاف في الحديد فركبهم المسلمون فقتلوهم ولم يقتل من المسلمين إلا تسعة رهط، فإن شئت فاذهب إلي أبي برزة الأسلمى فسله فإنه قد شهد ذلك. قلت: ونقله الحافظ ابن كثر في " البداية والنهاية ": (6/ 223)، وقال: " الأخبار بقتال الخوارج متواترة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن ذلك من طرق تفيد القطع عند أئمة هذا الشأن ووقوع ذلك في زمان على معلوم ضرورة لأهل العلم قاطبة ... " اهـ.

ثم أخبرهم في ذلك اليوم بخبر ذي الثدية فوجدوه كما قال (¬1)، فسآله عن ذلك جماعة من خلص أصحابه منهم أبو عبيدة (¬2) السلماني، فقال أنه أخبره بذلك رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ (3) -. وهكذا أخبر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بأنه سيقاتل الفرق الخارجة عليه، وأخبره بأن سيكون (¬3) قتله - رضوان الله عليه - على الصفة التي وقع عليها، وكان يتحدث بذلك، بل كان يعين قاتله (¬4)، وينشد إذا أبصره: أريد حياته ويريد قتلى ... عذيرك من خليلك من مراد (¬5) ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (156/ 1066) وأبو داود رقم (4768) عن زيد بن وهب الجهني انه كان في الجيش الذين كانوا مع على رضي الله عنه. الذين ساروا إلي الخوارج، فقال على رضي الله عنه أيها الناس إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " يخرج قوم من أمتي يقرأون القرآن ليس قراءتكم إلي قراءتهم بشيء ولا صلاتكم إلي صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلي صيامهم بشيء، يقرأون القرآن يحسبونه أنه لهم وهو عليهم - لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضي لهم على لط ن نبيهم لا تكلوا عن العمل، وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد وليس له فراع، على رأس عضده مثل حلمة الثدي عليه شعرات بيض ". (¬2) عبيدة بن عمرو السلماني أبو مسلم ويقال أبو عمر صاحب ابن مسعود، قال: أسلمت وصليت قبل وفاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسنين، ولم أره. رواه الثقات عن ابن سرين، عنه لا يعد في الصحابة إلا، مما ذكرنا هو من كبار أصحاب ابن مسعود الفقهاء وهو من أصحاب على رضي الله عنه. انظر: الاستيعاب رقم (1773) والإصابة رقم (6421). (¬3) لعله يشير إلي الحديث الذي أحرجه أبو نعيم في الدلائل (2/ 709رقم 49) بإسناد ضعيف من حديث جابر بن حمرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلى رضي الله عنه: " إنك مؤمر مستخلف وإنك مقتول، وإن هذه مخضوبة من هذا - لحيته من رأسه ". وأخرج أحمد في المسند (2/ 101) وفي فضائل الصحابة (2/ 695رقم 1187) وابن عبد البر في الاستيعاب (4/ 154) من حديث فضالة بن أبي فضالة بنحوه. (¬4) أي ابن ملجم من قبيلة مراد. انظر الاستيعاب (8/ 204). (¬5) البيت الشعري لعمرو بن معدي كرب في قيس بن مكشوح المرادي. انظر: ديوان عمرو بن معدي كرب ص 92، والكامل للمبرد (3/ 118).

وقد أخبر - كرم الله وجهه - عبد الله بن العباس - رضي الله عنه - عند مولد ولده على بن عبد الله بن العباس بأنه أبو الأملاك (¬1) [4]. وهكذا أخبر. مما سيكون بعد حين في البصرة من تسلط الحجاج، والزنج، وبما سيكون فيها من الفرق ونحو ذلك من الأمور المستقبلة التي كان يخبر ها، وهي كثيرة جدا (¬2) فيمكن أن يكون هذا العلم هو المراد بالعلم المذكور في الحديث لما أسلفنا من أنه عموم مخصوص، أو عام أريد به الخاص، ويكون الدليل على هذه الإرادة هو الدليل الذي جعلناه مخصصا للعام. هذا على تقدير أن الألف واللام في (العلم) للاستغراق كما هو الظاهر. وأما على تقدير أنها لمعني من معانيها التي ¬

(¬1) حكى المبرد وغيره أنه لما ولد جاء به أبوه - ابن العباس بن عبد المطلب فقال ما سميته فقال أو يجوز لي أن أسميه قبلك فقال: قد سميته بإسمى وكنيته بكنيتي وهو أبو الأملاك. انظر: تهذيب التهذيب (4/ 312 - 313رقم 557) في ترجمة علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم. (¬2) (منها): الحديث الذي أخرجه أحمد (24/ 58رقم 161) الفتح الرباني عن عبد الله بن بريدة الأسلمى عن أبيه رضي الله عنه قال كنت جالسا عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن أمتي يسوقها قوم عراض الأوجه صغار الأعين كأن وجوههم الحجف ثلاث مرار حتى يلحقوهم بجزيرة العرب، أما السابقة الأولى فينجو من هرب منهم، وأما الثانية فيهلك بعض وينجو بعض، وأما الثالثة فيصطلون كلهم من بقي منهم قالوا يا نجي الله من هم؟ قال هم الترك، قال أما والذي نفسي بيده يربطن خيولهم إلي سواري مساجد المسلمين، قال وكان بريدة لا يفارفه بعيران أو ثلاثة ومتاع السفر والأسبقية بعد ذلك للهرب مما سمع من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من البلاء من أميراء الترك ". وأورده آلهيثمي في المجمع وقال رواه أبو داود باختصار، ورواه أحمد والبزار باختصار ورجآله رجال الصحيح. ويشير إلي الحديث الذي أخرجه البخاري (13/ 19 - 20رقم 7068) والترمذي (4/ 492 رقم 2206) عن الزبير بن عدي قال: " أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما يلقون من الحجاج، فقال: اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده أشر منه حتى تلقوا ربكم سمعته من نبيكم ".

لا تستلزم الإحاطة بكل فرد من أفراد العلم فلا إشكال في ذلك، لأنه يصدق بوجود نوع من أنواع العلم في أمير المؤمنين لا يشاركه فيه غيره، وقد وجد وهو ما أسلفنا. فتقرر بهذا أن المراد هذا العلم المذكور في الحديث هو ما لم يحصل الاشتراك فيه بين الصحابة، بل ما كان خاصا بأمير المؤمنين وحده. وقد وجدناه بعد موت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مختصا بكثير من علم الأمور المستقبلة، ولم يشاركه في ذلك أحد، فالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مدينة هذه العلوم، وأمير المؤمنين بابها، فمن أرادها فليأت الباب. فإن قلت: [5] قد استأثر الله - سبحانه - بعلم الغيب، فكيف جعلته هو المراد بالحديث؟. . . قلت: قد صرخ القرآن الكريم (¬1) بأن الله - سبحانه - لا يظهر على غيبة أحدا إلا من ارتضى من رسول، ولا يمتنع شرعا ولا عقلا أن يظهر [على] (¬2) ذلك الرسول بعض خواصه على ما أظهره الله عليه من غيبه. وقد وقع ذلك من نبينا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كما شهدت به الأخبار المتواترة، ووقع من أمير المؤمنين الإخبار ببعض ما استفاده من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كما تقدمت الإشارة إلي ذلك. فإن قلت: ثبت في الصحيح أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قام خطيبا في كثير من المواطن، وأخبرهم بكثير من الأمور المستقبلية، كالمهدي (¬3)،. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

(¬1) قال تعالي: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 26 - 27]. (¬2) زيادة استلزمها النص. (¬3) منها: ما أخرجه أحمد (3/ 36) وابن حبان في صحيحه رقم (1880 - موارد) والحاكم (4/ 557) وأبو نعيم في الحلية (3/ 101). قال الحاكم: " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ". عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله: صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض ظلما وجورا وعدوانا ثم يخرج من أهل بيتي من يملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وعدوانا ". وهو حديث صحيح.

والدجال (¬1)، وطلوع الشمس (¬2) من مغربها. بل ثبت أنه قام فيهم مقاما فما ترك قائد فتنة إلا ذكره، حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه. ومن ذلك قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن عمارا تقتفه (¬3) الفئة الباغية، فلم يكن أخباره بالأمور المستقبلة خاصة بالبعض دون البعض. قلت: ... المراد. مما ذكرناه هو غير ما أظهره رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إظهارا عاما من دون تخصيص. ولا شك أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قد خصص أمير المؤمنين بالكثير الطيب من ذلك، ولا ينافيه [6] تعميم الإظهار لبعض الأخبار، بل لا ينافيه تخصيص لبعض الصحابة ببعض المغيبات، كما وقع مثل ذلك منه - صلى الله عليه آله وسلم - لأبي ذر (¬4)،. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

(¬1) منها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7131) ومسلم في صحيحه رقم (101/ 2933) عن انس رضي الله عنه قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ما بعث نط إلا انذر أمته الأعور الكذاب ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، وإن بين عينيه مكتوب كافر ". (¬2) أخرجه البخاري رقم (6556) ومسلم رقم (248/ 157) وأبو داود رقم (4312) وابن ماجة رقم (4068) كلهم من حديث أبي هريرة. (¬3) أخرج مسلم في صحيحه رقم (2916) من حديث أم سلمة. وأخرج البخاري في صحيحه رقم (447) من حديث أبي سعيد. (¬4) لعله يشير إلي الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (3861) و (3522) ومسلم رقم (132/ 2473) من حديث أبي ذر مرفوعا. وفيه قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إنه قد وجهت لمط أرض - أي أريت جهتها- ذات نخل. لا أراها إلا يثرب. فهل أنت مبلغ عني قومك؟ عسى الله أن ينفعهم بك وبأجرك فيهم ". . ولعل المصنف يشر إلي الحديث الضعيف الذي أخرجه الطبري في تاريخه (3/ 54) وابن كثير في "البداية والنهاية" (5/ 8 - 9) وأورده ابن الأثير في "الكامل " (2/ 280) من حديث عبد الله بن مسعود: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يرحم الله أبا ذر يمشى وحده ويموت وحده ويبعث وحده ". وقال ابن كثير: إسناده حسن ولم يخرجوه والخلاصة أن الحديث ضعيف. انظر " تخريج تاريخ الطبري " بتحقيقي وتحقيق محمد البرزنجي.

ولحذيفة (¬1)، ولغيرهما. إذا تقرر لك هذا عرفت أنه يمكن توجيه ما وقع فيه الأشكال، وورد عنه السؤال. ممثل ما ذكرناه، ولا يمتنع أن يكون ذلك في حياته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كما كان بعد موته، وأفي ضير في أميره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بسؤال بعض أصحابه في بعض الأمور! وقد أوجب المصير إلي ما ذكرناه المحافظة على استعمال القواعد الأصولية والمشط معها كما هو شأن من أراد النظر فيما ورد من هذه الشريعة المطهرة الغراء. ¬

(¬1) لعله يشير إلي الحديث الذي أحرجه البخاري رقم (7084) ومسلم (12/ 236 - نووي). عن أبي إدريس الخولاني: " أنه سع حذيفة بن اليمان يقول: كان الناس يسألون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الخير، وكنت أسأله عن الشر نحافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله هذا الخير، فهل بعد هذا الخير من ضر؟ قال: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهمون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأميرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كف!، ولو أن تعفن بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ". أو يشير إلي الحديث الذي أخرجه مسلم (4/ 2143 رقم 9/ 2779) عن قيس قال: قلت لمالي: أرأيتم صنيعكم هذا الذي صنعتم في أمير على أرأيا رأيتموه أو شيئا عهده إليكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ما عهد إلينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئا لم يعهده إلي الناس كافة. ولكن حذيفة أخبرني عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " في أصحابي اثنا عشر منافقا. فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط. ثمانية منهم تكفيهم الدبيلة وأربعة " لم أحفظ ما قال شعبة فيهم. في أصحابي اثنا عشر منافقا: معناه الذين ينسبون إلي صحبتي. . سم الخياط: وهو ثقب الإبرة. ومعناه لا يدخلون الجنة أبدا، كما لا يدخل الجمل في سم الإبرة أبدًا. الدبيلة: سراج من نار.

وفي هذا المقدار كفاية، فإن السائل- كثر الله فوائده- لم يسأل إلا عن معني الحديث لا عن إسناده، ولا عن متنه، باعتبار لفظه ورتبته، فلنقتصر على الجواب على محل السؤال. . . والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم ¬

(1). (1): ولتمام الفائدة أدون بعض ما قاله العلماء بوضع الروافض في فضائل على ل! ه إجمالا ثم أذكر بعض الأحاديث الموضوعة إلي وردت في ذلك حتى لا يغتر بها. قال ابن القيم الجوزية في كتابه " المنار المنيف في الصحيح والضعيف " تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة (ص 116 رقم 247): " وأما ما وضعه الرافضة في فضائل على فأكثر من أن يعد. قال الحافظ أبو يعلى الخليلي في كتاب " الإرشاد - في علماء البلاد - ": وضعت الرافضة في فضائل علي رضي الله عنه وأهل البيت نحو ثلاث مائه ألف حديث. ولا تستبعد هذا، فإنك لو تتبعت ما عندهم من ذلك لوجدت الأمير كما قال " اهـ. * وقال الصنعاني في الموضوعات (ص 27): " والوصايا المنسوبة إلي أبي الحسن أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه بأسرها، التي في أولها: يا على لفلان ثلاث علامات، ولفلان ثلاث علامات، وفي آخرها النهي عن ايثمعة في أوقات مخصوصة، وأماكن مخصوصة، كلها وضعها، حماد بن عمرو النصيى وهو عند أئمة الحديث متروك كذاب "اهـ. قلت: وقد ترجم لحماد هذا الذهبي في الميزان (1/ 598). وقال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في تحقيق " المصنوع في معرفة الحديث الموضوع " للمحدث علي التياري (ص 235): " أما هذه الوصايا المنسوبة لسيدنا على رضي الله عنه، والمكذوبة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهي مطوعة أكثر من مرة، ولا تزال تطع وتباع ويتداولها المغفلون. فكاذبها آثم ملعون، وطابعها آثم ملعون، ومصدقها آثم ملعون، قبح الله من لا يغار على دينه وإسلامه وعقله " اهـ. وقال السيوطي في اللآلئ (2/ 374 - 375): وكذا " وصايا على " موضوعة، اتهم بها " حماد بن عمرو". وكذا وصاياه إلي وضعها " عبد الله لن زياد بن سمعان " أو شيخه. قلت: عبد الله بن زياد هذا كذاب. انظر ترجمته إلى " الميزان " (2/ 423 - 424) وشيخه هو على بن زيد بن جدعان: لا يحتج به. انظر ترجمته في الميزان (3/ 127 - 128). أما الأحاديث الموضوعة في فصل على رضي الله عنه: (فمنها): 1 - أخرج ابن الجوزي في الموضوعات (1/ 347) عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن أخي ووزيري وخليفتي من أهلي وخير من أترك بعدي، يقف! ي ديني وينجز وعودي علي ابن أبي طالب رضي الله عنه. وهو حديث موضوع. فيه: مطر بن ميمون. قال ابن حبان في المجروحين (513) ويروي الموضوعات عن الإثبات لا تحل الرواية عنه وانظر الميزان (4/ 127) والتاريخ الكبير للبخاري (7/ 401). 2 - أخرج ابن الجوزي في الموضوعات (1/ 370) عن أبي الحمرا قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من أراد أن ينظر إلي آدم في علمه، ونوح في فهمه، وإبراهيم في حكمه، ويحي بن زكريا في زهده، وموسى بن عمران في بطشه فلينظر إلي علي بن أبي طالب " وهو حديث موضوع. فيه: أبو عمر الأزدي متروك. 3 - أخرج ابن الجوزي في الموضوعات (1/ 382 - 383) عن أنس قال: " كنت عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرأى عليا مقبلا فقال: أنا وهذا حجة على أمتي يوم القيامة " وهو حديث موضوع. والمتهم بوضعه: مطر بن أبي مطر. قال عنه ابن حبان في المجروحين يروي الموضوعات عن الإثبات لا تحل الرواية عنه. 4 - أخرج ابن الجوزي في الموضوعات (1/ 393) عن أصبغ بن نباتة قال: قال على رضي الله عنه: " أن خليلي حدثني أن أضرب لسبع عشرة تمضي من رمضان وهي الليلة التي رفع فيها عيسى ". وهو حديث موضوع. فأما اصبغ فقال يحي: لا يساوي شيئا. قال: ولا يحل لأحد أن يروي عن سعد الإسكاف. قال ابن حبان: كان سعد يضع الحديث على الفور. 5 - أخرج ابن الجوزي في الموضوعات (1/ 397). عن علي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مثلي مثل شجرة أنا أصلها وعلي فرعها، والحسن والحسين ثمرها، والشيعة ورقها، فأي شيء يخرج من الطيب إلا الطيب؟ ". قال ابن حبان في المجروحين (2/ 172) كان عباد بن يعقوب رافضيا. روى المناكير عن المشاهير فاستحق الترك. وانظر الميزان (2/ 379) والتاريخ الكبير (6/ 44). وهناك أحاديث ضعيفة وموضوعة في فضائل على بن أبي طالب رضي الله عنه. انظرها في الموضوعات لابن الجوزي (1/ 338 - 402) وفي العلل المتناهية في الأحاديث الواهية (1/ 210 - 252). والفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة. لمحمد بن علي الشوكاني ص 342 - 384. وكتاب الطليعة في الرد على غلاة الشيعة وهو مع رياض الجنة في الرد على أعداء السنة تأليف: الشيخ مقبل بن هادي الوادعي. ص 171 - 227. وانظر موسوعة الأحاديث والآثار الضعيفة والموضوعة (14/ 467 - 496) باب ذكر علي بن أبي طالب. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

كتبه محمد الشوكاني - غفر الله له -[7].

الدارية في مسألة الوصاية

(23) 48/ 1 الدارية في مسألة الوصاية تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: " الدراية في مسألة الوصاية " 2 - هو موضوع الرسالة: في وصاية أمير المؤمنين على رضي الله عنه. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم أحمدك لا أحصى ثناء عليك. وأصلي وأسلم على رسولك وآله وصحبه. وبعد: فإنه سألني بعض آل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ... 4 - آخر الرسالة:. . . فليراجع الكتب المصنفة في مناقب على عليه السلام حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني في اليوم التاسع والعشرين من شهر شعبان سنة اثني عشر وخمس، وهو تاريخ كتب هذه النسخة من خط المؤلف وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما. وحسبنا الله وكفى ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. 5 - نوع الخط: خط نسخط جيد. 6 - تاريخ النسخ: 1205 هـ. 7 - عدد الصفحات: 4 صفحات. الأولى: 37 سطرا. الثانية: 42 سطرا. الثالثة: 41 سطر ا. الرابعة: 19 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 16 كلمة تقريبا.

[مقدمة المؤلف] بسم الله الرحمن الرحيم أحمدك لا أحصي ثناء عليك وأصلي وأسلم على رسولك وآله وصحبه. [نص السؤال] (وبعد): فإنه سألني بعض آل الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الجامعين بين فضيلة العلم والشرف، من سكان المدينة المباركة المعمورة بالعلوم مدينة زبيد (¬1) [عن] إنكار [عائشة] أم المؤمنين زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لصدور الوصية من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لما ذكروا عندها أن عليا - عليه السلام - كان وصيا لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وهذا ثابت من قولها في الصحيحين (¬2)، والنسائي (¬3) من طريق الأسود بن يزيد بلفظ: متى أوصى إليه؟ وقد كنت مسندته إلي ¬

(¬1) زبيد: واد مشهور يصب في قامة م البحر الأحمر مآتيه من جبال العدين وأودية بعدان والأودية النازلة من شرق وصاب. وهو من أخصب وديان اليمن تربة ونماء، وتبلغ مساحته الزراعية 25 ألف هكتار. وقد أطلق اسم الوادي على مدينة زبيد الواقعة في منتصفه. وكانت تعرف قديما باسم " الحصيب " نسبة إلي الحصيب بن عبد شمس بن وائل بن يغوث ... بن سبأ اتخذها بني أيوب عاصمة لهم في أوائل حكمهم لليمن في القرن الثاني عشر الميلادي. وينسب إلي زبيد جمع كبر من العلماء منهم أبو قرة موسى بن طارق الزبيدي أحد الرواة المشهورين. وفي زبيد قبر العلامة مرتضى الزبيدي صاحب " تاج العروس في شرح القاموس " عشرة مجلدات ووفاته سنة 205 اهـ/ 1790م. انظر: معجم البلدان والقبائل اليمنية (ص 286 - 289). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2741) ومسلم في صحيحه رقم (1636). (¬3) في السنن (6/ 241).

صدري فدعا بالطشت فلقد انخنث في حجري و [ما شعرت] (¬1) أنه مات فمتى أوصى إليه؟، وفي رواية (¬2) عنها أنها أنكرت الوصية مطلقا، ولم تفيد بكونها إلي على - عليه السلام - فقالت: ومتى أوصى؟ وقد مات بين سحري ونحري. ¬

(¬1) زيادة من مصادر الحديث. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (84/ 2443).

[مقدمة تمهيدية قبل الجواب] (ولنقدم) قبل الشروع في الجواب مقدمة ينتفع ها السائل. (فنقول): ينبغي أن (تعلم أولا) أن قول الصحابي (¬1) ليس بحجة (¬2)، وأن المثبت ¬

(¬1) الصحابي: قال الحافظ ابن حجر في " الإصابة " (1/ 7 , 8): " وأصح ما وقفت عليه من دلك أن الصحابي: من لقط النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مؤمنا به ومات على الإسلام فيدخل فيمن لفيه من طالت مجالسته له أو قصرت، ومن روى عنه أو لم يرو، ومن غزا معه أو لم يغز، ومن رآه رؤبة ولم يجالسه، وهو من لم يره لعارض كالعمى. ويدخل في التعريف: كل مكلف من الجن والإنس. وكل من لفيه مؤمنا ثم ارتد، ثم عاد إلي الإسلام، ومات مسلما سواء اجتمع به: صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرة أخرى أم لا، وهذا هو الصحيح المعتمد كالأشعث بن قيس فإنه ارتد ثم عاد إلي الإسلام في خلافة أبي بكر الصديق ل! ه ومات مسلما فقد اتفق أهل الحديث على رضي الله عنه من الصحابة. ويخرج من التعريف: من لقيه كافرا، ولو أسلم بعد ذلك، إذا لم يجتمع به مرة أخرى. من لقيه مؤمنا بغيره، كمن لفيه من مؤمني أهل الكتاب قبل البعثة. من لقيه مؤمنا به، ثم ارتد ومات على ردته والعياذ بالله. ثم قال: وهذا التعريف مبني على الأصح المختار عند المحققين كالبخاري وشيخه أحمد بن حنبل ومن تبعهما " اهـ بتصرف. وانظر: إرشاد الفحول ص 70. (¬2) إن اختلاف العلماء في حجية قول الصحابي ليس على إطلاقه، بل فيه تفصيل: أولاً: قول الصحابي حجة: 1 - قول الصحابي فيما لا يدرك بالرأي والاجتهاد، حجة عند العلماء، لأنه محمول على السماع من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيكون من قبيل السنة، والسنة مصدر للتشريع. قال النووي في مقدمة شرح صحيح مسلم (1/ 30): " إذا قال الصحابي كنا نفعل في حياة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو في زمنه، أو هو فينا، أو بين أظهرنا، أو نحو ذلك فهو مرفوع. وهذا هو المذهب الصحيح الظاهر، فإنه إذا فعل في زمنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالظاهر إطلاعه عليه وتقريره إياه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذلك مرفوع. وأما إذا قال الصحابي: أميرنا بكذا، أو فينا عن كذا، أو من السنة كذا، فكله مرفوع على المذهب الصحيح الذي قاله الجماهير من أصحاب الفنون 15 اهـ. 2 - قول الصحابي الذي حصل عليه الاتفاق يعتبر حجة شرعية، لأنه يكون إجماعا. وكذلك قول الصحابي الذي لا يعرف له مخالف بعد اشتهاره، يكون من قبيل الإجماع السكوني. وهو أيضًا حجة ضرعية. ثانيًا: قول الصطابي غير حجة: 1 - قول الصحابي الصادر عن رأي واجتهاد، لا يكون حجة ملزمة على صحابي مثله، ولا على من جاء بعدهم. 2 - قول الصحابي إذا خالف المرفوع لا يكون حجة، بل يكون مردوا. 3 - قول الصحابي إذا خالفه الصحابة لا يكون حجة. انظر: أثر الأدلة المختلف فيها. (338 - 352) الإحكام للآمدي (5/ 155 - 161) إرشاد الفحول ص 243 - 244.

أولى (¬1) من النافي، وأن من علم حجة على من لم يعلم، وأن الموقوف (¬2) لا يعارض ¬

(¬1) إذا تعارض النفي مع الإثبات ففيه أربعة أقوال: الأول: ترجيح الإثبات على النفي، يعني أنه يقدم ما مدلوله الإثبات على ما مدلوله النفي عند أحمد والشافعي وأصحابهما. الثاني: عكسه، وهو تقدم النفي على الإثبات لاعتضاد النافي بالأصل، وأيده الآمدي. الثالث: أفما سواء، التساوي مرجحيهما، وهو قول القاضي عبد الجب ر وعيسى بن أبان والغزالي في المستصفي (2/ 398). الرابع: التفصيل، وهو ترجيح المثبت إلا في الطلاق والعتاق فرجح النفط. انظر: الكوكب المنير (4/ 182) وتيسير التحرر (3/ 144)، المنخول ص 434. (¬2) انظر: الكوكب المنير (4/ 652) والكفاية ص 610. والموقوف: هو المروى عن الصحابة قولا لهم، أو فعلا، أو تقريرا، متصلا إسناده إليهم، أو منقطعا، ويستعمل في غيرهم مفيدا فيقال: وقفه فلان عن الزهري ونحوه، وفقهاء خراسان يسمون الموقوف أثرا، والمرفوع خبرا. قال النووي: وعند المحدثين، كل هذا يسمي أثرا، أي لأته مأخوذ من أثرت الحديث أي رويته. والموقوف من حيث الحكم نوعان: موقوف له حكم المرفوع، وموقوف ليس له حكم المرفوع. انظر: قواعد التحديث. للقاسمي (ص 130).

المرفوع (¬1) على فرض حجيته، وهذه الأمور قد قررت في الأصول. (وتعلم) أن أم المؤمنين (¬2) - رض الله عنها - كانت تسارع إلي رد ما خالف اجتهادها، وتبالغ في الإنكار عدى راويه كما يقع مثل! ذلك كثير من المجتهدين. وتتمسك تارة بعموم لا يعارض ذلك المروفي كتغليطها لعمر (¬3) - رضي الله عنه - لما روى مخاطبته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لأهل قليب بدر، وقوله عند ذلك: يا رسول الله، إنما تخاطب أمواتا، فقال له " ما أنتم بأسمع منهم " فردت هذه الرواية عائشة بعد موت ¬

(¬1) المرفوع: هو ما أضافه الصحابي أو التابعي أو من بعدهما إلي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سواء كان قولا أو فعلا أو تقريرا أو وصفا، تصريحا أو حكما متصلا إسناده أولا. فيخرج بقيد إضافته إلي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحديث الموقوف وهو ما أضيف إلي الصحابي، ويخرج أيضًا المقطوع وهو ما أضيف إلي التابعي فمن دونه فتح المغيث للسخاوي (1/ 102 - 103). (¬2) هي أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق أمها أم رومان ابنة عامر. خطبها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة وتزوجها في شوال سنة عشر من النبوة وهي بنت ست سنين وأعرس بها في المدينة في شوال سنة اثنتين من الهجرة. وقيل غر ذلك وبقيت معه تسع سنين ومات عنها ولها ثماني عشرة سنة. ولم يتزوج بكرا غيرها واستأذنت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الكنية فقال لها: " تكني بابن أختك عبد الله بن الزبير " وكانت فقيهة عالمة فصيحة فاضلة كثيرة الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عارفة بأيام العرب وأشعارها. روى عنها جماعة من الصحابة والتابعين، نزلت بالمدينة من السماء بعشر آيات في سورة النور. توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيتها ودفن فيه، وماتت بالمدينة سنة سبع وخمسين وقيل: سنة ثمان وخمسين ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من رمضان ودفنت بالبقيع وصلى عليها أبو هريرة وكان والي مروان في المدينة. انظر: " الاستيعاب " (13/ 84 - 94رقم 3429) و" الإصابة " (3/ 38 - 42رقم 701) و" البداية والنهاية " (1/ 233) و" تهذيب التهذيب " (12/ 461 - 463رقم 2840). (¬3) أخرجه البخاري رقم (3976) ومسلم رقم (2875) من حديث أنس بن مالك.

عمر، وتمسكت بقول الله تعالي: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (1). وهذا ¬

[فاطر: 122]. وفي المسألة قولان: 1) القول الأول: أنهم لا يسمعون وهو مذهب الحنفية. ومن أدلتهم على ذلك: 1 - قوله تعالي: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 122]. 2 - وقوله تعالي: {} [النمل: 80]. وأجاب الآخرون بأن الآيتين مجاز، وأنه ليس المقصود بـ (الموتى) وبـ (من في القبور) الموتى حقيقة في قبورهم، وإنما المراد هم الكفار الأحياء، شبهوا بالموتى، " والمعنى من هم في حال الموتى أو في حال من سكن القبر ". 3 - وقوله تعالي: {} [فاطر: 13 - 14]. فهذه الآية صريحة في نفط السمع عن أولئك الذين كان المشركون يدعونهم من دون الله تعالي، وهم موتى الأولياء والصالحين الذين كان المشركون يمثلونهم في تماثيل وأصنام لهم ثم يعبدونها فيها، وليس لذاتها. 4 - حديث قليب بدر- تقدم تخريجه. ووجه الاستدلال هذا الحديث: أ) ما في الروايات - عند البخاري رقم (3980 , 3981) والنسائي (1/ 693) من حديث ابن عمر - من تقييده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سماع موتى القليب بقوله: " الآن " فإن مفهومه أفم لا يسمعون من غير هذا الوقت، وهو المطلوب. وقد نبه على ذلك العلامة الألوسي في كتابه " روح المعاني " (6/ 455) ففيه تنبيه قوي على أن الأصل في الموتى أفم لا يسمعون، ولكن أهل القليب في ذلك الوقت قد دعوا نداء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبإسماع الله تعالي إياهم خرقا للعادة ومعجزة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 2) أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقر عمر وغيره من الصحابة على ما كان مستقرا ني نفوسهم واعتقادهم أن الموتى لا يسمعون. وأقرهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على فهمهم للآية على ذلك الوجه العام الشامل لموتى القليب وغيرهم لأنه لم ينكره عليهم، ولا قال لهم: أخطأتم فالآية لا تنفى مطلقا سماع الموتى بل إنه اقرهم على ذلك، ولكن بين لهم ما كان خافيا عليهم من شأن القليب وأنهم سمعوا كلامه حقا وأد ذلك أمير خاص مستثني من الآية. معجزة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 5 - قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام ". وهو حديث صحيح. ووجه الاستدلال به: أنه صرح في أن النبي! س لا يسمع سلام المسلمين عليه إذ لو كان يسمعه بنفسه، لمل كان بحاجة إلي من يبلغه إليه كما هو ظاهر لا يخفى على أحد إن شاء الله تعالي وإذا كان الأمير كذلك فبالأولى أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يسمع غير السلام من الكلام. وإذا كان كذلك فلأن لا يسمع السلام غيره من الموتى أولي وأحرى. أدلة المخالفين وهم القائلين بأن الموتى يسمعون: ا) الدليل الأول وهو حديث قليب بدر وقد تقدم. وقد عرفت مما سبق أن خاص بأهل قليب بدر من جهة، وأنه دليل على أن الأصل في الموتى أنهم لا يسمعون من جهة أخرى، وأن سماعهم كان خرقا للعادة. 2) الدليل الثاني: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الميت ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا " وهو حديث صحيح. أخرجه البخاري رقم (1338) ومسلم رقم (2870) من حديث أنس رضي الله عنه. وهذا خاص بوقت وضعه في قبره ومجيء الملكين إليه لسؤاله فلا عموم فيه. والخلاصة: أن الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال أئمة الحنفية وغيرهم - على أن الموتى لا يسمعون. وأن هذا هو الأصل، فإذا ثبت أفم يسمعون في بعض الأحوال كما في حديث خفق النعال، أو أد بعضهم عفي وقت ما، كما في حديث القليب، فلا ينبغي أن يجعل ذلك أصلا، فيقال إن الموتى يسمعون كما فعل بعضهم كلا. فإنها قضايا جزئية، لا تشكل قاعدة كلية، يعارض ها الأصل المذكور بل الحق أنه يجب أن تستثني منه، على قاعدة استثناء الأقل من الأكثر أو الخاص من العام كما هو مقرر في علم أصول الفقه. وقال الحافظ في الفتح (7/ 302): لا معارضة بين حديث ابن عمر والآية، لأن الموتى لا يسمعون بلا شك، لكن إذا أراد الله تعالي إسماع ما ليس من شأنه السماع لم يمتنع كقوله تعالي: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} الآية وقوله تعالي: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} الآية - وقد جل في المغازي - قول قنادة إن الله تعالي أحباهم حتى سمعوا كلام نبيه عليه الصلاة والسلام توبيخا ونقمة. انظر: روح المعاني للألوسي (6/ 454 - 456)، الدر المنثور (5/ 191)، فتح الباري (7/ 300 - 305). وهذا

التمسك غير صالح لرد هذه الرواية من مثل هذا الصحابي، وغاية ما فيه بعد تسليم صدقه على أهل القليب أنه عام، وحديث إسماعهم خاص، والخاص مقحم على العام، وتخصيص عمومات القرآن. مما صح من آحاد السمنة هو مذهب الجمهور، وتارة تتمسك بما حفظة كقولها لما بلغها رواية عمر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بلفظ " إن الميت ليعذب ببكاء أهله " قالت: يرحم الله عمر ها حاث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن الميت ليعذب ببكاء أهله، ولكن قال: " إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه "، ثم قالت: حسبكم القرآن: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬1) أخرجه الشيخان (¬2)، والنسائي (¬3)، وفي رواية أنه ذكر لها أن ابن عمر يقول: إن الميت ليعذب ببكاء أهله فقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب، ولكنه نسط أو أخطأ، إنما مر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - على يهودية يبكى عليها، فقال " إنها ليبكى عليها، وإنها لتعذب في قبرها " أخرجه الشيخان (¬4)،. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

(¬1) [الأنعام: 164]. (¬2) البخاري في صحيحه رقم (1288) وطرفاه رقم (1289 , 3978) ومسلم في صحيحه رقم (929). (¬3) في السنن (4/ 17). (¬4) البخاري في صحيحه رقم (1289) ومسلم رقم (27/ 932).

ومالك (¬1)، والترمذي (¬2)، والنسائي (¬3) وقد ثبت هذا الحديث في صحيح البخاري (¬4) وغره (¬5) من طريق المغيرة بلفظ " من ينح عليه يعذب. بما نيح عليه ". فهذا الحديث قد ثبت عن رسول الله - صلى بالله عليه وآله وسلم - من طريق ثلاثة من الصحابة، ثم إن عائشة - رضي الله عنها - ردت ذلك متمسكة. بما تحفظه، وبعموم القرآن. وأنت تعلم أن الزيادة مقبولة (¬6) بالإجماع إن وقعت غير منافية، والزيادة هاهنا في رواية عمر وابنه، والمغيرة غير منافية لأنها متناولة بعمومها للميت من المسلمين، ولم تجعل عائشة روايتها مخصصة للعموم، أو مقيدة للإطلاق، حتى يكون قولها مقبولا من وجه، بل صرحت بخطأ الراوي أو نسيانه، وجزمت بأن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لم يقل ذلك. وأما تمسكها بقول الله تعالي: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬7) فهو لا يعارض الحديث، لأنه عام، والحديث خاص، ولهذه الواقعات نظائر بينها - رضي الله عنها - ¬

(¬1) في الموطأ (1/ 234). (¬2) في السنن رقم (1006). (¬3) في السنن (4/ 17 - 18). (¬4) في صحيحه رقم (1291). (¬5) كمسلم في صحيحه رقم (28/ 933). (¬6) انظر البحر المحيط (4/ 335). قال ابن الصلاح الزيادة من الثقة ثلاثة أقسام: 1) ما كان مخالفا منافيا لما رواه الثقات فمردود. 2) مالا ينافي رواية الغير كالحديث الذي تفرد برواية جملته ثقة من الثقات فيقبل تفرده، ولا يتعرض فيه لما رواه الغير. بمخالفته أصلا، وادعى الخطب فيه الاتفاق. 3) ما يقع بين هاتين المرتبتين - كزيادة في لفظ حديث لم يذكرها سائر رواة الحديث، يعني ولا اتحد المجلس، ولا نفاها الباقون صريحا، وتوقف ابن الصلاح في قبول هذا القسم، وحكى الشيخ محي الدش النووي عنه اختيار القبول فيه. (¬7) [الأنعام: 164].

وبن جماعة من الصحابة كأبي سعيد (¬1)، وابن عباس (¬2) وغيرهما (¬3). ومن جملتها الواقعة المسؤول عنها، أعني: إنكارها - رضي الله عنها - الوصية منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلي على - عليه السلام - وقدوا فقها في عدم وقوع مطلقها منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - غير مفيد بكونها إلي على - عليه السلام - ابن أبي أوفى- رضي الله عنه - فأخرج [1] عنه البخاري (¬4)، ومسلم (¬5)، والترمذي (¬6)، والنسائي (¬7) من طريق طلحة ابن مصرف قال: سألت ابن أبي أوفى: هل أوصى رسول الله - صلى الله عليه وآله ¬

(¬1) يشير إلي استدراك عائشة على حديث أبي سعيد الخدري. الذي أخرجه أبو داود رقم (3141): أنه لما حضره الموت دعا بثياب جدب فلبسها ثم قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها " وهو حديث صحيح. أن أبا سعيد فهم من الحديث إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد بالثياب الكفن وأن عائشة رضي الله عنها أنكرت عليه ذلك وقالت: يرحم الله أبا سعيد إنما أراد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عمله الذي مات عليه، قد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يحشر الناس حفاة عراة غرلا ". أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6527) ومسلم رقم (56/ 2859) من حديث عائشة. (¬2) (منها) ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1700) ومسلم في صحيحه رقم (369/ 1321) أن زياد بن أبي سفيان كتب إلي عائشة: أن عبد الله بن عباس قال: " من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي ". قال عمرة: فقالت عائشة رضي الله عنها: ليس كما قال ابن عباس، ألا فتلت قلائد هدى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيدي ثم قلدها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيديه، ثم بعث ها مع أبي، فلم يحرم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيء أحله الله له حتى نحر الهدى ". (¬3) انظر: عين الإصابة في استدراك عائشة على الصحابة، تأليف جلال الدين السيوطي. (¬4) في صحيحه رقم (2740) وطرفاه (4460 و5022). (¬5) في صحيحه رقم (16/ 1634). (¬6) في السنن رقم (2119). (¬7) في السنن (6/ 240 رقم 3620). وهو حديث صحيح.

وسلم -؟ قال: لا، قلت: فكيف كتب على الناس الوصية، وأميرها، ولم يوص؟ قال: أوصى بكتاب الله تعالي، وأنت تعلم أن قوله: أوصى بكتاب الله تعالي لا يتم معه قوله. لا. في أول الحديث، لأن صدق اسم الوصية لا يعتبر فيه أن يكون بأمور متعددة حتى يمتنع صدقه على الأمير الواحد لا لغة، ولا شرعا، ولا عرفا، للقطع بأن من أوصى بأمير واحد يقال له موص لغة، وعرفا، وشرعا، فلا بد من تأويل قوله: لا، وإلا لم يصح قوله أوصى بكتاب الله تعالي، وقد تأوله بعضهم بأنه لم يوص بالثلث كما فعله غيره، وهو تأويل حسن لسلامة كلامه معه من التناقض.

[جواب على سؤال] إذا عرفت هذه المقدمة (فالجواب) على أصل السؤال ينحصر في بحثين: (البحث الأول): في إثبات مطلق الوصية منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. (والبحث الثاني): في إثبات مقيدها، أعني: كونها إلي على - عليه السلام -. [في إثبات مطلق الوصية] (أما البحث الأول): فأخرج مسلم (¬1) من حديث ابن عباس أن رسول الله أوصى بثلاث: أن يجيزوا الوفد بنحو ما كان يجيزهم. وفي حديث [أنس] (¬2) عند النسائي (¬3)، وأحمد (¬4)، وابن سعد (¬5)، واللفظ له: كانت غاية وصية رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - حين حضره الموت " الصلاة وما ملكت أيمانكم "، وله شاهد من حديث على عند أبي داود (¬6)، وابن ماجة (¬7) زاد " أدوا الزكاة بعد الصلاة"، ¬

(¬1) في صحيحه رقم (20/ 1637) من حديث ابن عباس قال: اشتد برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعه. فقال: " ائتوني أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده " فتنازعوا وما ينبغي عند نهما تنازع، وقالوا: ما شأنه؟ أهجر؟ استفهموه قال: " دعوني، فالذي أنا فيه خير أوصيكم بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ". قال: وسكت عن الثالثة. أو قالها فأنسيتها. وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (4431). (¬2) زيادة يقتضيها السياق من المصادر الحديثية. (¬3) في كتاب الوفاة (ص 44 رقم 18، 19). (¬4) في "المسند " (3/ 117). (¬5) في " الطبقات الكبرى " له (2/ 253). قلت: وأخرجه ابن ماجة رقم (2697) وابن حبان (1/ 552 رقم 1220 - موارد) بإسناد صحيح. (¬6) في السنن رقم (5156). (¬7) في السنن رقم (2698).

أخرجه أحمد (¬1)، وأخرج سيف بن عمر في الفتوح من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حذر من الفتن في مرض موته، وأمير بلزوم الجماعة والطاعة، وأخرج الواقدي (¬2) من مرسل العلاء بن عبد الرحمن انه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أوصى فاطمة عليها السلام فقال: " قولي إذا مت: إلا لله وإنا إليه راجعون ". وأخرج للطبراني في الأوسط (¬3) من حديث عبد الرحمن بن عوف قالوا: يا رسول الله، أوصنا، يعني في مرض موته، قال: " أوصيكم بالسابقين الأولين من المهاجرين وأبنائهم من بعدهم " وقال: لا يروى عن عبد الرحمن إلا هذا الإسناد، تفرد به عتيق بن يعقوب (¬4)، وفيه من لا يعرف حاله. وفي سنن ابن ماجه (¬5) من حديث على قال: قال ¬

(¬1) في المسند (1/ 78) وهو حديث صحيح. (¬2) لم أجده؟! (¬3) (1/ 268 - 269رقم 874) قلت: وأورده الهيثمي في المجمع (10/ 17) وقال: رجاله ثقات. (¬4) عتيق بن يعقوب بن صديق بن موسى بن عبد الله بن الزبر بن العوام المدني حفظ الموطأ في حياة مالك، وثقه الدارقطني، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال زكريا الساجي روى عن هشام بن عروة حديثا منكرا. الجرح والتعديل (7/ 46) واللسان (4/ 129). (¬5) في السنن رقم (1468). قال للبوصيري في مصباح الزجاجة (1/ 477 - 487رقم 523/ 1468): هذا إسناد ضعيف. عباد بن يعقوب الرواجئ أبو سعيد قال فيه ابن حبان كان رافضيا داعية ومع ذلك يروي المناكير عن المشاهير فاستحق الترك. وقال ابن طاهر في التذكرة: عباد ابن يعقوب من غلاة الروافض روى المناكير عن المشاهير وإن كان البخاري روى عنه حديثا واحدا في الجامع، فلا يدل على صدقه فقد فوقفه عليه غيره من الثقات وأنكر الأئمة عليه روايته عنه. وترك للرواية عن عباد جماعة من الحفاظ. قلت: إنما روى البخاري لعباد هذا مقرونا بغيره، وشيخه الحسين بن زيد بن على مختلف فيه " اهـ. وهو حديث ضعيف.

رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إذا أنا مت فاغسلوني بسبع قرب من بئر أريس "، وكانت بقباء، وفي مسند البزار (¬1)، ومستدرك الحاكم (¬2) بسند ضعيف أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أوصى أن يصلى عليه إرسالا بغير إمام. وأخرج أحمد (¬3)، وابن سعد (¬4) أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - سأل عائشة عن الذهبية في مرض موته فقال: " ما فعلت الذهبية؟ قالت: هي عندي، قال: أنفقيها " وأخرج ابن سعد (¬5) من وجه آخر أنه قال: " ابعثي بها إلي علي ليتصدق بها "، وفي المغازي لابن إسحاق (¬6) انه قال: لم يوص رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عند موته إلا بثلاث لكل من الداريين، والزهاوين، والأشعريين [بخادم] (¬7) ومائه وسق من خيبر، وأن لا يترك في جزيرة العرب دينان، وأن ينفذ جيش أسامة، وقد سبق في حديث ابن أبي أوفى (¬8) انه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. أوصى بالقرآن، وثبت في الأمهات (¬9) ¬

(¬1) في مسنده (1/ 398 - 399 رقم 847 - كشف). (¬2) في المستدرك (3/ 60) وقال الحاكم عبد الملك بن عبد الرحمن الذي في هذا الإسناد مجهول لا نعرفه بعدالة ولا جرح والباقون كلهم ثقات. وتعقبه الذهبي بقوله: بل كذبه الفلاس وقول الحاكم " والباقون ثقات " هذا شأن الموضوع كل رواته لقات سوى واحد، فلو استحى الحاكم لما أورد مثل هذا، انتهى كلام الذهبي. قلت: وهو كما قال الذهبي. وخلاصة القول أن الحديث موضوع والله أعلم. (¬3) في المسند (6/ 49). (¬4) في الطبقات الكبرى (2/ 238). (¬5) في الطبقات الكبرى (2/ 239). (¬6) عزاه إليه الحافظ في الفتح (5/ 362) وسيأتي. انظر الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 254). (¬7) في الأصل (نجاد مائه) والصواب ما أثبتناه. (¬8) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2740) ومسلم في صحيحه رقم (16/ 1634) وقد تقدم. (¬9) تقدم آنفا.

أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " استوصوا بالأنصار (¬1) خرا، استوصوا (¬2) بالنساء ضرا أخرجوا (¬3) اليهود من جزيرة العرب لا. ونحو هذه الأمور التي كل واحد منها لو انفرد لم يصح معه أن يقال: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لم يوص، وثبت في الصحيح من حديث أبي موسى (¬4): أوصاني خليلي بثلاث، ولعل من أنكر ذلك أراد انه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لم يوص على الوجه الذي يقع من غيره من تحرير أمور في مكتوب، كما أرشد إلي ذلك بقوله: " ما حق أميري مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده ". أخرجه البخاري (¬5)، ومسلم (¬6) من حديث ابن عمر. ولم يلتفت إلي أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قد نجز أموره قبل دنو الموت، وكيف يظن برسولي الله - صلى الله عليه وآله ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (3799) وطرفه (3801) من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعا: " أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم ". (¬2) وهو جزء من حديث جابر عند مسلم رقم (147/ 1218). (¬3) تقدم آنفا. (¬4) بل ثبت من حديث أبي هريرة وأبي الدرداء. أما حديث أبي هريرة فقد أخرجه البخاري رقم (1178) ومسلم رقم (721) قال أوصاني خليلي رضي الله عنه بثلاث: بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أرقد ". وأما حديث أبي الدرداء فقد أخرجه مسلم رقم (722) وأبو داود رقم (1433) قال أوصاني حبيبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بثلاث أن لا أدعهن ما عشت: بصيام ثلاثة أيام ص كل شهر وصلاة الضحى وأن لا أنام إلا على وتر ". (¬5) في صحيحه رقم (2738). (¬6) في صحيحه رقم (1/ 1627). قلت: وأخرجه أبو داود رقم (2862) والنسائي (6/ 238 - 239) والترمذي رقم (2118) وابن ماجه رقم (2702) ومالك (2/ 761رقم 1) وأحمد (2/ 3 - 4، 34، 127).

وسلم - أن يترك الحالة الفضلى؟ أعني تقديم التنجيز قبل هجوم الموت، وبلوغها الحلقوم. وقد أرشد إلي ذلك وكرر وحذر، وهو أجدر الناس بالأخذ. بما ندب إليه. وبرهان ذلك أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قد كان سبل أرضه، ذكره النووي (¬1) وأما السلاح والبغلة والأثاث وسائر المنقولات فقد أخبر بأنها صدقة كما ثبت عنه في الصحيح (¬2) وقال في الذهبية (¬3) التي لم يترك سواها ما قال، كما سلف. إذا عرفت هذا علمت أنه لم يبق من أمور رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عند موته ما يفتقر إلي مكتوب. (نعم) قد أراد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أن يكتب لأمته مكتوبا عند موته يكون عصمة لها عن الضلال [2]، وجنة تدرا عنها ما تسبب من المصائب الناشئة عن اختلاف الأقوال، فلم يجب إلي ذلك، وحيل بينه وبين ما هنالك، ولهذا قال الحبر ابن عباس: الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وبين كتابه، كما ثبت عنه ذلك في صحيح البخاري (¬4) وغيره (¬5)، فإن قلت: لا شك أن في هذه الأدلة التي سقتها كفاية، وأن المطلوب يثبت بدون هذا، وأن عدم علم عائشة بالوصية لا يستلزم عدمها ونفيها لا ينافي الوقوع، وغاية ما في كلامها الأخبار بعدم علمها. وقد علم ¬

(¬1) في شرحه لصحيحه مسلم (1/ 87 - 88). قلت: وعزاه الحافظ في " الفتح " (5/ 362) - لأبي إسحاق في المغازي - وقال: رواية يونس بن بكر عنه - أي عن ابن إسحاق - حدثني صاع بن كيسان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: فذكره، وهذا إسناد مرسل عبيد الله تابعي مشهور. انظر: " التقريب " (1/ 535رقم 1469). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (18/ 16385) عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما ترك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دينارا، ولا درهما، ولا شاة، ولا بعيرا، ولا أوصى بشيء ". (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) في صحيحه رقم (4432). (¬5) كمسلم في صحيحه رقم (1637/ 22).

غيرها، ومن علم حجة على من لم يعلم، أو نفي الوصية حال الموت لا يلزم من نفيها في الوقت الخاص نفيها في كل وقت، إلا أن ثمة إشكالا، وهو ما ثبت أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مات وعليه دين ليهودي آصع من شعير (¬1)، فكيف ولم يوص به! كما أوصى بسائر تركته. (قلت): قد كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ رهن عند اليهودي في تلك الآصع درعه، والرهن حجة لليهودي كافية في ثبوته، وقبول قوله، لا يحتاج معه إلي الوصية كما قال الله تعالي في آية الدين: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬2) على أن علم ذلك لم يكن مختصا به - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، بل قد شاركه فيه بعض الصحابة، ولهذا أخبرت به عائشة، وليس المطلوب من الوصية للشارع إلا التعريف. مما على الميت من حقوق الله، وحقوق الآدميين، وقد حصل ههنا. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4467) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: " توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وردعه مرهونة عند يهودي بثلاثين، يعني صاعا من شعر ". (¬2) [البقرة: 1283].

[في إثبات الوصية لعلى] (وأما البحث الثاني): فأخرج أحمد بن حنبل (¬1) عن أنس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " وصي ووارثي، ومنجز وعدي على بن أبي طالب " وأخرج أحمد (¬2) من حديثه قال قلنا لسلمان: سل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من وصيه؟ قال سلمان: يا رسول الله، من وصيك؟ قال: " يا سلمان من كان وصي موسى؟ " قال: يوشع بن نون، قال: فإن وصي، ووارثي، ويقضي ديني، وينجز موعدي على بن أبي طالب، وأخرج الحافظ أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة (¬3) عن بريدة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - " لكل نبي وصي ووارث، ¬

(¬1) وهو حديث موضوع لم أجده في مسند أحمد. وقال صاحب كشف الخفاء (2/ 466رقم 2895): موضوع. وقال الصغاني في الدر الملتقط: وهو من مفتريات الشيعة. وانظر الموضوعات للصغاني (ص 27). تحقيق نجم عبد الرحمن خلف ط: 405 اهـ. (¬2) قال ابن تيمية في منهاج السنة (5/ 23) و (7/ 299 - 312، 354 - 358) إن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، ليس هو في مسند أحمد، وليس في شيء من الكتب إلى تقوم الحجة. بمجرد إسناده إليها، ولا صححه إمام من أئمة الحديث. وذكره ابن ابرزي في الموضوعات (1/ 374 - 375) وأورد له أربع طرق كلها غير صحيحة، وفي بعضها راو من كبار الشيعة. وانظر الفوائد المجموعة للشوكاني (ص 369 رقم 63). (¬3) ذكره ابن الجوزي في الموضوعات (1/ 376): وقال: هذا حديث لا يصح. وقال الذهبي في ترجمة شريك بن عبد الله النخعي في الميزان (2/ 463): محمد بن حميد الرازي - وليس بثقة - حدثنا سلمة الأبرش، حدثنا ابن إسحاق عن شريك، عن أب ربيعة الأيادى، عن أبيه مرفوعا: " لكل نجي وصي ووارث، وإن عليا وصبي وواري ". قلت: هذا كذب لا يحتمله شريك.

وإن عليا وصي ووارثي "، وأخرج ابن جرير (¬1) عن على - عليه السلام - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " يا برش عبد المطلب إني قد جئتكم بخيري الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي، ووصي، وخليفتي فيكم؟ " قال: فأحجم القوم عنها جميعا، وقلت أنا: يا نبي الله، أكون وزيرك عليه؟ فأخذ برقبتي ثم قال: " هذا أخي، ووصيي، وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا ". وأخرج محمد بن يوسف الكنجي الشافعي في. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

(¬1) في جامع النبيان (11 جـ 19/ 121 - 122). قلت: وأخرجه ابن الجوزي في الموضوعات (1/ 374 - 375) من طرق أربع في: الطريق الأول: إسماعيل ابن زياد قال ابن حبان: لا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل القدح فيه. وقال الدارقطني متروك، وقال عبد الغني ابن سعيد الحافظ أكثر رواة هذا الحديث مجهولون وضعفاء. وأما الطريق الثاني: ففيه مطر ابن ميمون قال البخاري منكر الحديث. وقال أبو الفتح الأزدي: متروك الحديث، وفيه جعفر وقد تكلموا فيه. وأما الطريق الثالث: ففيه خالد بن عبيد. قال ابن حبان: يروي عن انس نسخة موضوعة لا يحل كتب حديثة إلي علي جهة التعجب. قال المصنف: - ابن الجوزي - قلت أحد الرجلين وضع الحديث، والآخر سرقه منه. وأما الطريق الرابع: فإن قيس بن ميناه من كبار الشيعة ولا يتابع على هذا الحديث. واسماعيل بن زياد قد ذكرنا القدح فيه في الطريق الأول. وقال ابن فيم الجوزية في " المنار المنيف " ص 57: تحت عنوان أمور كلية يعرف بما كون الحديث موضوعا منها: أن يدعي على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه فعل أميرا ظاهرا. بمحضر من الصحابة كلهم، وأنهم اتفقوا على كتمانه ولم ينقلوه كما يزعم أكذب الطوائف: أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ بيد على بن أبي طالب رضي الله عنه. بمحضر من الصحابة كلهم، وهم راجعون من حجة الوداع، فأقامه بينهم حتى عرفه الجميع ثم قال: " هذا وعي وأخي والحليفة من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا " ثم اتفق الكل على كتمان ذلك وتغيره ومخالفته فلعنة الله على الكاذبين.

مناقبه (¬1) من حديث ذكره بسند متصل برسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وفيه في وصف علي- عليه السلام- ووعاء علمي، ووصيي. وأخرج أيضًا (¬2) عن علي- عليه السلام- أنه قال: أمرني رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بقتال ثلاثة: الناكثين، والقاسطين، والمارقين. وأخرج أيضًا (¬3) عن جابر أن رسول الله- صلى الله عليه واله وسلم- قال لعلي بن أبي طالب: "سلام عليك يا أبا ريحانتي، أوصيك بريحانتي خيرا" قال: هذا حديث حسن من حديث جعفر بن محمد. وأخرج الطبراني (¬4) عن عمار عنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "ألا أرضيك يا علي؟ أنت أخي، ووزيري، تقضي ديني، وتنجز موعدي، وتبرئ ذمتي" الحديث ¬

(¬1) لم أجده بهذا اللفظ. واعلم أن أحاديث الوصاية كلها تالفة. (¬2) أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية رقم (395) وقال المصنف: هذا حديث لا يصح. أما أصبغ فقال يحيى بن سعيد ليس بثقة ولا يساوي شيئا. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال ابن حبان: فتن بحب علي بن أبي طالب فأتى بالطامات في الروايات فاستحق من اجلها الترك. وأما علي بن الحزور فقال يحيى: لا يحل لأحد أن يروي عنه. وقال أبو الفتح الأزدي: لا اختلاف في تركه. والخلاصة أن الحديث موضوع. (¬3) لم أجده بهذا اللفظ. وقد أخرج البخاري في صحيحه رقم (3753) من حديث ابن عمر وفيه: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" هما - أي الحسن والحسين- ريحانتاي من الدنيا". (¬4) في الكبير (12/ 420 - 421 رقم 3549) وأورده الهيثمي في المجمع (9/ 121) وقال: فيه من لم أعرفه. والخلاصة أن الحديث موضوع والله أعلم.

بطوله. وأخرج نحوه أبو يعلى (¬1)، وأخرج البزار (¬2) عن أنس مرفوعا: علي يقضي ديني، وروي بكسر الدال، وأخرج ابن مردويه (¬3) والديلمي (¬4) عن سلمان الفارسي مرفوعا: على بن أبي طالب ينجز عداتي، ويقضى ديني. وأخرج الديلمى (¬5) عن أنس مرفوعًا يا على أنت تبين للناس ما يختلفون فيه من بعدي، وأخرج أبو نعيم في الحلية (¬6)، والكنجي في المناقب من حديث طويل، وفيه وقائد الغر المحجلين، وخاتم الوصيين، وأخرج العلامة إبراهيم بن محمد الصنعاني في كتابه: إشراق الإصباح (¬7) عن محمد بن على ¬

(¬1) في المسند (1/ 402 - 403رقم 268/ 528) عن على بإسناد ضعيف جدا. وأورده الهيثمي في المجمع (9/ 121 - 122) وقال: وفيه زكريا الصهباني وهو ضعيف. قلت: زكريا بن عبد الله بن يزيد الصهبايى قال الأزدي: منكر الحديث. وخلاصة القول أن الحديث ضعيف جدا. (¬2) في مسنده (3/ 197رقم 2555 - كشف). وقال البزار: هذا الحديث منكر وهو كما قال إلا أن المحدث الألبايى أخرج له شاهدين في الصحيحة رقم (1980) فحسنه هما. انظره لراما لما فيه من كشف أباطيل الشيعة. (¬3) زهر الفردوس (2/ 315). (¬4) أورده الديلمى في " الفردوس بمأثور الخطاب " (3/ 61 رقم 4170). (¬5) في الفردوس بمأثور الخطاب (5/ 332 رقم 8347). وأسنده في زهر الفردوس (4/ 299). (¬6) (1/ 102رقم 192). وأخرجه ابن الجوزي في الموضوعات (14/ 376 - 377) وقال: هذا حديث لا يصح. قال يحي بن معين: على بن عباس ليس بشيء رقد روى هذا الحديث جابر الجعفي عن أبي الطفيل عن أنس. قال زائدة: كان جابر كذابا، وقال أبو حنيفة ما لقيت أكذب منه. وانظر اللآلئ المصنوعة للسيوطي (1/ 350). (¬7) العلامة إبراهيم بن محمد بن نزار الصنعاني كان من المبدعين في النثر الأدبي تلقى العلم ودرسه على محمد ابن احمد بن عمرو والإمام محمد بن المطهر وعلى يديه نبغ جماعة من العلماء. ومن مؤلفاته: (إشراق الإصباح في مناقب الخمسة الأشباح) وهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى والحسنين وفاطمة رضي الله عنه. انظر: مصادر الفكر العربي الإسلامي (ص 414)، الإعلام (10/ 67).

الباقر، عن آبائه، عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من حديث طويل، وفيه: وهو - يعني عليا - وصيي، ووليي. قال المحب الطبري (¬1) بعد أن ذكر حديث الوصية إلي على - عليه السلام -: والوصية محمولة على ما رواه أنس من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصي، ووارثي يقضي ديني، وينجز موعدي على بن أبي طالب. أو على ما أخرجه ابن السراج (¬2) من قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يا على، أوصيك بالعرب خيرا. أو على ما رواه حسين بن على - عليه السلام - عن أبيه، عن جده قال: أوصى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عليا أن يغسله، فقال: يا رسول الله، أخشى أن لا أطيق، قال: إنك ستعان عليه (¬3)، انتهى. والحامل له على هذا الحمل حديث عائشة السالف، والواجب علينا الإيمان بأنه - عليه السلام - وصى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، ولا يلزمنا التعرض للتفاصيل الموصي ها، فقد ثبت أنه أميره بقتال الناكثين (¬4)، والقاسطين والمارقين، وعين له علاماتهم، وأودعه جملا من العلوم، وأميره بأمور خاصة كما سلف، فجعل الموصي ¬

(¬1) تقدم آنفا. (¬2) أخرجه البزار في البحر الزحار (2/ 318رقم 749) وأورده الهيثمي في المجمع (10/ 52) وقال: رواه الطبراني والبزار .... ورجال البزار وثقوا على ضعفهم. قلت: إسناده ضعيف. (¬3) لم أجده هذا اللفظ. بل أخرج أبو داود في السنن رقم (3209) عن عامر، قال: غسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على والفضل وأسامة بن زيد. . . " وإسناده مرسل صحيح. وله شاهد عمد أحمد برقم (2357 - شاكر) وإسناده ضعيف. والخلاصة: أن الحديث حسن لغيره. (¬4) تقدم تخريجه.

بها فردا منها ليس من دأب المنصفين، وأورد بعضهم - على القائلين [3] بأن عليا - عليه السلام - وصى رسول الله - سؤالا فقال: إن كانت الوصاية إخباره. بما لم يخبر به غيره من الملاحم ونحوها فقد شاركه في ذلك حذيفة (¬1) - رضي الله عنه -، فإنه خصه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. بمعرفة المنافقين، واختصه بعلم الفتن، وأن حملت على الوصاية بالعرب كما ذكر الطبري (¬2) فقد أوصى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - المهاجرين بالأنصار، وأوصى أصحابه بأصحابه. وأنت تعلم أنا لم نقصر على الإخبار ولا على الوصية بالعرب، ولم نتعرض للتفضيل، بل قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: إنه وصيه، فقلنا: إنه وصيه، فلا يرد علينا شيء من ذلك. (تنبيه): أعلم أن جماعة من المتعصبين على الشيعة عدوا قولهم أن عليا - عليه السلام - وصي لرسول الله من خرافاتهم، وهذا إفراط وتعنت يأباه الإنصاف، وكيف يكون الأمير كذلك وقد قال بذلك جماعة من الصحابة كما ثبت في الصحيحين (¬3) أن جماعة على ذكروا عند عائشة أن عليا وصي، وكما ثبت في غيرهما. واشتهر الخلاف بينهم في المسألة، وسارت به الركبان، ولعلهم تلقنوا قول عائشة في أوائل الطلب، وكبر في صدورهم حتى ظنوه مكتوبا في اللوح المحفوظ، وسدوا آذاكم عن سماع ما عداه، وجعلوه كالدليل القاطع، وهكذا فليكن الإعتساف والتنكب عن مسالك الإنصاف، وليس هذا بغريب بين أرباب المذاهب، فإن كل طائفة في الغالب لا تقيم لصاحبتها وزنا، ولا تفتح لدليلها، وإن كان في أعلى رتبة الصحة إذنا إلا من عصم الله، وقليل ما هم. وقد اكتفينا هذا المقدار من الأدلة الدالة على المراد، وإن كان المقام محتملا للإكثار، ولكثير الأخبار والآثار، فمن رام الاستيفاء فليراجع الكتب المصنفة في مناقب ¬

(¬1) تقدم في رسالة " هل خص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل البيت بشيء من العلم " (ص 903). (¬2) تقدم آنفا. (¬3) تقدم آنفا.

علي (¬1) - عليه السلام -. حرره المجيب - غفر الله له - محمد بن على الشوكاني في اليوم التاسع والعشرين من شهر شعبان سنة اثنتي عشر وخمس وهو تاريخ كتب هذه النسخة من خط المؤلف وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما وحسبنا الله وكفى ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله (¬2) ¬

(¬1) منها: - تهذيب خصائص الإمام على. للنسائي. تحقيق وتخريج أبو إسحاق الحويني الأثري. - موسوعة الأحاديث والآثار الضعيفة والموضوعة (14/ 467 - 496). - كتاب " رياض الجنة في الرد على أعداء السنة " للشيح مقبل بن هادي الوادعي (ص 186 - 207). (¬2) الخلاصة: من الملاحظ أخط القارئ أن الشوكاني عندما ألف هذه الرسالة سنة 205 اهـ لم تنضج بعد ثقافته في علوم الحديث، ثم لما نضجت وأخذ خبرة ودراية بطرق الحديث وأسانيدها والتمييز بينها ومواطن الضعف والقوة فيها ألف كتابه " الفوائد المجموعة " في آخر حياته سنة 1248 هـ أي بعد ثلاث وأربعين سنة من تأليفه لهذه الرسالة. وأورد فيه الكثير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وانتقدها. مما يدل على علمه بالحديث ومن ضمنها أحاديث في فضائل على! به التي أوردها في هذه الرسالة، فقال في " الفوائد المجموعة " (ص 424): ومنها وصايا علي! ه كل! موضوعة سوى الحديث الأول وهو: أنت مني بمنزلة هارون من موسى - تقدم تخريجه في رسالة أنا مدينة العلم. . . . . . . ويظهر من كلام الشوكاني - رحمه الله - في هذه الرسالة أنه لم يثبت الوصية بالخلافة في الحكم، وإنما يثبت الوصايا العامة التي أوصاها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلى، وفي هذا الصدد أورد الشوكاني أحاديث كثيرة ضعيفة وموضوعة وقد أورد الشوكاني رحمه الله روايات ضعيفة وموضوعة في فضائل علي رضي الله عنه في بعض كتبه، ولم ينبه على ضعفها ونكارتها وخاصة في تفسيره " فتح القدير " الذي انتهى من تأليفه سنة 1229 هـ. و" در السحابة في مناقب القرابة والصحابة " الذي انتهى من تأليفه سنة 1241هـ. أعانني الله على نشرهما.

الصوارم الحداد القاطعة لعلائق مقالات أرباب الاتحاد

(24) 10/ 3 الصوارم الحداد القاطعة لعلائق مقالات أرباب الاتحاد تأليف محمد بن علي الشوكاني حققته وعلق عليه وخرجت أحاديثه محفوظة بنت علي شرف الدين أم الحسن

وصف المخطوط 1 - عنوان الرسالة: الصوارم الحداد القاطعة لعلائق مقالات أرباب الاتحاد. 2 - موضوع الرسالة: نقد لآراء وأقوال ورجال الاتحادية المارقة. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، حمدا لك يا من تنزه عن مجانسة المخلوقات، وتميز بذاته عن جميع الذوات المحدثات. . . . . . 4 - آخر الرسالة:. . . . فلا أزيدك على ذلك، ولنقتصر على هذا المقدار فإن داء لا يشفيه هذا الدواء، لداء عضال وسما لا يبرى من تلهبه هذا الترياق، لسم قتال. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. . . . . . 5 - عدد الصفحات: 31 صفحة + صفحة العنوان. 6 - عدد الأسطر في الصفحة: 22 - 24 سطرا. 7 - عدد الكلمات في السطر: 11 - 13 كلمة. 8 - الناسخ: المؤلف: محمد بن على الشوكاني. 9 - تاريخ النسخ: 22/ رجب/1205 هـ. 10 - وجدت تحت عنوان الرسالة في المخطوط ما يفيد توبة الإمام محمد بن علي الشوكاني عما حرره في هذه الرسالة. . . . . . فأقول إن هذا الكلام المدون على غلاف الرسالة افتراء على هذا الإمام صاحب العقيدة السلفية. لأسباب كثيرة: أهمها: أ- الخط الذي كتبت فيه التوبة ليس خط الإمام الشوكاني يفينا، فقد جهل الكاتب أن الرسالة كتبت عام 1205هـ وتمت التوبة كما زعم عام 1245 هـ. فقلد خط الشوكاني في العام الذي كتبت فيه الرسالة، ونسي أن خط الإمام بعد أربعين عاما قد تغير كما هو واضح لمن تتبع خطه في هذا التاريخ والله أعلم.

ب - نقل الإمام الشوكاني نصوصا صريحة مكفرة من كتب القوم ولا يمكن التوبة منها إلا لأصحابها. ج- كلام الأئمة والعلماء كابن تيميه، وابن فيم الجوزية، والعز بن عبد السلام، وبدر الدين بن جماعة، والبلقيني، وابن حجر، وصالح بن مهدي المقبلي وغيرهم، موافق لما قاله الإمام الشوكاني في بيان كفر القوم كل ما تقدم وغيره يثبت زور ما وجد على غلاف الرسالة المخطوطة. انظر (ص 1024 - 1035).

بسم الله الرحمن الرحيم [خطبة المؤلف] حمدا لك يا من تنزه عن مجانسة المخلوقات، وتميز بذاته عن جميع الذوات المحدثات، وصلاة وسلاما على رسولك المأمور بتبليغ الشرائع الحاسم. بمرهم {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. . . .} (¬1) كل ما يزخرفه المبطلون من الذرائع، وعلى آله الذين مشوا على صراطه المستقيم وتمسكوا عند ظهور البدع المظلة هدية القويم. وبعد: فإنه كتب إلي سيدي السيد السند العلامة الأوحد ترجمان النبيان نبراس الزمان زينة الأوان (القاسم بن أحمد لقمان) (¬2) - حفظه الله عن طوارق الحدثان - هذه الأبيات الفائقة الرائقه متوجعا ها من غلاة الصوفيه (¬3) وسائلا عن حكم من كرع منهم في تلك ¬

= السيد قاسم بن أحمد بن عبد الله لقمان، احد أحفاد الإمامين المشهورين شرف الدين والمهدي احمد ابن يحي المرتضى، أديب ففيه شاعر، مولده بقرية (صنعة) على مقربة من مدينة (ذمار) سنة 1166هـ/ 1752م أم درس في ذمار ثم انتقل إلي صنعاء سنة 1192هـ / 1779م فأخذ عن شيوخها واستقر ها وتزوج و" اضرب عن العود إلي وطنه! " كما قال الشوكاني الذي لازمه وأخذ عنه وكان من أخص خلصائه، وكان يكلفه بالفصل في بعض القضايا الشرعية وأثني على عدالته وفقهه ونزاهته وكان بينهما مطارحات أدبية ومراجعات علمية نظمأ ونثرا. انظر: البدر الطالع (2/ 31 - 39 رقم 273)، التقصار (ص 387)، نيل الوطر (1/ 173). (7): أنه جامد غير مشتق: ذهب جماعة من أئمة التصوف إلي أن اسمهم غير مشتق من شيء. وأنه. بمثابة لقب أطلق عليهم. وممن قال هدا القول، القشيري، والهجويري. وهذا القول من الأقوال الضعيفة جدا. لأنه لا يعرف في الطوائف الدينية طائفة يطلق عليها لقب جامد خاو من المدلولات عطل من المعاني. شفاء السائل (ص 15 - 18)، الرسالة للقشيري (2/ 550 - 551). قال السهروردي: " وأقوال المشايخ في ماهية التصوف تزيد على ألف قول بل ذكروا أن الأقوال المأثورة في حد التصوف زهاء الألفين. ومن تعريفاهم إليتي تلقى الضوء على ركائز عقائدهم:- يقول بشر الحافي: " الصوفي من صفا قلبه لله ". قال الجنيد (ت 298 هـ) عن التصوف: " أن تكون مع الله تعالي بلا علاقة ". وقال: " هم أهل بيت واحد لا يدخل فيه غيرهم ". وقال الحصري (ت 371هـ): " الصوفي هو الذي لا تقله أرض ولا تظله سماء ". انظر: " الغنية لطالي طريق الحق " (2/ 160). القشيرية (2/ 550) " تذكرة الأولياء " للعطار (ص 288). (¬1) [المائدة: 3]. (¬2) السيد قاسم بن أحمد بن عبد الله لقمان، احد أحفاد الإمامين المشهورين شرف الدين والمهدي احمد ابن يحي المرتضى، أديب ففيه شاعر، مولده بقرية (صنعة) على مقربة من مدينة (ذمار) سنة 1166هـ/ 1752م أم درس في ذمار ثم انتقل إلي صنعاء سنة 1192هـ / 1779م فأخذ عن شيوخها واستقر ها وتزوج و" اضرب عن العود إلي وطنه! " كما قال الشوكاني الذي لازمه وأخذ عنه وكان من أخص خلصائه، وكان يكلفه بالفصل في بعض القضايا الشرعية وأثني على عدالته وفقهه ونزاهته وكان بينهما مطارحات أدبية ومراجعات علمية نظمأ ونثرا. انظر: البدر الطالع (2/ 31 - 39 رقم 273)، التقصار (ص 387)، نيل الوطر (1/ 173). (¬3) الصوفية: قال ابن تيمية في الفتاوى (11/ 5 - 6): أما لفظ " الصوفية " فإنه لم يكن مشهورا في القرون الثلاثة، وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك وقد نقل التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ: كالإمام أحمد بن حنبل، وأبي سليمان الداراني، وغيرهما. وقد روى عن سفيان الثوري أنه تكلم به، وبعضهم يذكر ذلك عن الحسن البصري. وتنازعوا في " المعنى " 10 هـ. فإن التصوف كلمة مجهولة الاشتقاق، ولا يعرف لها مصدر محدد حتى من أكثر الناس خبرة هذا المذهب كالقشيري والكلاباذي وغيرهما واحتملوا اشتقاق كلمة التصوف من أحد هذه المصادر المفترضة وهي: 1): أن تكون منسوبة إلي الصفاء، وهو مردود من جهة الاشتقاق اللغوي وقد رده القشيري في الرسالة (ص 126) وأنكره ابن خلدون في المقدمة (ص 467). 2): وقيل: إنه نسبة إلي " أهل الصفة " الفقراء الذين كانوا يأوون إلي مؤخرة مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذه النسبة مردودة من جهة الاشتقاق، ولو كان كذلك لقيل: صفى. انظر الفتاوى (6/ 11). 3): أن تكون لسمة إلي رجل يقال له. صوفة، واسمه الغوث بن مر وإنما سمى بـ " صوفة " لأن أمه نذرت لئن عاش لتعلقن برأسه صوفه ولتجعلنه ربيط الكعبة وهو اشتقاق مستبعد. انظر تلبيس ابليس (ص 183). وقيل: والصوفة كل من ولي شيئا من عمل البيت وهم الصوفان وهو الغوث بن مر بن أو بن طابخة ابن إلياس بن مضر كانوا يخدمون الكعبة في الجاهلية ويجيزون الحاج أي يضيفون هم. وهذا مردود - وان كان موافقا من جهة اللغة - لأمور منها:- 1): لأن صوفة خدم الكعبة في الجاهلية ليسوا من الشهرة بحيث يعرفهم الصوفية الأوائل. 2): لأنه لو نسب النساك إلي هؤلاء لكان هذا النسب معروفا في زمن الصحابة. 3): ولأن أوائل من نسبوا إلي هذا الاسم لا يرضون الانتساب إلي قبيلة جاهلية لا وجود لها في الإسلام. انظر: الفتاوى (6/ 11). 4): الصف الأول: إنهم سموا صوفية " لأهم في الصف الأول بين يدي الله عز وجل بارتفاع هممهم وإقبالهم على الله بقلوبهم ووقوفهم بسرائرهم بين يديه ". وهذا بعيد عن سلامة الاشتقاق اللغوي، فإن النسبة إلي الصف لا صوفي. الفتاوى (6/ 11) " عوارف المعارف " (ص 61). 5): السوفية اليونانية: لقد ذهب أبو ريحان النبيروني (ت 440 هـ) إلي أن كلمة " صوفي " مأخوذة من " سوفية " اليونانية التي معناها الحكمة، حيث ذكر مذهب الفلاسفة في الصدور الفيضي. وهذا قول جماعة من الباحثين والمستشرفين. انظر: " التصوف، المنشأ والمصادر " للشيخ إحسان (ص 33). 6): الصوف. يذهب غالب المتصوفة المتقدمين والمتأخرين إلي أن الصوفي منسوب إلي لبس الصوف ومنهم: السراج الطوسي وأبو طالب المكي واختاره جمع من أهل السنة الذين صنفوا في التصوف كابن خلدون وابن تيمية. الفتاوى (11/ 16 , 195).

المشارب الوبية وقد أوردت نثره ونظمه بحروفه، قال - طول الله بدنه وحرس مهجته - ما لفظه: [نص السؤال] حرس الله سماه المفاخر بحماية بدرها الزاهر وأتحف روضها الناظر بكلاية غشها الهامي الهامير وأهدى إليه تحية عطرة وبركة خضرة نظرة ما سمحت. أقلام الكتبة مفارق المحابر ورتعت أبصار الطلبة في حدائق الدفاتر صدرت هذه الأبيات في غاية القصور أقيلوا عثارها إن كان لكم عليها عثور تستمنح منكم الفرائد - وتستمد منكم الفوائد أوجب تحريرها أن ذكر عند بعض الأماثل جماعه المتصوفة فأثنى عليهم وأطنب

وأطرى وأطرب واستشهد بي، فقلت. مموجا قوله مستثنيا منهم مثل الحلاج (¬1) وابن عربي (2) ومن يساويهما فأصروا واستكبروا وأبدوا قولا يستنكر، فجرى بيننا خلاف مفرط فأحكم بيننا بالحق ولا تشطط. والأبيات [1]. ¬

. (2): هو أبو بكر محيي الدين: محمد بن على بن محمد الحاتمي الطائي الأندلسي. ولد في (مرسية) سنة (560 هـ) ونشأ فيها ثم ارتحل وطاف البلدان فجاء بلاد الشام والروم والمشرق ودخل بغداد، كان يكتب الإنشاء لبعض الملوك في المغرب، اختلف الناس في شانه فذهبت طائفة إلي أنه زنديق. وقال آخرون إنه ولي ولكن يحرم النظر في كتبه. والصحيح أنه اتحادي خبيث، ولم يشتهر أميره وكتبه إلا بعد موته لأنه كان منقطعا عن الناس، إنما يجتمع به آحاد الاتحادية، ولهذا تمادى في أميره ثم فضح وهتك. توفي سنة (638 هـ). انظر: شذرات الذهب (5/ 190 - 202)، نفح الطب (2/ 161 - 184)، الميزان (3/ 659 - 660) (¬1) هو الحسين بن منصور بن محمى الحلاج أبو مغيث، أبو عبد الله، كان جده مجوسيا وأسلم، اسمه: محمى من أهل فارس، من بلدة يقال لمها: البيضاء ونشأ بواسط ويقال بتستر ودخل بغداد وتردد إلي مكة وجاور ها في وسط المسجد في البرد والحر، مكث على ذلك سنوات متفرقة، وكان يصابر نفسه ويجاهدها، ولا جلس إلا تحت السماء في وسط المسجد الحرام، ولا يأكل إلا لعض قرص ويشرب قليلا من الماء معه وقت الفطور مدة سنة كاملة، وكان يجلس على صخرة في شدة الحر في جبل أبي قيس. وقد صحب جماعة من سادات المشايخ الصوفية، كالجنيد بن محمد، وعمرو بن عثمان المكي وأبي الحسين النوري. قال الخطب البغدادي: والصوفية مختلفون فيه فأكثرهم نفى أن يكون الحلاج منهم. وأبى أن يعده فيهم، وقبله من متقدميهم أبو العباس بن عطاء البغدادي حكي عن غير واحد من العلماء والأئمة إجماعهم على قتله وأنه قتل كافرا وكان كافرا ممزقا - كاذبا مختلفا - مموها مشعبذا، وهذا قال أكثر الصوفية فيه. . . . . وهو لا يقرأ القرآن، ولا يعرف الحديث ولا في الفقه شيما، ولا في اللغة، ولا في الأخبار ولا في الشعر أيضا. . . قطعت يداه ورجلاه وحز رأسه وأحرقت جثته، وألقي رمادها في دجلة. ونصب الرأس يومين ببغداد على الجسر في (124 ذي القعدة/ 309 هـ). انظر: شذرات الذهب (2/ 233 - 253 - 257) اللباب (1/ 403). وفيات الأعيان (2/ 140 - 147) الأنساب (2/ 292 - 294).

[قصيدة السائل] أعن العذول يطيق يكتم ما به ... والجفن يغرق في خليج سحابه جازت ركايبه الحمى فتعفقت ... أحشاؤه بشعابه وهضابه نفذ الزمان وما نفذن مسائلي ... في الحب والتنفير عن أربابه فركضت في ميدانه وكرعت من ... غدرانه وركعت في محرابه وسألت عن تحفيقه وبحثت عن ... تحقيقه وكشفت عن أسبابه فوجدت أخبار الغرام كواذبا ... في أكثر الفتيان من طلابه ولقل ما تلقى أميرء متصوفا ... ينحو طريق الحب من أبوابه فيميت من شهواته لحياته ... ويرد فضل ذهابه لإيابه يجد الخطيئة كالقذاة لعينة ... فرمى ها في الدمع عن تسكابه أخذ الطريقة بالحقيقة سالكا ... نهج النبي قد اقتدى بصوابه تمضي به اللحظات وهو محاسب ... للنفس قبل وقوفه لحسابه هذي الطريقة للمريد مبلغ ... مخ التصوف وهى لب لبابه وجماعة رقصوا على أوتارهم ... يتجاذبون الخمر عن أكوابه يتواجدون لكل أحوى أحور ... يتعللون من الهوى برضا به ألوحدة جعلوا المثاني مؤنسا ... واللحن عند الذكر من إعرابه أصحاب أحوال تعدوا طورهم ... فتنكروا في الحال عن أحزابه زجروا مطاياهم إليه وإنما ... نكص الغرام بهم على أعقابه دعواك معرفة الغيوب سفاهة ... والشرع قاض والنهى بكذابه فمن المحال ترى المهامه تنطوي ... لمشعبذ من دون وخد ركابه وخرافة بشر يرى متشكلا ... متمكنا من لبس غير إهابه رجحت نهاى فلا اصدق ما سوى ... رسل المليك وترجمان كتابه

فدع التصوف واثقا بحقيقة ... واحرص ولا يغررك لمع سرابه [2] للقوم تعبير به يصبي النهى ... طربا ويثني الصب عن أحبابه فيرون حق الغير غير محرم ... بل يزعمون بأنهم أولى به لبسوا المدارع واستراحوا جرأة ... عن أمير باريهم وعن إيجابه خرجوا عن الإسلام ثم تمسكوا ... بتصوف فتستروا بحجابه فأولئك القوم الذين جهادهم ... فرض فلا يعدوك نيل ثوابه وإذا أرابك ما أقول فسل به ... من عنده في الحكم فصل خطابه علامة المعقول والمنقول من ... حكمت له العليا على أترابه فذ الزمان وتوءم المجد الذي ... ساد الأكابر في أوان شبابه بدر الهدى النظار سله مقبلا ... كفية ملتمسا لرد جوابه فمحمد بن على بن محمد ... مني ومنك محقق أدرى به سله زكاة الاجتهاد فإنه ... ... إن صح فقرك محرز لنصابه انتهى [جواب الإمام الشوكاني] وأقول: سبحان الفاتح المانح الواهب هذا الشريف من فنون البلاغة، المتجر الرابح، وقد آن أن أشرع في الجواب عليه امتثالا لمرسومه، وقد نظمت هذه القصيدة على منوال قصيدته في الروي والتيافية وأما في البلاغة والجزالة والانسجام والإبداع. فالفرق مثل الصبح ظاهر وأن ما أنا فيه من الأشغال المتكاثفة بالدرس والتدريس والإفتاء والتأليف لمن أعظم الموانع العائقة لصاحبها عن اللحاق بالمجيدين في صناعة النظم والنثر لا سيما وهذه الأبيات التي أجبت ها بنت ساعة من فار فأقول مستعينا بالله متكلا عليه: هذا العقيق فقف على أبوابه ... متمايلا طربا لوصل عرابه يا طالما قد جبت كل تنوفة ... مغبرة ترجو لقا أربابه

وقطعت أنساع الرواحل معربا ... في كل حي جئته بطلابه [3] حتى غدت غدران دمعك فيضا ... بالسفح في ذا السفح من تسكابه والعمر وهو أجل ما خولته ... أنفقته في الدور في أدرابه وعصيت فيه قول كل مفند ... وسددت سمعا عن سماع خطابه بشراى بعد اليأس وهو خطيبه ... بتبدلي سهل الهوى بصعابه قد أنجح الله الذي أملته ... ... وكدحت فيه لنيل لب لبابه وهجرت فيه ملاعبي وليت ... فيه متاعي ومنيت من أوصابه وشربت كاسات الفراق وقد غدت ... ممزوجة بزعافه وبصابه وبذلت للهادي إليه- نفائسي ... ومنحته منى بحبك وطابه فحططت رحلي بين سكان الحمى ... وأنخته في مخصبات شعابه وشفيت نفسي بعد طول عنائها ... في قطع حزن فلاته وهضابه ووضعت عن عنقي عصا الترحال ... لا أخشى العذول ولا قبيح عتابه فأنا ولا فخر الخبير بأرضه ... وأنا العروف بشامخات عقابه وأنا العليم بكل ما في سوحه ... وأنا المترجم عن خفي جوابه يا ابن الرسول وعالم المعقول ... والمنقول أنت ممثل ذا أدرى به لا تسألن عن العقيق فإنها ... قد ذلك لك جامحات ركابه وكرعت في تلك المناهل برهة ... وشربت صفوا الورد من أربابه وقعدت في عرصاته متمايلا ... متبسما نشوان من إطرابه واسلم ودم أنت المعد لمعضل ... أعنا الورى يوما بكشف نقابه وخذ الجواب فما به خطل ولا ... عصبية قدحت بعين صوابه سكانه صنفان صنف قد غدا ... متجردا للحب بين صحابه [4] قد طلق الدنيا فليس بضارع ... يوما لنيل طعامه وشرابه يمشي على سنن الرسول مفوضا ... للأمير لا يلوي للمع سرابه

يرضى بميسور من الدنيا ولا ... يغتم عند نفارها عن بابه متقلل منها تقال مؤقن ... ... بدروس رونقها وقرب ذهابه متزهدا فيما يزول مزايلا ... إدراك ما يبقى عظيم ثوابه جعل الشعار له محبة ربه ... وثنى عنان الحب عن أحبابه أكرم هذا الصنف من سكانه ... أحبب هذا الجنس من أحزابه فهم الذين أصابوا الغرض الذي ... هو لا يرا في الدين لب لبابه ولكم مشى هذي الطريقة صاحب ... لمحمد فمشوا على أعقابه فيها الغفاري (¬1) قد أناخ مطية ... ومشى بها القرني (¬2) بسبق ركابه وبها فضيل (¬3) والجنيد (¬4) تجاذبا ... كأس الهوى وتعللا برضابه وكذاك بشر (¬5) وابن ادهم (¬6) أسرعا ... مشيا به والكينعي (¬7) مشى به أما الذين غدوا على أوتارهم ... يتجاذبون الخمر في أكوابه ولوحدة جعلوا المثاني مؤنسا ... واللحن عند الذكر من إعرابه ويرون حق الغير غير محرم ... بل يزعمون بأنهم أولى به فهم الذين تلاعبوا بين الورى ... بالدين وانتدبوا لقصد خرابه قد نهج الحلاج (¬8) طرق ضلالهم ... وكذاك محيي الدين (¬9) لا حيابه 803 م. ¬

(¬1) الغفاري: هو أبو ذر جندب بن جناده الصحابي المشهور توفي سنة 32 هـ. (¬2) والقرني: هو أوس بن عامر بن جزء بن مالك القرني، أحد النساك العباد، من سادات التابعين توفي سنة 37 هـ/ 657 م. (¬3) فضيل: هو الفضيل بن عياض التميمي اليربوعي من أكابر العباد الصلحاء توفي سنة 187 هـ. (¬4) والجنيد: هو الجنيد بن محمد البغدادي الخزاز، صوفي من العلماء بالدين توفي سنة 297 هـ. (¬5) بشر: هو بشر بن الحارث المروزي المعروف بالحافي من كبار الصالحين، توفي 227 هـ 841 م (¬6) وابن أدهم: هو إبراهيم بن أدهم التميمي البلخي، زاهد مشهور توفي سنة 161 هـ. (¬7) والكينعى: هو إبراهيم بن أحمد الكينعي، من نساك الزيدية باليمن توفي سنة 793 هـ/ 1391 م. (¬8) الحلاج: هو الحسين بن منصور المتصوف المشهور، توفي سنة 309 هـ (¬9) محمس الدين: هو ابن عربي محمد بن على الطائي الأندلسي. الفيلسوف المتكلم المشهور توفي سنة ت 638 هـ/ 1240م. وقد تقدمت ترجته.

وكذاك فأرضهم (¬1) بتائياته ... فرض الضلال عليهم ودعابه وكذا ابن سبعين (¬2) المهن فقد غدا ... متطورا في جهله ولعا به وكذلك الجيلي (¬3) أجال جواده ... في ذلك الميدان ثم سعى به رام النبوة لا لعا لعثوره ... روم الذباب مصيره كعقابه إنسانه إنسان عين الكفر لا ... يرتاب فيه سابح بعبابه والتلمساني (¬4) قال قد حلت له ... كل الفروج فخذ بذا وكفى به نهقوا بوحدتهم على رؤوس الملا ... ومن المقال آلوا بعين كذابه [5] إن صح ما نقل الأئمة عنهم ... فالكفر ضربة لازب لصحابه لا كفر في الدنيا على كل الورى ... إن كان هذا القول دون نصابه قد ألزمونا إن ندين بكفرهم ... والكفر شر الخلق من يرضى به فدع التعسف في التأول لا تكن ... كفتى يغطى جيفة بثيابه قد صرحوا أن الذي يبغونه ... هو ظاهر الأمير الذي قلنا به هذي فتوحات المشؤوم شواهد ... أن المراد له نصوص كتابه (¬5) [نقد لمن ينخدع هؤلاء المخذولين] ولما فرغت من نظم هذه الأبيات قلت: ربما وقفص عليها بعض من فت في عضد ¬

(¬1) فارضهم يريد ابن الفارض، عمر بن على مرشد المصري اشعر المتصوفين توفي سنة 632 هـ م. (¬2) وابن سبعين: هو عبد الحق بن إبراهيم الإشبلي المرسى، من زهاد الفلاسفة التيائلين بوحدة الوجود، توفي سنة 169 هـ. (¬3) الجبلي: ويقال: الجيلاني، وهو عبد القادر بن موسى. مؤسس الطريقة القادرية في التصوف توفي سنة 561 هـ. (¬4) التلمساني: هو عفيف الدين سليمان بن على بن عبد الله الكوفي التلسماني شاعر متصوف يتبع طريقة ابن عربي في أقواله وأفعاله توفي سنة 690 هـ. (¬5) انظر ديوان الشوكاني (ص 84 - 89).

إيمانه هيمنة هؤلاء المخذولين كما نراه في كثير من أهل عصرنا الذين نفقت عنده تلبيسات هؤلاء الشياطين، فقال شيطانه: ما بال هذا المحجوب يتكلم في أولياء الله تعالي ويتعاطى كؤوس شرابهم الصافي الذي لا يعرفه مثله كما قال قائلهم: من ذاق طعم شراب القوم يدريه ولولا مرارة فمه لما تغير عنده طعمه: ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرا به الماء الزلالا وإنما يعرف الصناعة أهلها ويتمتع بمحاسن الحسناء بعلها لا من عمي عن أسرار تلك الإشارات وقصر عن فهم تلك العبارات. فوا محنة الحسناء تقاد إلي امرئ ... ضرير وعنين عن الوجد خاليا فمالك والتلدد حول نجد أيها المسكين أما كان لك أسوة. ممن تأول تلك المقالات من العلماء الهادين وناضل عن مشكلات تلك الإشارات من الأئمة الراسخين. دع عنك تعنيفى وذق طعم الهوى ... فإذا عشقت فبعد ذلك عنف وكيف ترى ليلى بعين ترى بها ... سواها وما طهرتها بالمدامع ويلتذ منها بالحديث وقد جرى ... حديث سواها في خروق المسامع وأقول أيها المخدوع: ما أنت أول سار غره قمر ... ورائد أعجبته خضره الدمن (¬1) لعلك سمعت الناس يقولون شيئا فقلته، ولو كنت كما قيل: ¬

(¬1) يشير إلي الحديث الذي أخرجه القضاعى في مسند الشهاب (2/ 96 رقم 957) والرامهرمزي في الأمثال (ص: 120 رقم 84) من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا بلفظ: " إياكم وخضراء الدمن، قالوا ما خضراء الدمن؟ قال: " المرأة الحسناء في المنبت السوء. " وفي سنده الواقدي وهو ضعيف. وقال أحمد والنسائي وابن المديني: كذاب، وذكر الحديث ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (179 رقم 1909). وخلاصة القول أن الحديث ضعيف جدا.

وإنما رجل الدنيا وواحدها ... من لا يعول في الدنيا على رجل لما استربت في هذا الحديث [6] ولا نشبت بجسمك مخالب كل مخاتل خبيث، وقد آن أن نبين لك ما أنت عليه من الاغترار ونعرفك ببعض البعض من فيق هؤلاء الأشرار. فكن رجلا رجله في الثرى ... وهامة همته في الثريا وإياك أن تكون كما قال من حقت عليه كلمة الضلال: وما أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد (¬1) فاعلم أولا أن أصحابك الذين تجادل عنهم وتناضل، مصرحون في كتبهم تصريحا لا يرتاب فيه مقصر ولا كامل. أن من تمام إيمان العلماء، الحكم عليهم بالكفر والزندقة (¬2) والإفتاء بسفك دمائهم حتى قال قائلهم: قال بعض السادة القادة لا يبلغ إنسان درجة الحقيقة حتى يشهد عليه ألف صديق أنه زنديق. فهل تراه يليق. ممثلك أن يسترسل في عتاب من طلب تمام إيمانه، ورجا البلوغ إلي درجة الصديقين بتكفير من يجعل من تمام الإيمان التصريح بتكفيره فما أولاك وأحقك بشكر من حكم على أصحابك بالكفر والزندقة وأفتى بسفك دمائهم لأنه قد تم بذلك ¬

(¬1) وهو من شعر دريد بن الصمة الجشمي يرثي عبد الله أخاه قتله بنو عبس. وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد و" غزية " قبيلة من هوازن وهي رهط الشاعر وهو اسم أحد أجداده " غزية بن جشم ". انظر: ديوان دريد بن الصمة الجشمي (ص 47). (¬2) الزندقة تقدم التعريف بها. وقال الغزالي في الأصول: " الزنديق ضربان، زنديق مطلق، وهو الذي ينكر أصل المعاد حسا وعقلا، وينكر الصانع، وزنديق مفيد، وهو الذي يثبت المعاد بنوع عقل، مع نفى الآلام واللذات الحسية الجسمية، وإثبات الصانع مع نفط علمه فهذه زندقة مفيدة بنوع اعتراف بتصديق الأنبياء ". انظر: مصرع التصوف تأليف العلامة برهان الدين البقاعي (ص 35).

إيمانه وصار عند مشائخك من الصديقين وهذا أول غلط صدر منك في المحاماة عن أعراضهم، وهانحن قد نبهناك عليه فخذ به أودع. ثم اعلم ثانيًا: أن قولك: إنهم يريدون خلاف الطاهر في كلامهم كذب بحت وجهل مركب فإنهم مصرحون بأنهم لا يريدون إلا ما قضى به الظاهر. هذا الإمام السخاوي في " القول المبني " عن ترجمة ابن عربي قال: إنه صرح في الفتوحات إن كلامه على ظاهره، وقال أيضًا في الضوء اللامع (¬1) في ترجمة العلامة حسين بن عبد الرحمن الأهدل: قال: وقيل لي عنه: أنه قال:- يعني ابن عربي- إن كلامي على ظاهره وإن مرادي منه ظاهره فكيف تزعم أيها المغرور أنه لا يريد ما يدل عليه ظاهر كلامه وهذا نصه. وكلامه في فتوحاته (¬2) وفصوصه (¬3) كلام عربي لا عجمي، وكذلك ص م غيره من أهل نحلته. فكيف لا يفهم ظاهرة علماء الشريعة وهذا غلط ثان من أغاليطك ننبهك عليه. ¬

(¬1) (2/ 3 رقم 147). (¬2) (الفتوحات المكية): من أكبر مؤلفات ابن عربي وأخرها تأليفا. ألفها في فترة إقامته في مكة، ثم كتبها ثانية بدمشق، ذكر أنه زاد عليها زيادات لا توجد في النسخة الأولى. والكتاب مطوع في أربع مجلدات كبيرة. بمطبعة دار الكنب العربية المصرية. ويكاد يشتمل على كل ما أورده ابن عربي في مؤلفاته الأخرى. وقد قضى في وضعه وتمحيصه ثلاثين سنة أو يزيد. قال عنه ابن كثير في البداية والنهاية (13/ 149): إن فيه ما يعقل ومالا يعقل، وما ينكر ومالا ينكر وما يعرف ومالا يعرف. انظر: كشف الظنون (2/ 1238). (¬3) (فصوص الحكم): من مؤلفات ابن عربي، زعم أنه ألقاه إليه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنما الذي التياه إليه الشيطان لأن فيه من الكفر والإلحاد ما قد بينه ابن تيمية- رحمه الله- في حقيقة الاتحاديين. قال أبو العلاء عفيفي في مقدمة (الفصوص): له طريقة في تأويل الآيات فيها تعسف وشطط، ويعمد إلي تعقيد البسيط وإخفاء الظاهر لأغراض في نفسه. يقول (نيكولسون) في وصف أسلوب ابن عربي في النصوص: إنه يأخذ نصا من القرآن أو الحديث ويؤوله بالطريقة التي نعرفها في كتابات (فيلون اليهودي، وأريجن الإسكندري). وقد طبع الكتاب سنة 365 هـ دار إحياء الكتب العربية في مجلد واحد. الجزء الأول فيه نص كتاب الفصوص، والجزء الثاني تعليقات عليه لأبي العلا عفيفي. حاشية الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية (ص 192) تحقيق- د. عبد الرحمن ابن عبد الكريم اليحي. . ومما حرف فيه الكلم عن مواضعه وتلاعب فيه. بمعاني الآيات واتى بكفر لا يشبه كفر اليهود الذين قالوا عزير ابن الله ولا النصارى الذين قالوا المسيح ابن الله، وقالوا هو الله وقالوا ثالث ثلاثة فإن النصارى وإشباههم خصوا الحلول والاتحاد بشخص معين، وهؤلاء جعلوا الوجود بأسره على اختلاف أنواعه وتقابل أضداده مما لا يسوغ التلفظ بحكايته هو المعبود فلم يكفر أحد من الناس وكان هذا المذهب الذي انتحله ابن عربي. . وفي هذا الوقت العصيب تظهر طائفة من كتب ابن عربي، وهي مطبوعة على ورق أبيض صقيل وتوزع مجانا، مما يدل أن وراءها جماعات تحاول هدم الإسلام. لما فيها من أوهام وخرافات وشركيات. وهذه بعض أسمائها: - الفقه عند محمس الدين (ابن عربي). - الإنسان الكامل. - القطب والغوث الفرد. كلام محيى الدين (ابن عربي). - شرح كلمات الصوفية. والرد على ابن تيمية. من كلام محيط الدين (ابن عربي). - شرح فصوص الحكم. من كلام محيط الدين (ابن عربي). - الطريق إلي الله، الشيخ والمريد، من كلام محيط الدين (ابن عربي). - شرح رسالة روح القدس في محاسبة النفس من كلام محيى الدين (ابن عربي). - الخيال عالم البرزخ والمثال: ويليه: الرؤيا والمبشرات من كلام (ابن عربي). - محيى الدين (ابن عربي) ترجمة حياته من كلامه. واعلم أن هذه الكتب وأمثالها يجب حرقها وتحرم قراءتها ومطالعتها واقتناؤها. ومن أمثال تلك الكتب ما يلي:- 1/ كتاب بوارق الحقائق، تأليف الرواس. 2/ كتاب بارق الحمى وكشف الغين عن العين. 3/ كتاب سماع وشراب عند أشراف الأقطاب يمدح فيه الرواس شيخه الرفاعي. 4/ كتاب المجموعة النادرة. يكر فيها الرواس مؤلفات شيخه الرفاعي. 5/ قصيدة البردة للبوصيري. 6/ دلائل الخبرات فيها من الصلوات المخترعة والمنسوبة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذبا. انظر: "كتب ليست من الإسلام "محجمود مهدي الاستانبولي (7 - 11، 27 - 46)، (47 - 60)."

فإن قلت: نسلك به طريق التأويل [7] وإن وقع التصريح بأن المراد به الظاهر فلا تخص التأويل بكلام أصحابك واطرده في كلام اليهود والنصارى وسائر المشركين كما وفعله ابن عربي وأتباعه على ما سنبينه لك وقد أجمع المسلمون أنه لا يؤول إلا كلام المعصوم مقيدا بعدم المانع منه. والتصريح بأن المراد بالكلام ظاهره يمنع تأويل كلام المعصوم، فكيف يؤول كلام ابن عربي بعد تصريحه بذلك فانظر يا مسكين ما صنع بك الجهل وإلى أي محل بلغ بك حب هؤلاء، والله جل جلاله قد حكم على النصارى بالكفر بقولهم: هو (¬1) ثالث ثلاثة فكيف لا نحكم على هؤلاء. مما يقتضيه قولهم. ثم اسمع بعد هذا ما نمليه عليك من كرامات هؤلاء الأولياء الذين تلاعبوا بدين الله أما الحلاج (¬2) فهو الفاتح لباب الوحدة الذي شغل ها ابن عربي وأهل نحلته عمره ومقدم القافلة في هذه المقالة الكفرية ولكنه وجد بعصر في أهله بقية خير وحمية على الدين فقطعوا أوصاله الخبيثة بصوارم الإسلام، ومزقوا من استهواهم بشعابذه كل ممزق فجزاهم ¬

(¬1) يشير إلى قوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم} [المائدة: 73]. (¬2) تقدمت ترجمته (ص 990).

الله خيرًا. ومن كلامه في الوحدة الذي ما خدع إبليس أحدا من الكفرة. ممثلها فيما نقله عنه الصوفي الكبير عبد الله (¬1) بن أسعد اليافعي في كتابه " مرآة الجنان (¬2) وعبر اليقظان " الذي قال في أخره أنه لا يجيز روايته لقارئه إلا بشرط اعتقاده في الصوفة ما لفظه: أنا الحق وما في الجبة إلا الله. وهذه الألفاظ قد رواها عنه الناس ولكنا اقتصرنا على التصريح برواية هذا الصوفي لتكون أقطع وأنفع لمن رسخت في قلبه محبته ... وقال شيخ الصوفية ورئيسهم بإجماعهم عبد القادر الجيلاني (¬3) فيما رواه عنه اليافعي المذكور من كلامه في ¬

(¬1) وهو عفيف الدين أبو السعادات. عبد الله بن أسعد بن علي بن سليمان بن فلاح اليافعي الشافعي اليمني ثم المكي. ولد سنة 698 هـ ونشأ في عدن حج سنة 712 هـ وحفظ الحاوي والجمل ثم جاور. بمكة في سنة 718 هـ وتزوج ها ولازم مشايخ العلم كالفقيه نجم الدين الطبري والرضي، قال ابن رافع اشتهر ذكره وبعد صيته وصنف في التصوف وكان يتعصب للأشعري وله كلام في ذم ابن تيمية. انظر: البدر الطالع (1/ 378 رقم 255) والدر الكامنة (2/ 247 - 249 رقم 2120) وشذرات الذهب (6/ 210 - 212). (¬2) وهو في أربع مجلدات وقد اعتمد فيه على تاريخ ابن خلكان وتاريخ الذهبي وقد ترجم فيه جماعة الشايخة والأشعرية وفيه من التعصبات للأشعري أشياء منكرة ووصف فيه نفسه بوصائف ضخمة. انظر البدر الطالع (1/ 378). (¬3) هو عبد القادر بن أبي صالح عبد الله بن جنكي درست بن أبي عبد الله، عبد الله بن يحط بن محمد ابن داود بن موسى بن عبد الله بن موسى الحوزي بن عبد الله المحصن ابن الحسن المثنى بن الحسن بن على بن أبي طالب الجيلاني. نسبة إلى " جيل " وهى بلاد متفرقة من وراء طبرستان وها ولد، ويقال لها أيضًا جيلان وكيلان. ولد سنة (470) هـ ودخل بغداد فسمع الحديث وتفقه وتوفي سنة 561 هـ وهو صوفي تنسب إليه الطريقة القادرية. انظر معجم المؤلفين (5/ 307 - 308) وشذرات الذهب (4/ 198 - 202).

الحلاج (¬1) ما لفظه: طلب ما هو أعز من وجود النار في قعر البحار، تلفت بعين عقله فما شاهد سوى الآثار، فكر فلم يجد في الدارين سوى محبوبة، فطرب، فقال بلسان سكر قلبه: أنا الحق [8] ترنم بلحن غير معهود من البشر، صفر في روضة الوجود صفيرا لا يليق ببني ادم، لحن بصوته لحنا عرضه لحتفه ... انتهى. ومن كلامه فيه بتلك الرواية ظهر عليه عقاب الملك من مكمن إن الله لغني عن العالمين انتهى. وعلى الجملة فحال هذا المخذول أوضح من الشمس والاستكثار من هذيانه تضييع للوقت وشغلة للخير، ولو لم يكن من قبائحه إلا ما رواه عنه شيخ الصوفية أبو القاسم القشيري (¬2) في رسالته: أن عمر بن عثمان دخل عليه وهو بمكة وهو يكتب شيئا في أوراق فقال له: ما هذا؟ فقال: هو ذا أعارض القرآن. قال: فدعا عليه فلم يفلح بعدها. لكان كافيا في معرفة حاله والذي يغلب به ظني أن الرجل بعد انسلاخه عن الدين اشتغل بطلب العلو لدنيوي كما يومي إليه قوله: فلي نفس ستتلف أو سترقى ... لعمر الله في أمر جسيم وقد أصدق الله تفرسه فأتلف نفسه بسيوف دينه وأرقاه إلى الخشبة التي صلب عليها فجمع له بين شقي الترديد الواقع في كلامه ومن شعره المشعر. مما ذكرت لك وهو مصلوب على الخشبة قوله: ¬

(¬1) تقدمت ترحمه. (¬2) هو عبد الكريم بن هوازن بن عبد الله القشيري أبو القاسم، ولد سنة 376 هـ وتوفي أبوه وهو صغير فنشأ وقرأ الأدب والعربية وكان يهوى مخالطة أهل الدنيا، فحضر عند أبي علي الدقاق فجذبه عن ذلك فسمع الفقه من أبي بكر محمد ابن بكر الطوسي ثم اختلف إلى أبي بكر بن فورك فأخذ عنه الكلام وصار رأسا في الأشاعرة وصنف التفسير الكبير وخرج إلى الحج في رفقة فيها أبو المعالي الجويني وأبو بكر البيهقي فسمع معهما الحديث ببغداد والحجاز ثم أملى الحديث وكان يغلط. توفي سنة 465 هـ. انظر: المنتظم (8/ 0 28 رقم 328) شذرات الذهب (3/ 319 - 322).

طلبت المستقر بكل أرض ... فلم أر لي بأرض مستقرا أطعت مطامعي فاستعبدتني ... ولو أني قنعت لكنت حرا وقد ترجم له الحافظ الذهبي (¬1) فقال: الحسن بن منصور الحلاج المقتول على الزندقة وما روى ولله الحمد شيئا من العلم وكان له بداية وتأله وتصوف ثم انسلخ من الدين وتعلم السحر وأراهم المخاريق وأباح العلماء دمه. انتهى. ومن كرامات هذا الولي ما رواه ابن. كثير في تاريخه (¬2) بلفظ: روى بعضهم. قال: كنت أسمع أن الحلاج له أحوال وكرامات فأحببت أن أختبر ذلك فجئته فسلمت عليه فقال لي: تشه علي الساعة شيئا فقلت: أشتهى سمكا طريا فدخل منزله فغاب ساعة ثم خرج علي [9] ومعه سمكة تضطرب ورجلاه عليها الطين. فقال: دعوت الله فأمرني أن آتي البطائح لآتيك هذه السمكة فخضت الأهواز وهذا الطين فيها، فقلت: إن شئت أدخلتني منزلك ليقوى يقيني بذلك فإن ظهرت على شيء وإلا آمنت بك. فقال: أدخل فدخلت، فغلق على الباب وجلس يراني، فدرت البيت فلم أجد فيه منفذا إلى غيره فتحيرت في أمره، ثم نظرت فإذا أنا بزير فكشفته فإذا فيه منفذ فدخلته فأفضى بي إلى بستان هائل فيه من سائر الثمار الجديدة والعتيقة، وإذا أشياء كثيرة معدودة للأكل، وإذا هناك بركة كبيرة فيها سمك كثير صغار وكبار. فدخلتها فأخرجت منها واحدة فنال رجل من الطين مثل الذي نال رجليه فجئت إلى الباب فقلت: افتح فقد آمنت بك فلما رآني على مثل حاله أسرع خلفي جريا يريد أن يقتلني فضربته بالسمك في وجهه، وقلت: يا عدو الله أتعبتني في هذا اليوم، ولما خلصت منه لقيني بعد أيام فضاحكني وقال: لا تفش ما رأيت لأحد، أبعث إليك من يقتلك على فراشك، قال: فعرفت أنه يفعل إن أفشيت عليه فلم أحدث به أحدا حتى صلب ... ا هـ. ¬

(¬1) في ميزان الاعتدال (1/ 548 رقم 2059). (¬2) في البداية والنهاية (11/ 146 - 147).

وأما ابن الفارض (¬1) وابن عربي (¬2) وابن سبعين (¬3) والتلمساني (¬4) وأتباعهم فاعلم أنها قد جمعتهم خصلة كفرية هي القول بوحدة الوجود مع ما تفرق فيهم من خصال الخذلان والبلايا البالغة إلى حد ليس فوقه أشنع منه كتحليل ابن عربي لجميع الفروج، كما صرح بذلك الإمام ابن عبد السلام عند قدومه إلى القاهرة لما سألوه عن ابن عربي، فقال هو شيخ سوء يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجا ... انتهى. وكما رواه الإمام ابن تيمية (¬5) عن ابن التلمساني أنه قال وقد قرئ عليه الفصوص وقيل له: هذا كله يخالف القرآن، فقال: القرآن كله شرك وإنما التوحيد قولنا. وقيل ¬

(¬1) هو عمر بن علي المعروف بابن الفارض، حدث عن القاسم بن عساكر ينعق بالاتحاد الصريح قي شعره، وهذه بلية عظيمة فتدبر نظمه ولا تستعجل. ولد سنة 576 هـ، وتوقي سنة 632 هـ. له ديوان شعر، وأشهر قصائده (التائية) والتي تدور حول نظرية وحدة الوجود الإلحادية التي كان يعتنقها هذا الشاعر. انظر: الميزان (3/ 214 رقم 6173) ومعجم المؤلفين (7/ 301 - 302). (¬2) تقدمت ترجمته. (¬3) هو عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن سبعين بن نصر بن فتح بن سبعين العتكي الغافقي المرسي المربوطي، أبو محمد نزيل بجاية ثم مكة. ولد سنة 624 هـ واشتهر بالزهد والسلوك، وكانت له بلاغة وبراعة وتفنن في العلوم وكثر أتباعه وله مقالة في تصوف الاتحادية ... وحكى ابن تيمية أن ابن سبعين كان يقول إن تصوف ابن عريي فلسفة حجة. قال: فإن كان كما قال: فتصوفه هو فلسفة عفنة. مات سنة 669 هـ. انظر: شذرات الذهب (5/ 329 - 330) لسان الميزان (3/ 392). (¬4) هو شعيب بن الحسين الأندلسي الزاهد أبو مدين: شيخ أهل المغرب، توفي سنة 590 هـ على الأرجح بتلمسان. جال وساح، واستوطن بجاية مدة، ثم تلمسان: وقال عنه محمس الدين ابن عربي كان سلطان الوارثين. معجم المؤلفين (4/ 352) وشذرات الذهب (4/ 303). (¬5) في منهاج السنة (8/ 25).

له: فما الفرق بين أختي وزوجتي فقال: لا فرف عندنا، قالوا: حرام فقلنا: حرام عليكم. وقال ابن تيمية أيضًا في كتابه منهاج (¬1) السنة: إن ابن سبعين [10] جاء من المغرب إلى مكة وكان يطلب أن يصير نبيا، وكان يقول لقد زرت ابن آمنة الذي يقول لا نني بعدي وكان بارعا في الفلسفة وفي تصوف الفلسفة. فإن قلت: ما هذه الوحدة التي جعلتها من أعظم خصال الكفر؟ قلت: هي قولهم: أن الله سبحانه حقيقة كل موجود من جسم وعرض ومخيل وموهوم تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ولهذا فرعوا على هذه المقالة الملعونة فروعا كفرية منها تصويب عبدة الأوثان، ومنها تخطئة الأنبياء في الإنكار عليهم، ومنها عدم صحة لا إله إلا الله كما صرح بذلك ابن عربي، قال: لأن الاستثناء يستلزم التعدد ولا تعدد قال ابن تيمية (¬2): ولهذا كان يقول ابن سبعين وأصحابه في ذكرهم: ليس إلا الله وكان يسميهم الشيخ قطب الدين ابن القسطلاني (¬3) الليسية ويحذر منهم، وإلى هذا الأصل ترجع كلماتهم المستبشعة ودعاويهم المتنوعة، كقول قائلهم: خضت بحرا وقف الأنبياء بساحله، أسرجت وألجمت وطفت في أقطار البسيطة، ثم ناديت هل من مبارز فلم يخرج إلي أحد، لو تحركت نملة سوداء فوق صخرة صماء في ليلة ظلماء في أقصى الصين ولم أسمعها لقلت أني مخدوع واستدرك عليه الآخر فقال: وكيف أقول لم أسمعها وأنا محركها. وقال قائلهم: ما الجنة هل هي إلا لعبة صبيان، لأستئذن غدًا إلى النار وأقول: ¬

(¬1) (8/ 25 - 27). (¬2) في بغية المرتاد (ص 141) (¬3) هو محمد بن أحمد بن علي المعروف بقطب الدين بن القسطلاني، محدث صوفي فقيه، صنف في الرد على الفرقة السبعينية. ولد سنة (614 هـ) ومات سنة 686 هـ. انظر: الشذرات (5/ 397) معجم المؤلفين (8/ 299).

أجعلني فدى أهلها أو لأبلعنها. هب لي هؤلاء اليهود ما هم حتى تعذبهم، سبحاني ما أعظم شأني. أنا الحق. ونحو هذه العبارات التي نستغفر الله من رحمها، ولولا أن حكاية الكفر لا تكون كفرا لما حل حكاية فيق هؤلاء المخذولين والاشتغال بإبطال هذه المقالة التي اخترعتها الاتحادية (¬1) بالأدلة العقلية والنقلية لا يحتاج إليه من عرف سورة من كتاب الله. لان القرآن كفه مصرح بخلافها. هذه فاتحة الكتاب قد اشتملت على أكثر من عشرة أدلة مبطلة لهذه المقالة؟ لأن الله جل جلاله قد أثبت فيها حامدا ومحمودا وربا ومربوبا وراحما ومرحوما [11] ومالكا ومملوكا وعابدا ومعبودا ومستعينا ومستعانا به وهاديا ومهديا ومنعما ومنعما عليه وغاضبا ومغضوبا عليه وغير ذلك. وقد تنزهت الملل الكفرية عن مثل هذه المقالة يهودهم ونصاراهم ومشركوهم، أما اليهود فهو معلوم من دينهم بالضرورة {قالوا يا موسى ادع لنا ربك} (¬2) {قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين} (¬3)، وكذلك النصارى {قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء} (¬4)، والمشركون {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} (¬5) ¬

(¬1) وحدة الوجود عقيدة إلحادية تأتي بعد التشبع بفكرة الحلول في بعض الموجودات ومفادها أنه لا شيء إلا الله وكل ما في الوجود يمثل الله عز وجل، لا انفصال بين الخالق والمخلوق، وأن وجود الكائنات هو عين وجود الله تعالى ليس وجودها غيره ولا شيء سواه البتة وهي فكرة هندي بودية مجوسية. انظر: " فرق معاصرة " غالب عواجي (2/ 682 - وما بعدها). وانظر: بغية المرثاد " لابن تيمية " (ص 396 - 398). (¬2) [الأعراف: 134]. (¬3) [الأعراف: 149]. (¬4) [المائدة: 112]. (¬5) [لقمان: 25]

فاليهود قد أثبتوا راحما ومرحوما وعابدا ومعبودا والنصارى أثبتوا منزلا ومنزلا عليه، والمشركون أثبتوا خالقا ومخلوقا، والقرآن مشحون. ممثل هذا في الحكايات عن الملل المختلفة بل هذه الجن قالت: {وأنه تعلى جد ربنا ما اتخذ صحبة ولا ولدا} (¬1). وهذه الملائكة تقول: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} (¬2)، فأثبتوا جاعلا ومجعولا ومفسدا ومفسدا فيه مسبحا ومسبحا ومقدسا ومقدسا. فإن قلت:. مما صح لديك صدور هذه المقالة عنهم حتى ترتب عليها ما ذكرت؟ قلت: قد أسفر الصبح لذي عينين هذا أمر لا يشمك فيه من له أدنى إلمام بكتب القوم. هذه الفتوحات والفصوص لابن عربي (¬3) قد اشتهرا في الأقطار اشتهار النهار وهما عند من نظر بعين الإنصاف مشحونان هذه المقالة وتشييدها وتوضيحها والاستدلال لها حتى كأنهما لم يؤلفا لغرض من الأغراض سوى هذا الغرض. وهذا الإنسان الكامل لعبد الكريم الجيلى (¬4) إتحاد محض. وهذه تائية ابن الفارض (¬5) وخمرياته. وهذه كتب سائر أهل هذه المقالة. وهبك تقول: هذا الصبح ليل ... أيعمى المبصرون عن الضياء فإن قلت: ابن لي هذه الدعوى وبرهن عليها برهان أجلى من هذا فإن الإحالة على مؤلفاتهم لا تغنيني .. قلت [12]: اسمع ما نمليه عليك من هذه الخرافات الكفرية ¬

(¬1) [الجن: 3] (¬2) [البقرة: 30] (¬3) تقدمت ترجمته (¬4) تقدمت ترجمته (¬5) تقدمت ترجمته

ونستغفر الله .. قال ابن عربي لا رحمه الله في خطبة فتوحاته المكية ما لفظه: إن خاطب عبده فهو المسمع السميع وإن فعل ما أمر بفعله فهو المطاع المطيع، ولما حيرتني هذه الحقيقة أنشدت على علم الطريقة للخليقة: الرب حق والعبد حق ... يا ليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك نفي ... أو قلت رب أنى يكلف فهو سبحانه يطيع نفسه إذا شاء بخلقه وينصب نفسه. مما تعين عليه من واجب حقه فليس إلا الأشباح خالية على عروشها خاوية وفي ترجيع الصدى سر ما أشرنا إليه لمن اهتدى. ومن ذلك في أوائل الفتوحات أيضًا في القصيدة الطويلة. قالوا لقد ألحقتنا بإلهنا ... في الذات والأوصاف والأسماء فبأي معنى تعرف الحق الذي ... سواك خلقا في دجى الأحشاء قلنا صدقت وهل عرفت محققا ... من موجد الكون الأعم سوائي فإذا مدحت فإنما اثني على ... نفسي فنفسي عين ذات ثنائي وقوله في الباب العاشر منه: انظر الحق في الوجود تراه ... عينه فالبغيض فيه الحبيب ليس عيني سواه إن كنت تدري ... فهو عين البعيد وهو القريب إن رأني به فمنه أراه ... أود عاني إليه فهو المجيب وقوله في الباب التاسع عشر ومائه قي ترك التوكل: كيف التوكل والأعيان ليس سوى ... عين الموكل لا عين ولا أثر وقوله في الباب التاسع والعشرين ومائه في ترك المراقبة: لا تراقب فليس في الكون إلا ... واحد لعين فهو عين الوجود ويسمى في حالة بإلاه ... ويكنى في حالة بالعبيد وفي الحادي والثلاثين ومائه في ترك العبودية:

نحن المظاهر والمعبود ظاهرنا ... ومظهر الكون عين الحق فاعتبروا ولست أعبده إلا بصورته ... فهو الإله الذي في طيه البشر وقال: فكان عين وجودي عين صورته ... وحي صحيح فلا يدريه إلا هو وقوله وقد زعم أن الحق تعالى خاطبه هذا المعنى: سبكتك في داري لإظهار صورتي ... فسبحانكم مجلي وسبحان سبحانا فما نظرت عيناك مثلي كاملا ... ولا نظرت عيناي مثلك إنسانا فلم يبق في الإمكان أكمل منكم ... نصبت على هذا من الشرع برهانا فأي كمال كان لم يك غيركم ... على كل وجه كان ذلك ما كانا ظهرت إلى خلقي بصورة آدم ... وقررت هذا في الشرائع إيمانا فلو كان في الإمكان أكمل منكم ... لكان وجود النقص في إذا كانا لأنك مخصوص بصورة حضرتي ... وأكمل منا ما يكون فقد بانا [13] فهذه نبذة من نظم المخذول فإن كانت لا تغنيك ولا أغناك الله فاسمع ما هو أوضح من ذلك من نثره. قال في الباب السادس والثلاثين من الفتوحات: ولهذا لما سأل الله عيسى، فقال له: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك} (¬1) قدم التنزيه في هذا التشبيه {ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} (¬2) يعني كيف أنسب المغايرة بيني وبينك فأقول لهم اعبدوني من دون الله وأنت عين حقيقتي وذاتي، وأند عين حقيقتك وذاتك فلا مغايرة بيني وبينك. ثم قال {إن كنت قلته} (¬3) يعني من نسبة الحقيقة العيسوية أنها الله {فقد علمته} (¬4) أني لم أقله إلا على الجمع بين التنزيه والتشبيه وظهور الواحد في الكثرة لكنهم ضلوا. بمفهومهم ولم يكن مفهومهم ¬

(¬1) [المائدة: 116] (¬2) [المائدة: 116] (¬3) [المائدة: 116] (¬4) [المائدة: 116]

مرادي {تعلم ما في نفسي} (¬1) يعني هل كان ما اعتقده مرادي فيما بلغت ذلك إليهم من ظهور الحقيقة الإلهية أم كان مرادي بخلاف ذلك {ولا أعلم ما في نفسك} (¬2) يعني بلغت ذلك إليهم ولا أعلم ما في نفسك من أن تضلهم عن الهدى فلو كنت أعلم ذلك لما بلغت إليهم شيا مما يضلهم {إنك أنت علام الغيوب} (¬3) وأنا لا أعلم الغيوب فاعذرني {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به} (¬4) مما وجدت نفسي فبلغت الأمر ونصحتهم ليجدوا إليك في أنفسهم سبيلا فما ظهرت لهم الحقيقة الإلهية في ذلك ليظهر لهم ما في أنفسهم وما كان قولي لهم إلا {أن اعبدوا الله ربي وربكم} (¬5) ولم أخصص نفسي بالحقيقة الإلهية بل أطلقت ذلك في جميعهم فأعلمتهم بأنه كما أنك ربي يعني حقيقتي، إنك ربهم يعني حقيقتهم. وكان العلم الذي جاء به عيسى زيادة على ما في التوراة هو سر الربوبية والقدرة فأظهره ولهذا كفر قومه لأن إفشاء سر الربوبية كفر. انتهى انظر عدو الله كيف لم يقنع بتصريحه بالوحدة حتى تلعب بكلام الله هذا التلعب ثم لم يكفيه ذلك حتى جزم بأن إفشاء سر الربوبية كفر وعيسى عليه السلام [14] قد أفشى سر الربوبية بزعمه فيكون- وصانه الله- كافرا عنده، لأنه ينتظم من شكل هكذا: عيسى مفش لسر الربوبية وكل مفش لسر الربوبية كافر فعيسى كافر. إنا لله وإنا إليه راجعون .. أيها الناس أسدت أسماعكم أم عميت قلوبكم عن فهم مثل هذا الكلام الذي لا يلتبس على أدنى متمسك بنصيب من العقل والفهم حتى جعلتم هذا المخذول من أولياء الله؟ واعلم أنا لم نسمع بأحد قبل ابن عربي بلغ في إفشاء هذا السر الذي جعل إفشاءه كفرا فبلغه حتى ألف في ذلك الكتب المطولة كالفتوحات والفصوص وسننصفه ونحكم عليه بقوله فنقول: ابن عربي مفش لهذا السر وكل مفش لهذا السر كافر فابن عربي كافر. ¬

(¬1) [المائدة: 116] (¬2) [المائدة: 116] (¬3) [المائدة: 116] (¬4) [المائدة: 117] (¬5) [المائدة: 117]

أما الأولى فإن أنكرتها فهذه كتبه في أيدي الناس تكذبك، وأما الثانية فهذا نصه قد أطلعناك عليه. وفي الباب الثاني والثلاثين من الفتوحات بعد كلام طويل قال في أخره: {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به} (¬1) على سبيل الاعتذار لقومه يعني أنص المرسل إليهم بذلك الكلام أوله باسم الأب والأم والابن فلما بلغهم كلامك حملوه على ما ظهر لهم من كلامك فلا تلمهم على ذلك؛ لأنهم فيه على ما علموا من كلامك فكان شركهم عين التوحيد لأنهم فعلوا ما عملوا بالإخبار الإلهي في أنفسهم فهم كمثل المجتهد الذي اجتهد وأخطأ فله أجر الاجتهاد ... انتهى. انظر إلى تصويبه (¬2) للنصارى في التثليث وإثباته الأجر لهم أين هو من قول ربك جل وعلا: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} (¬3) واختر لسك ما شئت. قال في الباب الثالث والأربعين من الفتوحات في ذكر أهل النار: وقد حقت الكلمة أنهم عمار تلك الدار فنجعل الحكم للرحمة التي وسعت كل شيء فأعطاهم في جهنم نعيم المقرور والمحرور لأن نعيم المقرور بوجود النار ونعيم المحرور بوجود الزمهرير فتبقى جهنم على صورتها ذات حرور وزمهرير ويبقى أهلها متنعمين فيها بحرورها وزمهريرها إلى آخر كلامه. وقال في الباب الرابع والخمسين ومائه: إنهم يتضررون برائحة الجنة ونظم هذا المعنى في الفصوص (¬4) فقال: ¬

(¬1) [المائدة: 117] (¬2) انظر: بغية المرثاد (ص 396) وما بعدها. ودرء تعارض العقل والنقل (6/ 156 - 157). (¬3) [المائدة: 73] (¬4) (ص 93 - 94). الجنة عند الصوفي: هي عرفان المرء بنفسه، ليدرك هذه المعرفة أنه هو الله وهذا ما يفسرون به الحديث الموضوع: " من عرف نفسه فقد عرف ربه ". والجحيم عندهم: هو ما يغيم على النفس من أوهام الكثرة، فتخدعها عن الحقيقة فتظن المغايرة بين الخلق والحق، وهذا الظن هو الجحيم". انظر: مصرع التصوف/ برهان الدين البقاعي (ص 75).

فإن دخلوا دار الشقاء فإنهم ... على لذة فيها نعيم مباين نعيم جنان الخلد فالأمر واحد ... وبينهما عند التجلي تباين يسمى عذابا من عذوبة طعمه ... وذاك له كالقشر والقشر صائن فأبشروا يا أهل النار بالنعيم الذي بضركم به هذا الولي ولا تراعوا من تخويفات الله ورسوله ها فإن الأمر بالعكس على لسان ابن عربي سيدكم وقائدكم اللهم أسكنه هذه الدار لينال ما وصفه من نعيمها فإنه حقيق به. وقال في الباب العشرين ومائتين عند ذكره لحديث: كنت سمعه (¬1) وبصره عرف الحق أن نفسه عين صفاتهم لا صفته فأنت من حيث ذاتك عينك الثابتة التي اتخذها الله مظهرا أظهر نفسه فيها فإنه ما يراه منك إلا بصرك وهو في بصرك فما رآه إلا نفسه قال وكذا جميع صفاته يعني العبد .. انتهى. ومن كلامه الذي نقله عنه المقبلي في العلم الشامخ (¬2) حين ذكر عباد العجل ما لفظه: إن هارون جهل حقيقة الأمر وفعل به موسى ما فعل لذلك قال: لأن العارف المكمل يرى كل معبود مجلي للحق. قال وأعظم مجلي عبد فيه وأعلاه الهوى كما قال {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم} (¬3) فهو أعظم معبود فإنه لا يعبد شيء إلا به ولا يعبد إلا بذاته فما عبد الله ولا غيره من أنواع المعبودات إلا هوى والذي عنده أدنى تنبه بحار لاتحاد الهوى بل لحدية الهوى فإنه عين واحد في كل عابد فأضفه الله على علم به الحديث الموضوع: " من عرف نفسه فقد عرف ربه ". والجحيم عندهم: هو ما يغيم على النفس من أوهام الكثرة، فتخدعها عن الحقيقة فتظن المغايرة بين الخلق والحق، وهذا الظن هو الجحيم". انظر: مصرع التصوف/ برهان الدين البقاعي (ص 75). ¬

(¬1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (6502) من حديث أبي هريرة. (¬2) (ص 549 - 550). (¬3) [الجاثية: 23].

أي خيره الله على علم بأن كل عابد ما عبد إلا هواه ولا استعبده إلا هواه سواء صادف الأمر الشرعي أو لم يصادفه وكلهم مجلي للحق وكلهم إله مع احمه الخاص بحجر أو إنسان أو كوكب أو ملك أو فلك ثم مثل عبادة الهوى فيما صادف حكم الشرع بالنكاح بأربع والاستمتاع بالجواري لتعلق الهوى ها فيكون من أمثلة ما لم يصادف الشرع الاستمتاع بغير من ذكر مع قوله أنها أعظم العبادة ولا بأس بالتستر بحكم الوقت ... انتهى. وأنت لا يخفى عليك مثل هذا النهيق الشيطاني الذي تتضوع منه روائح الزندقة. ومن كلام المخذول (¬1) في الكلمة المحمديه أن الأمر بالغسل لأن الحق غيور على عبده أن يعتقد أنه يلتذ بغيره قال فلهذا أحب (¬2) صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ النساء لكمال شهود الحق فيهن إذ لا يشاهد الحق مجردا عن المواد قال: فشهود الحق في النساء أعظم شهود وأكمله وأعظم الوصلة النكاح قال: فمن جاء لامرأته أو لأنثى. بمجرد الالتذاذ ولكن لا يدري. ممن كما قال: صح عند الناس أني عاشق ... غير أن لم يعلموا عشقي لمن كذلك هذا أحب الالتذاذ فأحب المحل الذي يكون فيه وهو المرأة [16] ولكن غاب عنه روح المسألة فلو علمها لعلم. بمن التذ ومن التذ وكان كاملا. قال ومن شاهد الحق في المرأة كان شهودا في منفعل وهو أعظم الشهود ويكون حبا إلهيا ... انتهى (¬3). ¬

(¬1) أي ابن عربي في فصوص الحكم (ص 218). وانظر مصرع التصوف (ص 145 - 146). (¬2) يشير المؤلف رحمه الله إلى الحديث الحسن الذي أخرجه أحمد (3/ 128، 199، 285) والنسائي (7/ 61 - 62) والحاكم (2/ 160) وصححه ووافقه الذهبي وهو متعقب. عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حبب إلي من الدنيا النساء، والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة" وهو حديث حسن. (¬3) كلامه من فصوص الحكم 281.

هذا نفس خبيث لا تلتلبس إلا على بهيمه فتدبره. وقال لا رحمة الله في الفصوص (¬1) كلمة فرعون قال {أنا ربكم الأعلى} (¬2) أي وأن الكل أربابا بنسبة ما، فأنا الأعلى منهم. مما أعطيته في الظاهر من التحكم فيكم ولما علمت السحرة صدقه فيما قاله لم ينكروه وأقروا له بذلك فقالوا له {إنما تقضى هذه الحياة الدنيا} (¬3) فاقض ما أنت قاض فالدولة لك فصح قوله أنا ربكم الأعلى وإن كان عين الحق فالصورة لفرعون فقطع الأيدي والأرجل وصلب، بعين حق في صورة باطل (¬4) ... انتهى. قد سمعت هذا الهذيان الذي لم يتجاسر على مثله الشيطان وهاهو قد أخبرك بإصابة فرعون وصحة قوله بل جاوز ذلك فجعله ربا فخذ لنفسك أو دع .. وقال في الباب الرابع والأربعين وثلاثمائة من الفتوحات: ومن هذا الباب قول السامري: {هذا إلهكم وإله موسى} (¬5) في العجل ولم يقل هذا الله الذي يدعوكم إليه موسى، وقول فرعون العلى أطلع إلى إله موسى) (¬6) ولم يقل إلى الله الذي ¬

(¬1) (ص 209 - 210). (¬2) [النازعات: 24]. (¬3) [طه: 72]. (¬4) بزعم أن فرعون حين صلب كان هو الله في الحقيقة متعينا في صورة باطلة هي صورة خلقية حميت فرعون انظر مظاهر الانحرافات العقدية (2/ 563) وقال الغزالي في الطامات من كتاب العلم في الإحياء- بعد تحريم التأويل. مما لا تسبق الأفهام إليه- ما نصه: " وبعض هذه التأويلات يعلم بطلانه قطعا، كتنزيل فرعون على القلب، فإن فرعون شخص محسوس تواتر إلينا وجوده، ودعوة موسى عليه السلام له، كأبي جهل، وأبي لهب وغيرهما من الكفار وليس من جنس الشياطين والملائكة، وما يدرك بالحس حتى يتطرف التأويل إلى ألفاظه ". مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية- إدريس محمود إدريس (2/ 561 - 564). (¬5) [طه: 88]. (¬6) [القصص: 38].

يدعو إليه موسى، وقال: {ما علمت لكم من إله غيري} فما أحسن هذا التحري لتعلم أن فرعون كان عنده علم بالله ... انتهى. وأقول ما بعد هذا شيء. فإن كنت لا تحتاج إلى بيان بعده فاتهم عقلك وفهمك. قال في الفصوص (¬1): ألا ترى إلى قوم هود كيف قالوا {هذا عارض مطرنا} (¬2) فظنوا خيرا بالله وهو عند ظن عبده فأضرب لهم الحق عن هذا القول فأخبرهم. مما هو أتم وأعلى في القرب فإنه إذا أمطرهم فذلك حظ الأرض وسقي الحبة فما يصلون إلى نتيجة ذلك المطر إلا عن بعد فقال لهم {بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم} (¬3) فجعل الريح إشارة إلى ما فيها من الراحة لهم فإن هذه الريح أراحتهم عن هذه الهياكل المظلمة والمسالك الوعرة والسدوف المدلهمة وفي هذه الريح عذاب: أي أمر يستعذبونه إذا ذاقوه (¬4) 000 انتهى [17] ومن عجائبه التي نستغفر الله من كتبها ما يكرره في كتبه من الحط على الأنبياء والرفع من شأن الكفار فمن ذلك قوله في عتب موسى على هارون لإنكاره على عبدة العجل فكان موسى أعلم بالأمر من هارون؛ لأنه علم ما عبده أصحاب العجل لعلمه بأن الله قد قضى أن لا يعبد إلا إياه وما حكم الله بشيء إلا وقع. فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه فإن العارف من يرى الحق في كل شيء بل يراه عين كل شيء فكان موسى يربط هارون تربية علم وإن كان أصغر منه في السن 00. (¬5) انتهى. ¬

(¬1) (ص 108). (¬2) [الأحقاف: 24]. (¬3) [الأحقاف: 24]. (¬4) فسر الريح التي اهلك الله ها عادا بالرحمة والراحة، وفسر العذاب الذي حاق هم بأنه أمر تسعد به النفس. (¬5) الفصوص (ص 192). وقد رد ابن تيمية على ذلك ني مجموعة الرسائل والمسائل (4/ 88) فقال ابن تيمية: " احتج الملحدون بقوله: " {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} [الإسراء: 123 قالوا وما قضى الله شيئا غلا وقع، وهذا هو الإلحاد في آيات الله، وتحريف الكلم عن مواضعه، والكذب على الله، فإن قضى هنا ليست. بمعنى القدر والتكوين بإجماع المسلمين، بل وإجماع العقلاء، حتى يقال: ما قدر الله شيئا إلا وقع، وإنما هي. بمعنى: أمر. وما أمر الله به، فقد يكون، وقد لا يكون، فتدبر هذا التحريف وكذلك قوله: ما حكم الله بشيء إلا وقع كلام مجمل، فان الحكم يكون. بمعنى الأمر الديني، وهو الأحكام الشرعية كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} وكقوله تعالى: {ذالكم حكم الله يحكم بينكم} ويكون الحكم حكما بالحق والتكوين والعقل، كقوله تعالى: {فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي} وقوله: {قل رب احكم بالحق} ولهذا كان بعض السلف يقرؤون: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} وذكروا أنها كذلك في بعض المصاحف ولهذا قال في سياق الكلام: وبالوالدين إحسانا وساق أمره ووصاياه إلى أن قال: {ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر} فختم الكلام. ممثل ما فتحه به من أمره بالتوحيد وفيه عن الشرك، ليس هو إخبارا أنه ما عبد أحد إلا الله، وأن الله قدر ذلك وكونه، وكيف وقد قال: {ولا تجعل مع الله إلها آخر} وعندهم ليس في الوجود شيء يجعل إلها آخر فأي شيء، عبد فهو نفس الإله ليس آخر غيره "

وقال في الفصوص (¬1): إنه لا شيء للأنبياء من النظر بل عقولهم ساذجة قال: يدلك على ذك قول عزيز: {أنى يحيى هذه الله بعد موتها} (¬2) ليس لهم إلا ما يتلقونه من الملك ثم يلقونه .. انتهى. وأشنع من هذا مع أنهم مصرحون بأنهم أنبياء فيقولون نبوة الولاية ونبوة التشريع. وانظر إلى كتاب الفتوحات وكتاب الفصوص تجد من هذا ما لا يحتاج بعده إلى بيان فمن ذلك قول ابن عربي في الفتوحات (¬3) في الباب الموفي ستين وثلاثمائة: إن الله أخفى النبوة في خلقه وأظهرها في بعض خلقه فالنبوة الظاهرة هي التي انقطع ظهورها وأما الباطنة فلا تزال في الدنيا والآخرة لأن الوحي الإلهي والإيراد الرباني لا ينقطع إذ به حفظ ¬

(¬1) (ص 85) (¬2) [البقرة: 259]. (¬3) الفتوحات المكية (2/ 257).

العالم. انتهى. وقال في الفصوص (¬1) في الكلمة العزيرية: واعلم أن الولاية هي الفلك المحيط العام ولهذا لم تنقطع ولها الإنباء العام وأما نبوة التشريع والرسالة فمنقطعة إلى قوله: والله لم يتسمى بالنبي ولا بالرسول وتسمى بالولي. إلى أن قال: إلا أن الله لطيف بعباده. فأبقى لهم النبوة العامة التي لا تشريع فيها .. انتهى وعلى الجملة فالرجل وأهل نحلته مصرحون بأنهم أنبياء تصريحا لا يشك فيه بل لم يكتفوا بذلك حتى جعلوا أنفسهم أعظم من الأنبياء وزاد شرهم وترفى إلى أن بلغ إلى الحط على الأنبياء بل الوضع من جانب الملائكة إنا لله وإنا إليه راجعون [18]. لا جرم إلا من تجارى على الرب جل جلاله حتى جعله نفس ما هية القردة والخنازير وسائر الأقذار فكيف لا يصنع بالأنبياء والملائكة ما صنع وقد آن أن نمسك عنان القلم عن رقم كفريات هذا المخذول فإنا كما علم الله لم نكتبها إلا على وجل وكيف لا يخاف من رقم مثل هذه الكفريات التي يتوقع عند رقم مثلها الخسف ولولا محبة النصح ومداواة القلوب المرضى التي قد غاب فيها نصل هذا البلاء لما استجزت رقم حرف واحد ولكن الله جل جلاله قد حكى في كتابه من مقالات الكفرة شيئا واسعا وهذا هو المشجع على ذلك. فإن بقي لك أيها المخدوع نصيب من دين أو فهم أو عقل فقد سقنا إليك ما يقلعك عن العكوف على هذه الضلالة ويردعك عن استحسان هذه الجهالة وسنسمعك في أخر هذه الرسالة أقوال أئمة الإسلام في هؤلاء ¬

(¬1) (ص 90). وقد عرف ابن تيمية في الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (ص 6) الولي: " وقد قيل إن الولي حمى وليا من موالاته للطاعات أي متابعته لها ويقابل الولي العدو على أساس من القرب والبعد ". وقال الشوكاني في تفسيره " فتح القدير " (2/ 457): والمراد بأولياء الله خلقه المؤمنين كأنهم قربوا من الله سبحانه بطاعته واجتناب معصيته وقد فسر سبحانه هؤلاء الأولياء بقوله: {الذين آمنوا وكانوا يتقون} [يونس: 63] أي يؤمنون. مما يجب الإيمان به ويتقون ما يجب عليهم اتقاؤه من معاصي الله سبحانه ".

المغرورين إن كنت لا تنظر إلى المقال بل إلى من قال. وإلا فالأمر أوضح من أن يستشهد على بطلانه بأقوال الرجال. وإذا قد تبين لك حال هذا الرجل فاسمع ما قاله معاصره ابن الفارض شاعر هذه الطائفة وأديبها ومقدمها فإنك إن تدبرته وجدته قد سلك في نظمه الطريقة التي سلكها ابن عربي في مؤلفاته حذو النعل بالنعل ولهذا حكى المقريزي في ترجمة ابن الفارض أن ابن عربي بعث إليه يستأذنه في شرح التائية فقال له: كتابك الفتوح شرح لها فمن ذلك قوله: [دين ابن الفارض] وشكري [له] (¬1) والبر مني واصل ... إلى نفسي باتحادي استبدت ولم أله باللاهوت عن حكم مظهري ... ولم أنس بالناسوت مظهر حكمتي إلي رسولا كنت مني مرسلا ... وذاتي بآياتي على العمر أستدلت وفارق ضلال الفرق فالجمع منتج ... هدى فرقه بالإتحاد تحدت وجل في فنون الإتحاد ولا تحد ... إلى فئة في غيره العمر أفنت [19] فمت بمعناه وعش فيه أو فمت ... معناه واتبع أمة فيه أمت وأنت بهذا المجد أجدر من أخي ... ... اجتهاد مجد عن رجاء وخيفة تدبر قوله: وفارق ضلال الفرق فإنه قد جعل الفرق بين المخلوق والخالق ضلال فضلل الشقي جميع الأنبياء والملائكة بل جميع الإنس والجن وهكذا فليكن الولي المقرب. ومن أبياته التائية قوله: مظاهر لي فيها بدوت ولم أكن ... على بخاف قبل موطن برزتي فلفظ وكلى بي لسان محدث ... ولحظ وكلط في عين لعبرة وسمع وكلي بالنداء أسمع النداء ... وكلى في رد الردى يدقوتي ¬

(¬1) في المخطوط [لي] وما أثبتناه من التائية.

لأسمع أفعالي بسمع بصيرة ... وأشهد أقوالي بعين سميعه ومن ذلك قوله (¬1): [وحدة الأديان عند ابن الفارض] نبي مجلس الأذكار سمع مطالع ... ولي حانة الخمار عين طليعة وما عقد الزنا وحكما سوى يدي ... وإن خل بالإقرار بي فهي حلت وإن نار بالتنزيل محراب مسجد ... فما بار بالإنجيل هيكل بيعة وأسفار توراة الكليم لقومه ... يناجي بها الأحبار في كل ليلة وإن خر للأحجار في البد عاكف ... فلا تغد بالإنكار للعصبية قال الكيزروني في سيرته: ومعنى البد عندهم: شخص في هذا العالم لم يولد ولا ينكح ولا يطعم ولا يشرب ولا يهرم ولا يموت وأول بد ظهر في العالم اسمه (شارمن) وتفسيره: السيد الشريف ومن وقت ظهوره إلى وقت الهجرة خمسة آلاف سنة وزعموا أن البددة أتوهم على عدد وظهروا في أجناس وأشخاص شتى ولم يكونوا يظهروا إلا في بيوت الملك لشرف جواهرهم ... 1 هـ. وأقول: قد سمعت أن الإنكار على من خر للأحجار عصبية عند هذا المنصف ومقدم طائفة المنكرين الرسل جميعا بالإجماع [20]. وانظر ما في كلام ربك من النهى عن عبادة الأوثان تجد الكثير الطيب وعلى الجملة فقد حكم على الله ورسله وملائكته بالعصبية وصوب عبده الأوثان أجمع فإن لم يكن هذا كفرا فما في الدنيا كفر والسلام. ولا تغرك مغالطته بقوله بعد هذا البيت: فقد عبد الدينار معنى منزه ... عن العار بالإشراك بالوثنية فإن المغالطة دأب القوم {يخادعون الله والذين آمنوا وما تخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون في قلوبهم مرضى فزادهم الله مرضا ولهتم عاب أليم بما كانوا يكذبون} (¬2) ¬

(¬1) انظر ديوان ابن الفارض (ص 114). (¬2) [البقرة: 9 - 10]

وليس العجب من هذا وأقواله بل العجب الذي تسكب عنده العبرات سكوت أهل عصره عنه بعد مسير الركبان عنه. ممثل هذه الأقوال في حياته. إنا لله وإنا إليه راجعون وآخر بيت ختم به تأئيته قوله: ومن فضل ما أسأرت شرب معاصري ... ومن كان قبلي في الفضائل فضلتي جعل الأنبياء في فضائلهم فضله فضائله، فاسمع إن كنت من الذين لم يختم على قلوبهم ويجعل على أبصارهم غشاوة .. وفي هذا المقدار ما يعرفك بحال هذا الولي المعتقد فاختر لنفسك ما يحلو [21]. وأما ابن سبعين (¬1) فيكفيك من تصريحه بالوحدة قوله في كتابه المعروف بلوح الإصابة ما لفظه: الذات مع العلم دائما وهى الباطنية وهي الظاهرة بخلافك أنت الظاهر وعلمك باطن وما في الوجود سواه معك وسواك به فأنت معينا صورة علمه وعن معين علمه وهو علمك فيه ترى وتبصر وتعلم وبك يرى ويبصر ويعلم ثم قال بعد ذلك: إن واجب الوجود كلي وممكنه جزئي ولا وجود للكلي إلا في جزئي ولا لجزئي إلا في كلي وعلى الجملة إن ديدنته في هذا الكتاب في غالب أبحاثه في الوحدة والمشط على طريقة ابن عربي فلا نطيل في رسم كلامه ولا نستكثر من كتب هذيانه .. قال بعضهم: جلست عند ابن سبعين من الغداة إلى العشي، فجعل يتكلم بكلام تعقل مفرداته ولا تعقل مركباته. وأما ابن التلمساني (¬2) فيكفيك من خذلانه وإصراره على هذا المذهب الكفري ما عرفناك ¬

(¬1) تقدمت ترجمت (¬2) تقدمت ترجمت

سابقا من رواية الإمام ابن تيمية (¬1) عنه أنه قال: القرآن كله شرك وإنما التوحيد مذهبهم - أعني القول بالإتحاد- فقد أخبرك عن حقيقة مذهبهم وهو الخبير انه مخالف للقرآن فإن كان معترفا بأنه كلام الله فقد جعل الله جل جلاله غير عالم بنفسه جاهلا لحقيقة ذاته ولا كفر أشنع وأبشع من هذا فاختر لنفسك: أما الأخذ بكلام ربك والاتباع لما أخبرك به أو الأخذ بكلامه والاهتداء بضلاله فإن الرجل قد عرفك بالمخالفة بين مذهبهم وبين القرآن وبين لك فضل قولهم على قول الله عز وجل وإن كان غير معترف بأنه كلام الله فلا أصرح من هذه الشهادة التي يشهد ها على نفسه وعلى أهل ملته فكن في أي القبيلين شئت والسلام .. ولا تكن مثل من ألقى رحالته ... على الحمار وخلى صهوة الفرس وأما الجيلي (¬2) فكتابه المسمى بالإنسان (¬3) الكامل كافل لك ببيان حاله أي كافل لا تجذ في كتب القوم مثله في التصريح بالإتحاد والإلحاد؟ لأن الرجل أمن من المخاوف التي كان أصحابه يخافونها لما رآه من عدم قيام العلماء. مما أوجب الله عليهم من نصر الشريعة وقطع دابر من رام تكدير صفوها [22] وتحققه من أطباق العامة وكثير من الخاصة على أدن القوم من الصفوة المصطفاه وإذعانهم لكل مشعبذ وإن كان لا يدري صناعة الشعبذة إذا قام بعهدة النهيق قائلا هو هي تاركا للواجبات منغمسا في المحرمات متمخلعا متوقحا متلونا بالنجاسات غير متنزه عن القاذورات كثير الوقوف في المزابل والرباطات مشتملا على جبة قذرة كدرة ... فهذا؟ الله المجاب الدعوة الذي يرحم الله به العباد ويستنزل به الغيث .. إنا لله وإنا إليه راجعون. وأنت إن بقي فيك نصيب من العقل وحظ من التوفيق فزن أحوال هؤلاء بحال أصحاب رسول الله وصل فإنهم المعيار الذي لا يزيغ عنه إلا ضال وانظر ما بين الطائفتين من التفاوت بل التقابل في ¬

(¬1) انظر: مجموع الفتاوى (13/ 186) " الفرقان " (ص 88) " مجموعة الرسائل والمسائل " (4/ 51). (¬2) تقدمت ترجمته. (¬3) تم التحذير منه في أول الرسالة.

جميع الأمور واختر لنفسك في الهوى من تصطفي والموعد القيامة وستعلم لمن عقبى الدار. فمن تنفسات الجيلي في كتابه المذكور في الباب السابع قوله: فأول رحمة رحم الله ها الوجود أن أوجد العالم من نفسه قال الله تعالى: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه} (¬1) ولهذا سرى وجوده في الموجودات فظهر كماله في كل جزء وفرد من أجزاء العالم ولم يتعدد بتعدد مظاهره بل هو واحد في جميع تلك المظاهر وسر هذا السريان أن خلق العالم من نفسه وهو لا يتجزأ فكل شيء من العالم هو بكماله واسم الخلقية على ذلك الشيء بحكم العارية لا كما يزعمه من يزعم أن الأوصاف اللاهبة هي التي تكون بحكم العارية إلى العبد وأشار إلى ذلك بقوله: أعارته طرفا رأها به ... فكان البصير بها طرفها فإن العارية ما هي في الأشياء إلا نسبة الوجود الخلقي إليها فإن الوجود الحقي لها أصل فأعار الحق خلقه اسم الخلقية لتظهر بذلك أسرار اللاهية ومقتضياتها من التضاد فكان الحق هيولا العالم قال الله تعالى: (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق & (¬2) فمثل العالم مثل الثلج والحق سبحانه الماء الذي هو أصل الثلج فاسم الثلج على ذلك المنعقد معار واسم المائية عليه حقيقة وقد نبهت على ذلك في القصيدة [23] المسمى بالبوادر العينية بقولي: وما الخلق في التمثال إلا كثلجة ... وأنت لها الماء الذي هو نابع ولكن يذوب الثلج يرفع حكمه ... ويوضع حكم الماء والأمر واقع تجمعت الأضداد في واحد البهاء ... وفيه تلاشت فهو عنهن صادع انتهى. ¬

(¬1) [الجاثية: 13]. (¬2) [الحجر: 85].

وكتابه المذكور محشو هذا لهذيان وهو من الصراحة بالإتحاد بحيث لا يلتبس إلا على بهيمه فإن شككت فيما حكيناه فعليك بالكتاب المذكور وهذا المثال مشهور عند القوم لا ينكره أحد منهم بل ربما جاوزه بعضهم فقال: إن العالم كالموج والباري عز وجل كالبحر. والموج ليس غير البحر صرح بذلك الجامي (1) في شرح نقش الفصوص لابن عربي. وعلى الجملة فقد سقنا إليك من نصوصهم ما يعرفك بحالهم ولا فائدة من الإكثار من كفرياتهم فهذه كتبهم على ظهر البسيطة موجودة بأيدي الناس فإذا رمت العثور على أضعاف أضعاف هذه المخازي راجعتها وكن على حذر منها فإنها مغناطيس القلوب التي لم تستحكم قوة إيمانها. وقد وعدناك فيما سلف بذكر نصوص جماعة من علماء الشريعة على تضليل هذه الفرقة فنقول: اعلم أن أئمة أهل البيت وسائر علماء اليمن إلا القليل مطبقون على تضليل هذه الفرقة مبالغون في التحذير منهم معلنون بأنهم ابتدعوا في الإسلام ما يخالف الشريعة، وسردهم مما لا تتسع له هذه الورقات، وقد بالغ الإمام شرف الدين في ذلك حتى أمر بقتل كبير من كبرائهم، وهكذا الإمام القاسم بن محمد صرح بتكفيرهم وشدد على رعيته في ذلك وصرح بأنهم زنادقة، وهكذا ابنه المتوكل على الله حتى أمر بتحريق الكتاب المعروف بالفصوص وأمر أهله إن يخبروا عليه قرصا وأطعمه جارية كان بها ألما فشفيت وكذلك غيرهم من أعيان العلماء [24] الذين كان وجودهم بعد حدوث هذه الطائفة .. قال الفاسى في العقد ..................... ¬

(1): هو عبد الرحمن بن أحمد الجامي ولد بجام (قرية بخرسان) سنة 817 هـ صوفي مشارك في بعض العلوم توفي بهراة سنة 898 هـ. انظر: شذرات الذهب (7/ 360) " والبدر الطالع " (1/ 327).

الثمن (¬1) في ترجمة ابن عربي: وقد بين الشيخ تقي الدين ابن تيمية الحنبلي شيئا من حال هذه الطائفة القائلين بالوحدة وحال ابن عربي منهم بالخصوص وبين بعض ما في كلامه من الكفر ووافقه على تكفيره لذلك جماعة من أعيان علماء عصره من الشافعية والمالكية والحنابلة لما سئلوا عن ذلك ثم ذكر نص السؤال ونص الجوابات ولطول ذلك اقتصرت هاهنا على نقل خلاصته السؤال والأجوبة. أما السؤال فحاصله ما يقول العلماء في كتاب بين أظهر الناس أكثره ضد لما أنزل الله وعكس لما قاله أنبيائه من جملة ما اشتمل عليه أن الحق المنزه هو الإنسان المشبه وقال: إن عباد الأوثان لو تركوا عبادتها لجهلوا وأنكر فيه حكم الوعيد في حق من حقت عليه كلمة العذاب فهل يكفر من يصدقه في ذلك أو يرضى به منه أم لا وهل يأثم سامعه أم لا. أجاب الإمام ابن تيمية (¬2) بما حاصله أن كل كلمة من هذه الكلمات كفر بلا نزاع لق المسلمين واليهود والنصارى فضلا عن كونه كفرا في شريعة الإسلام ثم قال: وصاحب هذا الكتاب الذي هو فصوص الحكم وأمثاله مثل صاحبه القونوي (¬3) والتلمساني (¬4) وابن سبعين (¬5) والششتري (¬6) وأتباع مذهبهم الذي هم عليه أن الوجود واحد ويسمون أهل ¬

(¬1) (2/ 161 - 191). (¬2) في الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (ص 83). (¬3) محمد بن إسحاق بن محمد القونوي الروي- صدر الدين- صوفي من كبار تلاميذ ابن عربي، وقد تزوج ابن عربي أمه ورباه واهتم به حتى أصبح من أهل وحدة الوجود. وهو شيخ التلمساني له مصنفات (منها): تفسير سورة الفاتحة في مجلد سماه (إعجاز البيان في كشف بعض أسرار أم القرآن). توفي سنة 673 هـ بقونية. انظر: طبقات الأولياء لابن الملقن (ص 467). مفتاح السعادة لأحمد بن مصطفى (1/ 451). (¬4) تقدمت ترجمته. (¬5) تقدمت ترجمته. (¬6) الششتري هو علي بن عبد الله المتوفى سنة 668 هـ متصوف أندلسي (أبو الحسن) من أهل (من عمل وادي أش) توقي قرب دمياط من كتبه (العروة الوثقى) والوجودية في أسرار الصوفية. (ولد 610 هـ وتوفى سنة 668). انظر الأعلام للزركلى (4/ 305).

وحدة الوجود ويدعون التحقيق والعرفان وهم يجعلون وجود الخالق عين وجود المخلوقات فكل ما تتصف به المخلوقات من حسن وقبح ومدح وذم إنما المتصف به عندهم عين الخالق. قال: ويكفيك بكفرهم أن من أخف أقوالهم: إن فرعون مات مؤمنا بريئا من الذنوب كما قال- يعني ابن عربي، ثم أخذ يعدد من هذه الكلمات حتى قال: إن كفرهم أعظم من كفر اليهود والنصارى. ثم قال بعد كلام طويل: وهذه الفتوى لا تحتمل بسط كلام هؤلاء وبيان كفرهم وإلحادهم فإنهم من جنس القرامطة (¬1) الباطنية الإسماعيلية (¬2) الذين كانوا أكفر من اليهود والنصارى وإن قولهم يتضمن الكفر بجميع الكتب والرسل، كما قال الشيخ إبراهيم .................... ¬

(¬1) حركة باطنية ظهرت سنة 278 في العراق على يد (حمدان قرمط) بعد اتصاله بأحد دعاة الباطنية. يقوم مذهبهم على القول بإلهين قديمين لا أول لوجودهما من حيث الزمان إلا أن أحدهما علة لوجود الثاني، واسم العلة السابق والمعلول- التالي، والنبي عبارة عن شخص فاضت عليه من السابق بقوة التالي قوة قدسية صافية، واتفقوا على أنه لا بد في كل عصر من إمام معصوم يساوي النبي بالعصمة، وهم ينكرون البعث والمعاد ويستبيحون المحظورات ويجعلون لكل نص ظاهرا وباطنا يؤولونه حسب معتقدهم وهواهم. وقد نشطت تلك الحركة الخبيثة وكثر أتباعها فأغارت على البلدان ونهبت الأموال وهتكت الأعراض حتى أهم هاجموا مكة المكرمة سنة 319 هـ فقتلوا أهلها ومن كان فيها من الحجاج وهدموا زمزم واقتلعوا الحجر الأسود وذهبوا به إلى الأحساء ست 339 هـ حيث أعيد إلى مكانه. انظر: القرامطة لابن الجوزي، تحقيق: محمد الصباغ. - أخبار القرامطة في الأحساء والشام واليمن والعراق جمع وتحقيق سهيل ذكار. (¬2) الإسماعيلية: حركة باطنية، سميت هذا الاسم نسبة إلى إسماعيل بن جعفر الصادق الذي لم تعترف الشيعة الاثنا عشرية بإمامته ... واشتدت ضربات العباسيين للحركات الشيعية بعد فشل ثورة محمد الملقب بذي (النفس الزكية) مما اضطرهم للاحتفاء والتكتم وقد وضع عبد الله بن ميمون القداح أساس الدعوة الإسماعيلية السبعية التي تختم الإمامة بإسماعيل بن جعفر الصادق. أما عقيدتهم في الوحي والنبوة والرسالة فملخصة. مما يلي: " لا يعترف الإسماعيليون. مما نقله لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حقائق الدين، لأن العقل الأول بنظرهم وليس الله هو الذي دبر الكون وأرسل الرسل والوحي إلى الأنبياء. فالوحي بنظرهم. هو ما قبلته نفس الرسول من العقل الكلي وقبله العقل من باريه تعالى. " اهـ. " الإسماعيلية: تاريخ وعقائد ": إحسان إلههي ظهير.

الجعبري (¬1) لما اجتمع بابن صاحب هذا الكتاب. قال: رأيته شيخا بخسا يكذب بكل كتاب أنزله الله تعالى وبكل نبي أرسله .. وقال الفقيه [25] أبو محمد (¬2) بن عبد السلام لما قدم القاهرة، وسألوه عن ابن عربي. فقال: شيخ سوء مقبوح يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجا. قال ذلك قبل أن يظهر من قوله: أن العالم هو الله ثم قال بعد أن عدد مثالبهم ولم أصف عشر ما يذكرونه من الكفر. ثم قال: فرؤوسهم أئمة كفر ويجب قتلهم ولا تقبل توبة أحد منهم إذا اخذ قبل التوبة فإنه من أعظم الزنادقة ثم قال: ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم، أو ذب عنهم، أو أثنى عليهم، أو عظم كتبهم، أو عرف ¬

(¬1) هو إبراهيم بن معضاد بن شداد الجعبري الشاذلي، شاعر صوفي، له مشاركة في أشياء من العلم والطب، ولد سنة 597 هـ وتوفي سنة 687 هـ. معجم المؤلفين (1/ 114 - 115) وشذرات الذهب (5/ 399 - 400). (¬2) هو عبد العزيز بن عبد السلام السلمي الشافعي، كنيته أبو محمد، ولقبه عز الدين- واختصر بالعز جريا على عادة علماء عصره، وعرف بسلطان العلماء وبائع الملوك، أصله الأول من المغرب، ثم بحكم الهجرات إلى توالت على قبائل العرب عبر التاريخ نزحت قبيلته إلى الشام، فأصبح شاميا بعد ذلك وكان أمارا بالمعروف نهاءا عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم- ولد سنة 578 هـ وتوفي سنة الذيل على الروضتين (ص 216)، فوات الوفيات للكتبي (2/ 350 - 352)، معجم المؤلفين (5/ 249).

بمساعدتهم ومعاونتهم، أو كره الكلام فيهم. بل يجب عقوبة كل من عرف حالهم، ولم يعاون على القيام عليهم. فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات، لأنهم أفسدوا العقول والأديان على خلق من المشايخ والعلماء والملوك والأمراء، ثم قال: وأما من قال لكلامهم تأويل يوافق الشريعة فإنه من رؤوسهم وأئمتهم فإنه إن كان ذكيا يعرف كذب نفسه وإن كان معتقدا لهذا ظاهرا وباطنا، فهو أكفر من النصارى. وأجاب القاضي بدر الدين (¬1) ابن جماعة فقال: هذه الفصوص المذكورة وما أشبهها من هذا الباب بدعة وضلالة ومنكر وجهالة لا يصغي إليها ولا يعرج عليها إلى آخر جوابه. وأجاب القاضي سعد الدين الحارثي قاضي الحنابلة بالقاهرة ما ذكر من الكلام المنسوب إلى الكتاب المذكور يتضمن الكفر ومن صدق به فقد تضمن تصديقه. مما هو كفر يجب في ذلك الرجوع عنه والتلفظ بالشهادتين ثم قال وكل هذه التمويهات ضلالات وزندقة وعبارات مزخرفة. وأجاب الخطيب شمس الدين محمد بن يوسف الجزري الشافعي بعد كلام وقوله: أن الحق المنزه هو الخلق المشبه. كلام باطل متناقض وهو كفر إلى آخر ما أجاب به. ¬

(¬1) هو محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة بن حازم بن صخر بن عبد الله الكناني الحموي الشافعي ولد سنة 639 هـ بحماة: وسمع الكثير واشتغل وأفتى ودرس وأخذ أكثر علومه بالقاهرة عن القاضي تقي الدين بن رزين وقرأ النحو على الشيخ جمال الدين بن مالك وولي قضاء القدس سنة 687 هـ ثم نقل إلى قضاء الديار المصرية سنة 690 هـ وجع له بين القضاء ومشيخة الشيوخ، ثم نقل إلى دمشق وجمع له بين القضاء والخطابة ومشيخه الشيوخ ثم أعيد إلى قضاء الديار المصرية بعد وفاة ابن دقيق العيد. ولما عاد الملك الناصر من الكرك عزله مدة سنة ثم أعيد وعمي في أثناء سنة 727 هـ فصرف عن القضاء واستمر معه تدريس الزاوية. ممصر وانقطع. بمنزله بمصر قريبًا من ست سنين يسمع عليه إلى أن توفي 733 هـ. - شذرات الذهب (5/ 105 - 106). - القاضي بدر الدين بن جماعة حياته. للدكتور عبد الجواد خلف.

وأجاب القاضي زين الدين الكتناني الشافعي مدرس الفخرية والمنصورية بالقاهرة. مما حاصله أن ذلك كفر ثم قال ومن صدق المذكور في هذه الأمور أو بعضها مما هو كفر فكفر. وأجاب الشيخ نور الدين البكري (¬1) الشافعي بعد كلام أن صاحب هذه الأقوال ألعن وأقبح من أن يتأول له ذلك بل هو كاذب فاجر كافر في القول والاعتقاد ظاهرا وباطنا وإن كان قائلها لم يرد ظاهرها فهو كافر بقوله ضال لجهله ولا يعذر بتأويله لتلك الألفاظ إلا أن يكون جاهلا جهلا تاما عاما ولم يعذر من جهله. بمعصيته لعدم مراجعه العلماء إلى آخر جوابه. وأجاب الشيخ شرف الدين عيسى الزواوي المالكي [26] أما هذا التصنيف الذي هو ضد لما أنزل الله عز وجل في كتبه المنزلة، وضد أقوال الأنبياء المرسلة فهو افتراء على الله وافتراء على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ثم قال: ما تضمنه هذا التصنيف من الهذيان والكفر والبهتان فكله تلبيس وضلال وتحريف وتبديل، ومن صدق بذلك أو اعتقد صحته كان كافرا ملحدا صادا عن سبيل الله مخالفا لملة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ملحدا في آيات الله مبدلا لكلمات الله زنديقا فيقتل متى ظهر عليه ولا تقبل توبته إن تاب لأن حقيقة توبته لا تعرف. ثم قال: فالحذر كل الحذر منهم فإنهم أعداء الله وشر من اليهود والنصارى، لأنهم قوم لا دين لهم يتبعونه ولا رب يعبدونه إلى آخر كلامه .. وبمثل هذا الجواب أجاب جماعة من العلماء الذين تأخر عصرهم عن عصر هؤلاء ¬

(¬1) هو علي بن يعقوب بن جبريل بن عبد المحسن البكري، المصري، الشافعي " نور الدين " أبو الحسن، مفسر، بياني، مشارك في بعض العلوم. من مصنفاته: تفسير سورة الفاتحة، الحكم، كتاب في البيان، معجم المؤلفين (7/ 262) وشذرات الذهب (6/ 66 - 67).

المجيبين في سؤال ورد إليهم مثل هذا السؤال وصرحوا بأن ذلك كفر، منهم العلامة البلقيني (¬1) الشافعي الإمام المجتهد والحافظ ابن حجر العسقلاني (¬2) ومحمد بن عرفة (¬3) الماكي عالم أفريقيا، والقاضي بالديار المصرية عبد الرحمن بن محمد المعروف بابن خلدون (¬4) الحضرمي المالكي وقال في أثناء جوابه: وأما حكم هذه الكتب المتضمنة لتلك العقائد المضلة وما يوجد من نسخها بأيدي الناس مثل الفصوص والفتوحات لابن عربي، والبد (¬5) لابن سبعين وخلع النعلين ......................... ¬

(¬1) محمد بن عمر بن رسلان بن نصير الكناني، المصري، البلقيني، الشافعي بدر الدين أبو اليمن ولد في صفر سنة 756 هـ وهو فقيه، توفي سنة 791 هـ. من آثاره، رسالة الكليم في تسلية أهل المصائب. معجم المؤلفين (11/ 82) شذرات الذهب (6/ 318 - 319). (¬2) هو أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن على بن محمود بن أحمد بن حجر الكناني العسقلاني الأصل. المصري المولد والنشا والدار والوفاة. يلقب بشهاب الدين ويكنى أبا الفضل. (¬3) محمد بن محمد بن محمد بن عرفة الورغمي التونسي، المالكي عرف بابن عرفة (أبو عبد الله) مقرئ، فقيه، أصولي، بياني، منطقي متكلم فرضي. ولد بتونس 27 رجب سنة 716 هـ من مصنفاته " المبسوط " في الفقه المالكي في سبعة أسفار. معجم المؤلفين (11/ 285) والبدر الطالع (2/ 255 - 256). (¬4) عبد الرحمن بن محمد بن محمد- بن جابر بن محمد ابن إبراهيم بن محمد بن عبد الرحيم الحضرمي الأشبيلي الأصل، التونسي ثم القاهري، المالكي المعروف بابن خلدون عالم، أديب، مؤرخ اجتماعي، حكيم. ولد بتونس سنة 732. توفي بالقاهرة سنة 808 هـ. من مؤلفاته: العبر وديوان المبتدأ وافي في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر (تاريخ ابن خلدون) شرح قصيدة ابن عبدون الأشبيلى. الضوء اللامع (4/ 145 - 149) شذرات الذهب (7/ 76 - 77). (¬5) (البد):- وهو من أشهر كتب ابن سبعين- أي مالا بد للعارف منه بين فيه مذهبه القائم على الوحدة المطلقة ورد على مذاهب الفقهاء والمتكلمين.

لابن قسط (¬1)، وعن اليقين لابن برخان. وما أجدر الكثير من شعر ابن الفارض والعفيف التلمساني وأمثالها إن يلحق هذه الكتب وكذا شرح ابن الفرغاني للقصيدة التائية من نظم ابن الفارض فالحكم ني هذه الكتب كلها وأمثالها إذهاب أعيانها متى وجدت بالتحريق بالنار والغسل بالماء إلى أخر ما أجاب به. وكذلك أبو زرعة الحافظ (¬2) العراقي الشافعي أجاب. ممثل ذلك لما سئل عنه وقال: لا شك في اشتمال الفصوص الشهيرة على الكفر الصريح الذي لا يشك فيه وكذلك الفتوحات المكية فإن صح صدور ذلك عنه واستمر عليه إلى وفاته فهو كافر مخلد في النار بلا شك إلى أخر كلامه. وكذلك قال العلامة ابن الخياط (¬3) وشهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن علي الناشري (¬4) وقد تكلم الذهبي. . . . . . . . . . . . ¬

(¬1) أحمد بن قسي الأندلسي أبو القاسم، صوفي له كتاب " خلع النعلين في الوصول إلى حضرة الجمعين " مات سنة 545 هـ. " لسان الميزان " (1/ 247). (¬2) أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن أبي بكر الكردي الأصل المهراني، القاهري، الشافعي، يعرف بابن العراقي: ولي الدين، أبو زرعة. فقيه، أصولي، محدث، أديب. ولد بالقاهرة سنة 762 هـ وتوفي ها سنة 826 هـ. من مصنفاته: شرح جمع الجوامع للسبكي في أصول الفقه. شرح البهحة الوردية في فروع الفقه الشافعي. الضوء اللامع (1/ 336 - 344) البدر الطالع (1/ 72 - 74) شذرات الذهب (7/ 173). (¬3) أحمد بن محمد بن عمر بن عبد الهادي بن العربي بن محمد فتحا الفاسي المعروف بابن الخياط (أبو العباس) ولد سنة 1252 هـ وتوفي سنة 1343 هـ. من تصانيفه: شرح على أبيات الرهوني في الأحاديث الأربعة الموجودة في الموطأ. وثلاثة فهارس، حاشية على شرح الخرشي على فرائض المختصر. معجم المؤلفين (2/ 139). (¬4) هو أحمد بن أبي بكر بن علي بن محمد بن أبي بكر بن عبد الله- بن عبد الرحمن بن عبد الله بن يعقوب الناشري، الزبيدي، الشافعي (شهاب الدين أبو العباس، عالم، فقيه.

الميزان (¬1) في ترجمة ابن عربي فقال: صنف التصانيف في تصوف الفلاسفة وأهل الوحدة وقال أشياء منكرة ثم قال: وأما كلامه فمن عرفه وفهمه على قواعد الإتحادية وعلم محط القوم [27] وجمع بين أطراف عباراتهم تبين له الحق في خلاف قولهم وكذلك من أمعن النظر في نصوص الحكم أو معين التأمل لاح له العجب فإن الذكي إذا تأمل في تلك الأقوال والنظائر والأشباه فهو أحد رجلن: إما من الاتحادية في الباطن وإما من المؤمنين بالله الذين يعدون أن أهل هذه النحل من أكفر الكفرة .. انتهى. وذكره في تاريخ الإسلام وذكر له خرافات مخزية وقد لخص العلامة ابن القيم (¬2) مذهب الاتحادية في أبياته النونية (¬3) فقال: وأتى فريق ضم قال وجدته ... هذا الوجود بعينه وعيان ما ثم موجود سواه وإنما ... غلط اللصان فقال موجودان فهو السماء بعينها ونجومها ... وكذلك الأفلاك والقمران وهو الغمام بعينه والثلج ... والأمطار مع برد ومع حسبان ¬

= من مؤلفاته: اختصار أحكام النساء لابن العطار، الإفادة قي مسألة الإرادة كتاب بين فيه فساد عقيدة ابن عربي ومن ينتمي إليه. معجم المؤلفين (1/ 177) والضوء اللامع (1/ 257 - 258) (¬1) (3/ 659 - 660). (¬2) ابن قيم الجوزية هو الإمام الفقيه الأصولي النحوي. شمس الدين، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز الزرعي. ثم الدمشقي إمام الجوزية وابن قيمها المعروف بابن قيم الجوزية. ولد في دمشق سنه 691 هـ وأخذ العلم عن الشهاب النابلسي، وابن الشيرازي تتلمذ عن شيح الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الدمشقي. له تصانيف كثيرة في أنواع العلوم توفي سنه 751 هـ. شذرات الذهب (6/ 168) الدر الكامنة (3/ 400). (¬3) انظر شرح القصيدة النونية المسماة: " الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية " شرحها وحققها. د. محمد خليل هراس.

وهو الهواء بعينه والماء ... والترب الثقيل ونفس ذا الإنسان هذي بسائطه ومنه تركبت ... هذي المظاهر ما هنا شيئان وهو الفقير بها لأجل ظهوره ... فيها كفقر الروح للأبدان وهي التي افتقرت إليه لأنه ... هو ذاتها ووجودها الحقان وقد أوضح العلامة شرف الدين إسماعيل (¬1) المقري مخازي ابن عربي في قصيدته المشهورة وبين فيها من المثالب ما لم يبمنه غيره لأن جماعة من أهل زبيد أوهموا من ليس له نباهة أن ابن عربي عالي المرتبة. ومطلع هذه القصيدة: ألا يا رسول الله غارة ثائر ... غيور على حرماته والشعائر يحاط ها الإسلام ممن يكيده ... ويرميه من تلبيسه بالفواقر فقد حدثت بالمسلمين حوادث ... كبار المعاصي عندها كالصغائر حوتهن كتب حارب الله ربها ... وغرها من غربين الحواضر تجاسر فيه ابن العريبي واجترا ... على الله فيما قال كل التجاسر فقال بأن الرب والعبد واحد ... فربي مربوبي بغير تغاير وأنكر تكليفا إذا لعبد عنده ... إله وعبد فهو إنكار فاجر [28] وخطأ إلا من يرى الخلق صورة ... وهوية لله عند التناظر وقد تجلى الحق في كل صورة ... تجلى عليها فهي إحدى المظاهر وأنكر أن الله يغني عن الورى ... ويغنون عنه لاستواء المقادر ومنها: ¬

(¬1) هو إسماعيل بن أبي بكر بن عبد الله بن إبراهيم بن علما بن عطية بن على شرف الشرجي اليماني الشافعي المعروف بالمقري الزبيدي ولد سنه 754 هـ وهو فقيه، أديب، شاعر، مشارك في كثير من العلوم. كان ينكر نحلة ابن عربي وأتباعه، وبينه وبن متبعيه معارك وله في ذلك: رسالتان توفي سنه 837 هـ شذرات الذهب (7/ 220 - 222) الضوء اللامع (2/ 292 - 295).

وقال عذاب الله عذب وربنا ... ينعم في نيرانه كل فاجر وقال بأن الله لم يعص في الورى ... فما ثم محتاج لعاف وغافر وقال مراد الله وفق لأمره ... فما كافر إلا مطيع الأوامر ومنها: وما أخص بالإيمان فرعون وحلى ... لدى موته بل عم كل الكوافر فكذبه يا هذا تكن خير مؤمن ... وإلا فصدقه تكن شر كافر ومنها: ولم يبق كفر لم يلابسه عامدا ... ولم يتورط فيه غير محاذر ومنها: فلا قدس الرحمن شخصا يحبه ... على ما يرى من قبح هذا المخابر ومنها: فيا محسني ظنا. مما في فصوصه ... وما في فتوحات الشرور الدوائر عليكم بدين الله لا تصبحوا غدا ... مساعر نار قبحت من مساعر ومنها: ولا تؤثروا غير النبي على النبي ... فليس كنور الصبح ظلما الدياجر دعوا كل ذي قول لقول محمد ... فما آمن في دينه كمخاطر وأما رجالات الفصوص فإنهم ... يعومون في بحر من الكفر زاخر إذا راح بالريح المبايع أحمد ... على هديه راحوا بصفقة خاسر ومنها: ويا أيها الصوفي خف من فصوصه ... خواتم سوء غيرها في الخناصر وخذ فج سهل والجنيد وصالح ... وقوم مضوا مثل النجوم الزواهر [29] على الشرع كانوا ليس فيهم لوحدة ... ولا لحلول الحق ذكر لذاكر رجال رأوا ما الدار دار إقامة ... لقوم ولكن بلغة لمسافر

وهي قصيدة طويلة فائقة رائقة أجاد فها كل الإجادة رحمه الله تعالى. ومن رام العثور على مخازي ابن عربي وأهل نحلته فعليه بكتاب العلامة السخاوي المسمى بالقول المنبي عن ترجمة ابن عربي. وقد ألف العلامة إسماعيل المقري (¬1) كتابين في بيان ضلالات ابن عربي: كتابا حماه الذريعة إلى نصر الشريعة. وسرد في ذلك كثيرا من مخازيه وكتابا آخر غاب عني احمه. قال العلامة المجتهد نزيل حرم الله صاع بن مهدي المقبلي (¬2) في العلم الشيخ (¬3) بعد أن ساق من كفريات أهل الوحدة ومخازيهم شطرا صالحا ما نصه وقد آن لي أن أصدع بالحق خوفا على نفسي من الكفر فأقول: اللهم إني الآن اشهد أن لا إله إلا الله. وأشهد أن محمدا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، واشهد الله وكفى به شهيدا وملائكته والناس أجمعين أني لا أرضى لابن عربي ومن نحا نحوه أو ألحقه الشرع بحكمه بالرضى أو التسليم. بمثل قوله تعالى: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} (¬4) ونحوها فأنا لا أرضى لهم. بمطلق الكفر بل أقول: لا أعلم أحدا من مردة الكفرة: النمرود وفرعون ¬

(¬1) تقدمت ترجته. (¬2) هو صالح بن المهدي بن على بن عبد الله بن سلمان بن محمد بن عبد الله بن سليمان بن أسعد المقبلي، اليمني، الزيدي، عالم مشارك في التفسير وعلوم القرآن والحديث وعلوم اللغة العربية والتصوف والفقه. ولد في قرية المقبل من أعمال كوكبان، وانتقل إلى صنعاء، ثم سكن مكة وتوفي ها سنة 1040 هـ. من مؤلفاته " العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ ". وحاشية على كتاب البحر الزخار سماها " المنار قي المختار من جواهر البحر الزخار ". وحاشية على الكشاف في التفسير حماها " الاتحاف لطلبة الكشاف " و" الأبحاث المسددة " ونجاح الطالب على مختصر ابن الحاجب توفى سنة 1108 هـ. البدر الطالع (1/ 288 - 292) نشر العرف (1/ 781 - 787). (¬3) (ص 573 - 574). (¬4) [المائدة: 51].

وإبليس والباطنية والفلاسفة بل نفاة الصانع فإن هؤلاء نفوا الصنع فانتفى الصانع فما أحد بلغ هذا المبلغ في جميع الكفريات الماضية وإحداث ما هو شر منها وهي مسألة الوحدة ثم عظم ضررهم في الإسلام بإصابة سهمهم لهذه المقلدة لهم ممن جمع شيئا من العلوم ومن غيرهم اللهم العنهم لعنا كثيرا واقطع دابرهم وامح أثرهم اللهم أمتنا على هذا واحشرنا عليه واكتبنا من الشاهدين عليهم وأوزعنا شكر نعمتك بحفظ القطرة علينا حين ضيعها هؤلاء المتبعين لهم الذين هم أضل وأجهل ممن قال: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفا} (¬1) وممن قال: {بل وجدنا آباءنا كذالك يفعلون} (¬2) وغيرهم من الضلال الماضين .... انتهى. وأقول: قد أسلفت لك أيها الناظر في هذا المختصر ما صدر عن هؤلاء المخذولين من المقالات إلى كل واحدة منها من أكفر الكفر كقولهم بالإتحاد وتخطئة الأنبياء وتصويب الكفار ورفع أنفسهم على الأنبياء وكلامهم على القرآن فلا أزيدك على ذلك ولنقتصر على هذا المقدار فإن داء لا يشفيه هذا الدواء لداء عضال وسما لا يبرى من تلهبه هذا الترياق لسم قتال. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم فرغ من تحريره مؤلفه الحقير محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما في يوم الاثنين ثاني وعشرين من شهر رجب سنة 1205 هـ. ¬

(¬1) [الزمر: 3]. (¬2) [الشعراء: 74].

بحث في التصوف

بحث في التصوف تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط 1 - عنوان الرسالة: " بحث في التصوف ". 2 - موضوع الرسالة: معنى التصوف المبتدع. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. سأل كاتبها حسين بن قاسم المجاهد وفقه الله سيدي مولاي العلامة التحرير شيخ الإسلام وبدره محمد بن علي الشوكاني حفظه الله وأمتع المسلمين بحياته آمين امن .. 4 - آخر الرسالة: فمحبة الصالحين قربة لا تمهل، وطاعة لا تضيع وإن لم يعمل كعملهم، ولا جهد نفسه كجهدهم لأنفسهم وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. والحمد لله أولا وآخرا والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ورضي الله عن صحبه الراشدين ". 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - عدد الأوراق: (5) ورقات وهي ضمن المجلد الخامس من الفتح الرباني. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 17 - 19 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 8 - 11 كلمة. 9 - الناسخ؛ المؤلف محمد برت على الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم [نص السؤال] سأل كاتبها حسن بن قاسم (¬1) المجاهد- وفقه الله- سيدي مولاي العلامة النحرير، شيخ الإسلام وبدره محمد بن علي الشوكاني- حفظه الله-، وأمتع المسلمين بحياته- آمين آمين. مضمونة: ما زال يخطر بذهن محبكم من شأن المتصوف شيئا، هل عليه دليل أو من قال وقيل؟ وهل العلم علمان باطن وظاهر؟ والباطن يسمونه الطريقة والوصول إلى معرفته على تلك المراتب الذي رتبوها إلى حد الوصول، وكلام أهل المذهب معروف، وبعض علماء الشافعية يقول: ما للشرع عليه اعتراض فهو مختون. وقد أوسع المقبلي (¬2) بالعلم الشامخ (¬3) في هذا البحث. وللعلامة الزمخشري (¬4) مادة عند قوله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله} (¬5) إلخ. وإذا ظهر ما يخالف كما يقولون لهم المعنى الخ. وأن كلما ¬

(¬1) الحسن بن قاسم المجاهد القاضي العلامة الذكي ولد تقريبا سنة 1190 مسكنه هو وأهله في مدينة ذي جبلة انتقلوا إليها من مدينة ذمار له مشاركة في علم الحديث وفهم جيد، قرأ علي عند وصولي مدينة جبلة مع مولانا الإمام المتوكل على الله في الحديث والأصول ولازمني مدة إقامتي في تلك المدينة من جملة من لازمني من أهلها للقراءة وقد أجزت له أن يروي عني مروياتي. وقد كتب بعض مروياتي وهو أهل لذلك لرغوبه إلى العلم وإكبابه عليه، وقد كتب بعض مؤلفاتي كالدرر، والدراري، والفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، وحاشية شفاء الأوام، والسيل الجرار وغير ذلك. وله سماعات على عند قدومه إلى صنعاء. انظر: البدر الطالع (1/ 224). (¬2) تقدمت ترجته في رسالة " الصوارم الحداد " رقم (24). (¬3) (532 - 603). (¬4) في الكشاف (1/ 546 - 547). (¬5) [آل عمران: 31].

صدر منهم عبادة فإما كرامات الأحياء الخارقة وإما الإخبار. مما سيكون من طريق التحدث كما ثبت، وكما كان عمر (¬1) - رضي الله عنه - (¬2) فمن حسناتكم وتفضلاتكم الإفادة- كثر الله فوائدكم، وأمتع الله المسلمين بحياتكم- آمين آمين. ¬

(¬1) يشير السائل- رحمه الله- إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (3469) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون، وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإن عمر بن الخطاب ". قال الحافظ في الفتح (7/ 50): محدثون بفتح الدال جمع محدث، واختلف في تأويله فقيل: ملهم، قاله الأكثر. قالوا: المحدث بالفتح هو الرجل الصادق الظن، وهو من ألقى في روعه شيء من قبل الملا الأعلى فيكون كالذي حدثه غيره به وهذا جزم أبو أحمد العسكري. وقيل من يجري الصواب على لسانه من غير قصد، وقيل مكلم أي تكلمه الملائكة بغير نبوة، وهذا ورد من حديث أبي سعبد الخدري مرفوعًا ولفظه: " قيل يا رسول الله وكيف يحدث، قال كتكلم الملائكة على لسانه ". رويناه " فوائد الجوهري " وحكاه القابسي وآخرون ويؤيده ما ثبت في الرواية المعلقة، ويحتمل رده إلى المعنى الأول أي تكلمه في نفسه وإن لم ير مكلما في الحقيقة فيرجع إلى الإلهام ... ". وأخرجه مسلم في صحيحة رقم (23/ 2398) من حديث عائشة. (¬2) في الأصل بياض.

بسم الله الرحمن الرحيم [1 أ] الجواب: اعلم- وفقني الله وإياك- أن معنى التصوف (¬1) المحمود هو الزهد (¬2) في الدنيا، حتى يستوي عنده ذهبها وترابها، ثم الزهد فيما يصدر عن الناس من المدح والذم حتى يستوي عنده مدحهم وذمهم، ثم الاشتغال بذكر الله- سبحانه- وبالعبادة المقربة لله، فمن كلن هكذا فهو الصوفي حقا، وعند ذلك يكون من أطباء القلوب فيداويها. مما يمحو عنها الطواغيت الباطنية من الكبر، والحسد، والعجب، والرياء، وأمثال هذه الغرائز الشيطانية التي هي أخطر المعاصي، وأقبح الذنوب، ثم يفتح الله له أبوابا كان عنها محجوبا كغيره، لكنه لما أماط عن ظاهره وباطنه الذنوب الذي يصير ها قلبه وحواسه في ظلمة، بل يصير ها جميع ظاهره وباطنه في غشاوة صار جسدا صافيا عن شوب الكدر، مطهرا عن دنس الذنوب، فيبصر ويسمع ويفهم بحواس لا يحجبها عن حقائق الحق حاجب، ولا يحول بينها وبن درك الصواب حائل. ويدل على ذلك أتم دلالة وأعظم ¬

(¬1) تقدم التعريف ها في رسالة " الصوارم الحداد " رقم (24). (¬2) الزهد: قال سفيان الثوري: الزهد قي الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ ولا لبس العباء. وقال الجنيد: سمعت سريا يقول: إن الله عز وجل سلب الدنيا عن أوليائه وحماها عن أصفيائه، وأخرجها من قلوب أهل وداده، لأنه لم يرضها لهم. وقال: الزهد في قوله تعالى: {لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور} [الحديد: 23]. فالذاهب لا يفرح من الدنيا. بموجود ولا يأسف منها على مفقود. وقال الإمام أحمد: الزهد في الدنيا قصر الأمل. وقال ابن تيمية: الزهد ترك مالا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة. انظر مدارج السالكين (2/ 12، 13).

برهان ما ثبت في البخاري (¬1) وغيره (¬2) من حديث [1 ب] أبي هريرة عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة "، وفي رواية " فقد آذنته بالحرب، وما تقرب لي عبدي بختل ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، ونظره الذي ينظر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، بي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي. ولئن استعاذني لأعيذنه. وما ترددت في شيء أنا فاعله توددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه " (¬3). ¬

(¬1) في صحيحة رقم (6502). (¬2) كالبيهقي في الأسماء والصفات (ص 490، 491) وأبو نعيم في الحلية (411) والبغوي في " شرح السنة " رقم (1248). وانظر: تخريجنا لطرق هذا الحديث والكلام عليه في تحقيقنا لكتاب " قطر الولي ". (¬3) قال في جامع العلوم والحكم: " .. لما ذكر أن معاداه أوليائه محاربة له ذكر بعد ذلك وصف أوليائه الذين تحرم معاداتهم، وتجب موالاتهم فذكر ما يتقرب به إليه، وأصل الولاية: القرب، وأصل العداوة: البعد، فأولياء الله هم الذين يتقربون إليه، مما يقرهم منه، وأعداؤه الذين أبعدهم عنه بأعمالهم المقتضية لطردهم وإبعادهم منه فقسم أولياءه المقربين إلى قسمين: أحدهما: ومن تقرب إليه بأداء الفرائض، ويشمل ذلك فعل الواجبات وترك المحرمات، لأن ذلك كله من فرائض الله التي افترضها على عباده. الثاني: من تقرب إليه بعد الفرائض، بالنوافل، فظهر بذلك أنه لا طريق يوصل إلى التقرب إلى الله تعالى، وولايته، ومحبته سوى طاعته التي شرعها على لسان رسوله، فمن ادعى ولاية الله، والتقرب إليه ومحبته بغر هذه الطريق، تبين أنه كاذب في دعواه. فمتى امتلأ القلب بعظمة الله تعالى، محا ذلك من القلب كل ما سواه، ولم يبق للعبد شيء: من نفسه وهواه، ولا إرادة إلا لما يريده منه مولاه فحينئذ لا ينطق العبد إلا بذكره ولا يتحرك إلا بأمره، فإن نطق بالله وإن سمع سمع به وإن نظر، نظر به ..... ". وقال ابن تيمية في " مجموعة الرسائل والمسائل (1/ 50): فولي الله من والاه بالموافقة له في محبوباته ومرضياته وتقرب إليه. مما أمر به من طاعاته ".

ومعلوم أن من كان يبصر بالله- سبحانه-، ويسمع به، ويبطش به، ويمشط به له حال يخالف حال من لم يكن كذلك، لأنها ينكشف له الأمور كما هي، وهذا هو سيد ما مخلى عنهم صت المكاشفة، لأنه قد ارتفع عنهم حجب الذنوب، وذهب عنهم أدران [2 أ] المعاصي. وغيرهم ممن لا يبصر بالله، ولا يسمع به، ولا يبطش به، ولا يمشي به لا يدرك من ذلك شيئا بل هو محجوب عن الحقائق، غير مهتد إلى مستقيم الطرائق كما قال الشاعر: وكيف ترى ليلى بعين ترى بها ... سواها وما ظهرها بالمدامع ويلتذ منها بالحديث وقد جرى ... حديث سواها في خروت المسامع أجلك يا ليلى عن العن إنما ... أراك بقلب خاشع لك خاضع وأما من صفى عن المكدر، وسمع وأبصر فهو كما قال الآخر: الآن وادي الجزع أضحى ترابه ... من المس كافورا وأعواده زبدا وما ذاك إلا أن هند عشية ... تمشت وجرت في جوانبه بردا ومما يدل على هذا المعنى الذي أفاده حديث أبي هريرة حديث: " اتقوا فراسة المؤمن، فإنه يرى بنور الله " وهو حديث صححه الترمذي (¬1)، فإنه أفاد أن المؤمنين من ¬

(¬1) في السنن رقم (3127) من حديث أو سعيد الخدري. وقال الترمذي: هذا حديث غريب إنما تعرفه من هذا الوجه وقد روى عنه بعض أهل العلم. حديث ضعيف من أجل عطية العوفي فإنه ضعيف مدلي وأعله العقيلي في الضعفاء (4/ 129 رقم 1688) فإنه رواه من طريق سفيان عن عمرو بر قيس الملائي قال: " كان يقال " فذكره، وقال: هذا أولى وأخرجه الخطيب في التاريخ (3/ 191) عن العقيلى وقال وهو الصواب والأول وهم. قلت: وقد روي الحديث أيضًا من حديث أبي أمامة وأبي هريرة وعبد الله بن عمر وثوبان. انظر تخريجها في الضعيفة تحت رقم (1821).

عباد الله يبصرون بنور الله- سبحانه- وهذا معنى ما في الحديث الأول من قوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- نجي يبصر. فما وقع من هؤلاء القوم الصالحين من المكاشفات هو من هذه الحيثية الواردة في الشريعة المطهرة. وقد ثبت أيضًا في الصحيح (¬1) عنه- صلى الله عليه واله وسلم- أنه قال " إن في هذه الأمة محدثين، وأن منهم عمر " ففي هذا الحديث الصحيح فتح باب المكاشفة لصالحي عباد الله، وأن لك من الله- سبحانه-[2 أ] فيحدثون بالوقائع بنور الإيمان الذي هو من نور الله- سبحانه- فتعرفونها كما هي حتى كأن محدثا يخبرهم ها، ويخبرهم. بمضمونها. وقد كان عمر بن الخطاب- ل! لمحبه- يقع له من ذلك الكثير الطيب في وقائع معروفة منقولة في دواوين الإسلام، ونزل بتصديق ما تكلم به القرآن الكريم كقوله- عز وجل-: ما كان النبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض {(¬2) وقوله- سبحانه-:} ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره & (¬3) ¬

(¬1) عند البخاري في صحيحة رقم (3469) من حديث أبي هريرة وقد تقدم لفظه. وأخرجه مسلم في صحيحة رقم (23/ 2398) من حديث عائشة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقول: "قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون. بأن يكن من أمتي منهم أحد، فإن عمر بن الخطاب منهم ". (¬2) [الأنفال: 67]. أخرج مسلم في صحيحة (3/ 1383 - 1385 رقم 58/ 1763) من حديث ابن عباس قال: ... ففما أسروا الأسارى قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي بكر وعمر " ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ " فقال أبو بكر: يا نبي الله هم بنو العم والعشيرة. أرى أن تأخذ منهم فدية. فتكون لنا قوة على الكفار. فعسى الله أن يهديهم للإسلام. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما ترى؟ يا ابن الخطاب قلت: لا. والد يا رسول الله ما أري الذي رأى أبو بكر. ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم. فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه. وتمكن من فلان (نسيبا لعمر) فأضرب عنقه. فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهوى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما قال أبو بكر. ولم يهو ما قلت. فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر قاعدين يبكيان قلت: يا رسول الله! أخبرني من أي شيء تبكى أنت وصاحبك. فإن وجدت بكاء بكيت. وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء. لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه (¬3) [التوبة: 84]

وقوله: {استتغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} (¬1) فمن كان من صالحي العباد متصفا هذه الصفات، متسما هذه السمات فهو رجل المعا لم، وفرد الدهر، وزين العصر. والاتصال به مما تلين به القلوب، وتخشع له الأفئدة، وتجذب بالاتصال به العقول الصحيحة إلى مراضي الرب- سبحانه-، وكلماته هي الترياق المجرب، وأشار به هي طب القلوب القاسية، وتعليماته هي كيمياء السعادة، وإرشاداته هي الموصلة إلى الخير الأكبر، والكرامات الدائمة التي لا نفاذ لها ولا انقطاع. ولم تصف البصائر ولا صلحت السرائر. ممثل الاتصال هؤلاء القوم الذين هم خيرة الخيرة، وأشرف الذخيرة فيا لله قوم لهم السلطان الأكبر على قلوب هذا العالم! يجذبونها إلى طاعات الله- سبحانه- والإخلاص له، والاتكال عليه، والقرب منه، والبعد عما يشغل عنه، ويقطع عن الوصول إليه. وقل أن يتصل هم ويختلط بخيارهم إلا من سبقت له السعادة، وجذبته العناية الربانية ¬

= الشجرة " (شجرة قريبة من نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وأنزل الله عز وجل {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يسخن في الأرض إلى قوله تعالى فكلوا مما غنمتم حللا طيبا} (الأنفال: 67 - 69] أحل الله الغنيمة لهم. (¬1) [التوبة: 80]. أخرج البخاري في صحيحة رقم (1269) ومسلم رقم (2774) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن عبد الله بن أبي لما توفى جاء ابنه إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله أعطني قميصك أكفنه فيه، وصل عليه واستغفر له فأعطاه النبي قميصه، فقال: " آذني أصلي عليه " فآذنه، فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر رضي الله عنه. فقال: أليس الله نهاك أن تصلي على المنافقين؟ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا بين خيرتين، قال: {اشتغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم ستعين مرة فلن يغفر الله لهم} [التوبة: 80]، فصلى عليه فنزلت: {ولا تصل على أحد منهم مات أبد}، [التوبة: 84].

إليهم، لأنهم يخفون أنفسهم ويظهرون في مظاهر الخمول. ومن عرفهم لم يدل عليهم إلا من أذن الله له، ولسان حاله يقول كما قال الشاعر: وكم سائل عن سر ليلى رددته ... بعمياء من ليلى بغير يقين يمولون خيرنا فأنت أمينها ... وما أنا إن خيرتهم بأمين فيا طالب الحير إذا ظفرت يداك بواحد من هؤلاء الذين هم صفوة الصفوة، وخيرة الخيرة فاشددهما عليه، واجعله مؤثرا على الأهل والمال، والقريب والحبيب، والوطن والسكن، فإنا إن وزنا هؤلاء. مميزان الشرع، واعتبرناهم. بمعبر الدين وجدناهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون، وقلنا لمعاديهم، أو القادح في على مقامهم: أنت ممن قال فيه الردب- سبحانه- كما حكاه عنه رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وقد آذنته بالحرب لا (¬1) لأنه لا عيب لهم إلا أنهم أطاعوا الله كما يجب، وآمنوا به كما يحب، ورفضوا الدنيا الدنية، وأقبلوا على الله- عز وجل- في سرهم وجهرهم، وظاهرهم وباطنهم. وإذا فرضنا أن في المدعيين للتصوف من لم يكن هذه الصفات، وعلى هذا الهدى القويم فإن بدا منه ما يخالف هذه الشريعة المطهرة، وينافي منهجها الذي هو الكتاب والسنة فليس من هؤلاء، والواجب علينا رد بدعته عليه، والضرب ها في وجهه كما صح عنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: " كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد " (¬2)، وصح عنه [3 ب]- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: " كل بدعة ¬

(¬1) تقدم تخريجه لي هذه الرسالة. (¬2) أخرجه البخاري رقم (2697) ومسلم رقم (1718) وأحمد (6/ 73، 270) وأبو داود رقم (4606) وابن ماجة رقم (14) والدارقطني في السنن (4/ 224 - 225، 227) والبيهقي (10/ 119) والقضائي في مسند الشهاب (1/ 231 رقم 359) وابن عدي في الكامل (1/ 247) والطالسي في المسند (ص 302 رقم 1422) وابن حجر في " تغليق التعليق " (3/ 398) كلهم من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا بلفظ: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ". وأخرج البخاري في " خلق أفعال العباد " ص 43 واحمد في المسند (146/ 6، 180، 240، 256، 270) والبغوي في شرح السنة (1/ 211 رقم 103) وابن حجر في " تغليق التعليق " (3/ 397) كلهم بلفظ " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ". وأخرج ابن حجر في " تغليق التعليق " (3/ 398) بلفظ: " من فعل أمرا ليس عليه أمرنا فهو رد"

ضلالة " (¬1). ومن أنكر علينا ذلك قلنا له: وزنا هذا. مميزان الشرع (¬2) فوجدناه مخالفا له، ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحة رقم (43/ 867) وأحمد (3/ 310 - 311) والدارمى رقم (210) والبيهقي في الأسماء والصفات رقم (137) والنسائي (3/ 188) من حديث جابر: " ..... فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدفي ضلالة وكل ضلالة في النار ". (¬2) ولهذا كان عمر- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشاور الصحابة رضي الله عنه ويناظرهم ويرجع إليهم في بعض الأمور- وينازعونه في أشياء فيحتج عليهم ويحتجون عليه بالكتاب والسنة، ويقرهم على منازعته ولا يقول لهم: أنا محدث ملهم، مخاطب فنبغي لكم أن تقبلوا مني ولا تعارضوني. وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن كل واحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله وهذا من الفروق بين الأنبياء وغررهم فان الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه يجب لهم الإيمان بجميع ما يخبرون به عن الله، بخلاف الأولياء فإنه لا تجب طاعتهم قي كل ما يأمرون به، ولا الإيمان بجميع ما يخبرون به بل بعرض أمرهم وخبرهم على الكتاب والسنة فما وافق الكتاب والسنة وجب قبوله، وما خالف الكتاب والسنة كان مردودا. انظر " الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان " لابن تيمية (ص 157 - 159). ولذلك يجب على أولياء الله الاعتصام بالكتاب والسنة، وأنه ليس فيهم معصوم يسوغ له أو لغيره إتباع ما يقع في قلبه من غير اعتبار بالكتاب والسنة. ومن خالف هذا إما أن يكون كافرا وإما أن يكون مفرطا في الجهل. . قال أبو القاسم الجنيد- رحمه الله- "علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يقرا القران ويكتب الحديث لا يصح له أن يتكلم في علمنا أو قال: لا يقتدي به ". انظر: الحلية لأبي نعيم (10/ 255) والرسالة القشرية (1/ 134). وفي قوله تعالى: {قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين} " [النور:54]. قال أبو عثمان النيسابوري " من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة ". ذكره أبو نعيم في الحلية (10/ 244) وأبو القاسم القشيري في " الرسالة القشرية " (1/ 139) وابن تيمية في الفرقان (ص 162).

ورددنا أمره إلى الكتاب والسنة فوجدناه مخالفا لهما، وليس الدين إلا كتاب الله- سبحانه-، وسنة رسوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، والخارج عنهما المخالف لهما ضال مضل. ولا يقدح على هؤلاء الأولياء وجود من هو هكذا، فإنه ليس معدودا منهم، ولا سالكا طريقتهم، ولا مهتديا هديهم. فاعرف هذا فإن القدح في قوم. بمجرد فرد أو أفراد منسوبين إليهم نسبة غير مطابقة للواقع لا يقع إلا ممن لا يعرف الشرع، ولا يهتدي هديه، ولا يبصر بنوره. وعلى ذكرنا لحديث: " اتقوا فراسة المؤمن " فذكر قصة متعلقة به ذكرها من يوثق بنقله من أهل التاريخ، وهي أن الجنيد (¬1) - رحمه الله- أذن له شيخه أن يتكلم على الناس في جامع البلد الذي هو فيه بعد صلاة الفجر فاعتذر له بأنه غير فصيح العبارة، وغير صالح لذلك فقال: لا عذر من ذلك. وكان هذا دائرا بينه وبينه في الليل، ولم يكن عندهما أحد، ولا خرج واحد منهما، فوقع التحدث في ذلك البلد بأن الجنيد قد أذن له شيخه أن يتكلم على الناس بعد صلاة الفجر في الجامع، وارتجت المدينة هذا الخبر، فلم ¬

(¬1) الجنيد بن محمد بن الجنيد النهاوندي ثم البغداي القواريري، والده الخزار. هو شيخ الصوفية ولد سنة نيف وعشرين ومئتين وتفقه على أبي ثور وصحب الحارث المحاسبي. انظر: سير أعلام النبلاء (14/ 66 - 70)، الحلية لأبي نعيم (10/ 255 - 287)، صفة الصفوة لابن الجوزي (2/ 416 - 424 رقم 296).

يحضر صلاة الفجر إلا وقد صار ذلك الجامع ممتلئا من الناس، وهم مزدحمون فيه، لأنه وصل إليه من لم يكن معتادا للصلاة فيه شوقا إلى كلام الجنيد، مع أنه لم يكن إذ ذاك في رتبة [4 أ] الشيوخ، بل هي من جملة تلامذة شيخه، ولكن الأسرار الربانية تعمل عملها، والعمل الصاع لا يخفى. فلما فرغ أهل الجامع من الصلاة تهيا الجنيد للكلام، وقد التف عليه الناس حتى كأنهم على موعد لذلك، وكأنه قد صاح بينهم صائح. ما دار بينه وبن شيخه تلك الليلة، فقبل أن يتكلم بدره واحد من بين أولئك المستمعين فقال: يا شيخ، ما معنى قول النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- " اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله " (¬1)؟ فأطرق الجنيد ثم رفع رأسه وقال: أسلم فقد آن لك أن تسلم، فقعد بين يديه وتكلم بالشهادتين، وذكر للجنيد ولذلك الجمع أنه من جملة النصارى الساكنين بذلك البلد، وأنه لما سمع الناس يتحدثون تلك الليل بأن الجنيد سيتكلم في الجامع بعد صلاة الفجر بقي مفكرا، وأدرك في قلبه ميلا إلى الإسلام، وعزم على حضور ذلك الجمع مريدا لاختبار الجنيد هذا الحديث، مع كونه قد لبس لباس الإسلام، وقال في نفسه: إن كاشفني أسلمت فكاشفه. مما تقدم، وصار ذلك الرجل من خيار المسلمين (¬2)، فانظر هذا الكشف من مثل هذا الولي، واعرف به ما عند أفاضل هذه الطائفة من المواهب الربانية، وأسال ربك أن يجعل لك نصيبا مما فاض عليهم من تفضلاته على عباده. اللهم يا رب العالم، ويا خالق الكل، ويا مستوي على عرشك اجعل لنا نصيبا مما مننت به على هؤلاء [4 ب] الصالحين، وتفضلت به عليهم، فالأمر أمرك، والخير خيرك، ولا معطى غيرك. وبالجملة فمن أراد أن يعرف أولياء هذه الأمة، وصالحي المؤمنين المتفضل عليهم بالفضل الذي لا يعدله فضل، والخير الذي لا يساويه خير فليطالع الحلية لأبي ¬

(¬1) تقدم تخريجه في هذه الرسالة. (¬2) ذكر هذه القصة ابن كثير في البداية والنهاية (11/ 122) مختصرة بدون سند.

نعيم (¬1)، وصفوة الصفوة لابن الجوزي. فإنهما تحريا ما صح، وأودعا كتابيهما من مناقب الأولياء المروية بالأسانيد الصحيحة ما يحدث بعضه بصنيع من يقف عليه إلى طريقتهم، والإقتداء بهم. وأقل الأحوال أن يعرف مقادير أولياء الله، وصالحي عباده، ويعلم أفم القوم الذين لا يشقى جليسهم، ولا يغبن من يأتى بهم، ويمشط على طريقتهم، فإن ذلك منه. بمجرده منزع من منازع الخير، ومهتع من مهاتع الرشد. وقد صح عنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: " أنت مع من أحببت " (¬2) فمحبة ¬

(¬1) قال ابن تيمية في " الرد على البكري " (1/ 78): وأبو نعيم يروى في الحلية في فضائل الصحابي، وفي الزهد أحاديث غرائب يعلم أنها موضوعة وكذلك الخطب وابن الجوزي وابن عساكر وابن ناصر وأمثالهم. وقال ابن تيمية في " منهاج السنة " (7/ 34): وما يرويه أبو نعيم في الحلية أو في فضائل الخلفاء .... فقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أن فيما يرويه كثيرا من الكذب الموضوع. وقال الذهبي في الميزان (1/ 111) في ترجمة أبي نعيم الأصبهاني " قال الخطيب: رأيت لأبي نعيم أشياء يتساهل فيها، منها أنه يطلق في الإجازة أخبرنا- ولا يبين. قلت: هذا مذهب رآه أبو نعيم وغيره وهو ضرب من التدليس. وكلام ابن مندة ني أبي نعيم فظيع لا أحب حكايته، ولا أقبل قول كل منهما في الآخر. بل " عندي مقبولان، ولا أعلم لهما ذنبا أكثر من روايتهما الموضوعات ساكتين عنها ". وانظر: لسان الميزان (1/ 201 - 202). (¬2) أخرج البخاري في صحيحة رقم (6171) ومسلم رقم (164/ 2639) من حديث أنس " أن رجلا سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: متى الساعة يا رسول الله؟ قال: " ما أعددت!؟ " قال: ما أعددت لها من كثر صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فأنت مع من أحببت". وفي رواية للبخاري رقم (6167) قلنا: ونحن كذلك؟ قال: نعم. ففرحنا يومئذ بذلك فرحا شديدا". وفي رواية لمسلم رقم (163/ 2639) قال أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحا أشد من قوله: أنت مع من أحببت ".

الصالحين قربة لا همل، وطاعة لا تضيع، وان لم يعمل كعملهم، ولا جهد نفسه كجهدهم لأنفسهم. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية [5 أ] والحمد لله أولا وآخرا، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، ورضي الله عن صحبه الراشدين (¬1) [5 ب]. ¬

(¬1) .. تحذير . لا وألف لا لمفهوم أولياء الله في الفكر الصوفي: قولهم في معنى الولي: وحقيقة الولي أنه سلب من جميع الصفات البشرية ويتحلى بالأخلاق الإلهية ظاهرا وباطنا ". جواهر المعاني (2/ 201). - وقالوا: الولاية هي قيام العبد بالحق عند الفناء عن نفسه. - وقال احد قادة الحركة السلفية في الجزائر: " أما الولي عند الناس اليوم فهو إما من انتصب للإذن بالأوراد الطرقية، ولو كان في جهله بدينه مساويا لحماره، وإما من اشتهر بالكهانة، ولو تجاهر بترك الصلاة وأعلن شرب المسكرات، وإما من انتمى إلى مشهور بالولاية ولو كان إباحيا لا يحرم حراما، وحق هؤلاء الأولياء على الناس الجزم بولايتهم، وعدم التوقف في دخولهم الجنة، ثم الطاعة العمياء ولو في معصية الله، وبذل المال لهم ولو أخل بحق زوجته وصبيته .... وبعد فهم مطلوبون في كل شدة، ولكل محتم هم عدة، وهم حماة للأشخاص وللقرى والمدن كبرها وصغيرها، حاضرها وباديها، فما من قرية بلغت ما بلغت من البداوة أو الحضارة إلا ولها ولي تنسب إليه. فيقال: سيدي فلان هو ولي البلد الفلاني ... ويجب عند هؤلاء الناس أن يكون علماء الدين خدمة لهؤلاء الأولياء مقرين لأعمالهم وأحوالهم غير منكرين لشيء منها وإلا أوذوا بضروب السباب ومستقبح الألقاب، وسلبوا الثقة بعلمهم ووشي هم إلى الحكام وذلك حظ الدعاة إلى السنة من مبتدعي هذه الأمة ". انظر: " الشرك ومظاهره " (ص 122 - 123). و" معجم مصطلحات الصوفية " لعبد المنعم الحفني (ص 269). الفروق الجوهرية بين الولي المعرف في كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي فهم السلف الصالح وعقيدتهم وبين الولي في مفهوم الفكر الصوفي ومن مصادر فكرهم الأصلية: 1/ التطور والتواجد في أماكن مختلفة قي آن واحد. 2/ أن خيال الأولياء في الفكر الصوفي حقيقة حسية واقعة. منها ما ذكره الشعراني من أن الجواهري- قاضى. ممصر ثم أقيل- غطس يوما قي البحر فأخذ يتخيل في غطسته أنه سافر إلى بغداد وتزوج بامرأة هناك فأقام معها شط سنين وولد له أولادا، ثم رفع رأسه من الماء وخرج ولبس ثيابه. وحكى للناس قصته فكذبوه، فلما كان بعد مدة سألت عنه امرأته وسافرت بأولادها إلى مصر، فلما التقيا عرفها وعرفته وعود أولاده، وأقره على ذلك النكاح علماء عصره. فما رأيك أخي القارئ هل هي أسطورة؟ أم خرافة؟. الجواهر والدرر (ص 164)، والطبقات الكبرى (2/ 75). 3/ إباحة مخالفة الشريعة الإسلامية للأولياء قي الفكر الصوفي. مثاله: أن العارفين لمبالغتهم في التخفي يستترون عن العامة بارتكاب الدواهي من الزنا والكذب الفاحش وشرب الخمر وقتل النفس وقال الشيخ التجاني أن ذلك صور لا وجود لها في الخارج. جواهر المعاني (1/ 161). وانظر " قلادة الجواهر " لأبي هدى أفندي (ص 191). 4/ أنهم يعلمون الغيب. يقول أحمد بن المبارك- في معرض سرده لأنواع المعارف التي استفادها من شيخه عبد العزيز الدباغ: " وكذا سمعت منه من المعرفة باليوم الآخر وجميع ما فيه من حشر ونشر وصراط وميزان ونعيم باهر، ما تعرف إذا سمعته أنه بتكلم عن شهود عيان ويخبر عن تحقيق وعرفان فأيقنت حينئذ بولايته العظمى ". . وكما تعلم ليس هذا بغيب أصلا إدا العلم بشيء من دلك مقيد. مما ورد في الكتاب والسنة. قال الشعراني عن شيخه الخواص توله: " العارف له أن يقول: أنا أعرف الآن ما تكتبه الأقلام الإلهية في شأني ويكون صادقا ". " الجواهر والدرر " (ص 210). 5/ أن الولي عندهم يقول للشيء كن فيكون. يقول الشيخ إدريس بن الأرباب: درجات الأولياء على ثلاثة أقسام: عليا، ووسطى، وصغرى. ق لصغرى: أن يطير في الهواء، ويمشط على ظهر الماء وينطق بالمغيبات. والوسطى: أن يعطه الله الدرجة الكونية إدا قال للشيء كن فيكون. الكبرى: وهو درجة القطبائية. 6/ أن الولي عندهم لا بدله من كرامات ظاهرة. ولا يأذن الشيخ للفقير- أي لمريد صوفي- أن يجلس على سجادة إلا إدا ظهرت له كرامة. وقال الشبلي: " كل ولي لا يكون له معجزة فهو كاذب ". " الطبقات الكبرى " (1/ 89). 7/ أنهم يصفون الأولياء. مما يصفون به ربهم. يقول الشعراني: إن الشيخ محمد الحضري- صوفي مصري مجذوب- كان يقول: " الأرض بين يدي كالإناء الذي احمل منه، وأجساد الخلائق كالقوارير أرى ما في بواطنهم ". " الطبقات الكبرى " (2/ 94). وقيل أيضا: " فإن حقيقة العارف الأحاطة بجميع الملائكة وبجميع الموجودات من العرش إلى الفرش، يرها في ذاته فردا فردا، حتى إنه إذا أراد أن يطالع غيبا في اللوح المحفوظ ينظر إليه في ذاته ويفتش فيه ". جواهر المعاني (2/ 76). 8/ أن الولاية في الفكر الصوفي لا مانع من أن يكون بأيدي الأولياء الكبار يعطونها لمن شاعوا. يقول الدباع: " يقدر الولي على أن يكلم أحدا في أذنه ولا يقوم عنه حتى يكون هو والولي في المعارف على حد سواء ". أي جرأة تلك، وقد اتضحت معا لم الهداية والولاية ي الكتاب والسنة وأنها ترتكز- بعد توفيق الله تعالى- على الإيمان والعمل الصاع ليس غير فنجدها عند الصوفية أرحب وأوسع لأن الولي الكبير في هذا الفكر الصوفي الضال يشكل مصنعا لإنتاج الأولياء الصغار. 9/ أنهم يقابلون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقظه. والأغراض التي يقابلون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أجلها متعددة ومتنوعة وأهمها اللقاء به لغرض سؤاله عن الأحاديث وأحكامها تصحيحا وتضعيفا. ولقاء آخر لسؤال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن بشرح له أبيات من الشعر. جواهر المعاني (2/ 153 - 154). 10/ أن الولاية عندهم لها خاتم كما أن للنبوة خاتما. وعقيدة ختم الولاية فكرة صوفية أول من تكلم ها الحكيم الترمذي الذي عالق في القرن الثالث الهجري. وهى عقيدة مضادة لما في الكتاب والسنة إذ أخر الأولياء كما يدل عليه المعنى اللغوي لهذين اللفظين، وكما يفهم من سكوت النصوص الشرعية وعدم ورود شيء بشأنه إنما " هو آخر مؤمن تقي يكون من الناس، وليس هو بخير الأولياء ولا أفضلهم لعدم ورود نص في هذا، بل أفضلهم أبو بكر ثم عمر اللذان ما طلعت الشمس وما غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل منهما بنص الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (11/ 444): لفظ " خاتم الأولياء " باطل لا أصل له وأول من ذكره محمد بن علي الحكيم الترمذي. وقد انتحله طائفة كل منهم يدعى أنه خاتم الأولياء كابن حموية، وابن عربي وبعض الشيوخ الضالين بدمشق وغرها ركل منهم يدعي أنه أفضل من النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بعض الوجوه إلى غير ذلك من الكفر والبهتان، وكل ذلك طمعا في رياسة خاتم الأولياء لما فاتتهم رياسة خاتم الأنبياء، وقد غلطوا، فإن خاتم الأنبياء إنما كان أفضلهم للأدلة الدالة على ذلك، وليس كذلك خاتم الأولياء ". ومن نصوصهم في تفضيل خاتم الأولياء على الأنبياء بأمور: 1/ أن خاتم الأولياء يأخذ علومه عن الله مباشرة بينما لا يأخذ الأنبياء علومهم إلا بواسطة الملك. 2/ أن الرسل لا يستمدون أصرف علومهم إلا من حاتم الأولياء. 3/ تعلق بعض الجهال. مما جرى لموسى مع الخضر عليهما السلام على أن الخضر أفضل من موسى وطردوا الحكم وقالوا: قد يكون بعض الأولياء أفضل من آحاد الأنبياء ... فاحذرهم أي جرأة وقحة ورعونة ... وضلالة. " البحر المحيط " لأبي حيان (6/ 156) فصوص الحكم (ص 30). وتجدر الإشارة إلى أن الفكر السافل ليس مجرد تراث مطوي أو أساطير مهجورة، ولكن الصوفية مازالت ألسنتها تلهج وأقلامهم ترعف ها، تقريرا ودفاعا عنها. وقد حق للمرء أن يتساءل: لم تنشر هذه الأفكار والتصورات على أمة الإسلام وشبابها؟ إن لم يكن لأجل تخدير عقولهم حتى تكون مهيأة لقبول كل ما يلقى عليها مهما كان فيه من تجاوزات ولأحل أن يتمكن العدو المتربص من القضاء على قوتهم وسلطانهم بعد القضاء على حصنهم الحصين الذي هو عقيدتهم. ولدحض تلك الأفكار المنحرفة المشركة الضالة المضلة اقرأ الكتب التالية: - " مجموع فتاوى " (5/ 11 - وما بعدها) لابن تيمية و (2/ 171 - 172). - تلبيس إبليس لابن تيمية. - مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية، وبغية المرتاد- لابن تيمية. - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية. - تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي عرض وتحليل على ضوء الكتاب والسنة- تأليف محمد أحمد لوح. - مظاهر الانحرافات العقيدية عند الصوفية وأثرها السيئ على الأمة الإسلامية. تأليف: إدريس محمود إدريس. - مصرع التصوف أو تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي للعلامة برهان الدين البقاعي. تحقيق، عبد الرحمن الوكيل.

بحث في الاستدلال على ثبوت كرامات الأولياء

بحث في الاستدلال على ثبوت كرامات الأولياء تأليف محمد بن على الشوكاني حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه محفوظة بنت على شرف الدين أم الحسن

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: بحث في الاستدلال على كرامات الأولياء. 2 - موضوع الرسالة: في العقيدة. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الأكرمين اعلم أن ما يحدث من أولياء الله سبحانه من الكرامات ... 4 - آخر الرسالة: وهذه الأحاديث كلها في الصحيح. وفي هذا المقدار كفاية بل في بعضه ولله الحمد. 5 - نوع الخط: خط نسخط جيد. 6 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني. 7 - عدد أسطر الرسالة: 41 سطرا، في الصفحة الأولى (25) سطرا. وفي الصفحة الأخيرة (16) سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 9 - 10 كلمة تقريبا. 9 - الرسالة من المجلد الرابع من " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني ".

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الأكرمين. اعلم أن ما يحدث من أولياء (¬1) الله- سبحانه- من الكرامات (¬2) الظاهرة التي لا شك ¬

(¬1) تقدم الكلام على الأولياء والتعريف هم. ونذكر معك: أن الولي: القرب، والدنو والولي الاسم منه والمحب والصديق والنصير. القاموس (ص 1732). وقال ابن تيمية في " الفرقان بين أولياء الرحمن والشيطان (ص 6): والولاية ضد العداوة واصل الولاية المحبة والقرب، وأصل العداوة البغض والبعد وقد قيل: إن الولي سمى وليا من موالاته للطاعات .. والولي: القريب. (¬2) الكرامة في اللغة. يقال كرم الرجل كرما وكرامة فهو كريم، فتكون الكرامة مصدرا، ويقال كرمه وكرمه تكريما وإكراما وكرامة فتكون اسم مصدر. اللسان (12/ 75). الكرامة في الشرع: هي ظهور أمر خارق للعادة من قبل شخص غر مقارف لدعوى النبوة، فما لا يكون مقرونا بالإيمان والعمل الصالح يكون استدراجا، وما يكون مقرونا بدعوة النبوة يكون معجزة ". وقيل: الفعل الخارق الذي يظهر على أحد من غير تحد يسمى الكرامة ". وهذا التعريف قاصر غير مانع لأن من شأن الساحر أن يظهر على يديه خوارق للعادات من غر أن يتحد لعلمه أن هناك غره من السحرة. وجملة القول في توضيح معنى الكرامة في الشرع أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى خلق الكون وسيره على سنن محكمة مطردة لا تتخلف ولا تتعارض وربط المسببات بأسبابها، والنتائج. بمقدماتها، وأودع في الأشياء خواصها فجعل النار- مثلا للإحراق، والماء للإرواء .... ثم إن هذا النظام الكوني البديع المتناسق يجرى على العادة التي ألفناها جاريا عليها، فإذا حصل أن رأينا المسبب من غرر أسباها، ووجدنا أن النتيحة لم ترتبط. بمقدماتها كان ذلك خرقا لهذه العادة المألوفة، فيبقى النظر فيمن حصلت على يديه هذه الخارقة من حيث الصلاح وعدمه. وفي هذه الخارقة هل يصلح ظهورها على يد ولي أولا، وفي الغرض الذي ظهرت هذه الخارقة لأجل تحقيقها. وبنتيجة هذا النظر الشرعي المحض نتمكن من الحكم على الخوارق عما إذا كانت كرامة أم معجزة أم أنها استدراج أم من الأحوال الشيطانية. الخلاصة: أن الكرامة: أمر خارق للعادة يجريها الله على يد ولي من أوليائه قاصر عن النبوة في الرتية، معونة له على أمر ديني أو دنيوي ". التعريفات (ص 184) "شرح العقيدة الواسطية " (ص 168). الكواكب الدرية للمناوي (1/ 8). الفرق بين المعجزة والكرامة: المعجزة: وهى عبارة عن الفعل الذي يدل على صدق مدعى النبوة في وقت تتأتى فيه، وحميت معجزة لأن البشر يعجزون عن الإتيان. بما هذا سبيله فصار كأنه أعجزهم. 1/ المعجزة لابد من اقترافا بدعوى النبوة وهذا ما يميزها عن الكرامة. 2/ أن المعجزة يستشهد ها الرسول لدعم دعواه إذ يتوقف إيمان قومه عليها بخلاف صاحب الكرامة لا يجب عليه إظهار الكرامة بل يستحس سترها. فهو يدعو إلى شرع قد ثبت وتقرر على يد رسول فلا يحتاج إلى إظهار كرامة على أن يتبعه الناس على ما دعاهم إليه. قال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (11/ 30): "والفرق بين المعجزة والكرامة أن الكرامة مع شرطها الاستتار والمعجزة من شرطها الإظهار وقيل: الكرامة ما تظهر من غير دعوى والمعجزة ما تظهر عند دعوى الأنبياء فيطالبون بالبرهان فيظهر أثر ذلك. الفرق بين الكرامة والأحوال الشيطانية كالسحر والشعوذة. 1/ النظر في مدى متابعة صاحب الخوارق للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فمتى وجدنا الشخص تحالفا للشرع متلبسا بالبدع علمنا أن ما يجرى على يديه من هذه الأمور ليست بكرامة. بل هي استدراج وإما من أعمال الشياطين. قال تعالى: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} [الأنعام: 121]. قال السبكي: إن أهل القبلة متفقون على أن الكرامات لا تظهر على الفسقة الفجرة، وإنما تظهر على المتمسكين بطاعة الله عز وجل ". 2/ أن الكرامات لا تجدي فيها التعلم والتعليم ولا تكون. بمزاولة أعمال مخصوصة يتقنها صاحبها بخلاف الشعوذة والكهانة. 3/ من السمات التي يعرف ها الخوارق الشيطانية ما يحصل بين هذه الخوارق من معارضة بعضها بعض. ذلك لأنها ليست خاضعة لتوجيه الشرع ولم تستعمل لتحقيق هدف موحد سليم فصارت تحت تصرف الأهواء والتوجيهات الشيطانية. فتحد بعضهم يعارض البعض لغرض إبراز المهارات في المكر والخديعة. وهذا يخالف حال أولياء الله تعالى. قال ابن تيمية في " مجموع فتاوى (11/ 295): وهؤلاء العباد الزهاد الذين ليسوا من أولياء الله المتقين للكتاب والسنة تقترن بهم الشياطين فيكون لأحدهم من الخوارق ما يناسب حاله لكن خوارق هؤلاء يعارض بعضها بعضا ". 4/ قال ابن تيمية في " مجموع فتاوى " (11/ 295): ولابد أن يكون في أحدهم من الكذب جهلا وعمدا ومن الإثم ما يناسب حال الشياطين المقترنة هم ليفرق الله بذلك بين أولياءه المتقين، وبن المتشبهين هم من أولياء الشياطين قال تعالى: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم} [الشعراء: 221 - 222] الأفاك: الكذاب. الأثيم: الفاجر ". 5/ أن أهل الأحوال تنصرف عنهم شياطينهم وتبطل أعمالهم وشعوذتهم إذا ذكر عندهم ما يطردها- أية الكرسي. قال ابن تيمية في " الفرقان " (ص 135): ولهذا إذا قرأها يعني آية الكرسي- الإنسان عند الأحوال الشيطانية بصدق أبطلها ". وذلك بخلاف كرامات أولياء الله فإن القرآن لا يبطلها بل يزيدها قوة على قوة ونورا على نور. انظر: " مجموع فتاوى " لابن تيمية (11/ 286،293).

فيها ولا شبهة هو حق صحيح لا يمتري فيه من له أدنى معرفة بأحوال صالحي عباد الله المخصوصين منه بالكرمات التي أكرمهم، وتفضل ها عليهم. ومن شك في شيء من ذلك نظر في كتب الثقات المدونة في هذا الشأن " كحلية الأولياء " (¬1) لأبي نعيم، ¬

(¬1) قال ابن تيمية في منهاج السنة النبوية (4/ 15): " إن أبا نعيم روى كثرا من الأحاديث التي هي ضعيفة بل موضوعة باتفاق علماء الأحاديث وأهل السنة والشيعة، وهو وان كان حافظا ثقة كثير الحديث واسع الرواية، لكن روى كما هو عادة المحدثين يررون ما في الباب لأجل المعرفة بذلك، وإن كان لا يحتج من ذلك إلا ببعضه ". وقال ابن تيمية في الرد على البكري (ص 19): وأبو نعيم يروى في الحلية في فضائل الصحابة وفي الزهد أحاديث غرائب يعلم أنها موضوعة. وقال: صاحب السنن والمبتدعات "الشقيري " (ص 243): "فيها طامات ورزايا وأباطيل وأكاذيب. وانظر: كتب حذر منها العلماء (2/ 213 - 215).

والرسالة " (¬1) للقشيري، و" صفوة الصفوة " (¬2) لابن الجوزي، و" طبقات الأولياء " للشرجي، وكتاب " روض الرياحين (¬3) في حكايات الصالحين " لليافعي، وسائر الكتب ¬

(¬1) الرسالة القشيرية: هي من كتب المتصوفة والتي تعتبر أحد مصادر " إحياء علوم الدين " للغزالي. (¬2) قال ابن الجوزي في مقدمة الصفوة (ص 20 - 32) بعد ذكره مساوى " الحلية " ما فاتت الحلية من أشياء- " وقد حداني جدك أيها المريد في طلب أخبار الصالحين وأحوالهم أن أجمع لك كتابا يغنيك عنه - أي عن الحلية- ويحصل لك المقصود منه، ويزيد عليه بذكر جماعة لم يذكرهم- وأخبار لم ينقلها، وجماعة ولدوا بعد وفاته وينقص عنه بترك جماعة قد ذكرهم لم ينقل عنهم كبير شيء وحكايات قد ذكرها، فبعضها لا ينبغي التشاغل به، وبعضها لا يليق بالكتاب على ما سبق بيانه " نذكرها لك باختصار. 1 / ذكر أسماء لم يترجم لأصحابها. 2/ ذكر ما لا يليق بالكتاب. 3/ الإطالة فيما يروى من الأحاديث، السجع البارد. 4/ ذكر أحاديث باطلة. 5/ إضافة التصوف إلى غر الصحابة. 6/ ذكر أشياء عن الصوفية لا يجوز فعلها. 7/ خلط التراجم. 8/ إطالة الكلام فيما لا طائلة فيه. 9/ عدم ذكره لقدوة الخلق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. تلك مساوئ " الحلية " التي ذكرها ابن الجوزي فأراد " بالصفوة " تلافي تلك العيوب. (¬3) روض الرياحين في حكايات الصالحين، لأبي السعادات عبد الله بن أسعد اليافعي (ت 768 هـ). ذكر فيه صاحبه منامات الصالحين، وضمنه مخالفات ظاهرات وعبارات فيها غلو في الصالحين، وفي أعيان المتصوفة المتأخرين. ففيه مثلا (ص 229): جواز الدروشة والذكر المبتدع. وفيه (ص 176): أن الله باهى موسى وعيسى- عليهما السلام- بابي حامد الغزالي. وفيه (ص 169) تصريح بالكشف. وفيه (ص 34 - 35) مجالسة شيبان الراعي مع الشافعي وأحمد وهو خبر كاذب. وقد أفئ محمد بن عبد الوهاب بحرف هذا الكتاب وكان يسميه روض الشياطين. انظر " دعاوى المناوئين (ص 95 - 97)، كتب حذر منها العلماء (2/ 198 - 200).

المصنفة في تاريخ العالم، فإن كلها مشتملة على تراجم كثير منهم، ويغني عن ذلك كله ما قصه الله- عز وجل- في كتابه العزيز عن صالحي عباده الذين لم يكونوا أنبياء كقصة ذي (¬1) القرنين، وما قيأ له مما تعجز عنه الطباع البشرية، وقصة مريم كما حكاه - سبحانه- بقوله: {كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا ... إلى آخر الآية} (¬2) وقوله: {وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا} (¬3) ولم يكن في وقت وجود الثمر على النخل. ومن ذلك قصة أصحاب الكهف، فقد قص الله علينا فيها أعظم كرامة، وقصة آصف بن برخيا حيث حكى عنه- عز وجل- قوله: {قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك} (¬4) وغير ذلك مما حكاه- سبحانه- عن غير هؤلاء. والجميع ليسوا بأنبياء، وثبت في الأحاديث الثابتة في الصحيح (¬5) مثل حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة، وحديث (¬6) جريج الراهب الذي كفمه الطفل، وحديث (¬7) المرأة التي قالت ¬

(¬1) انظر سورة الكهف (83 - 100). (¬2) [آل عمران: 37] (¬3) [مريم: 25] (¬4) [النمل: 40] (¬5) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (3465) ومسلم في (2743) وقد تقدم. (¬6) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (1206) وأطرافه [2482، 3436، 3466] ومسلم في صحيحة رقم (2550) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬7) أخرجه البخاري رقم (3436) ومسلم في صحيحة رقم (8/ 2550) من حديث أبي هريرة " .. وبينا صبي يرضع من أمه فمر رجل راكب على دابة فارهة وشارة حسنة فقالت أمه اللهم اجعل ابني مثل هذا فترك الثدي واقبل بليه فنظر إليه فقال: اللهم لا تجعلني مثله ثم أقبل على ثديه فجعل يرتضع قال فكأني انظر إلى رسول الله وهو يحكى ارتضاعه بإصبعه السبابة في فمه فجعل يمصها قال ومروا بجارية وهم يضربونها ويقولون زنيت سرقت وهي تقول حسبي الله ونعم الوكيل فقالت أمه اللهم لا تجعل ابني مثلها فترك الرضاع ونظر إليها فقال اللهم اجعلني مثلها فهناك تراجعا الحديث فقالت حلقى، مر رجل حسن الهيئة فقلت اللهم اجعل ابني مثله فقلت اللهم لا تجعلني مثله ومروا هذه الأمة وهم يضربونها ويقولون زنيت سرقت فقلت اللهم لا تجعل ابني مثلها فقلت اللهم اجعلني مثلها قال: إن ذاك الرجل جبار فقلت اللهم لا تجعلني مثله وان هذه يقولون لها زنيت ولم تزن وسرقت ولم تسرق فقلت اللهم اجعلني مثلها.

سائلة لله- عز وجل- أن يجعل الطفل التي ترضعه فأجاب الطفل عليها. مما أجاب، وحديث (¬1) البقرة التي كلمت من أراد أن يحمل عليها، وقالت: إني لم أخلق لهذا. ومن ذلك [1 ب] وجود القطف من العنب عند خبيب (¬2) الذي أسرته الكفار، وحديث أن أسيد بن (¬3) حضير، ................ ¬

(¬1) لم أعثر عليها. (¬2) خبيب بن عدي بن مالك بن عامر الأوسي الأنصاري، شهد بدرا واستشهد في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أخذه المشركون أسرا في مكة، فقتله بنو الحارث، وكان خبيب قد قتل الحارث بن عامر في بدر. الإصابة رقم (2224) وأسد الغابة (2/ 113). وأخرج قصة خبيب البخاري في صحيحة رقم (3045) من حديث أبي هريرة وفيه عن عبيد الله ابن عياض " أن بنت الحارث أخبرته .... .. والله ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب، والله لقد وجدته يوما يأكل من قطف عنب، في يده وإنه لموثق في الحديد وما بمكة من تمر وكانت تقول إنه لرزق من الله رزقه خبيبا فلما خرجوا من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم خبيب: ذروني اركع ركعتين ثم قال: لولا أن تظنوا أن ما لي جزع لطولتها، اللهم أحصهم عددا. ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي شق كان لله مصرعي (¬3) أسيد بن حضير بن سماك بن عتيك بن امرئ القيس الأنصاري الأشهلي- أبو يحيى. وكان أبو حضر فارس الأوس ورئيسهم يوم بعاث، وكان أسيد من السابقين إلى الإسلام، وهو أحد النقباء ليلة العقبة واختلف في شهوده بدرا، وشهد أحدا والمشاهد بعدها، آخى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينه وبين زيد بن حارثه وكان من أحسن الناس صوتا في القرآن. توفي سنة 20 هـ ودفن بالبقيع. الإصابة رقم (185) أسد الغابة (1/ 92).

وعباد بن (¬1) بشر خرجا من عند النبي- صلى الله عليه واله وسلم- في ليلة مظلمة ومعهما مثل المصباحين، وحديث (¬2) "رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره "، وحديث (¬3): " لقد كان فيمن قبلكم محدثون:، وحديث (¬4): " إن في هذه الأمة محدثين، وإن منهم عمر "، ومن ذلك كون سعد بن أبي (¬5) وقاص مجاب الدعوة. وهذه الأحاديث كلها ثابتة في الصحيح، وورد لكثير من (¬6) الصحابة- رضي الله عنهم - ¬

(¬1) عباد بن بشر بن وقش الأنصاري- أبو بشر- أسلم بالمدينة على يد مصعب بن عمير قبل الهجرة، وشهد بدرا وما بعدها، وكان ممن قتل كعب بن الأشرف، قتل يوم اليمامة شهيدا سنة 12 هـ وعمره حمس وأربعون سنة. الأعلام للزركلى (7/ 253) البداية والنهاية (6/ 380). أخرج البخاري في صحيحة رقم (3805) عن أنس رضي الله عنه " أن رجلين خرجا من عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي ليلة مظلمة وإذا نور بين أيديهما حتى تفرقا فتفرق النور معهما ". وقال معمر بن ثابت عن أنمى " إن أسيد بن حضير ورجلا من الأنصار ". وقال حماد أخبرنا ثابت عن أنس " كان أسيد بن حضير وعباد بن بشر عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2622) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) أخرجه الترمذي في السنن رقم (3751) من حديث سعد أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قال: اللهم استجب لسعد إذا دعاك. قال أبو عيسى: وقد روى هذا الحديث عن إسماعيل عن قيس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " اللهم استحب لسعد إذا دعاك ". وهذا أصح. (¬6) (منها) ما أخرجه البخاري في صحيحة رقم (3898) ومسلم في صحيحة رقم (138/ 1610) عن سعيد بن زيد بن عمرو بن فقال أن أروى خاصمته في بعض داره فقال: دعوها وإياها، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من أخذ شبرا من الأرض بغر حقه، طوقه في سبع أرضين يوم القيامة " اللهم إن كانت كاذبة، فأعم بصرها واجعل قبرها في دارها. قال: فرايتها تلتمس الجدر تقول: أصابتني دعوة سعيد بن زيد، فبينما هي تمشي في الدار مرت على بئر في الدار، فوقعت فيها، فكانت قبرها. (ومنها): ما أخرجه البخاري في صحيحة ررقم (4093) عن أبي أسامة قال: قال هشام ابن عروة، فأخبرني أبي قال: لما قتل الذين ببئر معونة، وأمر عمرو بن أمية الضمري، قال له عامر ابن الطفيل: من هذا؟ فأشار إلى قتيل، فقال له عمرو بن أمية: هذا عامر بن فهرة فقال: لقد رأيته بعدما قتل رفع إلى السماء حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض. (ومنها): ما أخرجه البخاري في صحيحة رقم (5018) ومسلم في صحيحة رقم (242/ 796) من حديث أبي سعيد الخدري " أن أسيد بن حضر، بينما هو، ليلة، يقرأ في مربده إذ جالت فرسه، فقرأ. ثم جالت أخرى. فقرأ، ثم جالت أيضا. قال أسيد: فخشيت أن تطأ ير فقمت بليها فإذا مثل الظلة فوق رأسي فيها أمثال السرج، عرجت في الجو حتى ما أراها، قال فغدوت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت يا رسول الله بينما أنا البارحة من جوف المجل أقرا قي مربدي. إذ جالت فرسي، فقال رسول الله " اقرأ ابن حضير" قال: فقرأت، ثم جالت أيضا. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اقرأ ابن حضير " قال: فانصرفت، وكان يحيى قريبا منها، خشيت أن تطأه، فرأيت مثل الظلة. فيها أمثال السرج عرجت في الجوحتي ما أراها، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تلك الملائكة كانت تستمع لك، ولو قرأت لأصبحت يراها الناس، ما تستتر منهم".

كرامات قد اشتملت عليها كتب الحديث والسير، ومن ذلك الأحاديث الواردة في فضلهم والثناء عليهم كما ثبت في الصحيح (¬1) أنه قال رجل: أي الناس أفضل يا رسول الله؟ قال: " مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله " قال: ثم من؟ قال: " ثم رجل يعتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه ". وحديث (¬2): " من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ". وحديث (¬3): " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ". وحديث (¬4): ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (2786) ومسلم في صحيحة رقم (123/ 1888). من حديث أبي سعيد. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (6416). والترمذي رقم (2333) وابن ماجة رقم (4114) والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 369) من حديث ابن عمر رضي الله عنه. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (5196) ومسلم في صحيحة رقم (2736). من حديث أسامة رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " قمت على باب الجنة، فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد محبوسون غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار، وقمت على باب النار، فإذا عامة من دخلها النساء.

" قمت على باب الجنة فكان من دخلها المساكين ". وهذه الأحاديث كلها في الصحيح. وفي هذا المقدار كفاية، بل في بعضه، ولله الحمد [2 أ]

بحث في حكم المولد

بحث في حكم المولد تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: بحث في حكم المولد. 2 - موضوع الرسالة: بدعة المولد. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبيه الأمين، وآله الطاهرين، مولاي العلامة الأخ في الله المحب لآل رسول الله عز المعالي: محمد بن علي الشوكاني حفظه الله وعافاه والسلام عليه ورحمة الله وبركاته تغشاه ... 4 - آخر الرسالة: وأرحنا من هذه الأوساخ التي كدرت صفوة الدين المتن، انتهى من تحريره المجيب محمد بن علي الشوكاني، وفقه الله لما يحبه ويرضاه بحق محمد وآله وصحبه، من شهر ربيع الأول سنة 1206. 5 - نوع الخط: خط نسخط جيد. 6 - عدد الصفحات: (8) صفحات. الأولى: 10 أسطر. الثانية: 28 سطرا. الثالثة: 25 سطرا. الرابعة: 24 سطرا. الخامسة: 26 سطرا. السادسة: 26 سطرا. السابعة: 27 سطرا. الثامنة: 5 أسطر. 7 - عدد الكلمات في السطر: 10 - 12 كلمة. 8 - الرسالة من المجلد الأول من " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني ".

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على نبيه الأمن، وآله الطاهرين، مولاي العلامة الأخ في الله المحب لآل رسول الله، عز المعالي محمد بن على الشوكاني- حفظه الله، وعافاه- والسلام عليه ورحمة الله وبركاته تغشاه. خطر ببال المحب الحقير تحرير المذاكرة هذه فيما حدث في هذه السمنة من البدع الشنيعة من الاجتماعات الباطلة، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة. فإن هذه الأيام حدثت في هذه المدينة المعمورة بالعلماء الأعلام، والزيدية الكرام حوادث أحدثها السفهاء والسوقة مثل محسن مسعود النشاد، وجماعته من إحداث شيء يسمونه المولد، فيجتمعون على ذلك الصغار والكبار، ويرفعون الأصوات بالتهليل والتضجيع، والترجيع، ويخرجون إلى خارج الدار المجتمعين فيها مع تسريج الشمع [1] والزفاف، واختلاط النساء والرجال بالتهليل، والنساء بالمحجرات رافعات الأصوات حتى يدخلوا الدار المجتمعين فيها، قد شاهدنا ذلك كرارا في حارة الفليحي (¬1) في بيت رجل يسمى المحفدي من أهل سوق السليط، وانقضوا المتفرجين عليهم من كل جهة، وهم بالزفاف مع تسريج الشمع في الزفاق إلى داخل البيت المذكور، ثم يقومون قيام منتظرين لوصول سيد الأنام يقولون: مرحبا يا نور عيني، مرحبا يا نور عيني، رافعين بذلك الأصوات صغيرهم والكبير خاضعين بالسكينة والوقار، والعوام يتطفعون لرؤية المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام على جمعة التخمين. وهل رأيت، وهل بصرت في زمن ... حمل البوازل محمولا على جعل ¬

(¬1) الفليحي: بنو الفليحي قرية من بلاد ثلاء من عزلة المصانع الخارجية منها الحاج أحمد الفليحي الذي ينسب إليه مسجد الفليحي بصنعاء وبنو فليح: من بيوت العلم في الجند منهم أبو عبد الله محمد بن عمر ابن جعفر بن فليح المتوفى سنة 706 هـ ترجمه الشرجي قال: وهو جد بنو فليح الذين كانوا يسكنون مدينة الجند يقال إنه كان فيهم قديما ستة عشر معمما يحرجون من شارع واحد. معجم البلدان والقبائل اليمنية (ص 498).

نعم حتى أنه لما كان ثاني عشر شهرنا هذا ربيع الأول حصل الإجتماع في بيت رجل من سوق المزربنين، وأخبرني بعض الثقات أنهم حضروا جماعة من أعيان الدولة (¬1) ومن جملة من حضر سيدي العلامة على بن أحمد بن إسحاق (¬2)، والسيد يحيى الحوثي (¬3)، وجماعة من أعيان أهل العلم، حتى أنه بلغ أن سيدي على بن أحمد بن إسحاق زخرف لهم مؤلفا في صحة ذلك وتجويزه، ولم أزل أطلب ذلك فما ظفرت به، فما أدري ما استناده في ذلك، هل سنة مأثورة، أو آية من آيات ربي مشهورة، أو الاقتداء بالملك المظفر أبي سعيد الكوكبوري (¬4) المحدث لذلك، ولأجله صنف. . . . . . . . . ¬

(¬1) في حاشية المخطوط [وأجازه (أ) على ذلك ألف دينار] [فما] (س) أفسد الناس إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها (ج) (أ) وأول من ألف في المولد هو أبو الخطاب بن دحية سماه: [لتنوير في مولد البشر النذير] قدمه للملك المظفر فأجازه بألف دينار ذهبا. انظر رسائل في " حكم الاحتفال بالمولد النبوي " (1/ 362). (ب): كذا في المخطوط وصوابه (هل) انظر المصدر السابق (1/ 92). (ب): وهو من شعر عبد الله بن المبارك المصدر نفسه (1/ 92). (¬2) على بن أحمد محمد بن إسحاق بن الإمام المهدي لدين الله أحمد بن الحسن بن الإمام القاسم بن محمد الحسني اليمني، الصنعاني، عالم، شاعر، أديب سياسي مولده بصنعاء سنة 1150 هـ مات بصنعاء سنة 1220 هـ. من مصنفاته:- بشرى الكئيب بالفرج القريب. - اتحاف السائل بجواب الثلاث المسائل. انظر أعلام المؤلفين الزيدية (ص 659). البدر الطالع (ص 861). (¬3) يحيى بن محمد الحوثي ثم الصنعاني ولد سنة 1160 هـ ونشأ بصنعاء اشتغل بعلم الغرائص والحساب والضرب والمساحة وهو رجل خاشع متواضع كثير الأذكار. (¬4) وهو أول من أحدث المولد صاحب إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبوري بن زين الدين على أحد الملوك الأمجاد، كان له آثار حسنة وهو الذي عمر الجامع المظفري بسفح قاسيون. قال ابن كثير في " تاريخه " عنه: " كان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول وكان يحتفل به احتفالا هائلا وقد طالت مدته في الملك إلى أن مات وهو محاصر للإفرنج. بمدينة عكا سنة 630 هـ محمود السر، والسريرة " انظر حسن المقصد في عمل المولد للسيوطي (ص 42).

ابن دحية (¬1) مصنفا في المولد، وحماه: التنوير في (¬2) مولد البشير النذير، وما استناد هؤلاء الأعيان المزينين لهذه الشنيعة لهؤلاء السوقة والأغمار. ولعل المؤلف المذكور بيد محسن مسعود النشاد وجماعته. فهل قد سبق في زمن النبوة المطهرة من الدنس مثل هذا، أو في زمن الصحابة الراشدين، أو أحد من أئمة أهل البيت المطهرين قد أجاز ذلك، أو أشار إليه، أو جوزه للسوقة والأوغاد، أو هذه بدعة شنيعة من بدع الصوفية الأغمار يجب النكير عليها والتشديد والتشريد لفاعليها، ورفعها إلى ولاة هذه المدينة المحمية المعمورة بعلماء الزيدية الكرام، وعلوم آل محمد الأعلام، أو كيف يكون الحال والمجال بلغت القلوب الحناجر من هذه البدع الحادثة في هذا الزمان. نعم، ومن جملة ذلك القبيح أنهم أحدثوا في هاتين السنتين في الأقطار التهامية مثل بيت الفقيه ابن عجيل، والحديدة، وصارت تسري في جميع البلاد الإمامية- أعزها الله- وذلك أنهم أحدثوا عمارة جدد من حجارة [2] وزخرفوه بالجص والنورة، ثم فعلوا له يوما أو ليلة في الشهر، يجتمعون إليه صغيرهم والكبير، والأنثى والذكر، والشريف والوضيع، يطوفون حوله كطوافهم بالبيت المعمور طول تلك الليلة، من دون إنكار ولا ¬

(¬1) هو: عمر بن الحسن بن علي بن محمد، أبو الخطاب، ابن دحية الكلبى. أديب، مؤرخ، حافظ للحديث من أهل سبتة بالأندلس، ولي قضاء دانية، رحل إلى مراكش والشام والعراق وخراسان واستقر. بمصر. ولد سنة 544 هـ وتوفي سنة 633 هـ. انظر: شذرات الذهب (5/ 160) والأعلام (5/ 44). (¬2) رقد ذكرنا آنفا أنه أول مؤلف في المولد النبوي.

شناعة من ولاة أمرهم وحكامهم، ويقبلونه كتقبيل الحجر الأسود. وصارت هذه البدع كأنها سنن شرعية، وحجة الله قائمة على العلماء العامين في هذه المدينة المحمية من الشيعة المرضية، أو الحضرة الشريفة المنصورية، وسكوتهم عن رفعها إلى شريف المقام مولانا الإمام أمير المؤمنين المنصور بالله رب العالمين. فإنه نعم العون المبين على إزالة ما خالف شريعة جده الأمين، وآله الطاهرين عليه وعليهم أفضل الصلاة والتسليم. فلم أزل أريد مذاكرتكم هذه الحوادث الحادثة في هذه المدينة المحمية وغيرها من البلاد الإمامية، وصار علماؤنا في هذا الزمان إما شيطان أخرس قد ألجم بلجام من نار، أو سد فمه بشيء من الحطام الحرام، أو شيطان ناطق بغير ما شرع الله على لسان نبيه المختار. اللهم اشهد وأنت خير الشاهدين على أمور حدثت من حوادث المبطلين والجاهلين، وزينها لهم رعاع هذه الأمة المخذولين، وأعيان رمدا من العلماء المسلوبين من دون نكير من العلماء العاملين، فيا لله ويا للمسلمين من حادث حدث في شرع سيد المرسلين. وأقول: يا باغي الإسلام فأبغيه لقد زال معروفا وبدا منكر. فأوضحوا لمحبكم في هذا الأمر الذي أسجن الفؤاد، وشرد الرقاد، وأبرا إلى الله من هذه القبائح والفساد، وأصلي وأسلم على نبيه القاصم بسيفه رؤوس أهل الفساد، وعلى اله الزكية الطاهرة المنزهة عن بدع الصوفية والأوغاد. والسلام تخص مقامكم والإكرام تم السؤال.

بسم الله الرحمن الرحيم حمدا لمن بعث البشير النذير، السراج المنير بالشريعة البيضاء النقية، والحنيفية الغراء السوية البهية، وعلى اله الحاملين لرايات السمنة المجلين بأنوار علومهم كل ظلمة ودجنة، وبعد: فإنه وصل إلى الحقير محمد بن على الشوكاني- غفر الله لهما-[3] هذا السؤال النفيس، فلنتكلم في جواب المسألة الأولى من مسألتي السؤال، وهي مسالة المولد. فأقول: لم أجد إلى الآن دليلا يدلا على ثبوته من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا قياس، ولا استدلال، بل أجع المسلمون أنه لم يوجد في عصر خير القرون، ولا الذين يلونهم، ولا الذين يلونهم. وأجمعوا أن المخترع له السلطان المظفر أبو (¬1) سعيد كوكبوري بن زين الدين علي بن سبكتين صاحب أربل (¬2)، وعامر الجامع المظفري بسفح قاسيون. قف على ابتداع المولد (¬3) في القرن السابع. ¬

(¬1) وقد ذكر ابن كثير في " البداية والنهاية " نقلا عن سبط ابن الجوزي أنه قال فيما ذكره عن سلطان إربل: أنه كان يعمل للصوفية في المولد سماعا من الظهر إلى الفجر ويرقص بنفسه معهم. وكما ترى في هذا الكلام والذي يأتي بعده- أبلغ رد على من تجاوز الحد في مدحه والثناء عليه بالعدل وحسن السيرة والسريرة. (¬2) وإربل: قلعة حصينة، ومدينة كبيرة في فضاء من الأرض واسع بسيط وهى على تل عال من التراب. تعد من أعمال الموصل وبينهما مسيرة يومين. قال ياقوت الحموي بعد ذلك " وطباع هذا الأمير- مظفر الدين كوكبري بن زين كوجك علي- مختلفة متضادة فإنه كثير الظلم عسوف بالرعبة، راكب في أخذ الأموال من غير وجهها وهو مع ذلك مفضل على الفقراء كثير الصدقات على الغرباء. " معجم البلدان (1/ 138). (¬3) قيل: إن المولد بدعة أحدثها- الفاطميون العبيديون من الباطنيين كما نقله المقريزي في " خططه " (1/ 490) والقلقشندي في " صبح الأعشى " (3/ 498). وقال صاحب: الباعث على إنكار البدع والحوادث (ص 13): من أنه- المظفر اقتدى بفعل

وهو في المائه السابعة، ولم ينكر أحد من المسلمين أنه بدعة (¬1). وإذا تقرر هذا لاح للناظر أن القائل بجوازه بعد تسليمه أنه بدعة، وأن كل بدعة (¬2) ضلالة بنص المصطفى- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لم يقل إلا. مما هو ضد للشريعة المطهرة، ولم يتمسك بشيء سوى تقليده لمن قسم (¬3) البدعة إلى أقسام ليس عليها آثار من علم. والحاصل أنا لا نقبل من القائل بالجواز مقالة إلا بعد أن يقيم دليلا يخص هذه ¬

= الشيخ عمر بن محمد الملا، وهو أول من أحدثه، وذكر دلك أيضًا سبط ابن الجوزي في " مرآة الزمان " (8/ 310) وعمر الملا هذا من كبار الصوفية المبتدعين، ولا يستبعد أن يكون عمل المولد تسرب إلى الشيخ عمر الملا من العبيديين فإنهم أخذوا الموصل سنة 347 كما في " البداية والنهاية " (11/ 232) ومولد المظفر سنة 549 هـ كما في التكملة (3/ 354). وولي السلطة بعد وفاة أبيه 563 هـ كما في سر أعلام النبلاء (22/ 335). فإن البدعة في الدين لا تقبل من أي أحد كان لنصوص الأحاديث الواردة في ذم الابتداع، فلا يمكننا أن نعارضها بعمل الملك المظفر وإحداثه ثم عدالته لا توجب عصمته كما لا يخفى ". (¬1) قال ابن تيمية في " مجموع فتاوى " (10/ 370 - 371): " ومعلوم أن كل ما لم يسنه ولا استحبه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا احد من هؤلاء الذين يقتدي هم المسلمون في دينهم فإنه يكون من البدع المنكرات ولا يقول احد في مثل هذا إنه بدعة حسنة. ". (¬2) أخرجه مسلم في صحيحة رقم (867) من حديث جابر وفيه " .... أما بعد: فان خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد. وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة. ". (¬3) قال أبو حفص تاج الدين الفاكهاني في " المورد في عمل المولد " (ص 20):- لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة ولم ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين المتمسكون بآثار المتقدمين بل هو بدعة أحدثها المبطلون وشهوة نفس اعتني بها الآكلون بدليل أنا إذا أدرنا عليها الأحكام الخمسة قلنا: إما أن يكون واجبا أو مندوبا أو مباحا أو مكروها أو محرما وليس هو بواجب إجماعا ولا مندوبا لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشارع من غير ذم على تركه وهذا لم يأذن فيه الشارع ولا فعله الصحابة والتابعون ولا العلماء المتدينون فيما علمت وهذا جوابي عنه بين يدي الله إن عنه سئلت ولا جائزا ولا مباحا لأن الابتداع في الدين ليس مباحا بإجماع المسلمين فلم يبق إلا أن يكون مكروها أو محرما. ". . وقال النووي قي " تذهيب الأسماء واللغات " البدعة في الشرع هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي منقسمة إلى: حسنة وقبيحة. وفي هذا التقسيم نظر. انظر " حسن المقصد " للسيوطي (ص 15). وذكر الثاني في كتاب الاعتصام (1/ 111) ما رواه ابن حبيب عن ابن الماجشون قال: سمعت مالكا قول: " من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خان الرسالة، لأن الله يقول: {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3] فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا.

البدعة التي يعترف ها من ذلك العموم الذي لا ينكره. وأما مجرد قال فلان، وألف فلان، فهذا غير نافق. والحق أكبر من كل أحد على أنا إذا عولنا على أقوال الرجال، ورجعنا إلى التمسك بأذيال القيل والقال، فليس القائل بالجواز إلا شذوذ من المسلمين. أما العترة المطهرة وأتباعهم فلم نجد لهم حرفا واحدا يدل على جواز ذلك، بل كلمتهم كالمتفقة بعد حدوث هذه البدعة أنها من أقبح ذرائع المتمخلعة إلى المفاسد، ولهذا ترى هذه الديار منزهة عن جميع شعابن المتصوفة المتهتكة إلى هذه واحدة منها، ولله الحمد. وكان آخر الخلفاء الذابين عن ذلك المهدي لدين الله العباس بن المنصور، فإنه منع الموالد، وأمر هدم قبور جماعة من الأموات الذين تعتق! صم العامة، والمرجو من الله تعالى أن يلهم خليفة عصرنا المنصور بالله- حفظه الله- إلى الإقتداء بسلفه الصالح، فإن الأمر كما قيل: أرى خلل الرماد وميض خمر ... ويوشك أن يكون لها اضطرام وسريان البدع أسرع من سريان النار، لا سيما بدعة المولد، فإن أنفس العامة تشتاق إليها غاية الاشتياق، لا سيما بعد حضور جماعة من أهل العلم والشرف والرئاسة معهم، فإنه سيخيل إليهم بعد ذلك أن هذه البدعة من آكد السنن. وقد أحسن من قال: [4] فساد كبير عالم متهتك ... وأفسد منه جاهل متنبك هما فتنة للعالمين كبيرة ... لمن بهما دينه يتمسك

ولا شك أن العامة أسرع الناس إلى كل ذريعة من ذرائع الفساد التي يتمكنون معها من شيء من المحرمات كالمولد ونحوه. فإذا انضم إلى ذلك حضور من له شهرة في العلم والشرف والرئاسة فعلوا المحرمات بصورة الطاعات، وخبطوا في أودية الجهالات والضلالات، وتخلصوا من ورطة الإنكار بقولهم: حضر معنا سيدي فلان وفلان وفلان. دع عنك العامة بم فإن بعض الخاصة المتميزين في طلب العلم قعد بين يدي لقراءة بعض علوم الاجتهاد، فأخبرني أنه حضر ليلة ذلك اليوم من هذا الشهر، في بعض الموالد، فأنكرت عليه، وانقبضت منه فقال: حضر معنا سيدي فلان وفلان وفلان، فسألته عن الصفة التي وقعت بحضرة أولئك الأعيان فقال في جملة شرع تلك القضية أنه قرأ المولد رجل سوقي، وأولئك الأعيان يطربون ويسمعون حتى بلغ إلى بعضه ثم قام كأنما نشط من عقال، وهو يقول: مرحبا يا نور عيني مرحبا. وقام بقيامه جميع الحاضرين من الأعيان وغيرهم، وصار ينهق قائما وهم كذلك، فتعب بعض الحاضرين فقعد، فصاح عليه بعض أولئك الأعيان، وقال له: وقد ظهرت عليه سورة الغضب: قم ما هي ملعابه، هذا اللفظ، وهم لا يشكون أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وصلى إليهم تلك الساعة، ثم تصافحوا وأقبل جماعة من العامة بأيديهم أنواع من الطيب معاجلين مسرعين، كأنهم ينتهزون فرصة بقآئه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فإنا لله وإنا إليه راجعون. أين عزة الدين، فإن ذهبت فأين الحياء والمروؤة والعقل؟. وهب أنه لا يحصل بحضرة هؤلاء الأعيان شيء من المنكرات كما هو الظن هم، ألا يدرون أن العامة تتخذ ذلك وسيلة وذريعة إلى كل منكر، ويصكون بحضورهم وجه كل منكر، ويفعلون في موالدهم التي لا يحضرها إلا سقط المتاع كل منكر، ويقولن: قد حضر المولد فلان وفلان وفلان ويتمسكون بجامع اسم المولد. ومن ههنا يلوح لك فساد اعتذار بعض المجوزين بأنه إذا لم يحصل في المولد إلا الاجتماع للطعام والذكر فلا بأس به، وأنه لا يلزم من تحريم ما يصحبه من المحرمات تحريمه، لأنا نقول: المولد مع كونه بدعة باعترافك قد صار مصحوبا عادة بكثير من

المنكرات، وذريعة إلى كثير من المفاسد [5]. واتفاق مثل هذه الموالد التي لا تشتمل على غير الطعام والذكر أعز من الكبريت الأحمر. وقد تقرر أن سد الذرائع (¬1) وقطع علائق الوسائل إلى ما لا يجوز من قواعد الشريعة المهمة الحط جزم بوجوبها الجمهور، وأنت إن بقيت فيك بقية من إنصاف لا تنكر هذا. وإذا قد تبين لك أنه لم يقل أحد من أهل البيت وأتباعهم بجواز المولد، وأردت أن تعرف قول من عداهم، فنقول: قد قررنا لك الإجماع على أنه بدعة من جميع المسلمين، ولكن للملوك تأثيرا في تقويم البدع وهدمها، فلما كان المبتدع لهذه البدعة ذلك الملك (¬2) ساعده ابن (¬3) دحية وألف في ذلك مجلدا سماه: التنوير في مولد البشير النذير، وهو مع توسعه في علم الرواية لم يأت في ذلك الكتاب بحجة نيرة. لا جرم إجازة ألف (¬4) دينار كما ذكر ابن خلكان، ومحبة الدنيا تفعل أكر من هذا. ثم بعد حدوث هذا المولد قام الخلاف على ساق، وكثرت في ذلك المؤلفات من المانع. والمجوز، فمن جمله المؤلفين في ذلك الفاكهاني (¬5) المالكي، ألف كتابا سماه: المص رد في الكلام على عمل المولد وشنع وبشع، ومن جملة ما أنشده في ذلك الكتاب لشيخه ¬

(¬1) الذرائع: هي الوسائل، والذريعة، هي الوسيلة والطريق إلى الشيء سواء أكان هذا الشيء مفسدة أو مصلحة، قولا أو فعلا. ولكن غلب إطلاق اسم " الذرائع " على الوسائل المفضية إلى المفاسد فإذا قيل: هذا من باب سد الذرائع، فمعنى: أنه من باب منع الوسائل المؤدية إلى المفاسد. انظر بكلام الموقعين لابن الجوزي (3/ 135 - 159). (¬2) المظفر أبو سعيد كوكبوري بن زين الدين علي وقد تقدمت ترجمته (¬3) تقدمت ترجمته. (¬4) يقصد ما قدمه الملك لابن دحية مقابل تأليفه للكتاب المذكور أنفا. (¬5) هو عمر بن علي بن سالم بن صدقة اللخمي الإسكندري المشهور بـ " تاج الدين الفاكهاني " فقيه، نحوي، مفسر، مقرئ ولد سنة أربع وخمسين وست مائة. من مصنفاته:- الإشارة في النحو. - المنهج المبين في شرح الأربعين. =

القشيري (¬1): قد عرف المنكر واستنكر المعروف ... في أيامنا الصعبة وصار أهل العلم في وهدة ... وصار أهل الجهل في رتبه حاروا عن الحق فما للذي ... ساروا به فيما مضى نسبه فقلت للأبرار أهل التقى ... ... والدين لما اشتدت الكربه (¬2) ومن جملة المؤلفين في المولد الإمام أبو عبد الله (¬3) في عمل المولد. ¬

= بن الحاج، وحمى كتابه: المدخل (¬4) - التحرير والتحبير في شرح رسالة ابن أبي زيد القروواني. انظر: شذرات الذهب (5/ 96) الأعلام (5/ 56) " بغية الوعاة " (2/ 221). (¬1) هو محمد بن علي بن وهب بن مطيع، تقي الدين القشيري، المشهور بابن دقيق العيد، المتوفى سنه 702 هـ. انظر: تذكرة الحفاظ (ص 1481)، الدرر الكامنة (4/ 91)، طبقات السبكى (6/ 2). (¬2) وبعد هذه الأبيات قال: لا تنكروا أحوالكم قد أتت ... نوبتكم في زمن الغربة (¬3) هو محمد بن محمد بن محمد بن الحاج، أبو عبد الله العبدري المالكي الفاسي، نزيل مصر. فاضل تفقه في بلاده، وقدم مصر، وحج، وكف بصره آخر عمره وأقعد، توفي بالقاهرة سنه 737 هـ على نحو 80 عاما. من مصنفاته: - مدخل الشرع الشريف. - شموس الأنوار وكنوز الأسرار. انظر: الديباج المذهب (ص 327)، والدر الكامنة (23714). (¬4) حيث قال فيه " فصل في المولد " ومن جملة ما أحدثوه من البدع مع اعتقادهم إن ذلك من اكبر العبادات وإظهار الشعائر ما يفعلونه في شهر ربيع الأول من المولد، وقد احتوى على بدع ومحرمات جمة. فمن ذلك استعمالهم آلات الطرب من الطار المصرصر والشبابة. ثم أطال الكلام قي ذلك وذكر ما يفعل فيه من المنكرات من العناء والرقص واختلاط الرجال والنساء ثم قال بعد ذلك: ألا ترى أنهم لما خالفوا السنة المطهرة، فعلوا المولد لم يقتصروا على فعله بلى زادوا عليه ما تقدم ذكره من الأباطيل المتعددة، فالسعيد من شد على امتثال الكتاب والسنة والطريق الموصلة إلى ذلك وهي اتباع السلف الماضين لأنهم أعلم بالسنة منك إذ هم أعرف بالمقال وأفقه بالحال. وكذلك الإقتداء. كلن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وليحذر من عوائد أهل الوقت وممن يفعل العوائد الرديئة. [نقله السيوطى في حسن المقصد (ص 56 - 57)].

وإمام القرى الجزري (¬1)، وعى كتابه: التعريف بالمولد الشريف، والإمام الحافظ ابن ناصر (¬2)، وعى كتابه: مورد الصادي في مولد الهادي. والعلامة السيوطي، وحمى كتابه: حسن المقصد في عمل المولد (¬3). فمنهم من جزم بعدم جوازه، ومنهم من جوزه بشرط أن لا يصحبه (¬4) منكر، مع ¬

(¬1) هو محمد بن عبد الله، شمس الدين الجزري الشافعي، متأدب، متفقه، رحل إلى عدن، وكتب بعض أعيانها إلى الملك المظفر (الرسولي) بتعز مات بعد سنه 660 هـ. الأعلام للزركلي (6/ 233). (¬2) وهو الحافظ شمس الدين بن ناصر الدين الدمشقي. (¬3) وقد ضمنه أقوال العلماء منهم:- ابن حجر، ابن رجب، ابن الحاج، الجزري، الحافظ الدمشقي. (¬4) قال رشيد رضا في " فتاوى " (5/ 2112 - 2115). سئل الحافظ ابن حجر عن الاحتفال بالمولد النبوي، هل هو بدعة أم له أصل؟ فأجاب بقوله: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن ضدها فمن جرد عمله في المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة ومن لا فلا. ويقال: إنما يصح قول الحافظ ابن حجر في كون حفلة المولد بدعه حسنة بشرط خلوها من المساوئ والمعاصي المعتادة فيها إذا كان القائمون بها لا يعدونها من القرب الثابتة في الشرع. بحيث يكفر تاركها أو يأثم أو يعد مرتكبا للكراهة الشرعية، فإن البدعة التي تعتريها

الاعتراف بأنه بدعة، ولم يأت بحجة أصلا. وأما تخريجه من حديث (¬1) أنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه فرعون، ونجى موسى، فنحن نصومه شكرا لله (¬2) تعالى كما فعل ابن حجر، أو من حديث أنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عق عن نفسه (¬3) بعد النبوة. ¬

= الأحكام الخمسة، ويقال: إن منها حسنة وسيئة هي البدع في العادات. وأما البدع في الدين فلا تكون إلا سيئة، كما صرح به المحققون وذكر ذلك الفقيه ابن حجر الهتيمي المكي في الفتاوى الحديثة (ص 60). (¬1) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (2004) ومسلم في صحيحة رقم (1130) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: "ما هذا " قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله نبي إسرائيل من عدوهم. فصامه موسى. قال: فأنا أحق. بموسى منكم " فصامه وأمر بصيامه ". (¬2) يقال لهم: صحيح أن النعم تستوجب الشكر عليها والنعمة الكبرى على هذه الأمة هي بعثة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليس مولده: إذ القرآن لم يشر إلى المولد رسم يهتم به وإنما أشار إلى بعثته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أنها نعمة ومنة من الله تعالى قال جل وعلا: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم} [آل عمران: 164]. وقال جل شأنه: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آيته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} [الجمعة: 2]. وهذا هو الشأن في جميع الرسل، فان العبرة ببعثهم لا. بمولدهم كما قال قال: {كان الناس أمة وحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنزرين} [البقرة: 213]. وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطغوت} [النحل:36]. . فلو كان الاحتفال جائزا لكان الأولى به ذكرى بعثته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليس مولده، وصوم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم عاشوراء وهو مشرع ومبلغ عن ربه لا يجوز لنا أن نقيس عليه فنبتدع، إذ المطلوب هنا أن نتبع ولا نبتدع. (¬3) أخرجه الطبراني في الأوسط رقم (994) والبزار في مسنده (2/ 74 - كشف) قال البزار: تفرد به عبد الله بن المحرر، وهو ضعيف جدا إنما يكتب عنه ما لا يوجد عند غيره. وأورده الهيثمي في المجمع (4/ 59) وقال: رجال الطبراني رجال الصحيح خلا الهيثم بن جميل وهو ثقة وشيخ الطبراني أحمد بن مسعود الخياط المقدسي ليس هو في الميزان ". قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (13/ 244) عنه: المحدث الإمام لقيه الطبراني ببيت المقدس سنه 274 هـ. قلت: في سنده عبد الله العمري وهو ضعيف. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (9/ 300) وعبد الرزاق في المصنف (4/ 29 رقم 7960) وقال عبد الرزاق إنما تركوا عبد الله بن المحرر لهذا الحديث كما في تحفة المودود (ص 104) بتحقيقي. وقال البيهقي، وقد روي هذا الحديث من وجه آخر عن قتادة، ومن وجه ثان عن أنس وليس بشيء ثم أضاف النووي في المجموع (8/ 432) بعدما أورد كلام البيهقي قائلا: فهو حديت باطل، وعبد الله بن المحرر ضعيف متفق على ضعفه، قال الحفاظ: هو متروك.

كما فعل السيوطي، فمن الغرائب التي أوقع في مثلها [6] محبة تقويم البدع. والحاصل أن المجوزين (¬1) وهم شذوذ بالنسبة إلى المانعين قد اتفقوا على أنه لا يجوز ¬

(¬1) يشير بعض المجوزين للاحتفال بالمولد النبوي بعض الشبهات لجعله مشروعا أو مباحا على الأقل واليك بعضها مع الرد عليها ومناقشتها: 1/ قول النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إياكم ومحدثات الأمور، بان كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ". وهو حديث صحيح أخرجه أحمد (4/ 126 - 127) وأبو داود رقم (4607) والترمذي رقم (2676) وابن حاج رقم (43، 44) والحاكم (1/ 95 - 97) من حديث العرباض بن سارية. قولهم فيه: لا يدل على أن جميع البدع ضلالة، لأن " كل " ليست تشمل الجميع ومن العلماء من قال: تنقسم البدعة إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة، ومنهم من قال البدعة تنقسم إلى بدعة واجبة وبدعة مستحبة وبدعة مباحة وبدعة مكروهة وبدعة محرمة. والجواب عن ذلك: إن الحديث على ظاهرة يدل أن جميع البدع في الدين ضلالة بدون استثناء، لأن " كل " تفيد الاستغراق أي: استغراق جميع الأفراد خاصة وأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدم عليها أداة التحذير " وإياكم ومحدثات الأمور" فهل يمكن مع كل هذا أنه يريد البعض؟ ونقول أي عبارة أبلغ من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث- للدلالة على رفض البدع كلها وأما قول من قال من العلماء إن البدعة تنقسم إلى الأحكام الخمسة- تقدم التعليق على ذلك. 2// قولهم: إن الاحتفال بالمولد ليس بدعة، بل هو سنة حسنة، بدليل قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل ها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل ها إلى يوم القيامة. . أخرجه مسلم في صحيحة رقم (69/ 1017) من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه. والجواب: أن السنة الحسنة تكون فيما له أصل في الشرع كالصدقة التي هي سبب ورود الحديث فقد روى أن قوما قدموا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم في حاله يرثى لها من الحاجة والفاقة فحث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه على التصدق لهؤلاء القوم وجاء رجل بصرة من الدراهم عجزت عن حملها يده فتسابق القوم إلى التصدق مقتدين هذا الرجل. وعندها قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الحديث، وأما الاحتفال بالمولد فهر بدعة أحدثت بعد مضى القرون المفضلة. 13/ قولهم: لقد ظهرت بدع كثرة حسنة رضي بها علماء الإسلام وسار عليها المسلمون إلى يومنا هذا مثل جمع عمر بن الخطاب المسلمين في صلاة التراويح على إمام واحد. أخرجه البخاري رقم (2010) عن عبد الرحمن بن عبد القاري. الجواب:- إن الأثر صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لكن قول الصحابي ليس حجة إذا خالف الحديث الصحيح. 2/ أن صلاة القيام مشروعة بنص الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (2009) ومسلم رقم (174) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة فيقول: " من قام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه " فتوفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأمر على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في خلاقة أبي بكر وصدرا من خلافة عمر على ذلك. 3/ أن صلاة القيام جماعة مشروعة بنص حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن عائشة رضي الله عنها أخبرت، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خرج ليلة قي جوف الليل فصفى في المسجد، وصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا فاجتمع أكثر منهم، فصلى فصفوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصلى بصلاته فلما كانت الليلة الرابعة، عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال: " أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها " فتوفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأمر على ذلك. أخرجه اليخاري رقم (2012) ومسلم رقم (178/ 761). قلت: لقد اتضح من الحديثين السابقين أن صلاة القيام في رمضان مشروعة، وصلاتها جماعة مشروعة، وإنما ترك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحضور في الليلة الرابعة نحافة أن تفرض على المسلمين، فلما انقطع الوحي بموت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمن ما خاف منه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن الحلة تدور مع المعلول وجوداوعدما، فبقيت السنة للجماعة لزوال العارض، فجاء عمر بن الخطاب، أمر بصلاتها جماعة، إحياء للسنة التي شرعها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا تعلم أن مفهوم البدعة لا ينطق على فعل عمر! ه ويقول ابن تيمية في " اقتضاء الصراط " (ص 275 - 277): " أكثر ما قي هذا تسمية عمر تلك البدعة مع حسنها، وهذه تسمية لغوية لا تسمية شرعية ". 4// في الأثر التاريخي وهو: ما روي من أن أبا لهب الخاسر رؤى في المنام، فسئل فقال: إنه يعذب في النار، إلا أن يخفف عنه كل ليلة اثنين، ويمص من بين أصبعيه ماء بقدر هذا وأشار إلى رأس أصبعه. وان ذلك كان له بسبب إعتاقه جاريته ثويبة لما بشرته بولادة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأخيه عبد الله بن عبد المطلب وبإرضاعها له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والرد على ذلك بأوجه منها: 1/ أن أهل الإسلام مجمعون أن الشرع لا يثبت برؤى الناس المنامية مهما كان ذو الرؤيا في إيمانه وعلمه وتقواه، إلا أن يكون نبي الله فإن رؤيا الأنبياء، والوحي حق. 2/ أن صاحب الرؤيا العباس بن عبد المطلب، والذي رواها عنه بالواسطة فالحديث مرسل، والمرسل لا يحتج به، ولا تثبت به عقيدة ولا عبادة مع احتمال أن الرؤيا التي رآها العباس قبل إسلامه، ورؤيا الكافر حال كفره لا يحتج ها إجماعا. 3/ أكثر أهل العلم من السلف والخلف على أن الكافر لا يثاب على عمل صالح عمله إذا مات على كفره وهو الحق لقول الله سبحانه {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} [الفرقان: 23]. 5// رمن عللهم- سماع بعض الشمائل المحمدية ومعرفة النسب النبوي الشريف. فالجواب: إن الواجب على كل مسلم ومسلمة أن تعرف نسب نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفاته كما يعرف الله تعالى بأسمائه وصفاته هذا لابد له من تعليم ولا يكفي فيه مجرد سماع تلاوة قصة المولد مرة في كل عام. 6// ومن عللهم- الاجتماع على ذكر اللة سبحانه من قرائه القرآن والصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فالجواب: هذه علة فاسدة باطلة لأن الاجتماع على الذكر بصوت واحد لم يكن معروفا عند السلف فهو في حد ذاته بدعة منكرة. وأما المدائح والقصائد بالأصوات المطربة الشجية فهذه بدعه أقبح ولا يفعلها إلا المتهوكون - المتحيرون المتهورون المضطربون في الدين- والعياذ بالله تعالى مع أن المسلمين العالمين يجتمعون كل يوم وليلة طوال العام في الصلوات الخمس في المساجد رفي حلق العلم لطلب العلم والمعرفة وما هم بحاجة إلى جلسة سنوية الدافع عليها في الغابي الحظوظ النفسية من سماع الطرب والأكل والشرب. وقفة: ما هو المولد النبوي؟ إن المولد النبوي الشريف في عرف اللغة العربية: هو المكان أو الزمان الذي ولد فيه خاتم الأنبياء وإمام المرسلين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمولده المكاني: هو دار أبي يوسف المقام عليها اليوم مكتبة عامة. مكة المكرمة. ومولده الزماني: هو يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول من عام الفيل على أشهر الروايات وأصحها. الموافق لأغسطس من عام سبعين وخمسمائة من تاريخ ميلاد المسيح عيسى عليه السلام. الخلاصة: خلاصة القول أنه لا يجوز الاحتفال بالمولد النبوي للأسباب التالية: 1/ أنه بدعة في الدين والأدلة الشرعية تحذر من البدع في الدين وأن الأعياد والاحتفالات من أمور الشريعة. 2/ أن القرون الثلاثة المفضلة وهم أشد حبا للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يحتفل أحد منهم بالمولد. 3/ أن هذا الاحتفال أدى إلى مفاسد ومخالفات في الدين، والقواعد الشرعية تقضى بأن المباح- وهذا على فرض أنه مباح- إذا أدى إلى محرم، فإنه يحرم من باب سد الذرائع. 4/ لأنه من الغلو الذي في الله ورسوله عنه. ه/ لأنه من الإطراء الذي في عنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 6/ لأن الرافضة هم الذين ابتدعوا ذلك، والرافضة هم أكثر الفرق الإسلامية ابتداعا، وهل يليق بأهل السنة الاقتداء بالرافضة في ابتداعهم. 7/ أن الاحتفال تقليد للنصارى في احتفالهم بعيسى والنصوص الشرعية تقتضي مخالفتهم وعدم التشبه هم. 8/ أن محبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تحقق بالاحتفال. بمولده وإنما تتحقق بالعمل بسنته وتقديم قوله على كل قول وعدم رد شيء من أحاديثه. 9/ أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه قد وسعهم دين الله من غير احتفال. بمولده، إذا فليسعنا ما وسع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه

إلا بشرط أن يكون لمجرد الطعام والذكر. وقد عرفناك أنه صار من ذرائع المنكرات. ولا يخالف فيه أحد هذا الاعتبار. وأما المولد الذي يقع الآن من هذا الجنس، فهو ممنوع منه بالاتفاق. وفي هذا المقدار كفاية، وإن كان المقام محتاج إلى بسط طويل، مشتملا على إيراد كلمات المجوزين وردها. ولكن ذلك لا يتم إلا في كراريس، ولا بد أن يلهم الله أحد أرباب الأمر إلى المنع من هذه القضية، فإنها تنحسم بأمر يسير، وهو أن يمنع ذلك النشاد الذي صار يدعى لعمل المولد، ويزجر. وهذا أمر يتمكن منه كل أحد، وأما ما سألتم عنه من الواقعة العظيمة في القطر التهامي، وهي أنهم يزخرفون ويطوفون حولها كما يطاف حول الكعبة ويزار. فقد وصل إلى محبكم سؤال من بعض السادات الساكنين في قامة على يد سيدي محمد بن أحمد النعم! ط (¬1)، وأجبت فيه بجواب فيه طول، فانظروه إن أمكن، فإن ذلك ¬

(¬1) السيد محمد بن عز الدين النعمي التهامي. قال الشوكاني في البدر رقم (472): ولد تقريبا سنه 1180 هـ بالعذير وهى بقرب بندر اللحية من بنادر قامة. ثم ارتحل إلى صنعاء فقرأ في علم الفروع على شيخنا العلامة احمد بن محمد الجزري وغيره. وقال الشوكاني: ولازمني مدة طويلة فقرا على النحو والصرف والمنطق والمعاني والبيان والأصول والحديث والفقه وصار أحد العلماء المشار إليهم، ولما نال ما كان سببا للارتحال عاد إلى دياره التهامية وهو بلا مدافع أعلم الموجودين من السادة النعامية. وكثيرا ما يكتب إ؟ من تلك الجهات فيما يعرض له من المهمات. مات في قامة سنه 1232 هـ. البدر الطالع رقم (472) وكواكب يمنية (ص 636 - 638).

السؤال اشتمل على أنهم يعتقدون ني أولئك الأموات (¬1)، وتلك الأحجار أنها تضر وتنفع، وهذا من الكفر الذي لا شك فيه. ولا مرية، وهو من أشد من كفر الوثنية، لأنهم قالوا: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، وهؤلاء قالوا: نعبدهم ليضروا وينفعوا، فأي مصيبة أشد من الكفر. وأي منكر أطم منه ". وكيف يدعى القادر على إنفاذ الأوامر أنه من. المؤمنين، وهؤلاء إخوانه من المسلمين قد صاروا في الكفر الصريح. إنا لله، وإنا إليه راجعون. ورحم الله المهدي لدين الله العباس بن المنصور، فإنه قام في إزالة هذا المنكرا (¬2) كل مقام. والله يلهم خليفة العصر إلى القيام لهذا الواجب الأهم، وعلى الجملة الاستدلال على قبح هذه الوصية لا يحتاج إليه أحد، فإنه لا يشك أحد من المسلمين في أن ذاك كفر، ولا يخالف في قبح الكفر أحد منهم، والقرآن والسنة مشحونان بالأدلة القاضية بقبح الكفر الناعية على الكافرين ما هم فيه، ومن اخذ المصحف وقرا فيه ورقة وجد مها مسن أدلة التوحيد، أو تقبيح الشرك، أو الكفر ما يشفى ويكفي، فلا فائدة في التطويل، ولو رام الإنسان أن يستفضي ما ورد في ذلك من أدلة النقل والعقل لجأ في مجلدات. اللهم أنت تعلم أنا نجد قدرنا متقاصرة عن القيام بدفع هذه المفاسد، وهدم [7] هذه المنكرات. وليس في وسعنا إلا الإنذار والإبلاغ، وقد فعلنا. ¬

(¬1) انظر: " اقتضاء الصراط " لابن تيمية (ص 299). مصرع الشرك والخرافة (ص 512). (¬2) قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط (ص 299): فهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين والملوك وغرهم يتعين إزالتها هدم أو بغيره، هذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء المعروفين، وتكره الصلاة فيها من غير خلاف أعلمه ولا تصح عندنا لأجل النهي واللعن الوارد في ذلك ولأحاديث أخر ". وقد تقدم في كل من الرسائل التالية: (1) و (2) و (24) ر (25).

اللهم فاغضب لدينك وطهره من أدناس هؤلاء الشياطين القبوريين، وأرحنا من هذه الأوساخ التي كدرت صفوة الدين المتن (¬1). انتهى من تحرير المجيب محمد بن على الشوكاني- وفقه الله لما يحبه ويرضاه- بحق محمد وآله وصحبه. من شهر ربيع الأول سنة 1206 هـ. تم القسم الأول- العقيدة- من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني ولله الحمد والمنة ويليه القسم الثاني- القرآن وعلومه- إن شاء الله ¬

(¬1) قد أجاب الله سبحانه دعوة شيخنا الإمام- رحمه الله- فإنها هدمت هذه القبور في أيام الخليفة المتوكل بن المنصور، وثم خارج القطر التهامي فأزيلت بالكلية على كثرتها في عصر والده المنصور، على يد أهل نجد، والمرجو من الله تعالى التيسر لإزالة كل ما بقي من منكر، وكل معتقد مثل قبر ابن علوان في تعز، وصاحب الغراس، وغير ذلك إنا نسأله تعالى معونته. أمين.

تم بحمد الله والمنة المجلد الأول من كتاب الفتح الرباني ويليه المجلد الثاني إن شاء الله

القرآن وعلومه

رسائل القسم الثاني والقسم الثالث (القرآن وعلومه- الحديث وعلومه) القرآن وعلومه: 28 - جواب سؤال في قوله تعالى: {فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه} واقعة موقع الدليل. (1/ 42) (¬1). 29 - وبل الغمامة في تفسير: {وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة}. (30/ 3). 30 - بحث في النهى عن إخوان السوء (27/ 4). 31 - جواب سؤال في قوله تعالى: (إلا من ظلم) (1/ 24). 32 - بحث في تفسير قوله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليم} (23/ 5). 33 - بحث في الكلام على قوله سبحانه: {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن ءامنت من قبل} (18/ 4). 34 - إجابة السائل عن تفسير تقدير القمر منازل. ويليه: إشكال السائل في الجواب عن تفسير تقدير القمر منازل. (43/ 1). 35 - جواب سؤال يتعلق. مما ورد فيما أظهر الخضر. (36/ 4). 36 - بحمق عن تفسير قوله تعالى: {ثم جعلنه نطفة} (17/ 3). 37 - الإيضاح لمعنى التوبة والإصلاح. (7/ 4). ¬

(¬1) الرقم إلى يمين الخط يشير إلى رقم الرسالة في المجلد. والرقم إلى شمال الخط يشير إلى رقم المجلد من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

38 - جواب سؤال عن نكتة التكرار في قوله تعالى: {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين} (41/ 1). 39 - النشر لفوائد سورة العصر. (17/ 5). . الحديث وعلومه: 40 - إتحاف الأكابر بإسناد الدفاتر. (14/ 3). 41 - بحث في قول أهل الحديث: "رجال إسناده ثقات ". ويليه مناقشة للجواب السابق. (22/ 3). 42 - القول المقبول في رد خبر المجهول من غير صحابة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (12/ 1). 43 - بحث في الجواب على من قال أنه لم يقع التعرض لمن في حفظه ضعف من الصحابة. (15/ 5). 44 - سؤال عن عدالة جميع الصحابة هل هي مسلمة أم لا؟! (4/ 1). 45 - رح الباس عن حديث النفس والهم والوسواس (45/ 45) 46 - الأبحاث الوضية في الكلام على حديث: " حب الدنيا رأس كل خطية ". (6/ 3). 47 - سؤال عن معنى " بني الإسلام على خمسة أركان " وما يترتب عليه. (11/ 5). 48 - الأذكار. جواب على بعض الأحاديث المتعارضة فيها. (14/ 5). 49 - بحث في الكلام على حديث: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجسران وإن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد ". (19/ 5). 50 - جواب عن سؤال خاص بالحديث: " لا عهد للظالم " وهل هو موجود فعلا من عدمه؟!. (13/ 5). 51 - فوائد في أحاديث فضائل القران. (2/ 5).

52 - بحث في حديث " لعن الله اليهود لاتخاذ قبور أنبيائهم مساجد " (26/ 3). 53 - إتحاف المهرة بالكلام على حديث: " لا عدوى ولا طرة " (40/ 1). 54 - بحث في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنما الأعمال بالنيات " (31/ 5). 55 - بحث في حديث: " لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ... " (12/ 3). 56 - بحث في بيان العبدين الصالحين المذكورين في حديث الغدير. (11/ 3). 57 - بحث في حديث " اجعل لك صلاتي كلها " وفي تحقيق الصلاة على الآل ومن خصهم. (27/ 3) (¬1). 58 - تنبيه الأعلام على تفسير المشتبهات بين الحلال والحرام (1/ 3). ¬

(¬1) لقد حققت الباحثة: أم الحسن. محفوظة بنت علي شرف الدين. من هذا المجلد الرسائل التي تحمل الأرقام التالية: (28 - 29 - 34 - 37 - 38 - 39 - 46 - 58) حسب تسلسلها في هذا المجلد.

جواب سؤال في قوله تعالى {فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه}

جواب سؤال في قوله تعالى {فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه} واقعة موقع الدليل تأليف العلامة محمد بن علي الشوكاني حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه محفوظة بنت علي شرف الدين أم الحسن

بسم الله الرحمن الرحيم وبعد: فإنه وصل إلى من بعض العلماء في سنة 1207 هـ سؤال حاصله: أن الفاء في قوله تعالى: {فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه} (¬1) واقعة في موقع الدليل، لوقوعها متعقبة، ولم يظهر فيها معنى الدليل؟ فأجبت. مما لفظه: حمدا لك يا فاتح أقفال كل إشكال (¬2)، وشكرا لك يا مانح حل عقد حبال الأعضال (¬3)، وصلاة وسلاما على خير الخليقه، وعلى آله المطهرين حماة الحقيقة على الحقيقة، وبعد: فإن هذا سؤال لا ينتجه إلا فكر يخترق طباق أستار خرائد (¬4) أبكار الأفكار، وفهم يجول ويصول في مدارج الإدراك إن هبت للمشكلات ريح ذات إعصار؟ فلله در منشيه، ولله در موشيه، ولا شك أن قول الله- عز وجل-: {فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك} (¬5) إن جعل كما لاح للسائل- كثر الله من فوائده، ¬

(¬1) [البقرة: 259] (¬2) أشكل الأمر: التبس، وأمور أشكال: ملتبسة. والأشكال الأمور والحوائج المختلفة فيما يتكلف منها ويهتم لها. لسان العرب (7/ 176). (¬3) من عضل وأعضل بي: هو من العضال وهو الأمر الشديد الذي لا يقوم به صاحبه، أي ضاقت على الحيل في أمرهم وصعبت على مداراتهم ويقال أعضل الأمر فهو معضل. لسان العرب (9/ 260). (¬4) من خرد، الخريدة والخريد والخرود من النساء البكر التي لم تمس قط وقيل هي الحبية الطويلة السكوت الخافضة الصوت الخفرة المتسترة قد جاوزت الإعصار ولم تعنس والجمع خرائد وخرد. (¬5) [البقرة: 259]

ومد من موائد فرائده- دليلا على طول مد اللبث (¬1) كان مرتج الباب شديد الاحتجاب عن أرباب الألباب، والذي يلوح للنظر القاصر، ويتقدم في الخاطر الفاتر أنه لم يسق مساق (¬2) الدليل على طول تلك المدة، فإنه يهجر الاستدلال. ممثله على ذلك المدلول من له أن إلمام بعلم المعقول والمنقول، فكيف بمن له العلم الذي تقاصرت العقول بأسرها عن الإحاطة بكنهه ومقداره، وكان علم جميع الخلائق بالنسبة إليه كما يأخذه الطائر (¬3) من البحر الخضم بمنقاره. وأقول مسندا لهذا الكلام الذي هو في قوة المنع أن معرفة طول المدة أمر مكشوف يمكن الإطلاع عليه بأعمال الحواس في المحسوسات، والإذعان له. مما يطرأ على أحوال هذه الأجسام من التغيرات. ¬

(¬1) قال الرازي في تفسيره (7/ 35): (السؤال الأول): أنه تعالى لما قال: {بل لبثت مائة عام}، كان من حقه أن يذكر عقبيه ما يدل على دلك وقوله: {فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه} لا يدل على أنه لبث مائة عام بل يدل ظاهرا على ما قاله من أنه لبث يومأ أو بعض يوم. (والجواب): أنه كلما كانت الشبهة أقوى مع علم الإنسان في الجملة أنها شبهة كان سماع الدليل المزيل لتلك الشبهة احمد ووقوعه في العمل أكمل فكأنه تعالى لما قال: {بل لبثت مائة عام}، قال: {فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه} فإن هذا مما يؤكد قولك: {لبثت يوما أو بعض يوم} فحينئذ يعظم اشتياقك إلى الدليل الذي يكشف عن هذه الشبهة، ثم قال بعده {وانظر إلى حمارك}، فرأى الحمار صار رميما وعظاما نخرة فعظم تعجبه من قدرة الله تعالى، فإن الطعام والشراب يسرع التغير فيهما، والحمار ربما بقى دهرا طويلا وزمانا عظما، فرأى مالا يبقى باقيا، وهو الطعام والشراب، وما يبقى غير باق وهو العظام، فعظم تعجبه من قدرة الله سبحانه وتعالى وتمكن وقوع هذه الحجة في عقله وفي قلبه. (¬2) قال الرازي في تفسيره (7/ 35): (السؤال الأول): أنه تعالى لما قال: {بل لبثت مائة عام}، كان من حقه أن يذكر عقبيه ما يدل على دلك وقوله: {فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه} لا يدل على أنه لبث مائة عام بل يدل ظاهرا على ما قاله من أنه لبث يومأ أو بعض يوم. (والجواب): أنه كلما كانت الشبهة أقوى مع علم الإنسان في الجملة أنها شبهة كان سماع الدليل المزيل لتلك الشبهة احمد ووقوعه في العمل أكمل فكأنه تعالى لما قال: {بل لبثت مائة عام}، قال: {فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه} فإن هذا مما يؤكد قولك: {لبثت يوما أو بعض يوم} فحينئذ يعظم اشتياقك إلى الدليل الذي يكشف عن هذه الشبهة، ثم قال بعده {وانظر إلى حمارك}، فرأى الحمار صار رميما وعظاما نخرة فعظم تعجبه من قدرة الله تعالى، فإن الطعام والشراب يسرع التغير فيهما، والحمار ربما بقى دهرا طويلا وزمانا عظما، فرأى مالا يبقى باقيا، وهو الطعام والشراب، وما يبقى غير باق وهو العظام، فعظم تعجبه من قدرة الله سبحانه وتعالى وتمكن وقوع هذه الحجة في عقله وفي قلبه. (¬3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (122) ومسلم رقم (2380). وهو حديث طويل عن ابن عباس قال حدثنا أبي بن كعب عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ..... فجاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر نقرة أو نقرتين في البحر فقال الخضر: يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر ".

ألا ترى ذلك لمار كيف نظر إلى أولاده بعد أن بعثه الله تعالى فوجدهم شيوخا بعد أن كانوا قبل تلك الإماتة صبيانا وفتيانا، وكان إذا حدثهم بحديث قالوا: هذا حديث مائة سنة كما ذكره أئمة التفسير (¬1)، فالظاهر أن قوله تعالى: {فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك} (¬2) دليل على كمال القدرة الباهرة التي لا يستبعد من مثلها صدور ما استبعده ذلك المار، فيكون ذلك من إرداف دليل بدليل، وتعقيب آلة بآية، ولكنه لما كان مرتبطا بالدليل الأول أعني قوله: {فأماته الله مائة عام ثم بعثه} من جهة أن كونه آية عظمى، وأمرا عجيبا، إنما كان باعتبار ملاحظته جاء معنونا بالفاء المفيدة لتقدير محذوف يتوقف عليه كمال حسنها وفصاحتها كما صرح بذاك أئمة النحو والبيان، فكأنه- جل جلاله- قال للمار: إذا عرفت أيها المستبعد لإحياء القرية كمال القدرة على ذلك. مما وقع عليك من الإماتة هذه المدة (¬3) المتطاولة، ¬

(¬1) ذكره القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن " (3/ 294 - 295). وابن كثير في تفسيره (1/ 688). أخرج ابن كثير في تفسيره (1/ 687) عن علي بن أبي طالب أنه قال: هو عزير أي الذي مر بالقرية. وقال: رواه ابن جرير عن ناجية وابن أبي حاتم وابن جرير عن ابن عباس والحسن، وقتادة والسدي، وسليمان بن بريدة وهذا القول المشهور أ أن المار هو عزير أ والله أعلم. (¬2) [البقرة: 259] (¬3) قال الألوسى في تفسيره " روح المعاني " (3/ 22): {قال بل لبثت مائة عام} عطف على مقدر أي ما لبثت ذلك القدر- يوما أو بعض يوم- بل هذا المقدار {فانظر إلى طعامك وشرابك} قيل كان طعامه عنبا أو تينا وشرابه عصيرا أو لبنا {لم يتسنه} أي لم يتغير في هذه المدة المتطاولة واشتقاقه من- السنة- وفي لامها اختلاف فقيل هاء بدليل ما فت فلانا فهو مجزوم بسكون الهاء، وقيل: واو بدليل الجمع على سنوات فهو مجزوم بحذف الآخر والهاء، وقيل: واو بدليل الجمع على سنوات فهو مجزوم بحذف الآخر والهاء هاء سكت ثبتت في الوقف وفي الوصل لإجرائه مجراه، ويجوز أن يكون التسنه عبارة عن معنى السنين كما هو الأصل ويكون عدم التسنه كناية عن بقائه على حاله غضا طريا غير متكرج. وقيل أصله لم يتسمن ومنه الحمأ المسنون- أي الطين المتغير ومتى اجتمع ثلاث حروف متجانسة يقلب أحدهما حرف علة كما قالوا: في تظننت. تظنيت. وانظر: التفسير الكبير للرازي (7/ 34).

وتحقق لديك ذلك بالنظر في الآثار القاضية به فههنا آية أخرى هي أجل موقعا من تدك، وأقطع لعرف الشك، وأحسم لجرح الحيرة، وأدفع لمنشأ الاستبعاد، وهي عدم تغير طعامك وشرابك مع مرور أزمان العشر من معشار عشيرها يكون في مثله التغير والفساد، وبقاء حمارك حيا سويا بلا علف (¬1)، ولا ماء دهرا لا يستمسك في مثل أقل قليلة الأرواح بلا قوام. وقد لوح جار الله (¬2) - رحمه الله- في كشافه (¬3) إلى أن هذه آية مستقلة لا دليل على طول المدة فقال، وانظر إلى حمارك سالما في مكانه كما ربطته، وذلك من أعظم الآيات أن يعيشه الله مائة عام من غير علف، ولا ماء كما حفظ طعامه وشرابه من التغير انتهى. وهذا على تقدير أن الحمار كان عند بعث ذلك المار حيا كما ذهب إليه بعض أئمة (¬4) التفسير، وعلى تقدير أن عظامه عند ذلك قد تفرقت ونخرت، كما ذهب إليه البعض (¬5) ¬

(¬1) ذكره الألوسى في تفسيره (7/ 23). (¬2) أي الزمخشري. (¬3) (1/ 157) (¬4) أخرج ابن جرير في جامع البيان (3/ ج 3/ 41) عن الضحاك في قوله {فأماته الله مائة عام ثم بعثه} فنظر إلى حماره قائما وإلى طعامه وشرابه لم يتسنه .... ..... " وأخرجه أيضًا عن الربيع، وابن زيد. ووهب بن منبه. (¬5) انظر روح المعاني للألوسي (3/ 23). وأخرجه الطبري في جامع البيان (3/ ج 3/ 40 - 41) عن السدي قال: ثم إن الله أحيا عزيرا، فقال كم لبثت؟ قال: لبثت يوما أو بعض يوم، قال: بل لبتت مائة عام، فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك قد هلك، وبليت عظامه وانظر إلى عظامه كيف ننشزها، ثم نكسوها لحما، فبعث الله ريحا، فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل ذهبت به الطير والسباع، فاجتمعت فركب بعضها في بعض وهو ينظر، فصار حمارا ... ". وكذلك أخرجه ابن جرير في جامع البيان (3 ج 3/ 40) عن ابن جريج ومجاهد. قال ابن جرير الطبري في " جامع البيان " (3/ ج 3/ 42): وأولى الأقوال في هذه الآية بالصواب قول من قال: إن الله تعالى ذكره بعث قائل {أنى يحيى هذه الله بعد موتها} من مماته، ثم أراه نظير ما استنكر من إحياء الله القرية التي مر بها بعد مماتها عيانا من نفسه وطعامه وحماره فجعل تعالى ذكره ما أراه من إحيائه نفسه وحماره مثلا لما استنكر من إحيائه أهل القرية التي مر ها خاوية على عروشها، وجعل ما أراه من العبرة في طعامه وشرابه عبرة له وحجة عليه في كيفية إحيائه منازل القرية وجناها، وذلك هو معنى قول مجاهد الذي ذكرناه قبل. وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية، لأن قوله {وانظر إلى العظام} إنما هو. بمعنى: وانظر إلى العظام التي تراها ببصرك كيف ننشزها ثم نكسوها لحما، وقد كان حماره أدركه من البلى في قول أهل التأويل جميعا نظير الذي لحق عظام من خوطب هذا الخطاب، لفم يمكن صرف قوله {وانظر إلى العظام} إلى أنه أمر له بالنظر إلى عظام الحمار دون عظام المأمور بالنظر إليها، ولا إلى أنه أمر له بالنظر إلى عظام نفسه عون عظام الحمار. وإذا كان ذلك كذلك، وكان البلى قد لحق عظامه وعظام حماره، كان الأولى بالتأويل أن يكون الأمر بالنظر إلى كل ما أدركه طرفه مما قد كان البلى لحقه لأن الله تعالى ذكره وجعل جميع دلك عليه حجة وله برة وعظة.

الآخر لكون قول الله تعالى: {وانظر إلى حمارك} سوقا للتعجيب من تماسك جسم المار وحفظه عن التفرق في تلك المدة مع مصير ما ينتظم معه في جنس الحيوانية، فهي فيها رمة بالية نخرة، وحفظ طعامه وشرابه عن التسنه بعد مضي مدة صار فيها الحمار إلى تلك الصفة، ويمكن أن يقال على هذا التقدير أن أمر المار بالنظر إلى رمة الحمار لما سيحدثه الله تعالى من إنشارها وإعادة ما كان على تلك الصفة حيا سويا، ليكون ذلك من الاستدلال إلى موضع الاستبعاد. مما يماثله، ويكون قوله: {وانظر إلى العظام كيف ننشزها} (¬1) مقررا لقوله: {وانظر إلى حمارك}، ولكن الوجه هو التقرير ¬

(¬1) أخرج الن جرير في " جامع البيان " (3/ ح 3/ 43): عن أبي عباس في قوله {كيف ننشزها} كيف نخرجها. وأخرج عن السدي {كيف ننشزها} قال: تحركها. ثم قال ابن جرير: وقرأ ذلك آخرون: {وانظر إلى العظام كيف ننشزها} بضم النون، قالوا من قول القائل: أنشر الله الموتى فهو ينشرهم إنشارا. وذلك قراءة عامة قراء أهل المدينة،. بمعنى: وانظر إلى العظام كيف نحيها ثم نكسوها لحما. وأخرج ابن جرير في " جامع البيان " (3 ج 3/ 44) عن مجاهد (محيص ننشزها) قال: نظر إليها حين يحييها الله. . قال ابن جرير في جامع البيان (3 ج 3/ 44): والقول في ذلك عندي أن معنى الإنشار، ومعنى الإنشاز، متقاربان، لأن معنى الإنشاز: التركيب والإثبات، ورد العظام من العظام، وإعادتها لا شك أنه ردها إلى أماكنها ومواضعها من الجسد بعد مفارقتها إياها، مهما وإن اختلفا في اللفظ، فمتقاربا الم! ت، وقد جاءت بالقراءة هما الأمة مجيئا يقطع العذر ويوجب الحجة فبأيهما قرأ القارئ فمصيب لانقياد معنييهما، ولا حجة توجب لأحدهما من القضاء بالصواب على الأخرى. . وإن ظن ظان أن الإنشار إدا كان إحياء فهو بالصواب أولى، لأن المأمور بالنظر إلى العظام وهي تنشر إنما أمر به ليرى عيانا ما أنكره بقوله {أنى يحيي هذه الله بعد موتها} فإن إحياء العظام لا شك في هذا الموضع إنما عني به ردها إلى أماكنها من جسد المنظور إليه، وهو يحيا، لا إعادة الروح التي كانت فارقتها عند الممات، والذي يدل على ذلك قوله {ثم نكسوها لحما} ولا شك أن الروح إنما نفخت قي العظام التي أنشرت بعد أن كسبت اللحم. وإذا كان دلك كذلك، وكان معنى الإنشاز تركيب العظام وردها إلى أماكنها من الجسد، وكان ذلك معنى الانشار، كان معلوما استواء معنييهما، وأنهما متفقا المعنى لا مختلفاه، ففي ذلك إبانة عن صحة ما قلنا فيه. وأما القراءة الثالثة فغير جائزة القراءة بها عندي وهى قراءة من قرأ {كيف ننشزها} بفتح النون وبالراء لشذوذها عن قراءة المسلمين وخروجها عن الصحيح من كلام العرب.

الأول أعني أن الحمار كان حيا عند البعث، ويكون المراد بالعظام في قوله: {وانظر إلى العظام} (¬1) عظام الموتى الذين استبعد ذلك المار إحياءهم، لاشتماله على تعدد الآيات الباهرة للعقول، ولكثرة البراهين التي لا يسع شاهدها غير التسليم والقبول، ولما يقضي به الفصل بقوله تعالى: ...................... ¬

(¬1) تقدم آنفا

{ولنجعلك آية للناس} (¬1) من تبعيد التأكيد، ولما تقرر من أن ترجيح (¬2) التأسيس ¬

(¬1) قال الرازي في تفسيره (7/ 35 - 36): أما قوله تعالى: {ولنجعلك آية للناس} فقد بيما أن المراد منه التشريف والتعظيم والوعد بالدرجة العالية في الدين والدنيا، وذلك لا يليق. كلن مات على الكفر الشك في قدرة الله تعالى. فإن قيل: ما فائدة الواوي قوله {ولنجعلك} قلنا: قال الفراء- في معاني القرآن (1/ 173) - دخلت الواو لأنه فعل بعدها مضمر، لأنه لو قال: {وانظر إلى حمارك لنجعلك آية} كان النظر إلى الحمار شرطا، وجعله آية جزاء وهذا المعنى غير مطلوب من هذا الكلام، أما المال قال: {ولنجعلك آية} كان المعنى، ولنجعلك آية فعلنا ما فعلنا من الإماتة والإحياء ومثله قوله تعالى: {وكذالك نصرف الآيات وليقولوا درست، والمعنى: وليقولوا درست صرفنا الآيات. . وقال ابن جرير في " جامع البيان " (3/ ج 42/ 3 - 43):} ولنجعلك آية للناس {، أمتناك مائة عام ثم بعثناك، وإنما أدخلت الواو مع اللام التي في قوله:} ولنجعلك آية للناس {، وهو. بمعنى كي، لأن في دخولها في كي وأخواتها دلالة على أنها شرط لفعل بعدها،. بمعنى: ولنجعلك كذا وكذا فعلنا ذلك، ولو لم تكن قبل اللام أعني لام كي واو كانت اللام شرطا للفعل الذي قبلها، وكان يكون معناه: وانظر إلى حمارك، لنجعلك آية للناس وإنما عني بقوله} ولنجعلك آية " ولنجعله حجة على من جهل قدرتي وشك في عظمتي، وأنا القادر على فعل ما أشاء من إماتة وإحياء، وإفناء وإنشاء، وإنعام وإذلال، وإقتار وإغناء بيدي ذلك كله لا يملكه أحد دوني، ولا يقدر عليه غيري. وكان بعض أهل التأويل يقول: كان آية للناس بأنه جاء بعد مائة عام إلى ولده وولد ولده شابا وهم شيوخ. قال ابن جرير: والذي هو أولى بتأويل الآية من القول، أن يقال: إن الله تعالى ذكره. أخبر أنه جعل الذي وصف صفته في هذه الآية حجة للناس، فكان ذلك حجة على من عرفه من ولده وقومه ممن علم موته، وإحياء الله إياه بعد مماته، وعلى من بعث إليه منهم. وقال ابن كثير في تفسيره (1/ 688): {ولنجعلك آية للناس}، أي: دليلا على المعاد. (¬2) قال صاحب الكوكب المنير (1/ 297): " إذا دار اللفظ بين أن بكون مؤكدا أو مؤسسا، فإنه يحمل على (تأسيسه) نحو قوله تعالى: {فبأي آلاء ربكما تكذبان}، من أول سورة الرحمن إلى آخرها. فإن جعل تأكيدا، لزم تكرار التأكيد أكثر من ثلاث مرات. والعرب لا تزيد في التأكيد على ثلاث، فيحمل في كل محل على ما تقدم ذلك التكذيب- أي على ما تقدم قبل لفظ التكذيب، ويكون التكذيب ذكر باعتبار ما قبل ذلك اللفظ خاصة، فلا يتكرر منها لفظ، ولا يكون كيد البتة في السورة كلها فقوله تعالى: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان}، المراد آلاء خروج اللؤلؤ والمرجان خاصة. وكذلك الأمر في جميع السورة. انظر: شرح تنقيح الفصول ص 113.

على التأكيد مهيع (¬1)، مسلوك، ولأمر ما جعل الله- جل جلاله- قصة الحمار آية للناس، واختصها بالتنبيه على هذه المزية. أقول قولي هذا، وأستغفر الله، فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمن نفسي الأمارة. انتهى. ¬

(¬1) مهيع: من هاع الشيء يهيع هياعا: اتسع وانتشر. وطريق مهيع: واضح واسع بين وجمعه مهايع وأنشد: بالفور يهديها طريق مهيع. لسان العرب (15/ 180).

وبل الغمامة في تفسير {وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة}

وبل الغمامة في تفسير {وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة} تأليف العلامة محمد بن علي الشوكاني حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه محفوظة بنت علي شرف الدين أم الحسن

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: وبل الغمامة في تفسير: {وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة}. 2 - موضوع الرسالة: تفسير الآية الكريمة {وجاعل الذين اتبعوك ... }. 3 - أول الرسالة: الحمد لله وحده وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله. وبعد: فإنه لا يزال يقع السؤال على معنى قول الله سبحانه: {وجاعل الذين اتبعوك}. 4 - آخر الرسالة: حرر منقولا من خط المجيب محمد بن علي بن محمد الشوكاني غفر الله له، قال: حرر في الثلث الأوسط من ليلة الربوع (¬1) إحدى ليالي شهر صفر سنة 1214 هـ. 5 - نوع الحط: خط نسخط جيد. 6 - عدد الأوراق: أربع عشرة ورقة. 7 - المسطرة: الورقة الأولى: عنوان الرسالة واسم المؤلف. الورقة الثانية والثالثة والرابعة: 18 سطرا. الورقة الخامسة: 19 سطرا. الورقة السادسة والسابعة: 17 سطرا. الورقة الثامنة والتاسعة: 18 سطرا. الورقة العاشرة والحادية عشرة: 21 سطرا. الورقة الثانية عشرة: 20 سطرا. الورقة الثالثة عشرة: 16 سطرا. ¬

(¬1) تعني يوم الأربعاء وهذه التسمية شائعة في الجزيرة العربية.

الورقة الرابعة عشرة: 15 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 11 - 12 كلمة. 9 - الرسالة في المجلد الثالث من " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني"

الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد واله وبعد. فإنه لا يزال يقع السؤال عن معنى قول الله سبحانه: {وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا} (¬1). ومحل السؤال من هم هؤلاء المجعولون فوق الذين كفروا؟ فاعلم أن سياق الآية الكريمة هكذا: {إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة} ومقتضى الظاهر أن هذه الضمائر كفها لعيسى- عليه السلام-، وأن المجعولين فوق الذين كفروا هم متبعوه. ولكنه قد وقع الخلاف في المتبعين له من هم؟ هل النصارى أم المسلمون؟ فصرح العلامة في الكشاف (¬2) أنهم المسلمون. قال: لأنهم متبعوه في أصل الإسلام، وإن اختلفت الشرائع دون الذين كذبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصارى. اهـ. وتبعه على ذلك صاجا مدارك (¬3) التنزيل وحقائق التأويل فقال: هم المسلمون ثم ذكر كلام الزمخشري (¬4) بحروفه. وكذلك القاضي البيضاوي (¬5) إلا أنه ضم إلى المسلمين ¬

(¬1) [آل عمران: 55] (¬2) (1/ 192) (¬3) أي النسفي في مدارك التنزيل وحقائق التأويل (1/ 160). (¬4) هو أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي الإمام الحنفي المعتزلي الملقب بجار الله، ولد في رجب سنة 467 هـ بزمخشر، قرية من قرى خوارزم، وقدم بغداد، ولقي الكبار وأخذ عنهم. من مصنفاته: " الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ". " الفائق " في تفسير الحديث. " أساس البلاغة " في اللغة. " المفصل " في النحو رؤوس المسائل في الفقه. مات سنة 538 هـ بجرجانية خوارزم بعد رجوعه من مكة. " معجم المفسرين " لنويهض (2/ 666) " التفسير والمفسرون " للذهبي (1/ 203 - 205) (¬5) هو ناصر الدين أبو الخير، عبد الله بن عمر بن محمد بن على البيضاوي الشافعي وهو من بلاد فارس، ولي القضاء بشيراز ومن أهم مصنفاته: - كتاب الطوالع في أصول الدين. - وأنوار التنزيل وأسرار التأويل في التفسير [المعروف بـ (تفسر البيضاوي)]. مات سنة 683 هـ. " التفسير والمفسرون " للذهبى (1/ 282).

النصارى فقال ما لفظه: ومتبعوه من آمن بنبوته من المسلمين والنصارى، وإلى الآن لم يسمع غلبة اليهود عليهم، ولم يتفق ملك ودولة. اهـ. وقال الرازي (¬1) في مفاتيح الغيب (¬2) ما لفظه: وفيه وجهان: الأول: أن المعنى أن الذين اتبعوا عيسى على دينه يكونون فوق الذين كفروا من اليهود بالقهر والسلطان والاستعلاء إلى يوم القيامة، فيكون ذلك إخبارا عن ذل اليهود، وأنهم يكونون مقهورين إلى يوم القيامة. فأما متبعوا المسيح- عليه السلام- فهم الذين كانوا يؤمنون بأنه عبد الله ورسوله، وأما بعد الإسلام فهم المسلمون، وأما النصارى فهم وإن أظهروا من أنفسهم موافقته فهم يخالفونه أشد المخالفة من حيث إن صريح العقل يشهد بأنه- عليه السلام- ما كان يرضى بشيء مما يقوله هؤلاء الجهال. ومع ذلك فإنا نرى أن دولة النصارى في الدنيا أعظم وأقوى من أمر اليهود، بل يكونون أين كانوا فهم في الذلة (¬3) والمسكنة، وأما النصارى فأمرهم بخلاف ذلك. انتهى. وكلامه هذا قد تضمن أطرافا: الطرف الأول: أن المجعولين فوق الذين كفروا هم متبعوا المسيح من النصارى إلى - كتاب المنهاج وشرحه في أصول الفقه. ¬

(¬1) تقدمت ترجمته في القسم الأول (ص 268). من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني. (¬2) (8/ 69) (¬3) يشير إلى قوله تعالى: {وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءو بغضب من الله} [البقرة: 61].

ظهور الملة الإسلامية، ومن بعد ذلك هم المسلمون، إذ النصارى لو كانوا متبعين لعيسى لكانوا من المتبعين لرسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لأن شرع عيسى ودينه هو اتباع محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمن لم يسلم من النصارى فهو وإن كان متبعا لعيسى قبل ظهور الملة المحمدية لكنه غير [2] متبع له بعد ظهورها، لأن إتباعه لا يتم إلا باتباع (¬1) الملة المحمدية، إذ هو مبشر (¬2) برسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما نطق بذلك القرآن الكريم، بل جاءت الأدلة (¬3) ¬

(¬1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم رقم (1531240) وأحمد (31712) عن أبي هريرة عن رسول الله أنه قال: " والذي نفس محمد بيده! لا يسمع ب أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار ". وهو حديث صحيح. (¬2) قال تعالى: {وإذ قال عيسى ابن مريم يبني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين} [الصف: 16]. (¬3) قال تعالى: {إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمه منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين [آل عمران: 45 - 46]. . قال تعالى:} إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا {[المائدة: 110]. . قال تعالى:} وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيز حكيما وان من أقل الكتب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا {، النساء: 157 - 159]. وقال تعالى:} وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم &، [الزخرف: 61]. وللحديث الذي أخرجه البخاري رقم (3448، 3441، 2476، 2222) ومسلم رقم (242، 243، 244، 245، 246/ 155) من حديث أبي هريرة قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والذي نفسي بيده-

الصحيحة الصريحة بأنه ينزل في آخر الزمان، ويدين بالشريعة المحمدية (¬1). وقال أبو السعود (¬2) ما لفظه: قال قتادة، والربيع، والشجي، ومقاتل: هم أهل الإسلام الذين صدقوه، واتبعوا دينه من أمة محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دون الذين كذبوه وكذبوا عليه من النصارى. {فوق الذين كفروا} وهم الذين مكروا به، ومن يسير بسيرتهم من اليهود، فإن أهل الإسلام فوقهم ظاهرين بالعزة والمنعة والحجة. وقيل: هم الحواريون. وقيل: هم الروم. وقيل: هم النصارى، فالمراد بالإتباع مجرد الادعاء والمحبة، وإلا فأولئك الكفرة. بمعزل من اتباعه- عليه السلام-. انتهى. وقال محمد بن جزيء الكلبي في تفسيره المسمى: " التسهيل لعلوم (¬3) التنزيل " ما لفظه: {وجعل الذين اتبعوك} هم المسلمون وعلوهم عليهم بالحجة وبالسيف في غالب الأمر. وقيل: {الذين اتبعوك النصارى. وقوله:} فوق الذين كفروا {أي اليهود، فالآية مخبرة عن عزة النصارى على اليهود، وإذلالهم لهم. انتهى. وقال البقاعي (¬4) في كتاب: نظم الدرر في تناسب .................. ¬

= ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير ويضع الحرب، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها " ثم بقول أبو هريرة. واقرءوا إن شئتم} وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا & [النساء: 159]. (¬1) انظر: " التصريح مما تواتر في نزول المسيح " للعلامة محمد أنور شاه الكشميري. (¬2) في تفسيره " إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم " (2/ 69). (¬3) (1/ 109). (¬4) هو إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن على الخرباوي المقاعي، أبو الحسن برهان الدين. مؤرخ،=

الآيات (¬1) والسور ما لفظه: ولما كان لذوي الهمم العوالي أشد التفات إلى ما يكون عليه خلائفهم بعدهم من الأحوال [3] بشر الله عيسى في ذلك. مما يسره فقال: {وجاعل الذين اتبعوك} (2)، ولو بالاسم {فوق الذين كفروا} (¬2) أي يسترون ما يعرفون من نبوءتك. مما رأوا من الآيات التي أتيت بها مطابقة لما عندهم من البشائر (¬3) بك {إلى يوم القيامة}. وكذا كان لم يزل من اتسم بالنصرانية حقا أو باطلا فوق اليهود، ولا يزالون كذلك إلى أن يعدموا فلا يبقى منهم أحد. انتهى. فهذا قد جزم بأن المجعولين فوق الذين كفروا هم النصارى، ولم يعتبر الإتباع مفسر، محدث، أديب. ولد بقرية خربة روما من عمل البقاع بلبنان (سنة 809 هـ) وبها نشأ وتعلم وسكن دمشق ودخل بيت المقدس والقاهرة مات بدمشق سنة 885 هـ. من كتبه: " نظم الدرر قي تناسب الآيات والسور " في التفسير. " مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور ". البدر الطالع (1/ 19 - 22) ومعجم المؤلفين (1/ 71). ¬

(¬1) (4/ 421 - 422). (¬2) [آل عمران: 155]. (¬3) في التوراة " سفر التكوين الأصحاح الثالث عشر ". " أن إبراهيم لما فارقه لوط قال الله لإبراهيم: ارفع عينيك وانظر المكان الذي أنت فيه إلى الشمال والجنوب والمشرق والمعرب فإن جميع الأرض التي ترى كلها لك أعطها ولنسلك إلى أبد الأبد ". فنظرنا فرأينا ملك بني إسرائيل ارتفع عن أرض كنعان وما حولها وصار إلى العرب وهو يدل على صحة النبوة فيهم ولا نبي فيهم إلا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. في الإنجيل بشارة يوحنا- الإصحاح السادس عشر-. " والفارقليط روح القدس، الذي يرسله أبي باسمي، وهو يعلمكم كل شيء وهو يذكركم كلما ما قلت لكم ". وحيث يقول " إنه خير لكم أني انطلق لأني إن لم أذهب لم يأتكم الفارقليط فإذا انطلقت أرسلته إليكم، وإذا جاء ذلك فهو يوبخ العالم على الخطة وعلى الحكم ... ". الفارقليط- يشير إلى الرسل بعد عيسى عليه السلام- وهو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . وقد تقدم ذكر بشارات من التوراة والإنحيل قي القسم الأول الرسالة رقم [9، 10، 11].

الصحيح الكامل، بل مجرد ما يصدق عليه مسمى الإتباع. ولهذا قال: " ولو بالاسم " وجعل المراد بقوله: {فوق الذين كفروا} الجاحدين لنبوة عيسى. وقال في المجيد (¬1): إن " الكاف " في اتبعوك ضمير عيسى، وقيل خطاب (¬2) للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو من تلوين الخطاب. انتهى. إذا تقرر لك ما ذكره هؤلاء الأئمة الذين هم المرجع في تفسير كتاب الله- عز وجل- عرفت أن كلامهم قد تضمن الخلاف في ثلاثة مواطن من الآية الكريمة، أعني قوله تعالى:} وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا {(¬3). الموطن الأول: في تفسير الضمير الذي هو " الكاف " في " اتبعوك "، فالجمهور على أنه راجع إلى عيسى- عليه السلام- وهو ظاهر السياق، فإنه لا خلاف أن الضمير في قوله:} متوفيك ورافعك إلى ومطهرك {لعيسى، فينبغي أن يكون الضمير في المعطوف، وهو} وجاعل الذين اتبعوك & مثل الضمير في المعطوف عليه. وقيل هو لمحمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[4] كما ذكره صاحب المجيد. ويؤيد هذا ما أخرجه ابن عساكر (¬4) عن بعض الصحابة قال: جمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " أنها لن تبرح عصابة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على ¬

(¬1) " المجيد وإعراب القرآن المجيد " للسفاقسي مخطوط (357/ ب). (¬2) قال ابن الأنباري في " البيان غريب إعراب القرآن (1/ 206): (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا {فيه وجهان: الأول: " أن يكون معطوفا على ما قبله لأنه خطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما قبله حطاب لعيسى. الثاني: أنه معطوف على الأول وكلاهما لعيسى " اهـ. وانظر: " مشكل إعراب القرآن " للقيسي (1/ 143). (¬3) [آل عمران: 55] (¬4) عزاه إليه السيوطى في الدر المنثور (2/ 226) من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.

الناس، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك " ثم نزع هذه الآية- أي قرأ بها: {إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة} (¬1). ووجه جعل هذا الحديث مؤيدا كون ذلك الضمير لمحمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصف أمته بتلك الأوصاف، ثم قرأ الآية مستدلا ها على تلك الأوصاف، فلو كان الضمير لعيسى لم يصح الاستدلال بالآية. فالحاصل أن السياق يرشد إلى ما قاله الجمهور، وهذا الحديث يرشد إلى ما قاله غيرهم. وسيأتي التصريح. مما هو الراجح، والجمع بين جميع الأقوال. الموطن الثاني: الخلاف في تفسير المتبعين بصيغة اسم الفاعل. وقد اختلف في ذلك على أقوال: الأول: إنهم المسلمون. والثاني: النصارى. الثالث: المسلمون والنصارى. الرابع: الحواريون. الخامس: الروم. وقد وردت آثار عن السلف قاضية بأنهم المسلمون [5]، فمنها ما أخرجه عبد بن حميد (¬2)، وابن جرير (¬3) عن قتادة في تفسير قوله تعالى: {وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة} (¬4) قال: هم أهل الإسلام الذين اتبعوه على فطرته وملته وسنته، فلا يزالون ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة. ¬

(¬1) [آل عمران: 55] (¬2) ذكره السيوطى في " الدر المنثور " (2/ 226). (¬3) في "جامع البيان " (3/ ج 3). (¬4) [آل عمران: 55]

وأخرج ابن جرير (¬1) عن ابن جريج قال: معنى الآية ناصر من اتبعك على الإسلام على الذين كفروا إلى يوم القيامة .. وأخرج ابن أبي حاتم (¬2) عن الحسن قال: هم المسلمون ونخن منهم، ونحن فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة. ومن الأدلة على هذا الحديث المذكور في الموطن الأول. ومن الآثار الدالة على أفم النصارى ما أخرجه ابن جرير (¬3) عن ابن زيد في تفسير الآية قال: النصارى فوق اليهود إلى يوم القيامة. ومن الآثار الدالة على أهم المسلمون والنصارى ما أخرجه ابن المنذر (¬4) عن الحسن في الآية قال: عيسى مرفوع عند الله، ثم ينزل يوم القيامة، فمن صدق عيسى ومحمدا - صلى الله عليهما- وكان على دينهما لم يزالوا ظاهرين على من فارقهم إلى يوم القيامة. المواطن الثالث: الخلاف في تفسير: {الذين كفروا} المذكورين في الآية [6] .... . فذهب الجمهور إلى أنهم اليهود، وذهب الأقلون إلى أهم الذين ستروا ما يعرفونه من نبوة عيسى، وذهب آخرون إلى أنهم الذين مكروا بعيسى. وإذا قد عرفت الاختلاف بين أئمة التفسير في هذه الثلاثة المواطن فاعلم أن معرفة الراجح والمرجوح لا تتم إلا بعد إمعان النظر في هذه الآية الكريمة، فأقول: لا ريب أن صيغة {الذين اتبعوك} من صيغ (¬5) العموم، وكذلك صيغة {الذين كفروا} من ¬

(¬1) في "جامع البيان " (3/ ج 3). (¬2) في تفسيره (2/ 663 رقم 3593). (¬3) في "جامع البيان " (ج 3). (¬4) ذكره السيوطي في الدر المنثور (2/ 227). (¬5) قال صاحب الكوكب المنير (3/ 123): ومن صيغ العموم أيضًا الاسم (الموصول) سواء كان مفردا كالذي، التي، أو مثنى {والذان يأتيانها منكم} [النساء: 16]، أو مجموعا تحو قوله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} [الأنبياء: 101]. وانظر: تيسير التحرير (1/ 224) 0 المعتمد (1/ 206).

صيغ العموم، والواجب العمل. مما دل عليه النظم القرآني. وإذا ورد ما يقتضي تخصيصه أو تقييده أو صرفه عن ظاهره وجب العمل به، وإن لم يرد ما يقتضى ذلك وجما البقاء على معنى العموم، وظاهره شمول كل متبع، وأنه مجعول فوق كل كافر، وسواء كان لإتباع بالحجة أو بالسيف أو بهما، وفي كل الدين أو بعضه، وفي جميع الأزمنة والأمكنة - الأحوال، أو في بعضها. والمراد بالكافر- الذي جعل المتبع فوقه- كل كافر سواء كان كفره بالستر لما يعرفه ش نبوة عيسى، أو بالمكر به، أو. بمخالفة دينه، إما بعدم التمسك بدين من الأديان قط، كعبدة الأوثان والنار والشمس والقمر، والجاحدين لله، والمنكرين للشرائع، وإما مع لتمسك بدين [7] يخالف دين عيسى قبل بعثة نبينا محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كاليهود وسائر الملل الكفرية، فالمتبعون لعيسى بأي وجه من تلك الوجوه هم المجعولون فوق من كان كافرا أي تلك الأنواع، ثم بعد البعثة المحمدية لا شك أن المسلمين هم المتبعون لعيسى لإقراره بنبوة محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتبشيره ها كما في القران الكريم، والإنجيل، بل في الإنجيل الأمر لاتباع عيسى بإتباع محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فالمتبعون لعيسى بعد البعثة المحمدية هم المسلمون في أمر الدين، ومن بقى على النصرانية بعد البعثة المحمدية فهو وإن لم يكن متبعا لعيسى في أمر الدين ومعظمه، لكنه متبع له في الصورة، وفي الاسم، وفي جزيئات من أجزاء الشريعة العيسوية فقد صدق عليهم أنهم متبعون له في الصورة، وفي الاسم، وفي شيء مما جاء به، وإن كانوا على ضلال ووبال وكفر، فذلك لا يوجب خروجهم عن العموم المذكور في القرآن، ولا يستلزم اندراجهم تحت هذا العموم أنهم على شيء، بل هم هالكون في الآخرة، وإن كانوا مجعولين فوق الذين كفروا، فذلك إنما هو في هذه الدار، ولهذا يقول الله- عز وجل- بعد قوله: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (¬1) ¬

(¬1) [آل عمران: 5 - 57]

فالحاصل أن المجعولين فوق الذين كفروا هم أتباع عيسى قبل النبوة المحمدية، وهم النصارى والحواريون، وبعد النبوة المحمدية هم المسلمون والنصارى والحواريون، الأولون هم الأتباع حقيقة، وغيرهم هم الأتباع في الصورة. وقد جعل الله الجميع فوق الذين كفروا من اليهود وسائر الطوائف الكفرية. وقد كان الواقع هكذا، فإن الملة النصرانية قبل البعثة المحمدية كانت قاهرة لجميع الملل الكفرية، ظاهرة عليها غالبة لها، وبعد البعثة المحمدية صارت جميع الطوائف الكفرية هبا بين الملة الإسلامية والملة النصرانية ما بين قتيل وأسير ومسلم للجزية، وهذا يعرفه كل من له إلمام بأخبار العالم، ولكن الله- سبحانه- قد جعل الملة الإسلامية قاهرة للملة النصرانية مستظهرة عليها، وفاء بوعده في كتابه العزيز كما في الآيات المشتملة على الأخبار بأن جنده هم الغالبون، وحزبه هم المنصورون. ومن ذلك قوله تعالى: {فأيدنا الذين ءامنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين} (¬1). {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} (¬2)، {ولن يجعل الله للكفرين على المؤمنين سبيلا} (¬3). وقد أخبر الصادق المصدوق بظهور أمته (¬4) ¬

(¬1) [الصف: 14] (¬2) [المنافقون: 8] (¬3) [النساء: 141] (¬4) لقوله تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} [الصف: 9]. وللحديث الذي أخرجه البخاري رقم (7311) ومسلم رقم (171/ 1921) عن المغيرة بن شعبة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى تأتيهم أمر الله وهم ظاهرون ". وللحديث الذي أخرجه مسلم رقم (504 رقم 2229) وأبو داود رقم (4252) والترمذي رقم (2229) وقال: حديث حسن صحيح. وابن ماجه رقم (3952) عن ثوبان قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ". وهو حديث صحيح.

على جميع الأمم وقهر ملته لجميع الملل. وبالجملة آنا إذا جردنا النظر إلى الملة الإسلامية، والملة النصرانية فقد ثبت بالكتاب والسنة ما يدل على استظهار [9] الملة الإسلامية على الملة النصرانية، وإن نظرنا إلى جميع الملل فالملة الإسلامية والملة النصرانية هما فوق سائر الملل الكفرية لهذه الآية التي ورد السؤال عنها. ولا ينافي هذا شيء مما تقدم ذكره، لأن ما ورد مما يدلا على أن المسلمين هم المجعولون فوق الذين كفروا هو صحيح، لأنهم قد جعلوا فوق جميع الملل بعد البعثة المحمدية. ولا مخالف ذلك جعل بعض الملل الكفرية وهم النصارى فوق سائر الملل الكفرية، ولا ملجئ إلى جعل الضمير المذكور في الآية، وهو " الكاف " لنبينا محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما تكلفه جماعة من المفسرين، لأن برحله لعيسى كما يدل عليه السياق، بل هو الظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه لا يستلزم إخراج الملة المحمدية بعد البعثة، إذ هم متبعون لعيسى كما عرفت سابقا. ولا خلاف بين أهل الإسلام أن الملة النصرانية كانت قبل البعثة المحمدية هي القاهرة لجميع الملل الكفرية، فلم يبق في تحويل الضمير عن مرجعه الذي لا يحتمل السياق فيه فائدة إلا تشكيك النظم القرآني، والإخراج له عن الأساليب البالغة في البلاغة إلى حد الإعجاز. ومن تدبر هذا الوجه الذي حررناه علم أنه قد أعطى التركيب القرآني ما يليق ببلاغته من بقاء عموم الموصول الأول والموصول الثاني، وعدم التعرض لتخصيصه. مما ليس بمخصص، وتقييده. مما ليس. بمقيد، وعدم الخروج عن مقتضى الظاهر في مرجع الضمائر، وعدم ظن التعارض بين ما هو متحد الدلالة [10]

فإن قلت: أي فرق يبن هذا التحرير الذي عولت عليه، وبين كلام الرازي في مفاتيح الغيب (¬1) الذي قدمت نقله؟. قلت: الفرق بينهما من وجوه ثلاثة. الأول: أن الرازي فسر الأتباع المجعولين فوق الذين كفروا بأهم قبل البعثة المحمدية أتباع المسيح، وبعدها المسلمون فقط. والتحرير الذي قدمناه يتضمن أفم بعد البعثة المسلمون والنصارى باعتبار استعلائهم على سائر الملل الكفرية. الوجه الثاني: أن الرازي خص أتباع عيسى بأنهم الذين كانوا يؤمنون بأنه عبد الله ورسوله. والتحرير الذي قدمناه فيه التعميم للأتباع في الحقيقة والأتباع في الصورة، وفي بعض الدين كما يقتضيه العموم. الوجه الثالث: أنه خصص الذين كفروا باليهود فقط، والتحرير الذي قدمناه يتضمن التعميم. فالحاصل أن كلام الرازي قد تضمن تخصص العمومين. مما لا يقتضي التخصيص. فإن قلت: أي فرق بين ما قدمت نقله عن البقاعي (¬2) وبن ما حررته؟. قلت: البقاعي جعل الفرقة المستعلية هي النصرانية من غير تعرض منه لذكر الملة المحمدية بعد البعثة، ثم جعل الفرقة التي وقع الاستعلاء عليها هي الفرقة اليهودية، والذي حررناه يخالفه في الوجهين. فإن قلت: أي فرق بين ما قدمت نقله عن البيضاوي (¬3)، وبن ما حررته؟. قلت: الفرق من وجهين: الأول: أنه وإن قال بأن المراد من امن بنبوة عيسى من المسلمين والنصارى، لكنه ¬

(¬1) (8/ 69) (¬2) في " نظم الدرر في تناسب الآيات والسور " (4/ 421 - 422). (¬3) في تفسير " أنوار التنزيل وأسرار التأويل " (ص 75).

خصص [11] الإيمان بالنبوة، وأهمل العموم. الثاني: أنه جعل الذين كفروا هم اليهود والذي حررناه يخالفه في الوجهين. فإن قلت: أمحب: فرق بين ما نقلته سابقا عن أبي السعود (¬1)، وبين ما حررته؟ قلت: الذي ذكره أبو السعود حسبما سلف إنما هو حكاية الأقوال، فالقول الأول خصص الأتباع بالمسلمين، وهو مثل ما اختاره الزمخشري (¬2) وأتباعه ثم قال: إن الذين كفروا هم الذين مكروا بعيسى، والذي حررناه يخالفه في الوجهين، وكذلك يخالف ما حكاه من بقية الأقوال في الفرقة المستعلية، وهكذا بقية النقول السابقة، وليس المراد هذا التنبيه إلا الإيضاح بأن ما حررناه أوفق. بمعنى الآية، وأدفع للإشكال، وأجمع لما قيل من الأقوال، ومخالفته لما خالفه ليست إلا من حيتا اقتصار كل قائل على قول، ونفي ما سواه، لا من حيث صدقه على جميع ما قيل، فلا شك أنه صادق على ذلك إذ من قال مثلا بأن الفرقة المستعلية هي فرقة المسلمين فقط قد دخل قوله تحت ذلك التعميم وكذلك من قال أنها الفرقة النصرانية [12] وكذلك من قال أهما الفرقتان جميعا وكذلك من قال أن الفرقة التي وقع الاستعلاء عليهما هي فرقة اليهود فقط أو الفرقة التي سترت ما تعرفه من نبوة المسيح، أو الفرقة التي مكرت به فأنه قد دخل ما قاله هؤلاء تحت ذلك العموم ومن قال أن الضمير لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فهو يرجع حاصل ما يستفاد من ذلك إلى قول من قال أن الفرقة المستعلية هم المسلمون (¬3) ومثل هذا الإيضاح لا يحتاج إليه صادق ¬

(¬1) في تفسير " إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم " (2/ 69). (¬2) في تفسير " الكشاف " (1/ 192). (¬3) {يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق للذين كفروا إلي يوم القيامة [آل عمران: 55]. قال ابن تيمية في رد دعواهم الفضل لهم- النصارى- على المسلمين: فهذا حق كما أضر الله به، ممن أتبع المسيح- عليه السلام- جعله الله فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة وكان الذين اتبعوه على دينه الذي لم يبدل قد جعلهم الله فوق اليهود. وأيضا النصارى فوق اليهود الذين كفروا به إلى يوم القيامة. وأما المسلمون فهم مؤمنون له ليسوا كافرين به بل لما لدل النصارى دينه وبعث الله محمدا- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدين الله الذي بعث به المسيح وغيره من الأنبياء جعل الله محمدا وأمته فوق النصارى إلى يوم القيامة. كما في الصحيحين [البخاري رقم (3442) ومسلم رقم (2365)] من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " أنا أولى الناس بابن مريم، والأنبياء أولاد علات ليس بيني وبينه نبي ". وقال تعالى:} شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ {[الشورى: 13]. وقال تعالى:} يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ {[المؤمنون: 51 - 53] فكل من كان أتم إيمانا بالله ورسله، كان أحق بنصر الله تعالى فإن الله سبحانه لقول:} إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ {[غافر: 51]. وقال سبحانه وتعالى:} وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ {[الصافات: 171 - 173]. . واليهود كذبوا المسيح ومحمدا عور كما قال الله فيهم:} بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ {[البقر ة: 90]. فالغضب الأول: بتكذيبهم المسيح. والثاني: تكذيبهم لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والنصارى لم يكذبوا المسيح فكانوا منصورين على اليهود، والمسلمون منصورون على اليهود والنصارى، فإنهم آمنوا بجميع كتب الله ورسله، ولم يكذبوا بشيء من كتبه ولا كذبوا أحدا من رسله، بل اتبعوا ما قال الله لهم حيث قال سبحانه وتعالى:} قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ {[البقرة: 136]. وقال تعالى:} آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ& [البقرة: 285]. ولما كان المسلمون هم المتبعون لرسل الله كلهم، المسيح وغيره، وكان الله قد وعد أد ينصر الرسل وأتباعهم قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة " - تقدم تخريجه- (ص 1139). وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سألت ربي أن لا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم فيجتاحهم فأعطانيها "- أخرجه الترمذي رقم (2175) من حديث خباب بن الأرث عن أبيه وهو حديث صحيح. وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (2895) من حديث عامر بن سعد عن أبيه. وانظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (2/ 178 - 180) لأبن تيمية.

حرر منقولا من خط المجيب محمد بن علي بن محمد الشوكاني غفر الله له ...... قال [أي في الأصل] حرر في الثلث الأوسط من ليلة الأربعاء إحدى ليالي شهر صفر سنة 1214 هـ.

بحث في النهي عن إخوان السوء

بحث في النهي عن إخوان السوء تأليف العلامة محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط 1 - عنوان الرسالة: (بحث في النهي عن إخوان السوء). 2 - موضوع الرسالة: تفسير. 3 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمن وعلى آله الطاهرين وصحبه الراشدين، وبعد: فإنا رأينا من بعض أهل عصرنا من يتصف بالأوصاف التي ذكرها الله سبحانه في كتابه العزيز حيث قال الله عز وجل .... ". 4 - آخر الرسالة: " والسنة المتواترة. اللهم أصلحنا وسائر عبادك، وادفع عنا شر الأشرار، وكيد الفجار، يا من لا إله غيره ولا ملجا سواه وحسبنا الله ونعم الوكيل. قاله كاتبه غفر الله له ". نوع الحط: خط نسخي جيد. الناسخ: المؤلف / محمد بن علي الشوكاني/. عدد الأوراق: ورقتين ونصف. الصفحة الأولى: 25 سطرا. الصفحة الثانية: 27 سطرا. الصفحة الثالثة: 28 سطرا. الصفحة الرابعة: 27 سطرا. الصفحة الخامسة: 21 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 9 - 12 كلمة. 9 - الرسالة في المجلد الرابع من " الفتح الربايئ من فتاوى الشوكايئ ".

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين، والصلاد والسلام على سيدنا محمد الأمن، وعلى آله الطاهرين وصحبه الراشدين، وبعد: فإنا رأينا من بعض أهل عصرنا من يتصف بالأوصاف التي ذكرها الله- سبحانه- في كتابه العزيز حيث قال- عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (¬1) انظر كيف وصف- سبحانه- ما ¬

(¬1) [آل عمران: 118 - 1120]. . معاني مفردات النص. قوله: بطانة: بطانة الثوب هي ما يلي منه، وهى حلاف ظهارته مأخودة من البطن، فبطن كل ش! ء جوفه، أو مأخوذة من فعل " بطن ". بمعنى خفي، وضده " ظهر ". القاموس (ص 1524) لسان العرب (1/ 434). قال ابن كثير في تفسيره (2/ 106): وقوله: {لا تتخذوا بطانة من دونكم} أي: من غيركم من أهل الأديان، وبطانة الرجل: هم خاصة أهله الذين يطلعون على داحلة أمره. وقد أحرج البخاري في صحيحه رقم (6611 و7198) عن أبي سعيد أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالسوء وتحضه عليه والمعصوم من عصم الله ". . قوله: (دونكم) من غيركم ممن هم سافلون بكفرهم أو نفاقهم أو ترددهم وعدم ثبات إيمانهم من الذين في قلوهم مرض. يألو: قصر وأبطأ. لسان العرب (1/ 191). خبالا: الخبال النقصان، والهلاك، السم القاتل. والحبال فساد العقل والجنون. ودوا ما عنتم: أي تمنوا عنتكم، مشقتكم والإضرار بكم. البغضاء: شدة البغض. قال ابن كثير ني تفسيره (2/ 108): قال تعالى: {قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر} أي: قد لاح على صفحات وجوههم، وفلتات ألسنتهم من العداوة مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله ما لا يخفى مثله على لبيب عاقل. . المعنى العام للنص القرآن: يا أيها الذين آمنوا صادقين في إيمانكم، لا تتحذوا أخلاء أو أصفياء أو أصدقاء، أو أولياء أو عمالا أعمال يطلعون فيها على أسراركم وخفايا أموركم، وما يدبرون من خطط للسلم والحرب، من دون المؤمنين الصادقين في إسلامهم أي: من غير نوعهم وصنفهم وجنسهم، لئلا يتمكنوا لذلك من مخالطتكم ومداخلتكم في أموركم المهمة، ليطلعوا بدلك على أسراركم، وبواطن أحوالكم وشؤونكم، ثم يتحذوا من مواقعهم أسبابا للإضرار بكم وإفساد أموركم. . أني اتخاذ لطالة منهم فهي موالاة مر مستوى رفيع حدا وهو أمر لا يليق إلا بالخلص من المؤمنين فلا يحوز اتخاذ بطالة مر الكافرين بداهة. لكن الأمر الذي قد تحصل فيه شبهة هو اتخاذ المنافقين بطانة فجاء النص للتحذير منه بالقصد الأول. مع تهول النص للكافرين، والفاسقين والذين في قلوهم مرض دون النفاق، إذ كلهم يدخلون في عموم وصف. ومن أسباب التحذير الشديد من اتخاذ بطانة من المنافقين: 1/ أنهم لا يقصرون ولا ببطون في إفساد أحوال المؤمنين وإنزال الضرر هم وتوهين قواهم، وتمزيق صفوفهم، ومؤازرة أعدائهم ضدهم، حتى استئصال شأفتهم. 2/ أنهم يتمنون أن ينزل بالمؤمنين كل بلاء وعنت ومشقة وضرر، وهذا يدفعهم إلى اتخاذ الوسائل لتحقيق ما يتمنون، وإلى تدبر المكايد ضدهم. 3/ أن أمارات بغضهم للمؤمنين قد ظهرت فعلا من أقوالهم وفلتات ألسنتهم والخبير الذكي الفطن يستطيع أن يكتشف ما في خبايا القلوب والنفوس من معاريض الأقوال وفلتات الألسنة. 4/ أن ما تخفيه صدورهم من بغضاء للمؤمنين، وما تدفع إليه هده البغضاء من مكر وكيد، واتخاذ الوسائل للإضرار بالمؤمنين، وهو أكبر مما ظهر من أمارات البغضاء على ألسنتهم. 5/ أنهم يرقبون أحوال المؤمنين وما ينزل بهم تباعا يوما فيوما، بعين عدو حاقد ماكر، فإن تمسسهم حسنة ما ولو كان مسا رقيقا وبنسبة قليلة ساءهم دلك، وإذ تصبهم سيئة ما يفرحوا بها، لأنهم في قلوبهم ونفوسهم أعداء للمؤمنين، ممتلئون غيظا منهم، وبغضا لهم. . منهج رباني رممته الآيات على المؤمنين أن يسلكه ليتقي شر المنافق: 1/ ألا يتخذ المؤمنون بطانة من المنافقين. 2/ أن يثقوا بالله ويتوكلوا عليه، فهو الذي ينصرهم ويحميهم من مكابد المنافقين وشرورهم. إدا اتبعوا أوامره واجتنبوا نواهيه والتزموا منهاجه في السلم والحرب. 3/ أن يصروا عليهم، ولا ينزلوا بهم لقمتهم قمل أن بأذن الله لهم أو تثبت إدانتهم صراحة بالكفر والردة. 4/ أن يتقوا الله ربهم ي كل أعمالهم، وأن يكونوا على حذر شديد من المنافقين وفى حالة مراقبة تامة لهم ولتحركاتهم.

يقع من هذه الطائفة من الخبال والخذلان، وودادة ما يعنت أهل الإيمان، وظهور البغضاء التي محلها القلوب بترجمة الألسن عنها، وظهورها منها، وأن ذلك الذي تبديه الألسن من الأفواه إنما هو البعض، وما تخفيه الصدور أكبر! ثم ختم الآية بأن هذا البيان الرباني بالآيات القرآنية إنما يفهمه من يتعقل الأمور كما ينبغي، ويفهمها كما يجب، لا من كان غافلا بليد الفهم، ضعيف العقل بم فإنه يلتبس عليه صنيع هؤلاء المنافقة (¬1) الذين ¬

(¬1) النفاق: مصطلح إسلامي لم تعرفه العرب. بمعنى التظاهر بالإسلام، وادعاء الإيمان كذبا ومخادعة للمؤمنين، مع إبطان الكفر وعدم الإيمان. النفاق: من النفق هو السرب في الأرض النافذ إلى موضع آخر، والداخل فيه يستتر به، وجمع النفق أنفاق، ومنه قول الله عز وجل لرسوله في سورة الأنعام (35): {وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين}. النفاق وفق المعنى الإسلامي: هو إظهار الإسلام باللسان، وادعاء الإيمان كذبا وزورا ومخادعة للمؤمنين، مع إبطان الكفر بكل أركان القاعدة الإيمانية أو ببعض منها مما يجعل جاحده كافرا ويدل على النفاق أن يدعي الإنسان الإسلام ولا يعمل به، روى ابن جرير عن حذيفة أله قيل له: ما النفاق؟ قال: الرجل يتكلم بالإسلام ولا يعمل به. لسان العرب (10/ 359). انظر: بصائر دوي التمييز للفيروزآبادي (5/ 104)، ظاهرة النفاق (1/ 52 - 53)، التعريفات للجرجاني (ص 245). . أسباب نشأة النفاق: 1/ حين انتصار الدعوة الإسلامية وارتفاع شأنها وعلو كلمتها، ويضحي بيد أهلها الحل والعقد. يظهر على الساحة بعض أصحاب النفوس المريضة وذوا الأطماع والشهوات الذين يجدون في رحاب هذه الدعوة المنتصرة مجالا واسعا لنيل مآربهم وأطماعهم وإرضاء شهواتهم الحسيسة فيتظاهرون بالانضمام إليها لتحقيق ما تصبو إليه لنفوسهم المريضة. 2/ للسبب الأول- أعني انتصار الدعوة- يدخل فيها من اشتعل قلبه حقدا على هذه الدعوة، وامتلأ بغضا للإسلام وأصحابه، فإذا وجد فرصة للكيد. بمبادئ الإسلام ودعاته اقتنصها، وإذا وجد ثغرة صوب رمحه إليها وهذا لا يصنعه- أعني الدخول في الدعوة- إلا عن جبن وبغية السلامة لنفسه يظهر الإيمان ويبطن الكفر يظهر حب المؤمنين ويكتم لعضهم، يبدي الغيرة على الدعوة والانتصار لها وقد انطوت سريرته على الحقد والكيد. 3/ حينما تبتلى الدعوات وأهلها ويشتد الاضطهاد لهم ويلقى المؤمنون في سبيل دعوتهم أشد أنواع الخسف والهوان. ويتفش الظلمة وحكام الجور في إيذائهم والكيد لهم والسخرية منهم والاستهزاء. بمبادئهم يريدون بذلك قتل الإيمان في القلوب. في هذه الحالة التي تعظم ليها النكبات وتتلاحق المحن والفن وفي الوقت الذي تشتد فيه عزائم المؤمنين ويزداد حماسهم لدعوتهم ... في هده الآونة يظهر ذلك النوع الآخر من ضعفاء الإيمان ومرضى القلوب يسارعون إلى الكفر بالدعوة ورجالهم وتجدهم أعظم حربا عليهم من الكافرين ها والمحاربين لدعاتهم، هم أناس حقرت نفوسهم وصغرت واستعصمت عليهم المعاني العليا فأصبحت في واد وهم في واد آخر. انظر: " المنافقون وشعب النفاق " للأستاذ حسن عبد الغني المحامي.

يبطنون مالا يظهرون، ولكن فلتات ألسنتهم، وما تجيش به خواطرهم مما استجن في

قلوبهم من الغيظ يستدل به العقلاء على ما وراعه، ويتعقل به ما خلفه من العداوة الكامنة كمون النار في صميم الأحجار، ثم أوضح لعباده المؤمنين أنهم قد اغتروا بظواهر أحوالهم، وما تلفوه من نفاقهم (¬1)، فأخبرهم- مع أهم لا يحبونهم- أن المؤمنين على طريقة الإيمان الخالص التام بالكتاب كله [1ب]، وأضدادهم لا يؤمنون أصلا بل ينافقونهم، فيقولون آمنا، وذلك مجرد قول باللسان لا حقيقة له ولا اعتقاد (¬2) قلب، ثم ¬

(¬1) قال ابن القيم في مدارج السالكين (1/ 347 - 359): " وأما النفاق فالداء العضال الباطن، الذي يكود الرجل ممتلئا منه، وهو لا يشعر. فإنه أمر خفي على الناس، وكثيرا ما يخفى على من تلبس به، فيزعم أنه مصلح وهو مفسد. وهو نوعان: أكبر، وأصغر. فالأكبر: يوجب الخلود في النار في دركها الأسفل، وهو أن يظهر للمسلمين إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وهو في الباطن منسلخ من ذلك كله مكذب. وقد هتك الله سبحانه أستار المنافقين، وكشف أسرارهم في القرآن، وجلى لعباده أمورهم ليكونوا منها ومن أهلها على حذر، وذكر طوائف العالم الثلاثة في أول سورة البقرة- المؤمنين والكفار والمنافقين- فذكر في المؤمنين أربع آيات وقي الكفار آيتين وفي المنافقين ثلاث عشرة آية لكثرتهم وعموم الابتلاء هم وشدة فتنتهم على الإسلام وأهله .... ". (¬2) أقسام النفاق: - النفاق الاعتقادي: وهو الاعتقاد بالكفر والإشراك بالله وبغض الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإخفاء ذلك وإبطانه، وإظهار الإيمان ومحبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم مخالفة ذلك عمليا بالرضا بالتحكم إلى شرع غير الله عز وجل وتفضيل حكم غير الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأفراد الفئة التي تعتنق هذه المبادئ لا شك ي كفرهم إذ أنهم أبطنوا الكفر لمصالح شخصية ومحاولة نيل مآربهم وإرضاء شهواتهم الخسيسة منها: محاولة زعزعة إيمان المسلمين بتثبيت هممهم في الدفاع عن دينهم والتشكيك في نبوة المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد تندس هذه الفئة بين المؤمنين بسبب حقدهم لدعوة الإسلام وأهلها فيرتموا بين أحضانها يبتغون السلامة لأنفسهم، وبعد ذلك يظهرون حب المؤمنين ويكتمون بغضهم. - النفاق العملي: وهذا النوع مر النفاق لا يخرج صاحبه من ملة الإسلام ولكنه يجعله متشبها بالمنافق، وذلك إذا ارتكب بعض الخصال التي ذكرت أنها من خصال المنافق كالكذب وخيالة الأمانة، وإخلاف الوعد، والفجور في الخصومة، وذلك لاتفاق أهل السنة أن فعل هده الخصال لا يخرج من الملة ولكن صاحبها والذي يرتكبها لمال من جرائها إثما كبيرا ويخشى عليه إن أكثر منها أن تؤدي به إلى النفاق الاعتقادي.

بالغ الرب- سبحانه- في غيظ هؤلاء المنافقين، ومزيد بعضهم، وتكالبهم في العداوة للمؤمنين فقال: {وإذا خلوا (¬1) عضوا (¬2) عليكم (¬3) الأنامل من الغيظ} والبلوغ إلى لذا الحد لا يكون إلا لالتهاب صدورهم، وتسعر قلوبهم، واضطرام خواطرهم كما تراه يمن بلغ به الغيظ إلى عض أنامله، فإنه لا يكون ذلك إلا لأمر قد فدحه، وبلغ منه إلى لغاية التي ليس وراءها غاية، ثم علم الله المؤمنين. مما يقولونه لهم عند ذلك، وأمر رسوله - صلى الله عليه واله وسلم- أن يقول لهم: {موتوا (¬4) بغيظكم}. فانظر هذا الأدب ¬

(¬1) أي: والمنافقون لهم وجهان: - وجه يخادعونكم له إذا لقوكم، فإذا لقوكم قالوا لكم: آمنا معكم مثل إيمانكم ونحن نحبكم ونودكم، لأنكم إخواننا في الدين وهم في الادعاءين كاذبون. - وجه يظهرونه إدا خلوا، فهم إذا حلوا بأنفسهم، أو حلا بعضهم إلى لعض كشفوا حقيقة كفرهم مما أعلنوا أمام المؤمنين أنهم آمنوا به وكشفوا ما في قلوبهم من غيظ على المؤمنين وعلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (¬2) يشير سبحانه إلى مظاهر تعبيراتهم الحركية عن غيظهم من المؤمنين، أن يضعوا أناملهم في أفواههم ويعصوا عليها غيظا وحنقا. (¬3) وتدل عبارة (عليكم) على أنمم يشددون عضهم على أناملهم، لأنهم يتوهمون أنهم يعضوها وأنتم فيها، رغبة في إيلامكم، وهم في الواقع يؤلمون أنفسهم، وهذا غاية ي التعبير عن شدة غيظهم، الذي غفلوا معه عر آلام أناملهم. (¬4) قال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (18214 - 183): قيل عنه جوابان: أحدهما- قال فيه الطبري في " جامع البيان " (3 ج 4/ 67) وكثير من المفسرين: خرج هذا الكلام مخرج الأمر، وهو دعاء الله نبيه محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يدعو عليهم لأن يهلكهم الله كمدا مما هم من الغيظ على المؤمنين، قبل أن يروا فيهم ما يتمنون لهم من العنت في دينهم والضلالة بعد هداهم فقال لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قل يا محمد. اهلكوا بغيظكم، إن الله عليم بذات الصدور. الثاني: أن المعنى أضرهم أهم ما يؤملون، فإن الموت دون دلك، فعلى هدا المعنى زال معنى الدعاء وبقي معنى التفريغ والإغاظة.

الإلهي، والتعليم الرباني، فإنك لو جئت بكل عبارة في الرد على هؤلاء المنافقة لم تجد جوابا أبلغ من هذا ولا أقطع، ولا أنكا لقلوهم، وأخرس لألسنهم منه فإن غاية ما يتأثر عن مزيد العداوة هو الغيظ، فإن تعاظم وتفاقم وأفرط بصاحبه بلغ به الموت، فإذا قلت لمن غلت مراجل قلبه، واضطرمت نيران جوفه، واضطربت أمواج صدره. مما جلبته عليه عداوته لك من الغيظ: (! ا بغيظك) فقد بلغت من نكايته مبلغا لا تفي به عبارة، ولا يحيط به قول، لأنك جئت بغاية ما تبلغ إليه كيده، وينهي الله غيظه، وقلت له: مت بغيظك، فإنك لم تضر به إلا نفسك، ولم ينجع إلا فيك، ولا بلغ هذه الغاية إلا منك، وعند أن يسمع هذا الجواب يزداد غيظا إلى غيظه، وبلاء إلى بلائه، ومحنة إلى محنته، وكانت الثمرة التي استفادها من عداوته وما حمله من حسده هو هذا العذاب العظيم، والبلاء المقيم، ولم ينل أهل الإيمان من ذلك شيء أصلا فحار كيده عليه {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله} (¬1) ورجع بغيه إليه: {يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم} (¬2) وعاد نكثه إلى نفسه: {فمن نكث فإنما ينكث على نفسه} (¬3) وخداعه به {يخدعون الله والذين ءامنوا وما يخدعون إلا أنفسهم} (¬4)، ثم أخبر- سبحانه- عباده المؤمنين بأنه عليم. مما تجنه الصدور، وتخفيه القلوب، وفي ذلك تسلية للمؤمنين عظيمة عما يكاد يلحق هم من غم لما يسمعونه من جلبة المنافقين عليهم، وصولتهم وعداوتهم لهم، لأن ما كان بعلم الرب- سبحانه-، وكائن لديه فهو المجازي لفاعله، المنصف من قائله، وكفى به- سبحانه- منصفا من ¬

(¬1) [فاطر: 43] (¬2) [يونس: 23] (¬3) [الفتح: 10] (¬4) [البقرة: 9]

الظالمين، ومنتقما من المتخلقين بأخلاق (¬1) المنافقين، ثم بين- سبحانه- لعباده حال هؤلاء بأكمل بيان، وأوضحه بأتم إيضاح بحيث لا يبقى بعده ريب، ولا يختلج عنده شأ، فقال: {إن تمسسكم حسنة تسوءهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها} فجعل- سبحانه- مجرد مس الحسنة للمؤمنين موجبا لمساءة المتخلقين بأخلاق المنافقين، ومجرد إصابة ما يساء به المؤمنون مقتضيا لحصول الفرح لهم (¬2)، وليس بعد هذا من العداوة شيء بم فإنه النهاية التي ليس وراءها نهاية، والغاية التي ليس بعدها غاية، ثم شد - سبحانه- قلوب عباده المؤمنين، وطمن خواطرهم، وأثلج صدورهم مع الصبر والتقوى، لا ينالهم من تلك الصولات شيء، ولا يعلق هم من تلك القعاقع أمر، ولا يصل إليهم ضرر البتة كما يفيده قوله- سبحانه-: {لا يضركم كيدهم شيئا} فجاء بلفظ شيء الذي يتناول مثقال الذرة وما دونه فضلا عما فوقه، وليس بعد هذه التسلية الربانية، والتعزية الرحمانية {لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} (¬3)، فإن هذه الألفاظ اليسيرة، والكلمات الموجزة أفادت ما لم تفده بلاغات البلغاء، وفصاحات الفصحاء، فإن غاية ما يجده من كلامهم في الشأن هو كقول قائلهم: إن يسمعوا سبة طاروا ها فرحا ... منى وما سمعوا من صالح دفنوا وكقول الآخر: إن يسمعوا الخير يخفوه وإن سمعوا ... شرا أذاعوا وإن لم يسمعوا أفكوا ¬

(¬1) وقد ذكر " عبد الرحمن حسن حنبكة الميداني " في كتابه النفاق وخبائث المنافقين ي التاريخ (1/ 108 - 137): مائة وأربع عشرة صفة للمنافقين مقتبسة من النصوص القرآنية. وذكر سبع عشرة صفة للمنافقين مقتبسة من الأحاديث النبوبة. فجزاه الله حيرا. (¬2) في " جامع البيان " (3/ ج 4/ 67). وصفة المنافق للفريايى (ص 9 - 22). (¬3) [ق: 37]

فإنه غاية هذين البيتين أنهم يخفون المحاسن، وينشرون المساوئ [2ب]. وأين هذا مما وصفه الله- سبحانه- عنهم من إساءة الحسنة لهم، وفرحهم بالسيئة! فإن هذا أمر وراء الإخفاء والإذاعة، فإنها لا تتأثر القلوب بالإساءة والفرع إلا بعد تمكن العداوة والبغضاء تمكنا زائدا. وأما مجرد الإخفاء للخير، والإذاعة للشر فإن ذلك يحصل ممن بلى. بمجرد الحسد، ومع هذا فإن هذا النظم القرآني يدل على أن مجرد ما يصل إلى المؤمنين مما يسمى حسنة يتأثر عنه المساءة لأعدائهم، ومجرد ما يصل إلى المؤمنين مما يسمى سيئة يتأثر عنه الفرح لأعدائهم كما يدل عليه تنكير الحسنة والسيئة، فإن الظاهر فيه أنه تنكير التحقير، فالحسنة الحقيرة والسيئة الحقيرة وإن بلغت إلى الغاية في الحقارة- يتأثر عنها ذلك، فكيف. بما كان فوق ذلك!. فإن قلت: قد ذكر الله- سبحانه- في هذه الآيات (1) أوصاف أهل النفاق، وما ¬

(1): (منها): {بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكفرين أولياء من دون المؤمنين ... } [النساء: 138 - 139]. (ومنها) قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 142 - 143]. (ومنها) قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 60 - 61]. (ومنها) قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}

كانوا عليه، فمن أين لك أن بعض أهل عصرك كذلك؟.: من وجد بأمته هذه الأوصاف التي اشتمل عليها الكتاب العزيز فقد صدق عليه ما ذكره الله- سبحانه- في هذه الآيات، ولا شك أن المتخلق بأخلاق المنافقين المقتدي هم فيما كانوا يعاملون به المؤمنين لاحق هم، وغاية الأمر أن تتورع عن الحكم بالنفاق. ونقول: من اتصف هذه الأوصاف فهو متخلق بأخلاق المنافقين، وهذا كلام صحيح لا يدفعه دافع، ولا يرده راد، بل السنة المطهرة تشهد له شهادة أوضح من شمس النهار، وتنادي عليه بأعلى صوت، وذلك أنه صح عن رسول الله- صلى الله عليه واله وسلم- كما في الصحيحين (¬1) وغيرهما أنه قال في تبيين أخلاق النفاق أنها " إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا أؤتمن خان، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر " هكذا في الأحاديث الصحيحة (¬2) من طرق عديدة. وقال (¬3): " من كانت فيه خصلة من هذه الخصال كانت فيه [3أ]، خصلة من خصال المنافقين، ومن اجتمعت فيه فقد كمل فيه النفاق ". ¬

= وانظر: مدارج السالكين (1/ 391 وما بعدها). هكذا وقع القضاء النبوي (¬4) على كل متخلق هذه الأخلاق أو ببعضها من أهل (¬1) أخرجه البخاري رقم (33) ومسلم رقم (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) وأخرج البخاري في صحيحه رقم (34) ومسلم رقم (58) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ". (¬3) انظر التعليقة السابقة. (¬4) (منها) ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3493، 3494) ومسلم رقم (2526) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون خيار الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهة وتجدون شر الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه ". (ومنها) ما أحرجه البخاري رقم (7178) عن محمد بن زيد أن ناسا قالوا لجده عبد الله بن عمر رضى الله عنهما: إننا ندخل على سلطاننا فنقول بخلاف ما نتكلم إذا حرجنا من عندهم، فقال: كنا نعد هذا نفاقا على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . خوف السلف من النفاق. قال ابن تيمية في كتاب " الإيمان " (ص 409): " الإسلام يتناول من أظهر الإسلام وليس معه شيء من الإيمان، وهو المنافق المحض، ويتناول من أظهر الإسلام مع التصديق المجمل في الباطن ولكن لم يفعل الواجب كله لا من هذا ولا هذا، وهم الفساق يكون في أحدهم شعبة نفاق، ويتناول من أتى بالإسلام الواجب وما يلزمه من الإيمان، ولم يأت بتمام الإيمان الواجب. وهؤلاء ليسوا فساقا تاركين فريضة ظاهرة، ولا مرتكبين محرما ظاهرا، لكن تركوا من حقائق الإيمان الواجبة علما، وعملا بالقلب يتبعه بعض الجوارح ما كانوا به مذمومين وهذا هو النفاق الذي كان يخافه السلف على نفوسهم. فإن صاحبه قد يكون فيه شعبة نفاق. وقال ابن القيم في مدارج السالكين (1/ 399 - 400): تالله لقد قطع خوف النفاق قلوب السابقين الأولين، لعلمهم بدقة وجله وتفاصيله وجمله، ساءت ظنونهم بنفوسهم حتى خشوا أن يكونوا من جملة المنافقين. قال عمر بن الخطاب لحذيفة رضي الله عنهما " يا حذيفة، نشدتك بالله هل سماني لك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم؟ قال: لا. ولا أزكى بعدك أحدا ". وقال ابن مليكة: " أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول: إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل " ويذكر عن الحسن البصري: " ما أمنه إلا منافق وما خافه إلا مؤمن ". أحرجه البخاري تعليقا (1/ 109 الباب رقم 36). وقال ابن القيم في مدارج السالكين (1/ 450) عن بعض الصحابة أنه كان يقول في دعائه: " اللهم إني أعوذ بك من خشوع النفاق قيل: وما خشوع النفاق؟ قال: أن يرى البدن خاشعا والقلب ليس بخاضع ". ثم قال: زرع النفاق ينبت على ساقيتيهما: ساقية الكذب، وساقية الرياء. ومخرجهما من عينين: عين ضعف البصيرة، وعن ضعف العزيمة. فإذا تمت هذه الأركان الأربع استحكم نبات النفاق وبنيانه ولكنه بمدارج السيول على شما جرف مار، فإذا شاهدوا سيل الحقائق يوم تبلى السرائر، وكشف المستور، وبعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور تبين حينئذ لمن كانت بضاعته النفاق أن حواصله التي حصلها كانت كالسراب: {يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب} [النور: 39].

الإسلام. والأحاديث في هذا الباب متواترة يعرفها من يعرف السمنة المطهرة، وقد وجدنا ووجد غيرنا من المتخلقين هذه الأخلاق من يعلم من بحث عن أحواله أنه إذا لم يكن فيه كل هذه الخصال ففيه بعضها، وإذا ثبت أنه يعرف صحة هذا فانظر إلى من غلب عليه أنه إذا لاقاك عظمك، وأثنى عليك، وتودد إليك، وإذا فارقك قام وقعد بذمك، وأظهر من العداوة لك والبغضاء ما يقدر على إظهاره كما قال الشاعر: ويحييني إذا لاقيته ... وإذا يخلو له جسمي رتع (¬1) ويراني كالشجا في حلقه ... عسرا مخرجه ما ينتزع (¬2) وهكذا من وعدك (¬3) فأخلفك، أو حدثك فكذلك، أو عاهدك فغدرك، أو أمنته ¬

(¬1) ذكره ابر منظور ولسان العرب (5/ 131). (¬2) ذكره ابن منظوري لساد العرب (7/ 40). (¬3) قال ابن حجر في فتح الباري (1/ 90): " وجه الاقتصار على هذه العلامات الثلاث أنها منبهة على ما عداها، إذ أصل الديانة منحصر في ثلاث: القول والفعل والنية، فنبه على فساد القول بالكذب وعلى فساد الفعل بالخيانة، وعلى فساد النية بالخلف، لأن خلف الوعد لا يقدح إلا إذا كان العزم عليه مقارنا للوعد، أما لو كان عازما ثم عرض له مانع أو بدا له رأي فهذا لم توجد منه صورة النفاق ". ومن ذلك يتبين أد صور ومظاهر نفاق الأعمال كثيرة والصفة الجامعة بيمها تظاهر المرء بخلاف ما يبطن خداعا للناس وتحقيقا لمآربه القي توسوس بها نفسه الأمارة بالسوء، وقد تفشى دلك كثيرا بين المسلمين اليوم حتى صار هذا النفاق تيارا يكتسح بشروره المجتمعات الإسلامية ويسمى بالانتهازية والوصولية والنفعية بحيث ينتهز الإنسان كل فرصة ليصل إلى مآربه ولو على حساب الآخرين، وأصبح لهذا النفاق طرق وحيل وخفايا، كما أقيمت له نظريات تبرره وتنشره وصيغت له أمثال تشجع عليه، ومنها قولهم إن الغاية تبرر الوسيلة وإن الفرصة لا تأتي إلا مرة، بل إن الأدهى من ذلك أن يطلق على هذا النفاق الخسيس أوصاف تصف أصحابه بالذكاء والنباهة والفطانة والحنكة وأر يوصف الأتقياء المتعففون عنه بالغفلة والسذاجة والبساطة في التفكير. . ومن اعتاد مخادعة الناس ليصل إلى مبتغاه لا بد أن يقع في إحدى كبيرتين من الكبائر المهلكة. إما الرياء: بأن يتظاهر بالصلاح والتقوى ليكسب ثقة الآخرين وبستر حيله ومآربه النفسية الباطلة وذلك إذا كان الذين يخادعهم من المؤمنين. وإما المداهنة: لأن يتظاهر بالرضا عن أعمال الكفرة الفسقة والمنحرفين وعدم المبالاة مما يجاهرون به من المعاصي، لكما يظفر. بمكاسب ومصالح من ورائهم. وفي كلتا الحالتين يقع المرء في نفاق الأعمال ويوشك هذا النفاق أن يتأصل في نفسه ويترسخ حتى ينقلب في الحالة الأولى إلى نفاق العقيدة وفي الحالة الثانية إلى الكفر الظاهر. العلاج لاستئصال النفاق ومنع انتشاره في المجتمع المسلم. 1/ تربية النفوس على الإيمان الراسخ والعقيدة الجازمة والتوجه إلى الله سبحانه وتعالى بصدق وإخلاص، وتزكية تلك النفوس حتى تسمو وتتطهر من شرورها وتتذوق حلاوة الإيمان فلا يضرها من خالفها ولا تهزها رياح الشبهات والشهوات مهما عصفت ها. 2/ سد الذرائع الموصلة إلى النفاق من الكذب والخيانة وإخلاف الوعد والمداهنة ونحو ذلك، وقد بين سبحانه أن الإصرار على هذه المعاصي يوصل النفاق في القلب فقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [التوبة: 75 - 78]. 3/ التحذير من النفاق وعقوبته الشديدة في الآخرة وفضح خفايا المنافقين وكشف خداعهم والشبهة التي قامت في نفوسهم بظنهم أن هذا الخداع يفيدهم ويحقق مآربهم. (منها) قوله تعالى: {بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما} [النساء:138]. (ومنها) قوله تعالى: {إن آلله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا} [النساء:145]. (ومنها) قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة: 68]. (ومنها) قوله تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح:6].

فخانك، فمن وجدته هكذا، أو حكمت عليه. مما حكم عليه رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كان الحق بيدك، والصواب ما فعلته. ومن أنكر عليك ذلك فقد أنكر الشرع الواضح والسنة المتواترة. اللهم أصلحنا وسائر عبادك، وادفع عنا شر الأشرار، وكيد الفجار، يا من لا إله غيره، ولا ملجأ سواه، وحسبنا الله ونعم الوكيل. قاله كاتبه- غفر الله له-[3ب]

جواب سؤال في قوله تعالى {إلا من ظلم}

جواب سؤال في قوله تعالى {إلا من ظلم} تأليف العلامة محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

ملحوظة: السؤال من القاضي العلامة لطف الله بن أحمد جحاف (¬1) إلى شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني- رحمه الله- حاصله: هل الاستثناء في قوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} (¬2) متصل أو منقطع؟، وقد أشار في الكشاف (¬3) إلى الوجهين، وأشار السائل إلى ترجيح الانقطاع. مما ذكره العلامة المقبلي (¬4) - رحمه الله-. انتهى نقلا من الأم بقلم الوالد العلامة القاضي عبد الله بن عبد الكريم الجرافي (¬5) - رضي الله عنه-. ¬

(¬1) لطف الله بن أحمد بن لطف الله جحاف الصنعاني المولد والدار والمنشأ. ولد سنة 1189 وأخذ العلم عن جماعة من علماء العصر منهم شيخنا العلامة السيد على بن إبراهيم ابن عامر والسيد العلامة على بن عبد الله الجلال. قال الشوكاني في ترجمة- لطف الله- في الدر رقم (392) ولازمني دهرا طويلا فقرأ علي في النحو والصرف والمنطق والمعاني والبيان والأصول ... ". ودرس في فنون وصنف رسائل أفرد فيها مسائل. ونظم الشعر الحسن وقد كتب إلي من ذلك - من مباحثه- لكثر بحيث لو جمع هو وما أكتبه عليه من الجوابات لكان مجلدا. توفي بصنعاء سنة 1243 هـ. من مصنفاته:- المرتقى شرح به المنتقى لابن تيمية. - العباب بتراجم الأصحاب. انظر: البدر الطالع رقم (391) ونيل الوطر (2/ 169) التقصار ص 390. (¬2) [النساء: 148]. (¬3) (2/ 169 - 170). (¬4) في " المنار في المختار من جواهر البحر الرخار" (2/ 508 - 509). (¬5) هو القاضي المؤرخ الهمام عبد الله بن عبد الكريم لن محمد بن أحمد بن على بن حسين الجرافي الصنعاني. ولد سنة 1319.

قال السائل: بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول} (¬1) أي من أحد من الخلق، ولكن يقول من ظلم فانتصر بمثل ما ظلم فليس عليه جناح. ومن ذلك قول الله- عز وجل- {وجزاؤ سيئة لسيئة مثلها} (¬2) فانظر كيف سمى تعالى نفس الرد سيئة، والسيئة لا تكون لديه محبوبة، فقد دلت هذه الآيات الواضحة، والأحاديث المحتج ها مع كونها حسنة على أن الراد ليس عليه سبيل ولا جناح، وأن الرد في حقه رخصة له، قد أبيحت لا يأثم معها إلا إذا تجاوز في الانتصار، ولذا قال تعالى: {إنه ولا جب الظالمين} (¬3) عقيب قوله تعالى: (وجزاؤ سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين & (2) وأخرج ابن جرير (¬4) عن السدي قال: والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون. قال: ينتصرون ممن بغى عليهم من غير أن يعتدوا. وفي بعض الآثار (¬5) فإذا شتمك فاشتمه من غير أن تعتدي عليه، فتبين أن المحبوب إليه تعالى هو العفو. يد! ك على أن المحبوب ليس هو الرد ما أخرجه الإمام أحمد (¬6) وأبو داود (¬7) عن أبي هريرة أن رجلا شتم أبا بكر- رضي الله عنه - والنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالس، فجعل النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعجا ويبتسم فلما كثر عليه رد عليه- رضي الله عنه - بعض ¬

(¬1) [النساء: 148] (¬2) [الشورى: 40] (¬3) [الشورى: 40] (¬4) في "جامع البيان " (13/ ح25/ 37). (¬5) أخرجه ابن جرير في " جامع البيان " (13/ ج25/ 14) عن السدي. (¬6) في المسند (2/ 418) بسند جيد. (¬7) في السنن رقم (4897). وهو حديث حسن لغره.

قوله فغضب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقام فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله، إنه كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت، قال: إنه كان ملك يرد عنك، فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان، فلم أكن لأقعد مع الشيطان، قال العلامة المقبلي: ولذا رغبهم في العفو في هذه الآية حيث قال: وجزاؤ سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح {(¬1) إلخ. وفي آية} لا يحب {. قال:} إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سؤ فإن الله كان عفوا قديرا {(¬2) فهما مكروهان عنده لا مطلوبان محبوبان، وشبههما التخيير بين التداوي والتوكل (¬3) فضيلة والتداوي (¬4) مباح، انتهى بلفظه. فإن قلت على جعل الاستثناء (¬5) منقطعا كيف المعنى؟ قلت: المعنى: لا يحب الله الجهر بالمؤمن القول لكن من ظلم فقد أبيح له ذلك للانتصار، فصح على هذا دعوى من جعل الاستثناء منقطعا على قراءة المبني للمجهول، والمطلوب والمعول الترجيح. بما يقتضيه النظر الصحيح. ¬

(¬1) [الشورى: 40] (¬2) [النساء: 149] (¬3) للحديث الذي أحرجه البخاري رقم (5652) ومسلم رقم (45/ 2576) عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتته امرأة سوداء فقالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي قال: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك قالت: أصبر ". (¬4) للحديث الذي أخرجه مسلم رقم (69/ 2204) عن جابر: " أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله ". (¬5) انظر: 11 إعراب القرآن " محيى الدين الدرويش (2/ 366) قال:} إلا من ظلم & إلا أداة استثناء ومن مستثنى منقطع لأن جهر المظلوم لا يندرج في عداد الذين يجهرون بالسيئ من القول. وانظر التبيان في إعراب القرآن لأبي البقاء (1/ 402).

- الجواب لشيخ الإسلام- رحمه الله- أحمدك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلى وأسلم على رسولك وال رسولك، وبعد: فإنه وقفص الحقير على هذا الروض الأريض (¬1)، والديبلج النضير، وطلب منط من لا تسعني مخالفته إمعان النظر في تحقيق الحق في شأن الاستثناء المذكور في الآية الكريمة، وها أنا أقدم في ذلك مقدمة تنبني عليها معرفة صوب الصواب، وينكشف بعد تحقيقها عن وجه الإشكال كل جلباب، فأقول: ما شرعه الله لعباده، وجعله حلالا طلقا، فلا ريب أنه يحبه، والمراد من هذه المحبة ما هو مقابل للبغضاء، وسواء كان ذلك الحب مطلقا عن قيد وجوب وندب، أو مقيدا هما، إلا أن المقيد أحب، ولا ينافي ذلك كون المطلق محبوبا لا لغة، ولا شرعا، ولا عرفا. وقد تقرر أن المفضل والمفضل عليه يشتركان في أصل الفضل، فإذا قلت: زيد أفضل من عمرو فقد دل هذا التركيب على آنا عمرا فاضل، فكيف يدعي عارف بالقوانين العلمية أن هذا التركيب يدل على نفى الفضل عن المفضل عليه!. نعم، وإذا نددت صورة فيها دلالة على عدم المشاركة كما وقع في الأمثلة النحوية، فذلك مجاز يحتاج إلى علاقة وقرينة، ونادر غاية الندور لا ينبغي الحمل عليه عند النزاع، وهذا لا يخالف فيه مخالف، إذا تقرر هذا فالذي في الآية الكريمة نفي: محبة الجهر بالسوء من القول، وجميع تلك التفاسير يصح إدراجها تحت عموم الآية، لأن الفعل المنفي يتضمن النكرة والنكرة في سياق النفي (¬2) من صيغ العموم، وكذلك النفي (¬3) والاستثناء، ثم إنه ¬

(¬1) من أرض: أرضت الأرض تأرض أرضا إذا خصبت وزكا نباتها وأرض أريضة أي معجبة. كثيرة العشب. لسان العرب (1/ 119). (¬2) نعم النكرة في سياق النفي من صيغ العموم. انظر: الكوكب المنير (13/ 138 - 139)، نهاية السول (2/ 80). (¬3) انظر الكوكب المنير (3/ 281).

تعالى أثبت المحبة لنوع من أنواع الجهر بالسوء؟ وهو جهر المظلوم، لأنه شرع له ذلك، وكل ما شرعه وحلله لعباده محبوب له، وليس. بمبغوض فيقال: جهر المظلوم بالسوء شرعه الله، وكل ما شرعه الله حلال، فجهر المظلوم حلال، ثم يقال: جهر المظلوم حلال، وكل حلال يحبه الله، فجهر المظلوم يحبه الله، وكونه محبوبا له لا ينافي كون غيره أحب منه مثلا، وهو العفو، فإنا لا ننازع في أنه أجب إنما ننازع في كونه أحب لا يستلزم أن غيره مبغوض، بل صيغة التفضيل دالة على أن المفضل عليه محبوب. إذا عرفت هذا فاعلم أن الاستدراك من المقبلي- رحمه الله- على كلام الزمخشري (¬1) إنما نشأ من التباس الأحب بالمحبوب، فتصور الأحب، وحكم على المحبوب بالمكروه ذهولا منه عن كونه تعالى يحب إتيان الحلال، كما يبغض إتيان الحرام، كما ورد في الحديث الصحيح (¬2): " أيأتي أحدنا شهوته- يا رسول الله- ثم يؤجر عليها؟ فقال: أرأيت لو وضعها في حرام " بم فإنه هاهنا وقع الأجر له مجرد إتيان الحلال، وكم لها من نظائر نحو الكسب (¬3) على النفس من الحلال جهاد، وإنفاقه (¬4) على الأقارب صدقة، ومن يتتبع القرآن والسنة وجد من هذا الكثير الطيب، فمن قال فلان ظلمني، أو نحو ذلك فقد فعل ما أحفه الله له بنص القران، وكل حلال محبوب إلى الله وإن كان العفو أحب إليه، ولهذا لم يرض ع! من الصديق- رجمته- إلا. مما يلائم رفيع قدره، وهو إتيان الأحب، وهو العفو دون المحبوب، وهو الانتصاف لأن حسنات ...................... ¬

(¬1) في الكشاف (2/ 169 - 170). (¬2) أخرجه مسلم ي صحيحه رقم (53/ 1006) من حديث أبي ذر. (¬3) انظر: " الترغيب والترهيب " للمنذري (2/ 510 - 514): " الترغيب في الاكتساب بالبيع وغيره " رقم الحديث: (2506، 2557، 2558، 2509، 2515، 2511، 2512، 2513، 2514، 2515، 2516). (¬4) انظر " الترغيب والترهيب " للمنذري (1/ 681 - 683): " الترغيب في الصدقة على الزوج والأقارب وتقديمهم على غيرهم " رقم الحديث (1359، 1310، 1311، 1312، 1313).

الأبرار (¬1) سيئات المقربين. وأما سيئات المقربين. وأما التمسك بقوله تعالى: {وجزاؤ سيئة سيئة مثلها} (¬2) فكلام ظاهري عن التحقيق بمعزل لأن أئمة التفسير والبيان قد صرحوا بأن إطلاق لفظ السيئة على ما وقع خبرا عن المبتدأ من باب المشاكلة (¬3)، والمصير إلى ذلك متحتم {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} (¬4)، {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (¬5) وغير ذلك مما يكثر تعداده. وما أدري كيف وقع. اللبس في مثل هذا على المقبلي- رحمه الله-؛ فإن ما وقع التمسك على حمل الاستثناء (¬6) على الانقطاع هو منادى، ثم مناداه على .... .... ¬

(¬1) "حسنات الأبرار سيئات المقربين " ليس بحديث وهو من كلام أبي سعيد الخراز كما رواه ابن عساكر في ترجمته وهو من كبار الصوفية مات في سنة،28 هـ. وانظر: " كشف الخفاء " رقم (1137) " الشذرة في الأحاديث المشتهرة " (4/ 254 رقم 357) و" المقاصد " رقم (404). (¬2) [الشورى: 40] (¬3) المشاكلة: ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقا أو تقديرا. قوله: {وجزاؤ سيئة سيئة مثلها} [الشورى: 40] لأن الجزاء حق لا يوصف بأنه سيئة. وسمي سبحانه جزاء الاعتداء سيئة لوقوعه في نظم الكلام تحقيقا. وقال محط الدين قي " إعراب القرآن " (9/ 45): جناس المزاوجة ي قوله: {وجزاؤ سيئة سيئة مثلها} جناس المزاوجة اللفظي وإن السيئة الثابتة ليست سيئة وإنما هي مجازاة عن السيئة، سميت باسمها لقصد المزاوجة. ومتله في سورة البقرة قوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} فقد سمي سبحانه وتعالى جزاء الاعتداء اعتداء ليكود في نظم الكلام مزاوجة وبعضهم يعبر عنها بالمشاكلة. وانظر: " معترك الأقران " (1/ 312). (¬4) [الشورى: 41] (¬5) [البقرة: 194] انظر التعليقة السابقة. (¬6) تقدم التعليق على دلك.

الاتصال (¬1)، انظر الحديث المذكور سابقا. قوله: وإن صبر (¬2) فهو خير له؟ فإن هذا التركيب يدل على أن عدم الصبر، وهو المواجهة بالإنصاف مشارك في أصل الخير، لأن أصل الخير أخير، فهو أفعل تفضيل كما تقرر في علم النحو. (فيا لله العجب) كيف يستدل المحقق المقبلي بقوله تعالى: & وجزا سيئة سيئة مثلها! (¬3) على أن الجميع مكروه عند الله لا محبوب! فإن كان. بمجرد التسمية فقد عرفت ما فيه، وإن كان بغير ذلك فما هو؟. نعم يتجه ههنا أن يقال: ما الدليل على أن جهر المظلوم بالسوء حلال؟ وهل ذلك إلا. بمجرد دعوى الاتصال وهو محل النزاع، فأقول ليس إثبات كون ذلك حلالا. بمجرد ما زعمت، بل بالآيات التي ساقها المحرر للبحث الأول- نفع الله بفوائده-، دع عنك هذا. هذا رسول الله وير يقول فيما صح عنه في دواوين الإسلام: " لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته " (¬4). فانظر كيف أخبرنا عن نوع من أنواع المعاصي بأنه ظلم، ثم رتب ¬

(¬1) وقيل يجوز أن بكون متصلا على تقدير حذف مضاف أي إلا جهر من ظلم، أو في محل رفع على البدلية من فاعل المصدر الذي هو الجهر. والمعني: لا يحب أن يجهر أحد بالسوء إلا من ظلم فيجهر أي يدعو الله بكشف السوء الذي أصابه وظلم بالبناء للمجهول أي لا يؤاخذه الله بالجهر به بأن يخبر عن ظلم ظالمه ويدعو عليه. انظر: " الدر المصون " (4/ 134). و" معاني القرآن " للفراء (1/ 167). (¬2) أخرج الطبري في " جامع البيان " (4/جـ 6/ 1 - 4) عن ابن عباس، قوله: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول}، يقول: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوما، فإنه قد أرخص! له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله: {إلا من ظلم}، وإن صبر فهو حير له. وذكره ابن كثير في تفسيره (2/ 442). (¬3) [الشورى: 40] (¬4) أخرجه أبو داود رقم (3628) وابن ماجه رقم (2427) والنسائى (7/ 316) وأحمد (4/ 222) والحاكم (2/ 104) وصححه ووافقه الذهبي وابن حبان رقم (283 - موارد) من حديث عمرو ابن الشريد. وهو حديث حسن. لي الواجد: بفتح اللام وتشديد الياء أي مطل الواجد الذي هو قادر على وفاء دينه، " ويحل عرضه ": أي يبيح أن يذكر بسوء المعاملة و" عقوبته " حبسه. انظر: "الجامع لأحاكم القرآن " (6/ 2).

عليه أنه يحل العرض، وهو الجهر بالسوء (¬1)، ثم زاد عليه أنه يحل العقوبة البدنية، فحفل لنا الجمع له بين عقوبة العرض والمال، وما أحله لنا فهو محبوب له لما تقدم، والبحث يحتمل التطويل، ولعل في هذا المقدار الكفاية- إن شاء الله-. انتهى. قال في الأم: انتهى من خط المجيب- رحمه الله تعالى-. ¬

(¬1) قال ابن حرير في "جامع البيان " (4/ جـ 6/ 4): فالصواب في تأويل ذلك: لا يحب الله أيها الناس أن يجهر أحد لأحد بالسوء من القول {إلا من ظلم}. بمعنى: إلا من ظلم فلا حرج عليه أن يخبر. مما أسيء إليه، وإذا كان ذلك معناه: دخل فيه إخبار من لم يقر أو أسيء قراه، أو نيل بظلم في نفسه أو ماله عنوة من سائر الناس وكذلك دعاؤه على من ناله بظلم أن ينصره الله عليه لأن في دعائه عليه إعلاما منه لمن سمع دعاءه عليه بالسوء له، وإذ كان ذلك كذلك، فمن في موضع نصب، لأنه منقطع عما ق! له، وأنه لا أسماء قمله يستثنى منها فهو نظير قوله: {لست عليهم بمصيطر إلا من تولى وكفر}. . وقال الرازي في تفسيره (11/ 90 - 91): " أن هذا الاستثناء منقطع، والمعنى لا يحبط الله الجهر بالسوء من القول، لكن المظلوم له أد يجهر بظلامته ". المظلوم مادا يفعل؟ فيه وجوه: الأول: قال قتادة وابن عباس: لا يحب الله رفع الصوت. مما يسوء غيره إلا المظلوم فإن له أن يرفع صوته الدعاء على من ظلمه. الثاني في: قال مجاهد: إلا أن يخبر بظلم ظالمه له. الثالث: لا يجوز إظهار الأحوال المستورة المكتومة، لأن دلك يصير سببا لوقوع الماس في الغيبة ووقوع ذلك الإنسان في الريبة، لكن من ظلم فيجوز إظهار ظلمه بأن يذكر أنه سرق أو غصب وهذا قول الأصم. الرابع: قال الحسن: " إلا أن ينتصر من ظالمه ".

بحث في تفسير قوله تعالى {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم}

بحث في تفسير قوله تعالى {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} تأليف العلامة محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط 1 - عنوان الرسالة: بحث في تفسير قوله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم}. 2 - موضوع الرسالة: تفسير. 3 - أول الرسالة: (صورة سؤال إلى شيخ الإسلام رضي الله عنه أشكل على محبه تفسير العلامة الزمخشري في قوله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا} حيث قال ... ). 4 - آخر الرسالة: (فإن الكلام قد صح بدون هذا الحمل والله أعلم. انتهى. منقولا من خط المجيب المولى شيخ الإسلام أسكنه الله في جنانه أعلى مقام. آمين آمن). 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - عدد الأوراق: ورقتين. 7 - المسطرة: الصفحة الأولى: 19 سطرا. الصفحة الثانية: 18 سطرا. الصفحة الثالثة: 18 سطرا. الصفحة الرابعة: 10 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر:. 10 - 12 كلمة. 9 - هذه الرسالة من " المجلد الخامس " من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

[بسم الله الرحمن الرحيم] صورة سؤال إلى شيخ الإسلام- رضي الله عنه - أشكل على محبكم العلامة الزمخشسري (¬1) في فوله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا} (¬2) حيث قال: وأن في " أن لا تشركوا " مفسرة (¬3)، "ولا" للنهي. فإن قلت: فهلا قلت: هي التي تنصب الفعل، وجعلت أن لا تشركوا بدلا (¬4) ما حرم؟ قلت (¬5): وجب أن .... .... .... .... .... .... .... ..... ¬

(¬1) في " الكشاف " (41112). (¬2) [الأنعام: 151] (¬3) قوله "أن لا تشركوا "فيه أوجه أحدها: أن (أن) تفسيرية لأنه تقدمها ما هو. بمعنى القول لا حروفه و"لا" هي ناهية و"تشركوا" مجزوم ها، وهذا وجه ظاهر، وهو اختيار الفراء- في معاني القرآن (1/ 364) قال: " ويجوز أن يكون مجزوما "لا" على النهى كقولك أمرتك أن لا تذهب إلى زيد بالنصب والجزم. ثم قال: والجزم في هذه الآية أحب إلى كقوله تعالى: {أوفوا الميكال والميزان} [هود: 85]. " الدر المصون " (5/ 214). (¬4) في المخطوط (مما) وما أثبتناه من الكشاف (2/ 411). (¬5) الزمخشري، ثم تابع فقال: " فإن قلت فما تصنع بقوله: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه} [الأنعام:153]. فيمن قرأ بالفتح، وإنما يستقيم عطفه على ألا تشركوا، إذا جعلت أن هي الناصبة للفعل، حتى يكون المعنى: أتل عليكم نفى الإشراك والتوحيد، وأتل عليكم أن هذا صراط! مستقيما. قال:- الزمخشري- أجعل قوله: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه} [الأنعام: 153] علة للإتباع بتقدير اللام كقوله تعالى: {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} [الجن:18]. بمعنى: ولأن هذا صراطا مستقيما فاتبعوه، والدليل عليه القراءة بالكسر، كأنه قيل: "واتبعوا صراطي، لأنه مستقيم " أو: " واتبعوا صراطي"، إنه مستقيم ". فإن قلت: إذا جعلت: "أن " مفسرة لفعل التلاوة، وهو معلق مما حرم ردكم وجب أن يكون ما بعده منهيا عنه محرما كله، كالشرك، وما بعده مما دخل عليه حرف النهي، فما تصنع بالأوامر! قلت: لما وردت هذه الأوامر مع النواهي، وتقدمهن جميعا معل التحريم، واشتركن في الدخول تحت حكمه، علم أن التحريم راجع إلى أضدادها، وهي الإساءة إلى الوالدين، وبحس الكيل والميزان، وترك العدل في القول، ونكث عهد الله {من إملاق} من أجل فقر ومن خشيته، كقوله تعالى: {خشيه إملاق} [الإسراء: 31]. {ما ظهر منها وما بطن}، مثل قوله: {ظهر الإثم وباطنه} [الأنعام: 120]، {إلا بالحق} كالقصاص، والقتل على الردة والرجم. انتهى كلام الزنحشري.

[يكون] (¬1) "لا تشركوا "، و" لا تقربوا "، و" تقتلوا "، "ولا تتبعوا السبل " نواهي لانعطاف الأوامر عليها (¬2)، وهي قوله: {وبالوالدين إحسانا}؛ لأن التقدير: وأحسنوا بالوالدين إحسانا إلى آخر كلامه، فخطر في بال القاصر عن التحقيق أنه لم يقدر العلامة الزمخشري بأن يقول: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا، ويكون لا يريده ويقدر متعلق (¬3) وبالوالدين إحسانا وصماكم بالوالدين إحسانا، ¬

(¬1) زيادة من الكشاف (2/ 411). (¬2) وأما عطف هذه الأوامر فيحتمل وجهين: أحدهما: أنها معطوفة لا على المناهي قبلها فيلزم انسحاب التحريم عليها حيت كان في حيز " أن " التفسيرية، بل هي معطوفة على قوله: {تعالوا أتل ما حرم} أمرهم أولا لأمر يترتب عليه ذكر مناه ثم أمرهم ثانيا لأوامر وهدا معنى واضح. الثاني: أن تكون الأوامر معطوفة على المناهي وداخلة تحت " أن " التفسيرية، ويصح ذلك على تقدير محذوف تكون "أن " مفسرة له وللمنطوق قبله الذي دل على حذفه، والتقدير: وما أمركم به فحذف وما أمركم به لدلالة ما حرم عليه، لأن معنى ما حرم ربكم: ما فاكم ربكم عنه فالمعنى: تعالوا أتل ما نهاكم ربكم عنه وما أمركم به، وإذا كان التقدير هكذا صح أن تكون " أن " تفسيرية لفعل النهي لدالة عليه التحريم وفعل الأمر المحذوف ألا ترى أنه يجوز أد تقول: " أمرتك أن لا تكون جاهلا وأكرم عالما". إذ يجوز أن يعطف الأمر على النهي والنهى على الأمر. " الدر المصون " (5/ 215)، " إعراب القرآن الكريم "، محيى الدين الدرويش (3/ 274). (¬3) انظر كلام الزمخشري في الكشاف (2/ 411) وقد تقدم. وقال الرازي في تفسيره (13/ 232): فإن قيل: فقوله: {وبالوالدين إحسانا} معطوف على قوله {ألا تشركوا به شيئا} فوجب أن يكون قوله {وبالوالدين إحسانا} مفسرا لقوله {أتل ما حرم ربكم عليكم} يلزم أن يكون الإحسان بالوالدين حراما وهو باطل. قلنا: لما أوجب الإحسان إليهما فقد حرم الإساءة إليهما. . وقيل: لا يتعين أن تكون جميع الأوامر معطوفة على ما دخل عليه " لا " لأنا بينا جواز عطف {وبالوالدين إحسانا} على " تعالوا " وما بعده معطوف عليه، ولا يكون قوله {وبالوالدين إحسانا} معطوفا على أن لا تشركوا ". الدر المصون (5/ 216). . وقيل: أن تكون هي وما بعدها في محل نصب بإضمار فعل تقديره: أوصيكم أد لا تشركوا، لأن قوله: (وبالوالدين إحسانا & محمول على أوصيكم بالوالدين إحسانا. " معاني القرآن وإعرابه " (2/ 334).

لا ما قدره وهو أحسنوا، لأن: وصى وإن لم يكن من متعلقات الظروف العامة فقد قام كثرة الاستعمال بالتعليق، فوصى في هذه المواضع كثيرا قال تعالى {ووصينا الإنسان بولديه حسنا} وقراءة إحسانا، وفي القراءة الشاذة {ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا} ويكون من باب: علفتها (¬1) تبنا وماء باردا، وإن لم يكن هنا ثم تضمين، ودل أنه متعلق (¬2) بوصى قوله: عند تكميل الآيات} ذالكم ووصاكم به لعلكم تعقلون {} ذالكم وصاكم به لعلكم تذكرون & ¬

(¬1) قال أبى هشام في مغني اللبيب (1/ 250 - 251): قوله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا} فقيل: إن لا نافية، وقيل: ناهية وقيل زائدة، والجمع محتمل. وحاصل القول في الآية أو (ما) خبربة بمعنى الذي منصولة بأثل و (حرم ربكم) صلة، و (عليكم) متعلقة محرم، هدا هو الطاهر، وأجاز الزجاج كود (ما) استفهامية منصوبة محرم، والحملة محكية بأثل، لأنه. بمعنى أقول، ويحوز أن يعلق عليكم بأثل، ومن رجح إعمال أول المتنازعين- وهم الكوفيون- رجحه على تعلقه بحرم، وفي أن وما لعدها أوجه: " أن يكونا في موضع نصب بدلا من (ما)، وذلك على أنها موصولة لا استفهامية، إذ لم يقترن البدل همزة الاستفهام. (¬2) قال أبى هشام في مغني اللبيب (1/ 250 - 251): قوله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا} فقيل: إن لا نافية، وقيل: ناهية وقيل زائدة، والجمع محتمل. وحاصل القول في الآية أو (ما) خبربة بمعنى الذي منصولة بأثل و (حرم ربكم) صلة، و (عليكم) متعلقة محرم، هدا هو الطاهر، وأجاز الزجاج كود (ما) استفهامية منصوبة محرم، والحملة محكية بأثل، لأنه. بمعنى أقول، ويحوز أن يعلق عليكم بأثل، ومن رجح إعمال أول المتنازعين- وهم الكوفيون- رجحه على تعلقه بحرم، وفي أن وما لعدها أوجه: " أن يكونا في موضع نصب بدلا من (ما)، وذلك على أنها موصولة لا استفهامية، إذ لم يقترن البدل همزة الاستفهام. 2/ أن يكونا في موضع رفع خبرا هـ (هو) محذوف. أجازهما بعض المعربين، وعليهما فـ (لا) زائدة قاله ابن الشجري والصواب أنها نافية على الأول، وزائدة على الثاني. 3/ أن يكون الأصل أبين لكم ذلك لئلا تشركوا، وذلك لأنهم إذا حرم عليهم رؤساؤهم ما أحف الله سبحانه وتعالى فأطاعوهم أشركوا، لأنهم جعلوا غير الله بمنزلته. 4/ أن الأصل أوصيكم بأن لا تشركوا، بدليل أن (وبالوالدين إحسانا {معناه وأوصيكم بالوالدين، وأن في آخر الآية} ذالكم وصاكم به {وعلى هذين الوجهين فحذفت الجملة وحرف الجر. 5/ أن التقدير أتل عليكم أن لا تشركوا، فحذف مدلولا عليه. مما تقدم، وأجاز الأوجه الثلاثة الزجاج. 6/ أن الكلام تم عند (حرم ربكم) ثم ابتدئ: عليكم أن لا تشركوا وأن تحسنوا بالوالدين إحسانا، وأن لا تقتلوا، ولا تقربوا فعليكم على هذا اسم فعل. بمعنى الزموا. و (أن) في الأوجه الستة مصدرية، وا لا) في الأوجه الأربعة نافية. 7/ أن (أن) مفسرة. بمعنى أي، ولا: داهية، والفعل مجزوم لا منصوب وكأنه قيل: أقول لكم لا تشركوا به شيئا، وأحسنوا بالوالدين إحسانا وهذان الوجهان الأخيران أجازهما أبى الشجري. وأنظر: " معاني القرآن وإعرابه " للزجاج (2/ 303 - 304)، " إعراب القرآن وبيانه " محط الدين الدرويش (3/ 268). " الدر المصون " (5/ 217).

هذا خلاصة السؤال انتهى [1أ]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين.- كثر الله فوائدكم- هذا الوجه الذي ذكرتم معناه صحيح لكنه ينبغي النظر في أطراف: الأول: أن حذف حرف (1) النهي خلاف الظاهر لا سيما في مثل هذا المقام، فإن الكلام خرج هذا الحذف من الإنشاء إلى الإخبار. الطرف الثاني: أن هذه المناهي (2) المسوقة في هذه الآية ينبغي أن يكون على نمط واحد، ومنهم متوافق، وهذا التقدير الذي ذكرتم صارت مختلفة، لأن قوله: أن لا تشركوا قد صار بالحذف لحرف النهى مخالفا لما بقيت فيه لا الناهية على بابها، غير محذوفة، وهو قوله: {ولا تقتلوا أولادكم} {ولا تقربوا الفواحش} {ولا تقتلوا النفس} {ولا تقربوا مال التيتم}. الطرف الثالث: أن حذف حرف (¬1) النهى قد استلزم التخالف بين قوله: {ألا تشركوا} وبين قوله: {وبالوالدين إحسانا} لأنه " صار الأول بالحذف إخبارا. والثاني: على الوجه الظاهر، وهو تقدير فعل الأمر الناصب للمصدر صار إنشاء. فإن قلت: فعلى تقدير وصاكم كما فعله السائل- كثر الله فوائده- يتطابقان في الإخبارية. قلت: هذا وإن كان خلاف الظاهر (¬2) فقد خالف قوله: أن لا تشركوا ما بعده في النواهي، لأن لا الناهية فيها باقية على بابها، وخالف أيضًا قوله: وبالوالدين [1ب] إحسانا ما بعده من الأوامر، وهى قوله: {وأوفوا الكيل}، وقوله {فاعدلوا} وقوله: {فاتبعوه} فإنها جملة إنشائية، وتقدير وصاكم فيها يستلزم تقدير حرف ¬

(¬1) تقدم في بداية الرسالة. (¬2) انظر الأوجه السابقة (أن) وما بعدها (ص 1185 - 1186).

المصدر في كل واحد منها، وهو خلاف الظاهر. الطرف الرابع: أن الكلام على تقدير وصاكم في المناهي الباقية قد خالف قوله: أن لا تشركوا من حيث الحذف في البعض، والإتيان في البعض، والإخبارية في البعض، والإنشائية في البعض الآخر، وهو خلاف ما تقتضيه أساليب الكلام الآخذ بعضه بحجزة بعض، المتعانقة أطرافه. ولو قدرنا في هذه المناهي تعلقها. بما تعلق به أن لا تشركوا كان التقدير: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن تشركوا لم يستقم الكلام فيها إلا بحذف (¬1) حرف النهي في جميعها، فيكون التقدير: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن تشركوا، وأن تقتلوا النفس وأن تقربوا مال اليتيم، وهذا وإن كان معنى صحيحا يتفق معه حرف المناهي في التعلق والحذف، لكنه هاهنا قد كثر الحذف، وطال ذيله، واتسع خرقه، وذلك غير مألوف في فصيح الكلام، ولا واقع من البلاغة في محزها. وقد أمكن تصحيح الكلام بدونه كما فعله العلامة الزمخشري (¬2) وغيره. وهذا ما ظهر في بادئ النظر والله أعلم. ¬

(¬1) قال محيى الدين الدرويش في "إعراب القرآن الكريم " (3/ 270): الفن الأول في هذه الآية- {ألا تشركوا به شيئا} - فن التوهيم وهو أد يأتي المتكلم بكلمة يوهم ما بعدها من الكلام أن المتكلم أراد تصحيفها وهو يريد عبر- ذلك، وذلك في قوله: {ألا تشركوا به شيئا} فإن ظاهر الكلام يدل على تحريم نفط الشرك، وملزومة خليل الشرك، وهذا محال، وخلاف المعنى المراد، والتأويل الذي يحل الإشكال هو أن في الوصايا المذكورة في سياق الآية وما بعدها ما حرم عليهم وما هم مأمورون به، فإن الشرك بالله، وقتل النفس المحرمة، وأكل مال اليتيم، مما حرم ظاهرا وباطنا، ووفاء الكيل والميزان بالقسط والعدل في القول، فضلا عن الفعل والوفاء بالعهد واتباع الصراط المستقيم من الأفعال المأمور ها أمر وجوب، ولو جاء الكلام بغير "لا" لانبتر واحتل وفسد معناه، فإنه يصير المعنى حرم عليكم الشرك، والإحسان للوالدين، وهذا ضد المعنى المراد، ولهذا جاءت الزيادة التي أوهم ظاهرها فساد المعنى ليلجأ إلى التأويل الذي يصح به عطف بقية الوصايا على ما تقدم. (¬2) في "الكشاف " (2/ 412) وهو قوله: لما وردت هذه الأوامر مع النواهي وتقدمهن جميعا فعل التحريم-

وأما ما ذكره- كثر الله فوائده- من تصحيح ذلك الوجه الذي آثره على طريق 0000000000. (¬1) فلا يخفى [2أ] أن ذلك لا يصار إليه إلا لتصحيح ما يفسد من الكلام إن لم يحمل عليه كما في قوله: علفتها تبنا (¬2) وماء باردا، فإنه لو حمل الكلام على ظاهره، ولم يحمل على التقدير كان فاسدا، لأن من سقى دابته لا يقال: أنه علفها ماء، فكان الحمل على ذلك متعينا لتصحيح الكلام الذي يفسد بدون الحمل عليه، وليس في هذه الآن ما يوجب ذلك، فإن الكلام قد صح بدون هذا (¬3) الحمل. والله أعلم. واشتركن ي الدخول تحت حكمه، علم أن التحريم، راجع إلي أضدادها، وهي الإساءة إلى الوالدين، وبخس الكيل والميزان ... " وقد تقدم بكامله. ¬

(¬1) بياض في الأصل. (¬2) وهو من شواهد ابن حني في الخصائص (2/ 431): " فصل في الحمل على المعنى " والشاهد من مقطوعة لخالد بن الطيفان: علفتها تبنا وماء باردا ... حتى شتت همالة عيناها فهذا محمول على معنى الأول لا لفظه: أي وسقيتها ماء باردا. . شتت: أي أقامت في الشتاء. (¬3) قال صاحب زاد المسير (3/ 147 - 148): وفي " لا " قولان: أحدهما: أنها زائدة، كقوله: {ألا تسجد} [الأعراف: 12]. والثاني: أنها ليست رائدة وإنما هي نافية، فعلى هذا القول ي تقدير الكلام ثلاثة أقوال: أحدهما: أن يكون قوله " أن لا تشركوا " محمولا على المعنى، فتقديره: أتل عليكم أن لا تشركوا أي: أتل تحريم الشرك. الثاني: أن يكون المعنى: أوصيكم أن لا تشركوا، لأن قوله: {وبالوالدين إحسانا} [الإسراء: 23] محمول على معنى أوصيكم بالوالدين إحسانا ذكرهما الزجاج في " معاني القرآن وإعرابه " (2/ 304). الثالث: أن الكلام تم عند قوله: {حرم ربكم} ثم في قوله: {عليكم} قولان: أحدهما: أنها إغراء، كقوله: {عليكم} [المائدة: 105] فالتقدير عليكم أن لا تشركوا. ذكره ابن الأنباري. الثاني: أن يكون. بمعنى، فرض عليكم، ووجب عليكم أن لا تشركوا. وانظر "الجامع لأحكام القرآن " (7/ 131). وانظر "مفاتيح الغيب " (13/ 231 - 232).

انتهى. منقولا من خط المجيب المولى شيخ الإسلام- أسكنه الله في جنانه أعلم مقام. آمين آمين [2ب].

بحث في الكلام على قوله سبحانه {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل}

بحث في الكلام على قوله سبحانه {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل} تأليف العلامة محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط 1 - عنوان الرسالة: (بحت في الكلام على قوله سبحانه {يوم يأتي بعض ءايت ربك ... }). 2 - موضوع الرسالة والجواب والتذييل: تفسير. 3 - أول السؤال: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد واله وصحبه وتابعيه إلى يوم الدين. كتب الفقير إلى الله سبحانه يحيى بن مطهر غفر الله لهما إلى القاضي ... 4 - آخر السؤال: ... وعلى كل تقدير فلم ينقدح الصواب والأمر قي أن يكشف عنه الجواب- إن شاء الله تعالى-، 5 - أول الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم. أقول بعد حمد الله، والصلاة والسلام على رسوله وآله. إن وجه الإشكال قي هذه الآية، 6 - آخر الجواب: وكثر فوائده، قال: حرر في سلخ يوم الأربعاء لعله خامس شهر القعدة الحرام من شهور سنة / اثنين وثلاثين بعد اثني عشر مائة سنة هجرية. بملم السائل سامحه الله. 7 - أول التذييل: الحمد لله: وقف الحقير على ما حرره سيدي العلامة العماد- يحيى بن مطهر- عافاه الله من السؤال، وما تضمنه من الفوائد ... 8 - آخر التذييل: حرر ليلة الخميس لعله شهر ربيع الأول سنة / كتبه الحقير عل! ط بن أحد هاجر لطف الله به، وعفى عنه، وعن والديه، ورحم وقوفهم بين يديه. 9 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 10 - ناسخ السؤال والجواب: يجنى بن مطهر. 11 - ناسخ التذييل: على بن أحمد هاجر.

12 - عدد صفحات السؤال والجواب والتذييل: (10) صفحات. 13 - عدد الأسطر في الصفحة: (22 - 26) سطرا. 14 - عدد الكلمات في السطر: 11 - 13 كلمة. 15 - الرسالة من المجلد الرابع من " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني "

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد واله وصحبه، وتابعيه إلى يوم الدين. كتب الفقير إلى الله- سبحانه- يحي بن مطهر (¬1) - غفر الله لهما- إلى القاضي العلامة الحجة البدر الشوكاني- سلمه الله تعالى- سائلا. مما صورته: عن قول الله تعالى: {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن ءامنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا} (¬2) إن كان الإيمان المجرد نافعا قبل إتيان بعض الآيات لكونه واقعا في وقته، فما النكتة في ذكر الكسب في الآيات، وجعله مقابلا للأول؟ وإن كان الكسب المجرد نافعا فما النكتة في تقييده بالكون في إيمان؟ أو كان لا بد منهما مثل: {الذين ءامنوا وعملوا الصالحات} (¬3) فما النكتة في ذكر الإيمان المجرد الكائن من قبل؟ وكيف معنى أو عليه؟ وذكرت له أنه قد وقع الإطلاع على بعض شيء مما تكلم به على هذه الآية لم يكشف عن وجه الاستدلال القناع، فعاد ¬

(¬1) يحي بن مطهر بن إسماعيل بن يحيى بن الحسين بن القاسم ولد في شهر جمادى الأولى سنة 1190 هـ وطلب العلم على جماعة من مشايخ صنعاء كالقاضي العلامة عبد الله بر مشحم وطبقته، وله جماعات كثيرة. قال الشوكاني في ترجمته: "البدر الطالع " رقم (585). وهو حال تحرير هذه الترجمة يقرأ على في العضد وحواشيه وفي شرح التجريد للمؤيد بالله وفي شرحي على المنتقى ...... وهو الآن في عمل تراحم لأهل العصر، وقد رأيت بعضا منها فوجدت ذلك فائقا لما بابه، مع عبارات رصينة ومعاني جيدة، وقد سألني بسؤالات وأجبت عليها لرسائل هي في مجموعات الفتاوى، وله جدول مفيد جدا وأشعار فائقة ومعاني رائعة ومكاتباته إلي موجودة في مجموع الأشعار المكتوبة إلي ". توفي المترجم له سنة 1268 هـ. " البدر الطالع " (رقم 585)، "نيل الوطر" (2/ 411 - 414). (¬2) [الأنعام: 158] (¬3) [البقرة: 25، 82]، [آل عمران: 57]، [النساء: 57، 173، 122)، وغيرها كثير في القرآن.

جوابه- كثر الله إفادته- بالإيماء إلى رقم ما تلخص من ذلك لتعلق عليه ما يستفاد به في المقام، ولم يسع إلا الإمساك. وقد أطال العلامة أبو السعود في تفسيره (¬1) الكلام عليها جدا، وذكر الفهامة الزمخشري في كشافه (¬2) كلاما متينا، إلا أنه جعل أو. بمعنى الواو، قال عليه المحقق السراج في الكشف ما لفظه: اعلم أن الآية من المتشابهات إلا على الراسخين والذي نقول- والعلم عند الله، ومنه التوفيق- أن ظاهر النظم كان يقتضي أن يحصل النفع عند وجود أحد الأمرين من الإيمان أو الكسب، لولا أن الثاني مقيد بقوله: {في إيمانها} كما إذا قلت لا ينفع أحدا مال ليس من حل، أو أ يصرف في واجب أو فعل اقتضى بظاهره النفع إذا وجد أحد الأمرين، أما إذا قلت: أو لم يصرف مع ذلك، أي مع كونه حلا وجب العدول عن ذلك الظاهر، لئلا يبقى ذكر القسم الثاني لغوا في التأويل بأن المراد أفما معا شرطان في النفع والعدول إلى هذه العبارة لتقيد المبالغة في أنهما سيان، وإنما يستحسن إذا كان الأول أعرق بالشرطية كالإيمان والكسب فيه في الآية، وهذا ما انتهى إليه نظر العلامة- رحمه الله- ونحن معه إلا أنا نقول: إنا نعدل إلى التأويل الخاص إذا لم يكن محمله أقوى. وقد وجد في الآية بأن يكون من باب اللف التقديري أي: لا ينفع نفسا إيمانها [1ب] ولا كسبها في الإيمان لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فيه خيرا. والترجيح من وجهن: أحدهما من خارج، وهو ما ثبت (¬3) أن " من قال: لا إله إلا الله خالص مخلصا دخل ¬

(¬1) (3/ 147 - 149) (¬2) (2/ 415) (¬3) وهو حديث ضعيف أخرجه الطبراني في "الكبير" رقم (15074) وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 311) من حديث زيد بن أرقم. وأورده الهيثمى في "المجمع " (1/ 18) وقال: رواه الطبراني في "الأوسط " و"الكبير" وفي إسناده محمد ابن عبد الرحمن بن غزوان، وهو (وضاع).

الجنة " على ما كان من العمل في ضمن آيات وأحاديث تفوت الحصر. والثاني: أن الآية وردت تحسيرا للمخلفين وعدهم بالرسول في البداية عند إنزال الكتاب إلى التكذيب به، والصدف عنه. وعلى شاكلة كلامه كلام بعض الشراح وشراحهم حتى رأيت كلام شيخنا البدر في فتح القدير (¬1)، وكل ذلك لم يكشف عن وجه الاستدلال، لا سيما على ما اختاره أبو السعود (¬2)، وقد قال بقوله، ورجح ما رجحه الكردي في قسط السبيل. مما لم تطمئن إليه النفس. ولا غرو أن يستروح أحد إلى القول: ينفع مجرد الإيمان فيستريح عن واجبات، ويأتي ما شاء من مقبحات. ولا بد من زيادة قد بين أن المراد بالآيات هي التي تضطرهم إلى الإيمان، وبن البعض (¬3) في حديث بأنه طلوع الشمس من مغربها. وظاهر الآية من أولها ¬

= وفي الباب من حديث أنسى وأبي هريرة. . فأما حديث أنس فقد أخرجه البخاري رقم (128) ومسلم رقم (32) أن النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعاذ رديفه على الرحل قال: " يا معاذ بن جبل! " قلت: لبيك يا رسول الله، وسعديك ثلاثا، قال: " ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه على النار ". . وأما حديث أبي هريرة فقد أخرجه البخاري رقم (99) قلت: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لقد ظننت يا أبا هريرة! أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالص من قلبه أو نفسه". (¬1) (2/ 187) (¬2) في تفسيره (3/ 147) (¬3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم رقم (2703) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه". . وأخرج مسلم في صحيحه رقم (2759) عن أبي موسى رضي الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها "

يقتضي أن النفع في تلك المواطن كلها، أعني: حال إتيان ملائكة الموت لقبض الأرواح، وعند إتيان الرب- سبحانه- أو آياته، وعند إتيان بعضها أي: الشمس مشروط بأحد أمرين: إما الإيمان من قبل، وإن لم يكسب فيه صاحبه خيرا قط، أو الكسب المجرد، إلا أنه ورد مقيدا بكونه واقعا في إيمان، وعلمه السؤال المذكور، لأنه إن كان الإيمان مأخوذا معه لم يتم المقابلة، وإن أخذ الكسب مجردا عنه لم يتم لعدم اعتباره منفردا ولا قال به أحد وإن أخذ الإيمان مجردا عن الأعمال فقد قال باعتباره جماعة، ودلت عليه أحاديث من قال: لا إله إلا الله، إلا أنه يشكل عليه آيات وأحاديث: قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬1) وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} (¬2)، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} (¬3) فاشترط في كون السعي مشكورا ثلاث شرائط: إرادة الدار الآخرة بأن يعقد ها همه، ويتجافى عن دار الغرور، والسعي فيما كلفه من الفعل والترك، والإيمان [2أ] الصحيح الثابت كما في الكشاف (¬4)، فدلت على أن الإيمان المجرد ¬

(¬1) [هود: 15 - 16] (¬2) [الشورى: 20] (¬3) [الإسراء: 18 - 19] (¬4) (2/ 415 - 416)

لا ينفع كما هو رأي المعتزلة (¬1) والخوارج (¬2). ولهذا يرون حمل الناس على الإيمان لاعتقادهم أن مرتكب الكبيرة كافر، لأن الأعمال عندهم جزء من حقيقة الإيمان لا من كماله، فإذا عدم الجزء (¬3) عدم الكل. ولا واسطة بين الإيمان والكفر. وقابل ذلك قول المرجئة (¬4): لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة. والآيات قد تدل ¬

(¬1) تقدم التعريف هما (ص 656)، و (ص 153، 856). (¬2) تقدم التعريف هما (ص 656)، و (ص 153، 856). (¬3) قالت المعتزلة: " الطاعات كلها من الإيمان، فإذا دهب بعضها ذهب بعض الإيمان، فذهب سائره، فحكموا بأن صاحب الكبيرة ليعس معه شيء من الإيمان. (¬4) وقالت المرجئة الإيمان تصديق القلب واللسان لأنا إذا أدخلنا فيه الأعمال، صارت جزءا منه، فإذا ذهبت ذهب بعضه فيلزم إخراج ذي الكبيرة من الإيمان. انظر "مجموع فتاوى" (7/ 510) (12/ 471) "منهاج السنة" (5/ 204 - 205). . يقول ابن تيمية في "مجموع فتاوى" (7/ 353) وطوائف أهل الأهواء من الخوارج والمعتزلة، والجهمية والمرجئة، كرامية، وغير كراميهم يقولون: إنه لا يجتمع في العبد إيمان ونفاق، ومنهم من يدعي الإجماع على دلك وقد ذكر أبو الحسن الأشعري في بعض كتبه الإجماع ومن هنا غلطوا فيه، وخالفوا فيه الكتاب والسنة، وآثار الصحابة والتابعين لهم بإحسان مع مخالفة صريح المعقول ... ". إن الإيمان عند جمهور أهل السنة له شعب متعددة، كما أضر بذلك أعلم الخلق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث "شعب الإيمان" وكل شعبة منه تسمى إيمانا، فالصلاة وسائر أعمال الجوارح من الإيمان، والأعمال الباطنة كالحياء والتوكل والرجاء من الإيمان وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها كشعبة الشهادة، ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عر الطريق وبينهما شعب متفاوتة تفاوتا عظيما. انظر: كتاب الصلاة لابن القيم ص 53. يقول ابن تيمية في "مجموع فتاوى" (12/ 472، 473) (4/ 517): " الإيمان: مركب من أصل لا يتم بدونه، ومن واجب ينقص بفواته نقصا يستحق صاحبه العقوبة، ومن مستحب يفوت بفواته علو الدرجة، فالناس فيه ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق، وكالحج وكالبدن والمسجد وغيرها من الأعيان والصفات، فمن أجزائه ما إدا دهب، نقص عر الأكمل، ومنه ما نقص عن الكمال وهو ترك الواجبات أو فعل المحرمات، ومنه ما نقص ركنه وهو ترك الاعتقاد والقول ". مثال الإيمان كالحج في اشتمالهما على أركان، وواجبات ومستحبات ففي الحج أركان متى تركت، لم يصح الحج كالوقوف بعرفة، ومشتمل على واجبات من فعل أو ترك، يأثم بتركها أو فعلها عمدا ويجب مع تركها الجبران بدم، كالإحرام من المواقيت المكانية ومشتمل على مستحبات من فعل وترك يكمل الحج ها، فلا يأثم بتركها ولا يجب بدم، مثل رفع الصوت بالإهلال والإكثار منه. ولقد تواترت النصوص الدالة على أن الإيمان يقبل التبعيض والتجزئة كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من الإيمان ". - أخرجه البخاري رقم (44) ومسلم قي حديثه رقم (325) -. أما أئمة السنة والجماعة، فعلى إثبات التبعيض في الاسم والحكم فيكون مع الرجل بعض الإيمان. لا كله، ويثبت له من حكم أهل الإيمان وثوابهم بحسب ما معه، كما يثبت له من العقاب بحسب ما عليه، وولاية الله بحسب إيمان العبد وتقواه، فيكون مع العبد من ولاية الله بحسب ما معه من الإيمان والتقوى، فإن أولياء الله هم المؤمنون المتقون ". انظر: "مجموع فتاوى" (18/ 275). (11/ 173 - 175).

للطائفتين المتقدمتين، وإن كانت في الكفار، فعموم الموصول صاع للاستدلال به، وعليه فيتحصل أن الإيمان (¬1) قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالقلب. ¬

(¬1) وهو تعريف أهل السنة وقد حكى غير واحد منهم الإجماع على ذلك كابن عبد البر في التمهيد (9/ 248) اتباعا للنصوص القرآنية: (منها): ما يدل على أن الإيمان تصديق بالقلب. قال تعالى: {ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} [الحجرات: 14]. قال تعالى: {كتب في قلوبهم الإيمان} [المجادلة:22]. وقال تعالى: {يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسرعون في الكفر من الذين قالوا ءامنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم} [المائدة: 41]. (منها): ما يدل على أن الإيمان إقرار باللسان. قال تعالى: {قولوا ءامنا بالله ومتا أنزل إلينا} [البقرة:136]. قال تعالى: {وقولوا ءامنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم} [العنكبوت:46]. (ومنها): ما يدل على أن الإيمان عمل الجوارح: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" الإيمان بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان". أخرجه البخاري رقم (9) ومسلم رقم (35) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لوفد عبد القيس: " .... أتدرون ما الإيمان بالله وحده "؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: " شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس ". أحرجه البخاري في صحيحه رقم (53) ومسلم في صحيحه رقم (17). تنوعت عبارات السلف الصالح في تعريف الإيمان، فتارة يقولون: هو قول وعمل، وتارة يقولون: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، وتارة يقولون: هو قول وعمل ونية، وتارة يقولون: قول وعمل ونية واتباع السنة. وكل هذا صحيح، فلس بين هذا العبارات اختلاف معنوي، كما بينه ابن تيمية في " مجموع فتاوى"- (7/ 170، 171، 505، 506) - فقال: إذا قالوا: قول وعمل فإنه يدخل في القول قول القلب واللسان جميعا، وهذا هو المفهوم من لفظ القول والكلام، ونحو ذلك إذا أطلق فإن القول المطلق، والعمل المطلق في كلام السلف يتناول قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، فقول اللسان بدون اعتقاد القلب هو قول المنافقين، وهذا لا يسمى قولا إلا بالتقييد. كقوله تعالى: {يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم} [الفتح: 11]. وكذلك عمل الجوارح بدون أعمال القلوب هي من أعمال المنافقين، التي لا يتقبلها الله، فقول السلف يتضمن القول والعمل الباطن والظاهر. ومن أراد الاعتقاد رأى أن لفظ القول لا يفهم منه إلا القول الظاهر، أو خاف ذلك, فزاد الاعتقاد بالقلب، ومن قال: قول وعمل ونية، قال القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأما العمل فقد لا يفهم منه النية فزاد ذلك ومن زاد اتباع السنة فلأن ذلك كله لا يكون محبوبا لله باتباع السنة، وأولئك لم يريدوا كل قول وعمل، إنما أرادوا ما كان مشروعا من الأقوال والأعمال، ولكن كان مقصودهم الرد على "المرجئة" الذين جعلوه قولا فقط. فقالوا: بل هو قول وعمل، والذين جعلوه "أربعة أقسام " فسروا مرادهم. كما سئل بن عبد الله التستري عن الإيمان ما هو؟ فقال: قول وعمل ونية وسنة، لأن الإيمان إذا كان قولا وعملا بلا نية فهو نفاق وإذا كان قولا وعملا ولية بلا سنة فهو بدعة ".

ومما يدل على تفاوت مراتب المحسنين وغيرهم قول الله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (¬1) وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} (¬2) ¬

(¬1) [الجاثية: 21] (¬2) [غافر58]

، وقال سليمان بن عبد الملك لأبي حازم: يا أبا حازم ما لنا عند الله؟ قال: اعرض عملك على كتاب الله، قال تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم} (¬1)، قال: فأين رحمة الله؟ قال: {قريب من المحسنين} (¬2) لا من المحرومين. قال: فأين القربات؟ قال: إنما يتقبل الله من المتقين. قال: فأين قرابتنا من رسول الله؟ قال: {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} (¬3) انتهى. ودل على اعتبار الأعمال مثل قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (¬4) غير أنه جمع فيها الذين امنوا وعملوا الصالحات. ومثل حديث " الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " (¬5). وفي مروج الذهب .... .... .... .... .... .... .... .... ..... ¬

(¬1) [الانفطار: 13 - 14] (¬2) [الأعراف: 56] (¬3) [غافر: 18] (¬4) [الأنفال: 2 - 4] (¬5) أخرجه البخاري رقم (9) ومسلم رقم (35) من حديث أبي هريرة وقد تقدم.

للمسعودي (¬1) من ترجمة المغيرة ما لفظه: حدثني محمد بن الفرج. بمدينة بخارى في المحلة المعروفة ببير أبي عنان، قال: حدثني أبو دعامة قال: أتيت علي ابن محمد بن علي بن موسى عائدا في علته التي كانت وفاته ها في هذه السنة، فلما هممت بالانصراف قلل لي: يا أبا دعامة قد وجب حقك أفلا أحدثك حديثا تسر به؟ قال: قلت ما أحوجني إلى ذلك يا بن رسول الله، فذكر إسناده عن آبائه إلى علي- رضي الله عنهم- قال رسول الله - صلى الله عليه واله وسلم-: " يا علي اكتب " فقلت: وما أكتب؟ قال: " اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، الإيمان ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، وإن شئتم ما جرى على اللسان، وحلت به المناكحة " انتهى. وهذا وإن لم يثبت من طريقة معتبرة فقد دل عليه القران في الجملة، وورود السحنة الصحيحة ببيان إن شئتم والإيمان يعني ما ذكر لا ينافي ما ثبت في غيرها لا يخالفه. وأحاديث لا إله إلا الله يحمل على من امن ولم يتمكن من العمل، بل مات عقب قولها، فإنها تنفعه- إن شاء الله- مع مواطأت القلب على العمل بأحكام الشرع فعلا وتركا ما عاش، وأما نفعها يوما ما [2ب] فيصدق على غير ذلك، ولكن من يقدر على حر النار لحظة مع ما شاهد من عدم القدرة على حر القيظ. وقد ورد في الحديث "إلا بحقها" (¬2) ومن صار إلى النار يوما ما بسبب الإخلال، ولم تنفعه قطعا كما أنها لم تنفعه في الدنيا، ومن الإخلال بحقها مقارفة بعض المعاصي مما ورد ¬

(¬1) (4/ 194 - 195) تحت عنوان (ذكر حلافة المعتز بالله الزبير لما جعفر) وفقرة (على بن محمد الطالبي). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (34) من حديث أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يؤمنوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا وبما جئت به، بإذن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ".

فيه أن من فعله فهو في نار جهنم خالدا مخلدا، مما لا يمكن أن يفرق معه بين قائلها وبن من لم يقلها أصلا إلا أن يوجد لمثل تلك الأحاديث الشديدة محملا، نحو أن يقال: إن المراد بالخلود المكث الطويل ترجيحا للأحاديث المتواترة (¬1) في الخروج من النار، لأن تلك مخصصة، ويلزم مثلما يقال فيها فيما ورد في خلود الكفار وما قال به أحد فيما أعلم، وعليه فلا يبقى للأحاديث- نحرج من النار- فائدة، فالأولى حمل أحاديث لا إله إلا الله ¬

(¬1) منها ما أخرجه البخاري رقم (7510) ومسلم رقم (193) من حديث أنصر الطويل في الشماعة. وفيه "وعزتي وجلالي لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله ". (ومنها): ما أحرجه مسلم رقم (325/ 193) من حديث أنس بن مالك قال: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعرة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعرة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة ". قال الحافظ الحكمي في " معارج القبول " (2/ 528 - 529 بتحقيقى): ثم اعلم أن الأحاديث الدالة على أن الشهادتين سبب لدخول الجمة والنحاة من النار لا تناقض بيمها وبين أحاديث الوعيد التي فيها: من فعل ذنب كذا فالجنة عليه حرام، أو لا يدخل الجنة من فعل كذا، لإمكان الجمع بين النصوص بأنها جنان كثيرة كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبأن أهل الجنة أيضًا متفاوتون في دخول الجنة في السبق وارتفاع المنازل، فيكون فاعل هذا الذنب لا يدخل الجنة التي أعدت لمن لم يرتكبه، أو لا يدخلها في الوقت الذي يدخل فيه من لم يرتكب ذلك الذنب، وهذا واضح مفهوم للعارف بلغة العرب. وكذلك لا تناقض بين الأحاديث التي فيها تحريم أهل هاتين الشهادتين على النار، وبين الأحاديث التي فيها إخراجهم منها بعد أن صاروا حمما لإمكان الجمع بأن تحريم من يدخلها بذنبه من أهل التوحيد بأن تحريمه عليها يكون بعد خروجه منها برحمة الله ثم بشفاعة الشافعين، ثم يغتسلون في فر الحياة ويدخلون الجنة فحينئذ قد حرموا عليها فلا تمسهم بعد ذلك. أو أن يكون المراد أنهم يحرمون مطلقا على النار التي أعدت للكافرين التي لا يحرج منها من دخلها، وهى ما عدا الطبقة العليا من النار التي يدخلها بعض عصاة أهل التوحيد ممن شاء الله تعالى عقابه وتطهيره على قدر ذنبه، ثم يخرجون فلا يبقى فيها أحد من أهل التوحيد.

على من لم يتمكن من ا! لعمل، أو على من قالها مع القيام بعظم حقها مع الاختلال ببعض صفر في الدنيا منها، فهو بذلك أقرب إلى القيام. بحقها كما ورد التقييد به في أحاديث صحيحة، وكان مجرد قولها نافعا لم يصر قائلها في حالة إلى النار. وقد ورد حديث (¬1): " لا إله إلا الله كلمة عظيمة كريمة على الله، من قافا مخلصا ستوجب الجنة، ومن قالها كاذبا عصمت ماله ودمه وكان مصره إلى النار ". ولما كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار. وبعضهم حمل الأحاديث على نفعها ويوما جمعا بين الأدلة وفيه ما تقدم. وأيضا فإنما يتم على رأي من يقول بالخروج من لنار كما وردت به الأحاديث (¬2) الصحاح. أما على رأي أهل الاعتزال (¬3) المشددين في اعتبار الأعمال مع الإيمان على ما هو لأظهر هنا فلا يتم، ولقد جمعوا بين تشديدين: اشتراط الأعمال، والقول بخلود العصاة من أهل لا إله إلا الله مع الكفار، وكانوا بغير أحد المعا لم أحرى خصوصا مع غلبة التقصير على أكثر البشر، وبه تعلم مقدار القول بالخلود. نسأل الله السلامة من النار. وكلمات أكثر المفسرين غير كاشفة عن المقصود تركت نقلها أثناء مراجعة الاستناد لها، ونقلت كلام الكشاف (¬4) لما فيه من الإلماع مع التحقيق في كل الذي قيل. وما قاله من اللف التقديري نقله ابن هشام في المغني (¬5) عن ابن عطية (¬6)، وابن الحاجب (¬7) أن الآية من ¬

(¬1) فلينظر من أخرجه؟! (¬2) تقدم ذلك آنفا. (¬3) انظر: " المعتزلة وأصولهم الخمسة " (ص 262 - 263). (¬4) (2/ 415 - 416). (¬5) مغني اللبيب " (2/ 628): ثم قال: والآية من اللف والنشر وإذا وبهذا التقدير تندفع شبهة المعتزلة كالزمخشري وغيره، إذ قالوا: سوى الله تعالى بين عدم الإيمان الذي لم يقترن بالعمل الصالح في عدم الانتفاع به، وهذا التأويل ذكره ابن عطية وابن الحاجب. (¬6) عزاه إليه في "مغني اللبيب " (2/ 628). (¬7) عزاه إليه في "مغني اللبيب " (2/ 628).

حذف المعطوف، أي لا ينفع نفسا إيمانها وكسبها إلخ. وقد يقال: إن تقدير الكلام قبل ورود النفي: ينفع الإيمان نفسا كانت آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرا، أي كانت فعلت أحد الأمرين [3أ] فهو في معنى الإيجاب الجزئي، لأنه في قوة كان أحد الأمرين مفعولا لها مثلما ورد النفط رفع الإيجاب الجزئي ورفع الإيجاب الجزئي سلب كلي معنى أن أو كسب معطوف على مدحور ثم والإيجاب الجزئي تحقق فيه الحكم بأحد الشيئين وفي سلبه يتحقق بانتفائهما، فيكون من قبيل: {ولا تطع منهم ءاثما أو كفورا} (¬1)، أو تقرير الكلام أنه إما أن يعل من سلب الانفصال. بمعنى أن النفع قد اشترط بأحد الأمرين، وهما الإيمان المتقدم، والكسب قي الإيمان، وهناك انفصال في الإنبات فإذا دخله السلب رفع هذا الانفصال، وكان واردا على الأخذ الدائر بين الأمرين، فيلزم من نفي الأخذ الدائر ارتفاع كل واحد منهما، فيصير الشرط له ارتفاع النفع ارتفاع كل واحد منهما، وهو سلب كلي يصير التكلم معه في قوة ما إذا قيل: لا ينفع نفسا إيمانها إذا لم يحصل واحد من إيمان أو كسب في إيمان، وهذا كما قال المحقق الجلال في قول الله تعالى: {ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} (¬2) أو يجعل من انفصال السلب، فيقدر أن حرف الانفصال أعني أو وارد بعد اعتبار السلب في الطرفين، فيصير الشرط (¬3) في ارتفاع النفع وجود أحد السلبين، فيكون في قوة ما إذا قيل: لا تنفع نفسا إيمانها إذا حصل أحد عدمن: إما عدم الإيمان، أو عدم الكسب في إيمان. وعلى هذا التقدير يلزم إذا ارتفع الكسب في إيمان مع وجود الإيمان أن يرتفع النفع، وليس المعنى عليه فتعين أن يكون من سلب الانفصال. ¬

(¬1) [الإنسان: 24] (¬2) [البقرة: 236] (¬3) انظر: "روح المعاني" (8/ 66 - 68)، و"المغني " لابن هشام (1/ 66).

هذا تقدير كلام الأشعري (¬1). وللمعتزلي (¬2) أن يناقشه فيمنع عدم صحة طريق انفصال السلب، ويلتزم صحة ارتفاع النفع عند ارتفاع الكسب في إيمان مع وجود إيمان. وما قيل من أنه ليس المعنى عليه في غير الدعوى لا برهان عليها. وعلى كل تقدير فلم ينقدح الصواب والأمر في أن يكشف عنه الجواب- إن شاء الله تعالى-. ¬

(¬1) تقدمت ترجمته (151). (¬2) انظر كلام ابن تيمية في مناقشة ذلك وقد تقدمت.

بسم الله الرحمن الرحيم أقول بعد حمد الله، والصلاة والسلام على رسوله واله: إن وجه الإشكال في هذه الآية الكريمة هو أن عدم الإيمان السابق (¬1) يستلزم عدم كسب الخير فيه بلا شك ولا شبهة، إذ لا خير لمن لا إيمان له، فيكون، على هذا ذكره تكرارا عن كان حرف التخيير على بابه من دون تأويل، وأيضا عدم الإيمان [3ب] مستقل في إيجابه للخلود في النار، فيكون ذكر عدم الباب لغوا، وكذلك وجود الإيمان مع كسب خير فيه مستقل في إيجابه للخلوص عن النار، وعدم الخلود فيها، فيكون ذكر الأول أعني الإيمان مجرده لغوا، فهذا وجه الإشكال في الآية باعتبار حرف التخير المقتضى لكفاية أحد الأمرين على انفراده، وقد ذكروا في التخلص عن هذا الإشكال وجوها: أحدها: أنه يتحقق النفع بأيهما كان، ولا يخفاك أن هذا تدفعه الأدلة الواردة لعدم الانتفاع بالإيمان من دون عمل. والوجه الثاني: أنه لا ينفع إلا تحقق الأمرين (¬2) جميعا: الإيمان وكسب الخير فيه، وهذا أيضًا يدفعه المعنى العربي والإعرابي، فإنه لو كان هو المراد لقال لم تكن أمنت من قبل وكسبت في إيمانها خيرا. الوجه الثالث: أن ذكر الشق الثاني من شقي الترديد لقصد بيان النفع الزائد، ويجزي الأفضل والأكمل، وهذا إيضاحه خروج عما يوجبه معنى الترديد الذي يقتضيه حرفه الموضوع له (¬3). الوجه الرابع: أن إيراد الكلام مرددا على هذه الصفة (¬4) المقصود به التعريض بحال ¬

(¬1) انظر: " روح المعاني " (8/ 66). (¬2) عزاه الألوسي في " روح المعاني " لأبي الكمال: وتعقمه الألوسي بقوله: فكلام هذا العلامة لا يخلو من نظر. (¬3) انظر: روح المعاني (8/ 66). (¬4) المصدر السابق. ونظم الدرر (7/ 332 - 333).

الكفار المفرطين في الأمرين جميعا، وهذا أيضًا خروج عن مقصود الآية بتأويل بعيد جدا لم يدل عليه دليل. الوجه الخامس: إن الآية من باب اللف (¬1) التقديري، أي لا ينتفع نفسا إيمانها ولا كسبها في الإيمان لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا، ورد بأن مبنى الفف التقديري على أن يكون المقدر من متممات الكلام ومقتضيات المقام، فترك ذكره تعويلا على دلالة الملفوظ عليه واقتضائه إياه ما ليس هذا من ذاك. الوجه السادس: أفما معا شرطان في النفع، وأن العدول إلى هذه العبارة لقصد المبالغة في شأن كل واحد منهما بأنه صاع للاستقلال بالنفع في الجملة. ولا يخفى أن هذا مجرد دعوى لا دليل عليها، وإخراج للترديد عن مفاده الذي تقتضيه اللغة. الوجه السابع: أن ظاهر الآية المقتضي لمجرد نفع الإيمان (¬2) المجرد معارض بالأدلة/ الصحيحة الثابتة كما جاء في السنة أنه لا ينفع الإيمان إلا مع العمل، وهذا هو الوجه القوي، والتقدير السوي، والاستدلال الواضح الراجح لسلامته عن التكلفات والتعسفات في معنى الآية، وعن الائتمار لما فيها من الترديد الواضح بين شقي الإيمان المجرد، والإيمان مع العمل. ولا ينافي هذا ما ورد من الأدلة الدالة على نفع الإيمان المجرد، فإنها مقيدة بالأدلة الدالة على وجوب العمل. مما شرعه الله لعباده من أصول الشرائع وفروعها، فاشدد يديك على هذا، ولا تلتفت إلى ما وقع من التدقيقات الزائفة، والدعاوي الداحضة، فإن ذلك لا حامل عليه، ولا موجب له إلا المحاماة على المذاهب ونصوصها، وجعل نصوص الله- سبحانه- تابعة لها، وتأويل ما جاء أهلها حتى كأنها هي الشريعة المحكمة التي يرد إليها كتاب الله وسنة رسوله. ¬

(¬1) ذكره صاحب " الدر المصون " (5/ 234 - 235) و" روح المعاني " (66/ 8). (¬2) انظر: " فضل لا إله إلا الله " للإمام يوسف بن حسن بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي. ونواقض الإيمان القولية والعملية. الدكتور عبد العزيز لن محمد بن لحط العبد اللطف.

ومن العجب أن محققي المفسرين وكبارهم مع ما في هذه الآية من الإشكال المقتضى كلاب لتوسيع دائرة المقال اكتفوا في الكلام عليها بالنذر الحقير، والبحث الحسير، حتى إن الرازي (¬1) مع تطويله للمباحث في غالب تفسيره اقتصر في تفسيره على قوله: والمعنى أن أشراط الساعة إذا ظهرت ذهب أوان التكاليف عندها، فلم ينفع الإيمان نفسا آمنت قبل ذلك، وما كسبت في إيمانها خيرا قبل ذلك. انتهى بحروفه، فانظر هذا الذي اقتصر عليه، واجعله موعظة لك، فإنه إنما يكون تفسيرا للآية لو كانت هكذا: لم تكن آمنت من قبل وكسبت في إيمانها خيرا من دون حرف التخيير. وهكذا الزمخشري قبله، فلقتصر في تفسير الآية على مالا يسمن ولا يغني من جوع. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. والله ولي التوفيق نقل من خط المجيب القاضي العلامة محمد بن علي الشوكاني- حفظه الله تعالى، وكثر فوائده- قال: حرر في سلخ يوم الأربعاء لعله خامس شهر القعدة الحرام من شهور سنة 1232 اثنين وثلاثين بعد اثني عشر مائة سنة هجرية بقلم السائل سامحه الله/ [4ب] ¬

(¬1) في تفسيره (14/ 7)

الحمد لله: وقف الحقير على ما حرره سيدي العلامة العماد مجيء طهر (¬1) - عافاه الله- من السؤال وما تضمنه من الفوائد، وعلى ما أجاب به شيخنا ومولانا العلامة بدر الإسلام محمد بن علي الشوكاني- حفظه الله-، وما تضمنه جوابه من الفوائد. وجميع الوجوه التي وجهت ها الآية الكريمة لا تخلو من التكلفات، وأقرها وأقلها تكلفا ما استقواه المجيب - عافاه الله- مع كونه لا يخلو عن تكلف، ولاح للحقير حليف التقصير وجه أراه خاليا عن التكليف، سالما عن الإشكالات الواردة على غيره فيما أراه، وللناظر نظرة، وفوق كل ذي علم عليم. وهو: أن النفس المذكورة في قوله تعالى: {يوم يأتي بعض ءايت ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن ءامنت من قبل أو كسبت فئ إيمانها خيرا} (¬2) تعمل نوعين: وهي النفس التي لم يقع منها إيمان قط، والنفس التي آمنت من قبل مجيء بعض آيات الله، ولم تعمل خيرا قط، لأنها نكرة في سياق النفي (¬3). فأما النفس التي آمنت من قبل مجيء الآية، وعملت خيرا فإنه لم يكن الكلام مسوقا لها قطعا. وإذا تقرر أنها تعم النوعين، وهي النفس التي لم تؤمن قبل مجيء الآية، والنفس التي آمنت من قبل، ولم تعمل خيرا من قبل مجيء الآية فالترديد الواقع بأو في الآية الكريمة لبيان حال النفسين. الأول: لبيان حال الكافرة التي لم تؤمن من قبل مجيء الآيات، فالإيمان عند إتيان الآية لا ينفعها قطعا. ¬

(¬1) تقدمت ترجمته (ص 1201). (¬2) [الأنعام: 158] (¬3) انظر: " الدر المصون " (7/ 333) و" روح المعاني " (8/ 65) و" الكوكب المنير " (3/ 136).

والثاني: وهو قوله: {أو كسبت في إيمانها خيرا} (¬1) لبيان حال النفس التي قد آمنت قبل مجيء الآية، ولم تعمل خيرا من قبل ذلك، فلا بد من ذلك الترديد لبيان حال النفسين، ولا يغني أحدهما عن الآخر قطعا، وهذا هو المطابق [5أ] لما ورد من الأحاديث الدالة على أن بعض الآيات المذكورة في الآية الكريمة هي طلوع الشمس (¬2) من مغربها، وأن عندها يغلق باب التوبة، فالنفس التي لم تؤمن من قبل مجيئها لم ينفعها إيمانها قطعا، لأن الإيمان توبة عن الشرك، وهي غير مقبولة، لأنه قد غلق بابها، والنفس التي قد كانت آمنت من قبل لمجيئها ولم تكسب في إيمانها خيرا لم ينفعها إيمانها أيضا، لعدم إمكان تدارك التفريط الحاصل منها بالتوبة، لأنه قد غلق بابها، على أن إيمانها الواقع من قبل مجيء الآية مع عدم كسب خير فيه أصلا كالإيمان عند من يقول: الإيمان قول وعمل، وعليه الجماهير من العلماء. وكذلك عند من جعل الأعمال شرطا في الإيمان، فهذا ما دلت عليه الآية الكريمة من غير تكلف، ولا تعسف، ولا تأويل، ولا إخراج للكلام عن ظاهره، ولا اعتبار تقدير لفص في الكلام مع الخلوص عما ذكر في الآية من الإشكالات على كلمة "أو". فإن قلت: فقد ورد في الأحاديث ما يقضي بنفع الإيمان المجرد يوما ما، والآية الكريمة دلت على عدم نفعه مطلقا. قلت: قوله تعالى في الآية الكريمة: {لا ينفع نفسا إيمانها} (¬3) يحتمل أن يراد به الإيمان الواقع عند مجيء بعض الآيات في حق النفس التي قد كانت آمنت من قبل ولم ¬

(¬1) [الأنعام: 158] (¬2) (ومنها): ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (39/ 2901) عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: اطلع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علينا ونحن نتذاكر. فقال: " ما تذاكرون؟ " قالوا: نذكر الساعة. قال: "إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات " فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب. وآخر ذلك نار تخرج من اليمن، تطرد الناس إلى محشرهم. (¬3) [الأنعام: 158]

تعمل خيرا قط، كما هو المراد أيضًا في حق النفس الكافرة، وهو الظاهر لقوله تعالى: {يوم يأتي بغض ءايت ربك لا ينفع نفسا إيمانها} (¬1). ولا شك أن ذلك الإيمان الواقع عند مجيء الآية غير نافع قطعا، لأنه واقع في وقت لم تقبل فيه توبة، وإنما النافع لها يوما ما هو الإيمان المتقدم، وهذا واضح عند من جعل الإيمان يزيد (¬2) وينقص، وكذلك عند من جعل الأعمال منه وهو المختار. قال تعالى: {وما كان له} [5ب] (¬3) .. .... ... عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك {(¬4) فأفادت هذه الآية أن طاعة الشيطان دليل على عدم الإيمان بالآخرة، وأن من أطاعه فهو في شأ من الآخرة، فطاعة الشيطان دليل على حصول الشك وعدم الإيمان، ولذا جاء عن رسول الله- صلى الله عليه واله وسلم-: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن " (¬5). ولعل وضع الظاهر موضع المضمر في ¬

(¬1) [الأنعام: 158] (¬2) جماهير أهل السنة على أن الإيمان يزيد بالعمل الصالح والعلم النافع وزيادة المؤمن به وتظاهر الأدلة والنظر والتدبر والتفكير في مخلوقات الله، كما أنه ينقص بالمعاصي ونقص الطاعات وغيرها مما ذكر أنه يزبد بزيادته والأدلة على دلك من الكتاب والسنة كثيرة (منها): قوله تعالى: {وإذا تليت عليهم ءاياته زادتهم إيمانا} [الأنفال: 2]، وقوله تعالى: {ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم} الفتح:4]. قال! س: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن ا يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه. وذلك أضعف الإيمان " أخرجه مسلم لما صحيحه رقم (78/ 49) من حديث أبي سعيد. وانظر: مجموع فتاوى (3/ 355) (5/ 351)، شرح العقيدة الطحاوية (ص 320 - 323). (¬3) [في المخطوط _أي الشيطان_] (¬4) [سبأ: 21] (¬5) أخرجه البخاري رقم (2475) ومسلم في صحيحه رقم (57) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. . قال ابن تيمية في " الإيمان " (ص 290 - 291): ومعلوم أن الراني إنما يزني لحب في نفسه لذلك الفعل، فلو قام بقلبه خشية الله التي تقهر الشهوة أو حب الله الذي يغلبها لم يزن ولهذا قال تعالى عن يوسف عليه السلام:} كذالك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين & [يوسف: 24] فمن كان مخلصا لله حق الإخلاص لم يزن، وإنما يزني لخلوه من ذلك، وهذا هو الإيمان الذي ينزع منه، لم ينزع منه نفس التصديق ولهذا قيل: هو مسلم وليس منافقا، لكن ليس كل من صدق قام بقلبه من الأحوال الإيمانية الواجبة مثل كمال محبة الله ورسوله ومثل خشية الله والإخلاص له في الأعمال والموكل عليه ... ". وقد ثبت أنه لا بكون الرجل مؤمنا حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وإنما المؤمن من لم يرتب، وجاهد. بماله ونفسه في سبيل الله، فمن لم تقم بقلبه الأحوال الواجبة في الإيمان، فهو الذي نفى عنه الرسول الإيمان وإن كان معه التصديق، والتصديق من الإيمان، ولا بد أن يكون مع التصديق شيء من حب الله وحشية الله، وإلا فالتصديق الذي لا يكون معه شيء من ذلك ليس إيمانا البتة. . وقيل: أي المراد نفى كمال الإيمان لا نفى اصل الإيمان، وهو من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ويراد نفى كماله، وهو كثير في لغة العرب، وعلى هذا التأويل أكثر أهل العلم، جمعا بين هذا الحديث ونحوه من الأحاديث التي ظاهرها نفى الإيمان عن العصاة، ولن الأحاديث التي ظاهرها الصحة التي تثبت دخول الجنة للموحد وإن ارتكب المعاصي، فيدخلها رأسا إذا تاب أو غفر الله له، أو يدخلها بعد مجازاته ولا يخلد الموحد العاصي والنار على مذهب أهل السنة والجماعة، ولا يكفر. بمعصيته

قوله تعالى: {أو كسبت في إيمانها خيرا} حيث لم يقل فيه خيرا يوميء إلى أن المراد بالإيمان الذي لا ينفع هو الحاصل عند مجيء بعض الآيات، ويحتمل أن يراد به الإيمان الواقع من قبل مجيء الآية الذي لم يصحبه خير قط، ونفي النفع عنه باعتبار كونه غير مخلص عن دخول النار- نعوذ بالله منها- وما يقدمها من الأهوال العظام عند الموت، وفي القبر، وفي الحشر. على أن الآية واردة بلفظ الفعل في قوله تعالى: {لا ينفع} وهو لا يفيد عموم الأحوال والأزمان، فقد صدق عدم النفع بالإهانة والطرد ودخول

النار واللبث فيها أحقابا، وحلول العطب وغير ذلك من المصائب والمعاطب- نعوذ بالله تعالى منها، ونسأله التوفيق لما ينجي من عطبه، ويزلف لديه-. اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار آمين آمين. وصلى الله على سيدنا محمد، واله وصحبه وسلم. حرر ليلة الخميس لعله شهر ربيع الأول سنة 1234. كتب الحقير علي بن أحمد هاجر، لطف الله به وعفى عنه وعن والديه ورحم وقوفهم ببن يديه.

إجابة السائل عن تفسير تقدير القمر منازل ويليه: إشكال السائل في الجواب عن تفسير تقدير القمر منازل

إجابة السائل عن تفسير تقدير القمر منازل ويليه: إشكال السائل في الجواب عن تفسير تقدير القمر منازل تأليف العلامة محمد بن علي الشوكاني حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه محفوظة بنت علي شرف الدين أم الحسن

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين أحمدك لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآل رسولك فإنها وردت إلى الحقير هذه، وبعد المباحثة الشريفة، والتدقيقات التي رياض تحقيقها، وريفة، وقصور مسائلها مشيدة منيفة من العلامة بلا ممار علي بن صالح العماري (¬1) - عمته مكارم الحليم الباري- ولفظها: حصل إشكال في تفسير الزمخشري (¬2) لقوله- عز وجل-: (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} (¬3)، ومحل الأشكال أولا في قوله: وقدره، أي: قدر القمر، أي: قدر مسيره منازل، أو قدره ذا منازل، لم عدل الزمخشري إلى هذين التقديرين في المفعول، وهلا حمله على نزع .... .... ..... ¬

(¬1) هو الوزير الكبير الشهير البارع البليغ الألمعي على بن صالح العماري الصنعاني مولده سنة 1149 هـ ونشأ لصنعاء فأحذ ها عن السيد الإمام محمد بن إسماعيل الأمير، وقرأ على علماء عصره في كثير من الفنون وبرع في علوم الأدب وشارك ي التفسير والحديث مشاركة قوية وتفرد. بمعرفة فنون كعلم الهيئة والهندسة والنجوم وكتب الخط الفائق ونظم الشعر وقد ترجم الشوكاني له في المدر الطالع وأورد نبذة مفيدة من نظم المترجم له ونثره ومات بصنعاء سنة 1213. قال الشوكايى ي البدر الطالع (447/ 1): " واجتمعت به في مقام مولانا الخليفة مرات عديدة، وكان يذكر هنالك. بمسائل مفيدة، وسألي. بمسائل أجبت عليها برسائل هي موجودة في مجموع رسائل وآخر ما سألني عنه قبل موته، عن كلام المفترين في قوله تعالى: {والقمر قدرناه منازل " وأورد في السؤال اعتراضات على الزمخشري والسعد وأجبت عنهم لرسالة حميتها (جواب السائل عن تفسير تقدير القمر منازل) اهـ. انظر: البدر الطالع (1/ 446 - 448)، نيل الوطر (2/ 136 - 139). (¬2) في الكشاف (3/ 115). (¬3) [يونس: 5]

الخافض (¬1) كقدرناه. بمنازل، أو في منازل، لأن هذين أظهر في معنى التعليل بعلم السنن والحساب! تأملوه، ثم إشكال ثان قال الزمخشري (¬2): الحساب حساب الأوقات في الأشهر والأيام والليالي، فأما حساب القمر، بل علاقتهما بالشمس. وقد فسر تقدير المنازل للقمر فقط، وكيف! فسر الحساب بغير حساب السنين، وهلا قال لتعلموا عدد السين والحساب، وهو حساب السنن في الأيام، والليالي، والأشهر، فإنه لم يظهر قوله أي: حساب الأوقات تأملوه. ثم أيضًا كلام السعد في هذا المحل أشد إشكالا عال: وقدره ضمير القمر إذ لا مذكور يصلح لذلك سواه، أي: لتقدير المنازل، وهذا مشكل، فإن الشممى صالحة لتقدير المنازل، وأظهر في حساب الأيام والليالي من القمر، وهلا جعل .... .... .... .... .... .... .... .... .... .... ¬

(¬1) {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا} هو مبتدأ، والذي خبره وجملة جعل صلة وإن كان الجعل. بمعنى التصير كانت الشمس مفعولا أولا وضياء مفعولا ثانيا وإن كان الجعل. بمعنى الخلق كانت الشمس مفعولا به وضياء حال والقمر نورا عطف عليهما. {وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} وقدره: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، ومنازل أي قي منازل فهو منصوب على الظردية ويحوز أن يكون التقدير ذا منازل، وقدر على هذا متعدية إلى مفعولين لأن معناه جعل وصير فيكود مفعولا ثانيا ويجوز أن يكود قدر: متعديا إلى واحد. بمعنى خلق وهو الهاء ومنازل حال أي متنقلا. وارتأى أبو البقاء: وجها طريفا لا يحلو من وجاهة وهو أن يكون الضمير منصوبا بنزع الخافض فحذف حرف الجر أي قدر له منازل ومنازل مفعول به واللام للتعليل وتعلموا منصوب بأن مضمرة وعدد مفعول به والسنين مضاف إليه والحساب معطوف على عدد سئل أبو عمرو عن الحساب أننصبه أم نجره فقال: ومن يدري عدد الحساب ومعنى جوابه أنه سئل هل نعطفه على عدد فننصبه أم على السنن فنجره، فكأنه قال: لا يمكن جره إذ يقتضى ذلك أن يعلم عدد الحساب ولا يقدر أحل أن يعلم عدده. انظر: إعراب القران وبيانه (4/ 208 - 209) محيى الدين الدرويش، البيان في إعراب القرآن (2/ 665) للعكبري (أبو البقاء). (¬2) في الكشاف (3/ 115).

الضمير (¬1) في وقدره على الجعل، أي: وقدر جعل الشمس ضياء ونورا منازل، إذا جعل. بمعنى الخلق، فيكون وقدر هذا الخلق الذي خلقه ضياء ونورا منازل إلخ. ثم قال السعد: والظاهر أن المراد بالمنازل البروج، وهو حمل على غير الظاهر، إذ البروج هي المنازل بعينها، فلم عدل إلى هذا؟ وقال: إن بها عدد السنين والحساب بقرانه مع الشمس، وظهوره بعدها. وظاهر القران يقتضى غير هذا، إذ لا دخل به في حساب القران الذي هو من علم المنجمين، فاعتبار الشرع برؤية الهلال لا بقران الشمس، فإنما اعتبار الأشهر عند المنجمين المسمى بالجدول. ثم قال السعد: وذلك لأن المغتبر في الضرع السنة القمرية والشهر الهلالي، فإن أرادهما بحساب المنجمين الذي فيه القران كما ذكره فباطل، وإن أراد الروية فقد صرح بأنه القران , فحصلت هذه الإشكالات. أحسنوا بإمعان النظر والإفادة، جزاكم الله خيرا، انتهى منقولا من خطه- حفظه الله- وأقول: هذا الكلام قد اشتمل على أبحاث سبعة. البحث الأول: في تقدير الزمخشري (¬2). بمضاف إلى المفعول الأول هو سير، أو بمضاف إلى المفعول الثاني هو لفظ ذا، والسؤال عن وجه اختياره لهذه دون تقدير النصب بنزع الخافض، والجواب أن الفعل ههنا وهو قدر يتعدى إلى مفعولين، يقول: قدرت الثوب قميصا، وقدر الأرض جريبا، وقدر المال ألفا، ونحو ذلك، ومفعوله ¬

(¬1) قال الرازي في تفسيره (17، 35 - 36): الضمير في قوله (وقدره) فيه وجهان: الأول: أنه لهما، وإنما وحد الضمير للإيجاز، وإلا فهو في معنى التثنية اكتفاء بالمعلوم، لأن عدد السنين والحساب إنما يعرب بسير الشمس والقمر، ونظيره قوله تعالى: {والله ورسوله أحق أن يرضوه}. والثاني: أن يكون هذا الضمير راجعا إلى القمر وحده، لأن بسير القمر تعرف الشهور، وذلك لأن الشهور المعتبرة قي الشريعة مبنية على رؤية الأهلة، والسنة المعتبرة في الشريعة هي السنة القمرية كما قال تعالى {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله} [التوبة: 36]. (¬2) في الكشاف (3/ 115).

الأول ههنا الضمير المتصل به، والثاني منازل، ولكنه لما كان إيقاع التقدير على القمر غير صحيح باعتبار الحقيقة، لأن المقدر منازل ليس هو جرمه بل مسيره، كما هو المشاهد المحسوس كان التأويل الذي تتوقف صحة معنى الإيقاع عليه لازما، فجعله مضافًا محذوفا إلى الضمير المذكور، وهو المسير. وله أشباه ونظائر في القران وغيره لا يحيط بها الحصر. وهذا التأويل والتقدير هو في جانب المفعول الأول، ثم ذكر وجها آخر، وهو التأويل والتقدير في جانب المفعول الثاني فقال: أو قدره ذا منازل، وحاصله تجويز وقوع التقدير على القمر باعتبار كونه ذا منازل، لا باعتبار أنه منازل في نفسه، فيكون التقدير على هذا مضمنا معنى التصيير، وكلا الوجهين قد تضمنا أن المنازل المقدرة هي في أمر خارج عن جرم القمر، بل في عرض من أعراضه، وهو مسيره، فكان إيقاع التقدير المذكور على مسيره، أو عليه لا باعتبار ذاته، بل باعتبار أنه صار ذا منازل صحيحا، والكل من مجاز الحذف (¬1) إما من المسند إليه أو من المسند قبل دخول الفعل، أو من المفعول الأول أو الثاني بعد دخوله. والخلاف بين أهل البيان في هذا المجاز إنما هو باعتبار الاسم لا باعتبار الحقيقة. إذا تقرر هذا فكلا التأويلين ليس فيه إخراج للفعل عن أصله المعتبر عند علماء النحو، وهو مباشرته لمفعوليه بدون واسطة، وتعديه إليهما بنفسه، بخلاف جعله متعديا إلى الثاني بواسطة الخافض المنزوع (¬2)، وهو الباء. أو في كما ذكره السائل- دامت إفادته- فهو وإن كان صحيحا مصححا للمعنى، مزيلا للإشكال ففيه إخراج للفعل المتعدي إلى مفعولين بنفسه عن كونه كذلك، وجعله قاصرا بدون ملجي، فمن هذه الحيثية اختالي العلامة الزنحشري (¬3) في الكشاف ما اختاره من تقدير حذف المضاف إلى ¬

(¬1) انظر " معترك الأقران " (1/ 231 - 232). (¬2) تقدم آنفا. (¬3) في الكشاف (3/ 115).

المفعول الأول، أو المضاف إلى المفعول الثاني. وقد وافق على ذلك جماعة من المفسرين المحققين، منهم البيضاوي (¬1)، ومحمد بن جزئ الكلبي الأندلسي في تفسيره المسمى: كتاب التسهيل (¬2) لعلوم التنزيل، والحافظ أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمد النسفي في تفسيره المسمى: مدارك التنزيل (¬3) وحقائق التأويل، والقاضي أبو السعود في تفسيره المسمى: إرشاد العقل (¬4) السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، والمحقق النيسابوري في تفسيره (¬5) المشهور، وغير هؤلاء. ولكنه زاد أبو السعود (4) وجها فقال: وقدره أي قدر له، وهيأ منازل، وهذا يفيد أن التقدير واقع على المنازل على كل حال، وأن القمر مقدر له لا مقدر باعتبار ذاته ولا سيره، ولا عرض من أعراضه، وفيه ما قدمنا من أن الفعل يتعدى بنفسه إلى المفعولين. ثم قال أبو السعود: وقدر مسيره منازل، أو قدره ذا منازل على تضمين التقدير معنى التصيير انتهى، وأما ما ذكره السائل - كثر الله فوائده- من أن الحمل على نصب المفعول الثاني بنزع الخافض (¬6) أظهر في معنى التعليل، ففيه شيء، لأن تقدير مسير القمر منازل (¬7) ليقع العلم بعدد السنن ¬

(¬1) في تفسير " أنوار التنزيل وأسرار التأويل " (3/ 86 - 87) (وقدره منازل، الضمير لكل واحد أي قدر مسير كل واحد منهما منازل أو قدره ذا منازل أو للقمر وتخصيصه بالذكر لسرعة سيره ومعاينة منازله وإناطة أحكام الشرع به ولذلك علله بقوله: {لتعلموا عدد السنين والحساب}، حساب الأوقات من الأشهر والأيام في معاملاتكم وتصرفاتكم. (¬2) (2/ 89) (¬3) (2/ 7) (¬4) (2/ 621) بتحقيقنا. (¬5) " غرائب القرآن ورغائب الفرقان " لنظام الدين الحسن بن محمد بن الحسين القمي النيسابوري (11/ 56). (¬6) تقدم ذكر ذلك. (¬7) قال الألوسي في تفسيره (11/ 69): {وقدره} أي قدر له وهيأ (منازل) أو قدر مسيره في منازل على الأول مفعول به وعلى الثاني نصب على الظرفية، وجوز أن يكون قدر. بمعنى جعل المتعدي لواحد و (منازل) حال من مفعول له أي جعله وحلقه متنقلا وإن يكون. بمعنى جعل المتعدي لاثنين أي صيره ذا منازل، وإيا ما كان فالضمير للقمر وتخصيصه إذا التقدير لسرعة سيره بالنسبة إلى الشمس ولأن منازله معلومة محسوسة ولكونه عمدة في تواريخ العرب ولأن أحكام الشرع منوطة له في الأكثر، وجوز أد يكون الضمير له وللشمس بتأويل كل منهما، والمنازل بثمانية وعشرون وهما الشرطان والبطن والثريا والدبران والهقعة والهنعة والذراع والنثرة والطرف والجبهة والزبرة والصرفة والعواء والسماك الأعزل والعفرة والزباني والإكليل والقلب والشولة والنعائم والبلدة وسعد الذالح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية وفرع الدلو المقدم والفرغ المؤخر وبطن الحوت، وهي مقسمة على البروج الإثنى عشر المشهورة فيكون لكل برج منزلان وثلث، والبرج عندهم ثلاثون درجة حاصلة من قسمة ثلاثمائة وستين، جزاء دائرة البروج على اثني عشر، والدرجة منقسمة عندهم بستين دقيقة وهي منقسمة بستين ثانية وهى منقسمة بستين ثالثة .... ".

والحساب لا فرق بينه وبن تقديره. بمنازل، أو في منازل، ليقع العلم بذلك، بل الأول أظهر، لأن ذلك العمل يحصل بالتقدير الواقع على مسيره، لا بالتقدير الواقع عليه كما يشعر به قدره. بمنازل، أو في منازل، فإن كلا التقديرين واقع على جرم القمر بالمنازل أو فيها، فلا يتضح المعنى كلية الاتضاح إلا بتقدير المسير وإيقاع الفعل عليه فيقال قدر مسيره. بمنازل، أو فيها. ومع تقدير المسير لا يبقى حاجة لتقدير الخافض، لأن المسير نفسه هو مقدر. بمنازل، ولهذا قدم العلامة تقدير المسير على التقدير الذي ذكره في المفعول الثاني. والبحث الثاني: يتضمن استشكال ما قاله الزمخشري (¬1) من أن الحساب حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي؟ إذ لا علاقة لهما بحساب القمر، بل علاقتهما بحساب الشمس. والجواب أنه يمكن أن نجعل من في قوله من الأشهر بيانية، فيكون المعنى حساب الأوقات التي هي الأشهر والأيام والليالي، وهذا صحيح، لأنه يستدل. بمسير القمر الكائن من أول الشهر إلى أخره على أن ذلك الشهر جزء من أجزاء السنة، مثلا سير القمر في شهر محرم يدل على انقضاء الشهر بأنه قد مضى من السنة نصف سدسها، وهو وقت ¬

(¬1) في الكشاف (3/ 115).

من أوقاتها، ثم يستدل بسيره في كل ليلة من ليالي الشهر بأن تلك الليلة أول ليلة من الشهر، أو الثانية، أو الثالثة. وذلك يستلزم تقدير اليوم (¬1) تبعا لليلة فيقال هو اليوم الأول، أو الثاني، أو الثالث. وكذلك فيكون المراد بذكر الأشهر والأيام والليالي على هذا الوجه مجموع كل يوم واحد من الثلاثة، أي أن هذا الشهر جميعه وقت من أوقات السنة، لهما نسبة إلى جمع عدد أيامها، وليس المراد بذكر الشهر معرفة أجزائه، ولا بذكر اليوم والليلة معرفة أجزائهما. ويؤيد هذا أنه لو كان المراد معرفة أجزاء كل واحد من الشهر واليوم والليلة لم يكن لذكر الأيام والليالي بعد ذكر الشهر كثير معنى، لأنهما من أجزائه، وأجزاؤهما أيضًا من أجزائه لأن الجزء جزء، فكل جزء تقدره لهما هو جزء للشهر، وهذا فيه دفة فتأمله. وقد وافق الزمخشري (¬2) على العبارة التي استشكلها السائل - عاداه الله- جماعة من المفسرين، منهم محمد بن (¬3) جزئ الكلبي، وأبو السعود (¬4). ويدل على أن المراد ما ذكرناه في تفسير عبارة الزمخشرى (¬5) ما قاله الحافظ أبو البركات في تفسيره (¬6)، فإنه قال: حساب الآجال والمواقيت المقدرة بالسنين والشهور انتهى، فهذا يدل على أن مراد الزمخشري (¬7) بذكر الشهر واليوم والليلة أن كل واحد منها وقت، وأنص جزء لغيره، لا أن المراد أجزاء كل منهما حتى يرد ما أورده السائل من أن أجزاء اليوم والليلة لا يعرفان (¬8). بمسير القمر. ويدل أيضًا على ما ذكرناه ما ذكره النيسابوري في ¬

(¬1) يقطع القمر بحركته الخاصة في كل يوم بليلته ثلاث عشرة درجة وثلاث دقائق وثلاثا وخمسين ثانية وستا وخمسين ثالثة. " روح المعاني " (11/ 71). (¬2) في الكشاف (3/ 115). (¬3) في تفسيره " التسهيل لعلوم التنزيل " (2/ 89). (¬4) في تفسيره "إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم " (2/ 629). (¬5) في الكشاف (3/ 115). (¬6) في تفسيره " مدارك التنزيل وحقائق التأويل (2/ 7). (¬7) في الكشاف (3/ 115). (¬8) انظر كلام الرازي في تفسيره (17/ 35) وقد تقدم.

تفسيره (¬1)، فإنه قال في تفسير الحساب أنه حساب الأوقات والأيام والليالي انتهى. وظاهر هذا أن المراد معرفة نفس الأيام والليالي، وأنها جزء من أجزاء الوقت معين لا حساب أجزائها. وقد صرح أبو السعود (¬2) هذا. وسيأتي كلامه قريبا. البحث الثالث: استشكال تفسير الزمخشري (¬3) للحساب بغير حساب السنن، وكيف لم يقل لتعلموا عدد السنين والحساب، وهو حساب السنن من الأيام والليالي والأشهر، فإنه لم يظهر معنى قوله، أي: حساب الأوقات. والجواب عن هذا قد استوفاه أبو السعود في تفسيره (¬4) فقال: يخصص العدد بالسنين والحساب والأوقات، لأنه لم يعتبر في السنين المعهود معنى مغايرا لمراتب كما اعتبر في الأوقات المحسوبة. وتحقيقه أن الحساب أحصى ماله كمية انفصالية بتكرير أمثاله بحيث يتحصل لطائف! معينة منها عدد معين، له اسم خاص، وحكم مستقل كالسنة المتحصلة من اثني عشر شهرا. وقد يحصل كل شهر من ثلاثين يوما وليلة قد يحصل كل واحد من ذلك من أربعة وعشرين ساعة مثلا، والعدد مجرد إحصائية بتكرير أمثاله من غير اعتبار أن يتحصل بذلك شيء كذلك، وإنما لم يعتبر في السنين المعدودة تحصل حد معين له اسم خاص غير أسامي مراتب الأعداد، وحكم مستقل أضيف إليها العدد. وتحصل مراتب العدد من العشرات والمئات والألوف اعتباري لا يجدي في تحصيل المعدود نفعا. وحيث اعتبر في الأوقات المحسوبة تحصيل ما ذكر من المراتب التي لها أسام خاصة، وأحكام مستقلة علق ها الحساب المنبئ عن ذلك، والسنة من حيث تحققها في نفسها مما لا يتعلق به الحساب وإنما الذي يتعلق به العدد طائفة منها، وتعلقه في ضمن ذلك لكل واحد من تلك الطائفة ليس من الحيثية المذكورة أعني: حيثية تحصيلها من على ¬

(¬1) (11/ 56) (¬2) في تفسيره " إشارة العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (2/ 629) (¬3) (3/ 115) (¬4) في تفسيره " إشارة العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (2/ 629)

أشهر قد تحصل كل واحد منها من عدة أيام، قد حصل كل منها بطائفة من الساعات، فإن ذلك وظيفة الحساب، بل من حيث إنها فرد من تلك الطائفة، من غير أن يعتبر معها شيء غير ذلك، فاتضح هذا ما رجحه المفسرون من تعلق الحساب بالأوقات لا بالسنن (¬1). ويؤيده قوله تعالى في سورة الإسراء: {لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب} (¬2). فإن قلت: العلم بكون الشهر وقتا من الأوقات، وكذلك اليوم والليلة ظاهر لكل أحد غير مفتقر إلى الاستعانة بسير القمر وتقديره منازل. قلت: معرفة كون الشهر شهرا لا بتم بدون النظر في سير القمر، أقل الأحوال طلوعه في أول كل شهر، وطلوعه كذلك متوقف على سيره في تلك المنازل، ثم يترتب على ذلك أن هذا الشهر مثلا أول أجزاء الوقت الشهرية أو الثاني أو الثالث، وكذلك اليوم والليلة أول أجزاء الوقت اليومية أو الليلية أو الثاني أو الثالث، وليس الشهر لعدد معلوم يمكن الاستغناء به عن النظر في القمر. وأما اليوم والليلة فهما وإن كانا يعرفان بالإضاعة والإظلام، لكن كون هذه الليلة هي الأولى من الشهر أو الوقت أو الثانية أو الثالثة متوقف على النظر في القمر، وكذلك اليوم بالتبعية. البحث الرابع: استشكاله- عافاه الله- لكلام السعد حيث قال: وقدره ضمير للقمر بم إذ لا مذكور يصلح لذلك سواه، أي: لتقدير المنازل فقال: وهذا مشكل، فإن ¬

(¬1) قال الألوسى في تفسيره (11/ 70 - 71): ولعل الأولى على هذا أن يحمل (السنين) على ما يعم السنين الشمسية والقمرية وإن كان المعتبر في التاريخ العربي الإسلامي السنة القمرية، والتفاوت بين السنتين عشرة أيام وإحدى عشرة ساعة ودقيقة واحدة، فإن السنة الأولى عبارة عن ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وخمس ساعات وتسع وأربعين دقيقة على مقتضى الرصد الإيلخاني والسنة الثانية عبارة عن ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوما وثماني ساعات وثمان وأربعين دقيقة، وينقسم كل منهما إلى بسيطة وكبيسة ... " ثم تابع كلامه. ممثل ما ذكره أبو السعود. (¬2) [الإسراء: 12]

الشمس صالحة لتقدير المنازل، وأظهر في حساب الأيام والليالي من القمر. والجواب أن منازل القمر المسافة التي يقطعها في كل يوم وليلة بحركته (¬1) الخاصة به، وجملتها ثمان وعشرون، وأساميها مشهورة معروفة، وهي كواكب نابتة معروفة عندهم، جعلوها علامات المنازل، فترى القمر كل ليلة نازلا بقرب أحدها. وقد قسموا دور الفلك، وهي اثنا عشر برجا على ثمانية وعشرين عدد أيام دور القمر فأصاب كل برج منزلتان وثلث، فسموا كل منزلة بالعلامات التي قد وقعت وقت التسمية بحذائه، كذا قال النيسابوري (¬2). وقال أبو السعود (¬3): إن تخصيص القمر هذا التقدير لسرعة سيره، ومعاينة منازله، وتعلق أحكام الشريعة به، وكونه عمدة في تواريخ العرب. وكذا قال البيضاوي (¬4). إذا تقرر هذا لاح لك وجه جعل مرجع الضمير للقمر فقط، وإن جزم السعد بذلك لهذه الأمور مع مرجحات من حيث اللفظ، وهو كون الضمير مفردا، وهو لا يكون مرجعه إلا مفردا، بحسب الظاهر، فإذا تقدمه متعدد، ولما لم يدل الدليل على رجوعه إلى أحدهما على التعين كان الأحق به الأقرب. ولا ريب أن الأقرب القمر. هذا على فرض عدم وجود مرجع لعوده إلى الأقرب من غير اللفظ، فكيف إذا كان موجودا كما نحن بصدده! وصلاحية الشمس لكونها مرجعا ممنوع؟ فإنه يأباه كون الضمير مذكرا وهي مؤنثة، وكونه بعيدا من اللفظ المتصل به الضمير، والقمر قريبا منة، وكونه قد قلم الدليل على كون المرجع هو القمر كما تقدم تحقيقه. نعم قد سبق السائل دامت إفادته إلى القول بصلاحية كون الشمس مرجعا للضمير بعض أئمة التفسير، فقال البيضاوي (¬5) ¬

(¬1) تقدم آنفا. (¬2) في تفسيره " غرائب القرآن ورغائب الفرقان " (11/ 56). (¬3) في تفسيره " إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم " (2/ 629). (¬4) في تفسيره " أنوار التنزيل وأسرار التأويل " (3/ 86) (¬5) في تفسيره (3/ 86).

إن الضمير في: وقدره منازل لكل واحد أي: قدر مسير كل واحد منهما منازل، أو قدره ذا منازل، ولكنه قال بعد هذا: أو للقمر، وتخصيصه بالذكر لسرعة سيره ومعاينة منازله، وإناطة أحكام الشرع به. وكذلك حكى أبو السعود في تفسيره (¬1)، فقال بعد أن قدر رجوعه إلى القمر، وذكر المرجحات التي قدمناها: وقد جعل الضمير لكل منهما، ثم قال: ويكون مقام الشمس في كل منزلة منها ثلاثة عشر يوما، وهذه المنازل التي هي مواقع النجوم التي نسبت العرب إليها الأنواء (¬2) المستمطرة، وهي: الشرطان (¬3)، والبطين، ثم عددها إلى أخرها، ولكن مجرد حكاية كون كل واحد منها مرجعا لا يفيا بعد تلك المرجحات لفظا ومعنى، وأقل الأحوال أن يكون التخصيص للتقدير بالقمر فقط راجحا، ورجوعه إلى كل من الشمس والقمر مرجوحا. ومن أعظم ما يشد من عضد ذلك قوله تعالى في ¬

(¬1) (2/ 629) (¬2) قال ابن الأثير قي "النهاية" (5/ 122): والأنواء: هي ثمان وعشرون منزلة، ينزل القمر كل ليلة في منزلة منها، ومنه قوله تعالى: {والقمر قدرنه منازل} ويسقط في الغرب كل ثلاث عشرة ليلة منزلة مع طلوع الفجر، وتطلع أخرى مقابلها ذلك الوقت في الشرق فتنقضي جميعها مع انقضاء السنة، وكانت العرب تزعم أن مع سقوط المنزلة وطلوع رقيبها يكون مطر، وينسبونه إليها فيقولون: مطرنا بنوء كذا. وإنما حمى نوعا: لأنه إذا سقط الساقط منها بالمغرب ناء الطالع بالمشرق، ينوء نوعا: أي فض وطلع. . واخرج البخاري في صحيحه رقم (1038) ومسلم رقم (125/ 71) عن زيد الجهني انه قال: صلى لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الصبح بالحديبية، على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقبل على الناس فقال: " هل تدرون بماذا قال ربكم "؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأنها من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأنها من قال: بنوء كذا وكذا، فذلك ط فر بي مؤمن بالكواكب ". (¬3) تقدم ذكرها آنفا.

سورة يس: {والقمر قدرنه منازل} (¬1). البحث الخامس: قوله:- عافاه الله- وهلا حمل الضمير في وقدره على الجعل! أي: وقدر جعل الشم!! ضياء، والقمر نورا منازل، والجعل. بمعنى (¬2) الخلق، فيكون: وقدر هذا الخلق الذي خلقه ضياء ونورا منازل إلخ. والجواب أنه لا يخفى أن كون الشمس مجعولة ضياء، والقمر مجعولا نورا ليس هو المنازل، إنما المنازل شيء يتعلق بحركة المجعول، لا بضياء الشمس، ولا بنور القمر وتدبر، هل يصح قدر جعل الشمس ضياء ومنازل، وقدر جعل القمر نورا منازل؟ فإن قلت: ومفعولاه الشمس والضياء، والقمر النور. وإن قلت: يقدر أي: قدر هذا جعل منازل، فهو وإن صح باعتبار ظاهر اللفظ فلا يصح باعتبار المعنى، لأن المقدر منازل ليس هو هذا الجعل، بل عرض من أعراض الجرم وهو الحركة كما سلف. وضوء الشمس كيفية قائمة ها لذاتها بلا خلاف، كما حكى ذلك النيسابوري (¬3)، وأما نور القمر (¬4) فقد ذهب جمهور الحكماء إلى أنه مستفاد من ................. ¬

(¬1) [يس: 39] (¬2) انظر "روح المعاني " للألوسي (11/ 67). (¬3) في تفسيره " غرائب القران ورغائب الفرقان " (11/ 56). (¬4) إن هذا القمر جرم غير منير بذاته، ولكن يستمد نوره بالانعكاس من الشمس المضيئة بذاتها، ليعكسه بدوره إلى الأرض كما صرح القران، وعرفوا أنه تابع للأرض، يسايرها وبدور معها ومثلها من الغرب إلى الشرق، وإن له دورتين، دورة حول نفسه ودورة حول الأرض، ولكن حكمة الله سبحانه قضت أن يتم الدورتين في وقت واحد، وأن يبقى متجها بأحد وجهيه إلى الأرض فلا ترى وجهه الثاني ابدأ. وذلك أن الأرض تتم دورها حول نفسها في يوم كامل وتتم دورتها حول الشمس في سنة كاملة تدور فيها على نفسها 365 دورة. أما القمر فيتم دورته حول نفسه وحول الأرض معا في مدة شهر قمري واحد أي أنه في المدة التي يدور بها حول الأرض لا يدور حولي نفسه إلا مرة واحدة يتجه ها دائما بوجه واحد نحو أمه الأرض لا يوليها ظهره أبدا.

الشمس (¬1). وذهب من عدا الجمهور إلى أنه كيفية قائمة به كقيام ضوء الشمس بالشمس، إذا تقرر هذا فكيف يصح أن يقال أن نفس هذه الكيفية هي المجعولة منازل!، قال أبو السعود (¬2): والجعل إن جعل. بمعنى الإنشاء والإبداع فضياء محضا للمبالغة، وإن جعل. بمعنى التصير فهو مفعوله الثاني، أي جعلها ضياء على أحد الوجهين المذكورين، لكن لا أن كانت خالية من تلك الحالة، بل إبداعها كذلك كما في قولهم: ضيق فم الركية، ووسع أسفلها. انتهى. فعرفت هذا أن الضياء والنور متعلقان بجرم الشمس أو نفس الجرم مبالغة. وعلى كل تقدير فليس المقدر منازل هو ذلك. البحث السادس: قوله: قال السعد: والظاهر أن المراد بالمنازل البروج، وهو حملي على غير الظاهر إذ البروج (¬3) هي المنازل بعينها، فلم عدل إلى هذا؟ والجواب إن البروج الاثنى عشر هي غير المنازل التي هي ثمانية وعشرون؟ فإن البروج عبارة عن مقدار من دور الفلك، والمنزلة عبارة عن الكوكب الثابت الذي هو واحد من ثمانية وعشرين كوكبا كما تقدم نقله عن النيسابوري (¬4)، .... .... .... ¬

= انظر: " قصة الإيمان " لنديم الجسر ص 328، " القرآن والعلم الحديث " عبد الرزاق نوفل ص 180. . ويقال: " إن الأجرام في السماء ذات الضوء المكتسب هي السيارات التسعة. مما فيها الأرض (وهى التي أسماها القرآن الكواكب) وتوابعها من الأقمار قي المجموعة الشمسية، وما قد يوجد مثلها في السماء، وبن العلم أن قمر الأرض نشأ منها، وإن بقية الأقمار نشأت من الكواكب الأخرى، فاتفق العلم مع القرآن في وجود نوعين من النيرات المظلمة بذاتها في السماء وهي السيارات التي أسماه الكواكب، والتوابع التي منها قمر الأرض ولكنه زاد عليه بتفاصيل كعادته ". انظر: "التفسير العلمي للآيات الكونية في القرآن " للأستاذ حنفي أحمد ص 170. وانظر "روح المعاني " للألوسي (11/ 69). (¬1) ثم قال النيسابوري: " وبذلك يقع اختلاف أحواله من الهلالية والبدرية ... ". (¬2) قي تفسيره " إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم " (2/ 630). (¬3) في تفسيره (11/ 56). (¬4) ثم قال النيسابوري: " وبذلك يقع اختلاف أحواله من الهلالية والبدرية ".

وأبي السعود (¬1). وبذلك قال غير هما. والمنزلة أيضًا التي هي عبارة عن الكوكب الثابت الذي يقطعه القمر بحركته في كل يوم وليلة إذا أريد به مقدار من دور الفلك يحل به ذلك النجم، فهذه الإدارة لا تستلزم أن تكون المنازل نفسي البروج، لان البرج إنما يقطعه القمر في يومين وليلتين وثلث يوم وليلة وإن صدق على مجموع المنازل أنها مجموع دور الفلك كما صدق على مجموع البروج أنها مجموع دور الفلك، ثم المنازل وإن كانت هي منازل للشمس كما هي منازل للقمر، لكن لما كان القمر يقطع في كل يوم وليلة واحدا منها، والشمس إنما تقطعه في ثلاثة عشر يوما بلياليها كانت نسبة هذه المنازل إلى القمر أظهر في نسبتها إلى الشمس، لمرور القمر فيها جميعا في كل شهر، والشمس إنما تمر بها في كل سنة مرة. ومع هذا كله فلا جدوى لقول السعد، والظاهر أن المراد بالمنازل البروج، لكن لا من حيث اتحادهما كما ذكره السائل- عافاه الله- بل من حيث كون ذلك لا يفيد شيئا فيما هو بصدده من ترجيح كون المرجع للضمير هو القمر. البحث السابع: قال- كثر الله فوائده-: وقال أي: السعد: لأن بها عدد السنن والحساب بقرانه مع الشمس وظهوره بعدها؛ وظاهر القران يقتضى غير هذا بم إذ لا دخل له في حساب القران الذي هو من علم المنجمين، فاعتبار الشرع برؤية الهلال لا بقي أن (¬2) الشمس، فإنما هو اعتبار الشهر عند المنجمين المسمى بالجدول، قال- عافاه الله-: ثم قال السعد: وذلك لأن المعتبر في الشرع السنة القمرية، والشهر الهلالي، فإن أرادهما بحساب المنجمين الذي هو القران كما ذكره فباطل، وإن أراد الرؤية فقد صرح بأنه القران. ¬

(¬1) في تفسيره (2/ 630). (¬2) أي تقابلها معها في نقطة واحدة وعلى خط طول وعرض واحد. انظر: " الفلك العام " د (هربري سنبر جونز) ترجمة الدكتور عبد الحميد سماحة (ص 167).

أقول: هذا اعتراض صحيح، وانتقاد رجيح، فإن السعد- رحمه الله- خلط في كلامه هذا الاعتبار الشرعي بالاعتبار الجدولي، فإن مرجع الأول رؤية الهلال فحسب، وموجع الثاني القران الذي أشار إليه. وقد اقتصر المفسرون على الأول عند ذكرهم لمرجحات كون المرجع للضمير هو القمر. وفي كلام السعد خلل آخر، وهو أن القرآن أمر نسبى لا يتحقق إلا بين شيئين (¬1) وهما الشمس والقمر، أو أحد النيرات مع أحدهما، ولا لتم أحدهما على انفراده، فكيف يصح أن يكون من مرجحات كون القمر هو المرجع للضمير، وهو مشترك بينها وبن الشمس!، وإلى هنا انتهى الجواب. قال المجيب شيخ الإسلام إنه كان تحريره في 3 ذو القعدة سنة 1212 هـ. ¬

(¬1) انظر: " روح المعاني " للألوسي (11/ 68 - 69).

وورد بعده استشكال من السائل لبعض ما فيه فقال: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جعل الشمس ضياء، والقمر نورا، وسخرهما بأمره تسخيرا،- وقدرهما منازل بنص الكتاب ليعلم بسيرهما عدد السنن والحساب، والصلاة والسلام على من أرسله ماحيا لظلام الضلال بضياء هدايته، وهاديا إلى سبيل الرشاد بنور رسالته، وعلى آله الذين طلعت شمس علومهم في سماء الفضل فانزاحت حنادس (¬1) الجهل، وعلى علماء أمته الذين خصهم بمزيد الفضل والشرف، وحفظ بهم علم الكتاب والسمنة بحمله خلف عن سلف، فلم يخل عصر من عالم يرجع إليه في توضيح المشكلات، ولم يتعطل زمن من فاضل يعول عليه في حل المعضلات. ومن ظن أن جيد الزمن عاطل من قلائد الفضل اللؤلؤية، وأن مهوى سيفه خاليا عن أقراط الكمال الجوهرية فلينظر إلى ما تقلد به جيد هذا الزمن من اللألئ اليتمية، وتقرط به سيف هذا الدهر من الجواهر الثمينة ليعلم أن هذا هو الدهر الأول، وأن ذلك العصر هو العصر المستقبل، وليتأمل ما أودع مولانا الأوحد، وعلامة العصر المفرد، وإنسان عين هذا العالم الإنساني محمد بن علي بن محمد الشوكاني- كثر الله فوائده، وأجزل له عوائده- وما أبدع في جوابه المسمى جواب السائل عن تفسير تقدير القمر منازل، فلقد كشف النقاب عن وجوه تلك المسائل، وأتى من التحقيق ما يعجز عنة جهابذة الأوائل، سوى أنه عرض للذهن القاصر ما عرض من إشكال معه في أطراف. أولا فيما أطبق عليه أئمة التفسير من تقدير الحذف والتأويل على وجهين في تفسير قدرناه، فهلا أولو قدرناه بمعنى سيرناه، وجعلوا التقدير بمعنى. . . . . . . . . . . . . . ¬

(¬1) حندس: الجندس: الظلمة وفي الصحاح: الليل الشديد. وليلة جندسة وليل حندس مظلم، والحنادس ثلاث ليالي من الشهر لظلمتهن. " لسان العرب" (3/ 356)

التسيير (¬1) حتى يقع الفعل على مفعوله بدون حذف ولا تأويل. الثاني أن الصدر لم يثلج ببرد اليقين فيما ذكروه أن اليوم والليلة يعرفان بمسير القمر. وقد أفدتم ما أفدتم. ومما أشكل قول أبي السعود: وأما اليوم والليلة فإنهما وإن كانا يعرفان بالإضاعة والإظلام. ثم قال ما معناه أن كون هذه الليلة الأولى أو الثانية، أو اليوم الأول أو الثاني متوقفا على النظر في القمر، ومحل النزاع ليس هذا من جهل العدد، بل المراد أن معرفة اليوم والليلة من حيث إن هذا يوم، وهذه ليلة لا يعرفان إلا بسير الشمس فقط، كما أن هذا شهر من حيث هو شهر لا يعرف إلا بصير القمر، فلم خصوا الأيام والليالي والأشهر والسنن بسير القمر؟ وقد قال- عز وجل-: {الشمس والقمر بحسبان} (¬2). قال الزمخشري في تفسيره (¬3): بحسبان معلوم، وتقدير سوي يجريان في بروجهما ومنازلهما، وفي ذلك منافع للناس عظيمة، من ذلك علم السنين والحساب. وقال المحشي: أي حساب الأيام والليالي والشهور. وقد نقلتم تلك الأقوال في عود الضمير عليهما، ولكن صرحتم بأنها مرجوحة، وأن تخصيص القمر أرجح، نعم وأشكل ما ذكره النيسابوري في تفسيره (¬4) كما نقلتم عنه في قوله أن المنازل ثمانية وعشرون منزلة، وأن الثمانية والعشرين عدد أيام دور القمر الذي هو الشهر إلى آخر ما ذكره. وهذا بخلاف ما ذكره أهل الهيئة، وعلماء علم الفلك من تحقيق دور القمر، فإنهم ذكروا أن القمر يقطع الأثني عشر برجا التي هي شهر قمري في تسعة وعشرين يوما، وثماني ساعات، وخمس وأربعين دقيقة، هذا هو الدور القمري، والشهر القمري والسنة ¬

(¬1) تقدم ذكر ذلك. (¬2) [الرحمن: 5]. (¬3) في "الكشاف" (4/ 50). (¬4) "غرائب القرآن ورغائب الفرقان" (11/ 56).

منه اثنا عشر شهرا، فيتحصل من مجموع ذلك ثلثمائة يوم، وأربعة وخمسون يوما، وربع يوم تقريبا، وهو أيام السنة القمرية. وبرهان ذلك واضح. وأما ما ذكره النيسابوري (¬1) أن أيام دور القمر ثمانية وعشرون بعد المنازل فلا يصح، لأنها تحصل أيام السنة القمرية مما ذكره ثلثمائة يوم، وستة وثلاثون يوما، وهذا غير صحيح فتأملوه (¬2). ونعم أن المنازل ثمانية وعشرون، ولكنه أخل بالعبارة في عدم تحقيق المسير في المنازل، إلا أن يكون على وجه التغليب، والذي عليه التحقيق في علم الهئية على مسير القمر على اختلاف هيئته في البروج أنه يقطع في البروج المستوية في كل يوم وليلة منزلة، ونحو سدس منزلة في هيئة الأطول، وفي البروج المعوجة تقطع دون المنزلة قدر إحدى عشرة درجة، وتعجز قليلا بنحو نصف سدس، وربع سدس، ويتم من مجموع ذلك الشهر كما صرحوا. ولا يستقيم في الفلك حساب الأيام على قانون حساب المنازل، إنما عملهم على البروج، ولعل هذا هو الذي حمل السعد على تفسير المنازل بالبروج، لصحة الحساب، لأن القمر يقطع في الشهر العربي اثنى عشر برجا، فيحصل منه حساب السنين القمرية، بخلاف المنازل فلا يتحصل فيها كمية الشهر دون اليوم على أفرادها إلا من مجموعها، إلا إذا حصل على وجه التغليب. وما ذكر النيسابوري (¬3) أن الشمس تقطع المنزلة في ثلاثة عشر يوما بلياليها وهم، والذي عليه علماء الهيئة أن الشمس تقطع المنزلة تارة في اثنهما عشر يوما، وتارة في ثلاثة عشر، وتارة في أقل منها. ومجموع قطعها للفلك في ثلثمائة وخمسة وستين يوما ونحو ربع يوم؛ وهذه هي السنة الشمسية، أعني: التي تعرف من ¬

(¬1) في تفسيره (11/ 56). (¬2) انظر: كلام الألوسى في تفسيره (11/ 69 - 70) وقد تقدم. (¬3) في تفسيره (10/ 84).

الأيام. ومن المعلوم أن هذا لا جدوى فيه؛ إذ المقصود هنا هو ما جاء به الشرع لا العقل, إنما سنح ذكره لعله يتمشى عليه كلام السعد. والله أعلم. والحمد لله أولا وآخرا. قال السائل: وحرر يوم الخميس 16 ذي القعدة سنة 1212هـ.

فأجاب عليه المولى العلامة بدر الدين، العالم الرباني محمد بن على الشوكاني- عفى الله عنه- فقال: الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على رسوله وآله. قلتم- كثر الله فوائدكم، ونفع بعلومكم-: فهلا أولوا قدرناه بمعنى سيرناه إلخ. أقول: هذا صحيح مغن عن الحذف والتقدير في المفعول الأول، أو الثاني، أو نزع الخافض، لكنه لا يكون تأويل قدرناه بمعنى سيرناه إلا على التضمن الذي قد تمهدت قواعده، والتضمن هو ضرب من التأويل، لأنه إخراج للفعل عن معناه إلى معنى فعل آخر، فهو إن نفع عدم تقدير مفعول أول غير الضمير أو مفعول ثان، المنازل قد وقع به تقدير فعل آخر غير الفعل المذكور في نظم القرآن الكريم، وحاصله أن تقدير مفعول محذوف أخف مؤنة من تقدير فعل محذوف، فلعل تقدير المفسرين بحذف أحد المفعولين دون الفعل لهذا، ثم قد عرفتم أن القاعدة في التضمن (¬1) المصرح ها في علم العربية أنه يصح كون أحد المفعولين الأصلي أو البدلي حالا، والآخر أصلا. فإذا بني في الآية على التضمن كان المراد سيرنا القمر مقدرا منازل، أو قدرنا القمر مسيرا منازل، هذا الأمر لا بد منه. ولا يخفاكم أن الفعل الذي هو قدرنا باق في كلا التقديرين باعتبار بقاء اسم الفاعل، وإذا كان باقيا مع التضمن إما أصلا أو حالا عاد التقدير الذي وقع الفرار منه، لأن إتباع التقدير على القمر لا يصح، وحينئذ لم يأت التضمن بما يوجب عدم الاحتياج إلى تقدير المسير في الأول، أو لفظ ذا في الثاني باعتبار ما ذكرناه من جعل أحد [المفعولين] (¬2) أصلا، والأخر حالا، ثم على كل حال لم يقطع الخلوص من معرة ¬

(1): قيل: أن من الإيجاز نوعا يسمى التضمين، وهو حصول معنى في لفظ من غير ذكر له باسم أو صفة هي عبارة عنه. وهو نوعان: أحدهما ما يفهم من البنية. والثاني ما يفهم من معنى العبارة. (¬1) انظر: "معترك الأقران في إعجاز القرآن" (1/ 230). (¬2) في المخطوط (الفعلين) والصواب ما أثبتناه.

التأويل الذي فررتم منه إلى التضمن نوعا من التأويل كما عرفتم. قلتم- دامت منكم الإفادة- بل المراد أن معرفة اليوم والليلة من حيث إن هذا اليوم والليلة لا يعرفان إلا بسير الشمس. أقول: لا نزاع في هذا؟ فإن الأمر كما ذكرتم، والذي في الجواب هو تصحيح لما وقع في كلام الزمخشري (¬1) من مدخلية القمر لمعرفة اليوم والليلة، لأن كلامه إذا حمل على أن المراد معرفة نفس اليوم والليلة فهو كما ذكرتم غير صحيح في الظاهر، وإن حمل على أن المراد معرفة اليوم والليلة من حيث إنها جزء من الوقت معين كاليوم الأول من الشهر، أو الثاني، أو الثالث، وكذلك الليلة كان كلام الزمخشري (1) صحيحا، فوقع في الجواب حمل الكلام على معنى يصح، وليس محل النزاع إلا مجرد مدخلية معرفة اليوم والليلة من مسير القمر. وقد وقعت المدخلية من الحيثية التي ذكرناها، فلا لتم كل ما ذكرتم من أن محل النزاع هو معرفة اليوم والليلة من حيث إن هذا يوم، وهذه ليلة بم فإن هذا لا ينازع الزمخشري ولا غيره في عدم مدخليته في مسير القمر، ولكن من أين لنا أن الزمخشري أراد هذا، حتى يتجه عليه الاعتراض؟ ثم ما ذكرتم من أن ذلك المحرر في الجواب الذي استشكلتم هو كلام أبي السعود، ليس الأمر كذلك، بل هو كلام المجيب- لطف الله به- وكلام أبي السعود انقضى عند قوله أن يعتبر معها شيء غير ذلك. وما ذكرتم من نقل كلام الزمخشري (¬2) والمحشي على قوله تعالى: {الشمس والقمر بحسبان} (¬3) فهو مسلم لأن معرفة اليوم من حيث هو يوم، والليلة من حيث هي ليلة يعرفان بذلك. قلتم- عافاكم الله- إن علماء الهيئة ذكروا أن القمر يقطع الاثني عشر البرج التي هي شهر قمري في تسعة وعشرين يوما، وثماني ساعات، وخمس وأربعين دقيقة إلى آخر ¬

(¬1) في "الكشاف" (3/ 115) (¬2) في "الكشاف" (6/ 6) (¬3) [الرحمن: 5]

ما أوردتم على النيسابوري. أقول: ما ذكرتم هو عند بعض المشتغلين هذا العلم، وعند غيرهم ما ذكره النيسابوي (¬1). قالوا: سير القمر في كل منزلة ليلة حتى تكمل الثماني والعشرون ثم يستتر ليلتين إن كان الشهر كاملا، وليلة إن كان ناقصا. ومن جملة من صرح هذا أبو السعود في تفسيره (¬2) فقال: وهي معنى المنازل من ليلة المستهل إلى الثامنة والعشرين، فإذا كان في آخر منازله دن واستقوس، ثم يستتر ليلتين إذا ليلة إذا نقص الشهر انتهى. والحاصل أن من ذهب إلى أن الشهر لا يزيد ولا ينقص بل هو مقدار معين محدود في كل شهر يتحصل من مجموعة ثلثمائة وأربعة وخمسين يوما قال بما ذكرتم. ومن ذهب إلى أن الشهور تختلف زيادة ونقصانا قال بأن الشهر قد يكون ثلاثين يوما، وقد يكون تسعة وعشرين يوما، وأنه لا ظهور للقمر في زيادة على المنازل الثماني والعشرين، بل يستتر من بعدها، ويحتجب عن الأبصار، وهذا هو المحسوس بالمشاهدة. ثم يتحصل من المجموع كما يتحصل من المجموع الأول، وهو ثلثمائة وأربعة وخمسون يوما، وهو السنة القمرية. وإذا تقرر هذا عرفتم عدم ورود ما أوردتم من أن السنة تكون على ما ذكره ثلثمائة وستة وثلاثين يوما، لأن هذا إنما يتم على فرض أن الشهر اسم للأيام التي تحل ها القمر في المنازل الثماني والعشرين، وهم لا يقولون بذلك لما عرفتم من أنهم يعدون من أيام الشهر يوم الاستتار أو يوميه. قلتم- حفظكم الله-: وما ذكره النيسابوري (¬3) أن الشمس تقطع المنزلة في ثلاثة عشر يوما بلياليها وهم، والذي عليه علماء الهيئة أن الشمس تقطع المنزلة تارة في اثني عشر يوما، وتارة في ثلاثة عشر يوما، وتارة في أقل منهما، ومجموع قطعها للفلك في ثلثمائة وخمسة وستين يوما، ونحو ربع يوم تقريبا، وهذه هي السنة الشمسية. ¬

(¬1) في تفسيره (10/ 84) (¬2) في تفسيره (2/ 630) (¬3) في تفسيره (10/ 84)

أقول: قد وافق النيسابوري (¬1) على ما ذكره المحقق أبو السعود في تفسيره (¬2)، فإنه قال: ويكون مقام الشمس في كل منزلة منها ثلاثة عشر يوما انتهى. ثم ههنا شيء وهو أنكم جزمتم بأن الشمس تقطع المنزلة إما في اثني عشر يوما، أو ثلاثة عشر يوما، أو دونهما، فحصل من هذا أن أكثر منزلة تقطعها الشمس في ثلاثة عشر يوما، واقفها في دون اثني عشر يوما، وأوسطها في اثني عشر يوما ونحوه. إذا قلنا أن الشمس تقطع كل منزلة في ثلاثة عشر يوما حصل من المجموع ثلثمائة لوم وأربعة وستون يوما، فبالضرورة أنها إذا كانت تقطع بعض المنازل في اثني عشر يوما، وفيما دونها أن لا يحصل من المجموع هذا العدد، فكيف جزمتم آخرا بأنه يحصل من المجموع ثلثمائة وخمسة وستون يوما فإن هذا لا يتم إلا على أنها تبقى في كل منزلة ثلاثة عشر يوما، وفي واحدة منها أربعة عشر يوما، وهي منزلة البلدة كما ذكروه، أو على أنها تبقى في بعض المنازل دون ثلاثة عشر، وفي بعضها فوق ثلاثة عشر، وهذا لا يفيده كلامكم، فإنكم جزمتم بأن بقاء الشمس في المنازل على ثلاثة أقسام: ثلاثة عشر، واثنى عشر، ودونهما؟ فكان يلزم على هذا أن تكون أيام السنة الشمسية دون ما ذكرتم بكثير فتأملوا هذا، ففيه تمرين. وإن كان كما لمحتم إليه لا تتعلق به فائدة شرعية. وحسبنا الله وكفى ونعم الوكيل، انتهى. قال المجيب: حرر ليلة الجمعة المسفرة عن اليوم السابع والعشرين شهر القعدة الحرام سنة 1212 هـ. ¬

(¬1) في تفسيره (10/ 84) (¬2) في تفسره (2/ 630)

جواب سؤال يتعلق بما ورد فيما أظهر الخضر

جواب سؤال يتعلق بما ورد فيما أظهر الخضر تأليف العلامة محمد بن علي الشوطاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط 1 - عنوان الرسالة: (جواب سؤال يتعلق بما ورد فيما أظهر الخضر). 2 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. أشكل على السائل ألهمه الله حقيقة الأمر إن شاء الله. وجه الاختلاف في إسناده الإرادة في قوله تعالى حكاية عن الخضر. . . 3 - آخر الرسالة:. . . تقول لمن توبخه: لك أقول، وإياك أعنى والله أعلم. انتهى لفظ الجواب من خط شيخ الإسلام، وبقية علماء الأنام، محمد بن علي الشوكاني سلمه الله. 4 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 5 - عدد صفحات الرسالة: 2 صفحة. 6 - المسطرة: الصفحة الأولى: (23) سطرا. الصفحة الثانية: (10) سطرا. 7 - عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة. 8 - الرسالة من المجلد الرابع من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

بسم الله الرحمن الرحيم أشكل على السائل - ألهمه الله حقيقة الأمر إن شاء الله- وجه الاختلاف في إسناد (الإرادة) في قوله تعالى مع حكايته عن الخضر (¬1) (عليه السلام) حيث أسند له في بيان ¬

(¬1) أ- الخضر: أخرج البخاري في صحيحه رقم (3402) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء". . الفروة أرض بيضاء لا نبات فيها. وحكى عن مجاهد أنه قيل له الخضر لأنه كان إذا صفى اخضر ما حوله. ب- اسمه: قال الحافظ في الفتح (6/ 433): وقد اختلف في اسمه قبل ذلك وفي اسم أبيه وفي نسبه وفي نبوته وفي تعميره ... ". وقد أفرد ابن حجر لذلك مؤلفا ذكر فيه تفصيل ذلك كله وهو " الزهر النضر في نبأ الخضر". قيل: هو ابن "ادم" من صلبه وهو قول مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقد أخرجه الدارقطني في "الأفراد" وهو منقطع غريب. وقيل إنه "ابن قابيل بن ادم" ذكره أبو حاتم السجستاني في كتاب المعمرين وهذا معضل. وقيل: أنه " بليا بن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح. وهذا قال "ابن قتيبة" وحكاه النووي. وقيل: إنه " إليسع" حكى عن "مقاتل" أيضًا وهو بعيد. وقيل: إنه من ولد بعض من كان آمن ب "إبراهيم" وهاجر معه من أرص "بابل" حكاه "الطبري" في تاريخه .... ... " وقال النووي: كنيته أبو العباس وهذا متفق عليه. كما ذكره الحافظ في المصدر المذكور. ولتعلم أن اسم الخضر لم يذكر في القران، وإنما ذكرت فيه قصته مع نبي الله موسى عليه السلام، وصرحت السنة باسمه، كما في حديث ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذكر القصة. وقد أخرجه البخاري قي صحيحه رقم (74 و78، 2267، 2728، 3278 و3400 و3401 و4725، 4726، 4727، 6672، 7478) ج- الاختلاف في نبوة الخضر: قال الحافظ في الفتح (6/ 433) " وحكى ابن عطية البغوي عن أكثر أهل العلم أنه نبي، ثم اختلفوا: هل هو رسول أم لا؟. وقالت طائفة منهم القشيري هو ولي. ثم قال الحافظ في الفتح (6/ 434): " قال القرطبي: هو نبي عند الجمهور والآية-[الكهف:66] {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} - تشهد بذلك، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يتعلم ممن هو دونه، ولأن الحكم بالباطن لا يطلع عليه إلا الأنبياء". قال الفخر الرازي في تفسيره (22/ 148) والأكثرون أن ذلك العبد كان نبيا واحتجوا عليه بوجوه: (الحجة الأولى): انه تعالى قال: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} [الكهف: 65] والرحمة هي النبوة بدليل قوله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32] وقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص: 86] والمراد هذه الرحمة النبوة. (الحجة الثانية): قوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا}، وهذا يقتضى أنه تعالى علمه بلا واسطة تعليم معلم ولا إرشاد مرشد وكل من علمه الله لا بواسطة البشر وجب أن يكون نبيا يعلم الأمور بالوحي من الله. (الحجة الثالثة): إن موسى عليه السلام قال: {أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}، والتي لا يتبع إلا نبي في التعليم. (الحجة الرابعة): إن ذلك العبد أظهر الترفع على موسى حيث قال: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف: 68]. وأما موسى فإنه أظهر التواضع حيث قال: {وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف: 69] وكل ذلك يدل على أن ذلك العالم كاد فوق موسى ومن لا يكون نبيا لا يكون فوق نبي. (الحجة الخامسة): احتج الأصم على نبوته بقوله في أثناء القصة: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} وهو يدل على النبوة. (الحجة السادسة): ما روي أن موسى عليه السلام لما وصل إليه قال: السلام عليك، فقال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل. فقال موسى عليه السلام: من عرفك هذا؟ قال: الذي بعثك إلي. . وقد رجح ابن حجر نبوة الخضر ونقل ذلك عن جمهور العلماء. الفتح (8/ 422). والراجح: هو أن الحضر عليه السلام نجي من أنبياء الله وليس ولى فقط كما تزعم المتصوفة ومن سار على نهجهم وهذا يبطل دعوى الصوفية بأن الولي أعلم من النبي بناءا على قصة الخضر مع موسى حيث يدعون أن الأولياء يعلمون علم الحقيقة الذي لا يعلمه الأنبياء ويستدلون هذه القصة. . قال ابن تيمية في مجموع فتاوى (11/ 420 - 426): "وأما احتجاجهم بقصة موسى والخضر فيحتجون على وجهين: (أحدهما): أن يقولوا: إن الخضر كان مشاهدا الإرادة الربانية الشاملة والمشيئة الإلهية العامة وهى الحقيقة الكونية فلذلك سقط عنه الملام فيما خالف فيه الأمر والنهى وهو من عظيم الجهل والضلال بل من أعظم النفاق والكفر فإن مضمون هذا الكلام أن من آمن بالقدر وشهد أن الله رب كل شيء لم يكن عليه أمر ولا نهي وهذا كفر بجميع كتب الله ورسله وما جاءوا به من الأمر والنهي .. وهؤلاء هم القدرية الشركية الذين يحتجون بالقدر على دفع الأمر والنهى هم من شر القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة الذين روى فيهم " إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم لا لأن هؤلاء يقرون الأمر والنهي والثواب والعقاب لكن أنكروا عموم الإرادة والقدرة والخلق وربما أنكروا سابق العلم. وأما القدرية الشركية فإنهم ينكرون الأمر والنهى والثواب والعقاب لكن وإن لم ينكروا عموم الإرادة والقدرة والخلق فإنهم ينكرون الأمر والنهي والوعد والوعيد ويكفرون بجميع الرسل والكتب فإن الله إنما أرسل الرسل مبشرين من أطاعهم بالثواب ومنذرين من عصاهم بالعقاب. وأيضا فإذا موسى عليه السلام كان مؤمنا بالقدر عالما به بل أتباعه من بني إسرائيل كانوا أيضًا مؤمنين بالقدر لهل يظن من له أدلى عقل أن موسى طلب أن بتعلم من الخضر الإيمان بالقدر وأن ذلك يدفع الملام مع أن موسى أعلم بالقدر من الحضر بل عموم أصحاب موسى يعلمون ذلك. وأيضا فلو كان هذا هو السر قي قصة الحضر لبين ذلك لموسى وقال: " إني كنت شاهدا للإرادة والقدر" وليس الأمر كذلك بل بين له أسبابا شرعية تبيح له ما فعل. (الوجه الثاني): فإن من هؤلاء من يظن أن من الأولياء من يسوغ له الخروج عن الشريعة النبوية كما ساغ للخضر الخروج عن متابعة موسى وأنه قد يكون للولي في المكاشفة والمخاطبة ما يستغني به عن متابعة الرسول في عموم أحواله أو بعضها وكثير منهم يفضل الولي في زعمه إما مطلقا وإما من بعض الوجوه على النبي زاعمين أن في قصة الخضر حجة لهم وكل هذه مقالات من أعظم الجهالات والضلالات بل من أعظم أنواع النفاق والإلحاد والكفر فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن رسالة محمد بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجميع الناس عربهم وعجمهم وملوكهم وزهادهم وعلمائهم وعامتهم وأنها باقية إلى يوم القيامة بل لعامة الثقلين الجن والإنس وأنه ليس لأحد من الخلائق الخروج من متابعته وطاعته وملازمة ما يشرعه لأمته من الدين وما سنه لهم من فعل المأمورات وترك المحظورات بل لو كان المتقدمون قبله أحيانا لوجب عليهم متابعته وطاعته .... ومما ببين الغلط الذي وقع لهم في الاحتجاج بقصة موسى والخضر على مخالفة الشريعة أن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثا إلى الخضر ولا أوجب الله على الخضر متابعته وطاعته بل قد ثبت في الصحيح أن الخضر قال له: "يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه وأنه على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه" وذلك أن دعوة موسى كانت خاصة وقد ثبت في الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال فيما فضله الله به على الأنبياء قال: " كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" فدعوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شاملة لجميع العباد وليس لأحد الخروج عن متابعته وطاعته ولا استغناء عن رسالته كما ساغ للخضر الخروج عن متابعة موسى وطاعته مستغنيا عنه. كلا علمه الله وليس لأحد ممن أدركه الإسلام أن يقول لمحمد: إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه، ومن سوغ هذا أو اعتقد أن أحدا من الخلق الزهاد والعباد أو غيرهم له الخروج عن دعوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومتابعته فهو كافر باتفاق المسلمين وقصة الخضر ليس فيها خروج عن الشريعة ولهذا لما بين الخضر لموسى الأسباب التي فعل لأجلها ما فعل وافقه موسى ولم يختلفا حينئذ ولو كان ما فعله الخضر مخالفا لشريعة موسى لما وافقه ". انظر: فتح الباري (1/ 436)، مدارج السالكين (2/ 746). . تعميره: 1/ قال الحافظ في الفتح (6/ 434 - 435): " قال ابن الصلاح: هو حي عند جمهور العلماء والعامة معهم قي ذلك، وإنما شذ بإنكاره بعض المحدثين وتبعه النووي، وزاد أن ذلك متفق عليه بين الصوفية، وأهل الصلاح وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به أكثر من أن تحصر". ضم ذكر الحافظ كثيرا من هذه الروايات وقد حكم عليها الحافظ بالضعف ولهم في ذلك أيضًا حكايات غريبة لا تثبت أمام التحقيق العلمي. (منها) ما أخرجه الدارقطني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نسيء لـ (الخضر) في أجله حتى يكذب "الدجال". - وفي سنده داود بن الجراح وهو ضعيف عن مقاتل بن سليمان وهو متروك، عن الضحاك عن ابن عباس، والضحاك لم يدرك ابن عباس. (ومنها) ذكر ابن اسحاق في "المبتدأ" قال: حدثنا أصحابنا أن "آدم" لما حضره الموت جمع بنيه وقال: إن الله تعالى منزل على "أهل الأرض" عذابا، فليكن جسدي معكم في المغارة، حتى تدفنوني بأرض "الشام" فلما وقع الطوفان قال "نوح" لبنيه: إن "آدم" دعا الله أن يطيل عمر الذي يدفنه إلى "يوم القيامة" لم يزل جسد "آدم" حتى كان "الخضر" هو الذي تولى دفنه وأنجر الله له ما وعده، فهو يحيا إلى ما شاء الله أن يحيا. (ومنها): ما روي عن الحسن البصري قال: وكل "إلياس" بالفيافي، ووكل "الخضر" بالبحور، وقد أعطيا الخلد في الدنيا إلى الصيحة الأولى، وإنهما يجتمعان في موسم كل عام. وانظر: بقية الروايات والحكايات الغريبة في " الزهر النضر في نبأ الخضر" ص 33 - 48. وقال الحافظ قي الفتح (6/ 434 - 435) وأخرج النقاش أخبارا كثيرة تدل على بقائه- الخضر- لا تقوم بشيء منها حجة". وقال الحافظ: والذي تميل إليه النفس، من حيث الأدلة القوية ما يعتقده "العوام" من استمرار حياته، لكن ربما عرضت شبهة من جهة كثرة الناقلين للأخبار الدالة على استمراره، فيقال: هب أن أسانيدها واهية، إذ كل طريق منها لا يسلم من سبب يقتضى تضعيفها، فماذا يصنع في المجموع؟ فإنه على هذه الصورة قد يلتحق بالتواتر المعنوي الذي مثلوا به بجود "حاتم " فمن هنا مع احتمال التأويل في أدلة القائلين بعدم بقائه. أ- كآية {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء: 34]. ب- وحديث ابن عمر وجابر وغيرهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في آخر حياته: " لا يبقى على وجه الأرض بعد مائة سنة ممن هو عليها اليوم أحد". قال ابن عمر: أراد بذلك انخرام قرنه. أخرجه البخاري رقم (601) ومسلم رقم (217). ج- وحديث ابن عباس "ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه " أخرجه البخاري ولم يأت في خبر صحيح أنه جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا قاتل معه وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدر: " اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض" فلو كان الخضر موجودا لم يصح

خرق السفينة إلى نفسه منفردا فقال: " فأردت" (¬1). وفي بيان قتل الغلام، إلى نفسه بصفة التعظيم والجماعة فقال: " فأردنا" (¬2). وفي بيان إقامة الجدار، إلى لفظ (رب) فقال: فأراد ربك" (¬3). هذا. والمطلوب من شيخ الإسلام، المتحف بالشريف السلام- سلمه الله- إفادة السائل بالجواب. فالمقصد الفائدة، وطلب الثواب، ومن الله التوفيق، ومنه الوصول إلى غاية التحقيق. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. ¬

(¬1) قال تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79]. (¬2) قال تعالى: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف: 81] (¬3) قال تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 82]

الحمد لله. الجواب اعلم أنه قد وجد في الخضر (عليه السلام) المقتضي للمجيء بنون العظمة، لما تفضل الله به عليه من العطايا (¬1) العظيمة، والمواهب الجسيمة التي من جملتها العلم الذي فضله الله به حتى أخبر موسى (عليه السلام) لما سأله: هل في الأرض أعلم منه؟. فقال: عبدنا خضر، كما هو ثابت في الصحيح (¬2). كان هذا وجها صبيحا، ومسوغا صحيحا للمجيء بنون العظمة تارة، وعدم المجيء بها أخرى. فقال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} (¬3). وقال: " فأردنا " ملاحظا في أحد الموضعين لما يستحقه من التعظيم، تحدثا بنعم الله - سبحانه- عليه. وفي الموضع الآخر قاصدا للتواضع، وأنه فرد من أفراد البشر، غير ناظر إلى تلك المزايا التي اختصه الله- سبحانه- بها، مع كون ذلك هو الصيغة التي هي الأصل في تكلم الفرد. ومع هذا. ففي تلوين العبارة نوع من الحسن أخر. وهو الافتنان في الكلام، فإنه أحسن تطرية لنشاط السامع، وأكثر إيقاظا كما قيل في نكتة الالتفات (¬4). ¬

(¬1) قال تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65] (¬2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (74، 78) من حديث ابن عباس وأبي بن كعب" .... بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل فقال: أتعلم أحدا أعلم منك؟ قال موسى، لا فأوحى الله عز وجل إلى موسى بلى، عبدنا خضر .. " (¬3) قال الحافظ في الفتح (8/ 422): وفيه حسن الأدب مع الله وأن لا يضاف إليه ما يستهجن لفظه وان كان الكل بتقديره وخلقه لقول الخضر عن السفينة {فأردت أن أعيبها} وعن الجدار {فأراد ربك} ومثل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "والخير بيدك، والشر ليس إليك" (¬4) الالتفات، وهو نقل الكلام من أسلوب إلى أخر، أعني من التكلم أو الخطاب أو الغيبة إلى آخر منها بعد التعبير بالأول، وهذا هو المشهور وقال السكاكي: إما ذلك أو التعبير بأحدهما فيما حقه التعبير بغيره. وله فوائد، منها: تطرية الكلام، وصيانة السمع عن الضجر والملل، لما جبلت عليه النفوس من حب التينقلات، والسآمة من الاستمرار على منوال واحد هذه فائدته العامة والاقتصاد والإيجاز في التعبير ويختص كل موضع بنكت ولطائف باختلاف محله. والالتفات من الأساليب البلاغية ذات اللطائف النفيسة ويلقب الالتفات بشجاعة العربية ... ومن أمثلته: أ- قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]. وهو حديث الله عز وجل عن نفسه بأسلوب الحديث عن الغائب. ب- وقوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:1 - 2) جاء الكلام أولا على طريقة التكلم، {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ}، ثم انتقل إلى أسلوب الحديث عن الغائب {فصك لربك} أولم يقل فصل لنا. ومن شروط الالتفات: 1/ يشترط قي الالتفات أن يكون الضمير المنتقل إليه عائدا في نفس الأمر إلى المتنقل عنه. 2/ شرطه أن يكون قي جملتين. وللالتفات صبور ست ذكرها "الميداني" في البلاغة العربية (1/ 484). وانظر: "معترك الأقران في إعجاز القران " (1/ 290 - 292)

ويمكن أن يقال: إن خرق السفينة، لما كان باعتبار تحصيل مسماه أمرا يسيرا، فإنه يحصل بنزع لوح من ألواحها، قال: {(فأردت أن أعيبها)}. ولما كان القتل مما تتعاظمه النفوس، ويدخل فاعله الروعة العظيمة، نزل منزلة مالا يقدر عليه إلا جماعة. ويمكن أيضًا وجه ثالث، وهو أن يقال: لما كان خرق السفينة مما يمكن تداركه، بأن يرد اللوح الذي نزعه كان ذلك وجها للإفراد، لأنه يسير بالنسبة إلا ما يمكن تداركه، وهو القتل. وأما قوله: ............................

{فَأَرَادَ رَبُّكَ} (¬1) فوجه نسبة الإرادة إلى الرب- سبحانه-، أن هذه الإرادة وقعت على قوله: {أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} ومعلوم أن ذلك لا يكون من فعل البشر، ولا بإرادته، لأن بقاءهما في الحياة حتى يبلغا الأشد لا يدخل تحت طاقة البشر، ولا تصح نسبته إلى غير الرب- عز وجل-. ولهذا يقول الخضر عليه السلام: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} (¬2). هذا ما خطر بالبال عند الوقوف على هذا السؤال. ولم أقف على كلام لأحد من أهل التفسير فيما يتعلق بذلك، ولا أمكن البحث لكتب التفسير. وفي هذه القصة شيء آخر، يحسن السؤال عنه، وهو أنه قال بعد خرق السفينة: ¬

(¬1) قال الرازي في تفسيره (21/ 162): قال: {فأردت أن أعيبها} وقال: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً} وقال: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} كيف اختلفت الإضافة في هذه الإرادات الثلاث وهي كلها في قصة واحدة وفعل واحد؟ والجواب: أنه لما ذكر العيب أضافه إلى إرادة نفسه فقال أردت أن أعيبها ولما ذكر القتل عبر عن نفسه بلفظ الجمع تنبيها على أنه من العظماء في علوم الحكمة فلم يقدم على هذا القتل إلا لحكمة عالية، ولما ذكر رعاية مصالح اليتيمين لأجل صلاح أبيهما أضافه إلى الله تعالى، لأن المتكفل. بمصالح الأبناء لرعاية حق الآباء ليس إلا الله سبحانه وتعالى. وقال الزمخشري: ولقد تأملت من فصاحة هذه الآي والمخالفة بينها في الأسلوب عجبا. ألا تراه في الأولى أسند الفعل إلى ضميره خاصة بقوله: {فأردت أن أعيبها}، وأسنده في الثانية إلى ضمير الجماعة والمعظم نفسه في قوله {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا}، {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا}، ولعل إسناد الأول إلى نفسه خاصة من باب الأدب مع الله تعالى، لأن المراد عيب، فتأدب ثم نسب الإعابة إلى نفسه، وأما إسناد الثاني إلى الضمير المذكور، فالظاهر أنه من باب قوله خواص الملك: أمرنا بكذا، أو دبرنا كذا، وإنما يعنون أمر الملك ودبر، ويدل على ذلك قوله في الثالثة: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} فانظر كيف تغايرت هذه الأساليب ولم تأت على نمط واحد مكرر يمجها السمع وينبو عنها، ثم انفجرت هذه المحالفة على رعاية الأسرار المذكورة، فسبحان اللطف الخبير. حاشية الكشاف (3/ 607) وانظر: "روح المعاني" للألوسى (15/ 16) (¬2) [الكهف: 82]

{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} (¬1). وقال بعد قتل الغلام: قال {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} (¬2) فزاد لفظ (لك) في الموضوع الآخر دون الموضوع الأول. ويجاب عنه. مما ذكرته في تفسيري (¬3) من أن سبب العتاب في الموضع الآخر، لما كان أظهر، وموجبه أقوى، كان ذلك وجها للزيادة. وقيل: زاد لفظ (لك) لقصد التأكيد كما تقول لمن توبخه: لك أقول، وإياك أعني. والله أعلم. انتهى لفظ الجواب من خط شيخ الإسلام، وبقية علماء الأنام، محمد بن علي الشوكاني- سلمه الله-[1ب] ¬

(¬1) [الكهف: 72]. قال الألوسى في "روح المعاني" (15/ 327): وهو متضمن للإنكار على عدم وقوع الصبر منه عليه السلام فأدركه عند ذلك الحلم (¬2) [الكهف: 75]. قال الألوسي في " روح المعاني" (16/ 2): زيادة (لك) لزيادة على رفض الوصية وقلة التثبت والصبر لما تكرر منه الاشمئزاز والاستنكار ولم يرعو بالتذكير حتى زاد في النكير في المرة الثانية. وقال الرازي في تفسيره (21/ 155): {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} وهذا عين ما ذكره في المسألة الأولى إلا أنه زاد ههنا لفظة (لك) لأن هذه اللفظة تؤكد التوبيخ فعند هذا قال موسى: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}، مع العلم بشدة حرص على مصا حبته وهذا كلام نادم شديد الندامة. (¬3) في فتح القدير (3/ 307)

بحث عن تفسير قوله تعالى: {ثم جعلناه نطفة}

بحث عن تفسير قوله تعالى: {ثم جعلناه نطفة} (¬1) تأليف العلامة محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب ¬

(¬1) فقدت مخطوطة الرسالة من المجلد الثالث بعد كتابتها والله أعلم

السؤال الحمد لله من أقعدته رئاسة العلم مقاعد الملوك، ووقرته الأكابر وأذعنت له إذعان المملوك، قنطرة الأحكام، شمس الإسلام، درة تاج الإفادة، ثمرة الإجادة المقتطفة بأكف أحلام أرباب السيادة، طارد الهوج (¬1)، مقيم العوج، من أمات شخص الضلال، فأخره الكاسر لواء من ناوى الحق وأنكره، سلطان أهل الاجتهاد، قائد أعلام معارف النقاد، خذن الأسفار والدفاتر، حافظ السند بظهر قلبه الذاكر، الحجة القائمة على العباد، والفائدة المطلوبة للرشاد، العلامة الأوحد الرباني محمد بن علي الشوكاني عصمه الله عن الزيغ والزلل، وأيقظه عن مخائل الخطأ والخطل، وطهر بتلاوة الكتاب لسانه، ونور بتلاوته جنانة، وحبب إليه معرفة فصله ووصله، وأطلعه على حقائق فضله. وإن الموجب لرفع أكف الأقلام إلى أعز مقام مذاكرة دارت بين بعض الأعلام أجاب فيها الوالد العلامة شرف الدين الحسن بن على حنش (¬2) - أدام الله فوائده- وذلك بعد النظر في كثير من كتب التفسير، كالكشاف (¬3)، ومفاتيح الغيب (¬4)، وغيرهما فلم ¬

(¬1) الهوج: الحمق هوج هوجا فهو أهوج، والأنثى هوجاء، والهوج مصدر الأهوج. وهو الأحمق. لسان العرب (15/ 155) (¬2) هو الوزير الحسن بن علي بن الحسن بن على بن عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح بن محمد بن صالح ابن محمد بن يحيى بن محمد بن أحمد بن يحيى بن أحمد بن حنش. ولد بشهارة في سنة 1153هـ ورحل من وطنه لطلب العلم إلى مدينة صنعاء فأخذ من أعيانها كالسيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير في الحديث، والقاضي العلامة أحمد بن محمد قاطن قرأ عليه في مغني اللبيب ورسالة الوضع للهروي ولما تولى المنصور بالله الخلافة ناط بالمترجم له أعمالا وصيره أحد وزرائه المقربين، وبالغ في تعظمه لكونه شيخه في العلم. توفي رحمه الله سنة 1225هـ بصنعاء وقبر. بمقبرتها. البدر الطالع رقم (130) ونيل الوطر (1/ 348 رقم 168) (¬3) (4/ 221) (¬4) (23/ 84 - 86)

يتعرضوا لتلك الفائدة، وهى في قول الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} (¬1). فالذي تحصل من كتب التفسير أن المراد بالإنسان آدم، وهو قول الأكثر من السلف والخلف، وجعلوا الضمير (¬2) في {جَعَلْنَاهُ} لمعنى أخر، وهو من وجد من ذريته. فعلى هذا يكون من باب الاستخدام وفيه التفضيل بخلق العالم الإنساني، وأنه مخلوق من الطين، كآدم وولده من النطفة ليس إلا، ولا يوجد لذلك قسم ثالث. ولكنه ورد علينا خلق عيسى- عليه السلام-، فإنه ليس من الطين، ولا هو من نطفة بل نفخه نفخها الملك حصل منها الولد. وفي الأحاديث (¬3) شيء واسع مما يدل على أن الأمر مفروغ منه، وأن ¬

(¬1) [المؤمنون: 12 - 13] (¬2) انظر " روح المعاني " للألوسى (18/ 13) (¬3) (منها) ما أخرجه البخاري رقم (3208) ومسلم رقم (2643) من حديث زيد بن وهب: قال عبد الله: حدثنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق. قال: " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه، وأجله وشقي أم سعيد ثم ينفخ فيه الروح .... ". . وأخرج البخاري في صحيحه رقم (3333) عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الله وكل في الرحم ملكا فيقول: يا رب نطفة يا رب علقة يا رب مضغة، فإذا أراد أن يخلقها قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ يا رب أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه ". (ومنها) ما أخرج مسلم في صحيحه رقم (2/ 2644) من حديث حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ? قال: " يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين ليلة. فيقول: يا رب أشقي أو سعيد .... ". وأخرج البخاري في صحيحه رقم (318) ومسلم رقم (5/ 2646) من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله عز وجل قد وكل بالرحم ملكا. فيقول أي ربي نطفة، أي ربي علقة. أي رب مضغة فإذا أراد الله أن يقضي خلقا قال: قال الملك: أي رب ذكر أو أنثى؟ شقي أو سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه". وأخرج أحمد في المسند (1/ 465). عن عبد الله بن مسعود قال: مر يهودي بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يحدث أصحابه قال: فقالت قريش: يا يهودي إن هذا يزعم أنه نبي قال: لا سألنه عن شيء لا يعلمه إلا نبي قال: فجاء حتى جلس ثم قال: يا محمد مم يخلق الإنسان "قال يا يهودي من كل يخلق، من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة فأما نطفة الرجل فنطفة غليظة منها العظم والعصب وأما نطفة المرأة فنطفة رقيقة مها اللحم والدم ... "

الولد لا يحصل إلا من نطفة الأب، والآيات فصلت خلق الإنسان من النطفة، والعلقة، والمضغة، وإن شأنه أربعون يوما نطفة، وأربعون مضغة، وأربعون علقة في سبعة أو ثمانية مواضع من كتاب (¬1) الله، وعيسى- صلوات الله عليه- لم يكن كذلك. وأجاب سيدي الوالد العلامة الشرفي- كثر الله فوائده- بقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} (¬2). ¬

(¬1) (منها): قال تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]. (ومنها) قوله تعالى: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى .... } [الحج: 5]. (ومنها): {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى .} (غافر: 67). وانظر: [فاطر: 11، يس: 17، النجم: 46، القيامة: 37، الإنسان: 2، عبس: 19] (¬2) [آل عمران: 59]. أخرج الطبري في "جامع البيان " (3 ج 3/ 295) عن ابن عباس قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، وذلك أن رهطا من أهل نجران، قدموا على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان فيهم السيد والعاقب، فقالوا لمحمد: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ فقال: من هو؟. قالوا: عيسى. تزعم أنه عبد الله، فقال محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجل إنه عبد الله، قالوا له: فهل رأيت مثل عيسى، أو أنبئت به؟ ثم حرجوا من عنده، فجاءه جبريل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمر ربنا السميع العليم، فقال: قل لهم إذا أتوك: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ}

وأهل التفسير (¬1) بنوا على الوقف عند قوله {كمثل آدم}، وقوله {خلقه من تراب} استئناف ولم يجوزا كونه صفة، لأنه نكرة والموصوف معرفة، ولا جوزوا كونه حالا، لأن الماضي لا يقع حالا إلا مع [قد] (¬2). هذا مفهوم كلامهم، فلذا جعلوه مستأنفا، فعلى كونه مستأنفا هل يصح أن نجعل تلك الجملة- أي خلقه من تراب- قيدا في المثل، ويكون مثل عيسى من تراب كما أن مثل ادم من تراب، والمثل (¬3) المراد به ¬

(¬1) كالرازي في تفسيره (8/ 74) قال: قوله تعالى: {خلقه من تراب}، ليس بصلة لآدم ولا صفة ولكنه حبر مستأنف على جهة التفسير بحال أدم. - روح المعاني "للألوسي" (3/ 186). وقال صاحب " الدر المصون " (3/ 218): {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى}: جملة مستأنفة لا تعلق لها. مما قبلها تعاقا صناعيا بل معنويا (¬2) قاله الرجاج في معاني القرآن (1/ 428) وانظر مناقشة هذا القول في " الدر المصون " (3/ 219). (¬3) والمثل عبارة عن قوله قي شيء يشبه قولا في شيء أخر بينهما مشابهة، ليبين أحدهما الأخر ويصوره نحو قولهم: الصيف ضيعت اللبن- مثل يضرب لمن يطلب شيئا قد فوته على نفسه- مجمع الأمثال (2/ 68) فإن هذا القول يشبه قوله: أهملت وقت الإمكان أمرك. وعلى هذا الوجه ما ضرب الله تعالى من الأمثال فقال- تعالى- {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21]، وفي [العنكبوت: 43] {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} والمثل يقال على وجهين: احدهما: بمعنى المثل: نحو: شبه، وشبه، ونقض نقض. قال بعضهم: وقد يعبر هما عن وصف الشيء نحو قوله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الرعد: 35]. الثاني: عبارة عن المشابهة لغيره في معنى من المعاني أي معنى كان، وهو أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة، وذلك أن الند يقال فيما يشارك في الجوهر فقط، والشبه يقال فيما يشاركه في الكمية فقط، والمساوي بقال فيما يشارك في القدر والمساحة فقط والمثل عام في جميع ذلك ". انظر: " الدر المصون " (1/ 156) " مفردات ألفاظ القرآن " للأصفهاني (ص 759)

الصفة كما في قوله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} (¬1) أي صفة الجنة وصفة عيسى، كما هو معنى كلام العلامة الشرفي كان الله له سيما مع ما ورد في أن كل شخص يموت ويقبر في التربة التي خلق منها أم لا؟ وجوابكم عمدة السائل- نفع الله بعلومكم- وهذا إلى معلومكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. ¬

(¬1) [محمد: 15]. سأل مقاتل صاحب التفسير أبا عمرو بن العلاء عن قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} ما مثلها؟ قال: فيها أنهار من ماء غير آسن. قال: ما مثلها؟ فسكت أبو عمرو. قال: فسألت يونس عنها فقال: مثلها: صفتها. تهذيب اللغة (15/ 95)

الجواب أقول- وبالله التوفيق-: قد اختلف أئمة التفسير في مرجع الضمير في قوله- عز وجل-: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} فقيل إنه راجع إلى الإنسان، وهو شامل لآدم ولذريته، وهذا على قول من قال: إن الإنسان المذكور في الآية هو آدم، وبه قال ابن عباس (¬1)، وعكرمة، وقتادة، ومقاتل. وقال الآخرون: الإنسان هاهنا هو ولد آدم، والطن هاهن أيضًا اسم لآدم، والسلالة (¬2) هي الأجزاء (¬3) اللطيفة المبثوثة في أعضائه، التي لما اجتمعت وحصلت في أوعية المني صارت منيا، وهذا التفسير مطابق لقوله تعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} (¬4)، وحينئذ فلا إشكال في مرجع الضمير، وهو لفظ الإنسان، وقيل (¬5) أن الإنسان إنما تتولد من النطفة، وهى إنما تتولد عن فضل الهضم الراتع، وذلك إنما تتولد من الأغذية، وهى: إما حيوانية، أو نباتية. والحيوانية تنتهي إلى النجاتية، والنبات إنما يتولد من صفو الأرض والماء؟ فالأنسان بالحقيقة يكون متولدا من سلالة من طين، ثم إن تلك السلالة بعد أن تواردن عليها أطوار الخلقة، وأطوار الفطرة صارت ميتا. قال الرازي (¬6): وهذا التأويل ¬

(¬1) ذكره الرازي في تفسيره (23/ 84). والقرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (12/ 109) (¬2) والسلالة: الخلاصة لأنها تسل من بين الكدر، فعالة وهو لناء يدل على القلة كالقلامة والقمامة- وهما الدور الأول من أدوار الخلق. قاله الرازي في تفسيره (23/ 84). وقال الكلبي: السلالة الطين إذا عصرته انسل من بين أصابعك فالذي يخرج هو السلالة. "الجامع لأحكام القرآن "القرطبي (12/ 109) (¬3) ذكره الرازي مما في تفسيره (23/ 84) (¬4) [السجدة: 7 - 8] (¬5) ذكره الرازي في تفسيره (23/ 84) (¬6) في تفسيره (23/ 84)

مطابق لا نحتاج فيه إلى التكليفات. وعلى هذا فالمراد بالإنسان (¬1) ولد آدم، ومرجع الضمير لفظ الإنسان، وليس في ذلك إشكال، إنما الإشكال على قول من قال: إن المراد بالإنسان ادم، فإنه إذا جعل المرجع لفظ الإنسان باعتبار شموله لآدم ولذريته كما قاله أهل القول الأول، فلا ريب أنه يكون في الكلام استخدام، لأنه قد أريد بلفظ الإنسان آدم وبضميره ما هو أعم منه، أو أريد بلفظ الإنسان ادم، وبضميره ذريته التي يصدق عليها لفظ الإنسان. والذي أوجب تفسير الإنسان بآدم كونه صرح سبحانه بأنه خلقه من طين، وهذا الوصف لا ينطبق إلا عليه، كما أن الخلق من نطفة لا تنطبق إلا على ذريته، وفي هذه الآية. وقد تخلص القائلون بأن المراد بالإنسان ذرية ادم عن التصريح بكونه مخلوقا من طين بأحد الوجهين الفذين قدمنا ذكرهما، فقائل يقول: إن لفظ الطين اسم لآدم، وقائل يقول بالوجه المذكور بعده. وعندي أنه لو قيل: المراد بالإنسان المذكور بالآية هو النوع (¬2) الشامل لآدم وغيره ولا شك أنه مخلوق من طين، أما ادم فظاهر، وأما ذريته فلأن المخلوق من المخلوق من الشيء مخلوق من ذلك الشيء، فكل إنسان مخلوق من الطين، لأن فيه جزءا من أبيه الأول المخلوق من الطين حقيقة، ويكون الضمير راجعا إلى الإنسان هذا المعنى، أي: ثم جعلنا هذا النوع نطفة، ولا شك أن هذه خاصة للنوع، ولا يلزم في خاصة النوع أن ¬

(¬1) انظر: "روح المعاني" للألوسي (18/ 13) (¬2) قال ابن جرير في "جامع البيان" (10/ ج 18/ 8) وأولى القولين بالصواب قول من قال: معناه: ولقد خلقنا ابن آدم من سلالة آدم وهي صفة مائه وادم هو الطين لأنه خلق منه. وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية، لدلالة قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ}، على أن ذلك كذلك، لأنه معلوم أنه لم يصر في قرار مكين، إلا بعد خلقه في صلب الفحل، ومر بعد نخوله من صلبه صار في قرار مكين، والعرب تسمى ولد الرجل ونطفته: سليله وسلالته، لأنهما مسلولان منه

توجد في كل فرد من أفراده، فلا يرد النقض بأن ادم له، يجعل نطفة، وهكذا لا يرد عيسى لذلك. هذا ما ظهر في تفسير مرجع الضمير باعتبار ما أراده السائل، على أن عيسى وإن كان من إحدى الجهتين لا تصدق عليه أنه مخلوق من تراب، ولا من نطفة، ولكنه من الجهة الأخرى وهى جهة الأم يصدق عليه أنه مخلوق من تراب، ومن نطفة، لأنه قد يكون في بطن أمه، وهي مخلوقة من تراب باعتبار أبيها ادم؛ إذ المخلوق من المخلوق من الشيء مخلوق من ذلك الشيء كما قدمنا، وكذلك مخلوقة من نطفة، والأمر ظاهر، وعيسى لما تكون فيما هو مخلوق من تراب، وفيما هو مخلوق من نطفة، صح أن يدخل تحت لفظ الإنسان المذكور في الآية ويتصف بصفاته المذكورة. إذا تقرر لك هذا علمت أن قوله في الآية الأخرى التي ذكرها السائل- كثر الله فوائده- خلقه من (¬1) تراب إن كان وصفا لآدم- عليه السلام- فالأمر ظاهر، وإن كان وصفا لعيسى- عليه السلام- فبالاعتبار الذي أسلفنا. قال الرازي (¬2): أجمع المفسرون على أن هذه الآية نزلت عند حضور وفد نجران على الرسول- عليه الصلاة والسلام- وكان مما أوردوه من شبههم أن قالوا: يا محمد، لما سلمت أنه لا أب له من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله تعالى، فقال: إن آدم ليس له أب ولا أم، ولم يلزم أن يكون ابنا لله، فكذا القول في عيسى. هذا حاصل الكلام. قال: وأيضا إذا جاز أن يخلق الله ادم (3) من التراب فلما لا يجوز ¬

(1):. (2):. (3): قال ابن تيمية في " الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح " (4/ 54 - 55). {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. أن هذا كلام حق، فإنه سبحانه خلق هذا النوع البشري على الأقسام الممكنة ليبين عموم (¬1) قوله تعالى: (خلقه من تراب) (¬2) في تفسيره (8/ 74) وقد تقدم تخريجه

أن يخلق عيسى من دم مريم، بل هذا أقرب إلى العقل، فإن تولد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم أقرب من تولدة من التراب اليابس .... انتهى واعلم أن الكلام على ما سأل عنه السائل- كثر الله فوائده- إذا رمنا استقصاء ما يتعلق به طال البحث فلنقتصر على هذا ..... انتهى. ¬

= قدرته، فخلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق زوجته من ذكر بلا أنثى كما قال تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1] وخلق المسيح من أنثى بلا ذكر، وخلق سائر الخلق من ذكر وأنثى، وكان خلق ادم وحواء أعجب من خلق المسيح فإن حواء خلقت من ضلع وهذا أعجب من خلق المسيح في بطن مريم وخلق آدم أعجب من هذا وهذا، وهو أصل حواء. فلهذا شبه الله بخلق آدم الذي هو أعجب من خلق المسيح فإذا كان سبحانه قادرا أن يخلقه من تراب والتراب ليس من جنس بدن الإنسان، أفلا يقدر أن يخلقه من امرأة هي من جنس بدن الإنسان؟ وهو سبحانه خلق آدم من تراب، ثم قال له كن فيكون، لما نفخ فيه من روحه، فكذلك المسيح نفخ فيه من روحه وقال له: كن فيكون ولم يكن آدم. مما نفخ من روحه لا هوتا وناسوتا بل كله ناسوت، فكذلك المسيح كله ناسوت والله سبحانه ذكر هذه الآية ضمن الآيات التي أنزلها في شأن النصارى لما قدم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصارى نجران وناظروه في المسيح. وأنزل سبحانه عقب هذه الآية: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 61 - 64].

الإيضاح لمعنى التوبة والإصلاح

الإيضاح لمعنى التوبة والإصلاح تأليف العلامة محمد بن علي الشوكاني حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه محفوظة بنت علي شرف الدين أم الحسن

وصف المخطوط 1 - عنوان الرسالة: (الإيضاح لمعنى التوبة والإصلاح). 2 - موضوع الرسالة: تفسير آيات من سورة النور. 3 - أول الرسالة.: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد النبيين، وعلى آله الأكرمين وصحبه الراشدين. وبعد: فإنه ورد هذا السؤال من الوالد العلامة المفضال لطف الله بن أحمد جحاف ... 4 - آخر الرسالة: وهو غير فاسق، وشهادته مقبولة. وفي هذا المقدار كفاية والله ولي التوفيق. حرره مؤلفه غفر الله له في نهار يوم السبت لعله حادي وعشرون شهر الحجة سنة 1224 هـ. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني. 7 - تاريخ النسخ: السبت/ 11/ الحجة سنة 1224هـ. 8 - عدد أوراق الرسالة: (8) ورقات+ صفحة العنوان. 9 - عدد الأسطر في الصفحة: (23 - 25) سطرا. 10 - عدد الكلمات في السطر: 9 - 11 كلمة. 11 - الرسالة من المجلد الرابع من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد النبيين، وعلى آله الأكرمين وصحبه الراشدين: وبعد: فإنه ورد هذا السؤال من الولد العلامة المفضال: لطف الله بن أحمد جحاف (1) - لا برح رافلا في حلل الألطاف-. وهذا نصه منظوما: يا بدر أشرق منورا ... وسما على كل الورى إني أتيتك سائلا ... لمهم أمر قد جرى في فتية شهدوا ... على زيد بفاحشة ترى قالوا زنى لكنهم ... دون النصاب وقد سرى فأين لسائلك الذي ... أضحى لفضلك مظهرا بم توبة النفر الذين ... رأوه يفعل منكرا؟ 11): ¬

(1) هو أحد تلاميذ الشوكاني الأوفياء، وقد ترجم له في " البدر الطالع" (2/ 60 - 71) فقال: " ولد في نصف شعبان سنة (1189هـ) وأخذ العلم عن جماعة من علماء العصر، منهم شيخنا العلامة السيد على بن إبراهيم بن عامر، والسيد العلامة على بن عبد الله الجلال، وشيخنا العلامة القاسم بن يحيى الخولاني، والسيد العلامة إبراهيم بن عبد القادر، وغير هؤلاء من أعيان العلماء ولازمني دهرا طويلا فقرا علي في النحو والصرف والمنطق والمعاني والبيان والأصول والحديث، وبرع في هذه المعارف كلها وصار من أعيان العصر وهو في سن الشباب، ودرس في فنون وصنف رسائل أفرد فيها مسائل ونظم الشعر الحسن، وغالبه في أعلى طبقات البلاغة، وباحث كثيرا من علماء العصر. بمباحث مفيدة يكتب فيها ما ظهر له، ثم يعرضها على مشايخه أو بعضهم. وقد كتب إلي من دلك الكثير بحيث لو جمع هو ما أكتبه إليه من الجوابات لكان مجلدا، ولعل غالب ذلك محفوظ لديه وعندي منه القليل. وهو قوي الإدراك جيد الفهم، حسن الحفظ، مليح العبارة، فصيح اللفظ، بليغ النظم والنثر. ويتقيد بالدليل الصحيح وإن خالفه من خالف .... وتوفي بصنعاء في سنة (1243هـ).

أيكذبون نفوسهم ... في الصدق أم ماذا ترى؟ فالكذب أخبث حلة ... والصدق أظهر مخبرا وأراه لا ينفك عن ... إصراره من أبصرا أقول: هذا السؤال الذي تضمنه هذا النظم المنسجم، في غاية الحسن، لكون الشهادة [للمحدودين] (¬1) بسبب عدم كمال نصاب شهادة الزنا، [و] (¬2) لم يتبين أفم كاذبون في الواقع. ولو كان الحد لكذب، بل لنقص نصاب الشهادة [1أ] وذلك لا يستلزم الكذب لا عقلا، ولا شرعا، ولا عادة. إذا عرفت هذا، فاعلم أن تقرير الكلام على وجه يرتفع به الإشكال، وينتفع به ناظم السؤال، يتوقف على تحقيق مرجع هذا الاستثناء، بعد تحقيق ما اشتمل عليه المستثني منه في الجملة فأقول: اعلم أن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬3). قد اشتمل على ثلاثة أحكام متعلقة بالقاذف: (الأول): جلده. (الثاني): رد شهادته. (الثالث): فسقه. فالاستثناء المتعقب لما تضمن هذه الثلاثة الأحكام، [وهو] (¬4) قوله تعالى: & إِلَّا? ¬

(¬1) في المخطوط (المحدودين) والصواب ما أثبتناه (¬2) زيادة يستلزمها السياق (¬3) [النور: 4] (¬4) في المخطوط (وهي) والصواب ما أثبتناه

الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {(¬1). قد اختلف أهل العلم في مرجعه، ماذا هو؟ هل هو جميع ما دل على تلك الثلاثة الأحكام من تلك الآية، أم بعضها؟. فذهب جع جم، إلى أنه راجع إلى (¬2) جميعها. وقرروا ذلك. مما يطول، ولا يتسع المقام لبسطه، وقد جعل هذه الآية مثالا للاستثناء الواقع بعد جمل متعددة، جماعة من المصنفين في أصول الفقه (¬3). ¬

(¬1) [النور: 5] (¬2) وهو قول الأئمة الثلاثة [أحمد، الشافعي، مالك] وأكثر أصحابهم. انظر: المحصول للرازي (3/ 43) والكوكب المنير (3/ 313) (¬3) قال صاحب الآيات البينات (3/ 54): قوله: أما قوله تعالى:} وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ {أقول: هذا الصنيع صريح في أن قوله تعالى:} وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا {[النور: 4] معطوف على جملة [فاجلدوهم]، عند الشافعي كغيره ففيه رد على من زعم أن الشافعي جعل جملة "ولا تقبلوا"، منقطعة عن جملة "فاجلدوهم" مع أن كونها معطوفة عليها أظهر من أن كفى. ومنشأ هذا الزعم أن الشافعي قبل شهادة المحدود في القذف بعد التوبة وحكم عليه بعدم الفسق ولم يسقط عنه الجلد فلزم من ذلك شهادة المحدود في القذف بعد التوبة وحكم عليه بعدم الفسق ولم يسقط عنه الجلد فلزم من ذلك تعلق الاستثناء بالأخيرتين وقطع "لا تقبلوا" عن "اجلدوا" إذ لو كان عطفا عليه لسقط الجلد عن التائب على ما هو الأصل عنده من صرف الاستثناء إلى الكل. قال في التلويح: وفيه بحث إذ لا نزاع لأحد في أن قوله أو لا تقبلوا، عطف على "فاجلدوا" إلا أن الشافعي لم يجعله من تمام الحد بناء على أنه لا يناسب الحد لأن الحد فعل يلزم على الإمام إقامته لا حرمة فعل، ولم يسقط الجلد بالتوبة لأنه حق العبد ولهذا أسقطه بعفو المقذوف، وصرف الاستثناء إلى الكل عنده ليس بقطع بل هو ظاهر يعدل عنه عند قيام الدليل وظهور المانع مع أن المستثني هو (الذين تابوا وأصلحوا) ومن جملة الإصلاح الاستحلال وطلب عفو المقذوف، وعند وقوع ذلك يسقط الجلد أيضًا فيصح صرف الاستثناء إلى الكل. قال الزركشي في البحر المحيط (3/ 312 - 318): " واعلم أن القول بعوده إلى الجميع عندنا شروط: 1) أن تكون الجمل متعاطفة. فإن لم تكن عطف، فلا يعود إلى الجميع قطعا بل يختص بالأخيرة إذ لا ارتباط بين الجملتين ومن صرح إذا الشرط القاضي أبو بكر في التقريب، وابن السمعاني والآمدي. 2) أن يكون العطف بالواو. فإن كان بثم اختص بالجملة الأخيرة ذكره إمام الحرمين. 3) أن لا يتخلل بين الجملتين كلام طويل فإن تخلل اختص بالأخيرة. حكاه الرافعي عن إمام الحرمين. 4) أن تكون الجمل منقطعة بأن تنبئ كل واحدة عما لا تنبئ عنه أخواتها. 5) أن يكون بين الجمل تناسب. 6) أن يمكن عوده إلى كل واحدة على انفرادها فإن تعذر عاد ما أمكن أو اختص بالأخيرة. 7) أن يكون المعمول واحدا كقوله تعالى:} وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ &، فإن كان العامل واحدا والمعمول متعددا فلا خلاف في عوده إلى جميع. 8) أن يتحد العامل، فان اختلف خص الأخيرة. 9) أن يكون في الجمل. فإن كان في المفردات عاد للجميع اتفاقا. 10) أن يكون الاستثناء متأخرا على ظاهر عباراتهم بالتعقيب، لكن الصواب أن ذلك ليس بشرط والخلاف جار في الجميع كما صرح به الرافعي في كتاب (الإيمان). انظر تفصيل ذلك. البحر المحيط (3/ 315 - 318) 0 الكوكب المنير (3/ 318)

ولكنه يرد على هؤلاء القائلين بأنه راجع إلى جميع الجمل، أن توبة القاذف لا تسقط عنه حد القذف بالإجماع. فلو كان الاستثناء راجعا إلى جميع الجمل لزم سقوط الحد بوجود التوبة، واللازم باطل، فالملزوم مثله. أما الملازمة فظاهرة، وأما بطلان اللازم فبالإجماع إلا ما يروى عن الشجي، وهو مدفوع بالنصوص، وبإجماع أهل العلم. ومن القائلين برجوع الاستثناء الواقع بعد جمل إلى جميعها من غير نظر [1ب] إلى خصوص هذه الآية، مالك، والشافعي، وأصحابهما، وجمهور أهل الأصول وغيرهم (¬1). ¬

= ومن القائلين برجوعه إلى الجملة الأخيرة، أبو حنيفة (¬2). وقد توقف بعض أهل العلم في ذلك (¬3). ووجه التوقف، أنه قد ورد في كتاب الله تعالى مع رجوع الاستثناء إلى جميع الجمل، كما في قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ} (¬4) الآية. فإن الاستثناء المتعقب لها، راجع إلى (¬5) الجميع باتفاق العلماء. وآية قتل المؤمن (¬6) خطأ، الاستثناء فيها راجع إلى الأخيرة (¬7) باتفاق العلماء. فهذا وجه التوقف في آية القذف، وسبب اضطراب المذاهب فيها. وقد عرفت اتفاقهم على عدم رجوع الاستثناء فيها إلى الجلد، ولا اعتبار. بمخالفة (¬1) انظر: المحصول (3/ 43) البحر المحيط (3/ 315) والكوكب المنير (3/ 313) الآيات البينات (3/ 54) (¬2) قال صاحب الكوكب المنير (3/ 313): وعند أبي حنيفة وأصحابه والرازي والمجد يرجع- الاستثناء- إلى الجملة الأخيرة. انظر: تيسير التحرير (1/ 302, 305)، نهاية السول (2/ 128) (¬3) وهو قول الأشعرية منهم الباقلاني والغزالي لتعارض الأدلة. انظر: المسودة ص 156، البرهان (1/ 359) (¬4) وتمام الآية: { ...... وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 33 - 34]. (¬5) وهو قول الشافعي كما قاله الماوردي والرويانى أنه يعود إلى جميعها .. البحر المحيط (3/ 307)، الكوكب المنير (3/ 319) (¬6) [النساء: 92] (¬7) قال القفال: وكذا قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [السماء: 92] فالاستثناء يرجع إلى الأخيرة، لأن الدية حق آدم فيسقط بالعفو، والرقبة حق الله. فلا يسقط بالعفو من الآدمي وكذا قال: الماوردي وغيره. البحر المحيط (3/ 316)

الشعبي. واختلفوا في رجوعه إلى الحكم الثاني، وهو رد الشهادة المدلول عليه بقوله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} (¬1). فقال شريح القاضي، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، ومكحول، وعبد الرحمن بن زيد بن جابر، وسفيان الثوري، وأبو حنيفة: لا يرجع إليه، وجزموا بأنها لا تقبل شهادة القاذف أبدا (¬2) وإن تاب، ولا زال عنه اسم الفسق ¬

(¬1) [النور:4] (¬2) وجادة: وهي وجادة صحيحة من أصح الوجادات وهي حجه. وقد أخرج البيهقى في "المعرفة" من طريق أخرى، كما في "نصب الراية" (4/ 82). وقال الألباني في الإرواء (8/ 242) عن هذه الطريق بأنها معضلة. والخلاصة: أن الحديث صحيح. وقد صححه الألباني في الإرواء رقم (2619)

بالتوبة. وذهب جمهور أهل العلم إلى أن الاستثناء يرجع إلى قوله: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} (¬1). كما يرجع إلى قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬2). ومن القائلين بعدم رجوع هذا الاستثناء إلى قوله: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} ابن عباس. أخرج عنه أبو داود في ناسخه (¬3)، وابن المنذر (¬4)، أنه قال: في قوله:} وَالَّذِينَ [2أ] يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ {الآية. ثم استثنى فقال:} إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا. فتاب الله عليهم من الفسوق. أما الشهادة فلا تجوز. وأخرج ابن مردويه (¬5) عنه من وجه أخر نحوه. وأخرج ابن جرير (¬6)، وابن المنذر (¬7)، والبيهقى في سننه (¬8)، عنه ما يخالف هذا. وهو أنه قال في تفسير هذه الآية: " فمن تاب وأصلح فشهادته في كتاب الله تقبل ". ¬

(¬1) [النور: 4] (¬2) [النور: 4] (¬3) ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/ 131) (¬4) ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/ 131) (¬5) ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/ 131) (¬6) في "جامع البيان" (10/ج18/ 80) (¬7) ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/ 131) (¬8) ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/ 131)

إذا عرفت هذا، فاعلم أنه قد اختلف أهل العلم في كيفية التوبة التي يرتفع عنه بها الفسق عند الجميع، وتقبل بها شهادته عند الجمهور لا عند غيرهم كما سبق. وهذا هو محل السؤال، ومكان الإشكال. فذهب جماعه إلى أن توبته، لا تكون إلا بإكذابه لنفسه تصريحا، ولا يكون تائبا. بمجرد الندم على ما فرط منه، والعزائم على عدم المعاودة لما اقترفه ومن القائلين هذا عمر ابن الخطاب. فأخرج ابن مردويه (¬1) عنه، أنه قال في تفسيره الآية: " توبتهم إكذابهم أنفسهم، فإن أكذبوا أنفسهم، قبلت شهادتهم ". وأخرج عبد بن حميد (¬2) عنه، أنه قال لأبي بكرة في قصة المغيرة المشهورة: "إن تكذب نفسك نجز شهادتك فأبى أن يكذب نفسه، ولم يكن عمر يجيز شهادته ". والقصة مشهورة مروية في السير (¬3)، وفي كتب الحديث (¬4)، ووافقه على ذلك عطاء. فأخرج عبد الرزاق (¬5)، وعبد بن حميد (¬6) عنه أنه قال: " إذا تاب القاذف وأكذب نفسه قبلت شهادته ". وبه قال الزهري، وطاووس، ومسروق، والشجي، روى عنهم عبد بن حميد (¬7) أنهم قالوا: توبته أن يكذب نفسه. ¬

(¬1) ذكره السيوطى في الدر المنثور (6/ 131) (¬2) ذكره السيوطى في الدر المنثور (6/ 131) (¬3) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (3/ 27) (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (5/ 255) معلقا. في الشهادات. باب شهادة القاذف والسارق والزاني: " وجلد عمر أبا بكرة وشبل بن معبد ونافعا بقذف المغيرة، ثم استتابهم، وقال: من تاب قبلت شهادته" ووصله الشافعي كما في ترتيب المسند (2/ 181 رقم 642) والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 152) (¬5) في المصنف (7/ 383 رقم 13561) (¬6) ذكره السيوطى في "الدر المنثور" (6/ 131) (¬7) انظر: فتح الباري (5/ 255 - 257) "المصنف" (7/ 383 - 388) و (8/ 361 - 364) والسنن الكبرى للبيهقي (10/ 152 - 153)

وقد حكى هذا النحاس عن أهل المدينة، وبه قال الشافعي، فإنه صرح في كتبه (¬1) "باب توبة القاذف هي إكذابه نفسه " قال الإصطخري (¬2): وهو أن يقول: كذبت ولا أعود [2ب] إلى ذلك. وقالت طائفة أخرى من أهل العلم: إن توبة القاذف، هي أن يصلح ويحسن حاله، ويندم، ويستغفر، ويعزم على أن لا يعود، ولا يشترط أن يكذب نفسه، لأنه شهد عن علم ويقين وإنما لم يكمل نصاب الشهادة، وهو الحق (3). ومن القائلين هذا ابن سيرين، ¬

(1):. (2):. (3): قال النووي في "رياض الصالحين" (37 - 38) - تحقيق الألباني: قال العلماء: التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي فلها ثلاثة شروط: أحدها: أن يقلع عن المعصية. الثاني: أن يندم على فعلها. الثالث: أن يعزم أن لا يعود إليها أبدا. فإن فقد أحد الثلاثة لم تصح توبته، وإن كانت المعصية تتعلق بآدم فشروطها أربعة: هذه الثلاثة. وأن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالا أو نحوه رده إليه وإن كان حد قذف ونحو مكنه منه أو طلب عفوه. وإن كان غيبة استحله منها إذا لم يترتب على الاستحلال نفسه مفسدة أخرى- ويجب أن يتوب من جميع الذنوب فإن تاب من بعضها صحت توبته عند أهل الحق من ذلك الذنب، وبقي عليه الباقي وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة. 1 هـ. (¬1) كالأم (7/ 94 - 95) وبدائع المنن في جمع وترتيب مسند الشافعي والسنن لأحمد عبد الرحمن البنا (2/ 147 - 148) (¬2) هو أبو سعيد الحسن بن أحمد ابن يزيد الإصطخري الشافع، فقيه العراق ورفيق ابن سريج. قال أبو إسحاق المروزي: لما دخلت بغداد لم يكن بها يستحق أن يدرس عليه إلا ابن سريج، وأبو سعيد الإصطخري، وقال الخطيب: ولي قضاء قمر- مدينة قرب أصبهان- وولي حسبة بغداد، فأحرق مكان الملاهي. مات الاصطخري في جمادى الآخرة سنة ثمان وعشرين وثلاث مئة، وله نيف وثمانون سنة. انظر: تاريخ بغداد (7/ 268 - 270) وشذرات الذهب (2/ 312)

حكى عنه عبد بن حميد (¬1) أنه قال: " توبته فيما بينه وبين الله تعالى ". وبه قال سعيد بن جبير، حكاه عنه سعيد (¬2) بن منصور، وعبد بن حميد (¬3)، وابن المنذر (¬4)، وبه قال ابن سريج، حكاه عنه عبد الرزاق (¬5) وعبد بن حميد (¬6)، وابن المنذر (¬7). وبه قال إبراهيم النخعي، حكاه عنه عبد الرزاق (¬8)، وعبد بن حميد (¬9)، وابن المنذر (¬10)، وابن أبي حاتم (¬11). وبه قال مالك، حكاه عنه القرطبي (¬12)، قال: وهو قول ابن جرير (¬13). فإن قلت: أي القولين أقرب إلى الصواب، وأولى بالقبول، وأحق بالترجيح؟ قلت: القول الثاني لوجوه: الأول: أن الله- سبحانه-، لم يذكر في كتابه العزيز، إلا مجرد التوبة، وهي في اللغة: الرجوع من الذنب. قال في الصحاح (¬14): " التوبة: الرجوع من الذنب". وفي الحديث: (الندم توبة) (¬15). وكذلك التوب مثله. وقال الأخفش: التوب: جمع توبة مثل: عومة وعوم، وتاب إلى الله توبة، ومتابا. وقد تاب الله عليه: وفقه الله ". انتهى ¬

(¬1) ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/ 132) (¬2) ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/ 132) (¬3) ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/ 132) (¬4) ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/ 132) (¬5) ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/ 132) (¬6) ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/ 132) (¬7) ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/ 132) (¬8) في المصنف (7/ 387 رقم 13573) (¬9) ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/ 132) (¬10) ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/ 132) (¬11) في تفسيره (8/ 2532 رقم 14177) (¬12) في "الجامع لأحكام القرآن" (12/ 179) (¬13) في "جامع البيان" (10 /ج 18/ 81) (¬14) (1/ 91 - 92) (¬15) أخرجه ابن ماجه رقم (4252) والحاكم (4/ 243)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 154) وأحمد (1/ 376, 433) والحميدي في مسنده (1/ 58 رقم 105) والبغوي في "شرح السنة " (5/ 91 رقم 1307) كلهم من حديث عبد الله بن مسعود. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (2/ 347 رقم 1521): "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات ..... "1هـ وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وصححه الألباني.

كلام الصحاح. وفيه أن مجرد الرجوع عن الذنب توبة، والمراد برجوعه عنه: اعترافه بأنه قد ظلم نفسه، وجلب عليها الإثم بسبب خروجه عن دائرة الحلال إلى دائرة الحرام، فإذا رجع من دائرة الحرام إلى دائرة الحلال نادما على فعله، عازما على أن لا يعود إليه، فذلك هو الرجوع. وانظر كيف ذكر صاحب الصحاح (¬1) عقب قوله: التوبة: الرجوع من الذنب، ما هو كالتصريح. بمعنى الرجوع، وكالدليل عليه حيث قال: وفي الحديث: (الندم توبة) (¬2). وقال في القاموس (¬3): " تاب إلى الله توبا وتوبة ومتابا، وتابة، وتتوبة [3أ] رجع عن المعصية. وهو تائب، وتواب، وتاب الله عليه، وفقه للتوبة، أو رجع به من التشديد إلى التخفيف، أو رجع عليه بفضله وقبوله، وهو تواب على عباده " انتهى. والكلام فيه كالكلام الذي قدمنا بعد كلام الصحاح. (الوجه الثالث): أن التوبة (¬4) في لسان أهل الشرع واصطلاحهم؟ هي أن يجمع المذنب بين ندمه على الذنب، وعزمه على أن لا يعود. فمن جمع بين الأمرين، فهو تائب. ومن تاب، تاب الله عليه، والقاذف إذا ندم على قذفه، وعزم على أن لا يعود إلى شيء من ذلك، فهو تائب، ومن أوجب عليه أن يكذب نفسه، فقد أخذ في حد التوبة قيدا لم يعتبره الله في كتابه، ولا رسوله في سنته، ولا أهل اللغة العربية في لغتهم، ولا أهل الشرع في اصطلاحهم. ¬

(¬1) (1/ 91) (¬2) مسبق تخريجه (¬3) (ص 79). (¬4) انظر مدارج السالكين لابن القيم (1/ 208 - 215)

(الوجه الثالث): أن الأمة قد أجمعت على أن التوبة تمحو الكفر. فإذا تاب الكافر تاب الله عليه، وأجمعت على أن ذنب القذف دون ذنب الكفر. بمسافات لا تحصى. فيستفاد من هذين الإجماعين، أن ما يصدق عليه مسمى التوبة في حق القاذف يكون توبة مقبولة، سقط عنه ها إثم القذف. فاعتبار قيد زائد على مسمى التوبة في القذف، [وهو] (¬1) دون الشرك مخالف لقواعد الشريعة، ولما عليه أهل الإسلام. وليس القاذف بأشد جرما، ولا أكبر ذنبا من الكافر بالإجماع. (الوجه الرابع): أن [الشهداء] (¬2) الذين جلدوا بسبب كونهم دون النصاب، لم يكن جلدهم لكونهم كاذبين قي الواقع، بل لكونهم أقدموا على ما يخالف الشرع، وهو شهادتهم [3ب] وهم دون النصاب، ولم يبح الله لهم ذلك، ولا أجازه، فاستحقوا الجلد ورد الضهادة، وإطلاق اسم الفسق عليهم. فالتوبة: هي اعترافهم بأنهم خالفوا الشرع في هذا الإقدام على الشهادة، وسارعوا إلى هتك عرض المسلم المشهود عليه بدون حقه، واستعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة، وندمهم على ما فرط منهم، وعزمهم على أن لا يعودوا إلى ذلك، فإيجاب تكذيبهم أنفسهم هو أمر أخر غير ما تابوا عنه. (الوجه الخامس): أن ما أخبروا به هو عند سامعه في حيز الاحتمال لم يرد دليل صحيح من عقل، ولا نقل بأنه كذب، وجلدهم الذي أقيم عليهم، إنما هو رجوع إلى ظاهر الشرع، لا كونهم كاذبين، فإن هذا لم يتعبدنا الله به، فإلزامهم بأن يخبروا عن أنفسهم أنهم كاذبون، وجعل ذلك شرطا في توبتهم، لا تقبل بدونه، هو غير ما يعتقده من جمع الشهادة؟ لأنها عنده في حيز الاحتمال، وغير ما يعتقده الشاهد، لأنه عند نفسه على بصيرة لولا أنه وقع في الخطأ، بسبب إقدامه عليها مع عدم كمال النصاب. ¬

(¬1) زيادة يستلزمها السياق (¬2) في المخطوط: الشهادة والصواب ما أثبتناه

ومع كونه غير ما يعتقده سامع الشهادة، وغير ما يعتقده الشاهد، هو أيضًا خلاف ما في الكتاب والسنة ولغة العرب. (الوجه السادس) [4أ]: أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-، وهو في اشتراطه لهذا الشرط في توبة الشهود، مخالف لما كان يتكلم به عند أن يلقى المغيرة بن شعبة وينظر إليه، فإنه كان يقول في غير مرة: "ما ذكرت قصتك إلا خشيت أن ارجم بحجارة من السماء". فهذا منه دليل، وأصعب دليل على أنه لم يقطع بكذب أولئك الثلاثة الذين شهدوا عليه، بل كان الأمر في نفسه محتملا، إن لم يكن عنده احتمال صدقهم أولى، كما يفيده هذا، ولكنه- رضي الله عنه- رجع إلى ظاهر الشرع، وهو الواجب عليه، وعلى كل مسلم، وهو المتقرر، في هذه الشريعة الغراء. وأما خشيته بأن يرجم بحجارة من السماء، فليس ذلك لكونه خطأ في الحكم الواقع منه بجلد الشهود الثلاثة، فإنه لم يخطئ بلا خلاف. ولكنه كان يقول هذه المقالة إن صحت عنه تقريعا للمغيرة وتوبيخا. وربما كان سبب قوله لها: إن المغيرة كان مشهورا. بمقارفته هذه المعصية، ولهذا كان يقال له: الأعور الزناء. ومن كان هذه المنزلة من الشهرة. بمقارفته لهذه المعصية، فهو غير عفيف. ولا جلد على القاذف بغير العفيف في الظاهر. فكان عمر- رضي الله عنه - يذكر هذا تندما، وتأسفا، حيث لم يدرأ [4ب] عن الشهود الذين شهدوا عليه حد القذف ثم هذه الشبهة، وفي الأمر سعة. فيمكن [أن يقال] (¬1): إنه لم يبلغه ما يقال: من عدم عفة المغيرة إلا من بعد الجلد، ويمكن أنه لم يقطع بتلك الشهرة، ولا سيما والذين اشتهرت بينهم هذه المقالة هم أهل ولاية المغيرة، ومن كان كذلك فقد يفتري على أميره الكذب، ويقول الباطل. وعلى كل حال فالأمر في حين الاحتمال، فقد أصاب عمر- أصاب الله ¬

(¬1) زيادة يستلزمها السياق.

به- في إقامة الحد على الشهود، ولكنه لم يصب عندي، هو ولا من تابعه من أهل العلم في اشتراطهم في صحة التوبة إكذاب الشاهد لنفسه. (الوجه السابع): أن لا خلاف بين أهل العلم أن من شتم مسلما بأي نوع من أنواع الشتم الذي ليس بقذف: فإن توبته من ذلك لا يشترط فيها إكذابه لنفسه. بل يكفر في ذلك الندم، والعزم على عدم المعاودة، ومن زاد على هذا، قال: وطلب العفو من المشتوم. ومن المعلوم أنه يشتمل الجميع جنس الشتم، فلا وجه لتخصيص بعضه بقيد في صحة التوبة منه دون الآخر. (الوجه الثامن): أخرج عبد الرزاق (¬1) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله- صلى الله عليه واله وسلم-: " قضى الله [5أ] ورسوله أن لا تقبل شهادة ثلاثة، ولا اثنين، ولا واحد على الزنا. ويجلدون ثمانين ثمانين، ولا تقبل لهم شهادة أبدا، حتى يتبين للمسلمين منهم توبة نصوح وإصلاح". فلم يعتبر النبي- صلى الله عليه واله وسلم- في هذه التوبة زيادة على ما يصدق عليه هذا المفهوم من إكذاب الشاهد لنفسه، بل هي توبة كسائر التوبات من الذنوب. (الوجه التاسع): أن الكذب ذنب من الذنوب، وكبيرة من الكبائر (¬2)، وقد ¬

(¬1) في "المصنف" (7/ 387 رقم 13571) (¬2) قال تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات:10]. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر:28]. وقال تعالى: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} آل عمران: 61. للحديث الذي أخرجه البخاري رقم (33) ومسلم رقم (59) عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان". وللحديث الذي أخرجه البخاري رقم (6094) ومسلم رقم (102/ 2606) عن عبد الله بن مسعود قال: إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة. وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقا. وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حيت يكتب عند الله كذابا

اتفقت الشرائع على هذا، ولم تختص به الشريعة الإسلامية وحدها، وإذا كان الكذب ذنبا يوجب العقوبة، فكيف يشترط في توبة الشاهد الذي شهد. مما رأته عينه، ووقع عليه بصره إذ يكذب نفسه فيدخل في ذنب. بمجرد طلبه للخروج من ذنب، والتوبة عنه؟. وهل يحل إلزامه الدخول في ذنب متفق عليه، ومعصية لا خلاف فيها!؟ وهل هذا إلا رأي بعيد عن الصواب، واجتهاد ناء عن الحق!؟. فإن قلت: قد تبين. مما ذكرته ما هو الحق في كيفية هذه التوبة من القذف، وأنه لا يشترط فيها، ما اشترطه عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- ولا ما اشترطه من تبعه من السلف ومن بعدهم حسبما تقدم تقريره، وبقي أمران: (أحدهما): التصريح. مما هو الراجح لديك في المذاهب السابقة في رجوع الاستثناء [5ب] إلى جميع تلك الجمل المذكورة في الآية، أو إلى بعضها. (والثاني): أن الله ضم إلى ما ذكره من اشتراط التوبة الإصلاح، فما هو؟ قلت: أما ما أذهب إليه في الاستثناء في هذه الآية وغيرها، فهو رجوعه إلى جميع الجمل السابقة التي لم يتعقب بعضها قبل ورود الاستثناء، أو نحوه من القيود ما يدل على تخصيصه. مما يخالف القيد الآخر. أو يخصص الدليل بعض القيود دون بعض، كما وقع في آية القذف، فإن الاستثناء لا يرجع إلى الجلد، بل يجلد القاذف بعد طلب المقذوف، ومرافعته له إلى الإمام أو الحاكم، وإن تاب. ووجه عدم رجوعه إليها، الدليل في غير قضية من الحدود، فإن المحدودين كانوا يأتون إلى النبي- صلى الله عليه واله وسلم- تائبين عن الذنب الذي قارفوه، في يقيم عليهم الحد حتى قال في المرأة التي رجمها: " لقد تابت توبة، لو تابها صاحب .... ...

مكس (¬1) لغفر الله له" (¬2). وانضم إلى هذا الدليل إجماع المسلمين قرنا بعد قرن، وعصرا بعد عصر أن التوبة لا تسقط الحد، ولم يرو عن أحد ما يخالف ذلك، إلا ما قدمناه عن الشعبي، وهو مع مخالفته للإجماع مخالف للدليل. وهكذا القول في آية القتل (¬3) خطأ، وتخصيص القيد ببعض الجمل المذكورة [6أ] فيها، هو بدليل دل على ذلك. وأما آية (¬4) المحارب، فلما لم يوجد ما يدل على تخصيص بعض جملها بقيد يخالف ¬

(¬1) المكس: هو الجباية. وعلب استعماله فيما يأخذه أعوان الظلمة عند البيع والشراء. قال الشاعر: وفي كل أسواق العراق إتاوة ... وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم والمكاس: صاحب المكس. وهو داخل في قوله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الشورى: 42. والمكاس فيه شبه من قاطع الطريق، وهو شر من اللص، فإن من عسف الناس وجدد عليهم ضرائب، فهو أظلم وأغشم ممن أنصف في مكسه ورفق برعيته، وجابي المكس وكاتبه. وأخذه من جندي وصحيح وصاحب زاوية شركاء في الوزر، أكالون للسحت. انظر: "الكبائر" للذهبي (ص 149 - 151) الكبيرة السابعة والعشرون. (¬2) أخرجه مسلم رقم (23/ 1695) وأبو داود رقم (4442) من حديث بريدة في حديث- المرأة الغامدية التي زنت وهو حديث صحيح (¬3) [النساء: 92] {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا}. تقدم التعليق على ذلك. (¬4) [المائدة: 33 - 34] {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}

الاستثناء، رجع الاستثناء (¬1) إلى الجميع، وهذا يعرف ضعف مذهب من قال بالوقف لاختلاف هذه الآيات في رجوع الاستثناء إلى البعض تارة، وإلى الكل أخرى، فإن ذلك لم يكن لأمر يوجب الوقف بل لدليل دل على التخصيص. ومحل النزاع هو حيث لم يدل الدليل على تخصيص بعض الجمل بحكم دون غيره، وكان العطف بالواو، وكان التعاطف بين جمل لا يين مفردات. وقد ذهب إلى الوقف (¬2) القاضي أبو بكر الباقلاني (¬3)، والغزالي (¬4)، وجماعة من المتأخرين، ورجحه غير واحد من المتكلمين في الأصول، وأوردوا من الأدلة على ذلك ما هو خارج عن محل النزاع، غير موجب للتوقف. وقد ذهب القاضي عبد الجبار (¬5)، وأبو الحسين البصري (¬6) إلى أنه إن ظهر الإضراب عن الجمل الأولى، فهو للأخيرة، وإلا كان للجميع. وهذا أيضًا مذهب ساقط، فإن محل النزاع، وموطن الخلاف، هو حيث لم يرد ما يدل على ما يخالف رجوع القيد إلى الجميع، وهاهنا، الإضراب عن الجمل الأولى هو دليل تعين الأخيرة للقيد المذكور بعدها. وبالجملة، فكل الحجج التي احتج بها من قال: إنه يعود الاستثناء إلى الأخيرة أو إلى البعض تارة، وإلى الكل أخرى، هي حجج خارجة عن محل النزاع، لا ترد على من قال بأنه يرجع إلى الجميع كما هو مذهب الجمهور، وهو الحق الذي لا شك فيه، ولا ¬

(¬1) انظر البحر المحيط (3/ 307) وقد تقدم (¬2) انظر الكوكب المنير (3/ 314). المسودة (ص156)، التبصرة (ص 173). وقد تقدم ذكر ذلك في أول الرسالة (¬3) ذكره الآمدي في "الإحكام" (2/ 323) (¬4) في المنخول (ص 161) (¬5) ذكره الآمدي في "الإحكام" (2/ 323) (¬6) في المعتمد (1/ 265)

شبهة، والمقام [6ب] يحتاج إلى بسط طويل إذا أردنا إيراد كل حجة، وتعقبناها. مما يدفعها، ففي هذا الأحمال ما يغني عن التفصيل، وفي هذا الاختصار، ما يكفي عن التطويل. وأما الجواب عن الأمر الثاني، وهو معنى الإصلاح الذي ضمه الله- سبحانه- إلى التوبة، فقد قال جماعة من أصحاب الشافعي وغيرهم: إنه لابد من مضي مدة بعد التوبة، يتبين فيها صدق توبته، وحسن رجوعه. مما يعلمه من الأعمال الصالحة، التي تطابق العدالة، وتوافق التقوى، وقدروا هذه المدة بسنة، لاشتمالها على الفصول الأربعة، التي تؤثر في اختلاف الطبائع كما قالوا في العنين (¬1)، إنه يؤجل سنة لمده العفة. ولا يخفى أن هذا التأجيل والتقدير بالمدة رأي محض، لم يدل عليه دليل. وقيل المراد بالإصلاح إصلاح التوبة نفسها، بأن يصدرها على وجه حسن غير مشوب بشائبة تخالف الصواب، وهذا مدفوع بعطف الإصلاح على التوبة، فإن ذلك مشعر بأنه مغاير إلا، وأيضا يكون ذكر الإصلاح غير مفيد لفائدة مقبولة، لأن مسمى التوبة. لا يكون إلا بعد كونها صالحة صادرة عن وجه خالص عن الشوائب المخالفة للصواب. وإذا كان معنى التوبة لا يتم إلا إذا، فتفسير الإصلاح. مما هو داخل في معنى التوبة، وتمام مفهوميتها، وصدق اسمها، تفسير خال عن الفائدة، وتكرار عاطل [7أ] عن ا لجدوى. فالحق أن الإصلاح المدلول عليه بقوله تعالى: {وأصلحوا}: هو صدور ما يسمى إصلاحا من أعمال في الصادرة عن التائبين، لأنه يتبين بذلك أن توبته صادرة عن عزم ¬

(¬1) العنين: العاجز عن الجماع لمرض شرعا: من لا يقدر على جماع فرج زوجته لمانع منه، ككبر سن أو سحر. ا لقاموس المقهى (ص263)

صحيح، وندم قد تطابق عليه الظاهر والباطن. وفائدته، أن هذا التائب، لو أظهر بلسانه (¬1) العزم على عدم المعاودة للقذف. والندم على ما فرط منه، وأفعاله تدل على ما يخالف ذلك، كأن يتوب من قذفه لشخص، واشتغل بالقذف لآخر، أو يقارف أعمالا لا يقارفها من يتوب ويخاف العقوبة، فإن هذا، وإن كان قد جاء. مما يطلق عليه اسم التوبة، ويتسم به مفهومها، باعتبار عبارات لسانه، لكن قد تبين لنا. مما يعقبها من الأعمال التي هي من الإفساد، لا من الإصلاح، أنه كاذب فيها. فإن قلت: إذا ظهر لنا عند صدور التوبة (¬2) منه ما يدل على الإصلاح من الأعمال والأقوال، ثم أعرض عن ذلك، وعافى إلى الأعمال التي هي مجانبة للصلاح؟ قلت: قد فعل ما شرطه الله- سبحانه- من التوبة والإصلاح، فذهب عنه اسم الفسق، وزال المانع من قبول الشهادة [7ب] وهذه الأعمال التي عملها من بعد، وهي مخالفة للصلاح، يلزمه حكمها. فإن كانت موجبة للفسق، ومانعة من قبول الشهادة، كان هذا سببا من أسباب الفسق آخر، ومانعا من الموانع لقبول الشهادة غير المانع الأول. وإن كان غير موجبة لذلك، ولكنها من جملة ما يصدق عليه اسم المعصية فهو عاص بها، وهو غير فاسق، وشهادته مقبولة. وفي هذا المقدار كفاية، والله ولي التوفيق. حرره مؤلفه- غفر الله له- في نهار يوم السبت لعله حادي وعشرون شهر الحجة سنة 1224. ¬

(¬1) انظر تفصيل ذلك في مدارج السالكين (1/ 405 - 407) (¬2) انظر مدارج السالكين لابن القيم (1/ 330 وما بعدها)

جواب سؤال عن نكتة التكرار في قوله تعالى: {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين}

جواب سؤال عن نكتة التكرار في قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} تأليف العلامة محمد بن علي لشوكاني حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه محفوظة بنت علي شرف الدين أم الحسن

بسم الله الرحمن الرحيم أحمدك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وإلى رسولك.- قلتم أدام الله فوائدكم- في سؤالكم النفيس ما لفظه: أشكل ما ذكره الزمخشري (¬1) في تفسير قوله- عز وجل-: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} (¬2). قال الزمخشري (¬3): فإن قلت كيف عطف (أمرت) على (أمرت)، وهما واحد؟ قلت: ¬

(¬1) في تفسيره (3/ 341) (¬2) [الزمر: 11 - 12] (¬3) في الكشاف (5/ 295 - 296): قال {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ} بإخلاص الدين {وأُمِرْتُ}، بذلك (لـ) أجل {لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ}، أي في مقدمهم وسابقهم في الدنيا والآخرة، والمعنى: أن الإخلاص له السبقة في الدين، فمن أخلص كان سابقا، فإن قلت: كيف عطف (أمرت! على {وأُمِرْتُ} وهما واحد؟ قلت: ليسا بواحد لأختلاف جهتيهما، وذلك أن الأمر بالإخلاص وتكليفه لشيء، والأمر به ليحرز القائم به قصب السبق في الدين شيء، وإذا اختلف وجها الشيء وصفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين، ولك أن تجعل اللام مثلها في أردت لأن أفعل، ولا تزاد إلا مع أن خاصة دون الاسم الصريح، كأنها زيدت عوضا من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه، كما عوض السين في اسطاع عوضا من ترك الأصل الذي هو أطوع، والدليل على هدا الوجه مجيئه بغير لام في قوله {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} يونس: 72، {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 104]، {أمرت أن أكون أول من سلم} [الأنعام: 14]. وفي معناه أوجه: أن أكون أول من أسلم في زماني ومن قومي، لأنه أول من خالف دين آبائه وخلع الأصنام وحطمها، وأن أكون أول الذين دعوتهم إلى الإسلام إسلاما وأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره، لأكون مقتدى بي في قولي وفعلي جميعا، ولا تكون صفتي صفة الملوك الذين يأمرون. مما لا يفعلون، وأن أفعل ما أستحق به الأولية من أعمال السابقين دلالة على السبب بالمسبب يعني: أن الله أمرني أن أخلص له الدين من الشرك والرياء وكل شوب، بدليلي العقل والوحي فإن عصيت ربى. بمخالفة الدليلين، استوجبت عذابه فلا أعصيه ولا أتابع أمركم، وذلك حين دعوه إلى دين آبائه. فإن قلت: ما معنى التكرير في قوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} وقوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي}. قلت: ليس بتكرير لأن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله لإحداث العبادة والإخلاص. والثاني: إخبار بأنه يختص الله وحده دون غيره بعمادته مخلصا له وفيه، ولدلالته على ذلك قدم المعبود على فعل العبادة وأخره في الأول فالكلام أولا واقع في الفعل وإيجاده، ثانيا فيمن يفعل الفعل لأجله ولذلك رتب عليه قوله: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ}

ليس بواحد، لاختلاف جهتيهما إلى آخر ما ذ كره. وقد استشكل السعد هذا الجواب، ولم يسلم مخالفة جهة أحدهما للأخر، ووجه السعد ذلك بتوجيه لم يظهر كلية الظهور فقال: إن معنى الأول الإخبار بأني أمرت، وليس معنى الثاني الإخبار، إنما هو لغرض الإحراز، وهنا التوجيه مشكل أشد إشكالا من الأول، لأن معناه في الأول الإخبار لهم، وهو صريح اللفظ، ثم قال في الثاني: ليس معناه الإخبار بذلك، بل الإخبار أن أمره بالإخلاص لإحراز السبق. وقد صرح الزمخشري (¬1) أن معنى الأخر وأمرت بذلك لأجل أن أكون أول المسلمين. ثم قال الزمخشري (1) فيما بعد ذلك أن نجعل اللام مزيدة ولا تزاد (¬2) إلا مع أن خاصة إلى آخر ما ذكره فأفاد هذا أن الأمر واحد. وقد استشكل الزمخشري العطف أولا فبقي ¬

(¬1) في الكشاف (3/ 341). وانظر التعليقة السابقة. (¬2) وهذا فيه نظر، من حيث إنها تزاد لتقوية عامل ضعف: إما لتأخره ومثاله: {هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} أو بكونه فرعا في العمل نحو قوله تعالى: {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} وقوله تعالى: {فعال لما يريد}. وقد اجتمع التأخر والفرعية قي قوله تعالى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} وانظر " مغني اللبيب" لابن هشام (1/ 216 - 218)، "الدر المصون" (9/ 418)

الإشكال في هذا الوجه على حاله، لأن مراده: قل إني أمرت أن أعبد الله ... إلخ ، وأمرت أن أكون أول المسلمين، فأعاده المعطوف الأخر تكرارا، وحق المقام: قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأن أكون أول المسلمين، على أن اللام مزيدة. وقول الزمخشري (¬1) أن اللام لا تزاد إلا مع أن خاصة فيقال: قد جاء في قوله- عز وجل- {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} (¬2)، وجعلت اللام مزيدة بدون أن في هذا، هذا لفظ السؤال. وأقول: تقرير سؤال الزمخشري- رحمه الله- أن الفعلين وهما أمرت أمرت متحدان مادة وهيئة ومعنى، فكيف عطف أحدهما على الآخر مع أن متعلق الثاني هو متعلق الأول، لأنه لم يذكر بعده إلا العفة، فتعففه مقدر، وهو معمول الأول كما سيأتي تحقيقه. وتقرير الجواب منه- رحمه الله- أن الأول مطلق، والثاني مقيد، والمقيد غير المطلق من حيث إنه مقيد، والأول لمحض الإخبار ليس إلا، والثاني للأخبار بالأمر بالإخلاص. ولاشك أن المأمور به غير المأمور له، والأول يفيد الأول، والثاني يفيد الثاني. ولا شك أن هذا من اختلاف الجهة المسوغ للعطف. والسعد وإن ذكر أن اختلاف الجهة مشكل فقد أجاب عنه. مما يزيد ذلك. وقد تبع الزمخشري أئمة التفسير في ذلك، فقال أبو السعود (¬3): والعطف لمغايرة الثاني الأول بتقييده بالعلة، والإشعار بأن العبارة المذكورة كما يقتضي الأمر بها لذاتها تقتضيه لما يلزمها من السبق في الدين، ¬

(¬1) انظر النص الكامل لكلامه فقد تقدم آنفا. (¬2) قال ابن هشام قي "مغني اللبيب" (2/ 216): واختلف في اللام من نحو: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} و {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} فقيل: زائدة، وقيل: للتعليل، ثم اختلف هؤلاء، فقيل: المفعول محذوف أي يريد الله التبين ليبين لكم ويهديكم: أي ليجمع لكم بين الأمرين، وأمرنا. مما أمرنا له لنسلم. وقال الخليل وسيبويه ومن تابعهما: الفعل في ذلك كليما مقدر. بمصدر مرفوع بالابتداء، واللام وما بعدها خبر، أي إرادة الله للتبيين، وامرنا للإسلام، وعلى هذا بلا مفعول للفعل. (¬3) في تفسيره (5/ 590) بتحقيق: محمد صبحي بن حسن حلاق.

انتهى، وقال النيسابوري (¬1): وأمرت لأن أكون ليس بتكرار، لأن اللام للعفة، والمأمور به محذوف يدل عليه ما قبله، والمعنى أمرت بإخلاص الدين، وأمرت بذلك لأجل أن أكون أول المسلمين الخ. وقال البيضاوي (¬2): والعطف لمغايرة الثاني الأول بتقييده بالعلة الخ. وقال البقاعي (¬3) بعد أن ذكر المعنى، وأطال: فجهة هذا الفعل غير جهة الأول، فلذلك عطف عليه، لأنه لإحراز قصب السبق. والأول لمطلق الإخلاص في العبادة، انتهى. إذا تقرر هذا فاعلم أن استشكال العطف إنما هو مع عدم الحكم بزيادة اللام، لأن الأمر الثاني لم يذكر بعده إلا العلة، ولا لد من معلل، وليس إلا الجملة المذكورة بعد الفعل الأول، وهو قوله تعالى: {أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (¬4) فيكون الكلام على جعل اللام للعلة في قوة أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين، لأن أكون أول المسلمين. ولا شك أنه اتحد ههنا الفعلان وما بعدهما، وهما (أن أعبد) الملفوظ به في الأول، والمقدر في الثاني، فكان الجواب الذي انحل به الإشكال هو ربط الثاني بالعلة المقتضي لاختلاف الجهة، وأما مع القول بزيادة اللام فلا إشكال أصلا، لأن معمول الثاني غير معمول الأول للقطع بأن معمول الأول هو انه يعبد الله مخلصا، ومعمول الثاني هو أنه يكون أول المسلمين. وما أحسن ما قاله ابن الخازن (¬5)! ولفظه: وقيل أمره أولا بالإخلاص، وهو من عمل القلب، ثم أمره ثانيا بعمل الجوارح إلى آخر كلامه، وهو متين. فالعطف صحيح ليس فيه إشكال، ولكن السائل- كثر الله فوائده- لعله ظن أن الإشكال في مجرد العطف! لأمرت على أمرت سواء اتحد متعلقهما أو اختلفا. ومنشأ? ¬

(¬1) في تفسيره " غرائب القرآن ورغائب الفرقان" (23/ 120) (¬2) في تفسيره " أنوار التينزيل وأسرار التأويل " (5/ 25) (¬3) في تفسيره " نظم الدرر تناسب الآيات والسور" (16/ 474) (¬4) [الزمر: 11] (¬5) في تفسير "لباب التأويل في معاني التينزيل" (4/ 70)

ذلك الظن قول الزمخشري (¬1)، فإن قلت: كيف عطف أمرت على أمرت، وهما واحد!، انتهى. وليس مراد الزمخشري ما ظنه السائل- أطال الله بقاه- بل مراده ما أسلفنا، إنما اختصر الكلام كما هو عادته، وإلا فبتقدير السؤال الذي أراده الزمخشري وغيره هو أن يقال: كيف عطف الفعل الآخر على الفعل الأول، مع أن معمولهما وهو المأمور به واحد: وهو أن أعبد الله مخلصا له الدين لما أسلفناه مع أن تعقيب الثاني بلام العفة يدل على أن المأمور به مقدر، وهو ما دل عليه المأمور به بعد الأمر الأول، فهو نظير كسوت زيدا حلة، وكسوته إكراما له، فلا يشك من نظر في هذا التركيب أن تقدير الكلام كسوت زيدا حلة وكسوت زيدا حلة إكراما. ولا شك أن الفعلين ومعمولهما في هذا التركيب متحدان، فإذا قال القائل: اتحد المعطوف والمعطوف عليه كان الجواب أنهما اختلفا جهة، لأن الأول مطلق، والثاني مقيد، بخلاف ما إذا قيل: كسوت زيدا خفة، وكصوت عمرا جبة؟ فهذا لا يقول قائل أنه مشكل أبدا، لأن عطف الفعل على الفعل مع اختلاف (¬2) معموليهما مما لا تنكر كثرته في لغة العرب. فإذا جعلت اللام في الآية زائدة، وكان معمول أمرت الأول غير معمول أمرت الثاني فقد جعلت اللام في الآية زائدة، وكان معمول أمرت الأول غير معمول أمرت الثاني فلا يحتاج مع ذلك إلى تجشم الجواب، باختلاف الجهة، لأنه قد وقع الاختلاف في متعلق الفعلين كما يقال: ضربت زيدا وضربت عمرا إكراما، فإذا قال قائل: ما المسوغ لعطف ضربت على ضربت؟ قلنا: اختلاف المعمولين بخلاف ما إذا قال ضربت زيدا وضربت إكراما " فالمسوغ اختلاف الجهتين بالإطلاق والتقييد، والمقام غير محتاج إلى التطويل بمثل هذا، ولكن لما كان منشأ الإشكال هو ذلك كما فهمته من كلام السائل حسن التطويل، وإن كان مثل السائل في قوة إدراكه وجودة عرفانه لا يحتاج إلى البعض من ذلك، إنما لعله ¬

(¬1) انظر: نص كلام الزمخشري وقد تقدم في بداية الرسالة. (¬2) انظر: الأصول في النحو لابن السراج (2/ 78)

يقف على هذا الجواب من يحتاج إلى بعض إسهاب، ولا سيما مع إيراد الزمخشري للسؤال على تلك الصفة، فإنه لا يفهم منه كل ناظر فيه في بادئ الرأي إلا ما فهمه السائل- عفى الله عني وعنه-. وأما ما أورده في آخر البحث عن كلام الزمخشري في قوله: إن اللام لا تزاد إلا مع أن خاصة، فالجواب أن جواز زيادة اللام لا يختص بأن المذكورة لفظا، بل هو أعم من اللفظ، والتقدير وقد صرح هذا غير واحد من أئمة (¬1) الإعراب، بل صرح أهل حواشي الكشاف في هذا الموضع بخصوصه بذلك، قال السراج في حاشيته: أي لفظا أو تقديرا ولهذا قوبل بقوله: دون الاسم الصريح (¬2) الخ. ¬

(¬1) انظر " الدر المصون " (9/ 418) وقد تقدم التعليق عليه آنفا. (¬2) قال الألوسي في "روح المعاني" (23/ 250): ولا تزاد إلا مع أن لفظا أو تقديرا دون الاسم الصريح وذلك لأن الأصل في المفعول به أن يكون اسما صريحا فكأنها زيدت عوضا من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه كما يعوض السين في أسطاع عوضا من ترك الأصل الذي هو أطوع وهذه الزيادة وإن كانت شاذة قياسا إلا أنها لما كثرت استعمالا جاز استعمالها في القرآن والكلام الفصيح. ومثل هذا يقال في زيادتها مع فعل الإرادة نحو أردت لأن أفعل وجعل الزمخشري وجه زيادها معه أنها لما كان فيها معنى الإرادة زيدت تأكيدا لها وجعل وجها في زيادتها مع فعل الأمر أيضًا لاسيما والطلب والإرادة عندهم من باب واحد وفي المعنى أوجه أن أكون أول من أسلم في زماني ومن قومي أي إسلاما على وفق الأمر، وأن أكون أول الذين دعوتهم إلى الإسلام إسلاما، وأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره لأكون مقتدى بي في قولي وفعلي جميعا ولا تكون صفتي صفة الملوك الذين يأمرون. مما لا يفعلون، وأن أفعل ما استحق به الأولية والشرف من أعمال السابقين دلالة على السبب وهى الأعمال التي يستحق بها الشرف بالمسبب وهو الأولية والشرف المذكور في النظم الجليل ذكر ذلك الزمخشري. وفي الكشف المختار من الأوجه الأربعة الوجه الثاني فإنه المكرر الشائع في القرآن الكريم وفيه سائر المعاني الأخر من موافقة القول الفعل ولزوم أولية الشرف من أولية التأسيس مع أنه ليس فيه أنه أمر بأن يكون أشرف وأسبق. فائدة: قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} قال: مقاتل: إن كفار قريش قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتما به؟ ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وسادات قومك يعبدون اللات والعزى فأنزل الله قل يا محمد إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين، وأقول إن التكليف نوعان: أحدهما الأمر بالاحتراز والتاني: الأمر بتحصيل ما ينبغي، والمرتبة الأولى مقدمة على المرتبة الثانية بحسب الرتبة الواجبة اللازمة، إذا شيء هذا فنقول إنه تعالى قدم الأمر بإزالة مالا ينبغي فقال: {اتَّقُوا رَبَّكُمُ} لأن التقوى هي الاحتراز عما لا ينبغي ثم ذكر عقيبه الأمر بتحصيل ما ينبغي فقال: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} وهذا يشتمل على قيدين: أحدهما: الأمر بعبادة الله. الثاني: كون تلك العبادة خالصة عن شوائب الشرك الجلي وشوائب الشرك الخفي وإنما خص الله تعالى الرسول إذا الأمر لينبه على أن غيره بذلك أحق فهو كالترغيب للغير قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} لا شبهة في أن المراد إني أول من تمسك بالعبادات التي أرسلت بها وفي هذه الآية فائدتان: الفائدة الأولى: كأنه يقول إني لست من الملوك الجبابرة الذين يأمرون الناس بأشياء وهم لا يفعلون ذلك، بل كل ما أمرتكم به فأنا أول الناس شروعا فيه وأكترهم مداومة عليه. الفائدة الثانية: أنه قال: {إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ} والعبادة لها كنان عمل القلب وعمل الجوارح، وعمل القلب أشرف من عمل الجوارح فقدم ذكر الجزء الأشرف وهو قوله: {مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} ثم ذكر عقيبه الأدون وهو عمل الجوارح وهو الإسلام، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسر الإسلام في خبر جبريل بالأعمال الظاهرة، وهو المراد بقوله ي هذه الآية: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} وليس لقائل أن يقول ما الفائدة في تكرير لفظ (أمرت) لأنا نقول ذكر لفظ (أمرت) أولا في عمل القلب وثانيا في عمل الجوارح ولا يكون هذا تكريرا. انظر: "التفسير الكبير" للرازي (25/ 354 - 355)، "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (15/ 242)

وقال السعد في حاشيته: أما الحكم فهو أن اللام إنما تزاد في متعلق الأمر والإرادة إذا كان أن مع (¬1) الفعل ظاهرة نحو: أمرت لأن أقوم وأردت لأن أقوم، ومضمرة مثل: أمرت لا سلم، يريدون ليطفئوا نور الله الخ. ومنه ما ذكره السائل يريد الله ليبين لكم. ووجه اختصاص زيادة اللام بفعل الإرادة والأمر مذكور في كتب الفن، انتهى قال ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة.

المجيب. حرر بعد مضي النصف من ليلة التلوث ثاني العقدة الحرام سنة 1210هـ قلت: وكان نقل الأم لهذا عن خطه بقلم الوالد العلامة القاضي عبد الله عبد الكريم الجرافي -رحمة الله- صبح يوم الجمعة 15 رجب سنة 1352هـ. رحمهم الله جميعا

النشر لفوائد سورة العصر

النشر لفوائد سورة العصر تأليف العلامة محمد بن علي الشوكاني حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه محفوظة بنت علي شرف الدين أم الحسن

وصف المخطوط 1 - عنوان الرسالة: (النشر لفوائد سورة العصر). 2 - موضوع الرسالة: تفسير. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا لا أحصى ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى وعلى آله ورضي الله عن صحبه والتابعين لهم بإحسان. وبعد: فلما كانت سورة العصر ... 4 - آخر الرسالة: وفي. هذا المقدار كفاية لمن له هداية. وحسبنا الله ونعم الوكيل. فرغ منه مؤلفه محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما في نهار السبت لعله سادس عشر شهر شوال سنة (1237هـ). 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - الناسخ: المؤلف رحمه الله. محمد بن علي الشوكاني. 7 - تاريخ النسخ: السبت / شوال/ 1237 هـ. 8 - عدد الأوراق: صفحة العنوان+ 14.5 ورقة. 9 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 - 30 سطرا. 10 - عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة. 11 - الرسالة من المجلد الخامس من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا لا أحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى، وعلى آله ورضي الله عن صحبه والتابعين لهم بإحسان. وبعد: فلما كانت سورة العصر على اختصارها، فإذا ليست إلا ثلاث آيات، ولم يكن في القرآن ما يشابهها من السور في الاختصار إلا سورة الكوثر، وسورة النصر، وكانت مشتملة على فوائد جليلة يستفيد ها المبتدئ والمنتهي، ويحتاج إليها المقصر والكامل، أفردتها هذا التفسير المختصر، ليستفيد المطلع عليه ما اشتمل عليه مما تمس الحاجة إليه وحميته: النشر لفوائد سورة العصر. ومن الله استمد الإعانة، وحسن الإثابة. تفسير سورة العصر هي ثلاث آيات، وقد وقع الخلاف هل هي مكية أو مدنية؟ فذهب الجمهور إلى أنها مكية (¬1)، وخالفهم قتادة (¬2) فقال: هي مدنية، والقول الأول أرجح لما أخرجه ابن مردويه (¬3) عن ابن عباس أنه قال: نزلت سورة العصر. بمكة، وأيضا المقام مرجعه الرواية لا الرأي، فنقل الأكثرين مرجح على انفراده على تقدير أن المخالف عدد دون عددهم، ¬

(¬1) وهذا ما رجحه جماعة من المفسرين منهم: - ابن كثير قي تفسيره (8/ 479). - السيوطي في "الدر المنثور" (6/ 391 - 392). - الزمخشري في الكشاف (4/ 232) (¬2) قال الألوسي تفسيره (30/ 227): " سورة العصر مكية في قول ابن عباس وابن الزبير والجمهور، ومدنية في قول مجاهد وقتادة ومقاتل وأيها ثلاث بلا خلاف) وانظر: زاد المسير (9/ 224). (¬3) عزاه إليه السيوطي في " الدر المنثور" (6/ 391 - 392)

فكيف وهو فرد! وهم الكل. وأيضا الغالب في هذه السور المختصرة كالسور التي هي قبل هذه السورة، والتي هي بعدها أنها مكية، والحمل على الغالب مرجح مستقل كما تقرر في الأصول. وقد كان لهذه السورة شأن عظيم عند السلف- رضي الله عنهم- فأخرج الطبراني في الأوسط (¬1)، والبيهقي في الشعب (¬2) عن أبي مدينة الدارمي (¬3)، وكانت ما له صحبة قال: كان الرجلان من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر ثم يسلم أحدهما على الآخر قلت: ولعل الحامل لهم على ذلك ما اشتملت عليه من الموعظة الحسنة من التواصي بالحق والتواصي بالصبر [1أ] بعد الحكم على هذا النوع الإنساني حكما مؤكدا بأنه في خسر، فإن ذلك مما ترجف له القلوب، وتقشعر عنده الجلود، وتقف لديه الشعور، وكأن كل واحد من المتلاقين يقول لصاحبه: أنا وأنت وسائر أبناء جنسنا وأهل جلدتنا خاسر لا محالة إلا أن يتخلص عن هذه الرزية، وينجو بنفسه عن هذه البلية بالإيمان والعمل الصالح، والتواصي بالحق وبالصبر، فيحمله الخوف الممزوج بالرجاء على فتح أسباب النجاء، وقرع أبواب الالتجاء، فإن قلت: كيف وقع منهم تخصيص هذه السورة هذه المزية دون غيرها من السور المختصرة؟ قلت: وجه ذلك ما قدمنا من اشتمالها على ما اشتملت عليه ترهيبا وترغيبا، وتحذيرا وتبصيرا، وإنذارا وإعذارا، بخلاف غيرها من السور، فإنك تجدها غير مشتملة على ما اشتملت عليه هذه. انظر إلى السورة التي قبلها (¬4) فإنها خاصة بالتهديد والتشديد على .... .... .... .... .... .... .... ..... ¬

(¬1) (5/ 215 رقم 5124) وأورده الهيثمي في المجمع (10/ 233) وقال: "رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح. (¬2) رقم (9057) كلاهما عن أبي مدينة الدارمي. وهو حديث صحيح. (¬3) وهو عبد الله بن مضر. انظر: تجريد أسماء الصحابة (2/ 200 رقم 2312) (¬4) سورة التكاثر

من ألهاهم (¬1) التكاثر، وانظر إلى السورة التي بعدها فإنها مختصة بالوعيد العظيم، والترهيب الأليم للهمزة (¬2) اللمزة، وهكذا سائر هذه الصور المختصرة مع قيام كل واحدة في بابها مقاما يعجز عنه البشر، غير أنها لم تكن كهذه السورة في ذلك الحكم العام بذلك الأمر الشديد المشتمل على أبلغ تهديد، مع أكمل توكيد، ثم تعليق النجاة منه بذلك الأمر الذي هو لب اللباب، وغاية طلبات أولي الألباب. وبالجملة فهو حكم بالهلاك على كل فرد من أفراد النوع إلا إذا لاحظه التوفيق بسلوك تلك الطريق، وسلم من آفات التعويق. وسيأتيك- إن شاء الله- من البيان لهذا الشأن ما هو أعظم برهان. فإن قلت: هل يحسن منا عند الالتقاء الإقتداء بذلك السلف الصالح؟ قلت نعم وإن لم يدل عليه دليل يخصه من المرفوع، لكن قد ورد في عمومات الكتاب والسنة ما يدل على أنه ينبغي لكل فرد من المسلمين أن يدعو أخاه إلى أسباب الهداية، ويزجره عن ذرائع الغواية، ويعظه ¬

(¬1) والمراد بالتكاثر ثلاثة أقوال: 1/ التكاثر بالأموال والأولاد. قاله الحسن. 2/ التفاخر بالقبائل والعشائر. قاله قتادة. 3/ التشاغل بالمعاش والتجارة، قاله الضحاك. وانظر تفسير السورة في زاد المسير لابن الجوزي (9/ 220 - 222). وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (8/ 476) (¬2) قال ابن كثير في تفسيره (8/ 481): الهماز: بالقول، واللماز بالفعل يعني يزدري الناس وينتقص هم. قال ابن عباس " همزة لمزة: طعان معياب. قال الربيع بن أنس: الهمزة يهمزه في وجهه واللمزة من خلفه. وقال قتادة: يهمزه ويلمزه بلسانه وعينه، ويأكل لحوم الناس، ويطعن عليهم.1 هـ. . قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يدخل الجنة قتات". أخرجه البخاري رقم (6506) ومسلم رقم (105) من حديث حذيفة. وعن ابن عباس قال: مر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقبرين فقال: " إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة." أخرجه البخاري رقم (218) ومسلم رقم (292)

مواعظ الله- سبحانه-، فإن ذلك من النصحية التي يقول رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فيها: " الدين (¬1) النصيحة" وقد تواترت الأدلة المرشدة إلى المناصحة (¬2)، وأيضا ذلك يندرج تحت عمادي هذا الدين اللذين تبنى عليهما قناطره، وترجع إليهما أوائله وأواخره، وهما الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. إذا وجدنا [1ب] لذلك موضعا، ورأينا له قبولا. ولا أقول أنه يتعين على الأمر الناهي تلاوة هذه السورة، بل أقول أنها من أتم ما يحصل به هذا الغرض، ويتأذى عنده هذا المطلب، وأنت تعلم أن الله - سبحانه- إنما أنزل هذه السورة على عباده ليعملوا بها، ويقوموا. مما اشتملت عليه من ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (55) وأبو داود رقم (4944) والنسائي (7/ 156) والترمذي رقم (2007) من حديث تميم بن أوس الداري رضي الله عنه، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " الدين النصيحة " قلنا: لمن؟ قال: "لله، ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم " وهو حديث صحيح. (¬2) قال تعال عن نوح: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ} الأعراف: 62. وعن هود: {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} الأعراف: 68. وأخرج البخاري في صحيحة رقم (7204) ومسلم رقم (99/ 56) من حديث جرير قال بايعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على السمع والطاعة فلقنني (فيما استطعت والنصح لكل مسلم). النصيحة: كلمة جامعة، معناها حيازة الحظ للمنصوح له. قال: ويقال: هو من وجيز الأسماء، ومختصر الكلام، وليس في كلام العرب كلمة مفردة يستوفي بها العبارة عن معنى هذه الكلمة، كما قالوا في الفلاح: ليس في كلام العرب كلمة أجمع لخير الدنيا والآخرة منه. قال: وقيل: النصيحة مأخوذة من نصح الرجل ثوبه إذا خاطه. فشبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوح له، مما يسده من حلل الثوب. قال: وقيل: إنها مأخوذة من نصحت العسل إذا صفيته من الشمع، شبهوا تخليص القول من الغش بتخليص العسل من الخلط. قال: ومعنى الحديث: عماد الدين وقوامه النصيحة. كقوله: "الحج عرفة" أي عماده ومعظمه عرفة. وقال ابن بطال رحمه الله في هذا الحديث: إن النصيحة تسمى دينا وإسلاما، وإن الدين يقع على العمل كما يقع على القول. قال: والنصيحة لازمة على قدر الطاقة إذا علم الناصح أنه يقبل نصحه، ويطاع أمره، وأمن على نفسه المكروه، فإن خشي على نفسه أذى فهو في سعة." 1 هـ. " فتح الباري" (13/ 197) و" المفهم" (1/ 243).

التواصي بالحق والصبر، وفي تلاوتها. عند تلاقيهم أعظم موعظة، وأتم موقظة. (بسم الله الرحمن الرحيم)، قد وقع الاختلاف (¬1) بين أهل العلم في البسملة هل هي آية مستقلة في أول كل سورة كتبت في أولها، أو هي بعض آية من أول كل سورة، أو هي آية في الفاتحة فقط دون غيرها من السور، أو أنها (¬2) ليست بآية في الجميع، وإنما كتبت للفصل والتبرك؟ فذهب (¬3) الجمهور إلى الأول، ومن القراء قراء مكة والكوفة، ومنهم ابن كثير، وعاصم، والكسائي، وقالون، وهو الحق لأن إثباتا في الرسم بلا خلاف يدل عدى أن لها حكم سائر الآيات القرآنية. وإذ انضم إلى ذلك تلاوتها عند تلاوة القران من السلف والخلف، والقراء وغيرهم في أول كل سورة إلا في سورة التوبة، ولا يقدح في ذلك تكرارها في أول كل سورة، فإن تكرار الآيات بلفظها قد وقع في كثير من القران، ولم يستدل مستدل على أن ذلك المكرر آية واحدة وقد أبعد من لم يعدها آية لا من الفاتحة ولا من غيرها كأبي وأنس من الصحابة، ومالك، وأبي حنيفة، والثوري، والأوزاعي من الفقهاء، وكذلك قراء المدينة والبصرة والشام، وهكذا الأوجه لعدها بعض آية، لأن ذلك تحكم يرد عليه الرسم والتلاوة، وكذلك لأوجه لعدها آية واحدة، وكررت للفصل بين السور كما ذهب إليه أحمد بن حنبل، وداود، وبعض الحنفية، لأن هذه دعوى مجردة لا دليل عليها، فإن استدلوا مما أخرجه أبو داود (¬4) بإسناد صحيح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى نزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم. وأخرجه الحاكم في .... .... .. ¬

(¬1) انظر تفصيل ذلك عمد الألوسي في تفسيره (1/ 39) (¬2) وهو قول الزمخشري في الكشاف (1/ 4) (¬3) ذكره الألوسي في تفسيره (1/ 41 - 42) حيث قال: والصحيح من مذهبنا أن بسم الله الرحمن الرحيم آية مستقلة، وهي من القرآن وإن لم تكن من الفاتحة نفسها، وقد أوجب الكثير منا قراءتها في الصلاة ...... " (¬4) في السنن رقم (788) بسند صحيح

المستدرك (¬1) فلا دليل في ذلك، فإن دلالتها على الفصل لا يستلزم أنها ليست بآية، لا عقلا، ولا شرعا، ولا عادة. وهكذا لا وجه لعدها آية مستقلة في الفاتحة دون غيرها، لأنه إن استدل بالرسم فالرسم للبسملة في الفاتحة كالرسم لها في غيرها من السور، وإن استدل بغير ذلك فما هو؟ إذا عرفت هذا فقد وقع الاتفاق على أنها بعض آية في سورة النمل، والكلام على هذه [2أ] الأقوال استدلا وترجيحا وتصحيحا مدون في مواضع بسطه ومتعلق الباء محذوف (¬2)، وهو أقرأ، أو أتلو، أو نحو ذلك. مما يناسب ما جعلت التسمية مبدأ له، فمن قدره متقدما كان غرضه الدلالة بتقديمه على الاهتمام بشأن الفعل، ومن قدره متأخرا كان غرضه الدلالة بتأخيره منع الاختصاص مع ما يحصل في ضمن ذلك من العناية بشأن الاسم، والإشارة إلى أن البداية به أهم لكون الترك حصل به، وهذا يظهر ترجيح تقدير الفعل متأخرا في مثل هذا المقام، ولا يعارضه قوله تعالى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (¬3) لأن ذلك المقام مقام القراءة، وكان الأمر بها أهم. وقد اختلف أئمة النحو (¬4) في المقدر هو اسم (¬5) أو فعل (¬6)! ومن قدر الفعل نظر إلى كون الأصل في العمل، ومن قدر الاسم نظر إلى ما فيه من الدلالة على الدوام والثبات، والاسم أصله سمو حذفت لامه، ولما كان من الأسماء التي بنوا أوائلها على السكون زادوا في ¬

(¬1) (1/ 232) وصححه. (¬2) قال صاحب "الفريد في إعراب القرار المجيد" (1/ 151): فإن قلت: بم تعلقت الباء قلت:. بمحذوف وفيه تقديران: أحدهما ابتدائي بسم الله، والتقدير ثابت أو مستقر بسم الله. فيكون موضعه رفعا والآخر- بدأت أو أبدأ، فيكون موضعه نصبا. وقيل: هو أمر أي ابدأوا بسم الله، وإنما قدر الابتداء، لأن الحال تدل عليه. (¬3) [العلق: 1]. (¬4) انظر " إعراب القرآن وبيانه" محيط الدين الدرويش (1/ 9) (¬5) وهو قول أهل البصرة أن المتعلق به اسم. (¬6) وهو قول أهل الكوفة أن المتعلق به فعل. انظر: الدر المصون (1/ 22).

أوله الهمزة، إذا نطقوا به لئلا يقع الابتداء بالساكن على تقدير إمكان النطق، والاسم (¬1) هو اللفظ الدال على المسمى كما قاله الجمهور ومن زعم أن الاسم هو المسمى كما قاله أبو عبيدة (¬2)، وسيبويه، والباقلاني، وابن فورك، وحكاه الرازي (¬3) عن الحشوية (¬4) والكرامية (¬5) والأشعرية (¬6) فقد غلط وجاء. مما لا يعقل، ولا دل عليه نقل، وهو مدفوع بالعقل والنقل كما يقرر في مواطنه، والعلم الضروري حاصل لكل عاقل بأن الاسم الذي هو أصوات مقطعة وحروف مؤلفة غير (¬7) المسمى الذي هو مدلوله. وقد ثبت في الصحيحين (¬8) وغيرهما (¬9) أن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة. وقال الله - عز وجل-: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (¬10) وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (¬11) والله علم (¬12) لذات ¬

(¬1) انظر " الدر المصون " (1/ 23) (¬2) في مجاز القرآن (1/ 16) (¬3) في "شرح أسماء الله الحسنى" (ص 23) (¬4) تقدم التعريف بهذه الفرق في المجلد الأول من " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني"- العقيدة- (¬5) تقدم التعريف بهذه الفرق في المجلد الأول من " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني"- العقيدة- (¬6) تقدم التعريف بهذه الفرق في المجلد الأول من " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني"- العقيدة- (¬7) انظر الدر المصون (1/ 17) (¬8) أخرجه البخاري رقم (2736) ومسلم رقم (2686) (¬9) كأحمد (2/ 267) والترمذي رقم (3507) وابن ماجه رقم (3860) والحاكم (1/ 16 - 17) (¬10) كأحمد (2/ 267) والترمذي رقم (3507) وابن ماجه رقم (3860) والحاكم (1/ 16 - 17) (¬11) الإسراء: 110 (¬12) (الله) علم لا يطلق إلا على المعبود بحق خاص لا يشركه فيه غيره وهو مرتجل غير مشتق عند الأكثرين وإليه ذهب سيبويه في أحد قوليه، فلا يجوز حذف الألف واللام منه وقيل: هو مشتق وإليه ذهب سيبويه أيضًا ولهم في اشتقاقه قولان:- 1/ أن أصله إلاه على وزن فعال من قولهم: أله الرجل يأله إلاهة أي عبد عبادة ثم حذفوا الهمزة تخفيفا بكثرة وروده واستعماله ثم أدخلت الألف واللام للتعظيم ودفع الشيوع الذي ذهبوا إليه من تسمية أصنامهم وما يعبدونه آلهة من دون الله. 2/ أن أصله لاه ثم أدخلت الألف واللام عليه واشتقاقه من لاه يليه إذا تستر كأنه، سبحانه يسمى بذلك لاستتاره واحتجابه عن إدراك الأبصار. " " إعراب القرآن الكريم " محي الدين الدرويش (1/ 8)

الواجب الوجود لم تطلق على غيرها، وأصله إلاه حذفت الهمزة وعوضت عنها أداه التعريف (1) فلزمت، وكان قبل الحذف من أسماء الأجناس يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق كالنجم، فإنه في الأصل لكل نجم في السماء، ثم غلب على الثريا، وكذلك الصعق فإنه في الأصل لكل من أصابته الصاعقة، ثم غلب على رجل معروف فهو قبل الحذف من الأعلام الغالبة، وبعد الحذف والتعويض من الأعلام المختصة [2ب]. والرحمن الرحيم (¬1) اسمان مشتقان من الرحمة على طريقة المبالغة، كما تدل عليه هاتان الصيغتان، ورحمان أشد مبالغة من رحيم، وفي كلام ابن جرير (¬2) ما يدل على أن هذا متفق عليه، ولذلك قالوا رحمان الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا. ويؤيد ذلك ما تقرر عند أهل الفن من أن زيادة البناء (¬3) تدل على زيادة المعنى، وهما عربيان عند جمهور أهل اللغة. وقال ابن الأنباري (¬4) والزجاج (¬5) أن الرحمن عبراني والرحيم عربي، واتفقوا على أن الرحمن لم يستعمل في غير الله- سبحانه- فهو من الصفات الغالبة، والاعتبار. مما وقع من بني حنيفة من إطلاق الرحمن على مسيلمة (¬6) الكذاب. قال أبو علي الفارسي: ¬

(¬1) ذكره الزمخشري في الكشاف (1/ 108 - 109) (¬2) في "جامع البيان" (1/ج 1/ 55) (¬3) ذكره الزمخشري في الكشاف (1/ 109) (¬4) عزاه إليه الزجاج في " اشتقاق أسماء الله الحسنى" (ص 42) (¬5) لم يذكر الزجاج ذلك في كتابه "بل جاء في المخصص (17/ 151) وروي عن أحمد بن يحيى أنه قال: هو عبراني، وهذا مرغوب عنه، ولم يحك هذا أبو إسحاق- يعني الزجاج- في كتابه ". وفي المسائل والأجوبة (ص 118): " زعم ثعلب أن الرحمن أصله العبرانية " (¬6) تقدمت ترجمته في المجلد الأول. قال الشرباصى في موسوعة له الأسماء الحسنى (1/ 28): وقد تبجح مسيلمة الكذاب فسمى نفسه" رحمن اليمامة "فما كاد يسمى بذلك حتى قرع مسامعه نعت "الكذاب" فألزمه الله تعالى هذا النعت، وإن كان كل كافر كاذبا

الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى، والرحيم إنما هو في جهة المؤمنين. قال الله- سبحانه- وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (¬1) انتهى. ولا يخفاك أن هذا الدليل الذي أورده لا ينتهض للحجية، لأن كون رحيما بالمؤمنين لا يستلزم أن لا يكون رحيما بغيرهم، والظاهر أنه- سبحانه- رحيم بكل عباده، ولكل مخلوقاته، فهو الذي وسعت (¬2) رحمته كل شيء، وهو الذي سبقت رحمته (¬3) غضبه. وقد تقرر في علم الإعراب أن فعيلا من صيغ المبالغة فحق المبالغة أن تكون رحيما بكل شيء، ولكل شيء. واعلم أنه قد ورد في فضل البسملة أحاديث فمنها ما أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (¬4)، والحاكم في المستدرك (¬5) وصححه، والبيهقي في شعب الإيمان (¬6) عن ابن عباس " أن عثمان بن عفان سأل النبي صلى الله عليه واله وسلم عن بسم الله الرحمن الرحيم فقال: هو اسم من أسماء الله، وما بينه وبين اسم الله الأكبر إلا كما بين سواد العين وبياضها من القرب". وأخرج سعيد بن منصور. . . . . . . . . . . . ¬

(¬1) [الأحزاب: 43] (¬2) لقوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156]. وقوله تعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} [غافر: 7] (¬3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (7453) من حد شيء أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لما قضى الله عز وجل الحلق كتب كتابا فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي ". وأخرجه البخاري رقم (7404) وأحمد (2/ 433) والترمذي رقم (3543) وابن ماجه رقم (189) وابن خزيمة في التوحيد ص 58. من طرق عن أبي هريرة. (¬4) (1/ 12 رقم 5) (¬5) (1/ 255) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي (¬6) رقم (2327)

في سننه (¬1)، وابن خزيمة (¬2) في كتاب البسملة، والبيهقي (¬3) عن ابن عباس " قال استرق الشيطان من الناس أعظم آية من القران: بسم الله الرحمن الرحيم ". وأخرج الدارقطني (¬4) بسند ضعيف عن ابن عمر أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: "كان جبريل إذا جاء بالوحي أول ما يلقط علي بسم اله الرحمن الرحيم". وفي الباب أحاديث منها ما هو موضوع، ومنها ما هو ضعيف شديد الضعف. وفي نزولها من عند رب العالمين إلى رسوله المصطفى على لسان أمينة جبريل في أول كل سورة ما يكفى في شرفها وفضلها، وأي شرف وفضل أجل وأعظم من هذا ومع هذا فقد ورد الشرع بالتعبد ها في مواطن كعند الذبيحة (¬5)، وعند الوضوء، وعند الأكل (¬6)، وكأني الجماع (¬7). بل ورد مشروعيتها عند كل [3أ] أمر يضرع فيه الإنسان {والعصر إن الإنسان لفي خسر}. اختلف المفسرون في العصر هذا الذي أقسم الله به، فقيل هو الدهر (¬8) لما فيه من العبر التي تظهر فيه على الليل والنهار، مع ما فيها من الدلالة البينة على الصانع- سبحانه-، وعلى توحيده والعرب تطلق على الليل والنهار ¬

(¬1) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (1/ 20). (¬2) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (1/ 20). (¬3) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (1/ 20). (¬4) في السنن (1/ 305 رقم 13) بسند ضعيف. (¬5) (منها) ما أخرجه البخاري رقم (5543) ومسلم رقم (1168) عن رافع بن خديج قلت يا رسول الله، إنا لاقو العدو غدا وليست معنا مدى. قال: " أعجل أو أرني. ما أفر الدم وذكر اسم الله فكل. ليس السن والظفر ... ". (¬6) منها ما أخرجه أبو داود رقم (3767) والترمذي رقم (1858) وقال: حديث حيث صحيح. وابن ماجه رقم (3264) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا أكل أحدكم طعاما فليقل: بسم الله فإن نسي في أوله فليقل: بسم الله في أوله وآخره " وهو حديث صحيح. (¬7) (منها) ما أخرجه البخاري رقم (5165) ومسلم رقم (1434) عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشين، وجنب الشيء ن ما رزقتنا فإن يقمر بينهما ولد في ذلك، لم يضره شيء " (¬8) وهو قول ابن عباس ذكره القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن (20/ 178).

أنها عصر، وعلى كل واحد منهما أنه عصر، ومنه قول حميد (¬1) بن ثور: ولم ينته العصران: يوم وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمما وأطلقوا على الغداة أنها عصر، وعلى العشي أنه عصر، ومنه قول الشاعر: وأمطله العصرين حتى يملني ... ويرضى بنصف الدين والأنف راغم وأطلقوا العصر أيضًا على العشي، وما بين زوال الشمس إلى غروها. ومنه قول الشاعر: يروح بنا عمرو وقد قصر العصر ... وفي الروحة الأولى الغنيمة والأجر فالعصر يطلق على كل واحد من هذه والأوجه لمن ذهب إلى تخصيص واحد منها دون غيره، كما روي عن قتادة والحسن (¬2) أن المراد به في هذه الآية العشي. وروي عن قتادة (¬3) أنه آخر ساعة من ساعات النهار. والظاهر في هذه الآية أن المراد به الدهر لعدم التقييد. مما يشعر ببعض الأوقات دون بعض. وقد استبعد قوم وقوع الأقسام منه - سبحانه- بالعصر. مم الدهر فقال مقاتل (¬4): المراد به صلاة العصر، وهي الصلاة الوسطي، فقدر مضافًا محذوفا، وقيل هو قسم بعصر النبي- صلى الله عليه واله وسلم- لكونه اشرف العصور، وأفضل أجزاء الدهر. وقال الزجاج (¬5): قال بعضهم: معناه ورب العصر. ولا يخفاك أنه لا وجه لشيء من هذه التقديرات، ولله سبحانه أن يقسم. مما شاء من مخلوقاته، ولا يحتاج مثل ذلك إلى التعليل يكون للمقسم به شرفا وفضلا، فالرب سبحانه لا يسأل عما يفعل. وقد أقسم بالعاديات وهي الخيل العادية في الغزو، وأقسم بالمرسلات وهي الرياح في قول جمهور المفسرين، وقيل هي الملائكة، ¬

(¬1) ذكره القرطي في "الجامع لأحكام القرآن" (20/ 179). (¬2) دكره أبى جرير في " جامع البيان " (13/ج30/ 289) عن الحسن (¬3) ذكره القرطي في "الجامع لأحكام القرآن" (20/ 179). (¬4) عزاه إليه القرطي في " الجامع لأحكام القرآن " (20/ 179). (¬5) في "معاني القرآن وإعرابه" (5/ 360).

وقيل الأنبياء، وقيل السحاب، والأول أولى. وأقسم أيضًا بالعاصفات وهي الرياح الشديدة، وأقسم أيضًا بالناشرات وهي الرياح أيضا. وأقسم أيضًا بالفارقات وهي [3ب] الرياح. وقيل الملائكة. وأقسم أيضًا بالملقيات ذكرا وهي الملائكة، وأقسم أيضًا بالنازعات غرقا، والناشطات نشطا، والسابحات سبحا. فالسابقات سبقا، فالمدبرات أمرا وهي الملائكة. والعطف مع اتحاد الكل. فتنزيل التغاير الوصف منزلة التغاير الدالي كما في قول الشاعر: إلى الملك الصرم وابن الهمام (¬1). هكذا لمحال الجمهور من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم. وقال السدي (¬2): النازعات هي النفوس حين تغرق في الصدور. وقال مجاهد (¬3): هي الموت ينزع النفس. وقال قتادة (¬4): هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق، وبه قال الأخفش، وأبو عبيدة، وابن كيسان. وقال عطاء وعكرمة: هي القسي تنزع [4] بالسهام، وإغراق النازع في القوس أن يمده غاية المد حتى تنتهي إلى النصل. وقيل أراد بالنازعات الغزاة الرماة. وأقسم- سبحانه- بالنجم، وأقسم- سبحانه- بالسماوات ذات البروج، وباليوم الموعود، وهو يوم القيامة في قول جميع المفسرين، وبالشاهد والمشهود، والمراد بالشاهد من يشهد في ذلك اليوم من الخلائق التي تحضر فيه والمراد بالمشهود ما يشاهد قي ذلك اليوم من العجائب. وقيل: المراد بالشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة. قال الواحدي (¬5): وهذا قول الأكثر. وحكى القشيري (¬6) عن ابن عمر، وابن الزبر أن الشاهد يوم الأضحى. وقال سعيد ابن (¬7) جبير: الشاهد يوم التروية، والمشهود يوم عرفة. وقال النخعي (¬8): الشاهد يوم ¬

(¬1) النظر:"الجامع لأحكام القرآن"ا (9/ 190). (¬2) ذكره ابن جرير في "جامع البيان" (15/ ح 28/ 30). (¬3) ذكره أبى جرير في "جامع البيان" (15/ج30/ 28). (¬4) انظر جامع البيان (15/ ج 30/ 29). (¬5) لم أعثر عليه؟! (¬6) عزاه إليه القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (19/ 284). (¬7) ذكره القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (19/ 284). (¬8) ذكره القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (19/ 284).

عرفة، والمشهود يوم النحر. وقيل الشاهد هو الله- سبحانه-، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير لقوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (¬1)، وقوله {أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} (¬2) وقيل الشاهد محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لقوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} (¬3) وقوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (¬4) وقوله: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (¬5) وقيل الشاهد جميع الأنبياء لقوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} (¬6) وقيل هو عيسى بن مريم لقوله: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} (¬7) وقيل: الشاهد آدم، والمشهود ذريته. وقال محمد (¬8) بن كعب: الشاهد الإنسان كقوله: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} (¬9) وقال مقاتل (¬10) أعضاؤه لقوله: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} النور:24 وقال الحسن (¬11) بن الفضل: الشاهد ¬

(¬1) النساء79 (¬2) الأنعام: 19 (¬3) النساء:41 (¬4) الأحزاب: 45 (¬5) البقرة: 143 (¬6) النساء:41 (¬7) المائدة:117 (¬8) ذكره القرطبى في " الجامع لأحكام القرآن " (19/ 285). (¬9) الإسراء: 14 (¬10) ذكره القرطبى في "الجامع لأحكام القران" (19/ 285) (¬11) ذكره القرطبى في " الجامع لأحكام القرآن " (19/ 285).

هذه الأمة، والمشهود سائر الأمم، لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (¬1) وقيل الشاهد الحفظة، والمشهود بنو آدم. وقيل الأيام والليالي. وقيل الشاهد الخلق يشهدون لله- عز وجل-. ولا يخفاك أن إثبات الشهادة لشيء في الكتاب العزيز، أو في السنة المطهرة لا يدلا على أنه المراد في هذه الآية، فالأدلة التي ذكرها هؤلاء لا تصلح لما أرادوه (¬2). وقد ذكرت في فتح القدير (¬3) ما أورده هؤلاء المختلفون من الأدلة المروية. من طريق الصحابة عمن بصم، ثم تعقبت ذلك. مما تعقبته، ورجحت ما انهض دليله، فليرجع إليه، فليس هذا المقام مقام بسط الكلام على ذلك. وأقسم- سبحانه- بالسماء والطارق، ثم بين الطارق بقوله: وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب. وأقسم- سبحانه- بالفجر وهو الوقت المعروف. وقال قتادة (¬4): إنه فجر أول يوم من شهر محرم، لأنها تتفجر منه السنة، ولا وجه لهذا. وقال مجاهد (¬5): إنه يوم النحر. وقال الضحاك (¬6): فجر ذي الحجة، وقيل: المعنى وصلاة الفجر. وقيل: المعنى: ورب الفجر، ولا وجه لشيء من ذلك. والمراد القول الأول. وأقسم- سبحانه- بالليالي العشر، وهي عشر ذي الحجة في قول الجمهور وقال الضحاك (¬7): إنها العشر الأواخر من رمضان. وقيل: العشر الأول من المحرم، والراجح الأول. ولا وجه لشيء مما خالفه. وأقسم- سبحانه- بالشفع والوتر وهما كل شفع ¬

(¬1) البقرة: 143 (¬2) انظر جميع هذه الأقوال في الجامع لأحكام القرآن (19/ 284 - 286) و (15/ ج30/ 129 - 132) (¬3) (5/ 411) (¬4) عزاه إليه القرروني في " الجامع لأحكام القرآن " (20/ 38). (¬5) ذكره السيوطي في " الدر المنثور " (8/ 498). (¬6) عزاه إليه القرطبى في " الجامع لأحكام القرآن " (20/ 29). (¬7) عزاه إليه القرطبى في " الجامع لأحكام القرآن " (20/ 29).

من الأشياء المخلوقة، وكل وتر منها. وقال قتادة (¬1): الشفع والوتر شفع الصلاة ووترها. وقيل: الشفع يوم عرفة، ويوم النحر، والوتر ليلة يوم النحر. وقال مجاهد (¬2) وعطية العوفي: الشفع الخلق، والوتر الله- سبحانه-، وبه قال محمد بن سيرين (¬3)، ومسروق، وأبو صالح، وقتادة، وقال الربيع بن أنس (¬4)، وأبو العالية: هي صلاة المغرب، فيها ركعتان، والوتر الركعة. وقال الضحاك (¬5): الشفع عشر ذي الحجة، والوتر أيام منى الثلاثة، وبه قال عطاء. وقيل: هما آدم وحواء (¬6)، لأن آدم كان وترا فشفع بحواء. وقيل: الشفع درجات الجنة، وهي ثمان، والوتر درجات النار، وهي سبع، وبه قال الحسن بن الفضل وقيل: الشفع الصفا والمروة، والوتر الكعبة. وقال مقاتل: الشفع الأيام والليالي، [4ب] والوتر اليوم الذي لا ليلة بعده، وهو يوم القيامة. وقال سفيان بن عيينة (¬7): الوتر هو الله- سبحانه-، وهو الشفع أيضًا لقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} (¬8) الآية. وقال الحسن: المراد بالشفع والوتر العدد، لأن العدد لا يخلو عنهما. وقيل: الشفع مسجد مكة والمدينة، والوتر مسجد بيت المقدس. وقيل: الشفع حج القران، والوتر الأفراد. وقيل: الشفع الحيوان، لأنه ذكر وأنثى، والوتر الجماد. وقيل الشفع ما سمي، والوتر ما لم يسمم. وقد تعقبت هذه الأقوال في فتح (¬9) القدير فقلت: ولا يخفاك ما في غالب هذه الأقوال من السقوط البين، والضعف الظاهر، والاتكال في التعيين على مجرد الرأي الزائف، والخاطر ¬

(¬1) عزاه إليه ابن جرير في " جامع البيان" (15/ ج 30/ 170) (¬2) عزاه إليه ابن جرير في "جامع البيان" (15/ ج30/ 171). (¬3) عزاه إليه القرطي في " الجامع لأحكام القرآن " (20/ 40) (¬4) عزاه إليه القرطي في " الجامع لأحكام القرآن " (20/ 40). (¬5) عزاه إليه القرطي في " الجامع لأحكام القرآن " (20/ 40) (¬6) عزاه إليه القرطي في " الجامع لأحكام القران " (20/ 40) عن ابن عباس. (¬7) عزاه إليه القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (20/ 40) (¬8) المجادلة:70 (¬9) (5/ 433)

الخاطئ. والذي ينبغي التعويل عليه ويتعين المصير إليه ما يدل عليه معنى الشفع والوتر في كلام العرب، وهما معروفان واضحان، فالشفع عند العرب الزوج، والوتر الفرد، فالمراد بالآية إما نفس العدد، أو ما تصدق عليه من المعدودات بأنه شفع أو وتر. وإذا قام دليل يدلا على تعيين شيء من المعدودات في تفسير هذه الآية، فإن كان الدليل يدل على أنه المراد نفسه دون غيره فذاك، وإن كان الدليل يدل على أنه مما تناولته هذه الآية لم يكن ذلك مانعا من تناولها لغيره انتهى. وأقسم- سبحانه- في هذه السورة بالليل إذا أدبر، وأقسم- سبحانه- بالبلد بقوله: {لا أقسم بهذا البلد} (¬1)، فإن المعنى أقسم هذا البلد، لأن (لا) زائدة كما في قوله- سبحانه-: {لا أقسم يوم القيامة} (¬2) قال الواحدي: أجمع المفسرون على أن هذا قسم بالبلد الحرام، وهي مكة، وأقسم- سبحانه- بالوالد وما ولد، فقيل: الوالد آدم، وما ولد أي وما تناسل من ذريته. وقال أبو عمران (¬3) الجوني: الوالد إبراهيم، وما ولد ذريته. وقيل: الوالد إبراهيم، والولد إسماعيل ومحمد- صلى الله عليهما وسلم-. وقال عكرمة (¬4)، وسعيد بن جبير: ووالد يعني الذي يولد، وما ولد يعني العاقر الذي لا يولد له، وكأنما جعلا ما نافية، وهو بعيد، ولا يصح ذلك إلا بإهمال الموصول أي والذي وما ولد، ولا يجوز إضمار الموصول عند البصريين (¬5). وقال عطية العوني (¬6): هو عام في كلى والد ومولود من جميع الحيوانات، وهذا أقرب هذه الأقوال إلى الصواب، وقد اختاره ابن جرير (¬7). وأقسم- سبحانه صني سورة الشمس والشمس وضحاها، وبالقمر والنهار [5أ]، ¬

(¬1) البلد: 1 (¬2) القيامة:1 (¬3) عزاه إليه القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (20/ 61). (¬4) عزاه إليه القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (20/ 61). (¬5) عزاه إليه القرطي في " الجامع لأحكام القرآن " (20/ 62). (¬6) عزاه إليه القرطي في " الجامع لأحكام القرآن " (20/ 62). (¬7) قي جامع البيان (15ج30/ 196)

والليل والسماء والأرض، والنفس وما سواها. وأقسم- سبحانه- في سورة الليل بالليل والنهار، والذكر والأنثى على قراءة ابن مسعود، فإنه قرأ والذكر والأنثى. وأقسم - سبحانه- في سورة الضحى بالضحى والليل. وأقسم- سبحانه- في سورة التين بالتين والزيتون. قال أكثر المفسرين (¬1): هو التين الذي يأكله الناس، والزيتون الذي يعصرون منه الزيت. وقال ابن زيد (¬2): التين مسجد دمشق، والزيتون مسجد بيت المقدس. وقال الضحاك (¬3): التين المسجد الحرام، والزيتون المسجد الأقصى. وقال قتادة (¬4): التين الجبل الذي عليه دمشق، والزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس. وقال عكرمة (¬5) وكعب (¬6) الأحبار: التين دمشق، والزيتون بيت المقدس. والمتعين الذي لا ينبغي العدول عنه، ولا يفسر القران بغيره هو تفسير التين بالمعنى (¬7) العربي الواضح الجلي، وكذلك الزيتون، وهما معروفان في لغة العرب، لا يختلف في معناها. فالعدول عن هذا المعنى الظاهر الواضح بغير برهان ليس من دأب المشتغلين بتفسير كلام الله- سبحانه-. وقال محمد بن كعب (¬8): التين مسجد أصحاب الكهف، والزيتون مسجد إيليا. وقيل (¬9) أنه على حذف مضاف: أي ومنبات التين والزيتون. وأقسم- سبحانه- في هذه السورة بطور سينين، وهو الجبل الذي كفم الله عليه موسى. ¬

(¬1) ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعى وعطاء، وجابر وزيد ومقاتل والكلبي. انظر: "جامع البيان " (15ج30/ 238)، " الجامع لأحكام القرآن " (20/ 110). (¬2) عزاه إليه ابن جرير في "جامع البيان" (15/ج30/ 239). (¬3) عزاه إليه القرطي في " الجامع لأحكام القرآن " (20/ 110). (¬4) عزاه إليه القرطي في " الجامع لأحكام القرآن " (20/ 110). (¬5) عزاه إليه القرطي في " الجامع لأحكام القرآن " (20/ 110). (¬6) عزاه إليه القرطي في " الجامع لأحكام القرآن " (20/ 110). (¬7) قال ابن جرير في " جامع البيان " (5/ج30/ 245): والصواب من القول قي ذلك عندنا: التين: هو التين الذي يؤكل، والزيتون: هو الزيتون الذي يعصر منه الزيت لأن ذلك هو المعروف عند العرب (¬8) عزاه إليه القرطبي في "الجامع " (20/ 111). (¬9) عزاه إليه القرطبي في "الجامع " (20/ 111).

وقال مجاهد (¬1) والكلبي (¬2): سينين كل جبل فيه شجر مثمر. وقال الأخفش (¬3): طور جبل، وسينين شجر واحدته سينة. إذا تقرر لك أنه- سبحانه- أقسم في كتابه العزيز هذه المخلوقات المتنوعة تقرر لك أن المراد بالعصر هو الدهر كما قررناه، ولا وجه لتقدير مضاف محذوف فيه، ولا في سائر ما أقسم الله- سبحانه- به من مخلوقاته، فإن الله- سبحانه- يقسم. مما شاء منها، ولم يأتنا دليل ولا شبهة دليل أنه لا يقسم إلا. ما له شرف وبما فيه فضيلة ممن حرف المعاني القرآنية الواردة على نمط لغة العرب، لأجل تحصيل شيء في المقسم به يصير به ذا شرف، فقد أخطأ خطأ بينا، وغلط غلطا واضحا، فإنه تلاعب بكتاب الله - سبحانه- لخيال مختل، وتعليل معتل، وتوهم فاسد، وفهم كاسد. فاعرف هذا، وليكن منك على ذكر، فكثيرا ما يقع لأهل العلم الوهم الباطل، ثم يبن عليه ما هو أبطل منه، وينقله عنه من يهاب الرد عليه، [5ب] فيحرر في كتب التفسير ونحوها من زائف الأقوال، وباطل الآراء ما يضحك منه تارة، ويبكى منه أخرى. والتقليد وإحسان الظن بالأموات هو السبب لكل غلط، والمنشأ لكل جهل، والحامل على ترويج كل باطل. فإن قلت: قد أخرج ابن جرير (¬4) عن ابن عباس أنه قال في تفسيره العصر المذكور في هذه السورة أنه ساعة من ساعات النهار. وأخرج ابن (¬5) المنذر عنه أيضًا أنه قال: إنه ما قبل مغيسب الشمس من العشي. قلت: قد أخرج (¬6) ابن المنذر عنه أيضًا أنه قال إنه الدهر فجمع اختلاف الرواية عنه يرجح ما وافق المعنى اللغوي، ويحمل ما خالفه على المجاز وقد كانت العرب تتجوز في لفظ العصر فيقولون مثلا: العصر الأول، والعصر ¬

(¬1) انظر هذه الأقوال وغيرها في " الجامع لأحكام القرآن " (¬2) انظر هذه الأقوال وغيرها في " الجامع لأحكام القرآن " (¬3) انظر هذه الأقوال وغيرها في " الجامع لأحكام القرآن " (¬4) (15/ ج 30/ 289). (¬5) عزاه إليه السيوطي الدر المنثور (8/ 622) (¬6) عزاه إليه السيوطي في " الدر المنثور " (8/ 621).

الآخر، وعصر فلان، ولا مشاحة في ذلك. وقد اختلف القراء في قراءة هذه الكلمة فقرأ الجمهور (¬1): والعصر بسكون الصاد، وقرأ يحي بن سلام بكسر الصاد، وقرأ الجمهور (¬2) أيضًا خسر بضم الخاء وسكون السن، وقرأ الأعرج، وطلحة، وعيسى بضم الخاء والسين ورويت هذه القراءة عن عاصم (¬3). وأخرج الفريابي (¬4)، وأبو عبيد في فضائله، وعبد بن حميد (¬5)، وابن جرير (¬6)، وابن المنذر (¬7)، وابن الأنباري (¬8) في المصاحف عن على بن أبي طالب أنه كان يقرأ والعصر ونوائب الدهر إن الإنسان لفي خسر، وإنه فيه إلى آخر الدهر. وأخرج عبد بن حميد (¬9) عن ابن مسعود أنه كان يقرأ والعصر إن الإنسان لفي خسر وإنه لفيه إلى آخر الدهر. إن الإنسان لفي خسر. هذا جواب القسم (¬10). والإنسان يعم كل فرد من أفراد هذا النوع، لتحليته باللام المفيدة لذلك، كما هو مقرر في علم المعاني والبيان، وهذا يندفع ما قيل أن المراد بالإنسان هنا الكافر، وما قيل أفم جماعة من الكفار، وهم الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد المطلب بن أسد، وإن كان هؤلاء وغيرهم من رؤساء الكفر، بل وسائر الكفار داخلون في عموم الإنسان دخولا أوليا، وكما يدل عموم الإنسان على الإحاطة واستغراق النوع، كذلك يدلا على ذلك الاستغناء معه. والمراد بالخسر هنا المعنى اللغوي. قال الأخفش (¬11): في خسر في ملكة .... .... ... ¬

(¬1) انظر "الجامع لأحكام القرآن" (20/ 180). (¬2) انظر "الجامع لأحكام القرآن" (20/ 180). (¬3) قاله أبو حيان في تفسيره (8/ 509). (¬4) عزاه إليه السيوطط في " الدر المنثور " (8/ 621) (¬5) عزاه إليه السيوطط في " الدر المنثور " (8/ 621) (¬6) في "جامع البيان" (15/ج30/ 290). (¬7) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (8/ 621) (¬8) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (8/ 621) (¬9) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (8/ 622) (¬10) ذكره القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (20/ 179) (¬11) ذكره القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (20/ 179)

وقال الفراء (¬1): في عقوبة. وقال ابن زيد (¬2): في شر. والخسران [6أ] النقصان وذهاب رأس المال. قيل والمعنى أن كل إنسان في المتاجر والمساعي، وصرف الأعمار في أعمال الدنيا لفي نقص وضلال عن الحق حتى يموت. وقال في الصحاح (¬3): خمس في البيع خسرا وخسرانا، وهو مثل الفرق والفرقان، وخسرت الشيء بالفتح، وأخسرته نقصته. وقوله تعالى: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا} (¬4) واحدهم الأخسر مثل الأكثر، والتخسير الإهلاك، والخناسر الهلاك لا واحد له. قال كعب بن زهير: إذا ما نتجنا أربعا عام كفأة ... بغاها خناسيرا فأهلك أربعا وفي بغاها ضمير من الجد هو الفاعل. يقول: إنه شقي بالجد إذا أنتجت أربع من إبله أربعة أولاد هلكت من إبله الكبار أربع غير هذه، فيكون أكر مما أهاب، والخسار والخسارة، والخيسري الضلال والهلاك انتهى. وقال في القاموس (¬5): خسر كفرح وضرب خسرا وخسرا وخسرا وخسرانا وخسارة وخسارا ضل فهو خاسر وخسير وخيسري. والتاجر وضع في تجارته، أو غبن، والخسر النقص كالإخسار والخسران، {إذا كرة خاسرة} (¬6) غير نافعة، والخيسري الضلال والهلاك، والغدر واللؤم كالخسار والخسارة، والخناسر والخناسير والخسرواني نوع من الثياب، وخسرويه بلدة بوسط، وخسره تخسيرا أهلكه، والخناسرة الضعاف من الناس، وأهل الخيانة، والخنسائر اللئيم، والخنسر والخنسري من هو في موضع الخسران، والخناسير أبوال الوعول على الكلأ والشجر وسلم بن عمرو الخاسر، لأنه باع مصحفا واشترى ¬

(¬1) قي "معاني القرآن" (3/ 289) (¬2) عزاه إليه القرطي في "الجامع" (20/ 180). (¬3) (2/ 645) (¬4) الكهف: 103 (¬5) (ص 491 - 492). (¬6) النازعات:12

بثمنه ديوان شعر، أو لأنه حصلت له أموال فبذرها انتهى. أقول: والمناسب للمقام أن يكون الخسر الهلاك للإنسان المذكور لعدم استقامته على الدين، وليس المراد الهلاك الدنيوي بالقتل أو نحوه، بل المراد الهلاك الديني الموجب لمصيره إلى النار، كما يفيد ذلك استثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات. وأيضا المقام مقام الترهيب للعصاة، والترغيب لأهل الإيمان والطاعات، ومجموع ذلك يفيد أن تفسير الخسر بذهاب الدين الموجب للشقاوة الأبدية، وهذا أولى من تفسير الخسر بالنقص، لأن مقام الترهيب والتشديد [6ب] والمبالغة في الوعيد يقتضي الخسران التام، وهو ذهاب الدين بالمرة، المستلزم لهلاك صاحبه، لا نقصه وذهاب بعضه، وبقاء بعض. ولا يخفى أن هذه الجملة القسمية قد اشتملت على مؤكدات منها القسم، ومنها تصوية جواب القسم بحرف التشبيه، وله مدخلية في تأكيد ما دخل عليه من الكلام، ثم المجيء بالجملة الأسمية، فإنها تدل على الدوام والثبات، ثم تحلية الإنسان باللام (¬1) الإستغراقية المفيدة للعموم، ثم اللام في قوله {لفي خسر}، ثم أبرء في الدالة على أن الخسر قد صار ظرفا له فكأنه منغمس فيه، وهو مشتمل عليه اشتمال الظرف على المظروف، فقد اشتمل هذا الكلام على جميع المؤكدات التي ذكرها أهل البيان. وكل ذلك يفيد أن لزوم هذا الخسر للإنسان ثابت لا محالة، وأنه لا ينفك عنه بحال من الأحوال، ولا يفارقه بوجه من الوجوه إلا إذا تخلص عنه مما تضمنه الاستثناء (¬2)، فإنه يخرج به من الظلمة إلى النور، ومن الضيق إلى السعة، ومن الهلاك إلى السلامة، ومن العذاب إلى النعيم، ومن أفار إلى الجشة. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، الموصول من صيغ (¬3) العموم كما ¬

(¬1) انظر البحر الميحط (3/ 99). (¬2) انظر: إعراب القرآن وبيانه " محيى الدين الدرويش (10/ 572). الدر المصون (11/ 101) (¬3) تقدم ذكر ذلك

تقرر في علم البيان والأصول، فيشتمل كل من حصل له وصف الإيمان وقد اختلف الناس في تفسير الإيمان أصلا فأكثروا وأطالوا في ذلك، وتنوعت كلماتهم، واختلفت رسومهم. والذي ينبغي الاعتماد عليه، والمصير إليه هو ما ثبت عن الصادق المصدوق - صلى الله عليه واله وسلم- في تفسيره وبيان معناه كما في الصحيحين (¬1) وغيرهما (¬2)، فإنه لما سأله السائل عن الإيمان قال: " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، والقمر خيره وشره ".، وعند هذا البيان النبوي، والتفسير المصطفي يستغنى عن تلك الحدود التي، والرسوم التي اصطلحوا عليها. وإذا جاء فر الله بطل فر معقل. والمراد هنا هو الإيمان الشرعي، لأن الحقائق الشرعية مقدمة على غيرها كما تقرر في علم الأصول، وهو في الشرع التصديق عن كمال اعتقاد، بحيث لا يشوبه شك، ولا حتى شبهة. ولو لم يكن على هذه الصفة لم يكن تصديقا صحيحا، والمراد من التصديق بالله - سبحانه- أن تصدق بوجوده، وأنه الإله الخالق الرازق، المحيى المميت، الحط الدائم، الأحد الصمد، الذي يشاركه مشارك، بل هو المتفرد بالربوبية، والكل من هذا العالم عباده، وتحت حكمه، يصنع فيهم [7أ] ما يشاء، ويحكم ما يريد، ما شماء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وتصدق بوجود ملائكته على الصفة التي وردت في الكتاب والصنة، وتصدق بأن الله أنزل كتبه على رسله ليبينوا لهم ما شرعه لهم من الشرائع، وأن هذه الكتب التي جاء ها الرسل- صلوات الله عليهم وسلامه- هي من عند الله- عز وجل-، وأنها كلها حق وصدق وشرع وإن خالف بعضها بعضا، فإن ذلك إنما هو لرعاية مصالح العباد بحسب اختلاف الأوقات والأحوال والأشخاص، وتصدق أيضًا بأن الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده هم رسله حقا، وأنه ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (4777) ومسلم رقم (8) (¬2) كأحمد (1/ 28،51،52) وأبو داود رقم (4695) وابن ماجه رقم (63) والنسائي (8/ 97 - 151) والترمذي رقم (2610). كلهم من حديث عمر رضي الله عنه

أمرهم بإرشاد العباد إلى ما شرعه لهم من الشرائع، وبينه لهم من المصالح الدينية والدنيوية، لطفا هم، وتوفيقا لهم، وإقامة للحجة عليهم، لئلا يقولوا ما جاءنا من رسول، ولله الحجة البالغة. وتصدق بالقدر خيره وشره، أي بأن ما كان أو سيكون من كبير وصغير، وجليل وحقير، وخير وشر، ونفع وضر هو بتقدير الله- سبحانه- وقضائه، ما شاء كان، وما لم يشاء لم يكن. ليس للعبد في ذلك عمل، ولا له تصرف في نفسه، ولا في غيره، ولا في جليل أموره، ولا في حقيرها، ولا في صغيرها، ولا في كبيرها. بل قدر الله وما شاء فعل. واعلم أن الإيمان بالقدر هو العقبة الكون لم الصعب، فإنه إذا صح للعبد الإيمان به كما ينبغي لم يأسف على فائت كائنا ما كان، لأنه يعلم أن ذلك هو من جهة خالقة ورازقه، ومن هو أرأف به من أبويه، وأحنا عليه من نفسه. ولكن هذه النفوس البشرية المجبولة (1) على السرور بالخير، والنفور عن الشر، فإذا دهمها شيء مما تكره اضطرتجا له، ونفرت عنه، وضاو ذرعها به، وطال همها، وكثر غمها، وذلك جبفة خلقية-، وطبيعة بشرية، فيكون بذلك تكدر العيش، وضيق العطن، ولشوش الحال، ولكنه إذا راجع نفسه وتغفل ما أمر به من الإيمان بالقدر، وأن ذلك من عند الله- عز وجل- هان الخطب، وقل الكرب، وذهب الغم، وارتفع الهم. وما أحسن ما قاله إبراهيم الحربي- رحمه الله-: من لم يمش مع القدر (¬1) لم يتهن بعيشه، وهاهنا باب يدخل منه من كربه أمر، ومسه خطب يلجأ منه إلى حصن حصين ينجو به من كل شيء يخافه ويحذره، وهو الدعاء (¬2) فإنه الترياف النافع، والمرهم الشافي. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه .... .... .... ..... ¬

(¬1) تقدم ذلك في المجلد الأول. وانظر: " شرح العقيدة الطحاوبة " (2/ 358 - 360) (¬2) تقدم " فضل الدعاء " في المجلد الأول.

يرد القضاء (¬1)، وأنها يحتجان (¬2) [7ب]، وثبت في الأحاديث الصحيحة الاستعاذة من شر القضاء كما في صحيح مسلم (¬3) وغيره، وثبت في حديث الحسن (¬4) بن على رضي الله عنهما في القنوت الذي علمه رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وقني شر ما قضيت. واعلم أنه قد اشتغل كثير من الناس بالسؤال عن سر القدر، واستشكال مباحث من مباحثه، ولوازم من لوازمه، وهؤلاء مع كوهم قد خالفوا ما وردت به السنة المطهرة من النهى عن البحث عن سر القدر، والاشتغال. مما تخيله الأذهان، وتزيرلنه الأوهام لم يقتدوا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الذي أمره الله- سبحانه- بأن يبين للناس ما نزل إليهم، فإنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لما سئل عن ذلك طوى بساط التفصيل والتطويل، والإطناب والتعليل، واكتفى بقوله: " اعملوا وكل أمرء ميسر لما خلق له" (¬5). ¬

(¬1) أخرجه الترمذي رقم (2139) والحاكم (1/ 493) والطبراني في الكبير قم (1442) من حديث سلمان مرفوعًا بلفظ:" لا يرد القضاء إلا الدعاء ... ". وهو حديث حسن. (¬2) أخرج الطبراني قي الأوسط رقم (2418). وأورده الهيتمى في المجمع (146110) وقال: رواه الطبراني في الأوسط والبزار بنحوه وفيه زكريا بن منظور وثقه أحمد بن صالح المصري، وضعفه الجمهور وبقية رجاله ثقات. عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا ينبغي حذر من قدر، والد على ينفع نزل و" لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيلقاه الدعاء فيعتل عان إلى يوم القيامة. " وهو حديث ضعيف. (¬3) رقم (2707) من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعوذوا بالله من جهد البلاء ودرك الشيء وسوء القضاء وشماتة الأعداء " (¬4) أخرجه أبو داود رقم (1425) والترمذي رقم (464) والنسائي (3/ 248). وابن ماجه رقم (1095) وأحمد (1/ 199) والبيهقي (12 498) وهو حديث صحيح. (¬5) أخرجه البخاري رقم (1362) و (4945) و (4946) و (4947) ومسلم رقم (2647) وأبو داود رقم (4694) والترمذي رقم (2136 و3344) وغيرهم من حديث علي بن أبي طالب.

واعلم أن هذا الاستثناء (¬1) الواقع في الآية متصل عند كل من حمل المستثني منه على العموم، وهو الحق. وأما من قال أن المراد به جنس الكفار، أو كفار معينين فهو يجعله منقطعا، والتقدير: ولكن الذين ا منوا وعملوا الصالحات. فإن قلت: ظاهر ما في هذه الآية من العموم شمولها لأهل الفترة الذين لم يبلغهم شيء من شرائع الله- سبحانه-، لأنهم ماتوا ولم يؤمنوا ولا عملوا الصالحات. قلت: هؤلاء وإن دخلوا في عموم الإنسان فقد خرجوا بالعفو عنهم لجهلهم بالشرائع، وعدم تمكنهم من طلبها، ولهذا يقول الله- سبحانه-: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} (¬2). فإن قلت: الأنبياء- صلوات الله عليهم وسلامه- منزهون عن أن ينالهم خسر لما ثبت لهم من العصمة قبل النبوة وبعده. قلت: هم أعلى طبقات العالم، وأكرم جنى بني ادم، وقدوة أهل الإيمان، وأسوة الصالحين، فكما أن أهل الإيمان خارجون من الخسر بإيمانهم فأنبياء الله خارجون عنه باصطفاء الله لهم، مع كون أيمانهم أكمل أيمان، وإيقانهم أشرف إيقان، وإنما يرد هذا السؤال لو كان المستثنى داخلا فيما أسند إلى المستثنى منه، مشاركا له فيما نسب إليه، وليس الأمر كذلك، فإنه إنما شاركه في كونه من أفراده ومن جملة ما يصدق عليه باعتبار العموم لا باعتبار ما نسب إليه، ولهذا قدر الاستثناء أئمة النحو والأصول والبيان بأن معنى جاءني القوم إلا زيدا: القوم المخرج منهم زيد جاءني. وهكذا سائر التراكيب الاستثنائية، فالتقدير فيما نحن بصدده: الإنسان المخرج منه [8ب] الذين آمنوا وعملوا الصالحات في خسر. فإن قلت: قد ذكرنا أن لله- سبحانه- أن يقسم. مما شاء من مخلوقاته، فهل ثم نكتة في تخصيص الأقسام بالعصر في هذه السورة؟ قلت: دكن أن تكون النكتة أن ¬

(¬1) انظر " فتح القدير " (5/ 459 - 496). (¬2) الإسراء:15

العصر الذي هو الدهر لما كان كثير من الغافلين ينسبون ما ينابهم من السعادة والشقاوة إليه أقسم الله به بلزوم الخسر لهم، وأنهم في خسر لا يتخلصون عنه إلا. مما تضمنه الاستتناء، ومع ذلك فقد ثبت في الصحيح (¬1): " لا تسبوا الدهر؟ فإن الله هو الدهر ". وفي هذا مخصص للأقسام به ظاهر في فاتحة هذه السورة المشتملة على التهديد ومزيد الوعيد. فإن قلت هل من نكتة في ذكر الإنسان في هذه الآية مع إمكان أن يؤتى مكانه بالناس أو ما يفيد مفاده؟ قلت يمكن أن يقال: إن هذا اللفظ- أعني الإنسان- خاص هذا النوع لا يتناول غيره، ولا يشاركه فيه سواه، بخلاف لفظ الناس، فإنه كما في كتب اللغة (¬2) يطلق على الجن كما يطلق على الإنس، وعلى ناس الإبل وهو ساقها. فإن قلت: هل من نكتة في ذكر الخسر دون الهلاك، أو الشقاء، أو العذاب، أو ما يؤدي هذا المعنى؟ قلت: يمن أن يقال أن النكتة في ذكره دلالته على تلك المعاني المتنوعة من الهلاك والنقص، وسائر ما ذكرناه هنالك، فإن ذلك قد يكون أنصب بأحوال الأشخاص المختلفين في إهمال الشريعة بأسرها وهم الكفار، وفي النقص منها وهم العصاة من هذه الأمة، وهذا لا ينافي ما رجحناه فيما تقدم من حملة على الهلاك. فإن قلت: ما وجه المجيء بالموصول في قوله: {إلا الذين آمنوا} وهلا اكتفى. مما هو أخصر فقال: إلا المؤمنين؟ قلت: أبرء بالموصول فيه فوائد ذكرها أهل المعاني، ولو لم يكن منها إلا الدلالة على التعظيم لشأنه، وما أحق المؤمنين بذاك!. وقد دل العطف بقوله: {وعملوا الصالحات} على أول لا بد من .... .... .... ..... ¬

(¬1) أخرجه مسلم رقم (5/ 2246) وأحمد (4/ 496) من حديث أبي هريرة. وأورده الهيثمي في المجمع (8/ 71) وقال: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح. وهو حديث صحيح. (¬2) لسان العرب (1/ 233).

الجمع (¬1) بين الإيمان وبين العمل، وأنه لا يكفي مجرد الإيمان. والمراد بالصالحات الأعمال الصالحة، وأهمها وأقدمها ما يجب على الإنسان القيام به، ومن ذلك أركان الإسلام الخمسة: شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج. ثم ترك ما حرمه الله عليه، فإن الكف! عن ذلك عمل صاع يمدح التارك له على تركه، ويذم الفاعل له على فعله. ثم يفعل من أعمال إني ما بلغت إليه قدرته على حسب الحال، ومن زاد الله في حسناته. والحاصل أن الإيمان بالواجبات واجتناب المحرمات متحتم على كل مكلف، فهو لا يخرج من الخسر المذكور قي الآية إلا. مجموع الإيمان، والقيام بذلك على التمام [8ب] وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي- صلى الله عليه واله وسلم- قال لمن سأله عن الإسلام: " أن تشهد أن لا إله إلا الله، وتقيم الصلاة، ¬

(¬1) قال ابن تيمية في كتاب الإيمان ص 213: قال خيثمة بن عبد الرحمن: الإيمان يسمن في الخصب، ويهزل في الجدب، فخصبه العمل الصالح، وجدبه الذنوب والمعاصي. وقيل لبعض السلف: يزداد الإيمان وينقص؟ قال: نعم، يزداد حتى يصير أمثال الجبال، وينقص حتى يصير أمثال الهباء " قال النووي في " شرحه لصحيح مسلم " (1/ 217): واعلم أن مذهب أهل السنة وما عليه أهل الحق من السلف والخلف، أن من مات موحدا دخل الجنة قطعا على كل حال، فإن كان سالما من المعاصي كالصغير والمجنون، والذي اتصل جنونه بالبلوغ، والتائب توبة صحيحة من الشرك أو غيره من المعاصي، إذا لم يحدث معصية بعد توبته، والموفق الذي لم يئل. معصيا أصلا، فكل هذا الصنف يدخلون الجنة ولا يدخلون النار أصلا، لكنهم يردوا، على الخلاف المعروف في الورود، والصحيح أن المراد به: المرور على الصراط، وهو منصوب على ظهر جهنم، أعاذنا الله منها، ومن سائر المكروه، وأما من كانت له معصية ومات من غير توبة فهو في مشيئة الله تعالى. إن شاء تعالى عفا عنه، وأدخله الجنة أولا وجعله كالقسم الأول. وإن شاء عذبه القدر الذي يريده سبحانه وتعالى، ثم يدخله الجنة، فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد، ولو عمل من المعاصي ما عمل، كما إنه لا يدخل الجنة أحد مات على الكفر ولو عمل من أعمال البر ما عمل.

وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت" (¬1). وثبت في الكتاب (¬2) والسنة (¬3) الأمر لكل واحد من هذه الأركان على الخصوص، وثبت في الكتاب والسنة الأمر بواجبات، والنهى (¬4) البقرة:278 (¬5) عن محرمات، فلا ينجو من الخسر المذكور في الآية إلا من قام بذلك على الحد الذي أمره الله به، وفاه عنه. فهذه هي الصالحات التي أمر الله- سبحانه- بعملها، جعلها مجموع الإيمان. والعمل هذه الأمور هو الذي يخرج به الإنسان عن الخسر الذي هو ختم في رقاب العباد بالقسم الرباني والحكم الإلهي. فإن قلت: إن كان هذا التعريف (¬6) في الصالحات للاستغراق، والمراد أن كل فرد عمل كل الصالحات، فهذا مما ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (8) ومسلم رقم (16) من حديث ابن عمر. (¬2) قال سبحانه: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} البقرة:283. وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} البقرة:183. (¬3) (منها) ما أخرجه البخاري رقم (2448) ومسلم رقم (19) من حديث ابن عباس أن معاذ قال: بعثني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إنك تأين قوما من أهل الكل ب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك. فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة بان هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ". (¬4) (منها) ما أخرجه البخاري رقم (6065) ومسلم رقم (2559) عن أنس رضي الله عنه قال أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانا. (منها) قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (¬5) (ومنها) ما أخرجه مسلم في صحيحة رقم (1597) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " لعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكل الربا وموكله ". (¬6) انظر: البحر المحيط (3/ 86 - 87).

لا يدخل تحت قدرة البشر، فإن الصالحات لا يمكن الإحاطة ها فضلا عن أن يمكن فعل كل واحدة منها. قلت: هذا التحريف (¬1) يمكن أن يراد به العهد (¬2)، فتكون الصالحات هي المعهود التي يتحتم القيام ها كما قدمنا، وقد قال المحقق الرضي في شرح الكافي: إن التعريف العهدي هو الأصل في أقسام التعريف المذكورة في علم النحو والمعاني، والحكم بأصالته يقتض تقديم الحمل عليه، ويمكن أن تكون للجن!، وذلك لا يستلزم الإحاطة بكل أفراد الصالحات، بل يدخل فيها ما يتحتم القيام به دخولا أوليا، ثم يكون ما عدا ذلك على حكمه الذي يتصف به من كونه مسنونا أو مندوبا أو نحو ذلك، فيفعل العبد منها ما يشاء أن يؤجر عليه، ويكثر به ثوابه وتتعاظم به حسناته. واعلم أن هذا النظم القرآني قد دل أكمل دلالة على أن الإيمان الذي هو التصديق لابد أن ينضم إليه العمل كما هو المذهب الحق، وفيه أوضح رد، وأكمل فح لقول من يقول أنه لا يلزم ضم العمل إلي الإيمان كما يذهب إليه بعض المرجئة (¬3). واعلم أنها تتفاوت أقدام المؤمنين في التصديق، فقد يكون إيمان الرجل ثابتا كالجبال الرواسي بحيث لا يتزلزل لشبهة، ولا يتقهقر لشك ولا تشكيك، وقد يكون دون ذلك. ولهذا قال الجمهور (¬4): إن الإيمان يزيد وينقص، وهو الحق، وذلك مما يعلمه كل عاقل، ولا سيما الإيمان بالقدر، فإن بعض أفراد العباد قد يمنحه الله- سبحانه-[9أ] ¬

(¬1) سبق التعليق عليها (¬2) انظر تفصيل دلك في البحر المحيط (3/ 89). (¬3) تقدم التعريف بها (¬4) انظر الفتح (1/ 40)

من الإيمان بقدره ما يثلج به قلبه، وتقر به عينه، ويطمئن إليه خاطره، فيخرج عن مضيق الهموم والغموم والحسرات والكربات إلى متسع التسليم والرضا. مما يجري به القضاء. اللهم ارزقنا الإيمان بقدرك على الوجه الذي تريده منا مع حلول ألطافك الخفية علينا، ووصول توفيقاتك المباركة إلينا. يا من بيده في كله، دقه وجله، وكما تختلف أحوال الإيمان باختلاف الأحوال والأشخاص كذلك يختلف عمل الصالحات باختلاف الأحوال والأشخاص، فالعمل مع الخلوص والتينزه عن شوائب الرياء، والبعد من آفات الغفلة يتضاعف ويكثر ثوابه، ويعظم أجره بخلاف ما لم يكن على هذه الصفة. والآيات القرآنية، والأحاديث النبوية منادية بذلك بأعلى صوت، ففي بعضها التصريح بأن فاعل ذلك العمل يوفي أجره بغير حساب (¬1)، وفي بعضها إلى سبع مائه ضعف (¬2)، وفي بعضها إلى أكثر من ذلك (¬3)، وفي بعضها أن الحسنة بعشرة أمثالها (¬4)، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. فإن قلت: قوله: {وعملوا} يدل على أنه يوفى عمل الصالحات مرة واحدة، لأن الفعل من باب المطلق، فيصدق معناه بالمرة الواحدة، وليس في الصنعة ما يدل على التكرار، وأكثر الأعمال الصالحة التي تحتم على الإنسان واجبة على جهة التكرار، بحيث ¬

(¬1) سها قوله تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} الزمر:10. (¬2) للحديث الذي أخرجه مسلم رقم (1151) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل عمل ابن آدم يضاعف: الحسنة بعشر أمثاها إلى سبعمائة ضعف " (¬3) أخرج البخاري في صحيحة رقم (1904) ومسلم رقم (163/ 1151) وأبو داود رقم (2363) والترمذي رقم (764) والنسائي (4/ 162 - 163) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به ". (¬4) أخرج الترمذي في السنن رقم (2912) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول: (ألم) حرف، ولكن: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف

إنه إذا أخل بشيء منها لم يخرج من الخسران. قلت: الأمر كما ذكرت، ولكن الأدلة من الكتاب والسنة قد دلت على وجوب تكرار ما هو متكرر، والإجماع قائم على ذلك. وهكذا قوله: {الذين آمنوا} فإنه إنما يدل على مجرد وقوع الإيمان، وهو التصديق، وليس فيه ما يدل على وجوب الثبوت عليه، والاستمرار على معناه. ولكن الأدلة الصحيحة قد دلت على ذلك دلالة واضحة ظاهرة، فلا يكون مؤمنا إلا إذا دام على التصديق بتلك الأمور حتى يتوفاه الله (¬1) - عز وجل-. ¬

(¬1) وهو رد على الذين يقولون بأن الإسلام فترة زمنية محددة. وانتهت بنهاية الجيل الأول الذي طلبت منه هذه التكاليف الربانية ولذا فنحن لسنا ملزمين هذا المنهج قي كل زمان ومكان. وهذا الكلام من تضليل المضللين، والمحاربين لهذا الدين والحاقدين على هذه الشريحة الربانية تحت شعارات: الحضارة والتقدم، والمعاصرة، والارتقاء والتطور، ومعايشة المستجدات وما إلى ذلك من الكلام الحق الذي يراد به باطل. وللرد عليهم نقول: 1/ إن نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية أنواع، ففيها المطلق وفيها المقيد والمجمل والمبين، والظاهر والمؤول، فهي ليست على سوية واحدة في معرفة الحكم الشرعي. 2/أجمع العلماء على وجوب تكرار ما هو متكرر في كل زمان ومكان، من يوم ما أوص ها إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ... فالصلاة مطلوب تكرارها، ولا يقول إلا جاهل هذه الشريعة ونصوصها بأنها واجبة مرة واحدة، أو كانت واجبة على الجيل الأول فقط .. وقل مثل ذلك على سائر الواجبات والأوامر والنواهي رما إلى ذلك. والمسلمون في كل زمان ومكان على هذه العقيدة يخالف أحد منهم ولو على سبيل الشذوذ. 3/ لذلك فإن علماء الأصول أصلوا وفرعوا في هذه المسائل، حتى يكون الناس على بينة في هذا الأمر، فقالوا مثلا: الواجب هو ما طلب الشارع فعله من المكلف طلبا لازما، بأن اقترن طلبه. مما يدل على لزوم فعله، أر وهو ما طلب الشارع فعله على وجه الإلزام، سواء أكان ذلك مستفادا من صيغة الطلب نفسها أم من قرينة خارجية. وقسموا الواجب من جهة وقت أدائه إلى: واجب مطلق، واجب مؤقت وقسموه من جهة المطالبة بأدائه إلى: واجب عين، واجب كفائي كما قسموا الواجب من جهة المقدار المطلوب إلى: واجب محدد، واجب غير محدد. كما قسموا الواجب من جهة تعيين المطلوب إلى: واجب معين، واجب غير معين. وقل مثل ذلك في سائر الأحكام. إذن المسألة ليست لعبا ولا عبثا، ولا جاءت من هوى بعض الناس، أو رغبات وشهوات بعض الفلاسفة أو المنكرين، إنما المسألة هنا مسألة وحى والتزام بأوامر الله وإتباع لمنهجه القويم. انظر: مدخل إرشاد الأمة إلى فقه الكتاب والسنة " (ص 241) 0 المسألة: الحكم التكليف وأقسامه. تأليف: محمد صبحي حسن حلاق.

فإن قلت: هل بين هذا التركيب المذكور في هذه الآية وبن قوله- سبحانه- في سورة التين {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (¬1) تقارب ولو من بعض الوجوه؟ قلت: نعم، ولكن على أحد التفسيرين، وهو أن المراد بقوله: {رددناه أسفل سافلين} أنه رد الإنسان إلى أسفل دركات النار (¬2) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [9ب] ناجون من ذلك، فائزون بأجر غير ممنون. ولا ينافي كون جنس العصاة من الكفار وغيرهم أسفل سافلين ما ورد في المنافقين بأنهم في الدرك الأسفل من النار، فلا مانع من كون الكفار والمنافقين والعصاة مجتمعين في ذلك الدرك الأسفل، ويكون قوله: {أسفل سافلين} إما حال المفعول (¬3) أي رددناه حال كونه أسفل سافلين، أو صفة لمقدر محذوف أي مكانا أسفل سافلين، ويكون في سورة التين زيادة ليست في سورة العصر، وهي أن لهم أجرا غير ممضون، وفي سورة العصر زيادة ليست في سورة التين، وهى التواصي بالحق والتواصي بالصبر. وقد روي مثل هذا. . . . . . ¬

(¬1) التين:5 - 6. (¬2) عزاه ابن جرير في " جامع البيان " (15/ ج30/ 245) لمجاهد وقتادة وابن زيد. (¬3) انظر " الدر المصون في علوم الكتاب المكنون " (11/ 52).

التفسير (¬1) عن مجاهد، وأبي العالية، والحسن، بل روى ما يفيد ذلك الخطيب (¬2)، وابن عساكر (¬3) عن الزهري، عن أنس عن النبي صلى الله عليه واله وسلم أن المراد بقوله ¬

(¬1) قال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (20/ 113 - 115): قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} وفيه مسألتان: الأولى: وقد ذكرها الشوكاني آنفا. أما الثانية: قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ}، أي إلى أرذل العمر وهو الهرم بعد الشباب، والضعف بعد القوة، حتى يصير كالصبي في الحال الأول. قاله الضحاك والكلبي وغيرهما. وروى أبي نجيح عن مجاهد: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} إلى النار، يعني الكافر وقاله أبو العالية. وقيل: لما وصفه الله بتلك الصفات الجليلة التي ربما الإنسان عليها، طفي وعلا حتى قال: {أنا ربكم الأعلى} وحين علم الله هذا من عبده، وقضاؤه صادر من عنده. رده أسفل سافلين، بأن جعله مملوعا قذرا، مشحونا نجاسة وأخرجها على ظاهره إخراجا منكرا، على وجه الاختيار تارة، وعلى رجه الغلبة أخرى، حتى إذا شاهد ذلك من أمره رجع إلى قدره. وقرأ عبد الله بن مسعود {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} وقال: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} على الجمع، لأن الإنسان في معنى جمع، ولو قال: أسفل سافل جاز، لأن لفظ الإنسان واحد. وتقول: هذا أفضل قائم. ولا تقول أفضل قائمين، لأنك تضمر لواحد، فإن كاد الواحد غير مضمر له، رجع احمه بالتوحيد والجمع، كقوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33] وقوله تعالى: {إِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} [الشورى: 48] وقد قيل: إن معنى {رددنه أسفل سافلين}، أي رددناه إلى الضلال، كما قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي إلا هؤلاء فلا يردون إلى ذلك. والاستثناء على قول من قال {أسفل سافلين}، النار، متصل ومن قال: إنه الهرم فهو نقطع. (¬2) ذكره السيوطي في " الدر المنثور (¬3) ذكره السيوطي في " الدر المنثور

{ثم رددنه أسفل سافلين} عبدة الأوثان من اللات والعزى، والمراد بقوله: {إلا الذين آمنوا} أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي. ولكن في إسناد هذا الحديث مجهول، فلا تقوم به حجة. وأما على تفسير الجمهور فلا، وهو الظاهر الذي يدلا عليه قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} أي في أحسن شكل وتعديل {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أي إلى أرذل العمر وهو الهرم (¬1) والضعف بعد الشباب والقوة. ولابد على هذا التفسير من حمل الاستثناء على الانقطاع، أي لكن الذين امنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون، ووجه ذلك أن الهرم والرد إلى أرذل العمر يصاب به المؤمن كما يصاب به الكافر، فلا يكون الاستثناء متصلا، ففي التفسير الأول مرجح، وهو حمل الاستثناء على الاتصال الذي هو أصله، وللتفسير الثاني الذي هو تفسير الجمهور مرجح وهو قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} فإن قلت: هل يمكن حمل الاستثناء على الاتصال على ما يطابق تفسير الجمهور؟ قلت: يمكن أن يقال أن الرد إلى أسفل سافلين هو الرد إلى حال ذهاب العقل وسقوط القوى، وذهاب الحواس على وجه شديد بالغ إلى الغاية، والغالب صيانة صالح العباد عن مثل ذلك، واللطف هم عن البلوغ إلى هذه الغاية، فيكون الاستثناء على هذا متصلا، ويكون باعتبار الغالب، وذلك مشاهد محسوس عناية من الله- عز وجل- بأهل الصلاح التام، والهدى القويم. وقد ورد ما يدل على أن المراد في هذه الآية هو التفسير الذي ذهب إليه الجمهور، فأخرج ابن جرير (¬2)، وابن أبي حاتم (¬3)، وابن مردويه (¬4) عن ابن عباس في قوله: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} يقول: يرد ¬

(¬1) عزاه ابن جريري "جامع البيان" (15/ ج30/ 244). (¬2) في جامع البيان (15/ ج30/ 244). (¬3) في تفسيره (10/ 3448 رقم 19409). (¬4) عزاه إليه السيوطى في " الدر المنثور " (8/ 558).

إلى أرذل العمر، كبر حتى ذهب عقله هم نفر كانوا على عهد رسول الله- صلى الله عليه واله وسلم- حين سفهت عقولهم، فأنزل الله عذرهم أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم. وأخرج سعيد بن منصور (¬1)، وعبد بن حميد (¬2)، وابن جرير (¬3)، وابن المنذر (¬4)، وابن أبي حاتم (¬5) قال: في أعدل خلق، ثم رددناه أسفل سافلين يقول: إلى أرذل العمر إلا الذين امنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون، يعني غير منقوص. يقول: إذا بلغ المؤمن أرذل العمر، وكان يعمل في شبابه عملا صالحا كتب له من الأجر مثل ما كان يعمل في صحته وشبابه، ولم يضره ما عمل في كبره، ولم تكتب عليه الخطايا التي تعمل بعدما يبلغ أرذل العمر. وأخرج أحمد (¬6)، والبخاري (¬7)، وغيرهما عن أبي موسى قال: قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " إذا مرر العبد أو سافر كتب اله له من الأجر مثلما كان يعمل صحيحا مقيما ". ويدل على التفسير الذي ذكرناه وجعلناه ثالثا للتفسيرين ما أخرجه الحاكم (¬8) وصححه، والبيهقي في الشعب (¬9) عن ابن عباس قال: " من قرأ القران لم يرد إلى أرذل العمر، وذلك قوله: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قال: " لا يكون حتى لا يعلم من بعد علم شيئا ". ¬

(¬1) عزاه إلي السيوطي في " الدر المنثور " (8/ 556). (¬2) عزاه إلي السيوطي في " الدر المنثور " (8/ 556). (¬3) في "جامع البيان" (115 ج 3/ 246). (¬4) عزاه إليه السيوطي في " الدر المنثور " (8/ 556). (¬5) عزاه إليه السيوطي في " الدر المنثور " (8/ 556). (¬6) في المسند (4/ 410). (¬7) في صحيحة رقم (2996) (¬8) قي المستدرك (2/ 528 - 529) وصححه ووافقه الذهبي (¬9) في الشعب رقم (2076).

فإن قلت: قد تكلمت على مفردات هذه الآية، أعني قوله- سبحانه- {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} ولم تتكلم على مجموعها من حيث محلها، والعرض الذي سيقت له؟ قلت: هي مبتدأة قسمية إنشائية لا محل لها (¬1) من الإعراب. وأما العرض الذي سيقت له فهو ترهيب عباد الله- سبحانه- عن معاصيه، وإهمال م! ا أوجبه على عباده من الإيمان، والعمل، وترغيبهم بالإيمان وعمل الصالحات، وإن ذلك هو الذي يكون به خروجهم من ظلمات الخسر إلى أنوار الإيمان والطاعة، فمن ألقى السمع وهو شهيد [10ب] إلى هذا الوعد والوعيد، والترغيب والتهديد جذبه ذلك إلى خير البداية والنهاية، ونعم الدنيا والآخرة، ونجا من دركات الخسران، ووصل إلى درجات الجنان. ومعلوم أن العقلاء من هذا النوع الإنساني يطلبون الوصول إلى النعيم الأبدي، والعيش الذي لا ينقطع ولا يغني، لأن نعيم الدنيا وإن بلغ في الحسن والرفاهة إلى أرفع الرتب، وأعلى المنازل فهو مكدر بأنه زائل ذاهب، والانتقال عنه قريب وإن ظنه من طاوع كواذب الآمال بعيدا، وكل عاقل يعلم أن كل نعيم يزول، وكل نعمة تذهب، فيكون حزنها أكثر من سرورها، وغمها أعظم من الفرح لها. وقد أحسن المتنبي (¬2) حيث يقول: أشد الغم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا ¬

(¬1) الواو حرف قسم وجر، والعصر مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم المحذوف وجملة إن الإنسان .... جواب القسم لا محل لها، وإن واحمها واللام المزحلقة وقي خمس خبر إن. وانظر: إعراب القرآن الكريم وبيانه محي الدين الدرويش (10/ 572 - 573). (¬2) في ديوانه (3/ 224). وقال أبو البقاء: المعنى يحث على الزهد في الدنيا لمن رزق فيها سرورا ومكانة، لعلمه أنه زائل عنها. يقول: السرور الذي تيقن صاحبه الانتقال عنه هو أشد الغم، لأنه يراعي وقت زواله، ولا يطيب له ذلك السرور.

والآمال بأسرها وإن طالت ذيولها، وبعدت مراميها فآخرها التقضي والذهاب، ولهذا أقول: لا يغرنك طول عمر فإن الحبل ... يطوى من ساعة الميلاد لوله: وتواصوا بالحق. يقال: أوصاه ووصاه بوصية عهد إليه. ومعنى التواصي أنه أوصى به أولهم آخرهم، وهذا ذاك، وذاك هذا. هذا هو المعنى اللغوي. والصيغة تدل على الاشتراك في أصل الفعل كما هو مقرر في علوم اللغة العربية، والحق في الشرع واللغة ضد الباطل، وأصله الثبوت من حق الشيء إذا ثبت، والمحق- المبطل، والمراد هنا أنه وصى بعضهم بعضا. مما يحق القيام به، فيدخل التواصي بالإيمان وبالقيام بأركان الإسلام دخولا أوليا. ومن أهم أنواع التواصي بالحق أن يتواصوا بالأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، ومن أهمها أيضًا أن يتواصوا ببيان ما يعرف بعضهم من بعض أنه مرتكب له واقع فيه من المعاصي والمكروهات، وما يخالف ما يرضاه الله- سبحانه- ويحبه من الأخلاق الصالحة والشمائل المرضية فيما بينهم وبين ربهم، وفيما بينهم أنفسهم. ومن أعظم ما ينبغي [11أ] التواصي به حفظ اللسان من الغيبة والنميمة والسخرية والتينابز بالألقاب، فإن هذه أمور في عنها الكتاب العزيز {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ} (¬1) إلى آخر الآية {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} (¬2) {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} (¬3) الخ. {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} (¬4) {لا يسخر قوم من قوم} (¬5) الآية. {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} (¬6) ¬

(¬1) الحجرات:12 (¬2) القلم:11 (¬3) الحجرات:11 (¬4) الهمزة:1 (¬5) الحجرات:11 (¬6) الحجرات:11

وفي السنة المطهرة (¬1) من النهي عن هذه الأمور، والنعي على فاعلها، والذم له ما يزجر من له شيء إيمان بعضه فضلا عن كله. وإنما يكب الناس على مناخرهم في جهنم حصائد ألسنتهم كما ثبت (¬2) ذلك عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومثل ذلك الكذب بل هو أقبح من كل ذنب، وأشنع من كل معصية. وقد ذم الله مرتكبه. مما هو معروف، ونفى عن فاعله الإيمان فقال: {إنما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله} (¬3) الآية. وورد في السنة المطهرة من ذم الكذب (¬4)، والتينفير عنه ما هو معروف ذلك لك.' ¬

(¬1) (منها) ما أخرجه البخاري رقم (6018) ومسلم رقم (47) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل في أو ليصمت ". (ومنها) ما أخرجه البخاري رقم (11) ومسلم رقم (42) عن أبي موسى رضي الله عنه قلت يا رسول الله، أي المسلمين أفضل؟ قال: " من سلم المسلمون من لسانه ويده ". (ومنها) ما أحرجه مسلم رقم (2589) وأبو داود رقم (4874) والترمذي رقم (1635) عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أتدرون ما الغيبة؟ " قال: الله ورسوله أعلم. قال: " ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن يكن فيه ما تقول فقد بهته". (ومنها) ما أخرجه البخاري رقم (4406) ومسلم رقم (1679) عن أبي بكرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في خطبته يوم النحر. ممن في حجة الوداع: إن دماءكم، وأموالكم، وأعراف! كم، حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلغت؟ " (¬2) أخرجه الترمذي رقم (9 261) وأحمد (15 231) وابن ماجه رقم (3973) من حديث معاذ بن جبل وهو حديث صحيح بطرقه. (¬3) النحل:105 (¬4) الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (6094) ومسلم رقم (2607) وقد تقدم نصه. (ومنها) ما أخرجه البخاري رقم (34) ومسلم رقم (58) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أربع من كن فيه كان منافقا خالص، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النطق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر وإذا

وورد في ذمه من كلام الحكماء، ومواعظ الفصحاء ما يتعظ به كل ذي عقل، ويزجر به كل من له فهم لما ينشأ عن هذه الخصلة السيئة القبيحة من مفاسد الدين والدنيا. والحاصل أن قبحه مما اتفقت عليه الشرائع، وتطابقت على ذمة كتب الله المنزلة على أنبيائه، واتحدت كلمة رسل الله- سبحانه- على قبحه وقبح فاعله. واعلم أن لكل مقام مقالا، فينبغي للإنسان عند ملاقاة من له اشتغال بعمل من الأعمال أن يأخذ في توصيته، مما ينتفع به فيما هو بصدده لمن كان مشتغلا مثلا بالعلم، أن يوصيه بحسن النية أولا، ثم بالاشتغال. مما يعود نفعه عليه من الكتاب والسنة، وما يتوصل به إليهما، ويعن على فهمهما، وكيفية العمل هما ثانيا، ثم الإنصاف وعدم التعصب لمذهب من المذاهب ثالثا، ثم الإرشاد إلى الرد إلى كتاب الله- سبحانه- وسنة رسوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عند الاختلاف رابعا. ثم هكذا يأخذ مع أهل كل صناعة بتوصيتهم. مما ينتفعون به في صناعتهم، ويحفظون به دينهم في مباشراتهم. فلا نطيل الكلام في تعداد أهل الحرف، وأنواع أهل الأعمال، [11ب] فإنه لا يخفى على الذكي الممارس للباس العارف بقواعد الشرع ما يتعلق به النفع أو الضر لكل طائفة من هذه الطوائف، فيأخذ مع كل طائفة فيما يهمها ويخشى منه ضررها، ويرجو فيه نفعها. وبالجملة فهذه الآية كما تدل على ما ذكرنا فقد دل على ذلك الآيات والأحاديث الواردة في الأمر بالمعروف (¬1) والنهي عن المنكر، ودل على ذلك أيضًا قوله تعالى: ¬

(¬1) قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ ِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} آل عمران:104 وقال تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} آل عمران:110 وقال سبحانه وتعالى {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} المائدة:78 - 79 أخرج مسلم في صحيحة رقم (49) وأبو داود رقم (1140) و (4340) والترمذي رقم (2173) والنسائي (8/ 111) وابن ماجه رقم (4013) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: عن رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن يستطع فبلسانه، فإن أ يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان وهو حديث صحيح. أخرج البخاري في صحيحة رقم (2493) عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي قال: " مثل القائم في حدود الله، والواقع فيها، كمثل قوم. استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أ، لا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجو ونجوا جميعا " وهو حديث صحيح.

{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (¬1) وما ورد في هذا المعنى من الآيات والأحاديث، وهو الكثير الطيب. وقد ثبت في الصحيح (¬2) عنه- صدى الله عديه وآله وسلم- أنه قال: " لا يؤمن أحدكم حتى يدبره لأخيه ما يحب لنفسه " فمن فهم هذا الحديث حق الفهم، وتدبره كلية التدبر عرف ما يجب على أهل الأخوة الدينية لبعضهم بعضا، فمعلوم لكل عاقل أن الإنسان يحب لنفسه أن يكون في أعلى منازل الدين، وأرفع منازل الدنيا التي لم تشب. مما يكدرها من الإثم وسوء التبعة، وخطر العاقبة، فإن وجد نفسه أنه يحب لكل فرد من أفراد من جمعته وإياه الأخوة الدينية أن يكون هكذا، فليفرج روعه، ولتقر عينه، ويطمئن قلبه، وينثلج صدره، وإن لم يجد من نفسه محبة ذلك لأخيه فليعلم أنه مفرط في الأخوة الدينية، مفرط في إيمانه الذي لا يتم إلا بذلك، بل لا يثبت من الأصل إلا به، كما تدل عليه تلك العبارة التي تكلم ها الصادق المصدوق- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-. فإن قلت: ما تقول في تفسير .... .... ..... ¬

(¬1) المائدة:2 (¬2) عند مسلم قي صحيحة رقم (72/ 45) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وهو حديث صحيح.

قتاده (¬1) لهذه الآية بأن المراد بالحق القرآن؟ قلت: أقول إنه قد اقتصر على رأس الحق وأساسه وأكمله وأجله وأجمله، ولكن من الحق أيضًا سنة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، ومن الحق ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين من الهدى القويم، والخلق المبارك فيما يتعلق بأمر معاشهم ومعادهم، وتعاملهم، وإن كان غالب ذلك من في الكتاب والسنة، فإنهم متخلقون هما، متقيدون. مما فيهما. ولهذا قالت (¬2) عائشة رضي الله عنها في وصفها لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه كان خلقه القران، مع قوله- عز وجل-: {وإنك لعلى خلق عظيم} (¬3). فإن قلت: فما تقول فيما ذهب إليه بعض المفسرين أن المراد بالحق المذكور في هذه الآية هو التوحيد (¬4)؟ قلت: أقول إن التوحيد هو الباب الذي [12أ] لا يدخل إلى نور الإسلام والإيمان إلا منه، ولا يخرج من ظلمات الكفر والضلال إلا به، وهو الفرقان بين أهل الإيمان، وأهل الكفران، وهو المقدم من أركان الإسلام، ولكنه لا يتم الإسلام به وحده. ولهذا يقول صلى الله عليه واله وسلم في الأحاديث الصحيحة (¬5) الثابتة من طرق كثيرة في جواب من سأله عن الإسلام: هو أن تشهد أن لا إله إلا الله، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، فإذا كان الإسلام لا يتم به على انفراده، فكيف يتم به الإيمان وعمل الصالحات. فإن قلت: هاهنا شيء يقوي تفسير هذا القائل، وهو أن قال أن الإيمان لما كان ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير يما "جامع البيان" (15/ ج.3/ 290). (¬2) أخرجه مسلم رقم (746) وأحمد (6/ 54، 11، 163) وأبو داود رقم (1342) والنسائي (3/ 199 - 200) والدارمي (1/ 344 - 345) وهو جزء من حديث طويل. وهو حديث صحيح. (¬3) [ن:14] (¬4) ذكره القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (20/ 181) عن ابن عباس. (¬5) تقدم تخرج هذه الأحاديث

مذكورا في هذه السورة قبل التواصي بالحق، وكذلك لما كان عمل الصالحات مذكورا قبله كان حمله على التوحيد سائغا مقبولا؟ قلت: إذا كان عمل الصالحات مما تدخل فيه أركان الإسلام دخولا أوليا فقد دخل التوحيد فيها من هذه الحيثية، بل دخوله فيما مقدم على دخول سائر أركان الإسلام، لأنه بأنها الذي يدخل منه إليها، ومفتاحها الذي لا يتيسر لأحد الوصول إليها بدونه، فالتفسير للحق به لم يأت بفائدة لم يتقدم في هذه السورة ما يفيدها. فإن قلت: هذا الإلزام مشترك بينك وبين هذا القائل، فإن عمل الصالحات قد اشتمل على التواصي بالحق على الصورة التي فسرت الآية ها، لأنه من عمل الصالحات. قلت: نعم هو من جملة عمل الصالحات، وكذلك التواصي بالصبر، ولكنهما لما كان يكثر الانتفاع هما، ويتعاظم الأثر الحاصل عنهما كان ذلك وجها لافرادهما بالذكر، وذلك نكتة مسوغة لمثل هذا كما صرح به أرباب المعاني والبيان. فإن قلت: لهذا القائل أن يسلك هذا المسلك الذي سلكته، ويقول أن التواصي بالتوحيد لما كان بالمنزلة التي هو ها حسبما قدمت ذكره صالح لإخراجه من عموم الصالحات؟ قلت: هو وإن تم له هذا فقد ارتكب خلاف ما يدل عليه اللفظ، فإن قصر الحق على التوحيد لم يدل عليه هذا اللفظ القرآني بوجه من الوجوه المعتبرة، فالأولى ما قدمنا ذكره من دخول التوحيد تحت الأعمال الصالحة دخولا أوليا، وحمل التواصي بالحق على ما ذكرنا، فإن ذلك هو الذي يفيده المعنى الذي يجب علينا تفسير كتاب الله- سبحانه- به. فإن قلت: هاهنا إشكال آخر، وهو أنه إن حمل التواصي بالحق على العموم لم يكن في قدرة أحد من العباد ذلك، وإن حمل على الإطلاق الصادق على البعض فما هو؟ قلت: هو محمول على البعض الذي يحق التواصي به كما قدمنا بيانه فلا إشكال.

قوله: {وتواصوا بالصبر} الصبر ضد الجزع، والمراد به هنا الصبر على المكاره (¬1) البقرة: 155 - 157 (¬2) التي تعرض للعبد في بدنه أو أهله أو ماله، فإن من صبر على ذلك لكونه من قدر الله، وما قضى به عليه كأن ذلك صبرا محمودا، ومنه الصبر عن معاصي الله- عز وجل-، والصبر على ما يقوم به من فرائضه من المداومة عليها وإيقاعها على الوجه المأمور به، ولاسيما ما كان يحتاج العالم به إلى مشقة كالجهاد، والحج، وبعض أنواع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. فإن قلت: ما وجه تخصيص التواصي بالصبر بالذكر مع دخوله تحت التواصي بالحق بعد دخوله تحت عمل الصالحات؟ قلت: وجه ذلك أنه لما كان الصبر. منزلة عظيمة، ورتبه فخيمة كما يفيد ذلك قوله- سبحانه- {إن الله مع الصابرين} (¬3)، {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} (¬4) كان إفراده بالذكر بعد قوله تحت ما قبله دليلا على ارتفاع درجته، ومزيد شرفه، كما هو النكتة لذكر الخاص بعد اندراجه تحص عموم متقدم عليه، أو متأخر عنه. ¬

(¬1) قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (¬2) وقال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35.]. وقال تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] وقال تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} لقمان: [17]. قال تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} الرعد: [22]. (¬3) الأنفال:46 (¬4) الزمر:10

فإن قلت: قد ثبت في الكتاب العزيز قوله- عز وجل- {وهو معكم أين ما كنتم} (¬1) وهذا يفيد أنه جميع عباده؟ لمحلت: هذه معية عامة، والتي مع الصابرين معية خاصة دالة على أناقة هذه الخصلة على كل الخصال. وأي فضيلة تداني فضيلة من كان الله معه! وأي مزية توازي مزية من هو من أهل هذه الطبقة الشريفة، والمنزلة السامية ومثل هذه المعية الخاصة قوله عز وجل: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} (¬2) فمن جمع بين التقوى والإحسان استحق هذه المعيه الفاضلة، والمنقبة العالية [13أ]. وقد ورد في شرف (¬3) الصبر ومزيد فضله من الآيات القرآنية، ¬

(¬1) الحديد:4 (¬2) النحل:128 (¬3) قال تعالى: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} البقرة: [153]. وقال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} الشورى: [43]. وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} محمد: [31]. أخرج البخاري في صحيحة رقم (6424) عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يقول الله تعال: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه، إلا الجنة. وأخرج مسلم في صحيحة رقم (2999) عن أبي يحيى صهيب بن سنان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عجبا لأمر المؤمن إن أمره كفه له يخر وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان يضرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان ضرا له. واخرج مسلم في صحيحة رقم (223) عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن- أو تملأ- ما بين السماوات والأرض. والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ". وأخرج البخاري في صحيحة رقم (5653) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" إن الله عز وبئ قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر، عوضته منهما الجنة ". وأحرج البخاري في صحيحة رقم (5641) عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله ها من خطايا، ". وانظر: الصبر في القرآن. للقرضاوي

والأحاديث النبوية ما لو جمع لكان مؤلفا مستقلا. فإن قلت: من يحق التواصي بالصبر (¬1)؟ قلت: يحق إذا رأى الإنسان من أخيه جزعا من أمر قد أصابه، أو من حاجة قد نزلت به، أو من قريب قد فارقه أو في فراقه، أو من عدو قد جاهره بالعداوة، أو نحو ذلك، فيذكر له أن هذا الجزع لا يفيد شيئا، ولا يدفع مكروها، ولا لرد فائتا، وليس له فائدة إلا مجرد فوت نواب المصيبة مع ضم مصيب الجزع إلى مصيبة ما وقع الجزع لأجله، ويبين له أن تعذيب الإنسان نفسه بالهم والغم فيما لا يمكن دفعه، ولا يقدر العبد على استدراكه شعبة من الجنون، وما أحسن قول الشاعر: أرى الصبر محمودا وعنه مذاهب ... كيف إذا ما لم يكن عنه مذهب هناك يحق الصبر والصبر واجب ... وما كان منه للضرواة أو جب وقد اتفق العقلاء جميعا مسلمهم وكافرهم على أن الجزع لأجل أمر قد فات وتعذر استدراكه قبيح عند جميع العقلاء، لأنه تعذيب للنفس فيما لا يمكن رجوعه، ولا يرجى إدراكه فهو مفسدة خالصة خالية عن النفع بوجه من الوجوه، فلا فرق بينه وبن من يضرب نفسه بشيء يؤلمه، لا لسبب يقتضى ذلك، ولا لعلة توجبه، بل عبثا ولعبا، بل ¬

(¬1) قال ابن قيم الجوزية في " مدارج السالكين " (2/ 178): والصبر في اللغة الحبس والكف. ومنه قتل فلان صبرا، إذا امسك وحبس. ومنه قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} الكهف: [28] أي احبس نفسك معهم. فالصبر: حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش

ضرر الجزع أشد، فإن أهل الطب اتفقوا على أنه يضر بالأبدان ضررا شديدا، وتتولد بسببه العلل الصعبة الشديدة التي يصعب الخلوص عنها بالأدوية. وما أحسن قول القائل: ولا يرد عليك الفائت الحزن فإن قلت: قد دل ذلك النظم القرآني على أنه لا نحرج من الخسر اللازم لكل إنسان إلا. مما ذكر بعد حرف الاستثناء من الإيمان، وما عطف عليه من عمل الصالحات ومن التواصي بالحق والتواصي بالصبر (¬1)، مع أن مثل التواصي بالصبر على الصفة إلى ذكرناها لي بواجب، وغاشه أنه من احمد المندوبات، ومن أفضل ما يؤجر عليه الإنسان من الصالحات، ولكنه لا يوجب تركه البقاء ني الخسر، ولو أوجب ذلك لكان واجبا لا مندوبا، ولم يقل أحد من أهل العلم [13ب] بأنه واجب على ثلث الصفة، بل من الموعظة الحسنة والدعاء إلى في الخالص؟ قلت: لا شك أن بعض التواصي بالصبر واجب، وذلك حيث يكون الصبر واجبا متحتما على صاحبه، والجزع حرام عليه، وذلك كالصبر عن معاصي الله- سبحانه-، والصبر على طاعاته الواجبة، فإنه يجب على كل مسلم (¬2) الصبر على ذلك، وعدم الوقوع فيما يؤدي إليه ترك الصبر من الإقدام ¬

(¬1) قال ابن القيم في مدارج السالكين (2/ 188 - 190): الصبر ثلاث درجات: الدرجة الأولى: الصبر على المعصية،. مطالعة الوعيد، وإبقاء على الإيمان وحذرا من الحرام، وأحسن منها: " الصبر على المعصية حياء " الدرجلي النية: الصبر على الطاعة، بالمحافظة عليها درما، وبرعايتها إخلاصا وبتحسينها علما. الدرجة الثالثة: الصبر على البلاء،. ملاحظة حسن الجزاء، وانتظار روح الفرج وقوين البلية بعد أيادي المنن، وبذكر سوالف النعم. (¬2) من الأمور التي تعين على الصبر، وتهونه على النفس:- أ/ المعرفة طبيعة الحياة الدنيا: بأنها دار ابتلاء وتكليف، لا دار جنة ونعيم، وهذه الحياة الدنيا خلقها الله تعالى مخلوطة فيها اللذائذ بالآلام، وقيل لعلى بن أبى طالب رضي الله عنه: صف لنا الدنيا؟ فقال: ماذا أصف لك من دار أولها بكاء وأوسطها عناء، وآخرها فناء؟! ب/ معرفة الإنسان نفسه، بأنه ملك لله تعالى أولا وآخرا، ولذلك فإن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، ولابد أن يخلف الدنيا وراء ظهره وقديما قال لبيد الشاعر: وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولابد يوما أن ترد الودائع ج/ اليقين بحسن الجزاء عند الله: كما قال تعالى في "سورة النحل:96: أ {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} د/ اليقين بالفرج: وذلك بأن يوقن بأن نصر الله قريب وأن فرجه آت لا ريب فيه، وأن بعد الضيق سعة، وأن بعد العسر يسرا قال تعالى: في "سورة الشرح:5 - 6: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} 5/ الاستعانة بالله: ومما يعين المبتلى على الصبر أن يستعين بالله تعالى ويلجأ إلى حماه، فيشعر. بمعيته سبحانه، وأنه في حمايته ورعايته، ومن كان في حمى ربه فلن يصام قال تعالى في "سورة الطور الآية: 48" مخاطبا رسوله: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا}. و/ الإقتداء بأهل الصبر والعزائم: قال تعالى في "سورة الأحقاف الآية: 35": فاصبر كما {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} وقال تعالى في "سورة الأنعام الآية: 90" {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} ز/ الإيمان بقدر الله وسننه: وذلك بأن يؤمن بأن قدر الله نافذ لا محالة، وأن ما أصابه لم يكن ليخطه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. جفت الأقلام، وطويت الصحف قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} ح/ الحذر من الآفات العائقة عن الصبر: ولا بد للإنسان عامة، وللمؤمنين خاصة، وحملة الدعوات على وجه أخص، إدا أرادوا أن يعتصموا بالصبر أن يحذروا من الآفات النفسية التي تعوقه وتعترض طريقه، من هذه الآفات التي أشار إليها القرآن:- (1): الاستعجال: قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35] (2): الغضب: قال تعالى في "سورة القلم الآية: 48: {فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم}

على معاصي الله، والوقوع في المحرمات، وما يؤدي إليه ترك الصبر على فرائض الله من الوقوع في الإخلال ها، والإهمال لما تحتم عليه القيام به منها، فإنه إذا كان الأمر هكذا وجب على من علم ذلك الأمر له بالصبر من باب وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهما واجبان عند وجود سببهما المفضي إلى ترك ما يجب، وفعل ما يحرم. ولا إشكال في مثل هذا. وهكذا التواصي بالحق يحمل على النوع الذي يجب منه. وذلك إذا كان قد وقع الإخلال. مما يجب التمسك به من الحق الذي يحق على كل مسلم القيام به، فإنه حينئذ يكون التواصي بلزومه والتمسك به واجبا على كل مسلم، لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما واجبان عند عروض سببهما المفضي إلى ترك ما يجب، وفعل ما يحرم كما قدمنا. وهكذا عمل الصالحات، فإنه يحمل على ما يجب فعله منها، أو يستلزم تركها الوقوع في محرم من المحرمات. هكذا يجاب عن ذلك الإشكال، وإن كان التواصي بالحق والتواصي بالصبر مشروعين لكل مسلم في كل حال، وعلى كل وجه، وفاء بحق العموم الذي أرشد إليه الكتاب العزيز، وجاءت به السنة المطهرة. فالحاصل أنه يخرج العبد عن الخسر بالقيام. مما يجب عليه من عمل الصالحات، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر. ويحسن منه ويندب له أن يقوم بإرشاد أخيه إلى الحق والصبر

في كل موطن من المواطن التي يكون الإرشاد إليها حسن جميل، فإن ذلك من باب النصيحة التي يقول فيها الصادق المصدوق- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " الدين النصيحة" (¬1). وأنت خبير. مما يفيده هذا التركيب المصطفوي من الحصر الدال على المبالغة في شأنها [14أ]، وأنها هي الفرد الكامل من أفراد الدين، بل قد جعلها الشارع من حق المسلم على المسلم، كما ثبت في الصحيحين (¬2) وغيرهما: " أن حق المسلم على المسلم إذا لقيه أن يسلم عليه، وإذا عطس أن يشمته، وإذا دعاه أن يجيبه، وإذا مرض أن يعوده، وإذا مات أن يتبعه، وإذا استنصحه أن ينصحه ". فالتواصي بالحق والتواصي بالصبر شعبة من شعب النصيحة، ونوع من أنواعها، وكما يكون فيهما ما هو واجب كذلك يكون في أفراد النصيحة ما هو واجب، فإن قال من يتقيد بعلم الأصول، ويمشى على طرائقه- أن هذا من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز، وهو لا يجوز. قلنا له: نحن نمنع أن يكون هذا من الجمع، بل هو من العمل. مما يفيده اللفظ، وتقتضيه الصيغة. والاقتصار على البعض لدليل اقتضى ذلك، ولو سلمنا فنحن نمنع معه أيضًا عدم الجواز فيما نحن بصدده، فإنه يمكن أن يراد معنى يشملها ويعبر به عنهما، فيكون ما ذكرناه من عموم المجاز لا من الجمع بين الحقيقة والمجاز، على أنه يمكن أن يقال: إن ذلك من الجمع بين معنيين المشترك، وهو سائغ مقبول على ما هو المذهب الحق من تلك المذاهب المدونة في الجمع بين معنيي المشترك. وهكذا يقال في قوله: {وعملوا الصالحات}، وهكذا يقال في النصيحة. فإن قلت: هذا التواصي بالحق، والتواصي بالصبر إذا كان مع من يقبل ذلك، ¬

(¬1) تقدم تخريجه (¬2) أخرجه البخاري رقم (1240) ومسلم رقم (2162) عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله كل قال: " حق المسلم على المسلم خمس، رد السلام وعيادة المريض وإتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس "

وينعمل له فهو شأن المؤمنين مع بعضهم البعض، وديدنهم وهجيراهم، وربما كان بعضهم لا يقبل ذلك، ولا ينعمل له، ولا ينقاد لمن وصاه بالحق، ووصاه بالصبر؟ قلت: الكلام هنا مع أهل الإيمان، ولهذا عطف على الذين امنوا وعملوا الصالحات بالحرف المقتضي للجمع بين المعطوف والمعطوف عليه، وشأن أهل الإيمان قبول ذلك، والإنعمال له، والانقياد لقائله، وشكره على ذلك، والدعاء له، وأما ما ذكرت فهو من أخلاق الجبابرة، وجفاه المنتسبين إلى الإسلام فلسنا بصدد الكلام معهم، لكن إذا كان التواصي بالحق والتواصي بالصبر (¬1) واجبا على الصفة التي قدمنا فقد عرفناك أنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، [41أ] وهو واجب على كل مسلم لكل من ارتكب محرما، أو ترك واجبا فعلية أن يقوم بعرضه، ويصك به وجه من استحقه، ورغم به أنفه، فإن قدر على أن يحمله على ذلك شاء أم أبى فهو الواجب على من وجد من نفسه قوة على ذلك، وإن عجز عن ذلك فلا أقل من أن ينكره بلسانه، وإن بلغ في الضعف إلى حد يعجز عن الإنكار باللسان، أو يخشى على نفسه مالا يستطيع دفعه عن نفسه ففي الإنكار بالقلب رخصة له، لما ثبت (¬2) عنه صلى الله عليه واله وسلم أنه قال: " من رأى ¬

(¬1) قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (2312): ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه بل يحبط عليه فعله فإن الذكرى تنفع المؤمنين. وقال العلماء: " ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأصحاب الولايات بل ذلك جائز لآحاد المسلمين. وقال الشيخ الدكتور عبد الكريم زيدان في " أصول الدعوة " (ص 267) إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب الأمة جمعاء فكل مسلم علم بالمنكر وقدر على إنكاره وجب عليه دلك لا فرق في دلك بين حاكم ومحكوم أو عالم أو عامي قال تعالى: & كنتم خير أمه أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله "آل عمران:110". والحطاب للأمة عامة وكذلك أكتر نصوص الخطاب فيها عام لجميع أفراد الأمة ولكن المسؤولية تتأكد على صنفين من الناس وهما العلماء والأمراء (¬2) تقدم تخريجه.

منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه ". وقد كان السلف الصاع من الصحابة والتابعين وتابعيهم ينكرون ما علموه منكرا بأفعالهم وأقوالهم، ويكافحون بذلك الملوك والأمراء اللهم غفرا، اللهم غفرا، اللهم غفرا للمقصرين من عبادك في القيام هذه الخصلة التي هي أبين دين الإسلام، ورأس قواعده، وأعظم ما يحفظ به هذه الشريعة المطهره عن انتهاك العصاة، وتلاعب المتمردين. وهاهنا مفسدة عظيمة ترك ها كثير من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصارت ذريعة شيطانية للمداهنن في دين الله، وهي ما وقع في بعض كتب الفروع من جعل ظن التأثير شرطا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا شرط لم يدل عليه كتاب الله، ولا سنة رسوله، فهو تسمك بالهباء، وتعلل. مما هو على شفا جرف هار. ومع هذا فإنهم يجعلون ذلك تعفة لهم وعذرا، وهم يعلمون أن التكلم بالحق، مما أمر الله به، وأرشد عباده إليه لا يستطيع أحد رده كائنا من كان، وإن بلغ في التمرد عن الحق، والتجبر في الدين إلى يقصر عنه الوصف، فإنه إذا عذلك فغايته أن يذكر لنفسه المعاذير والعلل المعتلة. وقد وقع في قلبه ما وقع، واستحى من الناس أن يتظهر بذلك أو يتجاهر به، وهذا أقل ما يحصل معه، فما ذكره من يحق عليه القيام بذلك أنه ظن عدم التأثير فهو كاذب على نفسه، كاذب على ربه، كاذب على عباد الله الصالحين. فمالك لا كثر الله في عباده من أمثالك، وللاستدلال لما أنت فيه من الدهان، والسكوت على المتجرين على معاصي الله، المنتهكين لحرماته، المتعدين لحدوده هذا الدليل الباطل من وجهه الأول [15أ] أنه غلط من قائله، باطل من أصله. الثاني أن ما تزعمه من الظن الحاصل لك هو من بناء الباطل على الباطل، وترتيب المختل على المختل، فإن كنت لا تعلم بالوجه الأول فاعلمه الآن، فإن تقصيرك في علم الشرع أوقعك في تقليد من قال بالباطل. وأما الثاني فأسا تعلمه من نفسك، فإن شككت في ذلك فافعل ما أمرك الله به من الأمر بالمعروف عند عروض ذلك الظن الشيطاني لك، حتى تعلم فساده، وتتيقن بطلانه، ويصفر صبح هدايتك، ويطلع بدر

رشادك. ولكن عليك قبل ذلك. ممرهم نافع، وترياق شاف، وهو أن تحسن النية، وتوطن نفسك على أنك لم تفعل ذلك إلا للوفاء. مما أوجبه الله عليك، وأخذه على أمثالك، واغسل عن قلبك محبة أن يقال قال فلان بالحق، تكلم بالصواب، أنكر المنكر قام. مما أمره الله به، فإن هذه الوساوس الشيطانية، والخواطر الخذلانية تكون سببا لعدم تأثير ما جئت به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد تظن عدم تأثير ما جئت به لا لهذا السبب فتقول بعد ذلك: لا أظن التأثير. وإذا عرفت العلة علمت أن للتكلم بالحق تأثيرا في كل العباد، وعلى كل معاند ومتمرد كائنا من كان، وسأقص عليك واقعة صحيحة اشتملت عليها كتب التاريخ المعتبرة، وهى أن بعض صلحاء العباد القائمين. مما أوجب الله عليهم من هذا التكليف رأى عشرة آنية مملوءة خمرا مع بعض خدم الملوك، يريد أن يوصل ذلك إلى الملك، وعد سافر به من أرض بعيدة، فأخذ عصاه، ثم ما زال يضرب تلك النية ها حتى كسر تسعة منها، ثم وقف على العاشر فأمسك العصا ولم يكسره فبمجرد ما فعل ذلك ذهبوا به إلى الملك، وقالوا: فعل وفعل، وقد ظنوا وظن من هو مشاهد لذلك أنه سيقتل، فأوصلوه إلى الملك فارتجف لعصاته، واضطرب حاله، وعراه من الهيبة ما لا يقدر قدره، وغاية ما وقع منه أنه قال له: فعلت هكذا؟ قال: لأن الله- سبحانه- حرم ذلك، وأوجب على عباده إنكاره وتغييره، فقال له، فلأي سبب تركت واحدا منها؟ قال لما كسرت اقصر. في نفسي شيئا من المجاب فتركت ذلك لئلا أكسره وقد انضم إلى تلك النية هذا الخاطر القبيح، فلم يقل له شيئا، وخرج سالما، وقام. مما أمره الله- سبحانه- به. وكم وقع من التأييد الرباني، والنصر الإلهي لكثير من القائمين هذا الواجب العظيم، وقد اشتملت عليه كتب التاريخ. فمن كان له نظر فيها فهو بذلك غير محتاج إلى التنبيه عليه. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. وحسبنا الله ونعم الوكيل. فرغ منه مؤلفه محمد بن على الشوكاني غفر لله لهما في فار السبت لعله سادس عشر شهر شوال سنة 1237 هـ.

الحديث وعلومه

القسم الثالث الحديث وعلومه

إتحاف الأكابر بإسناد الدفاتر

إتحاف الأكابر بإسناد الدفاتر تأليف العلامة محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط (أ): عنوان المخطوط: إتحاف الأكابر بإسناد الدفاتر. موضوع الرسالة: في علم الإسناد. أول المخطوط: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي حمى حمى هذه الشريعة الغراء بأئمة أمجاد قيدوا شواردها وجمعوا أوابدها بسلاسل الإسناد، فتصت الهداية باتصال الرواية، وكملت العناية ببلوغ الغاية من الدراية، وصارت الأسانيد المتصلة لمعهد العلوم كالأسوار، ولمعاصم المعارف كالسوار .... آخر المخطوط: وإلى هنا انتهى ما قصدت جمعه من الأسانيد على هذا الترتيب العجيب، والتقريب الغريب وكان الفراغ من تحريره في وسط ليلة الخميس لعله خامس عشر شهر جمادي الأخرة سنة (1214) بقلم مؤلفه محمد بن على ابن محمد الشوكاني غفر الله لهم. نوع الخط: خط نسخ معتاد. عدد الصفحات: 75 صفحة. عدد الأسطر في الصفحة: 26 - 28 سطرا. عدد الكلمات في السطر: 11 - 13 كلمة. الناسخ: بخط المؤلف محمد بن علي الشوكاني. الرسالة ضمن المجلد الثالث من " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني ".

وصف المخطوط (ب): عنوان الرسالة: إتحاف الأكابر بإسناد الدفاتر. موضوع الرسالة: في علم الإسناد. أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الذي حمى حمى هذه الشريعة بأئمة أمجاد قيدوا شواردها وجمعوا أوابدها بسلاسل الإسناد فتمت الهداية باتصال الرواية ... آخر الرسالة: "وإلى هنا انتهى ما قصدت جمعه من الأسانيد على هذا الترتيب العجيب، والتقريب الغريب ". نوع الخط: خط نسخط جيد. عدد الصفحات: 41 صفحة + صفحة العنوان. عدد الأسطر في الصفحة: 33 - 34 سطرا. عدد الكلمات في السطر:15 - 17 كلمة. الناسخ: أحمد بن رزق السياني. تاريخ النسخ: 1289 هـ.

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الذي حمى حمى هذه الشريعة الغراء بأئمة أمجاد قيدوا شواردها وجمعوا أوابدها بسلاسل الإسناد، فتمت الهداية باتصال الرواية، وكملت العناية ببلوغ الغاية من الدراية، وصارت الأسانيد المتصلة لمعاهد العلوم كالأسوار، ولمعاصم المعارف كالسوار، ترويها الأكابر عن الأكابر ويحفظوها في صدورهم لا في سطور الدفاتر والصلاة والسلام على خير الأنام واله الكرام وبعد. فإن الله سبحانه لي من على بلقاء مشايخ أعلام أحدث عنهم بالسماع والإجازة بعض مصنفات أهل الإسلام ووجدت رواياتهم قد اتصلت بالمصنف وتسلسلت بعلماء الدين المحققين، رغبت إلى جمع ما أرويه عنهم من المصنفات في هذه الورقات ورتبت المرويات على ترتيب حروف المعجم تقريبا وتسهيلا وضبطا للانتشار وتقليلا لينتفع بذلك من رام الانتفاع به لا سيما تلامذتي الذين أخذوا عني بعضا من هذه المصنفات وقد جمعت في هذا المختصر كل ما ثبتت لي روايته بإسناد متصل. مصنفه سواء كان من كتب الأئمة من أهل البيت وكل أو من كتب غيرهم من سائر الطوائف الإسلامية هم الله في جميع فنون العلم وقد اقتصرت في الغالب على ذكر إسناد واحد وأحلت في أسانيد البعض على البعض طلبا للاختصار ولو استقصاء ما نبت لي من الطرق لطال الكلام وسأذكر في أسانيد الصحيحين من حرف الصاد إن شاء الله غالب ما تحت لي من الطرق فيهما عن مشايخي ليعلم الواقف على هذا المختصر صحة ما ذكرته من تعدد الطرق في كل كتاب لولا مراعاة الاختصار وسأذكر في حرف الميم إن شماء الله إسناد مؤلفات جماعة من العلماء على العموم ليكون ذلك أكثر نفعا وأعم فائدة وعيت هذا المختصر " إتحاف الأكابر بإسناد الدفاتر". والله ينفع بذلك ويجعله من القرب المقبولة.

حرف الهمزة 1 - (الإبانة للشيخ أبي جعفر الهوسي (¬1): على مذهب الإمام الناصر: أرويها عن شيخي (¬2) السيد الإمام عبد القادر بن أحمد ¬

(¬1) محمد بن يعقوب الهوسي أبو جعفر عالم مجتهد، فقيه من علماء الزيدية في الجبل والديلم من تلاميذ الإمام أبي طالب يحيى بن الحسن الهاروني توفي سنة 455 هـ. من مصنفاته: - الإبانة: جمعه أبو جعفر محمد بن يعقوب الهوسي من فقه الناصر الأطروش وهو في أربع مجلدات. - الإفادة. في فقه الأئمة السادة. - الكافي قي شرح الوافي. أعلام المؤلفين الزيدية ص 1023، مؤلفات الزيدية (1/ 31) (¬2) وهذا من أشهر شيوخه وأساتذته على الإطلاق، ولذلك فقد أكثر من ذكر طرقه في الإجازات المذكورة في هذا الكتاب. وقد ترجم له في البدر الطالع ترجمة مطولة نذكر منها هذه المقتطفات: قال الشوكاني: قي البدر الطالع (360"): " السيد عبد القادر بن أحمد بن عبد القادر بن ناصر أبى عبد الرب بن علي لن شمس الدين بن الإمام شرف الدين بن شمس الدين بن الإمام المهدي أحمد بن يحيى. وهو شيخنا الإمام المحدث الحافظ المسند المجتهد المطلق، ولد كما نقلته من خطه قي شهر القعدة سنة "35هـ ونشأ بكوكبان ". وقال في (1/ 361): " قد طار صيته في جميع الأقطار اليمنية، وأقر له بالتفرد في جميع أنواع العلم كل أحد بعد موت شيخه السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير. وإني أذكر وأنا في المكتب مع الصبيان، أني سألت والدي رحمه الله عن أعلم من بالديار اليمنية إذا، فقال: فلان يعني صاحب الترجمة وقال في (1/ 363): " والحاصل أنه من عجائب الزمن، ومحاسن اليمن، يرجع إليه أهل كل فق في فنهم. وقال في (1/ 365): " وبالجملة فلم تر عيني متله قي كمالاته، ولم آخذ عن أحد يساويه في مجموع علومه ولم يكن بالديار اليمنية في آخر مدته له نظير ". وقال في (1/ 366): " وقد أجازني إجازة عامة كتبها إلى"

ابن عبد القادر بن الناصر بن عبد الرب بن على بن كس الدين بن الإمام شرف الدين. عن شيخه السيد العلامة أحمد بن عبد الرحمن الشامي عن السيد العلامة الحسن بن أحمد زيارة عن شيخه القاضي العلامة أحمد بن صاع ابن أبي الرجال. (ح-) وأروي ذلك عن شيخنا السيد عبد القادر المذكور عن السيد العلامة يوسف ابن الحسين زيارة عن أبيه عن القاضي أحمد المذكور. (ح) وأروي ذلك عن شيخنا السيد العلامة علي بن إبراهيم بن على بن إبراهيم بن أحمد بن عامر الشهيد عن شيخه العلامة حامد بن حسن شاكر عن السيد العلامة أحمد ابن يوسف بن الحسين بن الحسمن بن القاسم عن السيد العلامة إبراهيم بن القاسم ابن المؤيد عن شيخه السيد الحسين بن أحمد زبارة عن شيخه أحمد بن صالح بن أبي الرجال قال أخبرنا شيخنا القاضي صفى الدين أحمد بن سعد الدين المسوري أخبرنا الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم أخبرنا الإمام القاسم بن محمد أخبرنا السيد أمير الدين بن عبد الله أخبرنا السيد أحمد بن عبد الله أخبرنا الإمام شرف الدين ير بن يحيى الدين أخبرنا السيد صارم الدين إبراهيم بن محمد أخبرنا الإمام المطهر بن محمد بن سليمان أخبرنا الإمام المهدي أحمد بن ير أخبرنا الفقيه محمد بن يحي أخبرنا القاسم بن أحمد بن حميد أخبرنا أبي عن أبيه عن الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة عن شيخه محي الدين وعمران بن الحسن عن يوسف اللاهجاني عن أبي منصور بن علي بن أصفهان عن أبيه عن أبي علي ابن أموج عن الأستاذ يعقوب بن الشيخ أبي جعفر الهوجمي عن أبيه المؤلف رحمه الله. 2 - (الإتقان (¬1) للسيوطي): ¬

(¬1) هو كتاب " الإتقان في علوم القران " .. من أجع وأنفع وأشمل الكتب التي في تحديث عن علوم القرآن ... وهو كتاب مطبوع متداول، بل ومقرر في بعض الجامعات.

أرويه بالإسناد الآتي قريبا في الإحياء إلى البابلي عن أبي النجا سالم بن محمد عن محمد بن عبد الرحمن العلقمي عن المؤلف. 3 - (الاثمار (¬1) للإمام شرف الدين (¬2) أرويه بالإسناد المتقدم إليه رحمه الله. 4 - (الأحكام للإمام الهادي ير بن الحسين (¬3) ¬

(¬1) " الأثمار في فقه الأئمة الأطهار " وهو مختصر لكتاب (الأزهار) وهو كتاب جده المشهور الإمام العلامة المهدي أحمد بن ير المرتضى وهو من أشهر كتب الفقه في المذهب الزيدي. انظر: " الإمام الشوكايى رائد عصره " ص 264 - 272. (¬2) هو الإمام المتوكل على الله، يحيى شرف الدين بن شمس الدين ابن الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى 8771 - 965 هـ بحصن حضور قرأ على جماعة من العلماء منهم عبد الله بن أحمد الشظبي في التذكرة، وعبد الله بن يحيى الناظري، وعبد الله بن مسعود الحوالي له (23) مؤلفا بين كتاب ورسالة. توقي سنة 965 هـ ودفن بحصن الظفير. انظر: البدر الطالع (1/ 278 - 280) مصادر الفكر الإسلامي في اليمن ص 65 للحبشي. (¬3) يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم الرسي، (245 - 218هـ) ولد بجبال الرس من الحجاز، قرب المدينة المسورة ونشأ في بيئة علمية وقد حضر إلى اليمن سنة 280 هـ. لأول مرة، كانت له حروب مع القرامطة. توفي سن 298 هـ ودفن بصعدة. من مصنفاته والى بلغت (77) ما بين كبير وصغير. - أحوبة مسائل الرازي، أجوبه مسائل الطبري، أجوبة مسائل الكوفي، كتاب الإرادة والمشيئة. - الأحكام الجامع لقواعد دين الإسلام. كتاب فقه معروف فيه شيء من الأدلة على الأحكام وعناوينه " باب القول ... " بدأ فيه بالأصول الإعتقادي مختصرا جدا وأتمه بأبواب في الآداب والأخلاق ألف منه بالمدينة المنورة إلى كتاب البيوع وخرج إلى اليمن وأملى بقيته على طلابه حال فراغه من الجهاد والحرب. رتبه أبو الحسن علي بن حسن ابن أحمد بن أبي حريصة إذ وجده أبوابا متفرقة. طبع لبيروت سنة 1410 في جزأين انظر: الأعلام للزركلي (8/ 141). مؤلفات الزيدية (1/ 80). أعلام المؤلفين الزيدبة ص"03. " مصادر الفكر " للحبشي ص 563.

أرويه بالإسناد المتقدم إلى الإمام شرف الدين عن السيد إبراهيم بن محمد عن أبي العطايا عن أبيه، عن الإمام المطهر بن محمد بن المطهر عن أبيه عن جده، عن الفقيه محمد ابن أحمد بن أبي الرجال عن الإمام أحمد بن الحسين، عن شيخه شعلة الأكوع عن محي الدين عن أبيه الإمام أحمد بن سليمان عن إسحاق بن أحمد بن عبد الباعث عن عبد الرزاق بن أحمد عن الشريف علي بن الحارث عن محمد بن الحسن الطهري عن محمد بن ألب الفتح عن الإمام المرتضى محمد بن الهادي عن أبيه المؤلف رحمه الله. 5 - (الإحياء للإمام الغزالي (¬1): أرويه عن شيخنا السيد عبد القادر بن أحمد عن محمد حياة السندي عن الشيخ سالم ابن الشيخ عبد الله بن سالم البصري الشافعي المكي عن أبيه عن الشيخ محمد بن علاء ¬

(¬1) الإمام محمد بن محمد بن أحمد الطوسي أبو حامد الغزالي (ت:505هـ). "الإحياء" أثار ضجة كبيرة بين الناس، بين مادح له وقادح. وقد حفله تحليلا علميا رائعا شيخ الإسلام في " مجموع الفتاوى" (10/ 55) حيث قال: " الإحياء " فيه فوائد كثيرة. لكن فيه مواد مذمومة، فإنه فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة، تتعلق بالتوحيد والنبوة ا والمعاد، فإذا ذكر معارف الصوفية كان. بمنزلة من أخذ عدوا للمسلمين، ألبسه ثياب المسلمين، وقد أنكر أئمة الدين على أب حامد هذا في كتابه وقالوا: مرضه (الشفاء)! يعني شفاء ابن سينا في الفلسفة وفيه أحاديث وآثار ضعيفة. بل موضوعة كثيرة، وفيه أشياء من أغالي الصوفية وترها، وفيه مع ذلك من كلام المشايخ الصوفية العارفين المستقيمين في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة .... " وقال الإمام الذي في السير (19/ 339): أما الإحياء ففيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كثير، لولا ما فيه من آداب ورسوم وزهد من طرائف الحكماء، ومنحرفي الصوفية.

الدين البابلي المصري ح- وأرويه عن شيخنا المذكور عن السيد سليمان بن يحيى بن عمر الأهدل عن أحمد بن محمد الأهدل عن أحمد بن محمد النخلي عن شيخه محمد بن علاء الدين البابلي ح- وأرويه بالإسناد المذكور إلى أحمد بن محمد الأهدل عن يحيى بن عمر الأهدل عن النخلي المذكور عن البابلي. ح- وأرويه عن شيخنا المذكور عن عبد الخالق بن أبي بكر المزجاجى (¬1) عن ير بن عمر الأهدل عن النخلي عن البابلي. ح- وأرويه عن شيخنا السيد العلامة علي بن إبراهيم بن عامر عن أبي الحسن السندي عن محمد حياة السندي بإسناده المذكور إلى البابلي. ح- وأرويه عن شيخنا العلامة يوسف بن محمد بن علاء الدين الزجاجي الزبيدي عن أبيه يحي بن عمر بإسناده المتقدم إلى البابلي. ح- وأرويه عن شيخنا العلامة صديق بن علي المزجاجي عن السيد سليمان بن يحي بن عمر عن السيد أحمد بن محمد الأهدل بإسناده إلى البابلي. ح- وأرويه بالإسناد السابق في كتاب الإبانة إلى القاضي أحمد بن صالح بن أبي الرجال عن البابلي المذكور قال البابلي يرويه عن سليمان بن عبد الدائم عن النجم محمد بن أحمد الغيطي عن الأمين محمد بن أحمد بن عيسى النجار عن الشيخ جلال الدين بن الملقن عن أبي إسحاق إبراهيم ابن أحمد التنوخي عن سليمان بن حمزة عن عمر الدينوري عن عبد الخالق ابن أحمد بن عبد القادر بن يوسف عن المؤلف. وكذلك سائر مصنفاته رحمه الله. ¬

(¬1) هو الشيخ عبد الخالق بن الزين بن محمد بن الصديق بن عبد الباقي بن الصديق بن الزين بن إسماعيل المزجاجي الحنفي الزبيدي، أخذ عن جماعة من العلماء منهم السيد يحي بن عمر مقبول الأهدل، وأخذ عنه جماعة من أعيان أهل العلم منهم محمد بن إسماعيل الأمير، توفي سنة ("52 هـ) ودفن بصنعاء. انظر: " ملحق البدر الطالع " (ص "4 - "5). تأليف: محمد بن محمد بن يحي زبارة

6 - (الاختيارات (¬1) للإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة (¬2): أرويها بالسند المتقدم في كتاب الإبانة المتصل بالمؤلف وكذلك أروي سائر مصنفاته. 7 - (آداب البحث): أرويها بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن أبي الإرشاد علي بن محمد الأجهوري عن عمر ابن الجائي عن أبي الفضل السيوطي قال أخبرني الشمس محمد بن أحمد المخزومي عن التقط يحيى بن أبي الشمس محمد بن يوسف الكرماني عن أبيه عن المؤلف (¬3) وكذلك سائر مصنفاته. 8 - (الأدب المفرد للبخاري): أرويه بالإسناد السابق إلى البابلي عن الشيخ صالح بن الشهاب البلقيني عن الشمس الرملي عن الزين زكريا بن محمد عن أبي الفضل الكفاني قال: قراءته على الشرف أبي بكر ابن عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن جماعة سماعة عن جده البدر قال: أخبرنا به مكي ابن المسلم بن علان عن الحافظ أبي الطاهر السلفي قال: أخبرنا أبو غالب محمد بن ¬

(¬1) الاختيارات المنصورية في المسائل الفقهية. مخطوط ضمن مجموعة كتبت سنة 628 هـ في 6 ورقات. مكتبة الأمبروزيانا برقم (81). (¬2) الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة الحسي، اليمني (561 - 614 هـ). إمام، مجتهد، مجاهد لمؤلفات من مصنفاته: - الأجوبة الكافية بالأدلة الوافية. - الإيجاز لأسرار الطراز. انظر: الروض الأغن (2/ 59 رقم 462) الأعلام للزركلى (4/ 83) أعلام المؤلفين الزيدية. (¬3) مؤلفه: الإمام عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار الإيجي- بكسر الهمزة، ثم إسكان آخر الحروف ثم جيم مكسورة- المطرزي عضد الدين الشيرازي مولده من نواحي شراز سنة 756 هـ كان إمام المعقولات، عارفا بالأصلي والمعاني والبيان والنحو له في علم الكلام (المواقف) وفي أصول الفقه (شرح مختصر ابن الحاجب) وفي المعاني (القواعد الغياثية). انظر: البدر الطالع (1/ 326) طبقات السبكي (1/ 460 رقم 1369).

الحسن الباقلاني قال: أخبرنا القاضي أبو العلاء محمد بن علي الواسطي قال أخبرنا أبو نصر أحمد بن محمد بن الحسن ابن النيازكى قال: حدثنا أبو الخير أحمد بن محمد العبقسي قال حدثنا مؤلفه الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله. 9 - (الأذكار (¬1) للنووي (¬2) (¬3): أرويه بالإسناد السابق إلى البابلي عن نور الدين علي بن يحيى الزيادي عن السيد يوسف بن عبد الله الأرميوني عن الجلال السيوطي عن صاع بن عمر البلقيني عن أبيه عن الحافظ المزي عن المؤلف رحمه الله وكذلك سائر تصانيفه ح- وأرويه عن شيخنا السيد عبد القادر بن إلى وشيخنا صديق بن على المزجاجي وشيخنا يوسف بن محمد بن علاء الدين المزجاجى قال الأوان عن السيد سليمان بن ير بن عمر الأهدل عن أحمد بن محمد الأهدل عن يحيى بن عمر الأهدل وقال الثالث عن أبيه محمد بن علاء الدين عن السيد يحيى بن عمر قال: أخبرني به يوسف بن محمد البطاح الأهدل قال: أخبرني به السيد الطاهر بن حسين الأهدل قال: أخبرني به عبد الرحمن بن على الديبع قال أخبرنا به الحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير البصراوي أخبرنا الشيخ الحافظ يوسف المزي عن مؤلفه رحمه الله. ¬

(¬1) هو كتاب شهير متداول مطبوع بتحقيق: محط الدين مستو. وبتحقيق: عبد القادر الأرناؤوطي. وصدر أخير السليم الهلالي: " صحيح الأذكار " و"ضعيف الأذكار" (¬2) هو صيهب بن شرف بن مري بن حسن بن حسين بن محمد بن جمعة بن حزام النووي، الدمشقي، الشافعة. (محيى الدين أبو زكريا) فقيه، محدث، حافظ، لغوي، مشارك في العلوم. ولد في نوى سنة (631 هـ). وتوفي سنة (676 هـ). من تصانيف: " روضة الطالبين" رياض الصالحين" شرح مسلم" المنهاج " وغيرها من المصنفات. انظر: " تذكرة الحفاظ " (4/ 250 - 254) "البداية والنهاية " (13/ 278 - 279) " معجم المؤلفين" (4/ 98 - 99) (¬3) في حاشية المخطوط (وسائر تصانيف النووي).

10 - (الأذكار لأحمد بن عزيو (¬1): أرويها بالسند المتقدم ني كتاب الأحكام إلى الإمام أحمد بن الحسن عن مؤلفه أحمد بن عزيو الخولاني. "- الأربعون التساعية لقاضي القضاة عبد العزيز بن محمد بن جماعة (¬2): أرويها بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن شمس الدين محمد بن الجابري عن الشهاب أحمد ابن قاسم العبادي عن السيد الجمال يوسف بن عبد الله الأرميوني عن إبراهيم بن القلقشندي عن عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بن جماعة عن جده المؤلف. 12 - (الأربعون العشارية (¬3) للزين العراقي): أرويها بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن سالم بن محمد عن الشمس محمد بن عبد الرحمن العلقمي عن الحافظ أبي الفضل السيوطي قال: أخبرتنا ها هاجر بنت الشرف محمد ¬

(¬1) أحمد بن عزيو بن علي بن عمرو الخولاني، وفي (مطلع البدور): أحمد بن عز الدين، وفي سيرة المهدي أحمد بن الحسين: أحمد بن عزيو بن عواض. أحد علماء القرن السابع الهجري سكن مسلت، كما سكن هجرة (حوث) وكان من أصحاب الإمام ابن الحسين توفي سنة 623 هـ وقيل سنة 650 هـ من مصنفاته: الحاصر في أصول الفقه قال في الجواهر المضيئة له كتاب الحاصر في الأصول مجلد. والأذكار في الأدعية (طبقات الزيدية). انظر: الروض ا لأغن (1/ 59 - 60 رقم 104). هجر العلم ومعاقله في اليمن (4/ 2051). أعلام المؤلفين الزيدية (ص 143) (¬2) هو الإمام المفتي الفقيه أبو عمر عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن جماعة الكناني الحموي الأصل الدمشقي المولد المصري الشافعي (694 - 767 هـ). طبقات الشافعية الكبرى (1/ 79) الشذرات (8/ 358). الأربعون التساعية. وهو مخطوط في دار الكتب المصرية (1/ 85) الفهرس الشامل (1/ 101/رقم669) (¬3) نشرته دار ابن حزم، أولى عام 1413هـ تحقيق: بدر بن عبد الله البدر

المقدسي قالت: أخبرنا المؤلف. 13 - (الأربعون في اصطناع (¬1) المعروف للحافظ المنذري): أرويها بالسند المتقدم إلى البابلي عن الشيخ يوسف الزرقاني عن الشمس الرملي عن والده الشهاب أحمد بن محمد عن الدين زكريا قال قرأها على أبي النعيم رضوان بن محمد العقبي بقراءته على أبي الطاهر محمد بن محمد بن الكويك بإجازته من زينب بنت الكمال المقدسية عن المؤلف. 14 - (الأربعون للنووي): أرويها بالإسناد المتقدم في كتاب الأذكار إلى مصنفها وأرويها بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن سالم بن محمد عن النجم محمد الغيص قراءة عليه عن الزين زكريا قراءة عليه قال قرأنا على أبي إسحاق الشروطي قال: أخبرنا ها أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي الوفاء قال: أخبرنا العلم أبو الربيع سليمان بن سالم الغزي قال اخبرنا أبو الحسن عل بن إبراهيم بن داود العطار قال أخبرنا المؤلف. 15 - (الأربعون المسماة بسلسلة الإبريز (¬2) أرويها بالإسناد المتقدم في كتاب الإبانة إلى الإمام القاسم بن محمد عن أحمد بن صلاح الدواري عن علي بن الإمام شرف الدين قال أخبرني ها قراءة شيخنا صاع بن صديق ¬

(¬1) طبع هذا الكتاب وزارة الشؤون الإسلامية بالمغرب مع شرح لعبد الرحمن الثعالي، تحقيق: محمد بن تاويت الطنجي عام 1962 م وبدار الفضيلة، ممصر- دون تاريخ- تخريج الإمام محمد بن إبراهيم المناوي (803 هـ). (¬2) هذه الأربعين ليست في كتاب مفرد، أو أحاديث مفرقة، وإنما هي سرد في متحد واحد بإسناد واحد. والمحدثون أطلقوا على هذه المتون المتعددة بسند واحد: الأحاديث المسلسلة بالأشراف، وجلها صحيح لذاته، أو لغيره، أو حسن لذاته أو لغيره، فإقحام الإمام الشوكاني لهذا المسلسل ضمن كتب الأربعين أو الأحاديث فيه تجوز.

النمازي عن عبد الرحمن بن علي الديبع قال: أخبرنا أحمد بن زين الدين السروحي قال: أخبرنا أبو الربيع سليمان بن إبراهيم العلوي عن أبيه أخبرنا الإمام إبراهيم بن محمد الطبري أخبرنا أبو القاسم بن أبي حرمي أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد جعفر الحسين أخبرنا محمد بن على الأنصاري أخبرنا السيد الإمام أبو محمد الحسن بن علي بن الحسن بن عبيد الله بن محمد بن عبيد الله بن على بن الحسن بن الحسين بن جعفر بن عبيد الله بن الحسين ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن آبائه أب عن أب إلى على بن أبي طالب عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " ليس الخبر كالمعاينة" (¬1) ثم سرد بقية الأحاديث. 16 - (الأربعون للإمام القاسم بن محمد) (¬2): ¬

(¬1) وهو حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (1/ 271) وابن عدي في " الكامل " (7/ 2596) وأبو الشيح في " الأمثال " رقم (5) والحاكم في " المستدرك " (2/ 321) من طريق بن يونس حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وأخرجه أحمد في " المسند " (1/ 215)، وابن عدي في " الكامل " (7/ 2596) والطبراني في " الأوسط " رقم (25) والخطيب قي " تاريخ بغداد " (6/ 56) من طريق هشيم، به. وأخرجه ابن عدي في " الكامل " (7/ 2596) والطبراني قي " الكبير " رقم (12451) والحاكم في " المستدرك " (2/ 380) من طرق عن أبي عوانة، به. وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهني. وله شاهد من حديث أنس عند الطبرايى في "الأوسط رقم (6943) ص طريق محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا أبي، عن نمامة، عن أنس. وأورده الهيثمي " مجمع الروائد " (1/ 153) وقال: رواه الطبرايى في " الأوسط " ورجاله ثقات. . وشاهد آخر من حديث أبي هريرة عند الخطيب في " تاريخ بغداد " (8/ 28). (¬2) القاسم بن محمد بن علي الرسي الحسني (967 - 29 هـ) من أئمة اليمن وعلمائها إذ هو من أحفاد ير بن الحسين بن القاسم الرسي مؤسس الإمامة الهادوية باليمن من مصنفاته:- الإرشاد إلى سبيل الرشاد. الأساس لعقائد الأكياس. التمهيد في أدلة التقليد. انظر: البدر الطالع (47")، خلاصة الأثر (3/ 293)، الروض الأغن (2/ 161 رقم 655) أما كتابه " أربعون حديثا في العلماء والمتعلمين " منه نسخة كتبت عام (1044هـ) ضمن مجموع من ورقة (158 - "0). مكتبة المتحف البريطاني (رقم 3851 - 53)

أرويها بالإسناد المتقدم في كتاب الإبانة إليه. وأروي أربعينات غير ما ذكر بأسانيد متصلة موجودة في مجموع أسانيدي. 17 - (الإرشاد لإمام الحرمين الجويني): أرويه بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن أبي الإمداد إبراهيم بن إبراهيم اللقاني عن أحمد بن قاسم العبادي عن الشهاب أحمد بن محمد بن حجر الهيتمى عن الزين زكريا بن محمد عن محمد بن مقبل الحبي عن الصلاح بن أبي عمر عن الفخر على بن أحمد بن البخاري عن أبي سعد عبد الله بن عمر الصفار عن زاهر بن طاهر الشحامي عن المؤلف. 18 - (الإرشاد للإمام عز الدين بن الحسن (¬1) وسائر مؤلفاته): أرويها جميعا بالإسناد المتقدم إلى الإمام شرف الدين عن الإمام محمد بن علي السراجي عن المؤلف. 19 - (الإرشاد) (¬2). . . . . . . . . . . . . . ¬

(¬1) الإمام الهادي عز الدين بن الحسن بن المؤيد ولد بأعلى فله بفتح الفاء واللامين بعدها. بعشر بقين من شوال سنة 845 هـ وقرأ في وطنه ثم رحل إلى صعدة، فقرأ على بن موسى الدواري فنونا من العلم ثم رحل إلى قامة فسمع الحديث على شيخه يحيى بن أبي بكر العامري. من مصفاته: شرح منهاج القرشي في مجلدين ضحمين، شرح البحر للإمام المهدي بلغ فيه إلى كتاب الحج. توفي سنة 905 هـ البدر الطالع رقم (302) الروض الأغن (2/"7 رقم 561). (¬2) (الإرشاد إلى طريق الآخرة والزهاد) بقول الحنداري في وصمه الكتاب نفي لولا أنه يورد من الأحاديث مال فيه بعض موضوعات يسيرة، فرغ من تأليفه سنة 632 هـ.

للعنسي (¬1)): أرويه بالإسناد المتقدم في كتاب الأحكام إلى الإمام المطهر بن محمد بن المطهر عن أبيه عن جده عن الأمير الحسن عن المؤلف. 20 - (الإرشاد للإمام القاسم بن محمد (¬2): أرويه وسائر مصنفاته بالإسناد المتقدم في كتاب الإبانة إليه. 21 - (الإرشاد للسيد علي بن الحسين الشامي) (¬3): أرويه بالإسناد المتقدم في كتاب الإبانة إلى السيد إبراهيم بن القاسم بن المؤيد عن عمه محسن بن المؤيد عن القاضي أحمد بن ناصر بن عبد الخالق المخلافي عن المؤلف. 22 - (الإرشاد (¬4) .... .... .... .... .... .... .... .... .... ¬

(¬1) عبد الله بن زيد بن أحمد بن أبي الخير العنسي المذحجي الزبيدي من كبار علماء القرن السابع الهجري. كانت وفاته سنة 667 هـ. وله مصنفات منها: - التحرير في أصول الفقه. - الرسالة الداعية إلى الإيمان. - السراج الوهاج المميز بين الاستقامة والإعوجاج. في. برلين (10284) انظر: الروض الإغن (2/ 61 - 63 رقم 464)، أعلام المؤلفين الزيدية ص 589 (¬2) تقدم. و" الإرشاد " إرشاد العباد إلى محجة الرشاد " في الفقه بست فصول. (¬3) علي بن الحسين بن عز الدين الشامي الحسني اليمني (1033 - 120هـ) تفرع للعلم وأكب على المطالعة، حتى أحرز علوم الاجتهاد. له مصنفات: - العدل والتوحيد وإرشاد العباد المتحصل من كتاب فج الرشاد. وهما: مخطوطتان ولا يدري مكان وجودهما.- فيما أعلم-. انظر: الروض الأغن (2/"7 رقم 561) نشر العرف (2/ 210). (¬4) قال الشوكاني في " البدر الطالع " (1/ 142) الإرشاد: كتاب نفيس في فروع الشافعية، رشيق العبارة حلو الكلام في غاية الإيجاز مع كثرة المعاني. وشرحه في مجلدين والإرشاد: مختصر الحاوي في

للمقري (¬1) وسائر مصنفاته): أرويها عن شيخنا السيد عبد القادر بن أحمد وشيخنا صديق بن علي المزجاجي عن السيد سليمان بن يحي بن عمر الأهدل عن السيد محمد بن أحمد الأهدل عن يحيى بن عمر الأهدل عن السيد يوسف بن محمد البطاح، عن السيد الطاهر بن حسين الأهدل، عن عبد الرحمن على الديبع عن عبد الرحمن بن عبد الكريم بن زياد عن شهاب الدين أبي العباس الطبنداوي عن موسى بن زين العابدين الرداد عن أبي حفص عمر بن محمد الفتي عن المؤلف. 23 - (الأزهار (¬2) للإمام المهدي أحمد بن يحي (¬3) وسائر تصانيفه): ¬

(¬1) إسماعيل بن أبي بكر بن عبد الله الشرجي اليماني الشافعي المعروف بالمقرئ الزبيدي ولد سنة 754 هـ. له مصنفات منها: - عنوان الشرف الوافي في الفقه والنحو والتاريخ والعروض والقوافي/ مطبوع. - " روض الطالب مختصر الروضة " في الفقه، مطوع. - الذريعة إلى نصر الشريعة. البدر الطالع (1/ 142)، الروض الأغن (1/ 103 رقم 193)، الضوء اللامع (2/ 101). (¬2) الأزهار قي فقه الأئمة الأطهار وهو مختصر من كتاب " التذكرة الفاخرة في فقه العترة الطاهرة " للفقه الحسن بن محمد المذحجي. ونقل عن المفتاح أن مسائل الأزهار منطوقها ومفهومها تسعة وعشرون ألف مسألة. ونقل في مطلع البدور في ترجمة السيدة دهماء (2/ 101) قصة تأليفه فقد كان المهدي في السجن وكتبه بالجص. طبع مرارا في بيروت وغرها. (¬3) أحمد بن يحيى بن المرتضى الحسني اليمني الزيدي (764 - 840 هـ). كان عالما مشاركا في كثير من العلوم، مؤلفاته تزيد على 60 مؤلفا ما بين كبير وصغير منها: - الأحكام المتضمن لفقه أئمة الإسلام. - الاعتماد للآيات المعتبرة في الاجتهاد إكليل التاج في جوهرة الوهاج. وجل كتبه مخطوط غير مطوع إلا أقل القليل والذي طبع: " البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار. الروض الأغن (1/ 90 رقم 167)، البدر الطالع (1/ 122).

أرويها من طرق متعددة منها بالإسناد المتقدم في كتاب الإبانة إلى الإمام شرف الدين عن الإمام محمد بن علي السراجى عن الإمام عز الدين بن الحسن عن المؤلف. 24 - (الأزهار في مناقب الأئمة الأطهار لحميد الشهيد (¬1): ارويه بالإسناد المتقدم في كتاب الأحكام إلى الإمام المطهر بن محمد بن المطهر عن أبيه عن جده عن المؤلف. 25 - (الأساس (¬2) للزمخشري وسائر تصانيفه): أرويها بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن النور على بن محمد الأجهوري وأبى الإمداد إبراهيم بن إبراهيم عن أحمد بن قاسم عن أبي الحسن البكري عن القاضي زكريا عن محمد ابن مقبل الحبي عن الصلاح بن أبي عمر المقدسي عن الفخر بن البخاري عن زينب بنت عبد الرحمن الشعري عن المؤلف. ¬

(¬1) هو حميد بن عبد الواحد المحلي الهمداني، المعروف بالقاضي الشهيد الصنعاني مؤرخ وفقيه زيدي، من كبار أصحاب المهدي أحمد بن الحسين القاضي توفي سنة 652 هـ. من مؤلفاته: - الوسيط في الفقه. - الحدائق الوردية في سيرة الأئمة الزيدية - مناهج الأنصار العاصمة من الأخطار (وكلها مخطوط). الأزهار: وهو شرح لقصيدة الإمام عبد الله بن حمزة، مخطوط بجامع صنعاء ني (140) ورقه وأخرى بالمتحف البريطاني (3820) انظر: الروض الأغن (1/ 183 رقم 324)، الأعلام للزركلي (2/ 282). (¬2) أي: أساس البلاغة. مطبوع. مجلدين.

26 - (الأساس (¬1) للإمام القاسم بن محمد (¬2): أرويه بالإسناد المتصل به المتقدم في كتاب الإبانة. 27 - (الأسماء والصفات للبيهقي وسائر مصنفاته): أرويها بالإسناد المتقدم في كتاب الإرشاد إلى عبد الرحمن الديبع، عن شيخه زين الدين الشرجى، عن شيخه نفيس الدين العلوي عن والده قال: أخبرنا ها محمد بن أحمد المطري عن الإمامين شهاب الدين أحمد بن علي بن الزبر الحنبلى وشهاب الدين أحمد بن عمر ابن عثمان المعروف بابن إمام الرأس عن الحافظ ابن الصلاح عن منصور بن عبد المنعم عن أبي المعالي إسماعيل بن محمدا (¬3) الفارسي عن المؤلف. 28 - (أسباب (¬4) النزول للواحدي): أرويه مع سائر تصانيفه بالإسناد السابق إلى البابلي عن النور على بن يحي عن الجمال يوسف بن عبد الله الأرميوني عن أبي الفضل السيوطي عن محمد بن مقبل عن محمد بن علي بن يوسف الحراوي عن الحافظ عبد المؤمن بن خلف الدمياطي عن أبي "لحمسن" (¬5) ¬

(¬1) الأساس لعقائد الأكياس في معرفة رب العالمين وعدله على المخلوقين، وما يتصل بذلك من أصول ا لد في. (معتزلي). مخطوط بالجامع الكبير بصنعاء رقم 495. وعليه شرح بعنوان: " كشف الإلباس " لأحمد بن محمد الشرفي في مجلدين. مكتبة الجامع بصنعاء رقم 424 وعليه شروحات انظر: حكام اليمن المؤلفون (ص 236). (¬2) الأساس لعقائد الأكياس في معرفة رب العالمين وعدله على المخلوقين، وما يتصل بذلك من أصول الدين. (معتزلي). مخطوط بالجامع الكبير بصنعاء رقم 495. وعليه شرح بعنوان: " كشف الإلباس " لأحمد بن محمد الشرفي في مجلدين. مكتبة الجامع بصنعاء رقم 424 وعليه شروحات انظر: حكام اليمن المؤلفون (ص 236). (¬3) كذا في المخطوط إسماعيل بن محمدا وهو تحريف، والصواب: محمد بن إسماعيل بن محمد بن حسين بن القاسم الفارسي النيسابوري، أبو المعالي وأبو نصر الشيخ الثقة المسند انظر التحبير (2/ 97) السير (2/ 93). (¬4) طبع مرارا. الطعبة الأولى عام 1315هـ وطبع عام 1383 هـ. ممصر دار إحياء الكتب. وطبع عام 1418 هـ عن دار الإصلاح بالدمام- السعودية. (¬5) في المخطوط أبي الحسين والصواب ما أثبتناه.

ابن المقير عن أبي الفضل أحمد بن طاهر الميهني عن المؤلف. 29 - (الإشارة لمغلطاي (¬1): أرويه بالإسناد المتقدم إلى الديبع عن شمس الدين السخاوي عن الحافظ بن حجر عن الحافظ العراقي عن المؤلف. 35 - (أصول (¬2) الأحكام للإمام أحمد بن سليمان (¬3): أرويه بالإسناد السابق إلى الإمام القاسم بن محمد عن السيد صلاح بن أحمد الوزير عن أبيه عن الإمام شرف الدين عن السيد صارم الدين إبراهيم بن الوزير عن السيد صلاح انظر: " تذكرة الحفاظ (4/ 1432). ¬

(¬1) مغلطاي بن فليج بن عبد الله الجكري الحنفي الحافظ علاء الدين ولد سنة 690 هـ وسمع من أحمد بن علي بن دقيق العيد أخط الشيخ تقي الدين. قال ابن رجب: إن مصنفاته نحو المائه وأزيد، له مآخذ على أهل اللغة وعلى كثير من المحدثين، تهني سنة 762 هـ. من مصنفاته: شرح البخاري، ذيل المؤتلف والمختلف. الإرشاد. " الزهر الباسم في سيرة نبينا أبي القاسم ". الدرر الكامنة (4/ 352 رقم 963)، البدر الطالع (2/ 312)، شذرات الذهب (8/ 336). (¬2) " أصول الأحكام في الحلال والحرام " فيه ما يزيد على ثلاثة آلاف وثلاثمائة حديث في الحلال والحرام من الأحكام الفقهية وهو مقسم على الكتب مبدعا بكتاب الطهارة. والأخبار محذوفة الأحاديث. وربما يذكر المؤلف رأيه في الموضوع بعنوان (رأينا) وقد رجح فيه مذهب الإمام الهادي. له نسخ خطية قي مكتبة الجامع الكبير- صنعاء- رقم (340، 354، 355، 468،504). مؤلفات الزيدية (1/ 126 - 127 رقم 318). (¬3) الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان بن محمد بن مطهر (500 - 566 هـ) من أئمة الزيدية. له مصنفات منها: - المدخل في أصول الفقه. توفي سنة 566 هـ. " الروض الأغن " (1/ 42 رقم 69)، " مصادر الفكر " (ص 534).

الدين عبد الله بن يحيى بن المهدي عن أبيه عن الإمام الواثق المطهر بن محمد بن المطهر عن أبيه عن جده عن محمد بن أخمد بن أبي الرجال عن الإمام أحمد بن الحسن الشهيد عن أحمد بن محمد شعلة عن أحمد بن محمد بن الوليد عن المؤلف. 31 - (الأطراف للمزي (¬1): أرويها بالإسناد المتقدم قريبا إلى السخاوي عن عبد الرحيم بن محمد بن الفرات عن ابن الجزري عن عائشة بنت محمد المقدسية عن المؤلف. 32 - (الاعتبار (¬2) للجرجاني وسائر تصانيفه): أرويها بالإسناد المتقدم إلى الإمام شرف الدين عن الفقيه علي بن أحمد عن شيخه علي بن زيد عن السيد أبي العطايا عن الفقيه يوسف عن الفقيه حسن عن الفقيه يحيى البحيج عن الأمير المؤيد عن الأمر الحسين عن الأمر علي بن الحسن عن الشيخ عطية النجراني عن الأميرين الكبيرين أحمد ويحي ابني أحمد بن يحي بن يحي عن القاضي جعفر عن الشيخ محمد بن الحسين عن الحسين بن علي بن إسحاق عن المؤلف. 33 - (الاعتصام (¬3) للإمام القاسم): ¬

(¬1) مطوع، تحفة الأشراف. معرفة الأطراف للحافظ المزي مع النكت الظراف على الأطراف، لابن حجر العسقلاني. تحقيق: عبد الصمد شرف الدين وإشراف زهير الشاويش. الطبعة الأولى 384 1 هـ والطبعة الثانية سنة1403 هـ. المكتب الأساسي- بيروت. (¬2) وهو كتاس " الاعتبار وسلوة العارفين ". الجرجاني: أبو عبد الله، الحسن بن إسماعيل بن زيد بن الحسن بن جعفر بن الحسن بن محمد بن جعفر بن عبد الرحمن الشجري، الجرجاني. متكلم. من تصانيفه: الاعتبار وسلوة العارفين. والإحاطة في علم الكلام. معجم المؤلفين: لعمر رضا كحالة: (1/ 539). (¬3) وهو (الاعتصام بحبل الله المتين القاضي بإجماع المتقين ألا يتفرقوا في الدين). قال عنه زبارة: جمع فيه ما بين كتب أكابر أئمة العترة النبوية من الأحاديث وما في الأمهات الست ونحوها من كتب المحدثين ورجح في كل مسألة. مما يقتضيه اجتهاده، بلغ فيه: إلى كتاب الصيام في مجلد ضخم واحترمته المنية قبل إكماله فأكمله من كتاب الحج إلى آخر كتاب السير السيد الحافظ احمد بن يوسف زبارة المتوفي سنة 252هـ وتسمى (أنوار التمام). وكتاب (الاعتصام) له عدة نسخ،. مكتبة الجامع الكبير صنعاء، رقم 290،22،367،391، 225، 368 - مؤلفات الزيدية (1/ 134 رقم 343).

أرويه مع سائر مصنفاته بالإسناد السابق إليه. 34 - (أعلام الرواية (¬1) للشريف علي بن ناصر (¬2): أرويه بالإسناد السابق في كتاب الإبانة إلى القاسم بن أحمد بن حميد عن أبيه عن جده عن الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة عن أحمد بن أحمد بن الحسن البيهقي القادم إلى اليمن قال سمعته عن مؤلفه. 35 - (الإفادة (¬3) للمؤيد بالله الهاروني (¬4): أرويها بالإسناد السابق إلى الإمام شرف الدين عن شيخه على بن أحمد عن شيخه على بن زيد عن أبي العطايا عن الفقيه يوسف عن الفقيه حسن عن الإمام ير بن حمزة عن ابن خليفة عن ابن وهاس عن الحفيد عن حميد بن أحمد عن المنصور بالله عبد الله بن ¬

(¬1) واسمه: " أعلام الرواية على فج البلاغة ". وهو مخطوط ضمن مجموع به فج البلاغة. (¬2) هو علي بن ناصر الدين الحسيني، معاصر الشريف المرتضى أعلام المؤلفين الزيدية ص 172 (¬3) الإفادة وهو في فقه نفسه، وهو في مجلد جمعه تلميذه القاضيي أبو القاسم بن قال يسمى أيضًا التفريعات " وحمي في بعض المادر " الفائدة " منه نسخ خطة قي برلين رقم (4878) والمتحف البريطاني رقم (338) (¬4) الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين بن هارون بن محمد بن حسن الآملي ولد سنة 333 هـ بآمل طبرستان، وبويع بالخلافة، وتوفي يوم عرفة سنة 4" هـ وكان علامة في الفقه والنحو، واللغة والشعر. من مصنفاته: شرح التحريد، الإفادة. الزيادات. انظر: أعلام المؤلفين الزيدية ص 101، مؤلفات الزيدية (1/ 138 رقم 357).

حمزة عن الحسن الرصاص عن القاضي جعفر عن الكني عن على بن أموج عن القاضيي زيد عن على بن محمد الحامد عن القاضي يوسف عن الهواسي عن المؤلف. 36 - (الإفادة (¬1) في تاريخ الأئمة السادة للإمام أبي طالب (¬2): أرويها بالإسناد المذكور قبل هذا إلى القاضي يوسف عن المؤلف. 37 - الاقتراح (¬3) لأبن دقيق العيد): سيأتي ذكر إسناده في كتاب الإمام له. 38 - (الاكتفاء (¬4) في "مغازي " رسول الله وأصحابه الثلاثة الخلفاء للكلاعي (¬5): أرويه عن السيد عبد القادر بن أحمد عن السيد سليمان بن يحيى الأهدل عن أحمد بن محمد ¬

(¬1) الإفادة: في تاريخ الإمام على الحسن والحسن وأئمة الزيدية إلى سنة 360 حيث اختتمه بالمهدي لدين الله محمد بن الحسن الداعي إلى الحق وهو على غرار ما جاء في صدر كتاب " الأحكام " للإمام المهدي. ويعتبر كتاب " المصابيح " لأحمد بن إبراهيم الحسني مصدرا هاما لهذا الكتاب. مطوع. " مؤلفات الزيدية (1/ 141 رقم 361). (¬2) هو يحيى بن الحسن بن هارون بن الحسن الآروني وكان يتسابق مع أخيه المؤيد بالله أحمد- انظر التعليقة السابقة- على طلب العلم. له مصنفات- الآمال والمعروفة بآمالي أبي طابي. والمجزي في أصول الفقه. الحدائق في أخبار ذوي السوابق. انظر: إعلام المؤلفين الزيدية (ص "22). (¬3) طبع سنه 1402 هـ مطبعة الإرضاء ببغداد بتحقيق: قحطان بن عبد الرحمن الدودي. وطبع سنه 1417هـ دار البشائر- بيروت تحقيق عامر حسن صبري. (¬4) طبع هذا الكتاب في القاهرة- دون تاريخ- تحقيق مصطفى عبد الواحد (¬5) الإمام العلامة الحافظ الأديب البليغ شيخ الحديث والبلاغة بالأندلس أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميرى الكلاعي، من كبار أئمة الحديث 5651 - 634 هـ أ. من مؤلفاته: الصحابة، المصباح على نحو الشهاب، سيرة البخاري أربعة أجزاء، الأبدال. انظر: " شذرات الذهب " (16415).

الأهدل عن يحيى بن عمر الأهدل عن أبي بكر بن علي البطاح الأهدل عن يوسف بن محمد البطاح الأهدل عن الطاهر بن حسين الأهدل عن الديبع عن الشرجي عن زين الدين البرشكي عن كمال الدين البسقيري عن محمد بن جابر عن أحمد بن محمد الأنصاري عن مؤلفه. 39 - (الاكليل للحسين بن مسلم التهامي (¬1): أرويه بالإسناد السابق في كتاب الإبانة إلى القاسم بن أحمد بن حميد عن أبيه عن جده عن أحمد بن الحسن بن محمد الرصاص عن المؤلف. 40 - (الإكمال لأسماء الرجال لابن ماكولا (¬2): أرويه عن شيخنا السيد عبد القادر بن أحمد عن السيد سليمان بن يحيى الأهدل عن أحمد بن محمد الأهدل عن ير بن عمر الأهدل عن أبي بكر البطاح الأهدل عن يوسف ابن محمد البطاح عن السيد الطاهر بن حسين الأهدل عن الحافظ الديبع عن الشرجي عن نفيس الدين العلوي أ عن أبيه أ عن أحمد بن أبي الخير عن والده عن ابن الشرجي عن محمود بن الحسن النجار عن محمد بن عبد العزيز بن محمود عن أبي الفضل محمد بن ناصر عن المصنف. ¬

(¬1) اسم الكتاب: " الإكليل في شرح معاني التحصيل " (¬2) هو علي بن هبة الله بن علي بن هبة الله بن جعفر العجلي الجرباذقاني، ثم البغدادي، المعروف بابن ماكولا (الأمير، سعد الملك، أبو النصر). ولد سنة (421 هـ) بعكبرا، وقتل بخراسان سنة (475 هـ). له تصانيف كثيرة منها " مفاخرة القلم والسيف والدينار " تذهيب مستمر الأوهام على ذوي التمني والأحلام" انظر: " وفيات الأعيان " (1/ 420) " تذكرة الحفاظ " (4/ 2 - 7) " الكامل في التاريخ " (43/ 1 - 87) " معجم المؤلفين " (2/ 541).

41 - (ألفية ابن معطى (¬1): أرويها بالإسناد السابق إلى البابلي عن البرهان أبي الإمداد اللقاني عن أحمد بن قاسم العبادي عن أحمد بن محمد الرملي عن خالد بن عبد الله الأرهوي عن التقى أحمد بن محمد الشمني عن السراج البلقيني عن أبي حيان عن الرضي أبي بكير بن عمر الضر.: عن المؤلم. 42 - (ألفية ابن مالك (¬2) وسائر مصنفاته): أرويها بالإسناد السابق إلى البابلي عن أحمد السنهوري عن ابن حجر الملكي عن الزين زكريا بن محمد عن صالح البلقيني عن إبراهيم التنوخى عن الشهاب محمود بن سليمان عن ¬

(¬1) هو يحيى بن عبد المعطى بن عبد النور الزواوي، الحنفي المغربي المعروف بابن المعطى (أبو الحسين، زين الدين) فقيه، مقرئ، أديب، نحوي، لغوي، عروض، ناظم، ناثر، تتلمذ للجزولي، وروى عن القاسم بن عساكر وغيره. ولد سنة (564 هـ) وتوفي بالقاهرة سنة (628 هـ). من أثاره:- الدرة الألفية في علم العربية أو ألفية ابن المعطي طبعت سنة 317 هـ في ليبست بألمانيا باعتناء: زترتشين كما في معجم المطبوعات العربية (1/ 246). - منظومة في العروض، منظومة في القرآن السبع، " الفصول في العربية ". انظر: وفيات الأعيان (2/ 310 - 3") شذرات الذهب (5/ 129). (¬2) هو محمد بن عبد الله بن مالك الطائي، الأندلسي، الجياني (جمال الدين أبو عبد الله) نحوي، لغوي، مقرئ مشارك في الفقه والأصول والحديث وغيرها. ولد سنة (600 هـ) كان إماما في القران واللغة وصنف التصانيف، وانتشرت قي جميع البلدان. توفي بدمشق سنة (672 هـ). من تصانيفه: " إكمال الأعلام. مثلت الكلام " الألفاظ المختلفة في المعاني المؤتلفة" ألفية في النحو " وهي التي ذكرها المؤلف، وعليها مجموعة شروح أشهرها " شرح ابن عقيل "، وهو شرح متداول معروف مطوع بتحقيق محي الدين عبد الحميد رحمه الله. انظر: " طبقات السبكي " (5/ 28) " البداية والنهاية " (13/ 267) " معجم المؤلفين " (3/ 451).

المؤلف. 43 - (ألفية العراقي (¬1) في الحديث وشرحها له): أرويها عن شيخنا السيد عبد القادر بن أحمد عن السيد أحمد بن عبد الرحمن الشامط عن السيد الحسين بن أحمد زبارة عن عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز الحبيشي عن إسحاق بن محمد بن جمعان عن محمد بن علي بن عجلان عن عبد الرحمن بن محمد الخطيب عن أبيه عن الجلال السيوطي عن العلم البلقيني عن المؤلف. 44 - (الإلمام (¬2) لابن دقيق العيد): سيأتي ذكر إسناده في كتاب الإمام له. 45 - (الإسماع إلى معرفة أصل الرواية وتقييد السماع للقاضي عياض (¬3): أرويه بالإسناد السابق إلى البابلي عن أحمد بن محمد الغنيمي عن الرملي عن والده أحمد بن محمد، عن أبي إلي محمد بن عبد الرحمن السخاوي، عن أبي الفضل أحمد بن علي الحافظ، عن القاسم بن على بن محمد بن علي الفاسي، عن أبي البركات محمد بن محمد المعروف بابن الحاج عن القاضي أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد الغافقي عن القاضي ¬

(¬1) وهذه الألفية في مصطلح الحديث طبعت عدة طبعات. (¬2) طبع مرارا. (¬3) هو عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض بن محمد بن موسى بن عياض اليحصبي، السبتي، المالكي، ويعرف بالقاضي عياض (أبو الفضل) محدث، حافظ، مؤرخ، ناقد، مفسر، فقيه، أصولي، عالم بالنحو واللغة وكلام العرب. ولد سنة (496 هـ) وتوفي. مراكش سنة (544 هـ). من تصانيفه: " الشفا بتعريف حقوق المصطفى " الإسماع في أصول الرواية والسماع " وغيرها. انظر: " تذهيب الأسماء واللغات " للنووي (2/ 43 - 44) " وفيات الأعيان " (1/ 496 - 497) " شذرات الذهب " (4/ 138 - 139) " تذكرة الحفاظ " للذهبي (4/ 96 - 98). (الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع) ط سنة 389 ا هـ عن دار التراث. بمصر، تحقيق: السيد أحمد صقر، وهي نادرة

أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد الأزدي عن القاضي أبي عبد الله محمد بن حسن ابن عطية ابن غازي الأنصاري عن مؤلفه. 46 - (الأمالي للإمام أحمد بن عيسى (¬1): أرويها بالإسناد المتقدم لكتاب الإبانة إلى الإمام شرف الدين عن السيد صارم الدين عن السيد أبي العطايا عن عبد الله بن ير بن المهدي عن أبيه عن الإمام المطهر بن محمد ابن المطهر عن أبيه عن جده عن عمران بن الحسن عن حنظله بن الحسن عن القاضيي جعفر عن الحسن بن على بن ملاعب الأسدي عن عمر بن إبراهيم بن عمرة عن محمد بن الحارث عن الحسن بن عبد الله بن المهول عن محمد بن محمد الحارثي عن محمد بن محمد المعدل عن أبي طالب محمد بن الحسن البزار عن على بن ما ني الكاتب عن المؤلف محمد بن منصور المرادي عن الإمام أحمد بن عيسى. 47 - الأمالي (¬2) للإمام المؤيد بالله (¬3): ¬

(¬1) هو أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبى طالب، فقيه، أمه عالية بنت الفضلى، وكان فاضلا عالما ناسكا زاهدا ورعا. ولد سنة (159هـ) ومات بالبصرة وقد عمي سنة (240 هـ) وقيل (247 هـ). انظر: " تراجم الرجال " للجنداري (ص5). الأمالي ويسمى أيضًا (بجامع علوم آل محمد) وعى (بدائع الأنوار) كتاب في الحديث والفقه، شهير. جمعه محمد بن منصور المرادي (طبع) والطبعة الثانية منه في ثلاث مجلدات محققه تحت عنوان (رأب الصدع) تحقيق المرحوم علما بن إسماعيل المؤيد. " أعلام المؤلفين الزيدية" (ص 152). (¬2) تأليف المؤيد أحمد بن الحسين الحسن الديلمي. والأمالي: ستة وعشرون حديثا مسندة قي مختلف الموضوعات. يعرف ب (الأمالي الصغري) أيضا، طبع صنعاء سنة 1355هـ بتحقيق عبد الواسع الواسعي. انظر: " مؤلفات الزيدية " (1/ 152 رقم 402). (¬3) كتب قي حاشية المخطوط (أ) بخط المؤلف: " هذا الكتاب متأخر عن أمالي أحمد بن عيسى ".

أرويها بالإسناد المتقدم لكتاب (الأحكام) إلى شعلة الأكوع، عن المنصور بالله عبد الله ابن حمزة عن الشيخ الحسن الرصاص عن القاضي جعفر بن عبد السلام قال: أخبرنا أحمد ابن أبي الحسن الكني أخبرنا الحسن بن على بن أبي طالب الفرزادي عن الرئيس علي بن الحسن بن محمد بن مردك عن أبيه عن أبي داود سليمان بن حاوك عن المؤيد بالله أحمد ابن الحسن وهو المؤلف. 48 - (الأمالي للمرشد بالله الحسين ير بن الحسين بن إسماعيل الشحري (¬1): أرويها بالإسناد المتقدم إلى المنصور بالله عبد الله بن حمزة عن الأمير بدر الدين محمد ابن أحمد بن ير بن يحي عن السيد عماد الدين الحسن بن عبد الله عن القاضي أبي الحسن الكني عن أحمد بن الحسن بن أبي القاسم عن المؤلف. 49 - (أمالي السمان، هو إسماعيل بن علي السمان (¬2): أرويها بالإسناد المتقدم إلى القاضي جعفر عن الكني عن الحسن بن علي الفزادي عن طاهر بن الحسن بن علي بن الحسن السمان عن عمه المؤلف. ¬

(¬1) الإمام المرشد بالله يحيى بن الحسين بن إسماعيل بن حرب بن زيد الجرجاني الشحري من علماء الزبدية في الجبل والديلم 0 4121 - 479 هـ. من مصنفاته:- الأمالي تتضمن أربعين مشروحة تعرف أيضًا ب (الخميسيات لأنه كان يمليها يوم الخميس. وعرفت بأمالي الشجري وله الأمالي الأثنينية وتمسى (الأنوار) في فضائل آل البيت من رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الإمام زيد بن على بأسانيدها المتعددة. " أعلام المؤلفين الزيدية " (ص "00). " ومؤلفات الزيدية " (1/ 153 رقم 406). في المخطوط " الشحري " وفي مصادر الترجمة الشجري. وهو الصحيح. (¬2) الإمام الحافظ أبو سعد إسماعيل بن على بن الحسين الرازي السمان، ولد سنة نيف وسبعين وثلاث مئة، والمتوفى سنة 443 هـ قال ابن عساكر: قدم دمشق طالب علم، وكان من المكثرين الجوان، مع من نحو أربعة آلاف شيخ وقال عنه الحافظ عبد العزيز الكتابي: كان من الحفاظ الكبار زاهدا يذهب إلى الاعتزال. انظر: " الميزان " (1/ 239)، " شذرات الذهب " (3/ 273)، و"سير أعلام النبلاء" (18/ 55).

55 - (الأمم (¬1) للكردي (¬2): أرويه عن شيخي يوسف بن محمد بن علاء الدين المزجاجي عن أبيه عن جده عن المؤلف. ح- وأرويه عن شيخنا السيد عبد القادر بن أحمد عن شيخه السيد سليمان بن يحيى الأهدل عن شيخه أحمد بن محمد الأهدل عن النخلي عن المؤلف. وأرويه بطرق أخرى ستأتي في إسناد مستدرك الحاكم. وقد اشتمل على أسانيده لكتب الإسلام فليرجع إليه. 51 - (الإمام لابن دقيق العيد وسائر تصانيفه): أرويها بالإسناد المتقدم في كتاب الإكمال إلى الديبع عن عبد اللطيف الشرجي عن نفيس الدين العلوي عن سراج الدين بن النحوي عن الحافظ بن سيد الناس العمري عن المؤلف. 52 - (الانتصار (¬3) .... .... .... .... .... .... .... .... .... .... .... .... ...... ¬

(¬1) الأمم (بفتح الهمزة) فقد طبع بالهند سنة 1328هـ وهو نادر جدا [الأمم لقود الهمم]. (¬2) إبراهيم بن حسن بن شهاب الدين الكورايى (الشهرزوري الشهراني الكردي) ولد سنة 1025 هـ ببلاد شهران من جبال الكرد قرأ في المعاني والبيان والأصول والفقه وذكر مشايخه في (الأمم) وترجم لكل واحد منهم. له مصنفات كثيرة: إنها تزيد على ثمانين منها: إتحاف الخلص بتحقيق مذهب السلف، قصد السبيل، وإنباه الأنباه في إعراب لا إله إلا الله). " البدر الطالع " رقم (6)، " مسلك الدرر " (1/ 5). (¬3) الانتصار الجامع لمذاهب علماء الأمصار في ثمانية عشر مجلدا، وهو في تقرير المحتار من مذاهب الأئمة وأقاويل علماء الأمة في المباحث الفقهية والمقررات الشرعية، وكان مشغولا به في سنوات

للإمام يحيى بن حمزة (¬1): أرويه بالإسناد المتقدم إلى الإمام شرف الدين عن الفقيه علي بن أحمد عن علي بن زيد عن السيد أبي العطايا عن الفقيه يوسف عن الفقيه حسن النحوي عن المؤلف. 53 - (الانتقاد (¬2) في الآيات المعتبرة في الاجتهاد للإمام المهدي أحمد بن يحي (¬3): أرويه بالإسناد المتقدم إلى الإمام شرف الدين عن السيد صارم الدين عن المطهر بن محمد بن سليمان عن المؤلف. 54 - (أنوار التنزيل للبيضاوي): أرويه عن شيخنا السيد عبد القادر بن أحمد عن شيخه السيد احمد بن عبد الرحمن عن السيد الحسين بن أحمد زبارة عن عبد العزيز بن محمد الحبيشي قال: أخبرني ملا محمد ¬

(¬1) هو الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم محمد بن إدريس بن علي بن جعفر بن علي بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين السبط بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ولد. بمدينة صنعاء سنة (669 هـ) واشتغل بالمعارف العلمية وهو صبى فأخذ في جميع أنواعها على أكابر علماء الديار اليمنية، وتبحر في جميع العلوم وفاق أقرانه وصنف التصانيف الحافلة قي جميع الفنون فمنها " الشامل " في أربع مجلدات و" المحصل في شرح المفصل " أربع مجلدات وبالجملة فهو ممن جمع الله له بين العلم والعمل، والقيام بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. مات سنة (705 هـ). بمدينة دمار وها دفن. انظر " البدر الطالع " (2/ 331 - 333). (¬2) هو من أجزاء موسوعة المؤلف " البحر الزخار " وقد ضمنه ذكر آيات الأحكام الواردة في القرآن وهى خمسمائة آية، رتبت الآيات على ترتيبها في القرآن الكريم. أوله: " اتفق العلماء على أن المعتبر في الاجتهاد من كتاب الله تعالى معرفة آيات الأحكام فقط وتظاهرت أقوالهم أن جملتها خمسمائة ". مكتبة الجامع الكبير (589، 055 2، 02 1 م) من القرن التاسع مؤلفات الزيدية (1/ 145رقم 446) أعلام المؤلفين الزيدية (ص 209). (¬3) هو من أجزاء موسوعة المؤلف " البحر الزخار " وقد ضمنه ذكر آيات الأحكام الواردة في القرآن وهى خمسمائة آية، رتبت الآيات على ترتيبها في القرآن الكريم. أوله: " اتفق العلماء على أن المعتبر في الاجتهاد من كتاب الله تعالى معرفة آيات الأحكام فقط وتظاهرت أقوالهم أن جملتها خمسمائة ". مكتبة الجامع الكبير (589، 055 2، 02 1 م) من القرن التاسع مؤلفات الزيدية (1/ 145رقم 446) أعلام المؤلفين الزيدية (ص 209).

الملقب شريف بن يوسف بن محمود الكردي عن جده محمود أخبرني الملا حسن الفاضل أخبرني الملا إبراهيم بن علاء الدين أخبرني أبي أخبرني الملا على بن أحمد الكبير أخبرني محمد بن كمال الدين الكنجي أخبرني الشرف المناوي عن الولي أبي زرعه العراقي عن الضياء الفرض عن البدر القشيري عن المؤلف. 55 - (أنوار اليقين للإمام الحسن بن بدر (¬1) الدين): أرويها بالإسناد السابق إلى الإمام محمد بن المطهر عن السيد صلاح بن إبراهيم بن تاج الدين عن المؤلف. 56 - (الأنوار (¬2) للإمام المهدي): أرويها بالإسناد المتقدم قريبا لكتاب الانتقاد إلى المؤلف. 57 - (الإيثار (¬3) لمحمد بن إبراهيم الوزير): أرويه عن شيخي عبد القادر بن أحمد عن شيخه السيد سليمان بن يحيى الأهدل عن ¬

(¬1) الإمام المنصور بالله الحسن بن بدر الدين محمد لن يحي الهدوي 56910 - 670 هـ أ دعا للإمامة لنفسه هجرة رغافة في جهات صعدة. من مصنفاته: أنوار اليقين في إمامة أمير المؤمنين، منه نسخة مخطوطة سنة 1060 هـ في 283 ورقه بمكتبة الجامع الكبير الغربية رقم8 سيرة ثانية. ومن مصنفاته: الكامل المنير، جواب على اعتراضات وردت عليه. " أعلام المؤلفين الزيدية " (ص 310)، " مصادر الحبشي " (ص 550 - 551). (¬2) واسمه كما في مؤلفات الزيدية (173" رقم 465): " الأنوار قي الآثار الناصة على مسائل الأزهار " ذكروا أن هذا الكتاب ألف في السجن، وهو شرح على كتاب المؤلف " الأزهار " اهتم فيه بتخريج الأدلة وتوضيح ما يحتاج إلى التوضيح. وانه كما قي أعلام المؤلفين الزيدية (ص 257): " الأنوار في صحيح الآثار الناصة على مسائل الأزهار " منه نسخة في مكتبة الأوقاف بالجامع الكبير رقم (2016) ونسخة في المكتبة الغربية بنفس الجامع ضمن مجموعة 264. وهناك نسخ أحرى. (¬3) واسمه: " إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق من أصول التوحيد " مطبوع.

أبيه عن الحسن بن علي العجيمي عن أحمد بن محمد العجل عن ير بن مكرم الطبري عن عبد العزيز بن فهد عن المؤلف. وكذلك سائر مصنفاته. 58 - (الإيجاز للشيخ لطف الله الغياث (¬1): أرويه بالإسناد المتقدم إلى القاضي أحمد سعد الدين عن الحسن بن القاسم عن المؤلف. ¬

(¬1) هو لطف ألله بن محمد الغياث بن الشجاع بن الكمال بن داود الظفري اليماني، العلامة الشهير المحقق الكبير، ترجمه له صاحب " مطلع البدور " ولم يذكر له شيوخا ولا مولدا ولم أقص أنا على ذلك. له كتاب " الإيجاز في المعاني والبيان " لخصه من التلخيص للقزويني ولكنه حذف ما وقع عليه الاعتراض من شرحه وأهل الحواشي وأبدله بعبارة لا يرد عليها ما أوردوه وبالغ في الاختصار من دون إهمال لما تدعو إليه الحاجة مما في الأصل. وقد شرحه. وله " الإيجاز في المعاني والبيان " و" شرح الكافية " وشرح الفوائد الغياثية وأرجوزة في الفرائض. توقي في ظفير حجه في رجب سنة (1035هـ). انظر: " البدر الطالع " (2/ 71 - 73)، و" الروض الأغن " (2/ 163 رقم 657).

حرف الباء الموحدة 59 - (البحر الزخار للإمام المهدي أحمد بن يحيى (¬1): أرويه عن شيخنا السيد العلامة عبد القادر بن أحمد عن شيخه أحمد بن عبد الرحمن الشامط عن شيخه الحسين بن أحمد زبارة عن القاضي أحمد بن صاع بن أبي الرجال عن القاضي أحمد بن سعد الدين عن الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم بن محمد عن أبيه عن السيد صلاح بن أحمد بن عبد الله الوزير عن أبيه عن الإمام شرف الدين عن الإمام محمد ابن علي السراجي عن الإمام المطهر بن محمد بن سليمان عن المؤلف. وأرويه بطرق غير هذه قد تقدم ذكر بعضها متصلا بالمؤلف. 60 - (البحر لأبي حيان (¬2): أرويه بالإسناد المتقدم أول هذا المجموع إلى البابلي عن أبي الإمداد إبراهيم بن إبراهيم عن عمر بن الجائي عن أبي الفضل الجلال السيوطي عن العلم صاع البلقيني عن أبيه عن ¬

(¬1) البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار من الكتب المعتمدة لدى الزيدية، وهو كتاب متداول مطبوع في (5) مجلدات أولى 1366هـ- 1974م. ممصر وله شروحات كثيرة منها:-" المنار ني المختار من البحر الزخار " للعلامة صالح بن مهدي المقبلى. (¬2) هو محمد بن يوسف بن على بن يوسف بن حيان الغرناطي الجياني، الأندلسي، (أثير الدين، أبو حيان) أديب، لغوي، مقرئ، مؤرخ. ينتسب إلى قبيلة نقره البردرية. ولد أواخر شوال سنة (654 هـ) وهو عالم تزود بالمعرفة والثقافة في بلده، ودرس علي شيوخها وصل عدد شيوخه نحو (450) شيخا. له مجموعة من المؤلفات منها: "البحر المحيط في تفسير القرآن "، وهو كتاب متداول مطبوع. و" الأمر الأحلى في اختصار المحلى " و" النهر الماد ". وغيرها من المؤلفات. توفي بالقاهرة في 18 صفر سنة (745 هـ). انظر: " طبقات السبكي " (3"6 - 44)، " الدرر الكامنة " (4/ 302 - 310)، " شذرات الذهب " (45/ 16)، "البدر الطالع " (28812 - 291)، " حسن المحاضرة "السيوطي (7/ 307 - 309).

مؤلفه. 61 - (بداية (¬1) الهداية للغزالي): أرويها بالإسناد السابق في كتاب الإحياء المتصل بالمؤلف. 62 - (البديع لابن الساعاتي (¬2): أرويه بالإسناد المتقدم في أوائل هذا المجموع إلى البابلي عن أبي الإمداد اللقاني عن عمر ابن الجائي الحنفي عن أبي الفضل الجلال السيوطي عن النجم محمد بن أحمد بن عبد الله الغماري عن إبراهيم بن أحمد التنوخى عن الحافظ البرزالي عن المؤلف. 63 - (بديعية ابن حجة (¬3) وشرحها له): أرويها وسائر مصنفاته هذا الإسناد المتقدم إلى السيوطي عن شيوخه كالحافظ ابن ¬

(¬1) طبع هذا الكتاب عدة طبعات. انظر المعجم المؤسس (2/ 135). (¬2) هو أحمد بن علي بن ثعلب بن أبي الضياء الحنفي، البعلبكي الأصل، البغدادي المولد والمنشأ، المعروف بابن الساعاتي (أبو العباس، مظفر الدين) فقيه، أصولي، أديب. توفي سنة (694). من تصانيفه " مجمع البحرين " وشرحه في مجلدين كبيرين في فروع الفقه الحنفي، البديع قي أصول الفقه "الدر المنصور في الرد على فيلسوف اليهود (ابن كمونه) " بيان معاني البديع النظام الجامع بين كتابي البزدوي والأحكام". انظر: " الجواهر المضية " (1/ 80 - 81) للقرشي و" الفوائد البهية " (ص27) للكنوي. (¬3) العلامة الأديب أبو بكر بن على بن حجة الحموي الحنفي الأزراري، ولد سنة 767 هـ كان يعمل في بيع الأزرار فتولع بالأدب ومهر به وكان طويل النفس قي النظم والنثر، وله مقاطيع بديعة، كان حسن الأخلاق والمروعة. وهو من شيوخ الحافظ بن حجر وتلميذ له أيضا- أقران- توفي سنة 837 هـ. له مصنفات: " بلوغ المرام من سيرة ابن هشام " والروض الأنف والأعلام. " المعجم المؤسس " (9613 رقم 461)، " البدر الطالع " (1/ 164)، و" النجوم الزاهرة " (189/ 15)، " شذرات الذهب " (7/ 219). وكتابه " البديعة " فقد طبعت في بولاق عام (291 ا هـ) وفي المطبعة الأدبية ببيروت عام (1323). " معجم المطوعات " (1/ 76).

حجر والبلقيني وغيرهما عن المؤلف. 64 - (البدر المنير لابن الملقن (¬1): أرويه وسائر تصانيفه هذا الإسناد السابق إلى السيوطي عن شيوخه المذكورين عن المؤلف. 65 - (بدر التمام (¬2) شرح بلوغ المرام للمغربي (¬3): ¬

(¬1) هو عمر بن علي بن احمد بن محمد بن عبد الله الأنصاري، الأندلسي، التكروري الأصل، المصري، الشافعي، ويعرف بابن الملقن " سراج الدين، أبو حفص " فقيه، أصولي، محدث، حافظ، مؤرخ مشارك في بعض العلوم. ولد بالقاهرة سنة (723 هـ) وتوفي ها سنة (4 80 هـ). من تصانيفه: " الإشارات إلى ما وقع في المنهاج " للنووي من الأسماء والمعاني واللغات في فروع الفقه الشافعي، "العقد المذهب في طبقات حملة المذهب من زمن الشافعي "مختصر مسند الإمام أحمد " " شرح ألفية ابن مالك في النحو "البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة قي الشرح الكبير للرافعي "- وقد طبع منه كتاب الطهارة- وغيرها من المؤلفات الكثيرة. انظر: " الضوء اللامع " (6/ 100 - 105)، " شذرات الذهب " (7/ 44 - 45)، " البدر الطالع " (1/ 508 - 511) "، حسن المحاضرة " (1/ 249). (¬2) هذا الكتاب لا يزال مخطوطا، وهو أصل " سبل السلام " لابن الأمير رحمه الله! حيث! ام ابن الأمير باختصار هذا الكتاب وحماه " سبل السلام ". قال الشوكاني في " البدر الطالع " (1/ 230) " ((" البدر التمام شرح بلوغ المرام " وهو شرح حافل نقل ما قي التلخيص من الكلام على متون الأحاديث وأسانيدها، ثم إدا كان الحديث في البخاري نقل شرحه من " فتح الباري " وإذا كان في صحيح مسلم نقل شرحه من شرح النووي، وتارة ينقل من شرح السنن لابن رسلان، ولكنه لا ينسب هذه النقول إلى أهلها غالبا مع كونه يسوقها باللفظ. وينقل الخلافات من (البحر الزخار) للإمام المهدي احمد بن يحيى. وفي بعض الأحوال من " فاية ابن رشد " ويترك التعرض للترجيح في غالب الحالات وهو مرة الاجتهاد، وعلى كل حال فهو شرح مفيد وقد اختصره السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير وسمي المختصر " سبل السلام " هـ وللبدر (14) نسخة أنظرها في الفهرس الشامل (1/ 290). (¬3) هو الحسين بن محمد بن سعيد بن عيسى اللاعي المعروف بالمغربي.

أرويه عن شيخي السيد عبد القادر بن أحمد عن شيخه السيد هاشم بن يحيى الشامي عن المؤلف. 66 - (البردة (¬1) للبوصيري (¬2): أرويه بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن سليمان بن عبد الدائم عن النجم محمد بن أحمد عن شيخ الإسلام زكريا عن أبي إسحاق الصالحي عن الصلاح أبي عبد الله محمد بن محمد بن الحسن الشاذلي عن علي بن خاير الهاشمي عن ناظمها. 67 - (البسامة (¬3) للسيد صارم الدين إبراهيم بن محمد .... .... .... ¬

(¬1) وهي قصيدة مشهورة معروفة، إلا أن فيها بعض المعاني التي تعد من المخالفات الشرعية الواضحة. مثل القسم بالرسول صلى الله عليه واله وسلم، ويصرح بسحود الشجر لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفيها: إخلال بتوحيد الربوبية، وفيها: صرف خصائص الربولية والإلهية لغير الله ... وما شاكل دلك. (¬2) هو محمد بن سعيد بن حماد بن محسن بن عبد الله الصنهاجي، الدلالي، البوصيري (شرف الذين، أبو عبد الله) صوفي، من أهل الطرق. ناظم. ولد بدلاصي في أول شوال سنة (608 هـ) ونشأ في أبو صير، وتوفي في الإسكندرية سنة (694 هـ). من آثاره: " قصيدة الكواكب الدرية في مدح خير البرية "، المعروفة بالبردة. " أم القرى في مدح خير الورى " (قصيدة) " وتفريج الشدة بتسبيع البردة "، " تعشير الكواكب الدرية في مدح حير البرية "الجواهر المضية لحل ألفاظ الهمزية في مدح الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ " وغيرها. انظر: " شذرات الذهب " (5/ 1432 هدية العارفين " (2/ 138) " كشف الظنون " (1331 - 1349) لحاجي خليفة المعجم المؤلفين " (3/ 317 - 318). (¬3) البسامة: تاريخ منظوم بالغ الشهرة لأئمة الزيدية الحاكمين على اليمن وبعض البلدان الأخرى. وهو في نحو مائتين وأربعين بيتا ويسمى " جواهر الأحبار في سيرة الأئمة الأخيار " واعتنى العلماء بشأنه كثيرا فنظموا له ذيولا في العصور المختلفة.

الوزير (¬1): أرويها بالإسناد السابق في أول هذا المجموع إلى الإمام شرف الدين عن الناظم. 68 - (البستان (¬2) لمحمد بن أحمد بن مظفر (¬3): أرويه بالإسناد السابق إلى الإمام القاسم بن محمد عن عبد العزيز بن محمد هران عن يحيى حميد عن محمد بن عبد الله راوع عن المؤلف. 69 - (بشرى اللبيب (¬4) بذكرى الحبيب لابن .... .... .... ..... ¬

(¬1) الإمام إبراهيم بن محمد الوزير، من أئمة الزيدية (834 - 914) كما في الروض الأغن وقال الشوكاني قي " البدر الطالع " (1/ 31) ولد سنة 860 هـ. من مصنفاته الفصول اللؤلؤية، هداية الأفكار في شرح الأزهار وله شرح: بسامة أهل البيت. الروض الأغن (1/ 21 - 22 رقم 30)، البدر الطالع (1/ 31)، مؤلفات الزيدية (1/ 206 رقم 560) (¬2) البستان في شرح البيان: وهو شرح على كتاب " البيان الشافي المنتزع من البرهان " لجده يحيى بن احمد الحمدي فذكر فيه أدلة المذاهب ووجه المسالة وعلتها. واحمه الكامل " البستان الجامع للفواكه الحسان المثمر للياقوت والمرجان الناطق بحجج البيان من السنة والقرآن. مؤلفات الزيدية (1/ 207 رقم 561). مكتبة الجامع الكبير (1330) كتبه صلاح بن محمد بن الهادي 896. (¬3) محمد بن أحمد بن يحيى الصنعاني، اليمني الزيدي، المعروف بابن المظفر توفي سنة 926 هـ. له عدة مؤلفات. بحت في مسألة المحتسب، الترجمان. البدر الطالع (2/ 124)، الروض الأغن (3/ 14 رقم 688). (¬4) بشرى اللبيب بذكرى الحبيب. كتاب رتب فيه قصائده في مدح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الحروف، ثم شرحها. طبع قسم منه سنة 1231هـ بعناية أحد المستشرقين في ألمانيا. وله عدة مخطوطات منها في: دار الكتب المصرية رقم (5088) أدب، وتيمورية (751)

سيد الناس (¬1): أرويها بالإسناد المتقدم إلى الديبع عن عبد اللطيف الشرجي عن نفيس الدين العلوي عن سراج الدين بن النحوي عن المؤلف. وكذلك سائر تصانيفه. 70 - (البعث والنشور (¬2) للبيهقي): أرويه بالإسناد السابق في كتاب الأسماء والصفات له فارجع إليه. 71 - (بلوغ المرام لابن حجر (¬3): ¬

(¬1) ابن سيد اليعمري الأندلسي الإشبيلي (671 - 734 هـ) صاحب عيون الأثر وغيرها، قال عنه الذهبي في " المعجم المختصر ". أحد أئمة هذا الشأن. وقال ابن كثير: اشتغل بالعلوم فبرع وساد أقرانه في علوم شيء من الحديث والفقه والنحو، وعلم السير والتاريخ وغير ذلك، وقد جع سيرة حسنة في مجلدين. تذكرة الحفاظ (4/ 233)، الدرر الكامنة (4/ 330). (¬2) طبع هذا الكتاب عدة مرات (¬3) هو احمد بن علي بن محمد بن محمد علي بن أحمد الكناني، العسقلاني، المصري المولد، والمنشأ والدار والوفاة، الشافعي ويعرف بابن حجر (شهاب الدين، أبو الفضل) محدث، مؤرخ، أديب، شاعر. ولد سنة (773 هـ) وتوفي سنة (852 هـ). له مصنفات كثيرة منها: " فتح الباري شرح صحيح البخاري "، " الدرر الكامنة "، " الدراية "، " نتائج الأفكار "، " تلخيص الحبير "، " الخصال المكفرة "، " نخبة الفكر " وغيرها. وأما الكتاب المذكور " بلوع المرام " فقد أكرمني الله بتحقيقه وتخريج أحاديثه ولله الحمد والمنة. انظر: " شذرات الذهب " (7/ 270 - 273) " حسن المحاضرة " (1/ 206 - 08 2) " البدر الطالع (1/ 87 - 92).

أرويه عن شيخي السيد عبد القادر بن أحمد عن شيخه السيد أحمد بن عبد الرحمن عن شيخه السيد الحسن بن أحمد زبارة عن شيخه عبد العزيز بن محمد الحبيشي عن إبراهيم ابن عبد الله بن جعمان عن محمد بن إبراهيم بن جعمان عن إبراهيم بن محمد بن جعمان عن السيد الطاهر الأهدل عن عبد الرحمن الديبع عن الحافظ السخاوي عن المؤلف. وأرويه بطرق أخر. 72 - (البلغة (¬1) للمؤيد بالله الهاروني): أرويها بالإسناد المتقدم في كتاب الأمالي له فارجع إليه. 73 - (البهجة لان الوردي (¬2): أرويها بالإسناد السابق إلى البابلي عن علي بن إبراهيم الحبي عن الشمس محمد الرملي عن الشيخ زكريا عن الحافظ ابن حجر العسقلاني عن أبي اليسر ابن الصائغ عن ناظمها. 74 - (بهجة المحافل للعامري (¬3): ¬

(¬1) كتاب لطيف مثقل بالفوائد والزوائد على مذهب الإمام الهادي، ألفه للصاحب بن عباد، مؤلفات الزيدية (1/ 213 رقم 582). (¬2) هو عمر بن مظفر بن عمر بن محمد بن أبي الفوارس المعري، الحبي، الشافعي، المعروف بابن الوردي (زين الدين) فقيه، أديب، ناثر، ناظم، لغوي، نحوي، مؤرخ. ولد. معرة النعمان، وتوفي بحلب سنة (749 هـ). من تصانيفة الكثيرة: " رسالة قي مفاخرة السيف والقلم "، " منظومة في تفسير الأحلام "، " منافع النبات والثمار والبقول والفواكه "" نظم الحاوي الصغير " للقزويني في فروع الفقه الشافعى وعاه " البهجة الوردية "" نصيحة الإخوان ومرشدة الخلان "" ديوان شعري مجلدين ". و (البهجة في نظم الحاوي) في (5063) بيتا. نظم به (الحاوي) الصغير بغالب ألفاظه أقسم بالله لم ينظم أحد بعده الفقه إلا وقصر دونه طبعت عام 3" هـ طبعة حجرية بالمطبعة البهية- مطبعة أبي زيد. انظر: " الدرر الكامنة " (3/ 195 - 197) " طبقات السبكي " (6/ 243 - 245) " شذرات الذهب " (6/ 161 - 162) " البدر الطالع " (1/ 514 - 515). (¬3) هو ير بن أبي بكر بن محمد بن يحيى بن محمد العامري، الحرضى، اليماني

أرويها بالإسناد السابق إلى الديبع عن إبراهيم بن أبي القاسم بن جعمان عن المؤلف. 75 - (البيان (¬1) لابن مظفر (¬2): أرويه بالإسناد المتقدم إلى الإمام شرف الدين عن شيخه علي بن أحمد عن شيخه علي بن زيد عن المؤلف. 76 - (البيان لابن معرف (¬3): ¬

= (أبو زكريا) محدث، حافظ مؤرخ مشارك في بعض العلوم. ولد في حرض سنة (816 هـ) وتوفي فيها سنة (893 هـ). من تصانيفه: " غربال الزمان في التاريخ "، " بهجة المحافل وبغية الأماثل قي تلخيص السير والمعجزات والشمائل " طبع في مجلدين. " الضوء اللامع " (10/ 224) و" البدر الطالع " (32512 - 326). (¬1) " البيان الشافي المنتزع من البرهان الكافي " في مجلدين كبيرين، وهو معتمد كثير من علماء الزيدية في الفقه، وهو يجمع في كل مسألة آراء الأئمة وعلماء المذهب بالإضافة إلى ما يؤدي إليه اجتهاد المؤلف ونظره. مؤلفات الزيدية (1/ 224 رقم 615). (¬2) هو يحيى بن احمد بن مظفر. قال الشوكاني في " البدر الطالع " (325/ 2 - 326): (ترجم له في مطلع البدور، واقتصر على ذكر اسمه واسم أبيه وجده. وقال إنه كان عارفا مجددا ولم يزد على هذا. ومن جملة مصنفاته: " الكواكب على التذكرة والبيان " وغير ذلك وأرخ موف لسنة (875 هـ) هـ. وقال الشوكاني (2/ 327) عن كتابه البيان هذا: (كما صرح بذلك صاحب الترجمة في أول مصنفه الذي على " البيان " فإنه قال: وجعلت فيه ما كان مطلقا فهو من كتابي التذكرة والزهور، أو ما نقلته عن شيخي المشهور عالم الزمان يوسف بن أحمد بن محمد بن عثمان، أو مما استحسنته من البحر الزحار. وقد عكف الطلبة على كتابه المذكور في ديار الزيدية كصنعاء وذمار وصعده وغيرها. وصار لديهم من أعظم ما يعتمدونه في الفقه) هـ. (¬3) هو محمد بن معرف، الشيخ الزيدي من علماء الزيدية الأعلام، عاصر الإمام المهدي أحمد ابن الحسين، وشهد بإمامته، ودرس على الأمير علي بن الحسين وفي المستطاب، أنه شيخ الأمير، وأخذ عن ابن معرف الأمير الحسين بن محمد

أرويه بالإسناد المتقدم إلى الإمام شرف الدين أيضًا عن شيخه على بن أحمد عن شيخه على بن زيد عن السيد أبي العطايا عن الفقيه يوسف عن الفقيه حسن عن الفقيه يحيى عن الأمير المؤيد عن الأمير الحسن عن المؤلف. 77 - (البيان في التفسير للنجراني (¬1): أرويه هذا الإسناد إلى الأمير الحسن عن المؤلف عطية بن محمد النجراني. وله مؤلفات منها: " المذاكرة "المنهاج" وغير ذلك. انظر: " تراجم الرجال " للجنداري (ص 36). ¬

(¬1) هو عطية بن محمد بن احمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد النجراني، الزيدي، فقيه مفسر. ولد سنة (603 هـ) وتوفي سنة (665 هـ). انظر " تراجم الرجال " للجنداري (ص 23) و" معجم المؤلفين " (238) 0 الروض الأغن (2/ 201رقم 532). أما كتابه (البيان في التفسير) فقد جاء في الروض الأغن (210) ومصادر الفكر ص 16 أنه ما ذكر إلا عند الإمام الشوكاني قي (إتحاف الأكابر) ص 22، ووقف عليه بن الحسين. صاحب (المستطاب) وقال قي وصفه: كتاب جليل، جمع فيه من علوم التفسير، الموافقة لقواعد الزيدية، قي العدل والتوحيد وأكثر ما ينقل من تفسير الإمام أبي الفتح (ت 433 هـ).

حرف التاء المثناة من فوق 78 - (التبيان في آداب حملة القرآن (¬1) للنووي): أرويه بالإسناد المتقدم في كتاب الأذكار له. 79 - (التجريد (¬2) للمؤيد بالله): أرويه بالإسناد المتقدم في كتاب الأمالي المتصل بالمصنف. 80 - (التحرير (¬3) لأبي طالب): أرويه بالإسناد المتقدم في كتاب الإفادة المتصل بالمؤلف. 81 - (التحرير لابن الهمام (¬4) أرويه بالإسناد السابق إلى البابلي عن الزين عبد الله بن محمد النحريري عن الجمال ¬

(¬1) طبع مرارا أقدمها ما طبع عام 1286 هـ. ممصر وعام 1307هـ. ممصر. (¬2) التجريد في علم الأثر: أسند كل حديث فيه من خمس طرق، وهو في فقه الهادي يحيى بن الحسين وجده القاسم الرسى مؤلفات الزيدية (1/ 249 رقم 687). (¬3) التحرير في الكشف عن نصوص الأئمة النحارير: تلخيص لمذاهب الإمامين القاسم بن إبراهيم ويحيى بن الحسين وأولادهما من أئمة الزيدية. مؤلفات الزيدية (7/ 253 رقم 701). (¬4) هو محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد بن مسعود السواسي الأصل، الإسكندري، ثم القاهري الحنفي، المعروف بابن الهمام (كمال الدين) المشارك في الفقه والأصول والتفسير وغير ذلك. ولد بالإسكندرية سنة (790 هـ) وتوفي بالقاهرة سنة (861 هـ). من تصانيفة: " شرح الهداية في فروع الفقه الحنفي "، وسماه " فتح القدير " للعاجز الفقير " مختصر الرسالة القدسية بأدلتها البرهانية " للغزالي، " التحرير في أصول الفقه " و" شرح بديع النظام الجامع بين كتابي البزدوي والأحكام " لابن الساعاتي. انظر:"الضوء اللامع" (8/ 127 - 132) " البدر الطالع" (2/ 201 - 202) " حسن المحاضرة" (1/ 270).

يوسف بن زكريا عن والده عن المؤلف. 82 - (التدريب لسراج الدين البلقيني (¬1): أرويه بالإسناد السابق في بلوغ المرام إلى الحافظ ابن حجر عن المؤلف. 83 - (التذكرة للقرطبي (¬2): أرويها بالإسناد المتقدم في أوائل هذا المجموع إلى البابلي عن يوسف الزرقاني عن الشمس الرملي عن القاضي زكريا عن القاضي أبي محمد عبد الرحيم بن الفرات عن القاضي عبد العزيز بن محمد بن جماعة عن أبي جعفر بن الزبير عن المؤلف. . وقد شرح " التحرير " العلامة محمد أمين المعروف بأمير بوشاه الحسيني بعنوان " تيسير التحرير " تصوير دار الكتب العلمية بيروت- دون تاريخ. ¬

(¬1) هو عمر بن رسلان بن نصير بن صاع بن عبد الخالق بن عبد الحق الكناني، القاهري الشافع، العسقلاني الأصل البلقيني (سراج الدين، أبو حفص) محدث، حافظ، فقيه، أصولي، مجتهد، بياني، نحوي، مفسر، متكلم ناظم. ولد ببلقينه من بلاد الغربية. ممصر سنة 724 هـ وتوفي بالقاهرة سنة (855 هـ). له تصانيف كثيرة منها: " ترجمان شعب الإيمان " حاشية على الكشاف " التدريب " قطر السيل في أمر الخيل ". انظر: " الضوء اللامع " (8516 - 90) " شدرات الذهب " (51 - 52) " البدر الطالع " (1/ 506 - 507). (¬2) هو محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري، الخزرجي، الأندلسي، القرطبي، المالكي (أبو عبد الله) مفسر. توفي. ممنية بن خصيب. ممصر سنة (671 هـ). من تصانيفه: " الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة رأي الفرقان "، " الأساس في شرح أسماء الله الحسنى " في مجلدين، " قمع الحرص بالزهد والقناعة ورد ذل السؤال بالكف والشفاعة "، و" التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة ". انظر: " شذرات الذهب " (5/ 335) " هدية العارفين " (2/ 129) " معجم المؤلفين " (3/ 52).

84 - (التذكرة (¬1) للفقيه حسن النحوي (¬2): أرويها بالإسناد المتقدم إلى الإمام شرف الدين عن شيخه علي بن أحمد الشطط عن شيخه على بن زيد عن يحيى بن أحمد بن مظفر عن الفقيه يوسف بن أحمد بن عثمان عن المؤلف. 85 - (الترغيب والترهيب (¬3) للمنذري): أرويه بالإسناد المتقدم إلى الديبع عن شيخه الشرجي عن محمد بن أبي بكر العثماني عن الجمال إبراهيم بن محمد اللخمي الأمير عن يونس بن إبراهيم الدبوسي عن المؤلف. 86 - (التسهيل (¬4) لابن مالك وسائر تصانيفه): أرويها بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن الشهاب أحد السنهوري عن ابن حجر المكي ¬

(¬1) التذكرة الفاخرة في فقه العترة الطاهرة قال الشوكاني في البدر (1/ 210) أودع فيه من المسائل مالا يحيط به الحصر مع إيجاز وحسن تعبير، وكان الكتاب مدرس الزيدية وعمدتهم حتى اختصره الإمام المهدي، وجرد منه الأزهار، فمال الطلبة إلى المختصر. وقال الجنداري: إذا أطلق لفظ التذكرة فهي تذكرة الفقيه حسن النحوي واعتمد المؤلف في كتابه على كتاب اللمع وشرح الزيادات وكتاب القاضي زيد بن محمد يقول بعض الشيوخ في وصف كتاب التذكرة، الأزهار أمه، واللمع جدته فرغ منه مؤلفه سنة 790 هـ 17 مجلدا قي مكتبة الأوقاف. مصادر الحبشي، البدر الطالع (1/ 210). (¬2) هو الحسن بن محمد بن الحسن بن سابق الدين بن علي بن احمد بن أسعد بن أبي السعود ابن يعيش المعروف بالنحوي. الصنعاني الزيدي، عالم الزيدية في زمانه وشيخ شيوخهم، وناشر علومهم، كان يحضر حلقة تدريسه زهاء ثمانين عالما وله تحقيق وإتقان لا سيما لعلم الفقه يفوق الوصف. انظر: البدر الطالع (1/ 210) أعلام المؤلفين الزيدية (ص 341). (¬3) هو كتاب في الحديث مجموع على أبواب منتقاة وهو مطبوع متداول. ومن الذين خدموا هذا الكتاب خدمة طيبة المحدث الألباني، في "صحيح الترغيب"و" ضعيف الترغيب ". (¬4) اسم الكتاب: (تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد) طبع سنة 1319 هـ بالمطبعة الأميرية وطبع عام 1323 هـ بفاس، وقي دار الكتاب العربي عام 381 1 هـ

عن الزين زكريا عن العلم صاع البلقيني عن إبراهيم بن أحمد التنوخي عن الشهاب محمود بن سلمان عن المؤلف. 87 - (تفسير الثعلي (¬1) المسمى الكشف والبيان في تفسر القرآن (¬2): أرويه عن شيخي السيد عبد القادر بن أحمد عن شيخه السيد سليمان بن يحيى الأهدل عن السيد أحمد بن محمد الأهدل عن السيد ير بن عمر الأهدل عن يوسف بن محمد البطاح الأهدل عن السيد الطاهر بن حسين الأهدل عن الحافظ الديبع عن زين الدين الشرجي عن نفيس الدين العلوي عن أبيه عن أحمد بن أبي في الشماخي عن أبيه عن إسحاق بن أبي بكر الطبري عن محمد ابن إسماعيل بن أبي الصيف اليمني عن محمد بن علي النوقاني عن ناصر بن سهل البغدادي عن محمد بن المنتصر عن محمد بن الفرخزاذي عن المؤلف. 88 - (تفسير البغوي (¬3) المسمى معالم التنزيل وأسرار .... .... .... ..... ¬

(¬1) هو أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري (أبو إسحاق) مفسر، مقرئ، واعظ، أديب، تورني سنة (427 هـ). من تصانيفه: " الكشف والبيان عن تفسر القرآن "، " هـ عرائس المجالس المعروف قصص الأنبياء "، " ربيع المذكرين ". انظر: " البداية والنهاية " (12/ 40) " شدرات الذهب " (3/ 230 - 231). (¬2) تفسير " الكشف والبيان في تفسير القران " طبع. وقال ابن تيمية في مقدمته في أصول التفسير (ص 19) والثعلبي في نفسه كان فيه خير ودين، وكان حاطب ليل، ينقل ما وجد في كتب التفسير: من صحيح وضعيف وموضوع " وقال ابن تيمية في الفتاوى (2/ 193) وقد سئل عن بعض كتب التفسير: وأما الواحدي فإنه تلميذ الثعلبي، وهو أخبر منه بالعربية، لكن الثعلبي فيه سلامة من البدع وإن ذكرها تقليدا لغيره وتفسيره وتفسير الواحدي البسيط والوسيط والوجيز فيها فوائد جليلة وفيها غث كثير من المنقولات الباطلة وغيرها. وانظر: " التفسير والمفسرون " (1/ 221). (¬3) هو الحسين بن مسعود بن محمد المعروف بابن الفراء (البغوي) الشافعي (أبو محمد) فقيه، محدث، مفسر، ولد في " بغشور " وتوفي. بمرو سنة (516 هـ) وعالق بضعا وسبعين سنة. من تصانيفه: " معا لم التتريل ني التفسير "، "مصابيح السنة "، " التهذيب في فروع الفقه الشافعي"، " الجمع بين الصحيحين "، " شمائل النبي المختار ". انظر: " وفيات الأعيان " (1/ 402) " النجوم الزاهرة " لابن تغري (5/ 223 - 224) " تذكرة الحفاظ " (4/ 52 - 53) " شذرات الذهب " (4/ 48 - 49).

التأويل (¬1): أرويه بالإسناد المذكور قريبا إلى الشماخي عن الشيخ محمد بن إسماعيل الحضرمي عن محمد بن إسماعيل بن أبي الصيف اليماني عن محمد بن أبي بكر بن عيسى الأصفهاني عن المؤلف. 89 - (تفسر الواحدي (¬2) البسيط والوسيط والوجيز): أرويه بالإسناد المتقدم إلى الشماخي عن أبي الفتوح عثمان بن عبد الله الشرعي عن القاضي عبد الله بن أبي عقامة عن القاضي أحمد بن عبد الله القريظي عن إسماعيل بن عبد الملك الدينوري عن الشيخ عبد الجبار بن محمد البيهقي عن المؤلف. 90 - (تفسير الزمخشري (¬3) المسمى الكشاف (¬4): ¬

(¬1) أما تفسير البغوي: فقد قال ابن تيمية في مقدمته في أصول التفسير ص19: والبغوي تفسيره مختصر من الثعلبي، لكنه صان تفسيره عن الأحاديث الموضوعة والآراء المبتدعة ". وقال ابن تيمية في الفتاوى (2/ 193): وقد سئل عن أي التفاسير اقرب إلى الكتاب والسنة؟ الزمخشري؟ أم القرطبي؟ أم البغوي؟ أم غير هؤلاء " وأما التفاسير الثلاثة المسئول عنها، فأسلمها من البدعة والأحاديث الضعيفة البغوي، لكنه مختصر من تفسير الثعلبي، وحذف منه الأحاديث الموضوعة والبدع التي فيه، وحدد أشياء غير ذلك". (¬2) انظر كلام ابن تيمية وقد تقدم (¬3) انظر كلام ابن تيمية وقد تقدم (¬4) قال الشيخ حيدر الهروي- أحد الذين علقوا على الكشاف- واصفا الكشاف بقوله: " ... وبعد، فإن كتاب الكشاف، كتاب على القدر رفيع الشأن، مثله في تصانيف الأولين، ولم يرد شبيهه في تأليف الآخرين. اتفقت على متانة تراكيبه الرتميقة كلمة المهرة المتقنين، واجتمعت على محاسن أساليبه الأنيقة ألسنة التزم في كتابه أمورا ذهبت برونقه ومائه، وأبطلت منه ورواءه، فتكدرت مشاركه الصافية، وتضيقت موارده الضافية، وتزلزلت رتبه العالية " (منها): أنه كلما شرع في تفسير آية من الآية القرآنية مضمونا لا يساعد هواه، ومدلولها لا يطاوع مشتهاه، صرفها عن ظاهرها بتكلفات باردة، وتعسفات جامدة .... و (منها): أنه يطعن في أولياء الله المرتضين من عباده، .. و (منها): أنه أورد فيه أبياتا كثيرة، وأمثالا غزيرة بن على الهزل والفكاهة أساسها .... و (منها): أته يذكر أهل السنة والجماعة- وهم الفرقة الناجية- بعبارات فاحشة، " التفسير والمفسرون " للذهبي (1/ 403 - 452)

أرويه بالإسناد المتقدم إلى الشماخي عن الشيخ إسماعيل بن مسعود الخوارزمي عن عبد الله بن محمد الخوارزمي عن نجم الدين الحفص عن المؤلف. 91 - (تفسر أبي الخير عبد الله بن عمر البيضاوي (¬1) المسمى أنور التنزيل وأسرار التأويل): أرويه بالإسناد المتقدم عند ذكره في حرف الهمزة. وأرويه بالإسناد المذكور قريبا لتفسير الثعلبي إلى الديبع عن إسماعيل بن محمد بن مبارز عن الخطيب موسى بن محمد الصنجاعي عن مجد الدين الفيروز آبادي عن عبد الله بن محمود الأصفهاني عن المؤلف. 92 - (تفسير النقاش (¬2): ¬

(¬1) قد تقدم ذكر ترجمته. (¬2) هو محمد بن على بن عبد الواحد بن يحيى بن عبد الرحيم الدكالي، ثم المصري، الشافعي المعروف بابن النقاش (شمس الدين، أبو أمامة) محدث، فقيه، أصولي، نحوي، مفسر، واعظ، شاعر ناظم. ولد سنة (725 هـ) وتوفي بالقاهرة سنة (763 هـ). أخذ عن شهاب الدين الأنصاري والتقى السبكي وأبي حيان وغيرهم. درس بعدة مدارس، ووعظ بجامع دمشق. من تصانيفه: " شرح العمدة " في ثمان مجلدات، " شرح تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد " لابن مالك في النحو، " تخريج أحاديث الرافعي "، " تفسير مطول للقرآن ". انظر: " الدرر الكامنة " (4/ 71 - 74) " شذرات الذهب " (6/ 198) " البدر الطالع " (2/ 211 - 212). قال الشوكاني عن هذا التفسير في " البدر الطالع " (2/ 212): " وكتابا في التفسير مطولا جدا، والتزم أن لا ينقل حرفا عن تفسير احد ممن تقدمه، قال الصفدي: وكانت طريقته ني التفسير غريبة ما رأيت له في ذلك نظيرا " هـ. وقال الذهبي: اعتمد الداني في (التيسير) على رواياته للقراءات، فالله أعلم فإن قلبي لا يسكن إليه وهو عندي متهم، عفا الله عنه. انظر: الميزان (3/ 520) وسير النبلاء (15/ 573) ووفيات الأعيان (4/ 298).

أرويه بالإسناد المتقدم إلى الشماخي عن محمد بن أحمد بن مصباح عن عبد الله بن أحمد العمري عن الشيخ علي بن عمر الصقلي عن الشيخ محمد بن أحمد خونكار السجزي عن الشيخ الحسن بن أحمد الكرخي عن القاضي المحاملي عن المصنف. 93 - (التفسير المسمى عين المعاني (¬1): أرويه بالإسناد المتقدم إلى الشماخي عن القاضي إسحاق بن أبي بكر الطبري عن الشيخ محمد بن أحمد الغزنوي عن الشيخ أحمد بن أبي الفضل السجاوندي عن أبيه عن المؤلف. 94 - (تفسير السجستاني (¬2) المسمى نزهة القلوب): أرويه بالإسناد السابق إلى الشماخي أيضًا عن أحمد بن عباس السامري عن محمد بن ¬

(¬1) اسم التفسير: " عين المعاني في تفسير السبع المثاني "، " والوقف والابتداء" تأليف محمد بن طيفور الغزنوي السجاوندي أبو عبد الله، مفسر، مقرئ، نحوي. توفي سنة معجم المؤلفين (3/ 374) (¬2) هو عبد الله بن سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشر بن شداد بن عمرو بن عمران السجستماني، الأزدي (أبو بكر) محدث، حافظ، مقرئ، مفسر، مشارك في بعض العلوم. ولد بسجستان سنة (230 هـ) ورحل به أبوه منها يطوف به شرقا وغربا، وسمع الكثير، واستوطن بغداد وتوفي فيها سنة (316 هـ). من تصانيفه: " تفسير القرآن الكريم "، " المصابيح في الحديث "، " الناسح والمنسوخ ".

علي المودي عن عبد الله بن محمد بن دحمان عن محمد بن أحمد المعروف بابن الخطاب عن عبد الباقي بن فارس المقري عن عبد الله بن الحسين بن حسنون المغربي عن المؤلف. 95 - (تفسر الحداد) (¬1): أرويه بالإسناد السابق إلى الشرجي عن محمد بن عمر بن شوعان عن المؤلف. 96 - (تفسر الغزنوي المسمى الكشف والبيان): أرويه بالإسناد السابق إلى نفيس الدين العلوي عن أبي بكر بن محمد المخير في الحنفي عن محمد بن يوسف الصنجاعي عن محمود بن أحمد الواعظ الغزنوي عن يحيى بن عبد الصمد الغزنوي عن المؤلف. 97 - (تفسر الواحدي المسمى أسباب (¬2) النزول): أرويه بالإسناد السابق عند ذكره في حرف الهمزة. 98 - (تفسر السهيلي (¬3) المسمى التعريف والإعلام بما أبهم في القرآن من الأسماء ¬

(¬1) هو أبو بكر بن علي الحداد الزبيدي الحنفي، قرأ على والده، وعلى علي بن نوح وعلى علي بن عمر العلوي، وبرع في أنواع من العلم، واشتهر مكره وطار صيته. وصنف مصنفات في فقه الحنفية منها: " شرحان لمختصر القدوري صغير وكبير " وجمع تفسيرا حسنا هو الآن مشهور عند الناس يسمونه " تفسير الحداد " وله مصنفات كثيرة تبلغ عشرين مجلدا. مات سنة (800 هـ). بمدينة زبيد. وله زهد وورع وعفة وعبادة. انظر: " البدر الطالع " (1/ 166) و" معجم المؤلفين " (1/ 441). (¬2) وهذا وهم كما يظهر من عنوان الكتاب (أسباب النزول) وليس تفسير وقد طبع مرارا (¬3) هو عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن أصبغ الخثعمي، السهيلي، الأندلسي، المالكي، الضرير، (أبو القاسم أبو زيد، أبو الحسن) مؤرخ، محدث، حافظ، لغوي، مقرئ، أديب. ولد بسهيل سنة (508 هـ) توفي. بمراكش سنة (581 هـ). من مؤلفاته: " التعريف والإعلام فيما أبهم في القران من الأسماء والأعلام "، " القصيدة العينية "، " الروض الأنف "، " نتائج النظر ". انظر: " وفيات الأعيان " (1/ 351 - 2 35) " تذكرة الحفاظ " (37/ 14 - 139) " البداية

والأعلام): أرويه بالإسناد المتقدم إلى الشماخي عن عماد الدين بن زكريا الإسكندري عن أبي علي الحسين بن يوسف الكاتب عن المؤلف. 99 - (تفسير الرازي (¬1) المسمى مفاتيح الغيب (¬2): أرويه بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن الشهاب أحمد السنهوري عن أحمد بن حجر المكي الهيثمى عن زكريا بن محمد عن التقي محمد بن محمد بن فهد عن مجد الدين الفيروز آبادي عن محمد بن عبد الله التفتازاني عن شرف الدين أبي بكر محمد الهروي عن المؤلف. وكذلك سائر مصنفاته أرويها هذا الإسناد. 100 - (تفسير ابن عطية (¬3)): ¬

(¬1) تقدم التعريف به (ص 268). (¬2) وهو كتاب معروف مشهور، متداول مطوع. وقد قام الدكتور محسن عبد الحميد بعمل دراسة عن الكتاب وصاحبه سماها " الرازي مفسرا" حري أن يقرأ. وانظر ما قاله الذهني عن هذا التفسير قي كتابه " التفسير والمفسرون " (1/ 276 - 282). (¬3) تفسير ابن علي المسمى " المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز " تفسير له قيمته العالية بين كتب التفسير، وعند جميع المفسرين، وذلك راجع إلى أن مؤلفه أضفى عليه من روحه العلمية الفياضة ما أكسبه دقة، ورواجا وقبولا. وقد لخصه مؤلفه- كما يقول ابن خلدون في مقدمته- من كتب التفاسير كلها- أي تفاسير المنقول- وتحرى ما هو أقرب إلى الصحة منها، ووضع ذلك في كتاب متداول بين أهل المغرب والأندلس، حسن المنحى ". ومؤلف هذا التفسير هو أبو محمد: عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي المغربي الغرناطي الحافظ. ولي القضاء. بمدينة المرية بالأندلس، ولما تولى توخى الحق وعدل في الحكم وأعز الخطة. كان مولده سنة إحدى وثمانين وأربعمائة. وتوفي بلورقة سنة ست وأربعين وخمسمائة من الهجرة وقيل غير ذلك. انظر ترجمته في " الديباج المذهب في أعيان المذهب " (2/ 57 - 59). وانظر الكلام على تفسيره " التفسير والمفسرون " للذهبي (1/ 230 - 234).

أرويه بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن عبد الرؤف المناوي عن الشمس الرملي عن زكريا عن العلم صاع البلقيني عن والده عن أثر الدين أبي حيان محمد بن يوسف عن الحسن بن أبي عامر الأشعري عن أبي الحسن علي بن أحمد الغافقى عن المؤلف. 101 - (تفسر أبي حيان (¬1): أرويه بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن أبي الإمداد إبراهيم بن إبراهيم بن حسن عن عمر ابن الجائي عن أبي الفضل السيوطي عن العلم صالح بن عمر البلقيني عن والده عن المؤلف. 102 - (تفسير الجلالين (¬2): أرويه بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن أبي النجا سالم بن محمد عن محمد بن عبد الرحمن العلقمي عن الجلال أبي الفضل السيوطي والجلال المحلى (¬3) المؤلفين. ¬

(¬1) قد تقدم الكلام عليه. (¬2) هذا تفسير مختصر اشترك في تأليفه عالمان جليلان الأول السيوطي والثاني المحلى. ألفه جلال الدين المحلي ابتدأ من أول سورة الكهف إلى آخر سورة الناس، ثم فسر الفاتحة، وبعد أن أتمها إخترمته المنية، وجاء السيوطي فكمل التفسير ابتداء من سورة البقرة إلى آخر سورة الإسراء. " التفسير والمفسرون " (1/ 315). (¬3) العلامة المحلي: هو محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أحمد بن هاشم المحلى، المصري، الشافعي (جلال الدين) مفسر، فقيه، متكلم، أصولي، نحوي، منطقي. ولد بالقاهرة سنة (791 هـ) وتوفي سنة (864 هـ). من تصانيفه: المختصر التنبيه " للشيرازي، " شرح جع الجوامع " للسبكي، " شرح منهاج الطالبين "، " شرح الورقات لإمام الحرمين ".

103 - (تفسير الجلال السيوطي المسمى " الدر المنثور" (¬1): أرويه بالإسناد المذكور قبله. 104 - (تفسر الحاكم (¬2) المسمى التهذيب): أرويه بالإسناد المتقدم في أول هذا المختصر إلى القاضي جعفر عن أبي جعفر الديلمي عن ابن المؤلف محمد عن أبيه المؤلف المحسن بن كرامة. 105 - (تفسير (¬3) الإمام عبد الله بن حمزة): أرويه أيضًا بالإسناد المتقدم في أول هذا الكتاب المتصل به. 106: (التقرير للأمير الحسين بن محمد (¬4): ¬

(¬1) هو كتاب مشهور، ومرجع متداول معتمد، مطبوع. (¬2) هو المحسن بن محمد بن كرامة الجشمي، البيهقي، المعتزلي، ثم الزيدي (أبو سعد) متكلم، مشارك في علوم كثيرة ولد في رمضان سنة (413 هـ)، وقتل. بمكة سنة (494 هـ). من تصانيفه: " كتاب العيون وشرحه "، " الرد على المجبرة "،كتاب المؤثرات "، " التهذيب في التفسير " في مجلدات، " جلاء الأبصار في الحديث "، " التقريب المنتزع من كتاب التهذيب ". انظر: " تراجم الرجال " للجنداري ص 32 " معجم المؤلفين " (3/ 21 - 22). وترجم له الزركلي في (الأعلام) (9/ 289): بتوسع وذكر أن تفسيره مخطوط، في ثمانية مجلدات، أي منها الرابع، السادس، الثامن، وهو الأخير في مكتبة الفاتيكان (1023،1025،1026 عربي) وذكر أنه: حنفي ثم معتزلي زيدي. (¬3) تفسير القرآن الكريم: رتب في أوله مقدمات حسنة وأودع فيه كثيرا من الشواهد وتكلم في المعاني العربية ودلالة الآي على بطلان مذاهب المطرفية والجبرية القدرية. شرع قي سورة البقرة ولم يكملها. مؤلفات الزيدية (1/ 310 رقم 882). (¬4) هو الحسين بن بدر الدين بن محمد بن أحمد الحسني الأمير الحافظ الفقيه، صاحب التصانيف منها: " شفاء الأوام "، " التقرير "، " شرح التحرير "، " المدخل "، " البديعة "، " الإرشاد ينابيع النصيحة "، " ثمرات الأفكار " وكان من أتباع الإمام المهدي أحمد بن الحسين إلى أن مات، توفي سنة (662 هـ) وعمره ثمانون، وقيل ستون، وقبره هجرة تاج الدين برغافة. انظر: " تراجم الرجال " للجنداري (ص12).

أرويه بالإسناد المتقدم في كتاب الإبانة إلى الإمام المهدي أحمد بن يحيى عن السيد محمد ابن سليمان الحمزي عن الواثق عن أبيه عن المؤلف. 107 - (تقييد المهمل وتمييز المشكل للغساني الجياني) (¬1): أرويه بالإسناد المتقدم إلى الشماخي عن الحسن بن على بن هبة الله عن الحافظ أبي طاهر السلفي عن الشيخ أبي عبد الله محمد بن محمد الباهلي عن المؤلف. 108 - (التكميل لابن حابس (¬2)): ¬

(¬1) هو الحسن بن محمد بن أحمد الغساني، الأندلسي الجياني، (أبو على) محدث، حافظ، نسابة، لغوي، أديب، شاعر. ولد سنة (427 هـ) وتوقي سنة (498 هـ) وروى عن حكم الجذامي، وحاتم بن محمد وابن عبد البر وطبقتهم. من تصانيفه: " تقييد المهمل وتمييز المشكل في رجال الصحيحين " في جزئيين، و" أسماء رجال سنن أبي داود "، و"الأنساب". انظر: " وفيات الأعيان " (1/ 198) " البداية والنهاية " (12/ 165) " تذكرة الحفاظ (4/ 30 - 31) " شذرات الذهب " (4/ 408 - 409) " النجوم الزاهرة " (5/ 192) " معجم المؤلفين " (1/ 633) (¬2) هو أحمد بن يحيى حابس الصعدي، اليماني، الزيدي، عالم مشارك في عدة علوم. تولى القضاء بصعده، وتوفي ها في 14 ربيع الأول سنة (1061هـ). من تصانيفه: " المقصد الحسن في الحديث "، " شرح الشافية " لابن الحاجب لم يكمل، "التكميل لشرح الأزهار في الفقه "، " شرح على الثلاثين مسألة في أصول الدين "، "شرح تكملة الأحكام "، و" المقصد الحسن " و" المسلك الواضح السنن ". انظر: " البدر الطالع " (1/ 127)، " هدية العارفين " (1/ 159 - 160)، " معجم المؤلفين " (1/ 323). التكميل: تكميل شرح الأزهار. كتاب جامع حافل، كمل فيه شرح ابن مفتاح بحواصل وضوابط وتقريرات. ولعله المسمى ب " الجامعة لزبد الاختيارات والأنظار الكاشفة لمعاني ما احتوى لفظ الأزهار ". " مكتبة الجامع الكبير " (1091 - 1013)، " مؤلفات الزيدية " (1/ 324رقم 929).

أرويه بالإسناد المتقدم إلى القاضي أحمد بن صاع بن أبي الرجال عن السيد صلاح بن أحمد المؤيدي عن المؤلف. 109 - (التلخيص لابن حجر): أرويه بالإسناد المتقدم في بلوغ المرام المتصل. بمؤلفه. (تلخيص المفتاح (¬1) أرويه عن شيخنا السيد عبد القادر بن أحمد عن شيخه أبي الحسن السندي عن الشيخ سالم بن عبد الله البصري عن أبيه عن أبي الإمداد إبراهيم اللقاني عن علي بن محمد المقدسي عن أبي الحسن البكري عن شيخ الإسلام زكريا عن أبي النعيم رضوان بن محمد عن إبراهيم بن أحمد التنوخي عن المؤلف جلال الدين القزويني. ¬

(¬1) مؤلف تلخيص المفتاح هو محمد بن عبد الرحمن بن عمر بن احمد بن محمد بن عبد الكريم بن الحسن بئ علما بن إبراهيم بن علي بن احمد بن دلف بن أبي دلف العجلي جلال الدين القزويني. ولد سنة (666 هـ) وسكن الروم مع والده وأخيه، واشتغل وتفقه حئ ولي القضاء بالروم وهو دون العشرين ثم قدم دمشق وعمن جماعة أهليها واشتغل في الفنون وأتقن الأصول والعربية والمعاني والبيان، وكان فهما ذكيا فصيحا مفوها، حسن الإيراد، جميل المعاشرة. توقي سنة (739 هـ). انظر: " البدر الطالع " (2/ 183 - 184). أما الكتاب فهو " تلخيص المفتاح " هذا الكتاب في البلاغة، لخصه الخطب القزويني من كتاب (مفتاح العلوم) للسكاكي. طبع- بككته عام (1815 م) وبالاستعانة (1260 هـ) وعام (1302 هـ). "شذرات الذهب " (8/ 216)، " الدرر الكامنة " (4/ 30).

111 - (التلويح للسعد (¬1): أرويه بالإسناد المتقدم إلى أبي الإمداد عن علي بن ير الزيادي عن السيد يوسف الأرميوني عن السيوطي عن أبي القاسم العقيلي عن الحسن بن علي الأبيوردي عن المؤلف. وكذلك سائر تصانيفه. " 2 - (التنبيه للشرازي وسائر مصنفاته (¬2): أرويها بالإسناد المتقدم إلى نفيس الدين العلوي عن أبيه عن محمد بن أحمد المطري عن الدمياطي عن بشير بن أبي بكر التبريزي عن أحمد بن عبد الوهاب البغدادي المعروف بابن سكينة عن محمد بن عمر الأرموي عن المؤلف. 113 - (التنقيح للقرافي (3)): ¬

(3): هو أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن بن عبد الله الصنهاجط الأصل البهنسى، المشهور بالقرافي (شهاب الدين، أبو العباس) فقيه، أصولي، مفسر، مشارك في علوم أخرى. ولد بمصر سنة 626 هـ وتوفي ها سنة 684 هـ. من تصانيفه: " الذخيرة قي الفقه "، " شرح محصول فخر الدين الرازي " و" التنقيح قي أصول الفقه "، " الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام " وغيرها. انظر: " إيضاح المكنون " للبغدادي (1/ 72 - 27 1 - 135 - 1 6 1 - 6 هـ 2 - 732) " معجم المؤلفين" (1/ 100). (¬1) تقدم التعريف، (ص 719). (¬2) هو إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي (أبو إسحاق، جمال الدين) فقيه، صوفي. ولد سنة (393 هـ)، وتفقه في أول أمره بشيراز ثم ارتحل إلى بغداد فتفقه فيها وسكنها ومات بها سنة (476 هـ). من مؤلفاته: " المهذب في الفقه "، " النكت في الخلاف "، " اللمع وشرحه " التبصرة في أصول الفقه "، " التنبيه في فروع الشافعية " و" شرحه " وغيرها. انظر: " طبقات السبكي " (3/ 88 - 147) " البداية والنهاية " (12/ 124 - 125) " تهذيب الأسماء واللغات " (172/ 2 - 174) " وفيات الأعيان " (5/ 1 - 6).

أرويه بالإسناد المتقدم في غير موضع من هذا المختصر إلى البابلي عن سالم بن ظفير عن النجم محمد بن أحمد عن زكريا بن محمد القاضي عن العلم صاع البلقيني عن والده عمر عن أبي حيان عن المؤلف. 4 - (التنقيح (¬1) لابن الوزير): أرويه بالإسناد المتقدم في كتاب الإيثار له. 5 - (التنقيح والتوضيح لابن صدر الشريعة وسائر تصانيفه (¬2): أرويها بالإسناد المتصل بالحافظ ابن حجر المتقدم في بلوغ المرام عن محمد بن محمد بن محمد بن البخاري عن أبي طاهر البخاري عن المؤلف. " 6 - (التهذيب في السيرة وهو معروف الآن بسيرة ابن هشام للإمام عبد الملك ابن هشام (¬3): ¬

(¬1) طبع في مصر مع شرحه (توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار) للإمام الصنعاني بتحقيق: محمد محيى الدين عبد الحميد. مطبعة السعادة عام (1366هـ). ثم طبع. بمفرده بدار ابن حزم بتحقيقي بالاشتراك مع عامر حسين. (¬2) هو عبيد الله بن مسعود بن محمود بن احمد بن عبيد الله البخاري، المحبوبي، الحنفي، صدر الشريعة الأصغر، فقيه أصولي، جدلي، محدث، مفسر، نحوي، لغوي، أديب، بياني، متكلم منطقي. مات سنة نيف وثمانين وستمائة، وقيل سنة (745 هـ). من تصانيفه: " شرح وقاية الرواية في مسائل الهداية لصدر الشريعة الأول "، " الوشاح في المعاني والبيان "، " التوضيح قي حل غوامض التنقيح في أصول الفقه " وكلاهما له، " تعديل العلوم في الكلام "، المختصر الوقاية "، و" مصنف قي النحو ". انظر: " الفوائد البهية " للكنوي (ص159 - 112). " الجواهر المضية للقرشي " (2/ 365)، " معجم المؤلفين " (2/ 355). (¬3) هو عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري، الذهلي، السدوسي، المعافري، البصري (أبو محمد) إخباري، نسابة، أديب لغوي، نحوي. قدم مصر، وحدث ها، وتوقي أنها سنة (213 هـ) من آثاره: " تذيب السيرة النبوية "

أرويه بالإسناد المتقدم إلى الشماخي عن إسحاق الطبري عن أبي بكر بن حرز الله التونسي عن عبد الله بن محمد بن المحلى عن عبد الله محمد بن رفاعة عن على بن الحسن الخلعي [عن أبي إسحاق إبراهيم بن سعيد الحبال] (¬1) عن عبد الرحمن بن محمد بن النحاس، عن عبد الله بن الورد البغدادي عن [أبي سعيد محمد بن عبد الرحيم] (¬2) بن البرقي عن المؤلف ابن هشام وهذا التهذيب هو المعروف بسيرة ابن هشام، هذب سيرة ابن إسحاق وهو يروي السيرة المهذبة عن زياد بن عبد الله البكائي عن ابن إسحاق صاحب السيرة. 117 - (تذهيب الحاكم): تقدم تقريبا. 118 - (تذهيب السعد) (¬3): أرويه بالإسناد المذكور قريبا لكتاب التلويح له. 119 - (تذهيب الكمال للمزي) (¬4): أرويه بالإسناد المتقدم في الأطراف له. 120 - (تيسر الديبع) (¬5): ¬

(¬1) ساقط من المخطوط وهو استدراك من [ح] وهى زيادة لازمة لاتصال السند. (¬2) ساقط من المخطوط وهو استدراك من [ح] وهى زيادة لازمة لاتصال السند. (¬3) تقدمت ترجمته. (¬4) طبع مؤخرا عن مؤسسة الرسالة في (35) مجلدا. تحقيق: الدكتور بشار عواد معروف (¬5) هو عبد الرحمن بن علي بن محمد بن عمر بن على بن يوسف بن أحمد بن عمر الشيباني، العبدري الزبيدي، اليمني، الشافعي، المعروف بابن الديبع (وجيه الدين، أبو الفرج) محدث، حافظ، مؤخرا. ولد بزبيد سنة (866 هـ) وتوفي ني (944 هـ). من آثاره: " بغية المستفيد قي أخبار مدينة زبيد "، " تيسير الوصول إلى جامع الأصول " (اختصره من " جماع الأصول ") لابن الأثير، وهو كتاب مطبوع متداول. وغيرها من المؤلفات. انظر: " شذرات الذهب " (8/ 255 - 256) " البدر الطالع " (1/ 335 - 336).

أرويه بالإسناد المتصل به المذكور في هذا المختصر مكررا في غير موضع كما تقدم في كتاب الإكمال رفي كتاب الاكتفاء وفي غيرهما. 121 - (تيسر المطالب للإمام أبي طالب) (¬1): أرويها بالإسناد المتقدم في كتاب الأمالي له. ¬

(¬1) تيسير المطالب من آمالي أبي طالب. جمع فيه آمالي أبي طالب يحيى بن الحسين الهاروني (424) وهو في ذكر معجزات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفضائله وشمائله وفضائل الإمام على وأولاده وفي فضل العلم والقرآن والجهاد وغيرها، كلها في أربعة وستين بابا. وقد طبع سنة 1395 هـ، مؤسسة الأعلمى- بيروت-. بمراجعة يحيى عبد الكريم الفضيل. " مؤلفات الزيدية " (1/ 347 رقم 1005).

حرف الثاء المثلثة 122 - (الثبات إلى كافة البنين والبنات للإمام المنصور بالله عبد اله بن حمزة) (¬1): أرويه بالإسناد المتقدم إليه في كتاب الإبانة أول هذا المختصر. 123 - (الثلاثون مسألة للرصاص) (¬2): أرويها بالإسناد السابق إلى الإمام ير بن حمزة في كتاب الانتصار له عن محمد بن خليفة عن شيخه الحسن بن وهاس عن المؤلف. 124 - (الثمرات للفقيه يوسف (¬3): ¬

(¬1) (البيان والثبات إلى كافة البنيين والبنات) من الكتب القيمة في علم التربية مخطوط له عدة نسخ منها (1058هـ في 57 ورقة برقم 1489 مكتبة الأوقاف). مؤلفات الزيدية (1/ 228 رقم 625) وأعلام المؤلفين الزيدية (ص 580). (¬2) هو أحمد بن محمد بن الحسن بن الرصاص، فقيه، أصولي، زيدي. له: " مصباح العلوم في معرفة الحي القيوم "، " وجوهرة الأصول وتذكرة المنحول " (في أصول الفقه) توقي سنة (656 هـ). انظر: " معجم المؤلفين " (1/ 257) 0 الروض الأغن (1/ 153 رقم 275). (¬3) هو يوسف بن أحمد بن محمد بن عثمان اليماني الزيدي المصنف الشهير، كان مستقرا هجرة العين من ثلاث والطلبة يرحلون إليه من جميع أقطار اليمن، فيأخذون عنه في جميع العلوم الشرعية، وكان مسكن سلفه بصرم بن قيس من بلاد خبان، وله مصنفات نافعة منها: " مختصر الانتصار " ومنها: الرياض " على التذكرة و" الزهور على اللمع. وكان بين تلامذته وتلامذة الإمام أحمد بن يحيى منافسة ومفاخرة أي الرجلين أوسع علما. ومن مصنفات صاحب الترجمة الجواهر والغرر في كشف أسرار الدرر " في الفرائض و" برهان التحقيق وصناعة التدقيق " في المساحة والضرب. مات في جمادي الآخرة سنة 832 هـ. انظر: " البدر الطالع " (2/ 350) 0 الروض الأغن (3/ 174 رقم 928). أما كتابه (الثمرات اليانعة والأحكام الواضحة القاطعة) في ثلاث مجلدات نسخة سنة 1062 هـ في الجامع الكبير بصنعاء رقم 78 - تفسير) وأخرى سنة 1041هـ رقم (281 - تفسير الجامع الكبير وأخرى سنة 1065 هـ رقم (269) الجامع الكبير. الروض الأغن (3/ 176) وهو خاص بتفسير آيات الأحكام

ارويها بالإسناد المتقدم مكررا في هذا المختصر إلى الإمام شرف الدين عن شيخه صارم الدين عن السيد أبي العطايا عن الفقيه على بن زيد عن المؤلف.

حرف الجيم 125 - (الجامع الكافي لأبي عبد الله محمد بن علي العلوي) (¬1): أرويه بالإسناد المتقدم إلى الإمام شرف الدين عن السيد صارم الدين عن الفقيه العفيف ابن حسن الصرواي عن أبي القاسم بن محمد النصيف عن محمد بن عبد الله الغزال المصري عن صالح بن منصور الخطيب عن أحمد بن أبي الفضل السقطي عن أبي الصائم بن أحمد ابن أبي الفتوح البدري عن القاضي علي بن بدر الهمداني عن منصور بن محمد بن المدلل عن حسن بن ملاعب الأسدي عن يحيى بن محمد الثقفي عن المؤلف. 126 - (جامع الأصول (¬2) لابن الأثر) (¬3): أرويه عن شيخنا السيد عبد القادر بن أحمد عن محمد حياة السندي عن الشيخ أبي المكارم محمد بن محمد عن الشيخ محمد هاشم عن الشيخ ذي المكارم والمفاخر عبد القادر عن الشيخ حسن بن على العجيمي عن الشيخ أحمد بن محمد العجل عن الإمام يحيى بن ¬

(¬1) " الجامع الكافي " (جامع آل محمد) مخطوط تأليف: محمد بن علي الحسني. انظر " فهرست مخطوطات مكتبة الجامع الكبير " (2/ 1017). (¬2) هو كتاب جليل القدر جمع فيه مؤلفه الكتب الستة في هذا الكتاب وهو مطبوع متداول بتحقيق الشيخ عبد القادر الأرنؤوط (¬3) هو المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباقي، الشافعي، المعروف بابن الأثير الجزري (مجد الدين، أبو السعادات) عالم، أديب، ناثر، مشارك في تفسير القران والنحو واللغة والحديث والفقه وغير ذلك. ولد بجزيرة ابن عمر سنة (544 هـ) ونشأ ها، ثم انتقل إلى الموصل، وكتب لأمرائها وكانوا يحترمونه، وعن بغداد، وتوفي بالموصل سنة (606 هـ). من تصانيفه: " المختار في مناقب الأخيار أو الأبرار " و" المرصع "، " النهاية في غريب الحديث "، " جامع الأصول في أحاديث الرسول " وغير ذلك. انظر: " وفيات الأعيان " (1/ 557 - 558) " طبقات السبكي " (15315 - 154) " النجوم الزاهرة " (6/ 198 - 199) " البداية والنهاية " (13/ 54) " شذرات الذهب " (5/ 22 - 23).

مكرم الطبري عن عز الدين بن فهد عن القاضي عبد الرحيم بن ناصر الدين بن الفرات عن محمد البياني عن الفخر علي بن أحمد بن البخاري عن المؤلف. 127 - (الجامع الكبر والجامع الصغير (¬1) للسيوطي (¬2)): ارويها بالإسناد المتقدم في غير موضع إلى البابلي عن علي بن يحيى الزيادي عن يوسف ابن عبد الله الأرميوني عن المؤلف. 128 - (جزء الأنصاري) (¬3): أرويه بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن عبد الرؤوف المناوي عن الشمس الرملي عن الزين زكريا بن محمد عن أبي الفضل بن حجر عن أبي إسحاق التنوخى. عن الحافظ المزي عن الفخر علي بن البخاري عن أبي حفص بن طبرزد البغدادي عن القاضي أبي بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري عن أبي إسحاق الرملي عن عبد الله بن إبراهيم بن ماسي عن أبي مسلم الكجي عن المؤلف. ¬

(¬1) خدمه المحدث الألباني خدمة جليلة " صحيح الجامع " و" ضعيف الجامع " وقد شرح عدة شروح منها " فيض القدير " للمناوي رحمه الله، وانظر " المداوى لعلل الجامع الصغير وشرحي المناوي لأبي الفيض أحمد بن محمد الصديق الغماري. (¬2) قد تقدمت ترجمته. (¬3) هو قاضى البصرة، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن المثني الأنصاري (215 هـ) وصفه الذهبي: بالإمام المحدث الثقة، رقد روى عن الجماعة، وما في شيوخ البخاري أحد أكبر منه ولا أعلى رواية بل له عند البخاري نظراء منهم: عبيد الله بن موسى وأبو عاصم. انظر: السير (9/ 532). أما جزعه المذكور: فهو مخطوط في الظاهرية بدمشق رقم (54) لسنة في (14 ف) وضمن المجموع رقم (176/ أ- 179/ أ) ورقم (51) - (ف147/ أ- 157/ ب) ورقم (63/ 20 - ف 232/أ- 254/ ب) ورقم (95/ 1 - ف 3/أ-16/ ب) وفي دار الكتب ب القاهرة رقم (1558). الفهرس الشامل (1/ 617 رقم 78) وذكر فيه (12) نسخه خطية.

129 - (جزء (¬1) ابن ماسي (¬2)): أرويه هذا الإسناد السابق المتصل به. 130 - (جزء أبي الجهم) (¬3): أرويه بالإسناد المتقدم في أول هذا المختصر وفيما بعده إلى البابلي عن أحمد بن محمد ابن الشلبي عن الجمال يوسف بن زكريا عن والده عن قاضى القضاة جلال الدين محمد ابن محمد بن محمد ظهيرة عن البرهان بن صديق الدمشقي عن أبي العباس الحجار عن ابن اللتي عن أبي الوقت عبد الأولى السجزي عن محمد بن عبد العزيز الفارسي عن عبد الرحمن ابن أبي سريح الأنصاري عن أبي القاسم عبد الله بن محمد البغوي عن المؤلف. 131 - (جزء (¬4) الحسن بن عرفه): أرويه بالإسناد السابق إلى البابلي عن إبراهيم اللقاني عن عمر بن الجائي عن أبي الفضل السيوطي عن أبي الفضل بن الحصين الملتوتي عن عبد الله بن محمد الرشيدي عن أبي الفتح الميدوي عن النجيب الحراني عن عبد المنعم بن كليب عن على بن بيان عن محمد بن مخلد ¬

(¬1) وهو عبارة عن فوائد حديثة. ضمن مخطوطات الظاهرية ضمن مجموع رقم (19 - ق21/أ- 26/ ب) تاريخ- سنركن (1/ 1/ 449) (¬2) هو عبد الله إبراهيم بن أيوب ماسي (أبو محمد) محدث، له الفوائد المنتقاة من حديثه ولد سنة 274 هـ. وتوفي سنة 369 هـ. انظر السير (16/ 252)، معجم المؤلفين (2/ 219). (¬3) أبو الجهم هو المحدث العلاء بن موسى بن عطية البغدادي (ت 228 هـ). انظر: السير (10/ 252) وهدية العارفين (1/ 666). والجزء: مخطوط منه نسخة في مكتبة داماد إبراهيم بتركيا رقم (396/ 10) ضمن مجموع (ق233/ أ- 252/ ب) عام 866 هـ. وأخرى بالظاهرية ضمن مجموع (183/ 1، ق1 - 17) وأشرى بدار الكتب المصرية رقم (1831 حديث 49). تاريخ سنركين (1/ 1\ 197) (¬4) طبع بتحقيق. عبد الرحمن العزيوائي عام (1406 هـ) بالكويت- دار الأقصى.

عن إسماعيل الصفار عن المؤلف. 132 - (الأجرومية (¬1) لابن أجروم في النحو) (¬2): أرويها بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن الجمال عبد الله الدنوشري وغيره عن الشمس الرملي عن الزين زكريا بن محمد عن محمد بن محمد الراعي عن محمد بن عبد الملك القيسي الغرناطي عن الخطيب أبي جعفر أحمد بن محمد بن سالم الجرامي عن القاضي محمد ابن إبراهيم الحضرمي عن المؤلف. 133 - (جلاء (¬3) الأبصار للحاكم الجشمي): أرويه بالإسناد المتقدم إلى الفقيه حسن النحوي في كتاب التذكرة له عن الفقيه يحيى النجيح عن محمد بن سليمان عن عبد الله بن علي الأكوع عن أبيه عن الزريقي عن علي ابن زيد عن المؤلف. 134 - (جمع الجوامع للسبكي) (¬4): ¬

(¬1) في أصل المخطوط " الجرومية " ولعل الصواب ما أثبتناه ... والله أعلم. والأجرومية، من صغير في النحو تلقاه الناس بالقبول خلفا عن سلف، وهو مطوع متداول، وله مجموعة شروح أشهرها وأحسنها لعالم العربية في العصر الحديث محمد محي الدين عبد الحميد سماه التحفة السنية بشرح الأجرومية ". (¬2) هو محمد بن محمد بن داود الصنهاجي، الفاسي، المعروف بابن؟ جروم (أبو عبد الله) نحوي، مقرئ، مشارك في الفرائض والحساب والأدب. ولد بفاس، سنة (672 هـ) وتوفي ها سنة (723 هـ). من آثاره: " المقدمة الأجرومية في النحو "، و" أراجيز ". انظر: شذرات الذهب (6216) هدية العارفين (2/ 145). (¬3) جاء في الأعلام للزركلي (5/ 289) أنه في الحديث، وبالإسناد. (¬4) هو عبد الوهاب بن علي بن الكافي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام الأنصاري، الشافعي، السبكي (أبو نصر، تاج الدين) فقيه أصولي، مؤرخ أديب، ناظم، ناثر. ولد بالقاهرة سنة (727 هـ) وتوفي ها سنة (771 هـ).

أرويه بالإسناد المتقدم في أول هذا الكتاب إلى البابلي عن أحمد بن محمد الغنيمي الأنصاري عن الشمس الرملي عن الزين زكريا بن محمد عن العز عبد الرحيم بن الفرات عن المؤلف. وكذلك سائر مصنفاته. 135 - (جمع الفوائد للجامي وسائر مصنفاته (¬1): أرويها عن شيخنا السيد عبد القادر بن أحمد عن الشيخ محمد حياة السندي عن الشيخ سالم بن عبد الله المصري عن أبيه عن الشيخ إبراهيم الكردي عن الشيخ احمد القشاشي عن الشيخ أحمد الشناوي عن السيد غضنفر بن جعفر النهرواني عن محمد أمن ابن أخت ملاجامي عن خاله المؤلف. 136 - (الجمع بين الصحيحين للحميدي (¬2): ¬

(¬1) هو عبد الرحمن بن احمد بن محمد الشيرازي، المشهور بالجامي (نور الدين، أبو البركات) عالم مشارك في العلوم النقلية والعقلية. ولد سنة (817 هـ) ومات سنة (898 هـ). من مؤلفاته: " تفسير القرآن الكريم "، " الدرة الفاخرة في تحقيق مذهب الصوفيين والحكماء والمتكلمين في وجود الواجب "، " تاريخ هراة "" شرح الكافية لابن الحاجب في النحو "، " شرح الوقاية مختصر الوقاية قي الفقه الحنفي ". انظر:"الفوائد البهية" ص 86 - 88. " شذرات الذهب " (7/ 360 - 361) " البدر الطالع " (1/ 327 - 328) معجم المؤلفين " (2/ 77). (¬2) هو محمد بن فتوح بن عبد الله بن فتوح حميد الأزدي، الحميدي، الأندلسى، الميورقي، (أبو عبد الله) محدث، حافظ، أصولي مؤرخ، أديب، عالم بالعربية. أصله من قرطبة وولد في جزيرة ميورقة سنة 420 هـ وسمع بالأندلس من ابن عبد البر

أرويه بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الشماخي عن الشيخ محمد بن إبراهيم الفشلي عن الإمام نصر أبي الفرح الحضري عن ابن البطي عن المؤلف. 137 - (الجمل للزجاج (¬1): أرويها بالإسناد المتقدم إلى الشماخي عن علي بن أبي بكر التكروري عن محمد بن أبي بكر بن الخطاب عن مسلم بن محمود الشيرازي عن محمد بن أبي نوح المالكى عن أبي الفتوح ناصر بن الحسن الحسيني عن محمد بن بركات النحوي عن عبد الرحمن بن محمد الفاقوسي عن أبي بكر بن محمد الأدفوي عن المؤلف. 138 - (الجوهرة (¬2) للرصاص): أرويها بالإسناد المتقدم في الثلاثين المسألة لأن مؤلفهما (¬3) واحد وهو أحمد بن محمد بن الحسن الرصاص المعروف بالحفيد. وابن محمد بن حزم الظاهري وكان على مذهبه. ورحل إلى المشرق وجمع بإفريقية ومكة ومصر والشام والعراق واستوطن بغداد، وتوفي ها سنة (488 هـ). ¬

(¬1) سبق التعريف به (ص 272). كتابه المذكور طبع مرارا. (¬2) واسمه الكامل (جوهرة الأصول وتذكرة الفحول). له عدة مخطوطات انظر مصادر الفكر للحبشي (ص 173) (¬3) مؤلفها كما في الروض الأغن هو أحمد بن محمد بن الحسن والذي توفى 656 هـ وهو حفيد للإمام الحسن بن محمد بن الحسن المتوفي سنة 584 هـ صاحب الثلاثين مسألة. الأعلام للزركلي (1/ 219) الروض الأغن (1/ 69/ رقم 126).

حرف الحاء المهملة 139 - (حادي الأرواح لابن القيم (¬1): أرويه مع سائر مصنفاته بالإسناد المتقدم إلى الشماخى عن عبد الرحمن بن عمر القباني عن المؤلف. 140 - (حاشية الشيخ لطف الله على شرح التلخيص وسائر تصانيفه: أرويها عن السيد المذكور عن السيد هاشم بن يحي الشامط عن السيد زيد بن محمد ابن حسن بن القاسم عن علي بن يحيى البرطي عن الحسين بن القاسم بن محمد عن المؤلف. 141 - (حاشية السيد على الكافية (¬2): ¬

(¬1) هو محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز الزرعي، ثم الدمشقي، الحنبلي، المعروف بابن قيم الجوزية (شمس الدين، أبو عبد الله) فقيه، أصولي، مجتهد، مفسر متكلم، نحوي، مشارك قي غير ذلك. العارف بالحديث ومعانية والفقه ودقائقه والاستنباط منه. ولد بدمشق سنة (691 هـ) وبرع في علوم الشريعة والحقيقة والعربية، حتى بلغ رتبة التدريس والإفادة، وارتقى منصب الإفتاء والإمامة. توفي سنة (751 هـ) وصلي عليه بالجامع الأموي. له تصانيف كثيرة أشهرها: "التفسير القيم"، "مدراج السالكين"، " حادي الأرواح "، " الداء والدواء "، " بدائع الفوائد"، "تحفة المودود"، "الطرق الحكمية"، "جلاء الإفهام" "بكاثة اللفهان" "الروح"، "روضة المحبين ونزهة المشتاقين"، "زاد المعاد"، "إعلام الموقعين". انظر: " الدرر الكامنة " (3/ 400 - 403) " النجوم الزاهرة " (10/ 249) " شذرات الذهب " (6/ 168 - 170) " البدر الطالع " (143/ 2 - 146). (¬2) هو علي بن محمد بن على الجرجاني، الحسيني، الحنفي، ويعرف بالسيد الشريف. (أبو الحسن) عالم، حكم، مشارك في أنواع العلوم. ولد بجرجان سنة (740 هـ). وتوفي بشراز سنة (816 هـ).

أرويها هذا الإسناد إلى الحسين بن القاسم عن أبيه عن أحمد بن صلاح الدواري عن المؤلف. 142 - (حاشية سيلان (¬1) على الغاية): أرويها عن شيخنا السيد المذكور عن يحيى بن حسن النجم عن ولد صاحب الترجمة عن أبيه. 143 - (الحاوي في الفتاوى للسيوطي (¬2): أرويه بالإسناد المتقدم في الجامع الصغير والكبير له. 144 - (الحاوي للقزويني (¬3): أرويه بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الشرجي عن الشمس الجزري محمد بن محمد بن محمد بن أحمد جده عن محمد بن الشيخ محب الدين الطبري عن أحمد بن إبراهيم ¬

= من تصانيفه: " حاشية على شرح التنقيح "، " شرح التذكرة "، "حاشية على تفسير البيضاوي "، " حاشية على التحفة الشاهية "، "حاشية على الشرح المتوسط للكافية"، "إعراب العوامل"، "حاشية على مختصر المنتهى للإيجي "،"حاشية على تشييد القواعد ". انظر: " الضوء اللامع " (5/ 328 - 330) " البدر الطالع " (1/ 488 - 490) " الفوائد البهية " (ص125 - 137) " هدية العارفين " (1/ 728 - 729) " معجم المؤلفين " (5/ 512). (¬1) هو الحسن بن ير سيلان السفياني ثم الصعدي، أحد العلماء المشاهير أحذ العلم عن القاضي صديق ابن رسام والسيد إبراهيم بن محمد جورية، وبرع قي عدة فنون، وله مؤلفات منها حاشية على " شرح غاية السؤل " للحسين بن قاسم وله حاشية على " شرح الآيات " للنجري، وحاشية على " القلائد " وحاشية على حاشية الشلبي على " المطول " اقتصر فيها على إيضاح ما أشكل من عبارات الشيء، ولم يزل مدرسا بصعدة ونواحيها حتى مات سنة (1110هـ). انظر: " البدر الطالع " (1/ 213) " نشر العرف الزبارة (1/ 519) " معجم المؤلفين " (1/ 597). (¬2) قد تقدمت ترجمته. (¬3) قد تقدمت ترجمته

الفاروقي عن المؤلف. 145 - (الحاوي (1) للقونوي (2)): أرويه هذا الإسناد إلى الجزري عن إبراهيم الثعلبي عن المؤلف. 146 - (الحجة على تارك المحجة للمقدسي (3)): أرويها بالإسناد المتقدم إلى الشماخي عن محمد بن إبراهيم الفشلي عن الإمام محمد ابن إسماعيل بن أبي الصيف اليمني عن المقري أبي محمد بن رسلان عن أبي علي الحسين ¬

(1): ليس للقونوي كتاب اسمه (الحاوي) وإنما الذي له (شرح الحاوي) كما سيأتي في ترجمته. (2): هو على بن إسماعيل بن يوسف القونوي، التبريزي، الشافعي (علاء الدين، أبو الحسن، فقيه متكلم، أصولي، أديب صرفي. ولد بقونية من بلاد الروم سنة (668 هـ) وتوفي بدمشق سنة (729 هـ). من تصانيفه: " شرح الحاوي الصغير في فروع الفقه الشافعي"، "التعرف لمذهب التصوف للكاباذي" مصنف في حياة الأنبياء"، "الشافعي في الأصول"، "الابتهاج في انتخاب المنهاج" وله شعر. انظر: " الدرر الكامنة " لابن حجر (2413 - 28) " تاريخ ابن الوردي " (29"2) " شذرات الذهب " (6/ 90 - 91) " البدر الطالع " للشوكاني (1/ 439 - 441) " معجم المؤلفين " (40612). (3): هو نصر بن إبراهيم بن نصر بن إبراهيم بن داود المقدسي، النابلسي، الدمشقي، الشافعي، (أبو الفتح) فقيه، محدث، حافظ، سمع بدمشق وغزة وصور والقدس، ولما قدم الغزالي دمشق اجتمع بالمترجم واستفاد منه وتفقه عليه جماعة من دمشق وغيرها. ولد سنة (407 هـ) وتوفي بدمشق سنة (490 هـ). من تصانيفه: " الحجة على تارك المحجة وقد طبع في مجلدين دار الراية عام 1411 هـ بالسعودية، " الانتخاب الدمشقي " في نحو بضعة عشر مجلدا، " التهذيب " في نحو عشر مجلدات، " تحريم نكاح المتعة ". انظر: " تذهيب الأسماء واللغات " (2/ 125 - 126) " طبقات السبكي " (4/ 27) " شذرات الذهب" (3/ 395 - 396).

ابن محمد عن الشيخ أبي الفتح محمد بن عبد الله المعروف بابن النحاس عن المؤلف. 147 - (حزب البحر للشيخ أب الحسن الشاذلي (¬1): أرويه بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن سالم بن محمد عن النجم محمد بن احمد عن زكريا بن محمد عن العز عبد الرحيم بن الفرات عن التاج عبد الوهاب بن على السبكي عن أبيه عن تاج الدين أحمد بن محمد بن عطاء الله عن أحمد بن عمر المرسي الأنصاري عن المؤلف. 148 - (الحفيظ (¬2) ليوسف الأكوع): أرويه بالإسناد المتقدم في أول هذا المختصر إلى الإمام شرف الدين عن علي بن أحمد عن علي بن زيد عن السيد أبي العطايا عن الفقيه يوسف عن المؤلف. 149 - (الحكم لابن عطاء الله (¬3): ¬

(¬1) هو علي بن عبد الله بن عبد الجبار الشاذلي، الضرير، نزيل الإسكندرية (نور الدين، أبو الحسن ناظم، شاعر، تنسب إليه الطريقة الشاذلية. ولد سنة 591 هـ وتوفي سنة 656 هـ. من تصانيفه: " الاختصاص من القواعد القرآنية والخواص "، " السر الجليل في خواص حسبنا الله ونعم الوكيل " كفاية الطالب "، " المقدمة العزية ". انظر: " معجم المؤلفين " (46812). وحزب البحر: (أدعية) مذكور في كتب (الأثبات) وتراجم الصوفية. ولا شك أن التزام ما ورد في الكتاب والسنة من أدعية الصباح والمساء أولى وأسلم. لأن الدعاء عبادة يتعبد الإنسان ربه ها وما عدا ذلك من الأدعية فهو من البدع المحضة. (¬2) مؤلفه القاضي يوسف بن محمد الأكوع توفي بعد 749 هـ. الروض الأغن (3/ 177 رقم 935) و (الحفيظ) في الفقه له نسخة خطة في: الأنبروزيانا في (184) وهناك تنازع بين الشيخ وتلميذه في نسبته فكل يدعى ذلك. مصادر الفكر (ص 209). (¬3) هو أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عطا الله الإسكندري، الجذامى، الشاذلي، الشهير بابن

أرويها بالإسناد المذكور في حزب البحر المتقدم قريبا إلى المؤلف ابن عطاء الله لأنه من رجال إسناد الحزب كما مر. 150 - (الحلية لأبي نعيم (¬1): أرويها مع سائر تصانيفه بالإسناد المتقدم إلى الشماخي عن علي بن محمد بن جروية الموصلي عن مجد الدين أبي الفرح يحيى بن محمد الثقفي عن الحسن بن على الحداد عن المؤلف. 151 - (حواشي السعد التفتازايا على الكشاف والمختصر وغيرها وسائر تصانيفه (¬2): أرويها عن شيخي السيد عبد القادر بن أحمد عن شيخه محمد بن حياة السندي عن ¬

= عطا الله (تاج الدين، أبو العباس، وأبو الفضل) صوفي مشارك في أنواع من العلوم كالتفسير، والحديث، والفقه، والنحو، والأصول. توفي بالقاهرة سنة (709 هـ). من مصنفاته: " التنوير في إسقاط التدبير في التصوف "، " مفتاح الفلاح مصباح الأرواح في ذكر الله الكريم الفتاح "، "الحكم العطائية ". انظر: " الدرر الكامنة " (1/ 273 - 275) " طبقات السبكي " (5/ 176 - 177) " شذرات الذهب" (6/ 19 - 20). (¬1) هو أحمد بن عبد الله بن احمد برن إسحاق بن موسى بن مهران الأصبهاني الشافعي (أبو نعيم) محدث، مورخ، صوفي. ولد سنة (336 هـ) وتوفي بأصبهان سنة (430 هـ). من مؤلفاته: " حلية الأولياء "، " تاريخ أصبهان "، " دلائل النبوة "، " معرفة الصحابة " وغيرها. انظر:"وفيات الأعيان" (1/ 32) " لسان الميزان " لابن حجر (1/ 201 - 202) " البداية والنهاية (45/ 12) " تذكرة الحفاظ " (3/ 275 - 279) " معجم المؤلفين " (1/ 176). (¬2) قد تقدمت ترجته.

سالم بن عبد الله البصري عن أبيه عن البابلي عن أحمد السنهوري عن الشهاب أحمد بن حجر المكي الهيثمي عن عبد الحق السنباطي عن تقي الدين الحصني عن شمس الدين الحاجري عن المؤلف. 152 - (حواشي الشريف على الكشاف والمختصر والمطول وغرها وسائر تصانيفه (¬1): أرويها هذا الإسناد المذكور قبل هذا إلى البابلي عن أحمد بن خليل السبكي عن النجم محمد بن أحمد عن عبد الحق السنباطي عن محمد بن إبراهيم الشرواني عن السيد محمد بن علي الجرجاني عن أبيه المؤلف. 153 - (حواشي عصام على الجامي وغيره وسائر مصنفاته (¬2): أرويها بالإسناد السابق إلى عبد الله بن سالم البصري عن إبراهيم الكردي عن زين العابدين الطبري عن أبيه عن محمد بن إسماعيل بن عصام الدين إبراهيم عن السيد محمد امن عن المؤلف. 154 - (حواشي المقبلي على الكشاف والمختصر والبحر وسائر تصانيفه (¬3): ¬

(¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) سوف يأتي ذكر ترجمته أثناء الكلام قي آخر قسم عن مؤلفاته. (¬3) هو صالح بن المهدي بن على بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن عبد الله بن سليمان بن أسعد المقبلي، اليمني، الزيدي. عالم مشارك في التفسير، وعلوم القرآن والحديث وعلوم اللغة العربية، والتصوف والفقه. ولد في قرية المقبل من أعمال كوكبان سنة (1040هـ)، وانتقل إلى صنعاء، ثم سكن مكة وتوفي ها سنة (108هـ). من مؤلفاته: " العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ "، "حاشية على البحر الزخار حماها المنار في المختار من جواهر البحر الزخار "، " حاشية على الكشاف في التفسير حماها "، " الإتحاف لطلبة الكشاف "،الأبحاث المسددة " و" نجاح الطالب على مختصر ابن الحاجب ". انظر: " البدر الطالع " (1/ 288 - 292)، " نشر العرف لزبارة " (1/ 781 - 787)،

أرويها عن شيخنا السيد عبد القادر بن أحمد عن شيخه السيد محمد بن إسماعيل الأمير عن عبد القادر بن علي البدري عن المؤلف. 155 - وهذا الإسناد أروي حواشي السيد محمد الأمر وتصانيفه (¬1): 156 - (حواشي الجلال على الكشاف والقلايد وسائر تصانيفه (¬2): أرويها (¬3) عن شيخنا السيد عبد القادر المذكور عن شيخه السيد أحمد بن عبد الرحمن عن السيد الحسن بن أحمد زبارة عن القاضي عبد الواسع بن عبد الرحمن القرشي عن المؤلف. وأما سائر الحواشي لجماعة من العلماء المتقدمين والمتأخرين فسيأتي ذكر إسنادها عند ذكر إسناد المصنفات لجماعة من العلماء على الجملة في حرف الميم إنشاء الله (¬4). ¬

(¬1) سيأتي ذكر ترجمته وتصانيفه ومؤلفاته فيما بعد (¬2) هو الحسن بن أحمد بن محمد بن الحسن المهدي الشهير بابن الجلال، ينتهي نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ولد سن (1014هـ) هجرة رغافة ونشأ ها. ثم رحل إلى صعده وأخذ عن علمائها، ثم رحل إلى شهارة، وأخذ عن أهلها ثم رحل إلى صنعاء وأخذ عن أكابر علمائها وما حواليها من الجهات. له مجموعة من التصانيف منها " ضوء النهار " جعله شرحا للأزهار للإمام المهدي. و" شرح الفصول " و" شرح مختصر المنتهى " و" شرح التهذيب ". وله حاشية كمل ها حاشية السعد على الكشاف، وحاشية على " شرح القلايد " وكان له مع أبناء دهره قلاقل وزلازل كما جرت به عادة أهل القطر اليماني من وضع جانب أكابر علمائهم المؤثرين لنصوص الأدلة على أقوال الرجال. انظر: " البدر الطالع " (1/ 191 - 193) " هدية العارفين " (1/ 295) " معجم المؤلفين " (1/ 536 - 537). (¬3) زيادة يقتضيها السياق. (¬4) في المخطوط (أ): - حاشية الشيخ لطف الله على شرح التلخيص وسائر مصنفاته. حاشية السيد علي الكافية ... حاشية سيلان على الغاية وقد كتب في بدايتها: ينبغي تقديم هذا أول الباب وضعها في آخر الباب.

حرف الخاء المعجمة 157 - (الخلاصة للرصاص (¬1): أرويها بالإسناد المتقدم في الجوهرة له. 158 - (الخلعيات لعلي بن الحسين بن محمد الخلعي وهي عشرون جزءا (¬2): أرويها بالإسناد السابق إلى البابلي عن الشهاب أحمد بن خليل السبكي عن النجم الغيطي عن أحمد بن عبد العزيز الحنبلي عن عثمان بن محمد الديمي عن محمد بن حاتم الخطيب عن أبي النون يونس بن إبراهيم الدبوسي عن على بن محمد بن المقير عن أبي الفضل محمد بن ناصر السلامي عن المؤلف. ¬

(¬1) " الخلاصة النافعة بالأدلة القاطعة في فوائد التابعة " تأليف أحمد بن الحسن الرصاص المتوفي 621 هـ. والكتاب في أربعة أبواب: الباب الأول: في وجوب النظر وما يتعلق به. الباب الثاني: في التوحيد وقسمة مسائله. الباب الثالث: في العدل. الباب الرابع: في الوعد والوعيد وما يتبعهما. مؤلفات الزيدية (1/ 444 رقم 1306). (¬2) هو على بن الحسين بن محمد الموصلي المصري، الشافعي، الخلعي (أبو الحسن) فقيه، محدث. أصله من الموصل. وولد. ممصر في المحرم سنة (405 هـ). وولي القضاء قي الديار المصرية. وتوفي بمصر في 26 ذي الحجة سنة (492 هـ). من تصانيفه: " المغني في الفقه في أربعة أجزاء "، " فوائد في الحديث "، " الخلعيات في الحديث " في عشرين جزعا من حديث الحافظ: على بن الحسن بن الحسين الخلعي الموصلي. انظر: " وفيات الأعيان " (1/ 425 - 426) " حسن المحاضرة " (1/ 228) " شذرات الذهب " (2/ 205) " معجم المؤلفين " (2/ 421).

حرف الدال المهملة 159 - (دامغ (¬1) الأوهام للإمام المهدي): أرويها بالإسناد المتقدم في كتاب البحر له. 165 - (درر الفرائد للإمام المهدي (¬2): أيضا أرويها بالإسناد المشار إليه قبله. 161 - (درر الأحاديث (¬3) النبوية بالأسانيد اليحيوية): أرويها بالإسناد المتقدم إلى الإمام شرف الدين عن السيد صارم الدين في أول هذا الكتاب. 162 - (الدرر في (¬4) الفرائض للأمر علي بن الحسين (¬5): ¬

(¬1) دامغ الأوهام في شرح رياضة الأفهام في لطف الكلام. وهو شرح على كتاب المؤلف " رياضة الأفهام في لطف الكلام "وهو الجزء الثالث من موسوعته " غايات الأفكار وفايات الأنظار " وهو توسع في الموضوع والمسائل وليس شرحا على المعنى المعروف. مؤلفات الزيدية (1/ 447 رقم 1314). (¬2) الدرر الفرائد في شرح القلائد في تصحيح العقائد. شرح على كتاب المؤلف " القلائد في تصحيح العقائد ". " مؤلفات الزيدية " (1/ 444 رقم 1472). (¬3) وهو في الأحاديث النبوية التي رواها الإمام الهادي يحيى بن الحسين المتوفي 298 هـ في كتاب "الأحكام وبعض فتاواه في مختلف الأبواب بدأها بأحاديث في الأخلاق ثم الأبواب الفقهية ثم شيء من ترجمة الإمام الهادي وفي أدلة إسناد الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم. " مؤلفات الزيدية " (1/ 442 رقم 1361). (¬4) واسمه: الدرر قي الفرائض الجلي منها والغامض " الروض الأغن (2/ 116 رقم 559). (¬5) هو علي بن الحسين بن يحيى، فقيه، فرض. من آثاره: " اللمع "" القمر المنير في حل عقود التحرير " و" الدر في الفرائض ". انظر: " تراجم الرجال " للجنداري (ص 24) و" معجم المؤلفين " (2/ 436).

أرويها بالإسناد المتقدم في كتاب التقرير إلى الأم! ير الحسن بن محمد مؤلف التقرير عن المؤلف الأمر علي المذكور هاهنا. 163 - (دلائل النبوة للبيهقي (¬1): أرويها بالإسناد المتقدم في كتاب الأسماء والصفات له. 164 - (الديباج النضير للدواري (¬2): 165 - : (ديوان الأدب) للفاربي: أرويه بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الشماخى عن سليمان بن خليل العسقلاني، عن بشير بن أبي بكر التبريزي، عن مكي الماكسيني، عن محمد بن محمد بن بيان الأبياري، عن محمد بن حمزة الصوفي، عن أبي القاسم بن القطاع عن محمد بن عبد البر ابن علي، عن أبي محمد بن إسماعيل النيسابوري، عن الجوهري صاحب (الصحاح) عق المؤلف رحمه الله. ¬

(¬1) قد تقدمت ترجمته. (¬2) هو عبد الله بن الحسن اليماني الصعدي الزيدي الملقب الدواري لاسم أحد أجداده وهو دوار بن احمد والمعروف بسلطان العلماء.

حرف الذال المعجمة 166 - (ذخائر العقبي في فضائل ذوى القربى للطبري (¬1): أرويه بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الشماخي عن المؤلف. 167 - (ذخيرة الإيمان في ترتيب أمالي السمان (¬2) للشيخ. محي الدين بن الوليد): أرويها بالإسناد المتقدم في أول هذا المختصر إلى الفقيه شعلة الأكوع عن المؤلف. 168 - (الذرية الطاهرة للدولابي (¬3): ¬

(¬1) " كتاب ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى " مصورا عن: دار المعرفة- بيروت. أما مؤلفه: هو محب الدين أبو العباس أحمد بن عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن محمد الطبري شيخ الحرم المكي. ولد. بمكة في جمادي الآخرة سنة حمس عشرة وستمائة. وعمن جماعة، وأفئ ودرس، وتفقه ومن مؤلفاته: 1 - " الرياض النضرة في فضائل العشرة ". 2 - " السمط الثمين في مناقب أمهات المؤمنين " وغيرهما. "شذرات الذهب" (5/ 425 - 426) (¬2) هو الحافظ المحدث عبد الله بن أبي محمد بن الوليد البغدادي، كان حافظا مفيدا وكان مشهورا بسرعة القراءة وجودتا، وجمع وحدث، وله تخاريج كثرة وفوائد وأجزاء توفي سنة 643 هـ. " شذرات الذهب " (5/ 219)، وسير أعلام النبلاء " (23/ 213). (¬3) محمد بن أحمد بن حماد بن سعد الأنصاري الوراق، الرازي، الدولابي، (أبو بشر) محدث، حافظ، مؤرخ، الحديث بالشام والعراق. ولد سنة (234 هـ). وتوفي وهو بطريق مكة بالعرج في ذي القعدة سنة (0 32 هـ). من آثاره: " الكني والأسماء "، " الذرية الطاهرة ". انظر: " البداية والنهاية " (11/ 145) " وفيات الأعيان " (1/ 642) " لسان الميزان " لابن حجر (5/ 41\ 42) ا! ميزان الاعتدال " (1713) " شذرات الذهب " (2/ 260).

أرويها عن شيخي يوسف بن محمد بن علاء الدين المزجاجي عن أبيه عن جده عن إبراهيم الكردي عن شيخه أحمد بن محمد المدفي عن الدمياطي عن على بن الحسين المعروف بابن المقير عن الحافظ محمد بن ناصر عن الخطيب أبي طاهر محمد بن أحمد الأنباري عن أحمد بن عبد الواحد الفراء عن الحسن بن رشيق العسكري عن المؤلف. 169 - (الذكر لمحمد بن منصور المرادي (¬1). أرويه بالإسناد السابق في أول! هذا المختصر إلى القاضي جعفر بن عبد السلام عن الحسن بن على بن ملاعب الأسدي عن محمد بن محمد الرضي عن الشريف محمد بن على العلوي عن محمد بن الحسن بن جعفر بن غزال عن على بن أحمد بن عمر عن المؤلف. ¬

(¬1) هو محمد بن منصور المرادي، الكوفي، الزيدي (أبو جعفر) مفسر، محدث، مؤرخ، فقيه توقي سنة نيف وتسعين ومائتين. من مؤلفاته الكثيرة: " التفسير الكبيرة، " سيرة الأئمة العادلة "، " كتاب في الأحكام "" التفسير الصغير "، ورسالته على لسان الطالبين إلى الحسن بن زيد بطبرستان. انظر: " تراجم الرجال " للجنداري (ص 36). " معجم المؤلفين " (3/ 735).

حرف الراء المهملة 170 - (الرسالة للإمام زيد بن علي (¬1): أرويها بالإسناد المتقدم في أول هذا المختصر إلى الإمام المهدي محمد بن المطهر عن السيد صلاح بن إبراهيم بن تاج الدين عن الحسن بن بدر الدين عن يحي بن عطية بن أبي النجم عن حميد بن أ حمد المحلى عن علي بن حمد الأكوع عن سعيد بن على السمان عن محمد بن عبد الله الزيدي عن الحسن بن علي بن ملاعب الأسدي عن الشريف عمر بن إبراهيم عن الشريف محمد بن على الحسني عن أبيه عن حسن بن محمد الرقط عن محمد بن علي بن حفص العطار عن محمد بن مروان الغزال عن إبراهيم بن الحكم بن ظهير عن أبيه عن السدي عن المؤلف. ¬

(¬1) هو زيد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب العلوي، الهاشمي، القرشي (أبو الحسين) فقيه، خطب. قرأ على واصل بن عطاء رئس المعتزلة وأشخص إلى الشام، فضيق عليه هشام بن عبد الملك وحبسه خمسة أشهر وعاد إلى العراق، ثم إلى المدينة فلحق به بعض أهل الكوفة يحرضونه على قتال الأمويين، ورجعوا به إلى الكوفة سنة (120) هـ فبايعه أربعون ألفا على الدعوة إلى الكتاب والسمة، ونشبت معارك بين الطرفين انتهت. مقتل زيد بن على في الكوفة، وإلى صاحب الترجمة نسبت الطائفة الزيدية. ولد سنة (79 هـ) واستشهد سنة (122هـ). من آثاره: " المجموع الكبير في الفقه "، " تعسير غريب القرآن "، " مناسك الحج وأحكامه ". انظر: " الأعلام " (3/ 98 - 99) " معجم المؤلفين " (1/ 739). وللشيخ العلامة محمد أبو زهرة مجلد حافل في سيرة زيد بن على. الرسالة الناصة والحقوق الواضحة: وجهها الإمام إلى شيعته ومحبيه ويذكر فيها أنواع من الحقوق الواجبة عل المؤمنين وتشبه أن تكون مختصرا من رسالة الحقوق المنسوبة إلى أبيه الإمام زين العابدين علي بن الحسين. وقد طبعت عن دار التراث سنة 1412هـ ضمن مجموعة رسائل. " مؤلفات الزيدية " (2/ 44 رقم 1608)، " أعلام المؤلفين الزيدية " (ص 441).

171 - (الرسالة للقشيري (¬1)): ارويها بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الشماخي عن عبد الصمد بن عبد الوهاب بن عساكر عن علي بن الحسن بن هبة الله عن الشيخ عبد المنعم بن عبد الكريم ابن هوازن القشيري عن أبيه المؤلف. 172 - (الروض الأنف للسهيلي (¬2)): أرويها بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن على بن يحيى عن الجمال يوسف بن عبد الله الأرميوني عن أبي الفضل السيوطي عن أبي بكر بن صدقة المناوي عن أبي علي المهدوي عن يونس بن إبراهيم الدبوسي عن عبد المنعم بن أبي الفتح عن المؤلف. ¬

(¬1) هو عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة بن محمد النيسابوري، القشيري، الشافعي، (أبو القا سم، زين الإسلام) صوفي، مفسر، فقيه، أصولي، محدث، متكلم، واعظ، أديب، ناثر، ناظم. ولد سنة 376 هـ. وتعلم الفروسية والعمل بالسلاح حتى برع في ذلك، ثم تعلم الكتابة والعربية، ثم جمع الحديث، توفي بنيسابور سنة46 هـ. من تصانيفه: " التيسير في التفسير "، " حياة الأرواح والدليل إلى طريق الصلاح "، " الرسالة القشيرية في التصوف "، " لطائف الإشارات "، " الجواهر الثمينة ". انظر: " وفيات الأعيان " (1/ 376) " طبقات السبكي " (1/ 376) البداية والنهاية " لابن كثر (12/ 107) " النجوم الزاهرة " (59 - 92) " الكامل في التاريخ " لابن الأثير (10/ 31). أما كتابه الرسالة فلنا عليه ملاحظات. منها: أ- ذكر كثيرا من الأحاديث والآثار والروايات التي لا أصل لها. 2 - الغلو في مسائل الزهد وطرائق التعبد، كنظرته للدنيا والمال. 3 - إقرار بعض السلوكيات الخاطئة. 4 - استخدام عبارات أهل الفلسفة والإشراقين. 5 - مخالفة قوانين العلم الشرعي ... كإقراره من قال: (هؤلاء- أي المحدثون- يروون عن ميت - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنا أروي عن الحي الذي لا يموت). (¬2) تقدمت ترجمته.

173 - (الروضة للنووي (¬1): أرويها بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الشرجي عن شمس الدين بن الجزري عن إبراهيم بن أحمد الفقيه عن ابن العطار عن المؤلف. 174 - (رياض الصالحين للنووي: أولها بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الديبع عن المؤلف. 175 - (الرياض للحمدوني): أرويها بالإسناد المتقدم في أول هذا الكتاب إلى القاضي جعفر عن الكني عن عبد الرحيم بن المظفر الحمدوني عن أبيه المؤلف. ¬

(¬1) تقدمت ترجمته أما كتابه " روضة الطالبين " فهو كتاب يدل على ثبات قدم هذا الإمام في هذا الباب. وقد طبع الكتاب في " المكتب الإسلامي " (12) مجلدا. بإشراف الأستاذ: زهير الشاويش. 21): في المخطوط (أ، ب) (الأهدل) والصواب ما أثبتناه.

حرف الزاي المعجمة 176 - (زوائد الإبانة): أرويها بالإسناد المتقدم في أول الكتاب إلى الإمام شرف الدين عن الإمام محمد بن على السراجي عن الإمام عز الدين عن الإمام مطهر عن الإمام المهدي أحمد بن يحيى عن السيد محمد بن سليمان الحمزي عن الواثق عن أبيه عن جده عن الأمر الحسن عن عبد الله بن علي العنسي عن حميد المحلي عن محي الدين بن الوليد عن يوسف حاجى اللاهجاني عن أبي علي بن منصور بن أصبهان عن أبي علي بن أموج عن الشيخ يعقوب ابن الشيخ أبي جعفر عن أبيه المؤلف .. 177 - (الزيادات (1) على مذهب المؤيد بالله): أرويها بذلك الإسناد إلى الإمام شرف الدين عن شيخه صارم الدين عن علي بن زيد عن أبي العطايا عن الفقيه يوسف عن الفقيه حسن عن الفقيه يحيى عن الفقيه محمد بن سليمان عن السيد محمد بن المهدي بن الناصر الحسيثي عن محمد بن صاع عن الفقيه محمد ابن بأجوبته عن والده بأجوبه عن علي بن داود بن أبي منصور عن أبيه عن جده علي بن أصفهان عن أبي علي بن أموج الجيلي عن القاضي زيد بن محمد عن على خليل عن القاضي يوسف عن أبي القاسم عن المؤيد بالله وهو المؤلف. 178 - (زيادات المسند للإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل:

ارويها بالإسناد المتقدم في أول هذا المختصر إلى البابلي عن على بن يحيى الزيادي عن أحمد بن محمد الرملي عن الشص! ى محمد بن عبد الرحمن السخاوي، عن العز عبد الرحيم ابن محمد الحنفي، عن أحمد بن محمد الجوخي، عن زينب بنت مكي الحرانية، عن حنبل ابن عبد الله بن الفرح الرصافي، عن هبة الله بن محمد بن عبد الواحد الشيباني عن الحسن ابن علي اليمني عن أبي بكر أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي عن المؤلف.

حرف السين المهملة 179 - (السراج الوهاج في حصر مسائل المنهاج للإمام محمد بن المطهر (¬1): أرويه بالإسناد السابق في أول هذا المختصر إلى الإمام شرف الدين عن السيد صارم الدين عن السيد أبي العطايا عن أبيه عن الإمام الواثق محمد بن المطهر عن أبيه المؤلف. 180 - (سفر (¬2) السعادة لمجد الدين صاحب القاموس (¬3): ¬

(¬1) هو الإمام المهدي محمد بن المطهر بن يحيى بن المرتضى بن القاسم بن المطهر بن على بن الناصر بن الهادي يحي بن الحسين. بويع بالخلافة عند موت والده سنة (690 هـ) وافتتح مواضع منها عدن أبين. وله علم واسع يدل على ذلك مصنفه الذي سماه " المنهاج الجلط في فقه زيد بن على ". ومن مصنفاته: "عقود العقيان في الناسخ والمنسوخ من القرآن " و" السراج الوهاج في حصر مسائل المنهاج "، و" الكواكب الدرية شرح الأبيات البدرية ". توفي سنة (728 هـ) وقيل (729 هـ). انظر: " البدر الطالع " (2/ 271). (¬2) طبع هذا الكتاب على هامش كتاب (أصول التفسير) لشاه ولي الله بن عبد الرحيم الدهلوي- مصر دون تاريخ. (¬3) هو محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم بن عمر بن أبي بكر بن أحمد بن محمود بن أدريس بن فضل الله الفيروز أبادي، الشيرازي، الشافعي (مجد الدين، أبو الطاهر) لغوي مشارك في عدة علوم. ولد بكازرون من أعمال ضيراز سنة (729 هـ) ونشا ها وانتقل إلى شيراز، وأخذ الأدب واللغة عن والده وغيره من علماء شيراز، وانتقل إلى العراق، وأخذ عن الصفدكي وابن عقيل والجمال وابن هشام. دخل زبيد وبقى ها عشرين عاما. وتوفي ها سنة (817 هـ). من تصانيفه: " القاموس المحيط " و" القابوس الوسيط "، " فتح الباري بالسيل الفسيح الجاري في شرح صحيح البخاري " كمل ربع العبادات منه في عشرين مجلدا، " المثلثات اللغوية! ا وغيرها. انظر: " الضوء اللامع " (0 79/ 1 - 86) شذرات الذهب " (7/ 126 - 131) " البدر الطالع " (2/ 280 - 284) "معجم المؤلفين (3/ 776 - 777).

أرويه بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الشرجي عن محمد بن أبي بكر العثماني المدني عن المؤلفي. 181 - (السفينة (¬1) للحاكم الجشمي): أرويها بالإسناد المتقدم دنى أول هذا المختصر إلى الإمام شرف الدين عن علي بن أحمد بن زيد عن الفقيه يوسف عن الفقيه حسن عن الفقيه يحيى بن حسن عن الفقيه محمد بن سليمان عن الفقيه عبد الله بن علي الأكوع عن أبيه على بن احمد عن القاضي جعفر عن علي بن عيسى بن حمزة عن الزنحشري عن المؤلف. 182 - (سلاح المؤمن لمحمد بن همام المعري (¬2): أرويه بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الشرجي عن محمد بن محمد بن محمد الجزري [عن أبي إسحاق إبراهيم بن تقي الدين أبي الفتح محمد بن محمد بن همام، عن والده الإمام الحافظ] (¬3) عن المؤلف. ¬

(¬1) جمع فيها بين الزهد والفقه والتاريخ لسيرة الأنبياء السابقين ونبينا والأئمة إلى عصره وذكر من اتفق على إمامته ومن اختلف فيه، وفيها فنون أخرى من العلم وهو أربع مجلدات مكتبة الجامع الكبير (2038) نسخة قديمة. (¬2) هو محمد بن محمد بن علي بن همام، العسقلاني الأصل، الشافعي (المعروف) بابن الإمام أبو الفتح ولد سنة 677 هـ، ونشا في اسرة علمية عريقة توارثت منصب الإمامة في الجامع الصالحي، بعد تمكنها في الفقه والحديث والفتيا. وله ثلاثة تصانيف الأول: " سلاح المؤمن في الدعاء والذكر " وهو مطبوع بتحقيق الشيخ: محط الدين مستو، الثاني: " المتشابه "، الثالث: " الاهتداء في الوقف والابتداء " توفي سنة انظر: غاية النهاية " (2/ 245) " شذرات الذهب " (6/ 144). (¬3) زيادة يستلزم اتصال السند استقاها من ثبت السيد يحيى بن عمر الأهدل من المخطوط [ح].

183 - (سنن أبي داود) (¬1): أرويها بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الشماخي عن محمد بن إسماعيل الحضرمي عن نصر بن أبي الفرح الحضري عن أبي طالب بن أبي زيد العلوي عن أبي علي التستري ¬

(¬1) هو سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد الأزدي، السجستاني (أبو داود) محدث، حافظ، فقيه، رحل وطوف وجمع وصنف وخرج وسمع الكثير من مشايخ الشام ومصر والجزيرة والعراق وخراسان. ولد سنة (202 هـ) وتوقي بالبصرة سنة (275 هـ). من تصانيفه: " كتاب السنن "، " أسئلة لأحمد بن حنبل عن الرواة الثقات والضعفاء ". انظر: " تاريخ بغداد " للخطب (9/ 55 - 59) " وفيات الأعيان " (1/ 268 - 269) " البداية والنهاية " (11/ 54 - 56) تذهيب الأسماء واللغات " للنووي (2/ 225 - 227) " تذهيب التهذيب " لابن حجر (4/ 169 - 173) "تذكرة الحفاظ " للذهبي (2/ 152 - 154). أما كتابه المذكور " السنن " فهو من أجل كتب الحديث رتبة رحمه الله على أبواب الفقه. وهذا الكتاب- بالاتفاق- فيه الصحيح والحسن والضعيف، إلا أن هناك مسألة يكثر الكلام حولها ألا وهي سكوت أبي داود على الحديث، ما حكمه؟ نقول: قال أبو داود في رسالته إلى أهل مكة في وصف سننه (ص27 - 28) تحقيق الصباغ: (وما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد بينته. وفيه مالا يصح سنده. ولم أذكر فيه شيئا فهو صالح. وبعضها أصح من بعض) هـ. فاختلف العلماء في فهم مراده من قوله: (صاع) وأفضلها أنه أراد بقوله (صالح) هو الضعيف الذي لم يشتد ضعفه وهذا هو الصواب بقرينة قوله: (وما فيه وهن شديد فقد بينته) فإنه يدل. مفهومة على أن ما كان فيه وهن يضر شديد لا يبينه فدل على أنه ليس كل ما سكت عليه أنه حسن، ويشهد لهذا وجود أحاديث كثيرة عنده لا يشك عالم في ضعفها، وهي مما سكت أبو داود عنه. قال الإمام النووي: (في سنن أبي داود أحاديث ظاهرة الضعف، لم يبينها، مع أنه متفق على ضعفها). والخلاصة: (إن الكشف عما سكت عنه أبو داود أولى وأقرب إلى التحقيق التام). انظر: " المدخل إلى إرشاد الأمة في فقه الكتاب والسنة " (ص103 - 104 - 105) تأليف: محمد صبحي بن حسن حلاق.

عن القاسم بن جعفر الهاشمي عن أبي على الؤلؤي عن المؤلف. ح- وبه إلى الشماخي عن محمد بن إسماعيل الحضرمي عن محمد بن إسماعيل بن أبي الصيف اليمني عن أبي الحسن بن علي بن خلف عن عمر بن عبد المجيد الميانسي عن أبي المظفر محمد بن علي الشيباني الطبري عن محمد بن إبراهيم البغدادي عن علي بن أحمد التستري عن القاسم بن عمر الهاشمي عن محمد بن أحمد اللؤلؤي عن المؤلف. ح- وأرويها بالإسناد المتقدم في أول هذا المختصر إلى البابلي عن سليمان بن عبد الدائم عن الجمال يوسف بن زكريا عن أبيه عن عبد الرحيم الفرات عن أبي العباس أحمد ابن محمد الجوخى عن الفخر على بن أحمد بن البخاري عن عمر بن محمد بن الطبري عن إبراهيم بن محمد بن منصور الكوخي عن أحمد بن علي بن ثابتا الخطيب البغدادي عن القاسم بن جعفر الهاشمي عن اللؤلؤي عن المؤلف. (ح) وأرويها عن شيخي يوسف بن محمد بن علاء الدين المزجاجى عن أبيه عن جده إبراهيم الكردي عن شيخه أحمد بن محمد المدني عن الشمس الرملي عن زين الدين زكريا بن محمد الأنصاري عن عبد الرحيم بن محمد المعروف بابن الفرات عن عمر ابن الحسن المراغي [عن الفخر ابن البخاري] (¬1) عن أبي الطبري بإسناده السابق إلى المؤلف. وأرويها بالسماع لجميعها من فاتحتها إلى خاتمتها من لفظ شيخي العلامة الحسن بن إسماعيل بن الحسن محمد المغربي عن شيخه السيد القاسم بن محمد الكبسي عن السيد هاشم بن يحيى الشامط عن طه بن عبد الله السادة عن علي بن أحمد المرحومي عن نور الدين علما الشبراملسى عن علي الحلبي عن الشمس الرملي بإسناده المتقدم المتصل بالمؤلف. (ح) وأرويها عن شيخنا السيد العلامة على بن إبراهيم بن على بن إبراهيم بن أحمد:. ¬

(¬1) زيادة من [ح] يستلزمها اتصال السند

ابن عامر الشهيد عن حامد بن حسن شاكر عن السيد أحمد بن يوسف بن الحسن بن الحسن بن الإمام القاسم عن السيد إبراهيم بن القاسم بن المؤيد عن السيد الحسن بن أحمد زبارة عن عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز الحبيشي عن السيد الهادي بن احمد الجلال عن عبد القادر بن زياد الجعاشي عن عبد العزيز بن تقي الدين الحبيشى عن السيد الطاهر بن حسين الأهدل عن عبد الرحمن بن على الديبع عن الحافظ محمد بن عبد الرحمن السخاوي عن الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني عن أبي علي بن المطرز عن يوسف بن علي الحنفي عن الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري عن ابن طبرزذ بإسناده السابق إلي المؤلف. (ح) وأرويها عن شيخنا السيد العلامة عبد القاضي بن احمد عن محمد بن الطيب عن محمد بن عبد القادر القاسمي عن أبي الإرشاد الأجهوري عن الشمس الرملي بالإسناد السابق إلى المؤلف. 184 - (سنن الترمذي) (¬1): ¬

(¬1) هو محمد بن عيسى بن سورة بن موسى الضحاك السلمي، الضرير البوغي، الترمذي (أبو عيسى) محدث، حافظ، مؤرخ، فقيه. ولد في حدود سنة (هـ 21 هـ) وتتلمذ على الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، وشاركه فيما يرويه في عدة من مشايخه، مثل قتيبة بن سعيد وعلى بن حجر، وابن بشار. وغيرهم. وارتحل، وسمع بخراسان والعراق والحرمين وسمع منه شيخه البخاري، وتوفي بترمذ في 13 رجب سنة (279 هـ) وفي رواية سنة (275 هـ). من تصانيفه: "الجامع الصحيح"، "الشمائل في شمائل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، "العلل في الحديث"، "رسالة في الحلاف والدال"، "والتاريخ". انظر: "تذكرة الحفاظ" (2/ 187 - 188) " البداية والنهاية (11/ 66 - 67) "تذهيب التهذيب " (9/ 387 - 389) " الكامل في التاريخ " (7/ 152) " شذرات الذهب " (2/ 174). أما كتابه "السنن " فهو من الأمهات الستة المعتمدة عند الأمة، وفي هذه السنن ما هو صحيح وحسن وضعيف. ولا يغتر بقول من اعتبر كل ما فيها صحيح ولقد اهتم العلماء في هذه السنن اهتماما عظيما بين شارح لها ومعلق ومخرج. ولعل أفضل شروحها " تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي " للإمام الحافظ أبي العلا محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري. أشرف على مراجعة أصوله وتصحيحه: عبد الوهاب عبد اللطيف.

أرويها بالسماع لجميعها من لفظ شيخنا السيد العلامة عبد القادر بن أحمد بإسناده المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الشماخي عن أحمد بن محمد السراجي اليمني عن زاهر بن رستم الأصفهاني عن القاسم بن أبي سهيل الهروي عن محمود بن القاسم الأزدي عن عبد الجبار بن محمد المروزي عن محمد بن أحمد بن محبوب المروزي عن المؤلف. (ح) وأرويها عن شيخنا المذكور بإسناده المتقدم في أول هذا المختصر إلى محمد البابلي عن النور علي بن يحيى الزيادي عن الرملي بإسناده المتقدم قريبا إلى ابن طبرزذ عن عبد الملك بن أبي سهيل الكروخي عن محمود بن القاسم الأزدي عن عبد الجبار بن محمد المروزي عن محمد بن محبوب عن المؤلف. (ح) وأرويها عن شيخنا المذكور عن محمد بن الطيب المغربي عن إبراهيم بن محمد المراغي عن أحمد بن محمد العجل عن ير بن مكرم الطبري عن جده المحب الطبري عن الزين المراغي عن أبي العباس أحمد بن أبي طالب (¬1) الحجار عن أبي النجا [عبد الله بن عمر] (¬2) اللتي عن أبي الوقت عن أبي عامر الأزدي عن أبي محمد الجراحي عن أبي العباس المحبولي عن المؤلف. (ح): أرويها عن شيخنا السيد علي بن إبراهيم بن عامر بإسناده السابق في سنن أبي داود إلى الديبع عن السخاوي عن ابن حجر عن البرهان التنوخي عن القاسم بن عساكر عن عبد الرحمن بن محمد بن معسوفي عن محمد بن علي بن صاع عن أبي عامر الأزدي عن أبي العباس محمد بن أحمد المحبولي عن المؤلف. (ح) وأرويها عن شيخنا السيد علي المذكور وشيخنا الحسن بن إسماعيل المغربي ¬

(¬1) زيادة من [ح] يستلزمها اتصال السند. (¬2) زيادة من [ح] يستلزمها اتصال السند.

بالإسناد المتقدم في سنن أبي داود إلى علي بن أحمد المرحومي عن إبراهيم البرماوي عن الشهاب القليوبي عن النور الزيادي عن الشمس الرملي عن زكريا الأنصاري عن الشمس القاياتي عن أحمد أبي زرعة عن أبيه الزين عبد الرحيم العراقي عن عمر العراقي عن علي ابن البخاري عن ابن طبرزذ بإسناده السابق إلى المؤلف. (ح) وأرويها عن شيخنا يوسف بن محمد بن علاء الدين المزجاجي (¬1) عن أبيه عن جده عن إبراهيم الكردي بإسناده المتقدم في سنن أبي داود إلى ابن طبرزذ بإسناده المذكور هنا إلى المؤلف. 185 - (سنن النسائي) (¬2): ¬

(¬1) هو يوسف بن محمد بن علاء الدين المزجاجى الزبيدي الحنفي، شيخنا الحافظ المسند. ولد تقريبا سنة (140 ا هـ) ونشأ بزبيد وأخذ عن علمالها ومنهم والده وبرع في العلوم دارية ورواية وصار حامل لواء الإسناد في أخر أيامه ووفد إلى صنعاء سنة (1207هـ) فاجتمعت به وسمعت منه وأجازني لفظا بجميع ما يجوز له روايته ثم كتب لي إجازة بعد وصوله إلى وطنه وأرسل ها إلي وكان الكاتب لها بن أخيه عن أمره لأني أدركته ضريرا. ومن جملة ما ارويه عنه أسانيد الشيخ الحافظ إبراهيم الكردي المتقدم ذكره المسمى بالأمم، وهو يرويها عن أبيه عن جده علاء الدين عن الشيخ إبراهيم هذا طريقة السماع ويرويها أيضًا عن أبيه عن الشيخ إبراهيم بالإجازة لأن الشيخ إبراهيم أجاز لجد صاحب الترجمة ولأولاده. وقد أو قفي على تلك الأجازات بخط الشيخ إبراهيم فوالد صاحب الترجمة ممن كلته الإجازة لكنه أخبرني رحمه الله أن الإجازة من الشيخ إبراهيم لعلاء الدين كانت قبل وجود ولده محمد والد المترجم له، فيكون العمل ها متنزلا على الخلاف في جواز الإجازة لمن سيوجد. مات سنة (1213هـ). هذا ما قاله عنه الشوكاني في " البدر الطالع " (2/ 356 - 357). (¬2) هو أحمد بين شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار النسائي (أبو عبد الرحمن) محدث، حافظ. ولد بنها سنة (215 هـ)، وسمع، الكثير، ورحل إلى نيسابور، والعراق، والشام، ومصر، والحجاز، والجزيرة، وروى عنه خلق كثير. وتوفي. بمكة وقيل بالرملة قي شعبان سنة (303 هـ) من تصانيفه " السنن الكبرى والصغرى "، " الخصائص في فضل على بن أبي طالب وأهل البيت"، " كتاب الضعفاء والمتروكين "، " مناسك النسائي" و"جمع مسند مالك بن أنس"، و"مسند على ابن أبي طالب ". انظر: " وفيات الأعيان (25/ 1 - 26) " تهذيب التهذيب " (1/ 36 - 39) " البداية والنهاية " (11/ 123 - 124) " شذرات الذهب " (2/ 239) " تذكرة الحفاظ " (2/ 241 - 243) " حسن المحاضرة " (1/ 197 - 198) " النجوم الزاهرة " (3/ 188) " طبقات الشافعية للسبكي " (2/ 83 - 84).

أرويها بالإسناد المتقدم في أول هذا المختصر إلى البابلي عن أبي النجا سالم بن محمد عن النجم محمد بن أحمد عن زكريا عن الزين رضوان بن محمد عن إبراهيم بن أحمد التنوخي عن أحمد بن أبي طالب الحجار عن عبد اللطيف بن محمد بن علي القبيطي عن أبي زرعه طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي عن أبي محمد عبد الرحمن بن جمد الحوني عن القاضي أبي نصر أحمد بن الحسين الكسار عن أحمد بن محمد بن إسحاق بن المسني الدينوري عن المؤلف. (ح) وارويها بالإسناد المتقدم في سنن أبي داود إلى عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز الحبيشي عن على بن مرجان عن محمد بن عبد العزيز بن تقي الدين الحبيشي عن أبيه عن السيد الطاهر بن حسين الأهدل عن الحافظ الديبع عن السخاوي عن الحافظ ابن حجر عن إبراهيم بن أحمد التنوخي بإسناده إلى المؤلف. (ح) وأرويها عن شيخي يوسف بن محمد بن علاء الدين المزجاجي بإسناده المتقدم في سنن أبي داود إلى إبراهيم الكردي عن أحمد بن محمد المدني عن الشمس الرملي عن الزين زكريا عن الحافظ ابن حجر بإسناده المذكور هاهنا إلى المؤلف .. (ح) وأرويها بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الديبع عن الشرجي عن محمد بن محمد بن محمد الجزري عن علي بن عبد الرحمن الحموري عن أيوب بن أحمد الكحال عن عثمان بن على بن خطيب القرافه عن أبي طاهر السلفي عن عبد الرحمن بن احمد الدوني بإسناده إلى المؤلف.

(ح) وأرويها عن شيخنا السيد عبد القادر بن أحمد عن شيخه محمد بن الطيب بإسناده المتقدم في سنن الترمذي إلى الحجار بإسناد الحجار المذكور هاهنا إلى المؤلف. 186 - (سنن ابن ماجه) (¬1): أرويها بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الشماخي محن محمد بن إسماعيل الحضرمي عن نصر بن على الحضري عن أبي زرعه طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي عن محمد بن الحسين بن أحمد القومي عن القاسم بن أبي المنذر الخطيب عن علي بن إبراهيم بن سلمه القطان عن المؤلف. (ح) وأرويها بالإسناد المتقدم في أول هذا الكتاب إلى البابلي عن إبراهيم بن إبراهيم اللقاني عن الشمسي الرملي عن زكريا الأنصاري عن الحافظ ابن حجر عن أحمد ¬

(¬1) هو محمد بن يزيد بن ماجه الربعي بالولاء، القزويى (أبو عبد الله) محدث، حافظ، عارف بعلوم الحديث، مفسر، مؤرخ، ارتحل إلى بغداد والبصرة والكوفة ومكة والشام ومصر والري وسمع الكثير. ولد سنة (259 هـ) وتوفي سنة (273 هـ) في رمضان. من تصانيفه: " تفسير القران "، " التاريخ "، " السنن في الحديث "، " تاريخ الخلفاء رواية أبي بكر السدوسي "، " ثلاثيات سننه "،"جزء فيه عشرين حديثا عوال جدا"، "وجزء من منتقى من انظر: " تذكرة الحافظ " (2/ 189 - 190) " تهذيب التهذيب " (9/ 530 - 532) " البداية والنهاية " (11/ 52) " النجوم الزاهرة " (3/ 70) " الكامل في التاريخ " (7/ 142) "شذرات الذهب " (2/ 164). وكتاب السنن المذكور طبع مجموعة طبعات كان أحسنها وأدقها تلك التي صدرت بتحقيق الشيح محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله تعالى. وقد اعتنى العلماء هذه السنن عناية فائقة في القديم والحديث، ومن المعاصرين الذين خدموا سنن ابن ماجه والنسائي وغيرهما من الكتب العلامة المحدث، ناصر الدين الألباني ب " صحيح ابن ماجه " " ضعيف ابن ماجه "صحيح النسائي" ضعيف النسائي ".

ابن عمر علي البغدادي عن المزي عن عبد الرحمن بن أبي عمر بن قدامة المقدسي عن عبد الله بن احمد بن قدامة عن أبي زرعة طاهر بن محمد طاهر المقدسي بإسناده إلى المؤلف. (ح) وأرويه بالإسناد السابق إلى إبراهيم الكردي بإسناده المذكور في سنن النسائي إلى الحافظ ابن حجر عن أبي الحسن ابن أبي المجد الدمشقي عن أبي العباس الحجار عن أنجب بن أبي السعادات عن أبي زرعه طاهر المقدسي بإسناده إلى المؤلف. (ح) وأرويه عن شيخنا السيد عبد القافى ر بن أحمد عن شيخه محمد بن الطيب بإسناده المذكور في سنن الترمذي إلى الحجار عن عبد اللطيف القبيطي عن أبي زرعه طاهر المقدسي بإسناده المذكور هنا إلى المؤلف. 187 - (سنن الدار قطني) (¬1): أرويها بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الشماخي عن علي بن هبة الله الشافعي المصري عن الحافظ السلفي عن المبارك بن عبد الجبار الصيرفي عن القاضي أبي الطيب طاهر بن عبد الله بن طاهر الطبري عن المؤلف. ¬

(¬1) هو علي بن عمر بن أحمد بن مهدي بن مسعود بن النعمان بن دينار بن عبد الله البغدادي الدارقطني (نسبة دار قطن ببغداد) الشافعي (أبو الحسن) محدث، حافظ، فقيه، مقر! ي، إخباري، لغوي. ولد في ذي القعدة سنة (306 هـ) وقيل سنة (305 هـ) وعمن أبي القاسم البغوي وخلق كثير ببغداد والكوفة والبصرة وواسي، ورحل في كهولته إلى الشام ومصر، وتوفي ببغداد سنة (385 هـ) ودفن قريبا من معروف الكرخي رحمه الله. من تصانيفه: " المختلف والمؤلف في أسماء الرجال "، "غريب اللغة "،كتاب القراءات "، " كتاب السنن "، "والمعرفة. مذاهب الفقهاء "، " أحاديث الموطأ"،" الأحاديث التي خولف فيها مالك"،" السنن المأثورة، " فضائل الصحابة"،"الفوائد والأفراد ". انظر: " وفيات الأعيان " (1/ 417 - 418) " البداية والنهاية " (317/"-318) " طبقات السبكي " (2/ 310 - 312) " تذكرة الحفاظ " (3/ 186 - 190) " النجوم الزاهرة " (17214) " شذرات الذهب " (3/ 116 - 117).

(ح) وأرويها بالإسناد السابق في أول الكتاب إلى البابلي عن أبي بكر بن إسماعيل الشنواني عن الجمال يوسف زكريا عن والده الحافظ ابن حجر عن محمد بن محمد بن قوام عن أحمد بن أبي طالب الحجار عن محمد بن أحمد القطيعى عن المبارك بن الحسن الشهرزوري عن محمد بن على بن المهتدي بالله عن المؤلف. 188 - (السنن للبيهقي) (¬1): أرويها بالإسناد المتقدم في أول هذا المختصر إلى البابلي عن الشيخ سالم بن الحسن الشبشيري عن الشمس الرملي عن الزين زكريا عن الصلاح بن أبي عمر عن الفخر ابن البخاري عن منصور بن عبد المنعم الفراوي عن محمد بن إسماعيل الفارسي عن المؤلف. 189 - (سياسة المرددين للمؤيد بالله الهاروي) (¬2): أرويها بالإسناد المتقدم في أمالية من حرف الهمزة. 190 - (السيرة لابن إسحاق) (¬3): قد تقدم ذكر إسنادها في حرف التاء عند ذكر إسناد تهذيب ابن هشام لها. 191 - (سيرة ابن سيد .... .... .... .... .... .... .... ...... ¬

(¬1) تقدت ترجمته. (¬2) تقدت ترجمته. (¬3) هو محمد بن إسحاق بن يسار المطبى بالولاء المدني (أبو بكر، أبو عبد الله) محدث، حافظ، إخباري، عارف بأيام العرب وأخبارهم وأنساهم، رواية لأشعارهم. توفي ببغداد سنة 151هـ ودفن. مقابر الخيزران. من تصانيفه: " السيرة النبوية "، " الخلفاء "، " المبدأ". انظر: " تاريخ بغداد " للخطيب (1/ 214 - 234) وفيات الأعيان (1/ 611 - 612) معجم الأدباء " (18/ 5 - 8) " تذكرة الحفاظ " للذهبي (1/ 163 - 164) " ميزان الاعتدال " للذهبي (3/ 21 - 24)

الناس) (¬1): أرويها بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن عبد الرؤوف المناوي عن النجم الغيطي، عن الزين زكريا، عن الحافظ ابن حجر، عن محمد بن الحسن الفرسيسي عن المؤلف. ¬

(¬1) تقدمت ترجمته.

حرف الشين المعجمة 192 - (الشاطبية لأبي القاسم الشاطبي) (¬1): أرويها عن شيخنا السيد عبد القادر بن أحمد عن شيخه محمد حياة السندي عن سالم ابن عبد الله البصري عن أبيه عن الشيخ محمد البابلي عن سيف الدين البصير عن أحمد بق عبد الحق السنباطي عن الجمال يوسف بن زكريا عن والده عن أبي النعيم رضوان بن محمد عن الأستاذ أبي إسحاق التنوخي عن البدر محمد بن إبراهيم بن جماعه عن عبد الله ابن عبد الوارث الأنصاري عن المؤلف الناظم. 193 - (الشافية لابن الحاجب) (¬2): ¬

(¬1) هو القاسم بن فيرة بن خلف بن أحمد الرعيئ، الأندلسي، الشاطبي، الضرير (أبو محمد، أبو القاسم) مقرئ، نحوي، مفسر، محدث ناظم. ولد بشاطبة إحدى قرى شرقي الأندلسي سنة 538 هـ وتوفي في القاهرة جمادي الآخرة سنة 590 هـ. من آثاره: " حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع " (المشهور بالشاطبية) و" عقيلة القصائد في أسئ المقاصد في نظم المقنع للداني "، " ناظمة الزهر في إعداد آيات السور"، "وتنمية الحرز من قراء أئمة الكنز "، و" إبراز المعاني من حرز الأماني". انظر: " وفيات الأعيان " (1/ 534 - 535) " معجم الأدباء " (16/ 293 - 296) " طبقات السبكي " (4/ 297 - 298) " البداية والنهاية " (13/ 10) " شذرات الذهب " (4/ 103 - 303) " حسن المحاضرة (1/ 284 - 285). (¬2) هو عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس الكردي، الدويني الأصل، الأسنائي، المالكي، المعروف بابن الحاجب (أبو عمرو، جمال الدين) فقيه، مقرئ، أصولي، نحوي، صرفي، عروضي. ولد سنة (750 هـ) باسنا من بلاد صعيد مصر، وانتقل إلى القاهرة صغيرا، وحفظ القرآن الكريم ودرس العلوم كالفقه وأصوله على مذهب الإمام مالك، وكذلك النحو والأدب واشتهر بابن الحاجب. وكانت المادة إلى تشغل حيزا كثيرا من تفكيره هي مادة النحو، فقد ظل في دمشق يودي رسالة العلم والمعرفة، وكان الأغلب عليه دراسة النحو.

أرويها هذا الإسناد إلى البابلي عن أحمد بن إبراهيم القليوبي عن أبي علي بن المطرز عن أبي النون يونس بن إبراهيم الدبوسي عن المؤلف. 194 - (الشافي للإمام المنصور بالله بن حمزة) (¬1): أرويه بالإسناد المتصل به المتقدم في أول هذا المجموع. 195 - (الشذور لابن هشام وسائر تصانيفه) (¬2): ¬

(¬1) الشافي: رد على كتاب " الرسالة الخارقة " للفقيه عبد الرحيم بن أبي القبائل المتوفى سنة 616 هـ وهو في أربع مجلدات ضخمة حقق فيها أيضًا طرقه ومروياته بدأ بتأليفه في شهر ربيع الأول (سنة 609 هـ) واكتفى قي الجواب. مما لابد من ذكره ولم يتعرض لكل ما قاله صاحب الرسالة. طبع " مؤسسة الأعلمي- بيروت- في 1406 هـ في أربعة أجزاء. مؤلفات الزيدية (2/ 121 رقم 1845). (¬2) هو عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري، المعروف بابن هشام (جمال الدين، أبو محمد) نحوي، مشارك قي المعاني والبيان والعروض والفقه وغيرها. ولد في ذي القعدة سنة (708 هـ). وقرأ العربية وأقام. بمكة، ونشأ فيها ودرس على كثر من شيوخها، فلزم شهاب الدين عبد اللطيف بن المرحل، وقرأ على ابن السراج، وحضر دروس تاج الدين، ودرس الفقه على مذهب الشافعي. توفي. ممصر سنة (761 هـ). من تصانيفه: " معنى اللبيب عن كتب الأعاريب "، " شرح بانت سعاد "، " شرح الشافية "، " نبذة من قواعد الإعراب "، " شذور الذهب في معرفة كلام العرب "، وهو الكتاب الذي أشار له المنصف وقد طبع مع تحقيقه للشيخ محيى الدين عبد الحميد و" أوضح المسالك إلى ألفية ابن مللك "، " الإعراب من قواعد الإعراب"

أرويها هذا الإسناد إلى البابلي عن أبي بكر بن إسماعيل السنواني عن الجمال يوسف ابن زكريا عن أبيه عن الحافظ ابن حجر عن المحب محمد بن عبد الله بن يوسف بن هشام عن أبيه المؤلف. 196 - (شرح المقاصد للسعد التفتازاني) (¬1): أرويه هذا الإسناد إلى البابلي عن أحمد السنهوري عن أحمد بن حجر المكي عن عبد الحق السنباطي عن تقي الدين الحصني عن شمس الدين الحاجري عن المؤلف. 197 - (شرح المواقف للشريف الجرجاني) (¬2): أرويه وسائر تصانيفه هذا الإسناد إلى البابلي عن أحمد بن خليل السبكي عن النجم محمد بن أحمد عن الشرف عبد الحق السنباطي عن المحقق شمس الدين محمد الشرواني عن السيد محمد بن علي الجرجاني عن أبيه المؤلف. 198 - (شرح الجوهرة للبرهان أبي الإمداد إبراهيم بن إبراهيم بن حسن بن علي اللقاني) (¬3): أرويه هذا الإسناد إلى البابلي عن شيخه المؤلف. ¬

(¬1) طبع مرارا (¬2) طبع مرارا (¬3) هو إبراهيم بن إبراهيم بن حسن بن على اللقاني (نسبة إلى لقانة من قرى مصر) المصري، المالكي، (برهان الدين، أبو الإمداد، أبو إسحاق) من علماء الحديث، وأصوله، والكلام، والفقه. توقي وهو راجع من الحج سنة (1041هـ) ودفن بالقرب من عقبة أيلة. من مؤلفاته: بهجة المحافل وأجمل الوسائل بالتعريف برواة الشمائل "،قضاء الوطر من نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر "، " جوهرة التوحيد "، " هدية المريد شرح جوهرة التوحيد ". انظر: " خلاصة الأثر" (1/ 6 - 9) " معجم المؤلفين " (1/ 8).

199 - (شرح الرسالة للتاج الفاكهاني) (¬1): أرويه وسائر تصانيفه هذا الإسناد إلى البابلي علي بن محمد الأجهوري عن بدر الدين حسن الكرخي عن الجلال السيوطي عن محمد بن مقبل عن عبد الوهاب بن محمد الفروي عن المؤلف. 200 - (شروح بهرام الثلاثة على مختصر خليل) (¬2): أرويها هذا الإسناد إلى البابلي وسائر تصانيفه عن سالم بن محمد وسليمان بن عبد الدائم كلاهما عن النجم محمد بن أحمد بن على عن عبد الحق السنباطي عن أحمد بن محمد ابن حسن الشملي عن أبيه عن المؤلف. ¬

(¬1) هو عمر بن على بن سالم بن صدقة اللخمي، الإسكندراني، الفاكهاني (تاج الدين، أبو حفص) فقيه، مشارك في الحديث والأصول والعربي والأدب ولد بالإسكندرية سنة 654 هـ. وتوفي ها سنة 731 هـ وقيل 734 هـ. من تصانيفه: شرح رسالة ابن أبي زيد القرواني في الفقه المالكي سماه " التحرير والتحبير " شرح الأربعين النووية وعاه " منهج المبين قي شرح الأربعين "، " الإشارة في النحو "، " التحفة المختارة في الرد على منكر الزيارة "، " واللمعة في وقفة الجمعة ". انظر: " الدرر الكامنة " (179/ 3 - 180) " البداية والنهاية " (14/ 168) " حسن المحاضرة " (1/ 261) " هدية العارفين " (1/ 789) " شذرات الذهب " (6/ 96) " معجم المؤلفين " (2/ 567). (¬2) بهرام بن عبد الله بن عبد العزيز بن عمر بن عوض بن عمر، قاضى القضاة. ممصر حامل لواء المذهب المالكي على كاهله. أخذ عن مشايخ عصره منهم شرف الدين الرهوني، والشيح خليل، وسمع من إبراهيم القاياتي وغيره ومهر في الفقه. ومن آثاره: " مجلدة في المناسك"، " وشرحها في ثلاثة أسفار "، " وشرح مختصر ابن الحاجب الأصلي، " وألفيه ابن مالك "، و" شرح مختصر خليل " ثلاثة شروح كبير، ووسط، وصغر، وقد عم النفع به وتداولها الطلبة والمدرسون مع وجود غرها من الشروح المتعددة. انظر " توشيح الديباج وحلية الابتهاج " تأليف: بدر الدين القرافي (ت: 946 هـ) (ص 83 - 85) رقم الترجمة [68].

201 - (شرح البردة لابن مرزوق) (¬1): أرويه مع سائر تصانيفه هذا الإسناد إلى البابلي عن احمد بن خليل عن النجم محمد بن أحمد بن زكريا عن محمد بن محمد بن فهد عن جمال الدين بن ظهيرة عن المؤلف. 202 - (شرح المفصل لابن الحاجب وسائر تصانيفه): أرويها هذا الإسناد إلى البابلي عن سالم بن محمد عن محمد بن أحمد بن زكريا عن محمد بن أبي بكر المراغي عن أبي طلحة الحراوي عن الدمياطي عبد المؤمن بن خلف عن المؤلف. 203 - (شرح التلخيص المطول (¬2) والمختصر (¬3) للسعد وسائر ثصانيفه): أرويه بهذا الإسناد إلى البابلي عن علي بن يحيى الزيادي عن السيد يوسف بن عبد الله الأرميوني عن أبي الفضل السيوطي عن احمد بن محمد العقيلي عن الحسن بن علي بن محمد الأبيوردي عن المؤلف. ¬

(¬1) هو محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر بن مرزوق الحفيد، العجيسي، التلمساني، (شمس الدين، أبو عبد الله) فقيه، أصولي، محدث، مفسر، صوفي، مقرئ، لغوي، بياني، عروضي، ناظم. ولد بتلمسان سنة (766 هـ) وتوفي ها سنة (842 هـ). من تصانيفه: " أنوار الدراري في مكررات البخاري "، " روضة الأديب في شرح التهذيب "، "المفاتيح المرزوقية في استخراج رموز الخزرجية في العروض "، " شرح قصيدة البردة " وحمله "الاستيعاب لما فيها من البيان والإعراب " و" المسعى الرجيح والمرحب الفسيح في شرح الجامع الصغير" لم يكمل. انظر " الضوء اللامع " (7/ 50) " البدر الطالع " (2/ 119 - 120) " معجم المؤلفين " (3/ 97). (¬2) (المطول على التلخيص) شرح تلخيص المفتاح للقزويني طبع بالآستانة عام 1260 هـ، 1304 هـ (¬3) مختصر على تلخيص مفتاح، فقد طبع على نفقه الشيخ فرج الله الكردي في المطبعة الأهلية ببولاق 1317هـ وفي كلكتة عام 1228هـ معجم سركيس (1/ 638).

254 - (شرح معاني الآثار للطحاوي) (¬1): ارويه هذا الإسناد إلى البابلي عن عبد الله بن محمد النحريري عن يوسف بن زكريا عن أبيه عن الحافظ ابن حجر عن أبي الطاهر بن الكويك عن زينب بنت الكمال المقدسية عن أبي محمد بن عبد الهادي عن محمد بن أبي بكر المدني عن إسماعيل بن الفضل بن احمد السراج عن منصور بن الحسن الثاني عن محمد بن إبراهيم بن المقري عن المؤلف. 205 - (شرح الحافظ ابن حجر على البخاري) (¬2): أرويه هذا الإسناد إلى البابلي عن سالم بن محمد عن الزين زكريا عن المؤلف. 206 - (شرح النخبة له مع سائر تصانيفه (¬3): أرويها هذا الإسناد المتصل به. 207 - (شرح الجمل لابن باب شاذ) (¬4): ¬

(¬1) هو أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمه بن عبد الملك بن سلمه بن سليم بن سليمان الأزدي الحجري الطحاوي (نسبة إلى طحا قرية بصعيد مصر) المصري، الحنفي، فقيه، مجتهد، محدث، حافظ، مؤرخ. ولد سنة (229 هـ) وقيل (238 هـ) وتوفي في مصر سنة (321 هـ). من تصانيفه: " أحكام القرآن "، " المختصر في الفقه "، " الاختلاف بين الفقهاء "، " المحاضر والسجلات "، " التاريخ الكبير "، " بيان السنة والجماعة "، " معاني الآثار "، " مشكل الآثار ". انظر: " وفيات الأعيان " (1/ 23) " تذكرة الحفاظ " (3/ 28 - 29) " لسان الميزان " (1/ 274) " الفوائد البهية " (ص 31 - 34) " شذرات الذهب " (2/ 288) " حسن المحاضرة " (1/ 198). (¬2) كتابه المقصود هنا " فتح الباري " وسيأتي الكلام عليه استقلالا. (¬3) وهو كتاب " نزهة النظر شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر " كلاهما للإمام ابن حجر وهو شرح مختصر مفيد، مطوع متداول. (¬4) هو طاهر بن أحمد بن بابشاذ (هكذا قي كتب التراجم الأخرى) بن داود بن سليمان بن إبراهيم المصري، الجوهري، المعروف بابن بابشاذ (أبو الحسن) نحوي لغوي. سمع الحديث ورواه، وقرئ عليه الأدب بجامع مصر سنيهما، وخدم. بمصر في ديوان الإنشاء، وقدم بغداد تاجرا في اللؤلؤ، وأحذ عن علمائها، وتوفي. ممصر في رجب سنة (461 هـ). من مصنفاته: " شرح الجمل للزجاجي "، " كتاب الأصول لابن السراج قي النحو "، " شرح النخبة، " تعليق في النحو"،في خمسة عشر مجلدا. انظر: " وفيات الأعيان " (1/ 294 - 215) " معجم الأدباء " (12/ 17 - 19) " البداية والنهاية (12/ 116) " النجوم الزاهرة " (5/ 105) " شذرات الذهب " (3/ 333 - 334) " معجم المؤلفين " (2/ 9). قال ابن خلكان (2/ 517): ابن بابشاذ: كلمة أعجمية تتضمن الفرح والسرور

أرويه عن شيخنا يوسف بن محمد بن علاء الدين عن أبيه عن يحيى بن عمر الأهدل ح- وأرويه عن شيخنا عن صديق بن على المزجاجي عن السيد سليمان بن يحيى بن عمر عن أحمد بن محمد الأهدل عن يحيى بن عمر الأهدل. (ح) وأرويه عن شيخنا السيد عبد القادر بن أحمد عن السيد سليمان بن يحيى بن عمر عن أحمد بن محمد الأهدل عن يحيى بن عمر. قال يحيى بن عمر: أخبرني به شيخنا أبو بكر بن علي البطاح الأهدل ثم ذكر الإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الشماخي عن عبد الرحمن بن إبراهيم بن على عن أبي إسحاق ابن إبراهيم بن علي عن القاضي يوسف بن إبراهيم بن عبد الواحد السنباطي عن عبد الله ابن بري القرشي عن محمد بن بركات السعيدي عن المؤلف. 208 - (شرح المقدمة المحسنة في النحو لابن باب شاذ المذكور) (¬1): أرويه هذا الإسناد إلى المؤلف. 209 - (شرح الحاوي للقونوي) (¬2) أرويه بالإسناد المذكور إلى يحيى عن عمر الأهدل بإسناده المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الشرجي عن شمس الدين الجزري عن إبراهيم بن أحمد الثعلبي عن المؤلف. ¬

(¬1) تقدم آنفا. (¬2) (شرح الحاوي الصغير) في الفقه.- مخطوط- الأعلام للزركلي (4/ 264).

210 - (شرح الهداية لحسام الدين بن علي السغناقي) (¬1): أرويها عن شيخنا يوسف بن محمد بن علاء الدين المزجاجي عن أبيه عن جده عن إبراهيم الكردي عن أحمد بن محمد المدني عن الشمس الرملي عن زين الدين زكريا عن نجم الدين عمر بن تقي الدين بن فهد عن محمد بن إبراهيم المرشدي عن محمد بن علي بن عبد الكافي عن عبد الله بن حجاج الكاشغري عن المؤلف. 211 - (شرح الهداية للسروجي) (¬2): أرويها بالإسناد السابق إلى الزين زكريا عن الحافظ ابن حجر عن محمد بن على بن محمد المكي عن قطب الدين عبد الكريم بن محمد الهبي عن المؤلف. 212 - (شرح الكنز للكرماني) (¬3): ¬

(¬1) هو الحسين بن علي بن حجاج السغناقى، البخاري، الحنفي، المنعوت بالحسام، فقيه، أصولي، دخل بغداد، وتوفي. بمرو قبل عام 774 هـ. من أثاره: " شرح الهداية في فروع الفقه الحنفي "، و" شرح أصول الفقه للأخسيكتي ". انظر: " معجم المؤلفين " (1/ 606). (¬2) هو أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني السروجي الحنفي (شمس الدين، أبو العباس) قاضي قضاة الديار المصرية، كان مشاركا في علوم شيء. ولد سنة (637 هـ) وقيل (639 هـ وتوفي بالقاهرة سنة (0 71 هـ) وقيل سنة (701 هـ). من تصانيفه: اعتراضات على ابن تيمية قي علم الكلام "، شرح على الهداية وسماه " الغاية " ولم يكلمه انتهى فيه إلى كتاب الإيمان في ست مجلدات ضخمة، تحفة الأصحاب ونزهة ذوي الألباب. انظر: " الدرر الكامنة " (1/ 91 - 92) " البداية والنهاية " (14/ 60) " النجوم الزاهرة " (9/ 212 - 213) " الفوائد البهية " (ص13) " الجواهر المضية " للقرشي (1/ 53 - 55). (¬3) هو مسعود بن محمد بن محمد بن سهل الكرماني، الحنفي (أبو محمد، قوام الدين) عالم قي الفقه والنحو والأصلين واللغة سكن بدمشق بالقاهرة. ولد سنة 664 هـ وتوفي سنة 748 هـ وقد جاوز الثمانين. من تصانيفه: " شرح الكنز في فروع الفقه الحنفي "، " حاشية على المعنى للبخاري في أصول الفقه "، وله شعر.

أرويه بالإسناد السابق إلى الحافظ ابن حجر عن محمد بن محمد بن سكر القرشي عن مؤلفه. 213 - (شرح (¬1) التجريد للمؤيد بالله): أرويه بالإسناد السابق في كتاب الأمالي له من حرف الهمزة. 213 - (شرح (¬2) التجريد لأب طالب): أرويه بالإسناد السابق في كتاب الإفادة له من حرف الهمزة. 215 - (شرح الأحكام للسيد أبي العباس) (¬3): أرويه بالإسناد السابق في أمالي المؤيد بالله وإفادة أبي طالب أيضًا إليهما وهما يرويان شرح الأحكام عن المؤلف وهو خالهما. 216 - (شرح القاضي زيد بن محمد .... .... .... .... .... .... ¬

(¬1) الأصل " التجريد في علم الأثر " للمؤلف أيضًا وهذا الشرح في أربع مجلدات اعتنى فيه بالأسانيد وأسماء الرواة الراوين عن على عليه السلام والأئمة من أهل البيت ويبسط الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس. مؤلفات الزيدية (2/ 143 رقم 1896). (¬2) الأصل للمؤلف أيضًا وهذا الشرح في ستة عشر مجلدا، أودع فيه من الأدلة والتعليلات مالا يوجد في غيره وبالغ في نصرة مذهب الإمام الهادي حتى أظهر ترجيحه. مؤلفات الزيدية (144/ 2 رقم 1898). (¬3) هو أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن على بن إبراهيم بن محمد بن سليمان، الهاشمي الحسني السيد الإمام أبو العباس، حدث عن يحي بن محمد بن الهادي، وعليه سمع الأحكام والمنتخب. وله مؤلفات منها " شرح الأحكام "" مسلسل الأحاديث "" شرح الإبانة "" المصابيح ". وكان إماميا ثم رجع إلى مذهب الزيدية وقيل لم يرجع توفي سنة (353 هـ). انظر " تراجم الرجال " للجنداري (ص 3).

الكلاري) (¬1): أرويه بالإسناد المتقدم في كتاب الإبانة من حرف الهمزة إلى أبي علي بن أموج الجيلي عن المؤلف. 217 - (شرح الأزهار لا بن مفتاح) (¬2): أرويه بالإسناد المتقدم في كتاب الإبانة إلى الإمام شرف الدين عن على بن أحمد عن علي بن زيد عن المؤلف. 218 - (شرح الفتح ليحيى حميد) (¬3): ¬

(¬1) هكذا في الأصل، والذي في التراجم (الكلاوي). وهو زيد بن محمد الكلاوي بالتخفيف كذا قيل الجيلي وهو القاضي زيد المشهور علامة الزيدية وحافظ أقوالهم وفقيههم. قال في الانتصار: كان من أتباع المؤيد بالله ولم يعاصره، وهو مؤلف الشرح المذكور، وإذا أطلق الشرح في المنتزع فهو شرحه، إلا في موضع في السير فشرح أبي طالب، والشرح درب الزيدية ومعلقيها انتزعه من شرح أبي طالب. انظر: " تراجم الرجال " للجنداري (ص15). (¬2) هو عبد الله بن أبي القاسم بن مفتاح، شارح الأزهار ((المنتزع المختار منه الغيث المدرار المفتح لكمائم الأزهار في فقه الأئمة الأطهار)). طبع عام 1332 هـ مطبعة شركة التمدن معجم سركيس (1/ 247)، الشرح الذي عليه اعتماد الطلبة إلى الآن. كان محققا للفقه ولعله قرأ على الإمام المهدي مصنف الأزهار، وكان مشهورا بالصلاح وميل الناس إلى شرحه وعكوفهم عليه مع أنه لم يشتمل على ما اشتملت عليه سائر الشروح من الفوائد. دليل على نيته وصلاح مقصده وهو مختصر من الشرح الكبير للإمام المهدي المسمى بالغيث، وتوفي رحمه الله يوم السبت سابع عشر ربيع الأخر سنة 877 هـ وقبره يماني صنعاء. انظر " البدر الطالع " (1/ 294 - 295). (¬3) قال الشوكاني في " البدر الطالع " (2/ 341): (يحيى بن محمد بن حسن بن حميد بن مسعود المقراي بلدا الحارثي المذجى نسبا الزيدي مذهبا. ولد سنة (908 هـ) وقرأ على جماعة، منهم محمد بن أحمد مرغم ومحمد بن يحيى بهران

أرويه بالإسناد المتقدم في أول هذا المختصر إلى الإمام القاسم بن محمد عن السيد أمير الدين بن عبد الله عن السيد أحمد بن عبد الله عن المؤلف. 219 - (شرح الأثمار لابن هران) (¬1): أرويه بالإسناد المذكور إلى الإمام القاسم بن محمد عن عبد العزيز بن محمد بن يحيى هران عن أبيه المؤلف. 220 - (شرح البحر للإمام عز الدين بن الحسن) (¬2): أرويه بالإسناد المذكور إلى الإمام القاسم عن أمر الدين بن عبد الله عن السيد أحمد ابن عبد الله عن الإمام شرف الدين عن الإمام محمد بن علي السراجى عن المؤلف. 221 - (شرح النجري على .... .... .... .... .... .... .... ¬

= ومحمد بن أبي بكر الشافعي وغيرهم، ورحل إلى مكة وتقي ابن حجر الهيثمي وسأله. بمسائل وأخذ عنه جماعة من العلماء. وله مصنفات منها شرح الأثمار حماه " الوابل المغزار " ومنها الفتح " وشرحه و" التوضيح " و" ومصباح الفرائض " وشرحه و" نزهة الأنظار" مات في رجب سنة (990 هـ) 1هـ. (¬1) هو محمد بن يحي بن محمد بن أحمد بن محمد بن موسى اليماني الصعدي المعروف ببهران الزيدي، أحد علماء اليمن المشاهير، برع في جميع المنون وفاق أقرانه وتفرد برياسة العلم في عصره. وصنف التصانيف الحافلة منها في الفقه: " شرح الأثمار " للإمام شرف الدين في أربع مجلدات، وفي العربية" التحفة " وفي أصول " الكافل " و" الشافي " وغير ذلك. وقد عم النفع بشرحه للأثمار المتقدم ذكره فإنه ذكر فيه من دقائق الفقه وحقائقه ما لم يوجد في غير وذكر الأدلة على مسائلة ونقحه أحسن تنقيح. مات بصعدة سنة (957 هـ). انظر " البدر الطالع " (2/ 278 - 279 - 280). (¬2) واسمه: " الفلك السيار في لجج البحر الزخار " الموجود منه. بمكتبة الجامع/ صنعاء الجزء الأول) ينتهي إلى أثناء سجود السهو في 300 ورقة رقم 56 فقه).

الأزهار) (¬1): أرويه بالإسناد المذكور إلى الإمام شرف الدين عن علي بن أ حمد عن علي بن زيد عن. محمد بن أبي القاسم النجري عن ولده المؤلف علي بن محمد النجري. 222 - (شرح الإبانة للهوسمي) (¬2): أرويه بالإسناد المتقدم في الإبانة المتصل به. 223 - (شرح النكت للقاضي جعفر بن أحمد بن عبد السلام) (¬3): أرويه أيضًا بالإسناد المتقدم في الإبانة المتصل به. 224 - (شرح أبي مضر) (¬4): أرويه بالإسناد المتقدم في الإبانة أيضًا إلى أبي على بن أموج عن القاضي زيد بن محمد ¬

(¬1) هو على بن محمد النجري. اليمني. أخذ عن الإمام المهدي كتابة " الأزهار ". وكان صاحب الترجمة علامة متفننا محققا وله عناية تامة بعلم الإمام المهدي وكتبه في الفروع، وهو صاحب الشرح المعروف بشرح النجري على الأزهار رحمه الله تعالى. ولم نقف على تاريخ ميلاده ولا وفاته. إلا أنه من علماء القرن التاسع الهجري والله أعلم. انظر: " ملحق البدر الطالع " (171) " معجم المؤلفين " (2/ 521). (¬2) قد تقدمت ترجمته. (¬3) هو جعفر بن أحمد بن عبد السلام بن أبي يحيى الأبناوي البهلولي الزيدي، القاضي شمس الدين قال قي " المستطاب "، هو إمام الزيدية وعالمها وإمامها ومسندها، وكان أبوه عالم المطرفية وأخوه شاعرهم، ارتحل لطلب العلم إلى العراق ولم يخرج إلا وهز أعلم من هو فيه. له مصنفات منها: " النكت وشرحها ". توفي سنة (573 هـ). انظر: " تراجم الرجال " للجنداري (ص10). (¬4) هو شريح بن المؤيد القاضي الجيلي أبو مضر، صاحب التصانيف في الفقه منها " أسرار الزيادات"و" لباب المقالات لقمع الجهالات ". أفئ مرة بجواز مهادنة الباطنية، فهاجر الشيخ علي خليل من تلك الفتوى وأنكر عليه. انظر " تراجم الرجال " للجنداري (ص 17).

عن المؤلف. 225 - (شرح الأساس للإمام القاسم) (¬1): أرويه بالإسناد المتقدم في الأساس له .. 226 - (شرح الأساس للشرفي) (¬2): أرويه بالإسناد السابق في كتاب الإبانة إلى إبراهيم بن القاسم بن المؤيد عن أخيه الحسن بن المؤيد عن القاضي علي بن محمد المعمري عن المؤلف. 227 - (شرح الثلاثين المسئلة لابن حابس) (¬3): أرويه بالإسناد المذكور إلى إبراهيم بن القاسم بن المؤيد عن أحمد بن ناصر المخلافي عن أبيه عن جده عن المؤلف. 228 - (شرح الكافل له) (¬4): ¬

(¬1) تقدمت ترجمته (¬2) هو السيد أحمد بن محمد الشرفي العلامة المؤرخ مصنف " اللئالي المضية " جعلها شرحا لقصيدة السيد صارم الدين إبراهيم بن محمد التي عارض ها البسامة، وهو شرح حافل في ثلاثة مجلدات. توفي سنة (1055هـ). ومن مصنفاته: " شرح الأساس " واسمه الكامل شفاء صدور الناس شرح الأساس لعقائد الأكياس. مخطوط جزئن سنة 1041هـ الجامع الكبير صنعاء رقم 603، 604،606 مصادر الفكر ص140 و" شرح الأزهار " في أربعة مجلدات. وله أشعار، وأخبار، وجهاد واجتهاد. ومن جملة مشايخه الإمام القاسم بن محمد وله تلامذة جهابذة. انظر " البدر الطالع " (1/ 119). (¬3) وهو الإيضاح المعروف (بشرح ابن جابر على الثلاثين مسألة من أشهر كتب التوحيد عند الزيدية). هناك نسخ خالية كثيرة في مكتبة الأوقاف (683 - 740). أعلام المؤلفين الزيدية ص 200. (¬4) واحمه الكامل (الأنوار الهادية لذوي العقول إلى شرح الكافل بنيل السؤال) مخطوط سنة 1090هـ

أرويه هذا الإسناد. 229 - (شرح الكافل لابن لقمان) (¬1): أرويه بالإسناد المذكور إلى إبراهيم بن القاسم بن المؤيد عن الحسن بن صاع عن القاضي أحمد صاع بن أبي الرجال عن المؤلف. 230 - (شرح الغاية للحسين بن الإمام) (¬2) أرويه بالإسناد المذكور إلى إبراهيم بن القاسم عن شيخه أحمد بن ناصر عن أحمد ابن سعد الدين عن الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم عن المؤلف. 231 - (شرح النجري على مقدمات البحر) (¬3): أرويه بالإسناد إلى الإمام القاسم بن محمد عن عبد العزيز بن محمد بن يحيى هران عن أبيه عن المرتضى بن قاسم عن المؤلف. 232 - (شرح المنهاج للإمام عز الدين) (¬4): ارويه بالإسناد السابق في شرح البحر له. ¬

(¬1) هو أحمد بن محمد لقمان بن أحمد بن شمس الدين بن يحيى المرتضى، اليمني، الزيدي. عالم مشارك في أنواع من العلوم. توفي سنة (1039هـ) ودفن بقلعة غمار من جبل رازح. من تأليفه: " شرح الكافل بنيل السؤال في علم الأصول " طبع في صنعاء- مصادر الفكر (ص 179) " شرح الأساس "، " شرح التهذيب للتفتازاني. "مرقاة الأصول للإمام القاسم. انظر البدر الطالع " (1/ 118) " ومعجم المؤلفين " (1/ 290). (¬2) سيأتي ذكر ترجمته في المؤلفات. (¬3) تقدمت ترجمته. (¬4) تقدمت ترجمته.

233 - (شرح (¬1) الحفيظ للفقيه حسن النحوي): أرويه بالإسناد المتقدم في كتاب التذكرة له. 234 - (شرح الهداية للسيد إبراهيم بن محمد بن عز الدين المؤيدي (¬2): أرويه بالإسناد المتقدم إلى القاضي أحمد بن صاع بن أبي الرجال عن المؤلف. 235 - (شرح الخالدي في الفرائض) (¬3): أرويه بالإسناد المتقدم في شرح الفتح إلى ير حميد عن مؤلفه. 236 - (شرح الأزهار للشرفي) (¬4): أرويه بالإسناد المتقدم في لشرح الأساس له. 237 - (شرح الغايات للإمام المهدي (¬5): أرويه بالإسناد المتقدم في كتاب البحر له. 238 - (شرح الزيادات للدواري) (¬6): ¬

(¬1) (شرح الحفيظ) له نسخة قي الأنبروزيانا رقم (73) 0 الروض الأغن (1/ 155). (¬2) هو السيد الداعي إلى الله إبراهيم بن محمد بن أحمد بن عز الدين الحسني المؤيدي اليمني المعروف بحورية الصعدي. له مجموعة من المؤلفات منها: الروض الحافل شرح الكافل "" شرح الهداية " في الفروع في ثلاث مجلدات. " قصص الحق المبين في فضائل أمير المؤمنين ". توفي سنة (1083هـ) ودفن ببلدة العشة بالقرب من مدينة صعده. انظر " ملحق البدر الطالع " ص 9 - 10. (¬3) هو أحمد بن محمد بن داود الخالدي، اليمني، عالم مشارك. توفي سنة (880 هـ). من تصانيفه: " إيضاح الغامض في علم الفرائض "، " شرح على كافية ابن الحاجب " و" الجوهر الشفاف في المنطق ". انظر: " ملحق البدر الطالع " (ص 43) " معجم المؤلفين " (1/ 263) (¬4) تقدمت ترجمته (¬5) تقدمت ترجمته (¬6) تقدمت ترجمته

أرويه بالإسناد المتقدم في الديباج له. 239 - (سائر الشروح): سيأتي في كر إسنادها إجمالا عند ذكر إسناد المصنفات في حرف الميم إن شاء الله. 240 - (شعب الإيمان للبيهقي) (¬1): أرويه بالإسناد المتقدم في الأسماء والصفات له في حرف الهمزة من هذا المختصر. 241 - (الشفاء للقاضي عياض): أرويه بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن سالم بن محمد عن النجم الغيطي عن زكريا عن محمد بن على القاياتي عن عمر بن علي بن الملقن عن يوسف بن محمد الدلاصي عن يحيى ابن أحمد بن محمد بن تامتيت اللواتي عن يحيى بن محمد بن على الأنصاري المعروف بابن الصائغ عن المؤلف. 242 - (الشيء للأمير الحسين) (¬2): أرويه بالإسناد المتقدم في كتاب التقرير له. 243 - (شفاء غلة الصادي للسيد محمد بن إدريس الحمزي وسائر مصنفاته كشرحه على السمع وغيره) (¬3): أرويها بالإسناد المتقدم في كتاب الانتصار إلى الإمام يحيى بن حمزة عن المؤلف. ¬

(¬1) تقدمت ترجته. (¬2) تقدمت ترجته. (¬3) هو السيد محمد بن إدريس بن الناصر على بن عبد الله بن الحسن بن حمزة بن سليمان. ترجمه صاحب مطلع البدور فلم يذكر له مولدا ولا وفاة ولا بلدا ولا شيوخا ولا تلامذة. له مجموعة من المصنفات منها: " التيسير "، " الأكسير الأبريز في تفسير القرآن العزيز "، " شفاء غلة الصادي في فقه الهادي "، " المنصور المحصور في فقه المنصور "، " الدرة المضية في الآيات المنسوخة الفقهية " وأرح موته بعضهم في عشر الثلاثين وسبعمائة. انظر " البدر الطالع " (2/ 126 - 127).

244 - (الشمائل للترمذي) (¬1): أرويها بالإسناد المتقدم في السنن له. 345 - (شمس الأخبار لعلي بن حميد) (¬2): أرويها بالإسناد المتقدم في أوائل هذا المختصر إلى الإمام شرف الدين عن السيد صارم الدين عن السيد أبي العطايا عن الإمام الواثق عن أبيه عن جده عن الأمر الحسن بن محمد عن المؤلف. 246 - (شمس الشريعة لسليمان بن ناصر) (¬3): أرويها هذا الإسناد إلى الأمير الحسين بن محمد عن الأمر علي بن الحسن عن عطية عن المنصور بالله عبد الله بن حمزة عن المؤلف. 247 - (الشريعة على اللمع للسيد الهادي بن يحيى) (¬4): أرويها بالإسناد المتقدم في أوائل هذا المختصر إلى الإمام شرف الدين عن السيد صارم الدين عن أبيه عن جده عن السيد صلاح بن جلال عن المؤلف. ¬

(¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) هو علي بن حميد القرشي بن أحمد بن جعفر بن الوليد، محدث. من آثاره: " شمس الأخبار المنتقاة من كلام النبي المختار " طبع بالقاهرة، مطبعة التمدن سنة 1332هـ في 328 صفحة. انظر: " معجم المؤلفين (2/ 437) 0 الروض الأغن (2/ 118 رقم 563). (¬3) هو سليمان بن ناصر السحامي الزيدي المتكلم كان مطرفيا ثم قرأ على أبي جعفر فرجع، عاصر آخر مدة المتوكل على الله. وكان في نواحي مذحج. وله مؤلفات منها " شمس الشريعة " ستة مجلدات، و" الروضة في الفقه " وكتاب " النظام ". انظر: " تراجم الرجال " للجنداري ص 17. (¬4) هو السيد الهادي بن يحيى بن المرتضى أخو الإمام المهدي، قرأ على جماعة منهم الفقيه قاسم بن أحمد حميد، وله تلامذة منهم صنوه الإمام المهدي، وكان صاحب الترجمة عالما كبيرا مات سنة (785 هـ). انظر " البدر الطالع " (2/ 320 - 321).

248 - (الشهاب للقضاعي) (¬1): أرويه بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الشماخى عن الإمام داود بن سليمان بن كساد عن محمد بن بركات النحوي عن المؤلف. ¬

(¬1) هو محمد بن سلامة بن جعفر بن علما بن حكمون بن إبراهيم بر محمد بن مسلم القضاعى، الشافعي (أبو عبد الله) فقيه، محدث، مؤرخ، واعظ مشارك في علوم أخرى. وسمع. بمصر خلقا كثيرا، وكان كاتبا للوزير علي بن أحمد الجرجاني. توفي سنة (454 هـ). من تصانيفه: " المختار في ذكر الخطط والآثار في خطط مصر "، " الإنباء بأنباء الأنبياء وتواريخ الخلفاء"، شهار الأخبار ني الحكم والأمثال والآداب الشرعية "، " مسند الشهاب ". انظر: " وفيات الأعيان " (585") " طبقات السبكي " (1/ 585) " شذرات الذهب " (3/ 293).

حرف الصاد المهملة 249 - (صحاح الجوهري) (¬1): أرويها بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الشماخي عن زكريا بن يحيى الإسكندري عن نصر بن أبي الفتوح الحضرمي عن أبي طاهر محمد بن بيان الأنباري عن محمد بن حمزة العوفي عن علي بن جعفر التميمي عن إسماعيل بن محمد النيسابوري عن أبي بكر بن علي عن المؤلف. 255 - (صحيح البخاري): سمعته من فاتحته إلى خاتمته من لفظ شيخي السيد العلامة علي بن إبراهيم بن علي بن إبراهيم بن أحمد بن عامر الشهيد رحمه الله. قال أرويه بالسماع والإجازة عن حامد بن حسن شاكر عن السيد العلامة أحمد بن عبد الرحمن بن الحسين الشامي وهو يرويه بالسماع والإجازة عن شيخه محمد بن حسن العجيمي عن شيخه أحمد بن محمد العجل اليمنى عن شيخه يحيى الطبري عن جده المحب الطبري عن إبراهيم الدمشقي عن الشيخ عبد الرحيم الفرغاني عن الشيخ محمد الفارسيني ¬

(¬1) هو إسماعيل بن حماد الجوهري، الفارابي، " أبو النصر، لغوي، أديب، ذو خط جيد، أصله من بلاد الترك من فاراب، ورحل إلى العراق وقرأ العربية على أبي علي الفارس وأبي سعيد السيرافي، وسافر إلى الحجاز، وطوف بلاد ربيعة ومضر، وأجهد نفسه في الطلب، ولما قضى وطره من الطواف عاد راجعا إلى خراسان. ثم سرح إلى نيسابور فلم يزل مقيما ها على التدريس والتأليف وتعليم الخط حتى توفي ها سنة (393 هـ). من تصانيفه " تاج اللغة وصحاح العربية، " كتاب المقدمة قي النحو "، كتاب في العروض، وله شعر. " معجم الأدباء " (6/ 151 - 165)، " لسان الميزان " (400 - 402) " شذرات الذهب " (3/ 143) " معجم المؤلفين " (3/ 362 - 363).

عن الشيخ يحيى بن عمار الختلاني عن محمد بن يوسف الفربري عن المؤلف. (ح) وأرويه عن شيخنا المذكور عن شيخه عن السيد أحمد الشامي عن محمد بن الطيب المغربي عن محمد بن أحمد الأندلسي الفاسي عن احمد بن محمد العجل بإسناده المذكور إلى. المؤلف. (ح) وأرويه عن شيخنا بإسناده إلى العجل عن القطب محمد بن أحمد بن محمد النهرواني عن أبيه عن النور أبي الفتوح أحمد بن عبد الله الطاووسى عن أبي (¬1) يوسف الهروي عن محمد بن شاذبخت الفارسيني عن يحيى بن غمار بن شاهان الختلاني عن الفربري عن المؤلف. (ح) وأرويه عن شيخنا المذكور عن شيخه حامد بن حسن شاكر عن السيد هاشم بن يحيى الشامي عن القاضي طه بن عبد الله السادة عن علي المرحومي المصري ثم اليمني عن إبراهيم البرماوي عن شهاب الدين القليوبي. ح- قال المرحومي: وأرويه عاليا بلا وساطة بالإجازة العامة عن الشيخ شهاب الدين القيلوني. قال: أخبرنا به الحافظ ابن حجر بقرأتي عليه لجميعه. قال: أخبرنا به النجم عبد الرحيم بن رزين الحموي وإبراهيم بن أبي التنوخي سماعا عليهما لجميعه قالا: أخبرنا به أحمد بن طالب الحجار سماعا عليه. قال: أخبرنا به الحسين الزبيدي سماعا عليه أخبرنا أبو الوقت عبد الأول السجزي الهروي سماعا. قال: أخبرنا به أبو الحسن عبد الرحمن الداودي أخبرنا به عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي. قال: اخبرنا به أبو عبد الله ابن يوسف بن مطر الفربري. قال: أخبرنا به مؤلفه محمد بن إسماعيل البخاري. (ح) وأرويه عن شيخنا المذكور عن شيخه حامد عن السيد أحمد بن يوسف بن الحسن بن الحسن بن القاسم عن السيد إبراهيم بن القاسم بن المؤيد عن السيد الحسين بن ¬

(¬1) في حاشية المحطوط (قي الأمم لإبراهيم الكردي هكذا عن باء با يوسف الهروي)

أحمد زبارة عن القاضي أحمد بن صاع بن أبي الرجال عن محمد البابلي عن أبي النجا سالم ابن محمد عن النجم محمد بن أحمد بن على عن شيخ الإسلام زكريا عن الحافظ ابن حجر بإسناده المتقدم. (ح) وأرويه هذا الإسناد إلى السيد حسين بن أحمد زبارة عن عبد العزيز بن محمد ابن عبد العزيز الحبيشي عن إسحاق بن محمد بن جعمان عن أبيه عن محمد بن أبي القاسم ابن إسحاق بن جعمان عن أبيه عن أبي القاسم بن محمد بن أحمد بن جعمان عن أبيه عن أبي القاسم بن إبراهيم بن جعمان عن أحمد بن عمر بن جعمان عن إبراهيم بن عبد الله ابن جعمان عن محمد بن موسى الذؤالي عن أبيه عن إبراهيم بن عمر العلوي عن أحمد بن أبي الخير الشماخي عن أبيه عن أبي بكر بن أحمد بن محمد الشراحي عن محمد بن إسماعيل ابن أبي الصيفي اليمني عن على بن حميد بن عمار الاطرابلسي عن عيسى بن أبي ذر الهروي عن أبيه عن مشايخه الثلاثة: عبد الله بن أحمد بن حموية السرخسي، وإبراهيم بن أحمد المستملى، وأبي الهيثم محمد بن المكي الكشميهني، كلهم عن الفربري عن المؤلف. ح- أرويه بالإسناد المتقدم إلى عبد العزيز الحبيشي عن علي بن محمد الديبع عن عيسى بن محمد بن محمد الجعفري الثعالبي المالكي عن محمد بن علاء الدين البابلي بإسناده السابق. (ح) وأرويه عاليا بالإسناد إلى عبد العزيز الحبيشي بالإجازة عن البابلي المذكور بإسناده. (ح) وأرويه بالإسناد المذكور إلى الحبيشي بإسناده عن أبيه عن الطاهر بن حسين الأهدل عن عبد الرحمن بن على الديبع عن أحمد بن أحمد بن عبد اللطيف الشرجى عن نفيس الدين سليمان بن إبراهيم العلوي عن أبيه عن إبراهيم بن محمد الطبري عن عبد الرحمن بن أبي حرمي الكاتب المكي عن علما بن حميد بن عمار الاطرابلسى بإسناده المتقدم إلى المؤلف.

(ح) وأرويه بالإسناد السابق إلى نفيس الدين العلوي عن موسى بن مري بن علي العزولي عن أحمد بن أبي طالب الحجار بإسناده السابق. وأرويه بالإسناد المتقدم إلى الحبيشي عن أبيه عن عبد الوهاب بن عبد الحق الحبيشي عن محمد بن أحمد الرملي عن زكريا الأنصاري عن الحافظ ابن حجر بإسناده السابق. (ح) وأرويه بالإسناد المتقدم إلى عبد الوهاب الحبيشي عن علي بن محمد الوايلي عن أخيه أحمد بن محمد عن أحمد بن محمد بن حجر الهيثمي عن الجلال السيوطي عن ابن حجر العسقلاني بإسناده. (ح) وأرويه عن شيخنا السيد علي بن إبراهيم المذكور عن شيخه أبي الحسن السندي عن محمد حياة السندي عن سالم بن عبد الله بن سالم البصري عن أبيه عن الشيخ محمد البابلي بإسناده السابق. (ح) وأروي صحيح البخاري بالسماع لبعضه والإجازة لباقية عن شيخنا السيد الإمام عبد القادر بن أحمد بن عبد القادر بن الناصر بن عبد الرب بن علي بن شمس الدين ابن الإمام شرف الدين رحمه الله عن شيخه محمد بن الطيب المغربي بإسناده السابق. (ح) وارويه عن شيخنا السيد عبد القادر عن السيد سليمان بن يحيى بن عمر الأهدل عن السيد أحمد بن محمد الأهدل عن أحمد بن محمد النخل! ط عن محمد البابلي بإسناده السابق. (ح) وأرويه عن شيخنا السيد عبد القادر المذكور عن شيخه محمد حياة السندي عن الشيخ سالم بن عبد الله بن سالم البصري عن أبيه عن محمد بن علاء الدين البابلي بإسناده السابق. (ح) وأرويه عن شيخنا المذكور عن السيد سليمان بن يحيى الأهدل عن أحمد بن محمد الأهدل عن يحي بن عمر الأهدل عن إسحاق بن إسحاق بن جعمان بإسناده السابق إلى المؤلف.

(ح) وأرويه بالإسناد إلى يحيى بن عمر عن أبي بكر بن علي البطاح الأهدل عن يوسف بن محمد البطاح الأهدل عن الطاهر بن حسين الأهدل عن عبد الرحمن بن على الديبع عن الحافظ محمد بن عبد الرحمن السخاوي عن الحافظ ابن حجر بإسناده السابق. (ح) وارويه عن شيخنا المذكور عن محمد بن علاء الدين المزجاجي عن أبيه عن أخيه عبد الله بن عبد الباقي المزجاجي عن محمد بن إبراهيم بن جمعان عن محمد بن أبي القاسم بن إسحاق بن جعمان بإسناده المذكور. (ح) وأرويه عن شيخنا المذكور عن شيخه محمد بن علاء الدين المزجاجي عن أبيه عن الشيخ إبراهيم الكردي عن شيخه أحمد بن محمد المدني عن الشمس محمد بن احمد الرملي وابن حجر الهيثمي والبدر الدمشقي كلهم عن زين الدين زكريا محمد الأنصاري عن الحافظ ابن حجر العسقلاني بإسناده السابق. (ح) وأرويه هذا الإسناد إلى إبراهيم الكردي عن عبد الله بن ملا سعد الله اللاهوري عن قطب الدين النهرواني بإسناده السابق إلى المؤلف. وأعلى من هذا رواية شيخنا السيد المذكور عن شيخه محمد بن الطيب المغربي عن شيخه محمد بن أحمد الفاسي عن أحمد بن محمد العجل عن القطب النهرواني بإسناده السابق. فبين شيخنا وبن البخاري عشرة وبين وبن البخاري أحد عشر رجلا .. هذا على تقدير صحة ما تقدم من أن القطب النهرواني يرويه عن أبيه عن أبي الفتوح كما أثبته كذلك إبراهيم الكردي في الأمم وإن لم يكن بين القطب النهرواني وبين النور أبي الفتوح واسطة فبين شيخنا السيد عبد القادر وبين البخاري تسعة وبيني وبن البخاري عشرة. وقد وقفت على إجازة من الحافظ محمد بن الطيب المغربي شيخ شيخنا ولفظها هكذا: عن القطب النهرواني عن النور أبي الفتوح فيكون على هذا بين وبن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أربعة عشر رجلا في مثل ثلاثيات البخاري وبيانه أني أروي عن شيخي السيد عبد القادر بن أحمد عن شيخه محمد بن الطيب عن شيخه محمد بن

أحمد الفاسي عن شيخه احمد بن محمد العجل عن القطب النهرواني عن النور أبي الفتوح عن أبي يوسف الهروي عن محمد بن شاذبخت عن يحيى بن عمار بن شاها عن الفربري عن البخاري،. قال في صحيحة: حدثنا مكي بن إبراهيم قال: حدثنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمه بن الأكوع قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " من يقل علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار " (¬1). وهذا غاية في العلو لا يوجد مثلها اليوم. وقد قال الشيخ إبراهيم الكردي في الأمم بعد أن ساق الطريقة السابقة موسطا بين القطب النهرواني وبين النور أبي الفتوح الواسطة ما لفظه: فبيننا وبن البخاري ثمانية وأعلى أسانيد ابن حجر أن يكون بينه وبن البخاري سبعة فباعتبار العدد كأني سمعته من الحافظ ابن حجر وصافحته وكأن شيخنا اللاهوري سمعه من التنوخي وصافحه وبين وفاتيهما مائتا سنة وبضعة وثمانون فإن اللاهوري توفي بالمدينة سنة 1083 هـ والتنوخي سنة 800 هـ وهذا عال جدا. وأعلا أسانيد السيوطي إلى البخاري أن يكون بينه وبين البخاري ثمانية فساويت فيه السيوطي ولله الحمد انتهى كلام الكردي. وإذا صح ما حكيناه عن محمد بن الطيب فيكون بين الكردي وبين البخاري سبعة فقط فيكون مساويا لابن حجر شيخ السيوطي ويكون شيخنا عبد القادر بن أحمد كأنه لقي السيوطي وصافحه وسمعه منه وبين وفاتيهما قريب ثلاثمائة سنة فإن السيوطي مات سنة (1207هـ) وشيخنا مات سنة (1257هـ). ح- وأورى صحيح البخاري عن شيخنا السيد المذكور عن شيخه المساوي ابن إبراهيم الحشيبري عن أحمد بن محمد الحشيبري عن عبد الواحد بن محمد الحباك الحشيبري عن محمد بن عمر الحشيبري عن ير بن احمد الحشيبري عن محمد بن أبي بكر الأشخر عن أحمد بن محمد بن حجر الهيثمي عن زكريا الأنصاري عن الحافظ ابن حجر العسقلاني ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحة (1/ 201 رقم 109) من حديث سلمة.

بإسناده السابق. ح- وأرويه عن شيخنا المذكور عن شيخه محمد بن محمد بن آدم النقشبندي عن محمد ابن عبد المحسن بن سالم عن أحمد بن محمد بن أبي الخير المرحومي عن النجم الغيطي عن الزين زكريا الأنصاري عن الحافظ ابن حجر بإسناده المتقدم. ح- وأرويه عن شيخنا المذكور عن شيخه السيد هاشم بن يحيى الشمامي بإسناده السابق. ح- وأرويه عن شيخنا المذكور عن السيد أحمد بن عبد الرحمن الشامي عن السيد حسين بن أحمد زبارة عن القاضي أحمد بن صالح بن أبي الرجال عن البابلي بإسناده المتقدم. ح- وأرويه عن شيخنا المذكور عن السيد يوسف بن الحسن بن أحمد زبارة عن أبيه بإسناده المذكور. ح- وأرويه هذا الإسناد إلى السيد حسين زبارة عن عبدي العزيز الحبيشي بإسناده المتقدم. ح- وأروي صحيح البخاري عن شيخنا العلامة يوسف بن محمد بن علاء الدين المزجاجي رحمه الله عن أبيه عن جده الشيخ إبراهيم الكردي بإسناده السابق. ح- وأرويه عن شيخنا يوسف المذكور عن أبيه عن أخيه بإسناده المتقدم المسلسل بآل جعمان. ح- واروي صحيح البخاري عن شيخنا العلامة صديق بن علي المزجاجي رحمه الله عن شيخه السيد سليمان بن يحيى الأهدل بإسناده السابق. ح- وأرويه عن شيخنا صديق المذكور عن محمد بن علاء الدين المزجاجي بإسناده السابق. ح- وأروي صحيح البخاري عن شيخنا العلامة الحسن بن إسماعيل بن الحسن المغربي رحمه الله عن السيد قاسم بن محمد الكبسي عن السيد هاشم بن يحيى بإسناده ......

المتقدم. ح- وأروي صحيح البخاري عن جماعة من مشائخي منهم السيد عبد القادر المذكور سابقا عن السيد الإمام محمد بن إسماعيل الأمر عن السيد يحيى بن عمر الأهدل بإسناده السابق. 251 - (صحيح مسلم): سمعته من لفظ شيخي السيد العلامة عبد القادر بن أحمد المتقدم ذكره من فاتحته إلى خاتمته وهو يرويه من طريق جماعة منهم شيخه العلامة محمد بن الطيب المغربي وهو يرويه عن شيخه إبراهيم بن محمد الدرع عن فاطمة السهرزورية عن الشمس الرملي عن القاضي زكريا عن أبي النعيم رضوان العقبى عن الشريف أبي الطاهر محمد بن الكويك عن أبي الفرج عبد الرحمن المقدسي عن أحمد بن عبد الدائم عن محمد بن صدقة الحراني عن فقيه الحرم محمد الفراوي عن عبد الغافر عن محمد الجلودي عن إبراهيم بن محمد بن سفيان عن مؤلفه. ح- وأرويه عن شيخنا المذكور عن شيخه محمد بن الطيب عن أبي الأسرار عن الصفي العشاشي عن الشمسي الرملي بإسناده المذكور. ح- ويرويه شيخنا المذكور عن شيخه محمد حياة السندي عن سالم بن عبد الله بن سالم البصري عن أبيه عن الشيخ محمد البابلي عن أبي النجا سالم السنهوري عن النجم الغيطي عن زكريا الأنصاري بإسناده السابق،. ح- ويرويه شيخنا المذكور عن شيخه السيد أحمد بن عبد الرحمن بن الحسن الشمامي والسيد يوسف بن الحسين زبارة كلاهما عن السيد الحسن بن أحمد زبارة عن البابلي بإسناده المتقدم إلى المصنف. ح- ويرويه شيخنا المذكور بإسناده إلى الحسين بن أحمد زبارة عن عبد العزيز بن محمد ابن عبد العزيز الحبيشي عن علي بن مرجان التعري عن محمد بن عبد العزيز المفتي عن أبيه عن السيد الطاهر بن حسين الأهدل عن عبد الرحمن بن على الديبع عن أحمد بن ......

أحمد بن عبد اللطيف الشرجي عن نفيس الدين العلوي عن أبيه عن أبي الخير بن منصور الشماخي عن أبيه عن أبي بكر بن أحمد الشراجي عن أبي بكر بن حرز الله التونسي عن محمد بن علي الحراني عن محمد بن الفضل الفراوي الصاعدي عن محمد بن عيسى الجلودي عن إبراهيم بن محمد بن سفيان النيسابوري عن المؤلف. ح- وارويه بالإسناد المذكور إلى عبد العزيز الحبيشي عن خاله عبد الوهاب عن محمد ابن أحمد الرملي عن شيخ الإسلام زكريا الأنصاري عن الحافظ ابن حجر العسقلاني عن الشرف محمد القاهري عن عبد الرحمن المقدسي عن شمس الدين بن القماح عن أبي إسحاق بن مضر الواسطي، عن رض الدين الطوسي عن منصور الصاعدي عن الفراوي عن عبد الغافر الفارسي النيسابوري عن الجلودي عن إبراهيم بن سفيان عن المؤلف. ح- وأرويه بالإسناد السابق إلى عبد الوهاب عن علي بن محمد الوائلي عن أخيه أحمد ابن محمد الوائلى عن أحمد بن حجر الهيثمي عن زكريا عن الحافظ ابن حجر العسقلاني بإسناده المذكور. ح- وارويه بالإسناد المذكور إلى الهيثمي عن عبد الحق السنباطي عن على البارنباري عن الشمس السخاوي عن الشرف بن الكويك بإسناده السابق إلى المؤلف. ح- وأرويه بالإسناد السابق إلى الهيثمي عن الحافظ السيوطي عن شيخ الإسلام العلم البلقيني عن أبيه عن الشمس بن القماح بإسناده المقدم. ح- وأرويه بالإسناد المذكور إلى العلم البلقيني عن التقي أحمد بن الكمال الشمني عن الشرف بن الكويك بإسناده إلى المؤلف. ح- وأرويه بالإسناد المذكور إلى البلقيني عن أبي إسحاق التنوخي عن سليمان بن حمزة عن على بن الحسين بن المقير عن الحافظ محمد بن ناصر السلامي عن الحافظ عبد الرحمن بن منده عن الحافظ محمد بن عبد الله بن محمد بن زكريا الجوزقي عن مكي بن عبدان النيسابوري عن المؤلف. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني هذا السند في غاية العلو وهو جميعه بالأجازات ........

انتهى. فيكون على هذا بين العلم البلقيني وبين مسلم ثمانية وبين وبن العلم البلقيني ثمانية هو تاسعهم فيكون ما بيني وبين مسلم سبعة عشر رجلا وأعلى منه السيد المتقدم من طريق محمد بن الطيب فإن بين وبين مسلم فيه خمسة عشر رجلا. ح- وأرويه عن شيخنا السيد المذكور عن شيخه محمد بن علاء الدين المزجاجي عن أبيه عن إبراهيم الكردي عن شيخه أحمد بن محمد المدني عن الزين زكريا عن عبد الرحيم ابن محمد بن الفرات عن محمود بن خليفة المنبجي عن عبد المؤمن بن خلف الدمياطي عن المؤيد بن محمد الطوسي عن محمد بن الفضل الفراوي عن أبي الحسن عبد الغافر الفارسي عن الجلودي عن إبراهيم بن محمد بن سفيان عن المؤلف. وهذه الطريقة بيني وبين مسلم فيها خمسة عشر رجلا. ح- وأرويه عن شيخنا السيد المذكور عن محمد بن علاء الدين المزجاجي عن يحيى بن عمر أبي الأهدل عن أبي بكر بن على البطاح الأهدل عن يوسف بن محمد البطاح الأهدل عن الطاهر بن حسين الأهدل بإسناده المذكور سابقا إلى المؤلف. فبيني وبين مسلم في هذه الطريق سبعة عشر رجلا. ح- وأرويه بالإسناد المتقدم إلى الديبع عن الحافظ السخاوي عن محمد بن زين الدين المراغي عن محمد بن محمد بن محمد الجزري عن أحمد بن عبد الكريم الصوفي عن زينب بنت عمر بن كندي عن المؤيد الطوسي عن الفراوي عن الصاعدي عن الجلودي عن ابن سفيان عن المؤلف. فبيني وبين المؤلف في هذه الطريق سبعة عشر رجلا. ح- وأرويه عن شيخنا السيد المذكور عن السيد سليمان بن يحيى عن أحمد بن محمد ابن عمر الاهدل عن يحيى بن عمر بإسناده السابق. وفي هذه الطرق زيادة رجال، فيكون بيني وبين مسلم ثمانية عشر رجلا. ح- وأرويه عن شيخنا السيد المذكور عن المساوي. بين إبراهيم الحشيبري عن إسماعيل بن محمد الحشيبري عن علي بن أحمد الحشيبري عن أحمد بن محمد الحشيبري عن ......

محمد بن أبي بكر الأشخر عن ابن حجر الهيثمي بإسناده السابق. ح- وأرويه عن شيخنا السيد المذكور عن السيد هاشم بن يحيى الشامي عن طه بن عبد الله الساده عن علي المرحومي عن أحمد المرحومي عن سلطان بن احمد المزاحي عن أحمد بن خليل السبكي عن ابن حجر الهيثمي بإسناده السابق إلى مسلم. قال مسلم في صحيحه: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا أبو عوانة عن زياد بن علاقة عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه واله وسلم صلى حتى انتفخت قدماه فقيل له اتكلف هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. قال: " أفلا أكون عبدا شكورا" (¬1). ¬

(¬1) وهو حديث صحيح. . أخرجه أحمد في "المسند" (4/ 251) وابن حبان في صحيحه رقم (311) والحميدي في مسنده رقم (759) وعبد الرزاق في "المصنف" رقم (4746) من طريق سفيان بن عيينه، حدثنا زياد بن علاقة، قال: سمعت المغيرة بن شعبة، يقول: قام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى إذا تورمت قدماه، فقيل له: يا رسول الله، أتفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم وما تأخر؟ قال:"أفلا أكون عبدا شكورا". وأخرجه أحمد في "المسند" (4/ 255) عن وكيع وعبد الرحمن. والبخاري رقم (4836) عن صدقة بن الفضل. ومسلم رقم (80/ 2819) عن أبي بكر بن أبي شيبة وابن نمير. والنسائي (3/ 219) عن قتيبة بن سعيد ومحمد بن منصور. وابن ماجه رقم (1419) عن هشام بن عمار. كلهم عن سفيان به. وصححه ابن خزيمة في صحيحه رقم (1833). وأخرجه أحمد في "المسند" (4/ 255) والبخاري رقم (1130) ورقم (6471) من طريق مسعر ابن كدام. ومسلم رقم (79/ 2819) والترمذي رقم (412) وقي "الشمائل" رقم (258) ومن طريقه البغوي في "شرح السنة " رقم (931) من طريق أبي عوانة. كلاهما عن زياد بن علاقة، به. وصححه ابن خزيمة في صحيحه رقم (1182) وفي الباب عن عائشة. أخرجه أحمد في "المسند" (6/ 115) والبخاري رقم (4837) ومسلم رقم وعن أبي هريرة. أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" رقم (1184) ......

فهذا الحديث من رباعيات مسلم فيكون بين وبين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أعلى الطرق عشرون رجلا .. وما أغرب هذا التفاوت بين صحيح البخاري ومسلم كون بيني وبين البخاري في أعلى الطرف عشرة وبيني وبين مسلم في أعلى الطرق خمسة عشر والحال أن مسلما تلميذ البخاري وخريجه. ح- وأروي صحيح مسلم عن شيخي السيد العلامة على بن إبراهيم بن علي بن إبراهيم بن أحمد بن عامر الشهيد عن شيخه حامد بن حسن شاكر عن السيد أحمد بن عبد الرحمن الشامي عن محمد بن الطيب بإسناده المتقدم. ح- وأرويه عن شيخنا السيد المذكور عن شيخه حامد عن السيد هاشم بن يحيى الشامي عن السيد طه بن عبد الله بإسناده المتقدم. ح- وأرويه عن شيخنا السيد المذكور عن شيخه حامد عن السيد أحمد بن يوسف ابن الحسن بن الحسن بن القاسم عن السيد إبراهيم بن القاسم بن المؤيد عن السيد الحسن ابن أحمد زبارة عن أحمد بن صالح بن أبي الرجال عن البابلي بإسناده المتقدم. ح- وبالإسناد المذكور إلى السيد الحسن بن أحمد زبارة عن عبد العزيز الحبيشي بإسناده السابق. ح- وأرويه عن شيخنا المذكور عن أبي الحسن السندي عن محمد حياة السندي عن سالم بن عبد الله بن سالم البصري بإسناده السابق. ح- وأروي صحيح مسلم عن شيخي العلامة الحسن بن إسماعيل بن الحسين المغربي بالسماع لبعضه والإجازة لباقية عن شيخه السيد قاسم بن محمد الكبسي عن السيد هاشم ابن يحيى بإسناده السابق .......

ح- وأروي صحيح مسلم عن شيخنا العلامة يوسف بن محمد بن علاء الدين المزجاجي عن أبيه عن جده عن إبراهيم الكردي بإسناده السابق إلى المؤلف. ح- وأرويه عن شيخنا المذكور عن أبيه عن يحيى بن عمر الأهدل بإسناده السابق. ح- وأروي صحيح مسلم عن شيخنا صديق بن علي المزجاجي عن شيخه محمد بن علاء الدين المزجاجي بإسناده السابق. ح- وأرويه عن شيخنا المذكور عن شيخه السيد سليمان بن يحيى الأهدل عن احمد ابن محمد الأهدل عن يحيى بن عمر الأهدل بإسناده السابق إلى المؤلف. 252 - (صحيح ابن حبان): أرويه بالأسانيد المتقدمة إلى البابلي عن أحمد بن عيسى بن جيل الكلبي والنور على ابن محمد الأجهوري كلاهما عن على بن أبي بكر القرافي عن أبي الفضل عبد الرحمن ابن أبي بكر الحافظ عن أبي الفضل محمد بن محمد بن عمر الملتوتي عن أبي الفرج الغري عن يونس بن إبراهيم الدبوسي عن أبي الحسن بن المقير عن أبي الكرم الشهرزوري عن أبي الحسن بن المهتدي بالله عن أبي الحسن الدارقطني عن مؤلفه. ح- وأرويه بالإسناد السابق إلى الجلال السيوطي عن أبي الفضل بن حصن عن أبي إسحاق التنوخي عن أبي عبد الله بن أحمد بن أبي الهيجاء بن الوراد عن الحسن بن محمد البكري وابن عساكر كلاهما عن عبد العزيز بن محمد الهروي عن تميم بن سعيد الجرجاني عن محمد بن أحمد بن هارون الدوني عن المؤلف. ح- وأرويه بالإسناد المتقدم إلى إبراهيم الكردي عن شيخه أحمد بن محمد المدني عن الشمس الرملي عن الزين زكريا عن عبد الرحيم بن محمد بن الفرات عن محمود بن خليفة عن عبد المؤمن بن خليفة الدمياطي عن أبي الحسن بن المقير بإسناده السابق. 253 - (الصفاء للفقيه يحيى بن حسن البحيح (¬1)): ¬

(¬1) هو يحيى بن حسن البحيح الزيدي العلامة الفقيه كان أحد المذاكرين وفقهاء الزيدية المعتمد على أقوالهم أخذ على الأمير المؤيد. وله من المصنفات تعليق على اللمع في أربع مجلدات، وتعليق على الزيادات، وتفقه عليه جماعة منهم محمد بن سليمان عاصر الإمام يحيى ولم يقل بإمامته وقد وصف بكثرة المذاكرة والاجتهاد. انظر: "تراجم الرجال" للجنداري (ص 41 - 42) ......

أرويه بالإسناد المتقدم في أول هذا المختصر إلى الإمام شرف الدين عن على بن أحمد عن علي بن زيد عن أبي العطايا عن الفقيه يوسف عن الفقيه حسن عن المؤلف. 254 - (صفوة (¬1) الاختيار للمنصور بالله عبد الله بن حمزة): أرويها بالإسناد المذكور في أول هذا الكتاب المتصل به. ¬

(¬1) صفوة الاختيار: فصول في قواعد الأصول بشيء من التوسع تضم المهم من أقوال العلماء يخص أصول الأئمة من أهل وأتباعهم واختيار المؤلف في المسائل. مؤلفات الزيدية (2/ 229 رقم 216) ......

حرف الضاد المعجمة 255 - (ضوء النهار للجلال (¬1)): ارويه عن شيخنا السيد عبد القادر بن أحمد سماعا لبعضه وإجازة لباقيه عن شيخه السيد أحمد بن عبد الرحمن الشامي عن شيخه الحسن بن أحمد زبارة عن القاضي عبد الواسع بن عبد الرحمن القرشي عن المؤلف. 256 - (الضوء اللامع للسخاوي (¬2)): أرويه بالإسناد المتقدم في إسناد تفسير الثعلبي وفي إسناد الصحيحين إلى عبد الرحمن بن علي الديبع عن المؤلف. 257 - (ضياء ذوي الأبصار للشرفي (¬3)): ارويه بالإسناد المتقدم أول هذا المختصر المتصل بالسيد إبراهيم بن القاسم بن المؤيد عن شيخه الحسين بن أحمد زبارة عن شيخه أحمد بن صاع بن أبي الرجال عن أحمد بن سعد الدين عن السيد إبراهيم بن الهدى عن المؤلف. ¬

(¬1) واسمه كاملا: "ضوء النهار المشرق على صفحات الأزهار في فقه الأئمة الأطهار" (¬2) هو محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عثمان بن محمد السخاوي الأصل، القاهري المولد، الشافعي (شمس الدين، أبو الخير، أبو عبد الله) فقيه، مقرئ، محدث، مؤرخ، مشارك في الفرائض والحساب والتفسير وأصول الفقه والميقات. أصله من سخا من ترى مصر، وولد بالقاهرة في ربيع الأول سنة (813 هـ) وتوفي بالمدينة المنورة سنة (902 هـ). من تصانيفه: "الضوء اللامع لأهل القرن التاسع" في اثني عشر مجلدا، "المقاصد الحسنة في الأحاديث الجارية على الألسنة"، "البستان في مسألة الاختتان"، "الأصل الأصيل في تحريم النظر في التوراة والإنجيل"، "القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع". انظر: "الضوء اللامع" (8/ 2 - 32) "البدر الطالع" (2/ 184 - 187) "شذرات الذهب" (8/ 15 - 17) (¬3) تقدمت ترجمته ......

حرف الطاء المهملة 258 - (طبقات السبكي (¬1)) ارويها بالإسناد المتقدم في جع الجوامع له. 259 - (الطراز المذهب في إسناد المذهب للقاضي إبراهيم بن يحيى السحولي (¬2)): أرويه بالإسناد المتقدم في أول هذا الكتاب إلى السيد إبراهيم بن قاسم بن المؤيد عن القاضي احمد بن ناصر المهلا عن أخيه الحسين بن ناصر عن السيد محمد بن الحسن بن الإمام القاسم عن المؤلف. 260 - (طهارة القلوب والخضوع لعلام الغيوب للديريني (¬3)): أرويها بالإسناد السابق في تفسير الثعلبي إلى الشرجي عن شيخه محمد بن محمد بن محمد الجزري عن الحافظ عبد الرحيم العراقي عن محمد بن محمد الميدومي عن المؤلف. 261 - (الطوالع للبيضاوي (¬4)): ¬

(¬1) تقدمت ترجمته (¬2) قال الشوكاني في "البدر" (1/ 33): (إبراهيم بن يحيى بن محمد بن صلاح السحولي الشجري سيأتي ذكره في ترجمة ولده محمد) 1 هـ. ثم قال في ترجمة ولده محمد (2/ 97): (ووالد صاحب الترجمة هو احد أكابر علماء صنعاء المفيدين لا سيما في علم الفروع). وله مصنفات منها "حاشية شرح الأزهار" المشهورة، ومنها " شرح على الثلاثين المسألة" وقد تخرج به غالب أهل عصره في علم الفقه. ولد. بمدينة ذمار سنة (987 هـ) وتوفي يوم السبت لعشرين خلت من جمادي الأولى سنة (1060 هـ) (¬3) كتاب " طهارة القلوب والخضوع لعلام الغيوب" خ. تأليف: عبد العزيز بن احمد الديريني المتوفي سنة (694 هـ). انظر "فهرس مخطوطات الجامع الكبير" (3/ 1361). (¬4) طبع بالآستانة عام 1305هـ وهامشه حاشية الجرجاني معجم سركيس (1/ 454) ......

أرويها بالإسناد السابق إلى البابلي عن أحمد بن محمد الغنيمي عن الشمس زكريا عن الحافظ ابن حجر العسقلاني عن أبي هريرة عبد الرحمن بن الحافظ الذهبي عن عمر بن اليأس المراغي عن المؤلف .......

حرف الظاء المعجمة [ترك فراغ في النسخة الأصلية التي بخط المؤلف شيخ الإسلام العلامة محمد بن علي الشوكاني رحمة الله] ......

حرف العين المهملة 262 - (عدة الحصن الحصين للجزري (¬1)): أرويها بالإسناد المتقدم في الصحيحين إلى عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز الحبيشي عن إسحاق بن محمد بن جعمان عن محمد بن علان عن عبد الرحمن بن محمد الخطيب عن زكريا الأنصاري عن ابن حجر العسقلاني عن المؤلف. وأرويها بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن أبي النجا سالم بن محمد عن النجم محمد بن أحمد بن علي عن زكريا بإسناده إلى المؤلف. 263 - (عقود التبيان لي الناسخ والمنسوخ من القران للإمام محمد بن المطهر (¬2)): أرويها بالإسناد المتقدم أوائل هذا المختصر إلى الإمام شرف الدين عن السيد صارم الدين عن السيد أبي العطايا عن أبيه عن الواثق عن أبيه المصنف. 264 - (العلم الشامخ للمقبلي): ¬

(¬1) محمد بن محمد بن محمد العمري الدمشقي، ثم الشيرازي، الشافعي، ويعرف بابن الجزري (شمس الدين، أبو الخير) مقرئ، مجود، محدث، حافظ، مؤرخ، مفسر، فقيه، نحوي، بياني، ناظم. ولد بدمشق سنة (751 هـ)، وتفقه بها، وطلب الحديث والقراعات، وأقرأ طويلا، توفي بشراز سنة (833 هـ). من تصانيفه: "النشر في القراعات العشر"، "التمهيد في التجويد"، "غاية النهاية"، "الأربعون العوالي"، "المقدمة الجزرية "، " الحصن الحصين من كلام سيد المرسلين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". انظر: " الضوء اللامع " (9/ 255) "شذرات الذهب" (7/ 204) "البدر الطالع" (2/ 257) "معجم المؤلفين" (3/ 687) (¬2) قد تقدمت ترجمته. والكتاب منه نسخة مخطوطة سنة 722 هـ في (168) ورقة مكتبة الأمبروزيانا رقم 163، 39، B] وأخرى سنة (1145هـ) في (154) ورقة ورقم (192). بمكتبة الجامع بصنعاء (حكام اليمين) (ص 131) ......

ارويه عن شيخنا السيد عبد القادر بن أحمد عن شيخه السيد محمد بن إسماعيل الأمير عن عبد القادر بن على المنذري عن المؤلف. 265 - (العمدة لعبد الغني المقدسي (¬1)): أرويها بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الشرجي عن شيخه الجزري عن مشائخه العشرة عن علي بن أحمد بن عبد الواحد بن البخاري عن المؤلف ح- ويرويها الجزري عن محمد بن إسماعيل الأنصاري عن أحمد بن عبد الدائم عن المؤلف ح- وأرويها بالإسناد المتقدم أوائل هذا المختصر إلى البابلي عن إبراهيم اللقاني وعبد الرؤوف المناوي عن أبي النضر الطبلاوي عن أبيه عن زكريا الأنصاري عن عبد الرحيم بن الفرات عن عمر بن حسين المراغي عن على بن أحمد البخاري عن المؤلف. 266 - (العمدة (¬2) للإمام يحيى بن حمزة): ¬

(¬1) هو عبد الغني بن عبد الواحد بن على بن سرور بن رافع بن حسن بن جعفر المقدسي، الجماعيلي ثم الدمشقي الحنبلي (تقي الدين، أبو محمد) محدث، حافظ، مشارك في بعض العلوم. ولد بجماعيل من أعمال نابلس سنة (541 هـ) وتوفي سنة (600 هـ). من مؤلفاته: "درر الأثر في تسعة أجزاء"، " المصباح في عيون الأحاديث الصحاح" في ثمانية وأربعين جزعا، "الصلات من الأحياء إلى الأموات"، " الدرة المضيئة في السيرة النبوية"، "العمدة في الأحكام"، "أحاديث الأنبياء"، "الأحاديث والأخبار والحكايات"، "أفراد مسلم"، "الترغيب في الدعاء والحث عليه"، "رجال الصحيحين"، "فضائل شهر رمضان"، "فضل الجهاد"، "مقتل عثمان". انظر "البداية والنهاية" (13/ 38 - 39) "النجوم الزاهرة" (6/ 185 - 186) "شذرات الذهب" (4/ 345 - 346). العمدة: وهو " عمدة الأحكام من كلام سيد الأنام " مطبوع وله شروح عدة تقدم بعضها. كشف الظنون (2/ 1164) (¬2) العمدة: مشتمل على جميع إيراد المذهب بالحجج والشواهد من الآيات والأحاديث والقياسات، وهو في ست مجلدات. مؤلفات الزيدية (2/ 283 رقم 2288) ......

أرويها بالإسناد المتقدم في كتاب الانتصار له. 267 - (عمل اليوم والليلة لابن السني (¬1)): أرويه بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن على بن يحي الزيادي عن يوسف بن عبد الله الأرميوني عن أبي الفضل بن أبي بكر عن أحمد بن يونس العزي عن إبراهيم بن صديق الدمشقي عن أبي العباس الحجار عن جعفر بن علي الهمداني عن أبي طاهر السلفي عن عبد الرحمن بن حمد الدوني عن أبي نصر الكسار عن المؤلف. 268 - (عوارف المعارف للسهرزوري (¬2)): أرويها بالسند المتقدم إلى البابلي عن صالح بن أحمد البلقيني عن أبيه عن الرملي عن ¬

(¬1) هو أحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن اسباط الدينوري ويعرف بابن السني، (أبو بكر) محدث، توفي سنة (364 هـ)، وعاش بضعا وثمانين سنة. من تصانيفه: "كتاب عمل اليوم والليلة "، " مختصر سنن النسائي وحماه " المجتبي"، "الإيجاز في الحديث"، وكتاب "القناعة". انظر: "تذكرة الحفاظ" (3/ 142 - 143) "طبقات السبكي" (2/ 96) " شذرات الذهب " (3/ 47) "معجم المؤلفين" (1/ 250 - 251) (¬2) هكذا في الأصل ولعل الصواب "السهروردي" ... والله أعلم. وهو عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عمويه القرشي، التيمي، البكري، السهروردي الشافعي (شهاب الدين، أبو حفص) صوفي فقيه، مشارك في بعض العلوم. ولد بسهرورد سنة (539 هـ) وقدم بغداد، وعمي في آخر عمره، وتوفي مستهل المحرم ببغداد سنة (632 هـ). له تصانيف كثيرة منها: "عوارف المعارف في بيان طريق القوم" طبع في مصر مرات منها بتحقيق عبد الحليم محمود بن الشريف عن دار الكتب الحديثة سنة 1971هـ وهو كتاب قي التصوف، "عقيدة أرباب التقى"، "بغية البيان في تفسير القران"، و"مناسك"، "رسالة الفقر في مخالفة النفس والقهر"، "أعلام الهدى". ا نظر "وفيات الأعيان" (1/ 480 - 481) "النجوم الزاهرة" (6/ 283 - 285) " البداية والنهاية" (13/ 138 - 139) "شذرات الذهب" (5/ 153 - 154) ......

زكريا الأنصاري عن أحمد بن على الكناني عن عبد الرحمن بن الحافظ الذهبي عن أبي نصر الشيرازي عن المؤلف. 269 - (العواصم والقواصم (¬1) لمحمد بن إبراهيم الوزير (¬2)): أرويها بالإسناد المتقدم في كتاب الإيثار له. 270 - (عوالي أبو الفتح سليم الرازي (¬3)): ارويها بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن علي بن يحيى الزيادي عن يوسف الأرميوني عن إبراهيم بن علي القلقشندي عن عبد الرحيم بن الفرات عن محمود بن خليفة المنبجي عن على بن محمد بن هارون الثعلبي عن محمد بن عبد الكريم بن يحيى بن شجاع القيسي عن عبد الله بن عبد الرحيم السلمي عن الشريف علي بن إبراهيم الحسيني عن المؤلف. 271 - (عيون المسائل للحاكم الجشمي (¬4)): أرويها بالإسناد المتقدم في أول الكتاب إلى القاضي جعفر بن أحمد عن السيد علي بن عيسى عن الزمخشري عن أحمد بن محمد الجشمي عن المؤلف. ¬

(¬1) مطوع بتحقيق الشيخ شعيب الأرناؤوط (¬2) تقدم ذكر ترجمته (¬3) هو سليم بن أيوب بن سليم الرازي، الشافعي (أبو الفتح) فقيه، أصولي، مفسر، محدث، اشتغل في أول عمره بالنحو واللغة والتفسير والمعاني والحديث، ثم رحل إلى بغداد، واشتغل بالفقه، ونشر العلم بصور من سواحل الشام. وغرق في بحر القلزم عند ساحل جده بعد أن حج في صفر سنة (547 هـ) وكان قد نيف على الثمانين، ودفن في جزيرة بقرب الجار عند المخاضة. من مصنفاته الكثيرة: "المجرد" في أربع مجلدات، "التقريب"، "ضياء القلوب في التفسير"، و"غرائب الحديث". انظر: "وفيات الأعيان" (1/ 266 - 267) " تهذيب الأسماء واللغات" (1/ 231) "شذرات الذهب" (3/ 275 - 276) "معجم المؤلفين (1/ 777) (¬4) تقدمت ترجمته ......

حرف الغين المعجمة 272 - (الغايات (¬1) للإمام المهدي): أرويها بالإسناد المتقدم في كتاب البحر له. 273 - (الغاية (¬2) للحسين بن القاسم): أرويها بالإسناد المتقدم في شرح الغاية له. 274 - (الغيث (¬3) للإمام المهدي أيضا): ¬

(¬1) "غايات الأفكار ونهايات الأنظار المحيطة بعجائب البحر الزخار" وهو شروح لأجزاء كتابه الكبير "البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار" وهي ليست تفسيرا لألفاظ الكتب المشروحة كما يتبادر إلى الذهن بل هي نوع من التوسع والزيادة على الأصول. وقد جعلها تسعة كتب سمى كل واحد منها باسم خاص كما يلي: 1/ المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل. 2/ الدرر الفرائد في شرح كتاب القلائد في تصحيح العقائد. 3/ دافع الأوهام في كتاب رياضة الأفهام في لطيف الكلام. 4/ منهاج الوصول إلى تحقيق كتاب معيار العقول. 5/ يواقيت السير في شرح سيرة سيد البشر. 6/ المستجاد في شرح الانتقاء للآيات المعتبرة في الأحكام والاجتهاد. 7/ عماد الإسلام في شرح الأحكام المتضمن لفقه أئمة الإسلام. 8/ الروضة النضرة في شرح كتاب الدرة المنيرة. 9/ شفاء الأسقام في شرح كتاب التكملة للأحكام. انظر: مؤلفات الزيدية (2/ 291 - 292 رقم 2313)، حكام اليمن (ص 183 - 199) (¬2) غاية السؤل في علم الأصول. مختصر في القواعد الأصولية يهتم بالأدلة والأقوال، وهو في مقدمة وثمانية مقاصد وفرغ منه المؤلف ليلة السبت 23 شوال 1035 هـ. مؤلفات الزيدية (2/ 293 رقم 2318) (¬3) "الغيث المدرار المفتح لكمائم الأزهار" شرح على كتاب المؤلف "الأزهار في فقه الأئمة الأطهار" في أربع مجلدات قيل بدأ به المؤلف في السجن سن 796 هـ وقد تحدث فيه عن كل مسألة وردت في الأصل مع ذكر الأدلة والأقوال. مؤلفات الزيدية (2/ 297 رقم 2330) ............

ارويه بالإسناد المتقدم في كتاب الأزهار والبحر له. 275 - (الغياصة إلى كشف الخلاصة لمحمد بن يحيى حنش (¬1)): أرويها بالإسناد المتقدم إلى الإمام محمد بن المطهر في كتاب العقود وهو يروي الغياصة عن المؤلف. ¬

(¬1) هو محمد بن يحيى بن أحمد بن حنش اليماني الزيدي. ولد بعد سنة (650 هـ)، وقرأ على علماء عصره حتى برع في فنون عدة، وبلغ رتبة الاجتهاد وأخذ عن جماعة من العلماء كالإمام محمد بن المطهر. وله مصنفات منها "التمهيد والتفسير لفوائد التحرير" في الفقه" و"الغياصة" في أصول الدين جعله شرحا للخلاصة للشيخ احمد الرصاص وله تعليقات على اللمع في الفقه، و"شرح للتقرير للأمير الحسين"، و"القاطعة في الرد على الباطنية" في مجلدين، وكان زاهدا عابدا مائلا إلى الخمول، فصيح العبارة سريع الجواب مستحضرا للفنون محققا في جميع مباحثه. ومات سنة (719 هـ) وقبره بظفار. انظر: "البدر الطالع" (2/ 277) 0 الروض الأغن (3/ 114 رقم 847) ............

حرف الفاء 276 - (الفائض ليحيى حميد (¬1)): أرويه بالإسناد المتقدم في شرح الفتح له. 277 - (الفائق في أصول الدين للحسن بن محمد الرصاص (¬2)): أرويه بالإسناد المتقدم في أول الكتاب إلى الإمام عبد الله بن حمزة عن المؤلف. 278 - (الفائق (¬3) للبستي): أرويه بالإسناد إلى الشماخي عن محمد بن عراق اليافعي عن أحمد بن محمد بن أبي عقبة عن يحيى بن محمد الظفاري عن محمد بن على القلعي عن يوسف بن يعقوب الجوزجاني عن عمر بن مالك الشاذكوني عن الحسن الكوزاني عن المؤلف. 279 - (الفائق للزمخشري): أرويه بالإسناد المتقدم في كتاب الأساس له. 280 - (الفتاوى للإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة (¬4)): أرويها بالإسناد المتقدم في أول هذا الكتاب المتصل به. ¬

(¬1) تقدمت ترجمته (¬2) هو الحسن بن محمد بن أبي الطاهر الحسن بن أبي بكر أحمد بن إبراهيم الرصاص، أبو محمد وأبو على الإمام المتكلم أحد شيوخ الزيدية المتبحرين المحصلين، شيخ المنصور بالله، أثنى عليه غيره وقال في رسالة: لا أعلم على وجه الأرض اعلم منه، قرأ الشيخ على أبي جعفر. وله مؤلفات منها: "الثلاثين المسألة"، "الكيفية"، "التحصيل"، "الفائق" وله كتاب "المؤثرات". توفي سنة (584 هـ). انظر "تراجم الرجال" (ص 11). و"معجم المؤلفين" (1/ 533). (¬3) لعله يقصد (غريب الحديث) للإمام الخطابي البستي، وقد طبع عن جامعة أم القرى. بمكة المكرمة في (3) مجلدات. (¬4) تقدمت ترجمته ......

281 - (الفتاوى للإمام المهدي أحمد بن الحسين (¬1)): أرويها بالإسناد المتقدم أول الكتاب إلى الإمام شرف الدين عن السيد أبي. العطايا عن أبيه عن الواثق عن أبيه عن السيد محمد بن الهادي عن أسعد بن علي العرشي عن المؤلف. 282 - (الفتاوى للإمام عز الدين بن الحسن (¬2)): ارويها بالإسناد المتقدم في شرح البحر له. 283 - (فتح الباري (¬3) لابن حجر): ارويها بالإسناد المتقدم في حرف الشين عند ذكر شرح البخاري له. 284 - (فتح القدير ليحي حميد): أرويه بالإسناد المتقدم في شرح الفتح له. 285 - (فتح القدير لابن همام): أرويه بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن ابن الشمبي عن يوسف بن زكريا عن أبيه عن المؤلف. ¬

(¬1) هو أحمد بن الحسين بن احمد بن القاسم الحسني الإمام المهدي الشهيد. بدأ دعوته سنة (646 هـ) وبايعه الناس رغبة ورهبة وأولاد المنصور بالله وابن وهاس والشيخ أحمد الرصاص، ثم نكثوا بيعته وحاربوه وقتلوه في شهر صفر سنة (656 هـ)، وكان مجتهدا لاكما زعم من لا معرفة له به، وكان مقحما لا يقول الشعر، وقبره بذيبين مشهور. انظر: "تراجم الرجال" (ص 4). (¬2) مجلد ضخم مفيد جدا ولعله المذكور بعنوان "جمل من الفوائد المفيدة على المسائل الواضحة الفريدة". مؤلفات الزيدية (2/ 303 رقم 2346) (¬3) فتح الباري شرح صحيح البخاري، من أعظم شروح السنة شمولا وسعة ودقة، وصدق من قال عنه (ديوان السنة النبوية) حتى أن بعض طلاب الشوكاني طلب منه أن يشرح صحيح البخاري فقال: " لا هجرة بعد الفتح" ......

286 - (الفتوحات (¬1) لابن عربي (¬2)): ارويها بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن احمد بن خليل السبكي عن النجم محمد بن احمد عن البدر المشهدي عن محمد بن مقبل عن عبد الوهاب السلامي عن الصالحي عن ابن النجار عن المؤلف. 287 - (الفرج بعد الشدة لابن أب الدنيا (¬3)): ¬

(¬1) هو كتاب مليء بالأوهام والشركيات وبالمخالفات الشرعية، والقضايا التي ما أنزل الله ها من سلطان، بل فيه طامات كبرى في إطار الاعتقاد الإسلامي لذلك فهو كتاب لا يجوز التعامل معه بصورة من الصور لما فيه من الطامات. (¬2) هو محمد بن على بن محمد بن أحمد بن عبد الله الطائي الحاقي، المرسى، المعروف بابن عربي. صوفي، متكلم، فقيه، أديب، شاعر، مشارك في علوم أخرى. ولد في مرسية الأندلس في رمضان سنة (560 هـ) وانتقل إلى أشبيلية، وعمن ابن بشكوال، ورحل إلى مصر والحجاز وبغداد والموصل وبلاد الروم، وأنكر عليه أهل مصر أراع. فعمل بعضهم على إراقة دمه وحبس، فسعى في خلاصه علي بن الفتح الجباني فنجا، واستقر بدمشق وتوفي بها سنة (638 هـ) ودفن بسفح قاسيون. من تصانيفه: "الفتوحات المكية في معرفة الأسرار المالكية والملكية"، "جامع الأحكام في معرفة الحلال والحرام"، "جامع الوصايا"، "الحكم الإلهية"، "الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار"، "التجليات الإلهية"، "روح القدس في محاسبة النفس"، " فصوص الحكم" وغيرها. انظر "البداية والنهاية " (13/ 156)، "لسان الميزان" (5/ 311 - 315)، " النجوم الزاهرة" (6/ 339)، "ميزان الاعتدال" للذهبي (3/ 108 - 109)، "شذرات الذهب" (5/ 190 - 202)، "معجم المؤلفين" (3/ 531 - 532) (¬3) هو عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس القرشي، الأموي مولاهم البغدادي، المعروف بابن أبي الدنيا (أبو بكر) محدث، مشارك في أنواع من العلوم. سمع سعيد بن سلمان الواسطي وخلفه بن هشام البزار وخالد بن مرداش وغيرهم، وروى عنه محمد ابن خلف وكيع ومحمد بن خلف بن المرزبان وعبيد الله بن عبد الرحمن السكري وغرهم، وأدب غير واحد من أولاد الخلفاء ولد سنة (208 هـ) وتوفي ببغداد سنة (281 هـ). من تصانيفه الكثيرة: "الفرج بعد الشدة"، "مكارم الأخلاق"، "التهجد وقيام الليل"،"الصمت وأدب اللسان"، "وحسن الظن بالله عز وجل"، "الأحاديث الأربعون"،"أخبار الخلفاء"،"أخبار معاوية"، "أخبار الجفاة"، "الأدب". وعشرات الرسائل الأخرى. انظر "تاريخ بغداد" (10/ 89 - 91) "تذكرة الحافظ" (2/ 224 - 225) "مروج الذهب" (8/ 209 - 210) "الكامل في التاريخ" (7/ 155) ......

أرويه بالإسناد المتقدم في أول هذا الكتاب إلى البابلي عن أبي بكر بن إسماعيل السنواني عن يوسف بن زكريا عن أبيه عن ابن حجر عن أبي هريرة بن عبد الرحمن بن الذهبي عن أبي نصر محمد بن محمد الشيرازي عن يحي بن أبي السعود البغدادي عن شهده عن طراد ابن محمد الرينبي عن أبي الحسن بن بشران عن علي بن صفوان عن المؤلف. 288 - (فقه اللغة للثعالبي (¬1)): أرويه بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الشماخي عن عبد الله بن محمد الحضرمي عن علي بن عمر الحضرمي عن محمد بن أبي القاسم الجيائي عن القاضي أحمد بن عبد الله القريظي عن الشيخ أحمد بن محمد الإسكندراني عن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي اليلس عن سالم بن عبد الغالب الشافعي عن محمد بن بركات النحوي عن علي بن نصر بن الصباغ عن المؤلف. ¬

(¬1) هو عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي، النيسابوري (أبو منصور)، أديب، ناثر، ناظم لغوي، إخباري، بياني. ولد سنة (350 هـ) وتوفي سنة (429 هـ). من تصانيفه: " فقه اللغة وسر العربية "، " سحر البلاغة وسر البراعة "، " شيمة الدهر في محاسن أهل العصر "، " نثر النظم وحل العقد "، " طبقات الملوك "، " تحفة الوزراء "، " نتائج المذاكرة "، "الفوائد والأمثال"، " كتاب من غاب عنه المطرب "، "الكناية والتعريض"، "المبهج "، " الظرائف واللطائف". انظر: "وفيات الأعيان" (1/ 365 - 366) "البداية والنهاية" (12/ 44) " شذرات الذهب" (3/ 246) ......

289 - (الفصول (¬1) للسيد صارم الدين إبراهيم بن محمد): " أرويها بالإسناد المتقدم إلى الإمام شرف الدين عن المؤلف. 290 - (فلك (¬2) القاموس لشيخنا السيد الإمام عبد القادر بن أحمد: أرويه عنه سماعا لجميعه. ¬

(¬1) اسمه: (الفصول اللؤلؤية) في أصول الفقه. له ثلاث نسخ بالجامع الكبير بصنعاء رقم (139، 341، 1445) مصادر الفكر (ص 177) (¬2) واسمه (فلك القاموس المحيط) جعله انتقادات على كتاب القاموس من عدة نسخ. انظر مصادر الفكر (ص 435) ......

حرف القاف 291 - (القاموس لمجد الدين): أرويه بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن احمد بن محمد الغنيمي عن احمد بن قاسم عن ناصر الدين الطبلاوي عن جلال السيوطي عن التقى محمد بن محمد بن فهد عن المؤلف. ح- وارويه بالإسناد المتقدم إلى الديبع عن الشرجي عن المؤلف. 292 - (القراءات للسبعة القراء المشهورين: نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي): ارويها عن جماعة من مشائخي بأسانيدهم المتصلة بيحي بن عمر منهم شيخنا السيد عبد القادر بن أحمد وصديق بن علي المزجاجي ويوسف بن محمد بن علاء الدين كلهم عن محمد بن علاء الدين عن يحي بن عمر. ح- ويروى ذلك الأولان عن السيد سليمان بن يحي بن عمر الأهدل عن أحمد بن محمد بن مقبول الأهدل عن يحي بن عمر عن عبد الله بن عبد الباقي المزجاجي عن عبد الله بن عبد الباقي العدني عن أبيه عن محمد بن علي الخلص عن احمد بن يحي الشاوري عن محمد بن أحمد الملحاني عن محمد بن أبي بكر بن علي بن بدير عن عبد الله بن محمد الناشري عن محمد بن محمد بن محمد الجزري عن عبد الرحمن بن علي المبارك الواسطي عن محمد بن احمد بن عبد الخالق المعروف بابن الصائغ. فهذا السياق إسناد القرآءات المجتمعة إلى ابن الصائغ وهو يروي قراءة كل قارئ بإسناد من عنده إلى عند كل واحد من السبعة ويسوق الإسناد إلى كل واحد من راوية من له القراءة: فنافع له راويان: قالون وورش. 293 - [قراءة نافع (¬1) .... .... .... .... .... .... .... .. ¬

(¬1) هو نافع بن عبد الرحمن ابن أبي نعيم الليثي، مولاهم أبو رويم المقرئ المدني احد الأعلام وهو مولا جعونة بن شعوب الليثي، حليف حمزة بن عبد المطلب. قرأ على طائفة من تابعي أهل المدينة، وكان أسود اللون حالكا، واصله من أصبهان. قال سعيد بن منصور: سمعت مالكا يقول: قراءة أهل المدينة سنة، قيل له: قراءة نافع. قال: نعم. وروي أن نافعا كان صاحب دعابة وطيب أخلاق، وثقه يحي بن معين، ولينه أحمد بن حنبل، وقال النسائي: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: صدوق. قال الذهبي: لم يخرجوا له شيئا في الكتب الستة. مات سنة (169هـ). انظر: "معرفة القراء الكبار" للذهبي (1/ 107) "سير أعلام النبلاء" (7/ 336 - 338) "خلاصة تهذيب الكمال" (399) "شذرات الذهب" (1/ 270) ......

برواية قالون (¬1)]: أما رواية قالون فقال ابن الصائغ المذكور قرأت ها على علي بن شجاع، قال قرأت بها على أبي القاسم بن خلف، قال قرأت بها على علي بن محمد بن علي بن هذيل الأندلسي، قال قرأت بها على سليمان بن نجاح مولى المؤيد الأموي، قال قرأت بها على عثمان بن سعيد الداني، قال قرأت بها على فارس بن أحمد الضرير قال قرأت بها على عبد الباقي بن الحسن المقرى، قال قرأت بها على إبراهيم بن عمر المقري، قال قرأت ¬

(¬1) هو عيسى بن ميناء بن وردان بن عيسى الزرقي مولى بني زهرة قارئ أهل المدينة في زمانه، ونحويهم. قيل: إنه كان ربيب نافع، وهو الذي لقبه قالون لجودة قراءته وهى لفظة رومية معناها جيد، لم يزل يقرأ على نافع حتى مهر وحذق. وروى الحديث عن شيخه، وعن محمد بن جعفر بن أبي كثير، وعبد الرحمن بن أبى الزياد وعرض القرآن أيضًا على عيسى بن وردان الحذاء. وتبتل لإقراء القرآن والعربية، وطال عمره وبعد صيته. قال علي بن الحسن الهسنجاني الحافظ: كان قالون شديد الصمم، فلو رفعت صوتك، لا إلى غاية لا يسمع، فكان ينظر إلى شفتي القارئ، فيرد عليه اللحن والخطأ. وقرأ عليه بشر كثير، منهم ولداه) أحمد وإبراهيم، وأحمد بن يزيد الحلواني، ومحمد بن هارون أبو نشيط، وأحمد بن صالح المصري. مات سنة (220 هـ) وله نيف وثمانون سنة رحمه الله. انظر "الجرح والتعديل" (3/ 290) و"غاية النهاية" (1/ 615 - 616) "النجوم الزاهرة" (2/ 235) "شذرات الذهب" (2/ 48) "ومعرفة القراء الكبار" (1/ 155) ......

بها على احمد بن عثمان بن ثوبان، قال قرأت بها على أبي بكر الأشعث، قال قرأت بها على أبي بسيط محمد بن هارون، قال قرأت بها على قالون قال قرأت بها على نافع. 294 - [قراءة نافع برواية ورش (¬1)]: وأما رواية ورش، قال تقي الدين بن الصائغ: قرأت بها على علي بن شجاع الضرير، قال قرأت بها على أبي القاسم بن خلف بإسناده المذكور إلى الداني، قال قرأت بها على خلف بن إبراهيم المقري. بمصر، قال قرأت بها على أحمد بن أسامة التجيبي، قال قرأت بها على إسماعيل بن عبد الله النحاس، قال قرأت بها على يوسف بن عمر بن يسار الأزرق، قال قرأت بها على ورش، قال قرأت بها على نافع، قال قرأت بها على يزيد ابن القعقاع وأبي داود عبد الرحمن بن هرمز الأعرج وشيبه بن نصاح القاضي وأبي عبد الله مسلم بن جندب الهذلي وأبي روح يزيد بن رومان، وأخذ هؤلاء عن أبي هريرة وابن عباس وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة عن أبي بن كعب عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. ¬

(¬1) هو عثمان بن سعيد ورش أبو سعيد المصري المقرئ، وقيل: أبو عمرو وقيل: أبو القاسم عثمان بن سعيد ابن عبد الله بن عمرو بن سليمان. وقيل: عثمان بن سعيد بن عدي بن غزوان بن داود بن سابق القبطي مولى آل الزبير بن العوام، وقيل: أصله من إفريقية، ويقال له الرواس. ولد سنة (110 هـ). قرأ القرآن وجوده على نافع عدة ختمات في حدود سنة (155هـ). ونافع هو الذي لقبه بورش لشدة بياضه، والورش شيء يصنع من اللبن، ويقال لقبه بالورشان وهو طائر معروف، فكان يقول: اقرأ يا ورشان وهات يا ورشان، ثم خفف وقيل: ورش، وكان لا يكرهه ويعجبه، ويقول: أستاذي نافع سماني به. وكان أشقر أزرق حمينا، مربوعا، يلبس مع ذلك ثيابا مقدرة، وإليه انتهت رياسة الإقراء بالديار المصرية في زمانه. وكان ثقة حجة في القراءة. توفي. بمصر سنة (197هـ). انظر: "معرفة القراء الكبار" للذهبي (1/ 152) "الجرح والتعديل" (3/ 153) "غاية النهاية في طبقات القراء" (1/ 502 - 503) ......

2 - وابن كثير (¬1) له راويان: البزي (¬2) وقنبل (¬3). ¬

(¬1) عبد الله بن كثير بن المطلب الإمام أبو معبد، مولى عمرو بن علقمة الكناني الداري المكي، إمام المكين في القراءة. أصله فارسي، وكان داريا. بمكة، وهو العطار مأخوذ من قولهم: عطر دارين، ودارين موضع بنواحي الهند، وقيل في نسبته الداري: إنه قرشي من بني عبد الدار، قاله البخاري. وقال أبو بكر بن أبى داود: الداري بطن من لخم، وهم رهط تميم الداري. وعن الأصمعي، قال: الداري الذي لا يبرح في داره، ولا يطلب معاشا. وعنه قال: كان عبد الله بن كثير عطارا، قلت: (أي الذهبي) هذا هو الحق، فلا يبطله اشتراك الأنساب، وابن كثير من أبناء فارس الذين بعثهم كسرى إلى صنعاء فطردوا عنها الحبشة. وتصدر للإقراء وصار إمام أمل مكة في ضبط القرآن، قرأ عليه أبو عمرو بن العلاء، وشبل بن عباد، ومعروف بن مشكان، وإسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين وطائفة. قال ابن عيينة: حضرت جنازته سنة (120هـ). وقال غيره عاش خمسا وسبعين سنة (¬2) هو احمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن نافع بن أبي بزة أبو الحسن البزي المكي، المقرئ قارئ مكة، ومؤذن المسجد الحرام ومولى بني مخزوم. قال البخاري: اسم أبي بزة بشار مولى عبد الله بن السائب المخزومي، وأبو بزة فارسي، وقيل همذاني، أسلم على يد السائب بن صيفي المخزومي. ولد البزي سنة (170هـ) وقرأ القران على عكرمة بن سليمان، وأبي الإخربط وهب بن واضح وعبد الله بن زياد مولى عبيد بن عمير الليثي. وقد حدث البزي، عن مؤمل بن إسماعيل، ومالك بن سعير بن الخمس، وأبي عبد الرحمن المقرئ، وسليمان بن حرب وغيرهم. وروى عنه البخاري قي "تاريخه" وأذن في المسجد الحرام (40) سنة. توقي سنة (250 هـ). انظر "معرفة القراء" للذهبي (1/ 173) "الجرح والتعديل" (2/ 71) " غاية النهاية في طبقات القراء " (1/ 119 - 120). (¬3) هو أبو عمر محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن خالد بن سعيد بن جرجة المخزومي، مولاهم المكي. ولد سنة (195 هـ) وجود القراءة على أبي الحسن القواس، وأخذ القراءة عن البزي أيضا. وانتهت إليه رئاسة الإقراء بالحجاز. "تذكرة الحفاظ" (2/ 659) "غاية النهاية" (2/ 165 - 166) ......

295 - [قراءة ابن كثير برواية البزي]: أما روية البزي، فقال تقي الدين بن الصائغ: قرأت بها على علي بن شجاع الضرير الشافعي بإسناده المتقدم في قراءة قالون إلى الداني، قال قرأت بها على عبد العزيز بن جعفر الفارسي، قال قرأت بها إلى أبي بكر محمد بن الحسن النقاشي، قال قرأت بها على محمد بن إسحاق الربعي، قال قرأت بها على البزي، قال قرأت ها على عكرمة بن سليمان بن عامر، قال قرأت بها على إسماعيل بن عبد الله بن القسط، قال قرأت بها على ابن كثير. 296 - [قراءة ابن كثير برواية قنبل]: وأما رواية قنبل، فقال ابن الصائغ: قرأت بها على علي بن شجاع الضرير بإسناده المتقدم في قراءة قالون إلى الداني، قال قرأت بها على فارس بن أحمد الحمصي، قال قرأت بها على عبد الله بن الحسين البغدادي، قال قرأت بها على ابن مجاهد، قال قرأت بها على قنبل، قال قرأت بها على أحمد بن محمد القواس، قال قرأت بها على أبي الإخريط وهب بن واضح، قال قرأت ها على إسماعيل بن عبد الله بن قسط، قال قرأت بها على شبل بن عباد وابن مشكان، قالا قرأنا بها على ابن كثير، قال قرأت بها على عبد الله بن السائب المخزومي صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومجاهد بن جبير ودرباس مولى ابن عباس وأخذا عبد الله بن السائب عن أبي وأخذا مجاهد ودرباس عن ابن عباس عن أبي وزيد بن ثابت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 3 - وأبي عمرو له راويان: الدوري عن اليزيدي والسوسي عن اليزيدي أيضا. 297 - [قراءة أبي عمرو (¬1) برواية .... .... .... .... .... .. (1): - ¬

(¬1) هو أبو عمرو بن العلاء المازني المقرئ النحوي البصري الإمام، مقرئ أهل البصرة رحمه زبان على الأصح، وقيل: العريان، وقيل: يحي وقيل: محبوب، وقيل: جنيد، وقال: عيينة، وقيل: عثمان، وقيل عياد، وهو أبو عمرو بن العلاء بن عمار بن العريان، وقيل: ابن العلاء بن عمار بن عبد الله بن الحصين بن الحارث بن جلهم بن خزاعي بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم التميمي، ثم المازني. ولد أبو عمرو سنة (68 هـ) وقيل: سنة (70 هـ) وأخذ القراءة عن أهل الحجاز، وأهل البصرة، فعرض. بمكة على مجاهد وسعيد بن جبير، وعطاء، وعكرمة بن خالد، وابن كثير. قال وكيع: قدم أبو عمرو بن العلاء الكوفة، فاجتمعوا إليه كما اجتمعوا على هشام بن عروة. توفي سنة (154هـ) انظر: " تهذيب الأسماء واللغات" (1/ 262) "معرفة القراء الكبار" (1/ 100) ......

الدوري (¬1)]: أما رواية الدوري عن اليزيدي فقال ابن الصائغ: قرأت بها على بن شجاع بإسناده المتقدم في قراءة قالون إلى الداني، قال قرأت بها على عبد العزيز بن جعفر البغدادي، قال قرأت بها على عبد الواحد بن عمر بن أبي هشام المعري، قال قرأت بها على أبي بكر ابن مجاهد، قال قرأت بها على أبي الزعراء عبد الرحمن بن عبدوس قال قرأت بها على الدوري قال قرأت بها على اليزيدي قال قرأت على أبي عمرو. 298 - [قراءة أبي عمرو برواية السوسي (¬2)]: ¬

(¬1) هو حفص بن عمر بن عبد العزيز بن صبهان، ويقال: صهيب الأزدي، المقرئ النحوي البغدادي الضرير، نزيل سامراء، مقرئ الإسلام، وشيخ العراق في وقته. قرأ على إسماعيل بن جعفر، وعلى الكسائي، وعلى يحي اليزيدي، وعلى سليم، وطال عمره، وقصد من الآفاق، وازدحم عليه الحذاق لعلو سنده، وسعة علمه. قال أبو حاتم: هو صدوق، وقال أبو داود: رأيت أحمد بن حنبل يكتب عن أبي عمر الدوري. توفي سنة (246 هـ). والدور المنسوب إليها الدوري: محلة معروفة بالجانب الشرقي من بغداد. انظر: "الجرح والتعديل" (3/ 183 - 184) "تاريخ بغداد" (8/ 203 - 204) "غاية النهاية " (1/ 255 - 257) "معرفة القراء الكبار" (1/ 191) (¬2) هو أبو شعيب السوسي، صالح بن زياد بن عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم بن الجارود بن مسرح الرسبتي الرقى المقرئ، قرأ على اليزيدي، وسمع بالكوفة من عبد الله بن نصر، وأسباط بن محمد، وبمكة من سفيان بن عينة. قال أبو حاتم: صدوق. مات في سنة (261 هـ) وقد قارب تسعين سنة. انظر: "معرفة القراء الكبار" (1/ 193) "الجرح والتعديل" (4/ 404) "غاية النهاية" (1/ 332 - 333) " شذرات الذهب" (2/ 143) ......

وأما رواية السوسي عن اليزيدي فقال ابن الصائغ: قرأت بها على علي بن شجاع بإسناده المتقدم في قراءة قالون إلى الداني، قال قرأت بها على فارس بن أحمد المقري، قال قرأت بها على عبد الله بن الحسين المقري، قال قرأت بها على موسى بن جرير النحوي، قال قرأت بها على السوسي، قال قرأت بها على اليزيدي، قال قرأت بها على أبي عمرو، قال قرأت على جماعة من أهل البصرة والحجاز كمجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة بن خالد وعطاء بن أبي رباح وعبد الله بن كثير ومحمد بن عبد الرحمن بن محيص ويزيد بن رومان والحسن البصري ويحي بن يعمر وغيرهم وأخذ هؤلاء عن الصحابة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. 4 - وابن عامر (¬1) له راويان: هشام (¬2) وابن ذكوان (¬3). ¬

(¬1) هو عبد الله بن عامر بن يزيد بن تميم بن ربيعة اليحصبي أبو عمران وقيل: أبو عامر، وقيل: أبو نعيم وقيل: أبو عليم. وقيل: أبو عبيد وقيل: أبو محمد، وقيل: أبو موسى وقيل: أبو معبد وقيل أبو عثمان الدمشقي، ... أخذ القراءة عرضا عن أبي الدرداء، وعن المغيرة بن أبي شهاب وقيل: عرض على عثمان نفسه رضي الله عنه، وروى عنه القراءة عرضا يحي الذماري. ولي قضاء دمشق بعد أبي إدريس الخولانى توفي سنة (118هـ). انظر "طبقات ابن سعد" (7/ 449) "غاية النهاية" (1/ 423) "معرفة القراء" (82). (¬2) هو هشام بن عمار بن نصير بن ميسرة، أبو الوليد السلمي، ويقال: الظفري الدمشقي، شيخ أهل دمشق ومفتيهم، وخطيبهم ومقرئهم ومحدثهم. ولد سنة (153هـ) وقرأ القرآن على عراك بن خالد، وأيوب بن تميم وغيرهما وحدث عنه الوليد ابن مسلم، ومحمد بن شعيب، والبخاري في "صحيحه" وأبو داود والنسائي، وابن ماجه في سننهم، وحدث الترمذي عن رجل عنه. وثقه يحي بن معين. وقال النسائي: لا بأس به. وقال الدارقطى: صدوق كبير المحل. مات سنة (245هـ). انظر: "طبقات ابن سعد" (7/ 174) "الجرح والتعديل" (9/ 66 - 67) "تذكرة الحفاظ" (2/ 451) " غاية النهاية (2/ 354 - 356) "معرفة القراء الكبار" (1/ 195) (¬3) هو عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان، أبو عمرو، وأبو محمد البهراني، مولاهم الدمشقي المقرئ. مقرئ دمشق وإمام الجامع، قرأ على أيوب بن تميم وغيره وقيل: إن الكسائي قدم دمشق، فقرأ عليه ابن دكوان، وروى عنه أبو داود وابن ماجه في سننهما. قال أبو حاتم: صدوق. وقال أبو زرعة الدمشقي: لم يكن بالعراق ولا بالحجاز ولا بالشام ولا بمصر ولا بخراسان في زمان ابن ذكوان أقرأ عندي منه. وقال الوليد بن عتبة الدمشقي ما بالعراق أقرأ من ابن ذكوان وقيل: إن هشاما كان الخطيب، وكان ابن ذكوان يوم في الصلوات أو لعله كان نائب هشام. توفي (242 هـ). انظر "الجرح والتعديل" (5/ 5) " تهذيب التهذيب" (5/ 140 - 141) "معرفة القراء" (2/ 198) ......

299 - [قراءة ابن عامر برواية هشام]: أما رواية هشام فقال ابن الصائغ: قرأت بها على ابن شجاع بإسناده المتقدم في قراءة قالون إلى الداني، قال قرأت بها على أبي الفتح، قال قرأت بها على عبد الله حسين المقري، قال قرأت بها على محمد بن أحمد بن عبدان، قال قرأت بها على الحلواني، قال قرأت بها على هشام، قال قرأت بها على عراك بن خالد المزي، قال قرأت بها على يحي ابن الحارث الذماري، قال قرأت بها على ابن عامر. 300 - [قراءة ابن عامر برواية ابن ذكوان]: وأما رواية ابن ذكوان فقال ابن الصائغ: قرأت بها على ابن شجاع بإسناده المتقدم في قراءة قالون إلى الداني، قال قرأت بها على عبد العزيز بن جعفر الفارسي، قال قرأت بها على محمد بن الحسن النقاش، قال قرأت بها على هارون بن موسى بن شريك الأخفش، قال قرأت بها على عبد الله بن ذكوان، قال قرأت بها على أيوب بن تميم التميمي، قال قرأت بها على يحي بن الحارث الذماري قال قرأت بها على ابن عامر قال: قرأت بها على أبي الدرداء عويمر بن عامر صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ والمغيرة بن شهاب المخزومي وأخذ أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه واله وسلم وأخذ المغيرة عن عثمان بن عفان عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ .......

5 - وعاصم له راويان: أبو بكر وحفص. 301 - [قراءة عاصم (¬1) برواية أبي بكر (¬2)]: ¬

(¬1) هو عاصم بن أبي النجود الأسدي مولاهم، الكوفي، القارئ، الإمام أبو بكر. أحد السبعة، واسم أبيه بهدلة على الصحيح، قرأ القرآن على أبي عبد الرحمن السلمي، وزر بن حبيش الأسدي، وحدث عنهما وعن أبي وائل، ومصعب بن سعد بن أبي وقاص. وجماعة. وقيل: إنه روى عن الحارث بن حسان البكري، ورفاعة بن يثربي التميمي، أو التيمي رضي الله عنهما. وهو معدود في التابعين. وإليه انتهت الإمامة في القراءة بالكوفة، بعد شيخه أبي عبد الرحمن السلمي، قال أبو بكر بن عياش: لما هلك أبو عبد الرحمن، جلس عاصم يقرئ الناس، وكان عاصم أحسن الناس صوتا بالقرآن. وقال أبو خيثمة وغيره: اسم أبي النجود بهدلة. وقال الفلاس: بهدلة أمه. توفي سنة (127 هـ). انظر "ميزان الاعتدال" (2/ 357 - 358) "غاية النهاية" (1/ 346 - 349) " معرفة القراء الكبار" (1/ 88) " لسان الميزان" (6/ 583) (¬2) هو أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي الإمام، أحد الأعلام مولى واصل الأحدب، وكان حناطا- بالنون- أختلف اسمه على عشرة أقوال، أصحها قولان: كنيته، وما رواه أبو هشام الرفاعي، وحسين بن عبد الأول، أفما سألاه عن اسمه، فقال: شعبة. وقال النسائي وغيره: اسمه محمد، وقيل مطرف، وقيل رؤية وسالم، وعتيق، وحماد. وقال هارون بن حاتم: جمعته يقول: ولدت سنة (95 هـ)، قرأ القرآن ثلاث مرات على عاصم، وروى عن إسماعيل السدي، وأبي حصين، وغيرهم. قال أحمد بن حنبل: ثقة ربما غلط، صاحب قرآن وخير. وقال ابن المبارك: ما رأيت أحدا أسرع في السنة من أبي بكر بن عياش. وقال: يزيد بن هارون كان أبو بكر خيرا فاضلا، لم يضع جنبه على الأرض أربعين سنة. وقال يحي بن معين: لم يفرش لأبي بكر فراش خمسين سنة. وقال أحمد بن يزيد: جمعت أبا بكر بن عياش، سمعت الأعمش يقول لأصحاب الحديث إذا حدث بثلاثة أحاديث: قد جاءكم السيل واليوم أنا مثل الأعصر. توفي سنة (193 هـ). انظر "طبقات ابن سعد" (6/ 269) "حلية الأولياء" (7/ 303) " غاية النهاية" (1/ 325 - 337) "معرفة القراء الكبار" (1/ 134) ......

أما رواية أبي بكر فقال ابن الصائغ: قرأت بها على ابن شجاع بإسناده المتقدم في قراءة قالون إلى الداني، قال قرأت بها على فارس بن أحمد المقري، قال قرأت بها على عبد الباقي بن الحسن المقري، قال قرأت بها على إبراهيم بن عبد الرحمن البغدادي، قال قرأت بها جمل يوسف بن يعقوب الواسطي، قال قرأت بها على شعيب بن أيوب الصيرفي، قال قرأت بها على يحي بن آدم، قال قرأت بها على أبو بكر، قال قرأت بها على عاصم. 301 - [قراءة عاصم برواية حفص (¬1)]: وأما رواية حفص فقال ابن الصائغ: قرأت بها على علي بن شجاع بإسناده في قراءة قالون إلى الداني، قال قرأت بها على أبي الحسن، قال قرأت بها على الهاشمي، قال قرأت بها على الأشناني، قال قرأت بها على عبيد الله بن الصباح، قال قرأت بها على حفص، قال قرأت بها على عاصم، قال قرأت بها على عبد الله بن حبيب السلمي وأبي مريم زر ابن حنيش وأخذ عبد الله عن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وأبي بن كعب وزيد ¬

(¬1) هو حفص بن سليمان أبو عمر الأسدي مولاهم الغاضري الكوفي، المقرئ الإمام صاحب عاصم، وابن زوجة عاصم. قال خلف بن هشام: ولد حفص سنة (90 هـ) ومات سنة (180هـ) روى الحديث عن علقمة بن مرثد، وثابت البناني، وأبي إسحاق السبيعي، وكثير بن زاذان، ومحارب بن دثار، وإسماعيل السدي، وليث بن أبي سليم، وعاصم، وخلف. وقال أحمد بن حنبل: ما به بأس. وقال أبو هشام الرفاعي: كان حفص أعلمهم بقراءة عاصم. وقال البخاري: تركوه. وقال صالح جزرة: لا يكتب حديثه. وقال زكريا الساجي: له أحاديث بواطيل. وقال ابن عدي: عامة أحاديثه غير محفوظة. وكان الأولون يعدونه في الحفظ فوق أبى بكر بن عياش، ويوصفونه بضبط الحروف التي أخذها عن عاصم. أقرأ الناس دهرا. وكانت القراءة التي أخذها عن عاصم ترتفع إلى على صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انظر: "الجر والتعديل" (3/ 173 - 174) "ميزان الاعتدال" (1/ 558 - 559) "غاية النهاية" (1/ 254 - 255) "معرفة القراء الكبار" (1/ 140) ......

ابن ثابت وعبد الله بن مسعود عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وأخذ زر عن عثمان وابن مسعود عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 6 - وحمزة له راويان: خلف وخلاد. 302 - [قراءة حمزة (¬1) برواية خلف (¬2)]: أما رواية خلف فقال ابن الصائغ: قرأت بها على ابن شجاع بإسناده المتقدم في قراءة قالون إلى الداني، قال قرأت بها على شيخنا أبي الحسين، قال قرأت بها على محمد بن يوسف بن فار، قال قرأت بها على أحمد بن عثمان، قال قرأت بها على إدريس بن عبد الكريم، قال قرأت بها على خلف، قال قرأت بها على سليم، قال قرأت بها على حمزة. 353 - : [قراءة حمزة برواية خلاد (¬3)]: ¬

(¬1) هو حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل الإمام، أبو عمارة الكوفي، مولى آل عكرمة بن ربعي التيمي الزيات, أحد القراء السبعة. ولد سنة (80 هـ)، وأدرك الصحابة بالسن، فلعله رأى بعضهم، وقرأ القران عرضا على الأعمش، وحمران بن أعين وغيرهم. وتصدر للإقراء مدة، وقرأ عليه عدد كثير. طبقات ابن سعد (6/ 385) معرفة القراء (1/ 111) (¬2) هو خلف بن هشام بن ثعلب، وقيل: ابن أبي طابي بن غراب أبو محمد البغدادي المقرئ البزار، أحد الأعلام. وله اختيار أقرأ به، وخلف فيه حمزة. قرأ على سليم عن حمزة وسمع مالكا, وأبا عوانة، وحماد بن زيد، وأبا شهاب عبد ربه الحناط، وأبا الأحوص، وشريكا وطائفة. وحدت عنه مسلم في "صحيحه" وأبو داود في "سننه" وأحمد بن حنبل وأبو زرعة الرازي، وغيرهم. توفي سنة (229 هـ). وكان مولده سنة (150هـ). انظر " طبقات ابن سعد " (7/ 87) " الجرح والتعديل" (3/ 372) " وغاية النهاية" (1/ 272 - 274) و"معرفة القراء الكبار" (1/ 208) (¬3) هو خلاد بن خالد. وقيل: ابن عيسى أبو عيسى، وقيل: أبو عبد الله الشيباني، مولاهم الصيفي الكوفي، الأحول المقرئ صاحب سليم. أقرأ الناس مدة، وحدث عن زهير بن معاوية، والحسن بن صالح بن حي. قرأ عليه محمد بن شاذان الجوهري، ومحمد بن الهيثم قاضى عكبرا، ومحمد بن يحي الخنيسي، والقاسم بن يزيد الوزان، وهو أنبل أصحابه. وحدث عنه أبو زرعة " وأبو حاتم وكان صدوقا. توفي سنة (220 هـ). انظر "غاية النهاية" (1/ 274) "معرفة القراء الكبار" (1/ 210) ......

وأما رواية خلاد فقال ابن الصائغ: قرأت بها على ابن شجاع بإسناده المتقدم إلى الداني، قال قرأت بها على أبي الفتح الضرير، قال قرأت بها على عبد الله بن الحسن المقري، قال قرأت بها على محمد بن أحمد بن شنبوذ، قال قرأت بها على محمد بن شادان الجوهري، قال قرأت بها على خلاد، قال قرأت بها على سليم قال قرأت بها على حمزة، قال قرأت منها على جماعة منهم سليمان بن مهران ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى القاضي وحمران بن أعين وأبو إسحاق المجيعي ومنصور بن المعتمر ومغيرة بن مقسم وجعفر بن محمد الصادق وغيرهم غير أن اعتماده على سليمان بن مهران وأخذ سليمان بن مهران عن يحي بن وثاب وأخذ ابن وثاب عن جماعة من أصحاب ابن مسعود: علقمة والأسود وغيرهم عن ابن مسعود عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. 7 - والكسائي له راويان: أبو الحارث والدوري. 304 - [قراءة الكسائي (¬1) براوية .... .... ..... .... ..... ¬

(¬1) هو علي بن حمزة الكسائي الإمام أبو الحسن الأسدي، مولاهم الكوفي المقرئ النحوي أحد الأعلام. ولد في حدود سنة (120 هـ)، وعمن جعفر الصادق والأعمش، وزائدة، وسليمان بن أرقم، وجماعة يسيرة، وقرأ القرآن وجوده على حمزة الزيات، وعيسى بن عمر الهمداني. قال ابن مجاهد: كان الناس يأخذون عنه ألفاظه بقراءته عليهم. وقال أبو عمر الدوري: سمعت يحي ابن معين يقول: ما رأيت بعيني أصدق لهجة من الكسائي. وقال خلف بن هشام: كنت أحضر بين يدي الكسائي، وهو يقرأ على الناس، وينقطون مصاحفهم بقراءته عليهم. وقال الشافعي لله: من أراد أن يتبحر في النحو، فهو عيال على الكسائي. توقي سنة (189 هـ). وقيل غير ذلك انظر: " الجرح والتعديل " (6/ 182) " البداية والنهاية" (11/ 201 - 202) و"معرفة القراء الكبار" (1/ 120) ......

أبي الحارث (¬1)]: أما رواية أبي الحارث فقال ابن الصائغ: قرأت على ابن شجاع بإسناده المتقدم إلى الداني، قال قرأت بها على فارس بن أحمد، قال قرأت بها على عبد الباقي بن الحسن، قال قرأت بها على زيد بن علي، قال قرأت بها على أحمد بن الحسن البطي، قال قرأت بها على محمد بن يحي الكسائي، قال قرأت بها على أبي الحارث، قال قرأت بها على الكسائي. 305 - [قراءة الكسائي برواية الدوري (¬2)]: وأما رواية الدوري فقال ابن الصائغ قرأت بها على الشيخ ابن شجاع بإسناده المتقدم إلى الداني، قال قرأت بها على عبد الباقي بن الحسن، قال قرأت بها على محمد بن علي الجليد، قال قرأت بها على جعفر بن محمد، قال قرأت بها على الدوري، قال قرأت بها على الكسائي، قال قرأت بها على حمزة بن حبيب الزيات وعيسى بن عمر الهمداني ومحمد بن أبي ليلى وغيرهم غير أن اعتماده على حمزة بن حبيب. قال حمزة: قرأت على سليمان بن مهران الأعمش، قال قرأت على حمران بن أعين وابن أبي ليلى. وقال حمزة: قرأت على عبيدة بن نظلة، قال قرأت على علقمة، قالوا جميعنا قرأنا على ابن مسعود، قال قرأت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. ¬

(¬1) هو الليث بن خالد أبو الحارث المقرئ، صاحب الكسائي، والمتقدم من بين أصحابه، قرأ عليه، وجمع الحروف من حمزة بن قاسم الأحول، وأبي محمد اليزيدي. قال أبو عمرو الداني: وقد غلط أحمد بن نصر في نسبته، فقال الليث بن خالد المروزي، وذاك رجل آخر من أصحاب الحديث، سمع من مالك بن انس وجماعة، يكني أبا بكر. قرأ على أبي الحارث سلمة بن عاصم، ومحمد بن يحي الكسائي الصغير. توفي سنة (240 هـ). انظر: "تاريخ بغداد" (13/ 16) " غاية النهاية " (2/ 34) "معرفة القراء الكبار" (1/ 211) (¬2) تقدمت ترجمته ......

306 - (قرة العيون بأخبار اليمن الميمون للديبع (¬1)): أرويها بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي المتصل به. 307 - (قصر الأمل (¬2) لابن أبي الدنيا): أرويه بالإسناد المتقدم في كتاب الفرج بعد الشدة له. 308 - (القصص الحق (¬3) للإمام شرف الدين): أرويه بالإسناد المذكور في أول الكتاب المتصل به. 359 - (القطر لابن هشام (¬4)): أرويه بالإسناد المتقدم في كتاب الشذور المتصل به. 310 - (القمر المنير لفوائد التحرير للأمير علي بن الحسين (¬5)): أرويه بالإسناد المتصل بالأمير الحسين بن محمد صاحب الشفا المذكور في كتاب التقرير وهو يرويه عن المؤلف. 311 - (قوت القلوب لأبي طالب المكي (¬6)): ¬

(¬1) انظر: الضوء اللامع (4/ 104) (¬2) مطبوع. تحقيق محمد خير رمضان يوسف، دار ابن حزم 1416هـ-1995م (¬3) وهي قصيدة في مائة وخمسين بيتا وقعت من العلماء موقع القبول فأقبلوا على شرحها وكشف محاسنها. مؤلفات الزيدية (2/ 346 رقم 2478) (¬4) تقدمت ترجمته (¬5) تقدمت ترجمته (¬6) هو محمد بن علي بن عطية الحارثي، المكي (أبو طالب) صوفي، متكلم، واعظ، من أهل الجبل. نشأ. بمكة، ودخل البصرة، وقدم بغداد، وتوفي بها سنة (386 هـ). من تصانيفه: "قوت القلوب في معاملة المحبوب" و"وصف طريق المريد إلى مقام التوحيد في التصوف" وفيه شطحات صوفية عديدة. انظر: "تاريخ بغداد" (3/ 89) "وفيات الأعيان" (1/ 122) "النجوم الزاهرة" (4/ 175) " لسان الميزان" (5/ 301 - 303) "ميزان الاعتدال" (3/ 107) " شذرات الذهب" (3/ 120 - 121) ......

أرويه بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الضماض عن محمد بن إبراهيم الفشلي عن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن أيوب الأنصاري عن محمد بن عبد السميع الهاشمي عن علي بن المبارك عن أحمد بن محمد الغزالي عن أخيه حجة الإسلام محمد بن محمد بن محمد الغزالي عن عبد الملك بن يوسف الجويني عن المؤلف .......

حرف الكاف 312 - (الكافل لابن بهران (¬1)): ارويه بالإسناد المتقدم في شرح الأثمار له. 313 - (الكافية لابن الحاجب (¬2)): أرويها بالإسناد المتقدم في الشافية له. 314 - (الكافية لابن مالك (¬3)): أرويها بالإسناد المتقدم في الألفية له. 315 - (كتاب سيبويه (¬4)): أرويه بالإسناد المتقدم في أول هذا المختصر وفي كثير من أبوابه إلى البابلي عن أبي الشنواني عن إبراهيم بن عبد الرحمن العلقمي عن أبي الفضل السيوطي عن محمد بن مقبل عن الصلاح بن أبي عمر عن الفخر بن البخاري عن عمر بن طبرزذ عن أبي بكر الأنصاري عن أبي محمد الجوهري عن أبي على الفارسي عن أبي بكر بن محمد السري السراج عن أبي العباس المبرد عن صالح بن إسحاق الجرمي وأبي عثمان بكر بن محمد ¬

(¬1) واسمه: (الكافل بنيل السؤل في علم الأصول) له عدة نسخ منها نسخة سنه 1063هـ في (37) بالجامع الكبير صنعاء رقم (1140) وأخرى سنه 1049 هـ رقم (77) 0000 الروض الأغن (3/ 113 رقم 846). (¬2) تقدمت ترجمته (¬3) تقدمت ترجمته (¬4) هو عمرو بن عثمان بن قنبر سيبويه (أبو بشر) أديب، نحوي. أخذ النحو والأدب عن الخليل بن أحمد ويونس بن حبيب وأبي الخطاب الأخفش وعيسى بن عمر، وورد بغداد، وناظر ها الكسائي، وتعصبوا عليه. من آثاره: كتاب سيبويه في النحو، مجموعة الأفعال والتصريف. توفي سنة (180 هـ). انظر "وفيات الأعيان " (1/ 487 - 488) "البداية والنهاية" (10/ 176 - 177) "النجوم الزاهرة" (2/ 99 - 100) " معجم المؤلفين" (2/ 584) ......

المازني قالا: أخبرنا سعيد بن مسعدة الأخفش عن المؤلف. 316 - (الكشاف للزمخشري): أرويه بالإسناد المتقدم له في حرف التاء المثناة عند ذكر إسناد التفاسير. 317 - (كشف المرادات على الزيادات للدواري): أرويه بالإسناد المتقدم في الديباج له. 318 - (الكفاية في قوانين الرواية للخطيب البغدادي (¬1)): أرويها بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن إبراهيم اللقاني، عن أبي النصر بن ناصر الدين الطبلاوي عن أبيه عن الجلال السيوطي [عن محمد بن مقبل، عن الحراوي، عن الدمياطي عن ابن المقبر] (¬2) عن الفضل بن سهل الإسفراييني عن المؤلف. 319 - (كفاية المتحفظ للطرابلسي): أرويها بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الشماخي عن محمد بن يونس الأربلي عن حيدر بن محمود اللغوي عن على بن معبد القرشي عن أبيه عن المؤلف. 320 - (الكنز للنسفي (¬3)): ¬

(¬1) هو أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي بن ثابت المعروف بالخطيب البغدادي (أبو بكر) محدث، مؤرخ، أصولي. ولد بدرزيجان من قرى العراق سنة (392 هـ) ونشأ قي بغداد، ورحل وطلع الحديث، وتوفي ببغداد سنة (463 هـ). من تصانيفه: "الكفاية في معرفة علم الرواية"، "الفقيه والمتفقه"، "الجامع لآداب الراوي والسامع"، و"شرف أصحاب الحديث"، " اقتضاء العلم العمل"، "صلاة التسابيح"، " تاريخ بغداد"، " البخلاء". انظر: "وفيات الأعيان (1/ 32 - 33) " معجم الأدباء " (4/ 13/ 45) " طبقات السبكي" (3/ 12 - 16) " تذكرة الحفاظ" (2/ 313 - 321) " شذرات الذهب " (3/ 311 - 312) (¬2) زيادة لازمة لاتصال السند، أثبتها من كتب الأثبات الأخرى (¬3) الكنز وهو (كنز الدقائق) في فروع الحنفية. لخص فيه الوافي بذكر ماعم وقوعه، حاويا المسائل والفتاوى والواقعات، طبع في لندن سنه 1843م وفي مطبعة شرف سنه 1309 هـ وسنة 1311هـ وغيرها ... انظر: معجم سر كيس (2/ 1853) ......

أرويه بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن عبد الله بن محمد النحريري الحنفي عن يوسف ابن زكريا عن أبيه عن الحافظ ابن حجر عن أبي عبد الله المقري عن الكاشغري عن السغناقي عن المؤلف. 321 - (كنز الرشاد وشرح الإرشاد محمد بن الحسن بن القاسم (¬1)): أرويه بالإسناد المتقدم في أول الكتاب إلى إبراهيم بن القاسم عن المؤيد عن شيخه أحمد بن ناصر عن أبيه عن المؤلف. 322 - (الكواكب ليحي بن أحمد بن مظفر (¬2)): أرويها بالإسناد المتقدم في أول الكتاب إلى الإمام القاسم بن محمد عن السيد أمين الدين عن على بن أحمد عن علي بن زيد عن المؤلف. ¬

(¬1) محمد بن الحسن بن الإمام القاسم بن محمد. ولد سنة (1010هـ)، وهو الرئيس الكبير والأمير الخطير ربي في حجر الخلافة وترقى في الكمالات حتى بلغ منها النهاية. وفي سنة (1079هـ) طلع من اليمن إلى صنعاء واجتمع بالإمام المتوكل على الله، مات بدرب السلاطين من الروضة في السنة نفسها. انظر "البدر الطالع" (2/ 159) (¬2) " الكواكب المنيرة على التذكرة والتبيان ". له نسخ منها: نسخه سنة 847هـ بجامع صنعاء رقم (209) فقه. نسخة سنة 1077هـ رقم (1030). نسخة بالمتحف البريطاني سنة 914هـ رقم (3726). الروض اللأغن (3/ 148) ......

حرف اللام 323 - (الأمية الأفعال لابن مالك): أرويها بالإسناد المتقدم في كتاب الألفية لها. 324 - (لسان المتكلمين لابن فورك (¬1)): أرويه بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الشماخي عن أبي علي بن هبة الله الشافعي عن علي بن هبة الله بن عساكر عن عبد الجبار بن محمد بن أحمد الخواري عن أحمد بن الحسين البيهقي عن مؤلفه. 325 - (لسان الميزان لابن حجر): أرويه بالإسناد المتقدم إليه في بلوغ المرام له. 326 - (اللمع للأمير علي بن الحسين (¬2)): أرويه بالإسناد المتصل بالأمر الحسن بن محمد المتقدم في كتاب التقرير له عن المؤلف. 327 - (اللمع لابن إسحاق الشيرازي (¬3)): أرويه بالإسناد المتقدم في التنبيه له. ¬

(¬1) هو محمد بن الحسن بن فورك الأنصاري، الأصبهاني، الشافعي (أبو بكر متكلم، فقيه، مفسر، أصولي أديب واعظ، نحوي، عارف بالرجال. أقام بالعراق مدة، وورد الري، وكثر سماعه بالبصرة والعراق، وحدث بنيسابور. توفي سنة (406 هـ). انظر: "وفيات الأعيان" (1/ 610) " طبقات السبكي " (3/ 52 - 56) " النجوم الزاهرة " (4/ 240) " شذرات الذهب " (3/ 182 - 183) إيضاح المكنون " للبغدادي (1/ 475) (2/ 489) "معجم المؤلفين" (3/ 229 - 230) (¬2) اللمع في أربعة أجزاء، وهو مأخوذ من التجريد والتحرير. له نسخة في مكتبة الجامع الكبير (1006 - 1017) من القرن السابع أو الثامن. انظر: مؤلفات الزيدية (2/ 404) رقم (2659) (¬3) تقدمت ترجمته. وكتابه "اللمع" مطبوع ......

حرف الميم 328 - (مجموع الإمام زيد بن علي (1) " الحديثي"): أرويه بالإسناد المتقدم في أول الكتاب إلى القاضي جعفر بن أحمد بن عبد السلام عن أحمد بن الحسن الكني عن زيد بن الحسن البيهقي عن الحاكم وهب بن الحاكم أبي القاسم عبيد الله الحكاني عن عبد الله بن الحسن بن علي النيسابوري عن محمد بن عبد الله بن المطلب الشيباني عن علي بن محمد النخعي عن سليمان بن إبراهيم المجازي عن نصر بن مزاحم المنقري عن إبراهيم الزبرقان التيمي عن أبي خالد عمرو بن خالد الواسطي عن المؤلف. 329 - (مجموع الإمام زيد بن علي " الفقهي" (¬1)): ¬

(¬1) تقدم ذكر ترجمته. طبع هذا المسند والذي يعرف أيضًا بـ (المجموع الفقهي) منسوبا للإمام زيد مرتين في ميلانو بإيطاليا سنة 1919هـ باعتناء غريفيني، وفي مصر سنة 1340هـ في 399 صفحة وكتب على غلافه: " وهو ما رواه عن أبيه عن جده، ويسمى ب " المجموع الفقهي" لذكره بعض المسائل الفقهية، نفع الله به آمين جمعه عبد العزيز بن إسحاق البغدادي رحمه الله ". وقد تكلم الشيخ احمد شاكر رحمه الله كلاما مفصلا وطيبا تعليقا على هذا الكتاب نختار منه ما قاله في تقديمه لعمل محمد فؤاد عبد الباقي في القيام. بمراجعة ترجمة: " مفتاح كنوز السنة " (ص ع) في معرض حديثه على الأصول التي فهرسها د. أ. ي. فنسنك ما نصه: " ..... والكتاب الرابع عشر: المسند المنسوب للإمام زيد بن علي بن الحسن بن على بن أبي طالب المتوفى شهيدا سنة 122 هـ وهذا الكتاب عمدة في الفقه عن علماء الزيدية من الشيعة لو صحت نسبته إلى الإمام زيد لكان أقدم كتاب موجود من كتب الأئمة المتقدمين إلا أن الرأي له عن زيد رجل لا يوثق بشيء من روايته عند أئمة الحديث وهو أبو خالد عمرو بن خالد الواسطي، رماه العلماء بالكذب في الرواية. قال الإمام أحمد بن حنبل في شأنه: كذاب، وروى عن زيد بن على عن آبائه أحاديث موضوعة" وانظر: - تعليق أحمد شاكر على المحلى (2/ 75) وفي مقدمة كنوز السنة (ص ع). وقال الشوكاني في " البدر الطالع " (2/ 330) في ترجمة السيد يحي بن الحسين ابن الإمام المؤيد بالله محمد ابن الإمام القاسم بن محمد الشهاوي الزيدي) أنه قد تصرف في هذا الكتاب، فقال: " ورأيت بخط السيد يحي بن الحسين، وهو ابن الإمام القاسم بن محمد- أن صاحب الترجمة تواطأ هو وتلامذته على حذف أبواب من " مجموع زيد بن على " وهي ما فيه ذكر الرفع، والضم، والتأمين، ونحو ذلك ثم جعلوا نسخا، وبثوها في الناس، وهذا أمر عظم، وجناية كبيرة وفي ذلك دلالة على مزيد الجهل، وفرط التعصب، وهذه النسخ التي بثوها قي الناس موجودة الآن، فلا حول ولا قوة إلا بالله". والخلاصة: أن هذا الكتاب مكذوب ومنحول على الإمام زيد لعناصر: 1) الراوي عن زيد وهو عمرو بن خالد الواسطي، ذكره المزي في تهذيب الكمال (21/ 603رقم 4357) وذكر أقوال العلماء فيه ومنها: 1 - قال البخاري: منكر الحديث. 2 - قال ابن معين: كذاب عير ثقة ولا مأمون. وقال مرة أخرى: كذاب ليس بشيء. 3 - قال أبو حاتم: متروك الحديث ذاهب الحديث. لا يشتغل به. 4 - قال ابن حيان: كان ممن يروي الموضوعات عن الإثبات، حتى يسبق إلى القلب أنه كان المتعمد لها. 5 - قال ابن عدي: عامة ما يرويه موضوعات. 2) والطامة الأخرى: ممن روى عن الواسطي هذا: (إبراهيم بن الزبرقان وهو حسن الحديث) روى عن هذا، نصر بن مزاحم: رافضي جلد خبيث. كذاب متروك الحديث. انظر الميزان (4/ 253 رقم 9046) ......

أرويه بالإسناد المتقدم قبله. 330 - (مجموع علي خليل): أرويه بالإسناد المتقدم في أول الكتاب إلى القاضي جعفر عن الكني عن توران شاه بن خسرو شاه عن على بن أموج عن القاضي زيد بن محمد الكلاري عن المؤلف .......

331 - (مجمع البحرين (¬1) لابن الساعاتي): أرويه بالإسناد المتقدم أول الكتاب إلى البابلي عن أحمد بن محمد الشلبي عن السيد يوسف بن عبد الله الأرميوني عن أبي الفضل السيوطي عن محمد بن أحمد الغماري عن أبي إسحاق التنوخي عن الحافظ البرزالي عن المؤلف. 332 - (محاسن الأزهار لحميد الشهيد (¬2)): ارويها بالإسناد المتقدم في الديباج إلى الدواري عن القاسم بن أحمد بن حميد عن المؤلف. 333 - (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي للرامهرمزي (¬3)): ارويه بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن أحمد السنهوري عن أحمد بن محمد بن حجر عن زكريا بن محمد عن الحافظ بن حجر العسقلاني عن أبي إسحاق التنوخي عن أبي الفتح محمد بن عبد الرحيم عن عبد الوهاب بن ظافر عن الحافظ السلفي عن المبارك بن عبد الجبار الصيرفي بن الطيوري عن على بن أحمد القالي عن أحمد بن إسحاق النهاوندي عن ¬

(¬1) واسمه: (مجمع البحرين وملتقى النيرين) مخطوط كما في الأعلام للزركلي (1/ 175) (¬2) " محاسن الأزهار في مناقب إمام الأئمة الأبرار " في فضائل ومناقب الأمام أمير المؤمنين وأل البيت من ولده، وهو شرح مبسوط على قصيدة الإمام عبد الله بن حمزة الحسني التي نظمها في فضائل الإمام على وآل البيت وأرسلها إلى الخليفة العباسي الناصر وهى في (43) بيتا. مؤلفات الزيدية (2/ 435 رقم 2737) (¬3) هو الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي (أبو محمد) محدث، حافظ، أديب، شاعر، توفى. بمدينة رامهرمز في حدود (360 هـ). من تصانيفه: " المحدث الفاصل بين الراوي والواعي في علوم الحديث"، "النوادر والشوارد "، "أدب الناطق "، " ربيع المتيم في أخبار العشاق "، و" الفلك في مختار الأخبار والأشعار"، "حاشية على سلم العلوم للبهاري". انظر: "معجم الأدباء" (9/ 5 - 17) " تذكر الحفاظ " للذهبي (3/ 113 - 114) " معجم المؤلفين" (1/ 557) ......

المؤلف. 334 - (المحرر للمجد ابن تيمية): أرويه بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن علي بن إبراهيم الحلبي عن الشمس الرملي عن الزين زكريا عن العز عبد السلام البغدادي عن أبي الطاهر بن الكويك عن زينب بنت الكمال عن المؤلف مجد الدين عبد السلام بن تيمية. 335 - (المختار للفتوى): أرويه بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن عبد الله بن محمد النحريري عن أبيه عن السيد يوسف بن عبد الله الأرميوني عن الجلال السيوطي عن محمد بن علي الألواحي عن عمر ابن محمد البالسي عن زينب بنت الكمال عن المؤلف. 336 - (مختصر (¬1) ابن الحاجب في الأصول المعروف بمختصر (¬2) المنتهى (¬3)): أرويه الإسناد المتقدم في الشافية له. 337 - (مختصره في الفروع): أرويه بذلك الإسناد. 338 - (مختصر خليل (¬4)): ¬

(¬1) طبع في كردستان سنة 1326هـ (¬2) طبع في كردستان سنة 1326هـ (¬3) طبع سنة 1326هـ. بمصر انظر معجم سركيس (1/ 72) (¬4) مختصر خليل: هو كتاب مختصر، قصد فيه إلى بيان المشهور في المذهب المالكي، مجردا عن الخلاف وجع فيه فروعا كثيرة جدا، مع الإيحاز البليغ، وأقبل عليه الطلبة ودرسوه. أما المؤلف: فهو خليل بن إسحاق الجندي كان رحمه الله مجمعا على فضله وديانته، أستاذا ممتعا من أهل التحقيق، ثابت الذهن، أصيل البحت مشاركا في فنون عدة كالعربية والحديث والفرائض صحيح النقل تخرج بين يديه جماعه من الفقهاء الفضلاء. توفي سنة (749 هـ) بالطاعون وقيل غير ذلك [انظر " الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب " (لابن فرحون المالكي) (2/ 357 - 358)] ......

أرويه بالإسناد التقدم إلى البابلي عن سالم بن محمد السنهوري، عن محمد العلقمي عن السيوطي عن عبد الرحمن بن الوارث عن محمد بن محمد الغماري عن المؤلف. 339 - (مختصر ابن عرفة (¬1) " الفقهي"): أرويه بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن يوسف الزرقاني عن الشمس الرملي عن القاضي زكريا عن الحافظ ابن حجر عن المؤلف. 340 - (مختصر القدوري (¬2)): أرويه بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن أحمد بن محمد بن أحمد الشلبي عن يوسف بن زكريا عن والده عن القاضي شمس الدين محمد بن محمد النويري عن إبراهيم بن محمد بن صديق عن أبي العباس الحجار عن جعفر بن علي الهمداني عن أبي طاهر السلفي عن المبارك بن عبد الجبار الطيوري عن المؤلف. 341 - (المدخل لابن الحاج (¬3)): ¬

(¬1) ذكره ابن حجر في المجمع الموسمي (2/ 462 رقم 1244) وسماه (المبسوط في المذهب) (¬2) هو أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر بن حمدان البغدادي، المشهور بالقدوري. الحنفي (أبو الحسين) فقيه، انتهت إليه رياسة أصحاب أبي حنيفة بالعراق، وتوفي ببغداد في رجب سنة (428هـ)، وقد ولد في سنة (362 هـ). من تصانيفه: " مختصر القدوري "، "شرح مختصر الكرخي " في عدة مجلدات، " التقريب الأول في الفقه في خلاف أبي حنيفة وأصحابه، " في مجلد، " التقريب الثاني" في عدة مجلدات، " وأملي التجريد في الخلافيات". انظر: " تاريخ بغداد " (4/ 377) "وفيات الأعيان " (1/ 26) " النجوم الزاهرة " (5/ 24 - 25) "اللباب" لابن الأثير (2/ 247) " البداية والنهاية" لابن كثير (12/ 4) (¬3) هو محمد بن محمد العبدري، الفاسي، الشهير بابن الحاج (أبو عبد الله) عالم مشارك في بعض العلوم. ولد بفاس وتفقه بها، وقدم مصر، وحج، وكف بصره في آخر عمره، وتوفي بالقاهرة في جمادي الأول سنة (737 هـ) وعاش بضعا وثمانين سنة من آثاره: " شموس الأنوار وكنوز الأسرار في علوم الحروف وماهيته"، "المدخل إلى تنمية الأعمال بتحسين النيات والتنبيه على كثير من البدع المحدثة والعوائد المنتحلة"، و"مدخل الشرع الشريف على المذاهب الأربعة"، "بلوغ القصد والمن"، " خواص أسماء الله الحسنى"، و"الأزهار الطيبة النشر". انظر: "الدرر الكامنة" (4/ 237) "إيضاح المكنون للبغدادي" (2/ 57) " معجم المؤلفين" (3/ 682 - 683) ......

أرويه بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن أحمد بن عيسى الكلبي عن الشمس الرملي عن الزين زكريا عن أبي الفضل المرجاني عن محمد بن علي بن ضرغام عن المؤلف. 342 - (مدونة ابن سحنون (¬1)): أرويها بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن أبي النجا سالم بن محمد بن محمد بن أحمد الغيطي عن الزين زكريا عن محمد بن على القياياتي عن عمر البلقيني عن أبي علي الأنصاري عن محمد بن محمد بن سراقة العامري عن أحمد بن يزيد بن تقي القرطبي عن محمد بن عبد الرحمن القرطبي عن محمد بن فرح القرطبي عن أحمد بن محمد بن عيسى عن عبد الرحمن بن أحمد التجيي عن إسحاق بن إبراهيم التجيي عن أحمد بن خالد بن وضلح ¬

(¬1) سحنون: هو عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي، أصله من حمص، نزل والده القيروان مع من نزلها من العرب الأقحاح الذين هاجروا من المشرق العربي، في يمناهم سيف الحق، وفي قلوهم يرتع الإيمان، وعلى جباههم سطر الخلود: الله أكبر. مولده كان في القيروان، بلدة عقبة المجاهد، يوم الفاتح من رمضان المبارك سنة (160 هـ) ولقبه سحنون؛ اسم طائر حديد النظر يعرفه أهل المغرب. وتوفى في رجب سنة (240 هـ) وكان سنه يوم مات ثمانون سنة. [" الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب " لابن فرحون المالكي (2/ 35 - 45)]. . أما مدونة ابن سحنون فهي المرجع المعتمد في المذهب المالكي. حتى قال عنها ابن رشد: " إما عند أهل الفقه ككتاب سيبويه عند أهل النحو، وككتاب إقليدس عند أهل الحساب، وموضعها من الفقه أم القرآن تجزئ عن غيرها، ولا يجزئ غيرها عنها". [انظر: " سحنون مشكاة نور وعلم حق" سعدي أبو جيب (ص 30 - 33) ......

عن المؤلف. 343 - (مراسيل أبي داود (¬1)): أرويها بالإسناد المتقدم في السنن له. 344 - (المزهر للسيوطي): أرويه بالإسناد المتصل به في الجامعين له. 245 - (المسايرة (¬2) لابن الهمام): أرويها بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن الشهاب ابن الشلبي عن الجمال يوسف بن زكريا عن المؤلف. 346 - (مستدرك الحاكم): أرويه عن شيخنا يوسف بن محمد بن علاء الدين المزجاجي عن أبيه عن جده عن الشيخ إبراهيم الكردي. ح- وأرويه عن شيخنا السيد عبد القادر بن أحمد عن شيخه عبد الخالق بن أبي بكر المزجاجي عن محمد بن إبراهيم الكردي. ح- وأرويه عن شيخنا السيد المذكور عن الشيخ علاء الدين بن عبد الباقي عن محمد ابن علاء الدين عن أبيه عن إبراهيم الكردي. ح- وأرويه عن شيخنا المذكور عن شيخه محمد حياة السندي عن سالم بن عبد الله ابن سالم البصري عن أبيه عن إبراهيم الكردي. ح- وأرويه عن شيخنا السيد العلامة عمر بن إبراهيم بن عامر عن شيخه أبي الحسن السندي عن شيخه محمد حياة السندي عن سالم بن عبد الله البصري عن أبيه عن إبراهيم ¬

(¬1) (المراسيل) مطبوع 1408 هـ 1988 - مؤسسة الرسالة تحقيق الشيخ شعيب الأرناؤوط (¬2) طبع مع شرحه للكمال بن أبي شريف المقدسي المري الشافعي بعنوان: " المسامرة على المسايرة " في أصول الدين طبع في بولاق سنة 1317هـ في (284) صفحة " معجم سركيس " (2/ 1568) ......

الكردي. ح- وأرويه عن شيخنا صديق بن علي المزجاجي عن شيخه سليمان بن يحي الأهدل عن أحمد بن محمد الأهدل عن أحمد بن محمد النخلي عن إبراهيم الكردي وإبراهيم الكردي يرويه عن شيخه أحمد بن محمد المدني عن الشمس الرملي عن الزين زكريا عن عبد الرحيم بن محمد بن الفرات عن محمود بن خليفة المنبجي عن علي بن الحسن بن المقير بن أحمد بن طاهر الميهني عن أحمد بن علي بن خلف الشيرازي عن المؤلف. 347 - (المستصفي في أحاديث المصطفى للقريظي (¬1)): أرويه بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الشماخي عن إسماعيل بن محمد الحضرمي عن أبيه عن إبراهيم بن أحمد القريظي عن المؤلف. 348 - (المستقصي في الأمثال (¬2) للزمخشري): أرويه بالإسناد المتقدم في التفسير له. 349 - (المسلسل (¬3) بالأولية): ¬

(¬1) هو محمد بن سعيد بن معن القريظي، اليمني اللحجي، فقيه، محدث، توفي سنة (576 هـ). من تصانيفه: " المستصفي في أحاديث المصطفى"، و"مختصر إحياء علوم الدين" للغزالي. وبعضهم ذكر اسمه بـ (القريظي). انظر "مرآة الجنان " لليافعي (3/ 403) "معجم المؤلفين" (3/ 325) (¬2) المستقصى في أمثال العرب /مطبوع. بمجلدين (¬3) المسلسل لغة: اسم مفعول من (السلسلة) وهي اتصال الشيء بالشيء، ومنه سلسلة الحديد، وكأنه سمي بذلك لشبهه بالسلسلة من ناحية الاتصال والتماثل بين الأجزاء. واصطلاحا: هو تتابع رجال إسناده على صفة أو حالة للرواة تارة، وللرواية تارة أخرى. شرح التعريف: أي أن المسلسل هو ما توالى رواة إسناده على: أ- الاشتراك في صفة واحدة. ب- أو الاشتراك في حالة واحدة لهم أيضًا ج- أو الاشتراك في صفة واحدة للرواية. وأنواعه ثلاثة: المسلسل بأحوال الرواة، المسلسل بصفات الرواة، المسلسل بصفات الرواية. ملحوظة: لا يشترط وجود التسلسل في جميع الإسناد، فقد ينقطع التسلسل في وسطه أو أخره، لكن يقولون وهذا الحالة: (هذا مسلسل إلى فلان). أما أشهر المصنفات فيه: أ- المسلسلات الكبرى للسيوطي، وقد اشتملت على (85) حديثا. ب- المناهل السلسلة في الأحاديث المسلسلة. لمحمد عبد الباقي الأيوبي، وقد اشتملت على (212) حديثا. انظر: " تيسير مصطلح الحديث " للدكتور محمود الطحان (ص185 - 188) ......

أرويه بالإسناد السابق إلى البابلي عن الشهاب أحمد بن محمد الشلبي عن يوسف بن زكريا الأنصار عن إبراهيم بن علي بن أحمد القلقشندي عن أحمد بن محمد المقدسي عن محمد بن محمد بن إبراهيم الميدومي عن عبد اللطيف بن عبد المنعم الحراني عن أبي الفرج ابن الجوزي عن إسماعيل بن أبي صاع النيسابوري عن أبيه عن محمد بن محمد بن مخمش الزيادي عن أبي حامد محمد بن محمد البزار عن عبد الرحمن بن ريش عن الحكم النيسابوري عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال:"الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" (¬1). وكلا من هؤلاء يقول هو أول حديث سمعه من شيخه. 350 - (المسلسل بالفقهاء): أرويه بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن سالم بن محمد السنهوري عن محمد بن أحمد ¬

(¬1) أخرجه أبو داود رقم (4941) والترمذي رقم (1925) وأحمد (2/ 160) والحميدي في "المسند " رقم (591) والحاكم في " المستدرك " (4/ 195) وصححه ووافقه الذهبي. وسكت عليه الحافظ في "الفتح" (13/ 359). وهو حديث صحيح انظر الصحيحة (رقم 925) ......

الغيطي عن زكريا الأنصاري عن الحافظ بن حجر العسقلاني عن أبي بكر ابن عبد العزيز ابن محمد بن إبراهيم بن جماعة عن جده محمد عن عمر بن عبد الله بن صاع السبكي عن علي بن المفضل المالكي عن أبي طاهر السلفي عن علي بن محمد الطبري عن عبد الملك ابن عبد الله بن يوسف الجويني عن أبيه عن أحمد بن الحسن الخري عن محمد بن يعقوب الأصم عن الربيع بن سليمان عن الإمام الشافعي عن الإمام مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "المتبايعان كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار" (¬1). 351 - (المسلسل بيوم العيد): سمعته عن شيخي السيد العلامة عبد القادر بن أحمد في يوم عيد بإسناده المتصل بالبابلي كما تقدم في أول الكتاب عن سالم السنهوري عن محمد بن عبد الرحمن العلقمي عن السيوطي عن محمد بن محمد بن فهد عن محمد بن عبد الله بن طهيرة عن محمد بن أحمد الأنصاري عن أبي عمر بن محمد التوزي عن علي بن هبة الله الجميزي عن أبي طاهر السلفي عن عبيد الله بن علي الأبنوسي عن أبي الطيب الطبري عن أبي أحمد بن الغطريف عن ابن ذاهب الوراق عن أحمد بن محمد ابن أخت سليمان بن حرب عن سفيان الثوري عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال شهدت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يوم عيد فطر أو أضحى فلما فرغ من الصلاة أقبل علينا بوجهه الكريم فقال: " أيها الناس قد أصبتم خيرا فمن أحب أن ينصرف فلينصرف ومن أحب أن يقيم حتى يسمع الخطبة فليقم " (¬2). وكل واحد من هؤلاء الرواة سمعه من شيخه في يوم ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (2112 و2113) ومسلم في صحيحه (43/ 1531) (¬2) وهو حديث ضعيف. أخرجه أبو داود رقم (1155) والنسائي (3/ 185) وابن ماجه (رقم: 1290) وابن الجارود رقم (264) والدارقطني (2/ 50) والحاكم (1/ 295) والبيهقي في " السنن الكبرى " (3/ 301) من طريق الفضل بن موسى، أنا ابن جريج، عن عطاء، عن عبد الله بن السائب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: شهدت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العيد، فلما قضى الصلاة قال: " إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب". قال أبو داود: هذا مرسل عن عطاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال النسائي: هذا خطأ والصواب أنه مرسل ... كما في نصب الراية للزيلعي (2/ 221). قلت: والصواب في هذا الحديث انه مرسل عن عطاء كما قال النسائي، وقال هذا أيضًا أبو زرعة الرازي في "العلل" لابن أبي حاتم (1/ 180) والمنذري في "مختصر السنن" (2/ 32) ......

352 - (المسلسل بالمصافحة): أرويه بالإسناد السابق إلى البابلي، عن أبي بكر بن إسماعيل عن إبراهيم بن عبد الرحمن العلقمي عن السيوطي عن أحمد بن محمد الشمني عن أبي الطاهر بن الكويك عن إبراهيم بن على عن أبي عبد الله الخوي عن أبي المجد بن الحسن القزويني عن إبراهيم بن أحمد الشحاذي عن أبي الحسن بن أبي زرعه عن عبد الرحمن بن عبد الله البزازي عن عبد الملك بن مجيد عن عبدان بن حميد المنبجي عن عمر بن سعيد عن أحمد بن دهقان عن خلف بن تميم، قال دخلنا على أبي هرمز نعوده قال دخلنا على أنس بن مالك نعوده قال: " صافحت بكفي هذه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فما مست خزا ولا حريرا ألن من كفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ" (¬1). قال أبو هرمز فقلنا لأنس صافحنا بالكف التي صافحت بها رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فصافحنا ثم قال كل راو من المذكورين في السند لشيخه صافحنا بالكف التي صافحت بها شيخك فلانا فصافحنا صافحت أنا شيخي السيد عبد القادر بن أحمد رحمه الله. 353 - (المسلسل بالمحبة): ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (3561) ومسلم في صحيحه رقم (81/ 2330) ......

أرويه عن شيخي المذكور بإسناده المتقدم إلى البابلي عن على بن محمد عن إبراهيم بن عبد الرحمن العلقمي عن السيوطي عن أحمد بن محمد الحجازي عن إسماعيل بن إبراهيم الحنفي عن أبي سعيد العلاني عن أحمد بن محمد الأرموي عن عبد الرحمن بن مكي عن أبي طاهر السلفي عن محمد بن عبد الكريم عن أبي علي بن شاذان عن أحمد بن سليمان النجاد عن أبي بكر بن أبي الدنيا عن الحسن بن عبد العزيز الجزوي عن عمر بن مسلم التنسي (¬1) عن الحكم بن عبده الشيباني عن حياة بن شريح عن عقبة بن سالم عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن الصنابحي عن معاذ بن جبل قال قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " يا معاذ إني احبك قل اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" (¬2) وفي رواية (¬3): "أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك". قال الصنابحي قال لي معاذ وأنا أحبك وهكذا قال كل رجل من رجال السند لمن روى عنه وأنا قال لي شيخنا المذكور كذلك. 354 - (وسائر المسلسلات): ¬

(¬1) في حاشية المخطوط ما نصه (بفتح أوله وثانيه وسين مهملة نسبة إلى تونس مدينة على البحر في ساحل إفريقية). وهي تونس اليوم المدينة المعروفة. هكذا قال ياقوت. (¬2) وهو حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 244 - 245) والنسائي في "عمل اليوم والليلة"رقم (109) وأبو داود رقم (1522) من طرق عن المقرئ، حدثنا حيوة بن شريح قال: سمعت عقبة بن مسلم يقول حدثني أبو عبد الرحمن الحبلي، الصنابحي. عن معاذ بن جبل أن رسول الله عليه وسلم أخذ بيده وقال: "يا معاذ والله إني لأحبك والله إني لأحبك" فقال: "أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك". وأوصى بذلك معاذ الصنابحي، به وأوصى به الصنابحي أبا عبد الرحمن. وأخرجه أحمد (5/ 248) والنسائي (3/ 53) وفي "عمل اليوم والليلة" رقم (117) من طرق عن حيوة بن شريح، به (¬3) وهو حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 244 - 245) والنسائي في "عمل اليوم والليلة"رقم (109) وأبو داود رقم (1522) من طرق عن المقرئ، حدثنا حيوة بن شريح قال: سمعت عقبة بن مسلم يقول حدثني أبو عبد الرحمن الحبلي، الصنابحي. عن معاذ بن جبل أن رسول الله عليه وسلم أخذ بيده وقال: "يا معاذ والله إني لأحبك والله إني لأحبك" فقال: "أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك". وأوصى بذلك معاذ الصنابحي، به وأوصى به الصنابحي أبا عبد الرحمن. وأخرجه أحمد (5/ 248) والنسائي (3/ 53) وفي "عمل اليوم والليلة" رقم (117) من طرق عن حيوة بن شريح، به ......

أرويها من طريق شيخنا المذكور عن شيخه الحافظ محمد بن الطيب المغربي بإسناده الذي ذكره في كل واحد منها في كتابه الذي حماه الموارد السلسلة من عيون الأسانيد المسلسلة وقد جمع فيه أحاديث لا توجد في غيره كلها مسلسلة وتكلم بعد كل حديث على إسناده ومن أخرجه من المصنفين فليرجع إلى ذلك. 355 - (مسند الإمام الشافعي): أرويه بالإسناد المتقدم في مستدرك الحاكم إلى الزين زكريا عن الحافظ بن حجر عن الصلاح بن أبي عمر عن الفخر بن البخاري عن القاضي أبي المكارم أحمد بن محمد اللبان عن الحسن بن أحمد الحداد عن الحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني عن محمد بن يعقوب الأصم عن الربيع بن سليمان عن المؤلف. 356 - (مسند الإمام أحمد بن حنبل): أرويه بالإسناد السابق إلى الفخر بن البخاري عن حنبل بن عبد الله بن الفرح عن هبة الله بن محمد بن عبد الواحد بن الحسن عن الحسن بن علي التميمي عن أحمد بن جعفر القطيعي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه المؤلف. 357 - (مسند الدارمي): أرويه بالإسناد المتقدم إلى الزين زكريا عن محمد بن مقبل الحلبي عن جويرية بنت أحمد الكردي الهكاري عن علي بن محمد الكردي الهكاري عن أبي المنجا عبد الله بن عمر اللتي عن أبي الوقت عن الداودي عن السرخسي عن عيسى بن عمر السمرقندي عن المؤلف. 358 - (مسند أبي داود الطيالسي): أرويه بالإسناد السابق إلى الفخر بن البخاري عن أبي المكارم ابن اللبان عن أبي علي الحداد عن أبي نعيم الحافظ عن عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس الأصبهاني عن يونس ابن حبيب العجلي عن المؤلف. 359 - (مسند عبد بن .... .... .... .... .... .... .........

حميد (¬1)): أرويه بالإسناد السابق في مسند الدارمي إلى جويرية بنت الهكاري عن أبي الحسن الكردي عن أبي المنجا بن اللتي عن أبي الوقت عن الداودي عن السرخسي عن إبراهيم ابن خريم الشاشي عن المؤلف. 360 - (مسند البزار (¬2)): أرويه بالإسناد المتقدم إلى الزين زكريا عن الحافظ ابن حجر عن أحمد بن أبي بكر المقدسي عن يحي بن محمد بن سعد عن جعفر بن على عن محمد بن عبد الرحمن الحضرمي عن عبد الرحمن بن محمد بن عتاب عن أبيه عن القاضي أبي أيوب سليمان بن خلف عن القاضي محمد بن أحمد بن ير بن مفرح عن محمد بن أيوب بن حبيب الرقي المعروف بالصموت عن المؤلف. 360 - (مسند أبي يعلى (¬3)): ارويه بالإسناد المتقدم إلى الفخر بن البخاري عن أبي روح عبد العزيز بن محمد الهروي ¬

(¬1) هو عبد بن حميد بن نصر الكشي (أبو محمد) محدث، حافظ، جوال، مفسر، توفي في دمشق سنة من أثاره: "المسند الكبير"، "وتفسير القرآن". انظر: "شذرات الذهب" (2/ 120) "البداية والنهاية" (11/ 4) "تهذيب التهذيب" (6/ 455) (¬2) هو الشيخ الإمام، الحافظ الكبير، أبو بكر، احمد بن عمرو بن عبد الخالق، البصري البزار، صاحب "المسند" الذي تكلم على أسانيده. ولد سنة نيف عشرة ومائتين. وجمع هدية بن خالد، وعبد الأعلى بن حماد، وعبد الله بن معاوية الجمحي، حدث عنه: ابن قانع، وابن نجيع، وغيرهم. انظر: "سير أعلام النبلاء" (13/ 554) - وما بعدها) (¬3) هو أحمد بن على بن المثني بن يحي بن عيسى بن هلال التميمي، الموصلي (أبو يعلى) محدث ولد في 3 شوال سنة (210 هـ) وقيل غير ذلك. وتوفي سنة (307 هـ)

عن تميم بن أبي سعيد الجرجاني عن أبي سعيد محمد بن عبد الرحمن الكنجرودي عن محمد ابن حمدان عن المؤلف. 362 - (مسند الإمام أبي حنيفة للحسين بن محمد بن خسرو البلخي (¬1)): أرويه بالإسناد المتقدم إلى الفخر بن البخاري عن بركات إبراهيم الخشوعي عن المؤلف. 363 - (مسند الشهاب للقضاعي (¬2)): أرويه بالإسناد المتقدم أيضًا إلى الفخر بن البخاري عن عبد الوهاب بن علي بن سكينه عن محمد بن عبد الباقي الأنصاري عنه. 364 - (مسند الفردوس للديلمي): أرويه بالإسناد المتقدم إلى الحافظ ابن حجر عن أبي إسحاق التنوخي عن الحجار عن محمود بن محمد بن محمد بن النجار عن المؤلف. 365 - (مشارق الأنوار للصغاني (¬3)): أرويها بالإسناد المتقدم في مستدرك الحاكم إلى إبراهيم الكردي عن شيخه احمد بن ¬

(¬1) هو الحسين بن محمد بن خسرو البلخي، ثم البغدادي، الحنفي (أبو عبد الله)، محدث جمع مسند أبي حنيفة، وخرج تخاريج، وتوفي في شوال سنة (520 هـ). انظر: "لسان الميزان" (2/ 312 - 313) "معجم المؤلفين" (1/ 637) (¬2) قد قدمت ترجمه (¬3) هو الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر القرشي، العدوي العمري الصاغاني، الحنفي (رضي الدين، أبو الفضائل). ولد بلاهور سنة (577 هـ) وتوفي ببغداد سنة (650 هـ). من تصانيفه: "مجمع البحرين"، "العباب الزاهر واللباب الفاخر"، "مشارق الأنوار النبوية من صحاح الأخبار المصطفوية"، "التذكرة الفاخرة"، "الشوارد في اللغة"، "شرح البخاري". انظر: "النجوم الزاهرة" (7/ 26) "شذرات الذهب" (5/ 250) "الجواهر المضيئة" (1/ 201) "الفوائد البهية" (ص 63 - 64) "البدر الطالع" (1/ 210)

محمد المدني عن أحمد بن على الشناوي عن محمد بن أحمد النهرواني عن عبد الرحمن بن علي الديبع عن أحمد بن عبد اللطيف الشرجي عن نفيس الدين العلوي عن المجد صاحب القاموس عن السراج عمر بن علي القزويني عن صاع بن عبد الله الأسدي الكوفي عن المؤلف. 366 - (المشكاة للتبريزي (¬1)): أرويها بالإسناد المتقدم إلى إبراهيم الكردي عن شيخه أحمد بن محمد بن محمد المدني عن أحمد بن على العباسي الشناوي عن السيد غضنفر بن جعفر النهراوني عن محمد بن سعيد المشهور. بمير كلان عن نسيم الدين مير كشاه عن والده عطا الله بن غياث الدين عن السيد عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد اللطيف الشيرازي عن عبد الرحيم بن عبد الكريم الصديقي عن علي بن مبارك شاه الصديقي عن المؤلف. 367 - (مشيخة الفخر بن البخاري (¬2)): ¬

(¬1) هو محمد بن عبد الله الخطب التبريزي، العمري (ولي الدين). محدث كمل المصابيح في الحديث، وذيل أبوابه وفرغ منه سنة (737 هـ). انظر "معجم المؤلفين" (3/ 437) (¬2) المشيخة: هي الكتب المشتملة على ذكر الشيوخ الذين لقيهم المؤلف، وأخذ عنهم، أو أجازوه وإن لم يلقهم. "الرسالة المستطرفة" لمحمد بن جعفر الكتاني (ص 140)]. الفخر ابن البخاري: هو على بن أحمد بن عبد الواحد الأنصاري، السعدي، المقدسي، الصالحي الحنبلي الشهير بابن البخاري. ولد في آخر سنة خمس وتسعين وخمسمائة أو أول سنة ست وتسعين وخمسمائة. وقد نشأ في بيئة علمية عريقة في العلم والفضل. وأخذ الفخر بن البخاري عن شيوخ عدة ذكرت في مشيخته. وكانت وفاته رحمه الله ضحى الأربعاء ثاني شهر ربيع الآخر سنة تسعين وستمائة ودفن عند والده بسفح قاسيون. ["ذيل طبقات الحنابلة" لا بن رجب (2/ 325) و"النجوم الزاهرة" (8/ 32) و"شذرات الذهب" (5/ 414) ومشيخة بدر الدين بن جماعة (1/ 388)] أما كتاب مشيخة ابن البخاري فقد نشر من المخطوطة مصورة. تخريج الحافظ جمال الدين ابن الظاهري (626 - 696 هـ) إعداد: محمد بن ناصر العجمي. وانظر: الفهرس الشامل (3/ 1486) الحديث وعلومه. فقد ذكر النسخ المخطوطة لهذا الكتاب وأماكن وجودها وتواريخ هذه المخطوطات. وكذلك ذكرت في الروض الأغن

أرويها بالإسناد المذكور قريبا إليه. 368 - (المصابيح للبغوي): أرويها بالإسناد المتقدم في أول الكتاب إلى البابلي عن على بن يحي الزيادي عن أحمد ابن محمد الرملي عن محمد بن عبد الرحمن السخاوي عن العز عبد الرحيم بن الفرات عن الصلاح بن أبي عمر عن الفخر بن البخاري عن فضل الله بن أبي سعيد النوقاني عن المؤلف. 369 - (المفصل للزمخشري): أرويه بالإسناد المتقدم في التفسير له. 370 - (المطول للسعد): قد تقدم في حرف الشين. 371 - (معالم التنزيل للبغوي): أرويها بالإسناد المتقدم قريبا إلى الفخر بن البخاري عن فضل الله بن أبي سعد النوقاني عن المؤلف وقد تقدم إسناده. 372 - (معاني الآثار للطحاوي): أرويها بالإسناد المتقدم في أول الكتاب إلى البابلي عن عبد الله بن محمد النحريري عن يوسف بن زكريا عن أبيه عن الحافظ ابن حجر عن الشرف أبي الطاهر بن الكويك عن زينب بنت الكمال المقدسية عن محمد بن عبد الهادي عن محمد بن أبي بكر المديني عن إسماعيل بن الفضل بن أحمد السراج عن منصور بن الحسين التاني عن محمد بن إبراهيم

المقري عن المؤلف. 373 - (معجم الطبراني (¬1) الكبير): أرويه بالإسناد المتقدم قريبا إلى الفخر بن البخاري عن أبي جعفر الصيدلاني عن فاطمة بنت عبد الله الجوزذانية عن محمد بن عبد الله الأصبهاني عن الطبراني. 374 - (المعجم الأوسط له): أرويه هذا الإسناد إلى الصيدلاني عن أبي علي الحداد عن أبي نعيم عن المؤلف. 375 - (المعجم الصغير له): أرويه بالإسناد المذكور إلى أبي نعيم عن المؤلف. 376 - (المعيار للنجري (¬2)): أرويه بالإسناد المتقدم إلى محمد بن يحي بهران في شرح الأثمار عن المؤلف. ¬

(¬1) هو سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي، الطبراني (أبو القاسم) والطبراني نسبة إلى طبرية في فلسطين، محدث، حافظ. ولد بطبرية الشام سنة (260 هـ) في صفر، ورحل في طلب الحديث إلى الشام والعراق والحجاز واليمن ومصر وبلاد الجزيرة الفرائية، وسمع الكثير، وتوفي بأصبهان في ذي القعدة سنة (360 هـ). له من المؤلفات الكثيرة: "المعاجم الثلاثة الكبير والأوسط والصغير"، "الدعاء" في مجلد كبير، "دلائل النبوة"، "كتاب الأوائل"، "تفسير كبير"، طرق من حديث (من كذب علي) ما انتخبه الطبراني لابنه أبي ذر، "مختصر مكارم الأخلاق"، "المكارم وذكر الأجواد". انظر: "وفيات الأعيان" (1/ 269) "النجوم الزاهرة" (4/ 59 - 60) "البداية والنهاية" (11/ 270) "تذكرة الحفاظ " (3/ 118 - 123) "شذرات الذهب" (3/ 30) (¬2) "واسمه" معيار أغوار الأفهام في الكشف عن مناسبات الأحكام. ذكر مناسبات الأحكام وتعليلاتها في الفروع الفقهية يمكن أن يستخرج بها تعريفات مستغربة، وبأوله مقدمة في مطلق التكليف وقسمته. بلغ في الكتاب إلى أحكام ثبوت الملك ولم يتمه. المؤلفات الزيدية (3/ 38 رقم 2949)

377 - (المعيار (¬1) للمهدي): أرويه بالإسناد المتقدم إليه في البحر له. 378 - (المغني لابن هشام): أرويه بالإسناد المتقدم في كتاب الشذور وكتاب القطر له. 379 - (مفاتيح الغيب للرازي): قد تقدم إسناده في حرف التاء المثناه. 380 - (المقامات للحريري (¬2)): أرويها بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الشماخي عن سليمان بن خليل المكي عن نصر بن أبي الفتح بن على الحضري عن أبي بكر بن عبد الله بن النقور البغدادي عن المؤلف. ¬

(¬1) معيار العقول في علم الأصول "وهو الكتاب السابع من موسوعته " البحار الزخار" وهو مرتب على مقدمة وأحد عشر بابا هي:- الأوامر، العموم والخصوص، المجمل والمبين، الناسخ والمنسوخ، الأخيار، الأفعال، الإجماع، الاجتهاد، الحظر والإباحة، اللواحق في هذا الفن فرغ من تأليفه وهو في حراز. مؤلفات الزيدية (3/ 38 رقم (2950) (¬2) هو القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري، البصري، الحرامي، الشافعي، (أبو محمد) أديب، لغوي، نحوي، ناظم، ناثر. ولد بقرية المشان من أعمال البصرة في حدود سنة (446 هـ)، وسكن محلة بي حرام بالبصرة، وقرأ الأدب على أبي القاسم الفضل بن محمد القصباني البصري، وتوفي بالبصرة سنة (516 هـ). من آثاره: "المقامات"، "درة الغواص في أوهام الخواص"، "منظومة ملحة الإعراب في النحو وشرحها"، رسائله المدونة، ديوان شعر. انظر: "وفيات الأعيان" (1/ 530 - 533)، "معجم الأدباء" (16/ 261 - 293)، "تذكرة الحفاظ" (4/ 51)، "البداية والنهاية" (12/ 191 - 193)، "النجوم الزاهرة" (5/ 225)، " الكامل في التاريخ" (10/ 212)، "معجم المؤلفين" (2/ 645)

381 - (المقاصد للسعد التفتازاني): أرويها بالإسناد المتقدم إليه فيما سبق من مصنفاته كشرحيه للتلخيص ونحوهما. 382 - (المقنع لابن قدامة الحنبلي (¬1)): أرويه بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن الشيخ محمد الحجازي الواعظ عن عبد الوهاب الشعراوي عن السيوطي عن محمد بن مقبل عن الصلاح بن أبي عمر عن الفخر بن البخاري عن المؤلف. 383 - (المقصد الحسن لابن حابس): أرويه بالإسناد المتقدم في أول الكتاب إلى أحمد بن سعد الدين عن المؤلف 384 - (مكارم الأخلاق للطبراني): أرويه بالإسناد المتقدم في المعاجم له .. 385 - (ملحة الإعراب للحريري): أرويها بالإسناد المتقدم في المقامات له. ¬

(¬1) هو عبد الله بن أحمد بن محمد قدامة المقدسي الجماعيلي، ثم الدمشقي، الصالحي، الحنبلي (أبو محمد، موفق الدين) عالم، فقيه، مجتهد. ولد في أعيل من عمل نابلس في شعبان سنة (541 هـ) هاجر من ظلم الصليبين قي القدس مع أبيه وأخيه، فحفظ القرآن واشتغل في العلم من صغره، وارتحل إلى بغداد صحبه ابن حالته الحافظ عبد الغني، وجمع بالبلاد من المشايخ، وكان إماما في علم الخلاف والفرائض والأصول والفقه والنحو والحساب. ثم رجع إلى دمشق وتوفي بها يوم عيد الفطر سنة (620 هـ) ودفن في سفح قاسيون بالروضة. من تصانيفه: "البرهان في علوم القرآن"، "المغني في شرح مختصر الخرقي" طبع، " التبيين في أنساب القرشيين"، "الروضة في الأصول" وغير ذلك. انظر: "البداية والنهاية" (13/ 99 - 100)، "شذرات الذهب" (5/ 88 - 92)، "النجوم الزاهرة" (6/ 256)، "معجم المؤلفين" (2/ 227)

386 - (المنار (¬1) للمقبلي): أرويه بالإسناد السابق إليه في العلم الشامخ له. 387 - (المناهل (¬2) للشيخ لطف الله): أرويها بالإسناد المتقدم إليه. 388 - (المنحة (¬3) للسيد محمد بن إسماعيل الأمير (¬4)): أرويه عن شيخي السيد عبد القادر عن المؤلف. 389 - (المنتخب): ارويه بالإسناد المتقدم في كتاب الأحكام للمؤلف. ¬

(¬1) حاشية على "البحر الزخار" دونها المؤلف عند المذاكرة مع بعض ذرية المصطفى وأودع فيها تحقيقات وخرج ما في الأصل من الأحاديث تمت في 26 ذي القعدة سنة 1102 هـ محاذيا للصفاء من جبل أبي قبيس. بمكة المكرمة. " مؤلفات الزيدية" (3/ 54 رقم 3004) (¬2) "المناهل الصافية في شرح الشافية" جعله كالمختصر لشرح الرضي على الشافية وتدارسوه في حوزاتهم العلمية. فرغ المؤلف منه في تاسع شهر رجب سنة 1026هـ. " مؤلفات الزيدية" (3/ 59 رقم 3021) (¬3) "منحة الغفار على ضوء النهار" حاشية على "ضوء النهار" في مجلدين ضخمين. " مؤلفات الزيدية" (3/ 68 رقم 3045) (¬4) هو محمد بن إسماعيل بن صلاح الكحلاني ثم الصنعاني، ويعرف بالأمير، محدث، فقيه، أصولي، مجتهد، متكلم من أئمة اليمن. ولد في نصف جمادي الآخرة، سنة (1099هـ). وانتقل إلى صنعاء، وأخذ عن علمائها بكحلان، ثم رحل إلى الحرمين، وتوفي بصنعاء في 3 شعبان سنة (1182هـ). من تصانيفه: "سبل السلام في شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام لابن حجر العسقلاني"، " تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد"، "ممرات النظر في علم الأثر في مصطلح الحديث"، "إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد"، "توضيح الأفكار في شرح تنقيح الأنظار في علوم الحديث". انظر: "البدر الطالع" (2/ 133 - 139) "هدية العارفين" للبغدادي (2/ 338)

390 - (المنتقى للمجد بن تيمية): أرويه بالإسناد المتقدم في المحرر له. 391 - (المنهاج للبيضاوي): أرويه بالإسناد السابق إلى البابلي عن سالم بن محمد عن عبد الرحمن العلقمي عن السيوطي عن أبي الفضل المرجاني عن أبي هريرة عبد الرحمن بن الحافظ الذهبي عن عمر ابن إلياس المراغي عن المؤلف. 392 - (المنهاج الجلي شرح مجموع زيد علي للإمام محمد بن المطهر): أرويه بالإسناد المتصل به المذكور في كتاب [عقود البيان (¬1)]. 393 - (المنهاج (¬2) للقرشي): أرويه بالإسناد المتقدم في أول الكتاب إلى الأمام شرف الدين عن السيد صارم الدين عن إسماعيل بن أحمد بن عطية عن السيد عبد الله بن المهدي عن المؤلف. 394 - (المنهاج لابن تيمية): أرويه بالإسناد السابق في حادي الأرواح إلى ابن القيم. المؤلف. 395 - (المنهاج للنووي): أرويه بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن علي بن يحيى الزيادي عن يوسف بن عبد الله الأرميوني عن السيوطي عن صاع بن عمر البلقيني عن أبيه عن الحافظ يوسف بن عبد الرحمن المزي عن المؤلف. ¬

(¬1) في المخطوط الإبانة والصواب ما أثبتناه. (¬2) "منهاج السلامة في مسائل الإمامة" يقتصر به على الحاكم أبي سعيد الجشمي. مما خالف مذهب الهدوية في مسائل الإمامة في كتابه " شرح عيون المسائل" ألفة قبل سنة 478 هـ

396 - (المواقف للعضد (¬1)): أرويها بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن محمد بن على الأجهوري عن عمر بن الجائي عن السيوطي عن محمد بن أحمد المخزومي عن التقى يحي بن محمد الكرماني عن أبيه عن المؤلف. 397 - (المواهب القدسية للمهلا (¬2)): أرويها بالإسناد المتقدم عن السيد إبراهيم بن قاسم بن المؤيد عن أخيه الحسن عن أبيه القاسم بن محمد بن القاسم عن المؤلف. ¬

(¬1) هو عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار بن أحمد الإيجي الشيرازي، الشافعي، (عضد الدين) عالم مشارك في العلوم العقلية والأصلين والمعاني والبيان والنحو والفقه وعلم الكلام. ولد بإيج من نواحي شيراز سنة (708 هـ). وتوفي مسجونا بقلعة دريميان سنة (756 هـ). من مؤلفاته: "الرسالة العضدية في الوضع"، "الفوائد الغياثية في المعاني والبيان"، "شرح منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل"، "المواقف في علم الكلام"، "آداب البحث العضدية". انظر: "طبقات السبكي" (6/ 108)، "الدرر الكامنة" (2/ 323)، "شذرات الذهب" (6/ 174)، "البدر الطلع" (1/ 326 - 327)، "معجم المؤلفين" (2/ 76) (¬2) قال الشوكاني في "البدر الطالع" (1/ 231 - 232): (الحسين بن ناصر بن عبد الحفيظ المعروف كسلفه بالمهلا الشرفي اليماني العالم الكبير صاحب" المواهب القدسية شرح البوسية "وهو شرح نفيس يبين ما اشتملت عليه القصيدة من المعاني والمسائل ثم ينقل الدليل ويحرره تحريرا قويا، وينقل من "ضوء النهار" للجلال مباحث ويجيب عليه في كثير من ذلك ويصفه بأنه شيخه في العلم وبالجملة فهو شرح مفيد وقفت على مجلدات منه، وبلغني أنه في سبع مجلدات، وهذه المنظومة التي شرحها هي في الفقه للبوسي على نمط الشاطبية في الوزن والروى والقافية والإشارات إلى مذاهب العلماء بالرمز مع جودة الشعر وقوته وسلاسته. وجملة أبياتها أربعة ألاف بيت وخمسمائة وثمانون بيتا. والبوسي المذكور هو أحد علماء الزيدية بالديار اليمنية، ولصاحب الترجمة مؤلفات هذا أشهرها وقد ترجم له الحيمي في "طيب السمر" توفي شهيدا سنة (1111 هـ)

398 - (المؤتلف والمختلف لعبد الغني الأزدي (¬1)): أرويه بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الشماخي عن أبي بكر بن أحمد السراجي عن نصر بن أبي الفرج الحضري عن محمد بن أحمد بن سليمان عن ابن الطيوري عن محمد ابن علي الصوري عن المؤلف. 399 - (الموطأ للإمام مالك بن أنس): أرويه بالإسناد المتقدم في مستدرك الحاكم إلى إبراهيم الكردي عن أحمد بن محمد المدني عن الشصى الرملي عن الزين زكريا عن الحافظ ابن حجر عن عمر بن حسن بن أميلة المراغي عن أحمد بن إبراهيم الفاروق عن إبراهيم بن يحي بن حفاظ المكناسي عن محمد بن محمد بن سعيد بن زرقون عن أحمد بن محمد بن غلبون عن أبي عمر بن أحمد القبجاطي عن يحي بن عبد الله بن يحي عن عم أبيه أبي مروان عبيد الله بن يحي عن أبيه يحي بن يحي عن المؤلف. ¬

(¬1) هو عبد المغني بن سعيد بن بشر بن مروان بن عبد العزيز بن مروان الأزدي، المصري (أبو محمد) محدث، حافظ، نسابة. ولد سنة (332 هـ). وتوفي سنة (409 هـ). من تصانيفه: "المؤتلف والمختلف في أسماء الرواة"، "مشتبه النسبة"، "آداب المحدثين"، "كتاب المتوارين ذكر فيه من هرب من الحجاج وتوارى عنه"، "كتاب الغوامض"، و"كتاب آداب المحدثين"، "الرباعيات في الحديث"، "الغوامض والمبهمات"، "الفوائد المنتقاة عن الشيوخ الثقات"، "كشف الأوهام". انظر: "وفيات الأعيان" (1/ 384)، "تذكرة الحفاظ" (3/ 235 - 236)، "حسن المحاضرة" للسيوطي (1/ 199)

المؤلفات 400 - (مؤلفات السعد التفتازاني): أرويها بالإسناد المتقدم في مستدرك الحاكم إلى الشيخ إبراهيم الكردي عن شيخه السيد عبد الكريم بن أبي بكر بن هداية الله الكوراني الحسيني عن الشمس الرملي عن الزين زكريا عن النجم عمر بن فهد عن الجمال المرشدي عن حسن بن علي بن حسن الأبيوردي عن المؤلف. 401 - (مؤلفات ابن صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود بن تاج الشريعة البخاري كالتنقيح والتوضيح وغيرهما): أرويها بالإسناد المتقدم إلى إبراهيم الكرستة إلى الزين زكريا عن الحافظ ابن حجر العسقلاني عن محمد بن محمد البخاري الحافظي عن حافظ الدين أبي طاهر البخاري عن المؤلف. 402 - (مؤلفات أب المحامد محمود الحضري كشرحي الجامع الكبير وغيرهما): أرويها بالإسناد المتقدم إلى الزين زكريا عن العز بن الفرات عن أبي الثناء المنبجي عن الحافظ الدمياطي عن الحافظ المنذري عن المؤلف. 403 - (مؤلف الحسن بن منصور الفرغاني (¬1) المعروف بقاضي خان كشرح الجامع الصغير والفتاوى): ¬

(¬1) هو الحسن بن منصور بن محمود بن عبد العزيز الأوزجندي، الفرغاني، الحنفي، المعروف بقاضي خان. (فخر الدين، أبو المفاخر، أبو المحاسن) فقيه مجتهد في المسائل. توفي في منتصف رمضان سنة (592 هـ). من تصانيفه: "الفتاوى" في أربع مجلدات، "المحاضر"، "شرح أدب القاضي للخصاف"، " شرح الزيادات" للشيباني، "شرح الجامع الصغير" للشيباني في فروع الفقه الحنفي. انظر "شذرات الذهب" (4/ 308) "الفوائد البهية" للكنوي (ص 47 - 65) "الجواهر المضية للقرشي" (1/ 205 - 206) "معجم المؤلفين" (1/ 594)

أرويها بالإسناد المتقدم إلى الزين زكريا عن عبد الرحيم بن محمد بن الفرات عن عبد العزيز بن محمد بن جماعة عن عبد المؤمن بن خلف الدمياطي عن زكي الدين عبد العظيم المنذري عن محمود بن عبد السيد البخاري الحضري عن المؤلف. 404 - (مؤلفات عبد الله بن أحمد النسفي كالمنار وشرح الكنز وغيرهما): أرويها بالإسناد المذكور إلى القاضي زكريا عن محمد بن أحمد بن الضياء العمري عن محمد بن علي البكري عن عبد الله بن حجاج الكاشغري عن حسام الدين السغناقي عن المؤلف. 405 - (مؤلفات أبي البقاء محمد بن أحمد بن الضياء المكي (¬1) الحنفي منها المنبع شرح المجمع والبحر العميق في الحج إلى البيت العتيق): أرويها بالإسناد المتقدم إلى زكريا عن المؤلف. 406 - (مؤلفات محمد بن يوسف القونوي الرومي (¬2)): ارويها بالإسناد السابق إلى إبراهيم الكردي عن أحمد بن محمد المدني عن أحمد بن على ¬

(¬1) هو محمد بن احمد بن محمد بن سعيد بن محمد بن محمد بن عمر بن يوسف بن علي بن إسماعيل البهاء الصاغاني لأصل، المكي، الحنفي المعروف بابن الضياء. ولد سنة (789 هـ). بمكة ونشأها، وقرأ على أعيانها كالنويري والمراغي، وارتحل غير مرة إلى القاهرة، فأخذ عن علمائها كابن حجر وطبقته، وأجاز له آخرون كالبلقيي وابن الملقن والعراقي، وبرع في جميع العلوم. وصنف التصانيف منها: "المسرع في شرح المجمع" في أربع مجلدات، و"البحر العميق في مناسك حج بيت الله العتيق"، و"تنزيه المسجد الحرام عن بدع جهلة العوام" في مجلد، و"شرح الوافي" مطول ومختصر. و"شرح مقدمة الغزنوي" في مجلدين.، و"شرح البزدوي" ولم يكمل. قال السخاوي: (وكان إماما علامة متقدما في الفقه والأصلين والعربية مشاركا في فنون، حسن الكتابة والتقييد، عظم الرغبة في المطالعة والانتقاد). انظر: "البدر الطالع" (2/ 120) (¬2) انظر: معجم المؤلفين (2/ 213)

الشناوي عن عبد الرحمن بن عبد القادر بن فهد بن عمه جار الله بن عبد العزيز بن فهد عن عمر بن عبد الرحيم القاهري عن محمد بن عبد الله الزرندي عن يحي بن محمد بن إبراهيم الأقصراني عن محمد بن محمد بن محمد الجزري عن المؤلف. 407 - (مؤلفات علي بن محمد البزدوي (¬1)): أرويها بالإسناد السابق إلى السنغاقي عن محمد بن محمد بن نصر النسفي عن شمس الأئمة الكردري عن البرهان المرغياني عن عمر بن محمد النسفي عن المؤلف. 408 - (مؤلفات أكمل الدين محمد بن محمود الرومي الحنفي كشرح الهداية وشرح التجريد وشرح مختصر ابن الحاجب وشرح المشارق وشرح المنار): أرويها بالإسناد المتقدم قريبا إلى جار الله بن عبد العزيز بن فهد عن التقي محمد بن فهد عن عبد الرحيم الصديقي عن المؤلف. 409 - (مؤلفات محمد بن محمد الماتريدي (¬2)): أرويها بالإسناد السابق إلى الحافظ ابن حجر عن محمد بن علي القرشي عن عبد الله ¬

(¬1) هو على بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم بن عيسى بن مجاهد البزدوي (أبو الحسن، فخر الإسلام) فقيه، أصولي، محدث، مفسر. ولد في حدود سنة (400 هـ)، وتوفي في رجب سنة (482 هـ) ودفن بسمرقند. من تصانيفه: "المبسوط" في أحد عشر مجلدا، "شرح الجامع الكبير للشيباني في فروع الفقه الحنفي"،كشفي الأستار في التفسير"، "كنز الوصول إلى معرفة الأصول"، "شرح الجامع الصحيح" للبخاري. انظر: "الجواهر المضيئة" (1/ 372) "الفوائد البهية" (124 - 125) (¬2) هو محمد بن محمد بن محمود الماتريدي، السمرقندي، (أبو منصور) متكلم، أصولي توفي بسمرقند سنة (333 هـ). من تصانيفه: "شرح الفقه الأكبر المنسوب لأبي حنيفة تأويلات أهل السنة"، "بيان وهم المعتزلة"، "تأويلات القرآن"، "مأخذ الشرائع في أصول الفقه". انظر: "الجواهر المضيئة" (2/ 130 - 131) "معجم المؤلفين" (3/ 692)

ابن حجاج الكاشغري عن حسين بن علي السغناقي عن محمد بن محمد بن نصر النسفي عن عمر بن محمد النسفي عن محمد بن محمد بن الحسن النسفي عن أبيه عن جده الحسين ابن عبد الكريم النسفي عن أبيه عن المؤلف .. 410 - (مؤلفات الشريف الجرجاني (¬1)): أرويها بالإسناد المتقدم في مستدرك الحاكم إلى إبراهيم الكردي عن شيخه أحمد بن محمد المدني عن محمد شريف الصديقي عن عبد الباقي بن عبد الباقي البعلي عن محمد ابن علاء الدين البابلي عن سالم السنهوري عن النجم الغيطي عن عبد الحق السنباطي عن أبي بكر بن محمد الحصكفي عن يوسف الحلواني المؤلف. وأروي هذه المؤلفات بأعلا من هذا الإسناد وهو الإسناد المتقدم في أول هذا الكتاب إلى البابلي بإسناده المذكور هنا. 411 - (مؤلفات جلال الدين محمد بن أسعد الدواني (¬2)): أرويها بالإسناد المتقدم إلى إبراهيم الكردي عن محمد شريف عن علي بن محمد الحكمي عن عبد الرحمن بن عبد القادر بن فهد عن عمه جار الله بن عبد العزيز بن فهد عن إسماعيل بن إبراهيم العلوي العكي اليمني الزبيدي عن السيد عفيف الدين عبد الرحمن ¬

(¬1) انظر معجم المؤلفين (7/ 216) وهدية العارفين (1/ 728) (¬2) هو محمد بن أسعد الصديقي، الدواني الشافعي (جلال الدين) فقيه، متكلم، حكيم، منطقي، مفسر، مشارك في علوم. ولد بدوان من بلاد كازرون وسكن شيراز، وولي قضاء فارس، وتوفي وقد تجاوز الثمانين سنة (928هـ) ودفن قريبا من قرية دوان. من تصانيفه: "شرح هياكل النور للسهر وردي في الحكمة"، الأربعون السلطانية في الأحكام الربانية"، "شرح التهذيب للتفتازاني في المنطق"، "شرح عقائد الإيمان للإيجي"، "تفسير سورة الكافرون"، وغيرها. انظر: "الضوء اللامع" (7/ 133) "شذرات الذهب" (8/ 160) "البدر الطالع" (2/ 13)

ابن عبد الله الحسيني الإيجي عن المؤلف. 412 - (مؤلفات عبد الرحمن بن أحمد الجامي (¬1)): أرويها بالإسناد المتقدم إلى إبراهيم الكردي عن شيخه أحمد بن محمد المدني عن أحمد الشناوي عن السيد غظنفر بن جعفر الحسيني النهرواني عن محمد أمين ابن المؤلف عن المؤلف. 413 - (مؤلفات عصام الدين إبراهيم بن عربشاه الإسفرايني (¬2)): أرويها بالإسناد المتقدم إلى إبراهيم الكردي عن زين العابدين بن عبد القادر الطبري عن أبيه عن محمد بن إسماعيل بن عصام إبراهيم الإسفرايني عن السيد محمد أمين عن المؤلف .. 414 - (مؤلفات فخر الدين محمد بن عمر الصديق الرازي (¬3)): أرويها بالإسناد المتقدم في مؤلفات أكمل الدين إلى التقي محمد بن فهد عن محمد بن محمد بن سعيد الصغاني مسعود بن محمد بن يعقوب الكرماني عن محمد بن محمود الزوزني عن المؤلف .. 415 - (مؤلفات قطب الدين محمود بن محمد الرازي): ¬

(¬1) انظر: معجم المؤلفين (6/ 13) وهدية العارفين (5/ 534) (¬2) هو إبراهيم بن محمد بن عرب شاه الإسفرايني (عصام الدين) من علماء خراسان وما وراء النهر. توفي في حدود (951 هـ). من مؤلفاته: "حاشية على تفسير البيضاوي"، "شرح الرسالة الترشيحية في أقسام الاستعارات"، "شرح الشمائل للترمذي"، "وشرح طوالع الأنوار" للبيضاوي، "شرح الكافية في النحو"، "ميزان الأدب في الصرف والنحو والبيان"، "حاشية على الفوائد الضيائية في النحو والصرف"، "رسالة في علم الوضع"، و"شرح الوقاية". انظر "شذرات الذهب" (8/ 291) "معجم المؤلفين" (1/ 67) (¬3) انظر معجم المؤلفين (11/ 79).

أرويها بالإسناد المتقدم في مؤلفات الشريف الجرجاني إلى عبد الحق السنباطي عن محمود بن محمد الحنفي عن المؤلف .. 416 - (مؤلفات عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي): ارويها بالإسناد المتقدم إلى إبراهيم الكردي عن أحمد بن محمد المدني عن محمد شريف عن علي بن محمد الحكمي عن ابن حجر الهيتمي عن السيوطي عن محمد بن أحمد المخزومي عن التقط يحي بن محمد بن يوسف بن على الكرماني عن أبيه عن المؤلف. 417 - (مؤلفات محمد بن يوسف الكرماني (¬1) شارح البخاري): أرويها بالإسناد المذكور قبل هذا المتصل بالمؤلف. 418 - (مؤلفات إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجويفي (¬2)): أرويها بالإسناد المتقدم في بمستدرك الحاكم إلى إبراهيم الكردي عن أحمد بن محمد المدني عن الشمس الرملي عن الزين زكريا عن محمد بن أبي بكر العثماني المراغي عن أبي ¬

(¬1) هو محمد بن يوسف بن على بن سعيد الكرماني، ثم البغدادي (شمس الدين) فقيه، أصولي، محدث، مفسر، متكلم، نحوي. ولد سنة (717هـ) وتوفي بطريق الحج سنة (786 هـ). من تصانيفه: "شرح الفوائد الغياثية في المعاني والبيان"، "الدراري شرح صحيح البخاري"، "حاشية على تفسير البيضاوي"، "شرح المواقف للإيجي في علم الكلام". انظر: "الدرر الكامنة" (4/ 310 - 311) "البدر الطالع" (2/ 292) (¬2) هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، النيسابوري، الشافعي، الأشقري، المعروف بإمام الحرمين (ضياء الدين، أبو المعالي) فقيه، أصولي، متكلم، مفسر، أديب. ولد سنة (419 هـ). وجاور. بمكة، وتوفي بالمحفة من قرى نيسابور سنة (478 هـ). من تصانيفه: "نهاية المطلب في دراية المذهب"، "الشامل في أصول الدين"، "البرهان في أصول الفقه"، "تفسير القرآن"، "لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة". انظر: "وفيات الأعيان" (1/ 361 - 362) "طبقات السبكي" (3/ 249 - 283)

الفرج عبد الرحمن بن أحمد الغربي عن أحمد بن عبد الدائم المقدسي عن محمد بن علي الحراني عن محمد بن الفضل الغراوي عن المؤلف. 419 - (مؤلفات الإمام أبي صامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي (¬1)): أرويها بالإسناد المتقدم إلى الزين زكريا عن الحافظ ابن حجر العسقلاني عن إبراهيم ابن أحمد التنوخي عن سليمان بن حمزة عن عمر بن كرم الدينوري عن عبد الخالق بن عبد القادر البغدادي عن المؤلف. 420 - (مؤلفات ابن دقيق العيد (¬2)): أرويها بالإسناد المتقدم في كتاب الإبانة له. 421 - (مؤلفات ابن عبد السلام (¬3)): أرويها بالإسناد المذكور إلى ابن دقيق العيد عنه. ¬

(¬1) انظر "مؤلفات الغزالي" للدكتور عبد الرحمن بدوي وتعرض فيها لمؤلفات الغزالي المتحقق من نسبتها إليه ومؤلفاته المشكوك قي نسبتها. وذكر أماكن وجودها إن كانت مخطوطة أو إن كانت مطبوعة كما بين أين طبعت ومن طبعها (¬2) انظر "مقدمة "الاقتراح في بيان الاصطلاح" تحقيق: الدكتور: عامر حسن صبري (ص 110 - 121) فقد ذكر مؤلفاته رحمه الله (¬3) هو عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن بن محمد بن المهذب السلمي، الدمشقي الشافعي، المعروف بابن عبد السلام (عز الدين، أبو محمد)، فقيه، مشارك في الأصول والعربية والتفسير. ولد بدمشق سنة (577 هـ) أو (578 هـ) وتفقه على فخر الدين بن عساكر، وقرأ الأصول والعربية والتفسير، وجمع الكثير، ودرس وأفتى، وبرع في المذهب الشافعي، وبلغ رتبة الاجتهاد، وولي الخطابة بجامع دمشق، وتوفي بدمشق سنة (660 هـ). من مصنفاته: "القواعد الكبرى في أصول الفقه"، "الغاية في اختصار النهاية"، "تفسير القرآن"، "فوائد في علوم القران"، "ترغيب أهل الإسلام في سكني الشام"، "الفتاوى". انظر: "البداية والنهاية" (13/ 235) "النجوم الزاهرة" (7/ 208) "شذرات الذهب" (5/ 301 - 302)

422 - (مؤلفات النووي (¬1)): أرويها بالإسناد المتقدم في الأذكار له. 423 - (مؤلفات محي الدين محمد بن علي بن عربي الحاقي الصوفي (¬2)): أرويها بالإسناد السابق إلى إبراهيم الكردي عن شيخه أحمد بن محمد المدني عن زين العابدين بن عبد القادر بن محمد بن يحي الطبري عن أبيه عن جده عن عبد العزيز بن عمر بن فهد عن أبيه عن محمد بن إبراهيم المرشدي عن عبد الله بن محمد بن محمد النشاوري عن إبراهيم بن محمد الطبري عن المؤلف. 424 - (مؤلفات الحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني (¬3)): أرويها بالإسناد المتقدم في الحلية له. 425 - (مؤلفات الحافظ محمد بن الحسين الأجري (¬4)): أرويها بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الشماخي عن إسحاق بن أبي بكر الطبري ¬

(¬1) انظر تحفة الطالبين في ترجمة الإمام محيى الدين، لابن العطار- تحقيق- مشهور حسن (ص 75 - 95) (¬2) انظر: العقد الثمين (2/ 160 - 199) (¬3) انظر: كتاب (أبو نعيم ومنهجه في الحلية) (¬4) هو محمد بن الحسين بن عبد الله الآجري (نسبة لآجر من قرى بغداد) البغدادي (أبو بكر) فقيه، محدث، حافظ، إخباري، حدث ببغداد، ثم انتقل إلى مكة، فسكنها حتى توفي بها سنة (360 هـ) وهو من أبناء الثمانين. من تصانيفه الكثيرة: "التهجد"، "تحريم النرد والشطرنج والملاهي"، "أخبار عمر بن عبد العزيز"، "آداب العلماء"، و"الشريعة"، و"النصيحة"، "أخلاق حملة القرآن"، "التصديق بالنظر إلى الله تعالى في الآخرة"، "آداب حملة القرآن". انظر: "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي (2/ 243) "وفيات الأعيان" (1/ 617 - 618) "تذكرة الحفاظ" (3/ 139) "شذرات الذهب" (3/ 35). وانظر: مقدمة كتاب "الشريعة" (1/ 135 - 148) تحقيق الدكتور عبد الله بن عمر الدميجي

عن يحي بن محمود بن سعد الثقفي عن الحسن بن أحمد الحداد عن الحافظ أبي نعيم عن المؤلف. 426 - (مؤلفات (¬1) أحمد بن الحسين البيهقي منها المقصود في الفقه "عشرون مجلدا": ارويها بالإسناد المتقدم في الأسماء والصفات له وكذلك في شعب الإيمان والسنن. 427 - (مؤلفات (¬2) أبي إسحاق الشيرازي): أرويها بالإسناد المتقدم في التنبيه له. 428 - (مؤلفات (¬3) أبي بكر الخطيب): أرويها بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى نفيس الدين العلوي عن أبيه عن محمد بن أحمد المطري عن عبد الرحمن بن محمد بن علي الطبري عن أبي الحسن بن المقير عن الإمام أبي المعالي الفضل بن سهل بن بشر الإسفرايني عن المؤلف. 429 - (مؤلفات أبي الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي (¬4)) ¬

(¬1) أنظرها: سير أعلام النبلاء (18/ 163). (¬2) أنظرها: في هدية العارفين (1/ 132) (¬3) أنظرها في "كتاب (الخطيب البغدادي وأثره في علوم الحديث) لمحمود الطحان (¬4) هو عبد الرحمن بن على بن محمد بن على بن عبيد الله بن حمادي بن أحمد بن محمد بن جعفر القرشي، التيمي، البكري، البغدادي، الحنبلي، المعروف بابن الجوزي (جمال الدين، أبو الفرج) محدث، حافظ، مفسر، فقيه، واعظ، أديب، مؤرخ، مشارك في أنواع من العلوم. ولد ببغداد سنة (510 هـ)، وتوفي بها سنة (597 هـ) ودفن بباب حرب. من مؤلفاته: "المغني في علوم القرآن"، "تذكرة الأريب في اللغة"، "جامع المسانيد" في سبع مجلدات، "المنتظم في تاريخ الأمم"، و"بستان الواعظين ورياض السامعين"، "مثير الغرام الساكن في فضل البقاع والأماكن"، "مختصر قرة العيون النواظر في الوجوه والنظائر"، "كتاب الموضوعات"، "زاد المسير في علوم التفسير"، "تلبيس إبليس"، "جامع المسانيد والألقاب"، "البر والصلة"، "مناقب الكرخي"، "ذم الهوى". انظر: "تذكرة الحفاظ" (4/ 131) "النجوم الزاهرة" (6/ 174 - 176) "البداية والنهاية" (13/ 28 - 30) "شذرات الذهب" (4/ 329 - 331) "الكامل في التاريخ" (11/ 67)

أرويها بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الشجي عن محمد بن محمد بن محمد الجزري عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الخبار عن على بن أحمد المقدسي عن المؤلف. 430 - (مؤلفات منصور بن الحسن الكازروني (¬1)): أرويه بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الديبع عن حمزة بن عبد الله الناشري عن المؤلف. 431 - (مؤلفات محمد بن محمد بن محمد الجزري (¬2)): أرويها بالإسناد المتقدم إلى الشرجي عن المؤلف. 432 - (مؤلفات إسماعيل بن أب بكر المقري (¬3) ¬

(¬1) هو منصور بن الحسن بن علي القرشي، العدوي، الكازروني، الشافعي، المفسر، المحدث، المتكلم. وهو مشارك في بعض العلوم، توفي. بمكة في ذي الحجة سنة (860 هـ). من تصانيفه: "لطائف الألطاف في تحقيق التفسير ونقد الكشاف" لم يكمل، "تبيان أعيان الخلف في بيان إيمان السلف"، "شرح الجامع الصحيح للبخاري لم يكمل، "حجرة السفرة البررة على المبتدعة الفجرة الكفرة في نقد الفصوص لابن عربي". انظر: "الضوء اللامع" (10/ 170) "شذرات الذهب" (7/ 297) "معجم المؤلفين " (3/ 913) (¬2) تقدمت ترجمته (¬3) هو إسماعيل بن أبي بكر بن عبد الله بن على بن عطية الشندري، الشاوري، الشرجي، اليماني، الحسيني، ويعرف بابن المقري (شرف الدين، أبو محمد) فقيه، أديب، شاعر، مشارك في كثير من العلوم، ولد بأبيات حسين سنة (754 هـ) ونشأ بها، ثم انتقل إلى زبيد وتوفي بها سنة (837 هـ). من مصنفاته: "عنوان الشرف الوافي في الفقه والنحو والتاريخ والعروض والقوافي"، "مختصر الحاوي الصغير للقزويني وشرحه في فروع الفقه الشافعي"، و"مختصر الروضة للنووي" وحماه "الروض"، "القصيدة التائية في التذكير"، "الإرشاد مختصر الحاوي في الفقه الشافعي"، وديوان شعر. انظر: "الضوء اللامع" (2/ 292 - 293) "شذرات الذهب" (7/ 220 - 222) "البدر الطالع" (1/ 142 - 145)

أرويها بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الطاهر بن حسين الأهدل عن عبد الرحمن ابن عبد الكريم بن زياد عن أبي العباس الطنبداوي عن موسى بن زين العابدين الرداد عن عمر بن محمد الفتي عن المؤلف. 433 - (مؤلفات إسماعيل بن محمد الحضرمي اليماني الصوفي (¬1)): أرويها بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الشماخي عن المؤلف. 434 - (مؤلفات أحمد بن أبي بكر الرداد اليماني (¬2)): أرويها بالإسناد المشار إليه الطاهر بن حسين الأهدل عن عبد الرحمن بن إبراهيم العلوي عن إسماعيل بن الصديق الجبرتي عن المؤلف. 435 - (مؤلفات عبد الله بن أسعد .... .... .... .... .... .... .. ¬

(¬1) إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الحضرمي نسبة إلى حضرموت. قال المناوي: قطب الدين الإمام الكبير العارف الشهير قدوة الفريقين وعمدة الطريقين شيخ الشافعية ومربي الصوفية كان إماما من الأئمة مذكورا وعلما من أعلام الولاية مشهورا وهو من بيت مشهور بالصلاح مقصود لليمن والنجاح أعلامه للإرشاد منصوبة وبركات أهله كالأهلة مرقومة مرقوبة ... وله عدة مؤلفات قي عدة فنون منها: "شرح المهذب"، و"مختصر مسلم"، و"مختصر بهجة المجالس" ["شذرات الذهب" (5/ 361) و"هجر العلم ومعاقله في اليمن" (3/ 1191 - 1192)] (¬2) هو أحمد بن أبي بكر بن السراج القرشي، البكري، التيمي، المكي، ثم الزبيدي، الشافعي ويعرف بابن الرداد (أبو العباس، شهاب الدين) فقيه، عالم، متصوف، تولى القضاء. ولد سنة (748 هـ) وتوفي سنة (821 هـ). من مصنفاته: "وسيلة الملهوف إلى الله تعالى ثم إلى أهل المعروف"، "موجبات الرحمة وعزائم المغفرة"، وغيرها. انظر "الضوء اللامع" (1/ 260 - 262) و"معجم المؤلفين" (1/ 112)

اليافعي (¬1)): أرويها بالإسناد إلى الرداد المذكور عن محمد بن يعقوب الشميرازي مؤلف القاموس عن الشيخ أبي بكر الصوفي عن ابن سلامة الموزعي عن المؤلف. 436 - (مؤلفات عبد الرحمن بن أبي بكر الأسيوطي (¬2)): أرويها بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الديبع عن المؤلف. 437 - (مؤلفات محمد بن عبد الرحمن العسقلاني (¬3)): أرويها بالإسناد المذكور إلى الديبع عن المؤلف .. 438 - (مؤلفات أحمد بن حجر العسقلاني (¬4)): أرويها بالإسناد المذكور إلى السخاوي عن المؤلف .. 439 - (مؤلفات عبد الرحمن بن علي الديبع (¬5)): ¬

(¬1) هو عبد الله بن أسعد بن على بن سليمان بن فلا اليافعي، اليمني، ثم المكي، الشافعي، (عفيف الدين) صوفي، شاعر، مشارك في الفقه والعربية والأصلين واللغة والفرائض والحساب. ولد قبل السبعمائة بسنتين أو ثلاث، ورحل إلى عدن، وجاور. بمكة، وتوفي بها في 20 جمادي الآخرة سنة (768 هـ). ودفن. بمقبرة باب المعلى. من تصانيفه: "مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الرهان"، "روض الرياحين في حكايات الصالحين"، "الإرشاد التطريز في فضل ذكر الله وتلاوة كتابة العزيز"، "بهجة البدور في مدح الحور والتنقل من دار الغرور إلى دار السرور". انظر: "الدرر الكامنة" (2/ 247 - 249) "طبقات السبكي" (6/ 103) "النجوم الزاهرة" (11/ 93 - 94) "البدر الطالع" (1/ 378) "معجم المؤلفين" (2/ 229 - 230) (¬2) أنظرها في "مؤلفات السيوطي" لـ (محمد بن إبراهيم الشيباني وآخر) (¬3) أنظرها في "مؤلفات السخاوي" مشهور حسن وأحمد الشقيرات (¬4) أنظرها في "ابن حجر مصنفاته ودراسة في منهجه وموارده في كتابه الإصابة" (1/ 157 - 356) (¬5) انظر: "الضوء اللامع" (4/ 104)، "مصادر الفكر" (ص 54 - 55)، "الروض الأغن" (2/ 20رقم 407)

أرويها بالإسناد المتقدم قريبا المتصل به. 440 - (مؤلفات عبد الرحيم الزين العراقي (¬1)): أرويها بالإسناد المتقدم إلى الحافظ ابن حجر عن المؤلف. 441 - (مؤلفات الشبراملسي علي المصري (¬2)): أرويها عن شيخنا السيد عبد القادر بن أحمد عن شيخه محمد حياة السندي عن سالم ابن عبد الله بن سالم البصري عن أبيه عن المؤلف. 442 - (مؤلفات الزين. زكريا بن محمد الأنصاري (¬3) ¬

(¬1) انظر: "الضوء اللامع" (4/ 104)، "مصادر الفكر" (ص 54 - 55)، "الروض الأغن" (2/ 20رقم 407) (¬2) انظر: "الضوء اللامع" (4/ 104)، "مصادر الفكر" (ص 54 - 55)، "الروض الأغن" (2/ 20رقم 407) (¬3) هو زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري، السنيكى، القاهري، الأزهري، الشافعي (زين الدين، أبو يحي) عالم مشارك في الفقه والفرائض والتفسير والقراعات والتجويد والنحو والصرف والحديث والتصوف والمنطق والجدل. ولد بسنيكة سنة (826 هـ) وبها نشأ، ثم تحول إلى القاهرة، وتولى القضاء وتوفي بها في 4 ذي الحجة سنة (926 هـ). من تصانيفه الكثيرة: "شرح مختصر المزني في فروع الفقه الشافعي"، "حاشية على تفسير البيضاوي"، "حاشية على شرح بدر الدين لألفية ابن مالك في النحو" سماها "الدرر السنية"، "شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول" للبيضاوي، و"شرح صحيح مسلم"، "المطلع شرح إيساغوجي للأبهري في المنطق"، "شرح المنهج"، "فتح الباقي بشرح ألفية العراقي"، "شرح التبصرة والتذكرة في أصول الحديث"، "شرح التحرير"، "فتح المبدع في شرح المقنع في الجبر والمقابلة"، "تحفة الباري بشرح صحيح البخاري"، "أحكام الدلالة على تحرير الرسالة للقشيري في التصوف"، "البهجة الوردية في فروع الفقه"، "فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب في الفقه"، "شرح البسملة"، "بلوغ الإرب بشرح شذور الذهب"، "ثبت"، "شرح الورقات لإمام الحرمين"، "تحفة الطلاب بشرح تحرير تنقيح اللباب"، "رسالة في كرامات الأولياء". انظر "شذرات الذهب" (8/ 134 - 136) "البدر الطالع" (2/ 252 - 253) "معجم المؤلفين" (1/ 733)

أرويها عن الشبراملسي المذكور عن الشهاب أحمد السبكي عن النجم الغيطي عن المؤلف. 443 - (مؤلفات الجلال المحلي (¬1)): أرويها بالإسناد إلى الزين زكريا المذكور عن المؤلف. 444 - (مؤلفات أبي الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزي (¬2)): أرويها بالإسناد السابق إلى السخاوي عن عبد الرحيم بن محمد بن الفرات عن ابن الجزري عن عائشة بنت محمد المقدسية عن المؤلف. 445 - (مؤلفات الإمام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية (¬3)): أرويها بالإسناد إلى المزي المذكور عن المؤلف. 446 - (مؤلفات ابن القيم (¬4)): أرويها بالإسناد إلى عائشة المذكورة عن المؤلف. 447 - (مؤلفات الشيخ إبراهيم بن حسن الكردي الكوراني (¬5)): ¬

(¬1) أنظرها في هدية العارفين (2/ 221) (¬2) أنظرها في هدية العارفين (2/ 221) (¬3) أنظرها في هدية العارفين (2/ 221) (¬4) انظر: هدية العارفين (1/ 35) (¬5) انظر: هدية العارفين (2/ 290)

أرويها بالإسناد المتقدم في مستدرك الحاكم إلى المؤلف ومن جملة مؤلفاته أسانيده المسماة بالأمم لإيقاظ الهمم وقد ذكرته في حرف الهمزة وذكرت في إسناد مستدرك الحاكم شيئا من ذلك. 448 - (وأروي أسانيد مؤلفات مسند العصر الأخير محمد بن علاء الدين البابلي ومن جملتها المجموع في أسانيده (¬1)): أروي ذلك من طرف منها عن شيخنا السيد العلامة عبد القادر بن أحمد بن عبد القادر عن شيخه محمد حياة السندي عن شيخه سالم بن عبد الله بن سالم البصري عن أبيه عن المؤلف 449 - ومنها عن شيخنا المذكور عن شيخه السيد سليمان بن يحي الأهدل عن شيخه أحمد بن محمد بن مقبل الأهدل عن شيخه أحمد بن محمد النخلي عن المؤلف. 450 - ومنها عن شيخه المذكور عن شيخه السيد أحمد بن عبد الرحمن الشامي عن شيخه السيد حسين بن أحمد زبارة عن شيخه القاضي أحمد بن صالح بن أبي الرجال عن المؤلف. 451 - ومنها عن شيخنا السيد العلامة علي بن إبراهيم بن عامر عن شيخه أبي الحسن السندي عن شيخه محمد حياة السندي بإسناده المذكور إلى المؤلف. 452 - ومنها عن شيخنا السيد علي المذكور عن شيخه حامد بن حسن شاكر عن شيخه أحمد بن عبد الرحمن الشامي بإسناده المذكور إلى المؤلف. ¬

(¬1) قال الشوكاني في "البدر الطالع" (2/ 208): محمد بن علاء الدين البابلي القاهري، الشافعي، أبو عبد الله، الإمام الكبير مسند الدنيا، أخذ عنه الناس طبقة بعد طبقة من جميع الطوائف وكان ضريرا يملي دواوين الإسلام جميعا من حفظه، وطال عمره وجاور بالحرم مرتين، وأراد سلطان الروم أشخاصه إليه فامتنع، ولعله جاوز المائة أو ناهزها. مات في عشر الثمانين بعد الألف، وله مجموع ذكر فيه أسانيده ورواياته، وهو موجود بأيدي المشتغلين هذا الشأن) ا هـ

453 - ومنها عن شيخنا السيد علي المذكور عن شيخه السيد أحمد بن يوسف بن الحسين بن الحسن بن القاسم عن شيخه السيد إبراهيم بن القاسم بن المؤيد محمد بن القاسم عن شيخه الحسن بن أحمد زبارة بإسناده المذكور إلى المؤلف. 454 - ومنها عن شيخنا صديق بن على المزجاجي عن شيخه السيد سليمان بن يحي الأهدل بإسناده المذكور إلى المؤلف. 455 - وعن شيخنا صديق المذكور عن شيخه السيد سليمان بن يحي الأهدل عن شيخه أحمد بن محمد بن مقبل عن شيخه يحي بن عمر الأهدل عن أحمد بن محمد النخلي عن المؤلف. 456 - ومنها عن شيخنا يوسف بن محمد بن علاء الدين عن أبيه عن يحي بن عمر الأهدل بإسناده المذكور. وقد اشتملت هذه الطرق على أسانيد متصلة. بمجموعات مؤلفه في أسانيد الطرق منها (¬1). 457 - (أسانيد (¬2) سالم بن عبد الله بن سالم البصري (¬3) المسماة بالإمداد بمعرفة علو الإسناد): ارويها بالإسناد المذكور هاهنا المتصل به. 458 - ومنها (أسانيد أحمد بن يحي النخلي المكي (¬4) ¬

(¬1) في حاشية المخطوط ما نصه (قد اشتمل هذا البحث على ذكر أسانيد المجموعات في الأسانيد) (¬2) قد طبعت بالهند ضمن مجموع عام (سنة 328 1 هـ) (¬3) هو سالم بن عبد الله بن سالم بن محمد البدري، البصري، الشافعي، فقيه، محدث. توفي. بمكة في 2 محرم سنة (1160 هـ). له "الإمداد في علو الإسناد". انظر: "هدية العارفين" للبغدادي (1/ 382) "معجم المؤلفين" (1/ 749) (¬4) هو احمد بن محمد بن احمد بن علي المكي، الشافعي الشهر بالنخلي (أبو العباس) محدث. ولد، بمكة سنة (1044 هـ)، وتوفي بها في المحرم سنة (1130 هـ) من تصانيفه: "بغية الطالبين لبيان المشايخ المحققين المعتمدين". انظر: "معجم المؤلفين" (1/ 246). ملحوظة: ربما يكون الشوكاني رحمه الله وهم فقال: (أحمد بن يحي النخلي) في حين أنه (أحمد ابن محمد) بدليل أنه عندما أحال إلى السند المتصل به وجدناه باسم (أحمد بن محمد). انظر السند رقم (449) قال فيه: (ومنها عن شيخنا المذكور عن شيخه السيد سليمان بن يحي الأهدل عن شيخه احمد بن محمد بن مقبول الأهدل عن شيخه (احمد بن محمد النخلي) عن المؤلف) 1 هـ. والسند رقم (464) قال فيه "إلى أحمد بن محمد النخلي ... ) ومثله ذكر ذلك في السند رقم (455). والله أعلم

أرويها بالإسناد المذكور هاهنا المتصل به. 459 - ومنها (أسانيد يحي بن عمر الأهدل المشهورة (¬1)): أرويها بالإسناد المتصل به المذكور هاهنا. 460 - ومنها (أسانيد عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز الحبيشي (¬2)): أرويها عن السيد إبراهيم بن القاسم بن المؤيد المذكور عن عبد العزيز. 461 - ومنها (أسانيد (¬3) القاضي أحمد بن سعد الدين .... .... .... ...... ¬

(¬1) هو يحي بن عمر مقبول الزبيدي اليمني الشهير بالأهدل. محدث، فقيه، مفسر، مقري، أفتى بزبيد وتوفي بها سنة (147 1 هـ). من مصنفاته: "القول السديد فيما أحدث من العمارة بجامع زبيد"، "فضائل ذوي القربى" وفهرسه. انظر: "هدية العارفين" للبغدادي (2/ 534) "معجم المؤلفين" (4/ 108) (¬2) عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز الحبيشي: عالم متفقه. رحل إلى الإمام المؤيد محمد بن المتوكل إسماعيل حينما كان مقيما في مغتر. مولده سنة (1042هـ) ووفاته في بلده في ارحب سنة (1116هـ). ["طبقات الزيدية الكبرى" و"هجر العلم ومعاقله في اليمن" (1/ 475)] (¬3) واسم ثبته "الإجازات في تصحيح الأسانيد والروايات" منه نسخة سنة 1185هـ في رقم (486) ورقم (64) جامع صنعاء، وأخرى بالأمبروزيانا رقم (17) وأخرى بدار الكتب المصرية - طلعت - رقم (584).حكام اليمن (ص234)

المسوري (¬1)): أرويها بالإسناد إلى القاضي أحمد بن صالح بن أبي الرجال المذكور هاهنا عنه. 462 - ومنها (أسانيد إبراهيم بن القاسم بن المؤيد (¬2)): أرويها بالإسناد المتصل به والمذكور هاهنا. 463 - ومنها (أسانيد الإمام القاسم بن محمد (¬3) وأولاده محمد والحسين وإسماعيل): ¬

(¬1) هو أحمد بن سعيد الدين بن الحسين بن محمد المسوري الزيدي، القاضي الفاضل، المترسل البليغ المنشئ العارف. شارك في الفنون وتميز في كثير منها وحرر رسائل وفتاوى واتصل في أول عمره بالإمام القاسم بن محمد. وأخذ عنه وكتب لديه، وكان يؤثره، ثم اتصل بعد ذلك بولده الإمام المريد بالله فارتفعت درجته لديه. وهكذا حتى مات سنة (1079هـ)، وقبر بجوار قبر الإمام القاسم بن محمد وولده المؤيد. انظر "البدر الطالع" (1/ 58 - 59)، "الروض الأغن" (2/ 38) (¬2) هو إبراهيم بن القاسم بن المؤيد بالله محمد بن الإمام القاسم بن محمد العلامة الحافظ المؤرخ مصنف "طبقات الزيدية" وهو كتاب لم يؤلف مثله في بابه جعله ثلاثة أقسام: (القسم الأول): في من روى عن أئمة الأول من الصحابة. و (القسم الثاني): فيمن بعدهم إلى رأس خمسمائة. و (القسم الثالث): في أهل الخمسمائة ومن بعدهم إلى أيامه. وذكر جماعة من أعيان القرن الثاني عشر. انظر "البدر الطالع" (1/ 22 - 23) (¬3) قد طبع ثبته بالهند عام 1328هـ. انظر فهرس الفهارس (1/ 494)

أرويه بالإسناد المذكور إلى القاضي أحمد بن سعد الدين المسوري عنهم. 464 - ومنها (أسانيد الشيخ إبراهيم بن الحسن الكردي الكوراني): أرويها بالإسناد المذكور هاهنا إلى أحمد بن محمد النخلي عنه، وأرويها من طرق أخره تقدم ذكرها وهذه الأسانيد هي المسماة بالأمم. 465 - وبالإسناد المذكور إلى النخلي أروي أسانيد الشيخ منصور بن عبد الرزاق ابن صاع الطوخي المصري فإنه شيخ النخلي. 466 - وهذا الإسناد إلى النخلي أروي أسانيد زين العابدين بن عبد القادر الطبري الحسيني المكي الشافعي. 467 - وأروي أسانيد محمد بن الطيب المغربي (¬1) عن شيخنا السيد عبد القادر بن أحمد عنه. وبالجملة فهذه الأسانيد إلى أشرنا إليها قد اشتملت على أسانيد كتب الإسلام في جميع الفنون وقد جمعنا ما فيها في هذا المختصر على هذا الترتيب الذي لم يسبق إليه مع المبالغة في الاختصار من دون إخلال فالإحالة على بعض الأسانيد المذكور فيه إلى ما هو مذكور فيه في محل آخر غير محتاجه إلى طول بحث لكون الكتاب مرتبا على حروف المعجم وهي واضحة لكل أحد ولو جمعت الأسانيد التي هي أصول هذا الكتاب وهي ما أشرنا إليه في هذا الموضع لكانت في مجلدات مع أنه لا ينتفع بها كما ينتفع هذا المختصر لعدم ترتيب ما فيها من الكتب المسندة كترتيبه. 468 - (مؤلفات الإمام يحي بن حمزة (¬2)): أرويها بالإسناد المتقدم في كتاب الانتصار له. 469 - (مؤلفات الإمام المهدي أحمد بن يحي .... .... .... .... .... ¬

(¬1) انظر: فهرس الفهارس (2/ 1067 رقم 598) (¬2) انظر: الروض الأغن (3/ 163 رقم 913)

المرتضى (¬1)): ارويها بالأسانيد المتقدمة في كتبه المذكورة في هذا المختصر كالأزهار والبحر ونحوها .. 470 - (مؤلفات السيد محمد بن إبراهيم الوزير (¬2)): ارويها بالإسناد المتقدم في كتاب الإيثار له .. 471 - (مؤلفات الإمام عز الدين بن الحسين (¬3)): أرويها بالإسناد المتقدم في شرح البحر له. 472 - (مؤلفات الإمام شرف الدين (¬4)): أرويها بالإسناد المتقدم في الأثمار له وهو المذكور في الإبانة. 473 - (مؤلفات الإمام القاسم بن محمد (¬5)): أرويها بالإسناد المتقدم في كتاب الإرشاد والأساس والاعتصام له. 474 - (مؤلفات الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم (¬6)): ¬

(¬1) انظر: حكام اليمن (ص 54 - 58) (¬2) انظر: الروض الأغن (3/ 5 رقم 672) (¬3) انظر: حكام اليمن (ص 206 - 213) (¬4) انظر المصدر السابق (ص 209 - 223) (¬5) انظر حكام اليمن (ص 229 - 245) (¬6) هو الإمام المتوكل على الله إسماعيل ابن الإمام القاسم بن محمد. ولد في سنة (1019 هـ) في شهارة، ونشأ بها، وكان كامل الخلق معتدل القامة أعر اللون، عظيم اللحية، أشعر الذراعين، قوي الحركة، كثر التبسم، حسن الخلق، قرأ على جماعة من أعيان علماء عصره في الفقه وسائر الفنون فبرع في الفقه وفاق على علماء عصره في ذلك، وأقر له الكبير منهم والصغير، ورجعوا إليه في المعضلات وشارك في بقيه الفنون مشاركة قوية وكان يقرئ فيها أعيان علماء عصره وصنف المصنفات منها "العقيدة الصحيحة" وشرحها "المسائل المرتضاة إلى جميع القضاة" وغير ذلك. توفي سنة (1087 هـ) انظر "البدر الطالع" (1/ 146)، حكام اليمن (ص 249 - 257)

أرويها بالإسناد المتقدم في الإبانة إلى القاضي أحمد بن صالح بن أبي الرجال عنه وهو المذكور أيضًا قريبا .. 475 - (مؤلفات الحسين بن القاسم (¬1)): أرويها بالإسناد المتقدم في الغاية له .. 476 - (مؤلفات (¬2) الحسن بن أحمد الجلال): أرويها بالإسناد المتقدم في ضوء النهار له .. 477 - (مؤلفات (¬3) صاع بن مهدي المقبلي): أرويها بالإسناد في العلم الشامخ له .. ¬

(¬1) هو الحسين بن الإمام القاسم بن محمد. ولد يوم الأحد رابع شهر ربيع الآخر سنة (999 هـ) قرأ على الشيخ لطف الله بن محمد الغياث، وكان يتعجب من فهمه وحسن إدراكه وقرأ على جماعة من علماء عصره، وبرع في كل الفنون وفاق في الدقائق الأصولية والبيانية والنطقية والنحوية، وله مع ذلك شغلة بالحديث والتفسير والفقه وألف الغاية وشرحها، الكتاب المشهور الذي صار الآن مدرس الطلبة وعليه المعول في صنعاء وجهاتها. وهو كتاب نفيس يدل على طول باع مصنفه وقد ساعده وتبحره في الفن اعتصره من مختصر المنتهى وشروحه وحواشيه ومن مؤلفات آبائه من الأئمة في الأصول، وساق الأدلة سوقا حسنا، وجود المباحث، واستوفى ما تدعو إليه الحاجة، ولم يكن الآن في كتب الأصول من مؤلفات أهل اليمن مثله. توفاه الله تعالى في أخر ليلة الجمعة ثاني عشر ربيع الآخر سنة (1050 هـ). بمدينة ذمار ودفن بها. انظر "البدر الطالع" (1/ 226 - 227) (¬2) أنظرها في الروض الأغن (1/ 134) (¬3) أنظرها في الروض الأغن (1/ 209)

478 - (مؤلفات (¬1) السيد محمد بن إسماعيل الأمر): أرويها عن شيخنا السيد عبد القادر بن أحمد عنه .. 479 - (مؤلفات السيد هاشم بن يحي (¬2)): أرويها عن شيخنا المذكور عنه. 480 - (مؤلفات السيد زيد بن محمد بن الحسن (¬3)): ¬

(¬1) أنظرها في الروض الأغن (3/ 29 رقم 709) ومصادر الفكر (ص 68) (¬2) هو هاشم بن يحي بن أحمد بن على بن الحسن بن محمد الشامي ثم الصنعاني، أحد العلماء المشاهير والأدباء المجيدين. ولد تقريبا سنة (1104هـ) وأخذ العلم عن أكابر علماء صنعاء كالسيد العلامة زيد بن محمد بن الحسن ابن الإمام القاسم، والعلامة الحسين بن محمد المغربي وطبقتهما، وبرع في جميع العلوم وفاق الأقران، ودرس للطلبة، وانتفع به أهل صنعاء وتخرج به جماعة عن العلماء كالعلامة عبد القادر بن أحمد، وكثير من العلماء النبلاء. وتولى القضاء بصنعاء أياما، وله شعر فائق وفصاحة زائدة، وشرع في جمع حاشية على البحر الزخار سماها: "نجوم الأنظار" فكتب منها مجلدا في غاية الإتقان والتحقيق ولم تكمل. وكان موته سنة (1158هـ). انظر "البدر الطالع" (2/ 321 - 324)، الروض الأغن (3/ 144 رقم 894) (¬3) قال الشوكاني في "البدر الطالع" (1/ 253 - 256): (السيد زيد بن محمد بن الحسن بن الإمام القاسم بن محمد، المحقق الكبير، شيخ مشايخ صنعاء في عصره في العلوم الآلية بأسرها أخذها عنه جماعة من أكابرهم كالسيد هاشم بن يحي الشامي والسيد محمد الأمير والسيد أحمد بن عبد الرحمن الشامي، وغيرهم. ولد في سنة (1075هـ)، وأخذ العلم عن جماعة من أعيان العلماء كالقاضي العلامة بن يحي البرطي، والقاضي العلامة الحسين بن محمد المغربي، والسيد العلامة الحسن بن الحسين بن القاسم، وكان صدرا مبجلا معظما مفخما، يهابه ولاة صنعاء، وقد برع في جميع المعارف لا سيما علم المعاني والبيان، فإنه فنه الذي لا يدانيه فيه مدان، ولا يختلف في تفرده هذا الشأن اثنان. توفي سنة (1123هـ) 1 هـ ملخصا. وانظر: "الروض الأغن" (1/ 191 رقم 338)

ارويها عن شيخنا المذكور عن السيد هاشم بن يحي عنه، وأرويها من طرق آخره. وإنما ذكرنا إسناد بعض المؤلفات هاهنا على الجملة لتتميم الفائدة فإنه ربما خرج بعض الكتب المؤلفة عن الحروف المذكورة إما لعدم اشتهار اسمه أو لنسيان ذكره عند تحرير هذا المختصر فيدخل تحت إسناد المؤلفات جملة ولا سيما من كان من العلماء مكثرا من التأليف كالإمام يحي بن حمزة والإمام المهدي احمد بن يحي وغيرها من أهل البيت وكذلك ابن الجوزي وابن تيمية وابن القيم وابن حجر والحميوطي وغيرهم من غير أصل البيت.

حرف النون 481 - (ناسخ القران ومنسوخه لهبة الله بن سلامة المقدسي (¬1)) (¬2): أرويه بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الشماخي عن محمد بن علي المؤذن عن الفقه عماد الدين أبي يحي عن ربيعة بن الحسن الشامي الصنعاني عن القاسم بن الفضل بين عبد الواحد الصيدلاني عن رزق الله بن عبد الله التميمي عن المؤلف .. 482 - (الناسخ والمنسوخ لابن الجوزي (¬3)): أرويها بالإسناد المتقدم إلى الشماخي عن شيخه الشراجي عن محمد بن إسماعيل بن أبي الصيف عن المؤلف .. 483 - (النخبة للحافظ ابن حجر): ارويها بالإسناد المتقدم في بلوغ المرام له وبالإسناد المتقدم أيضًا في مؤلفاته من حرف الميم. 484 - (النزهة ليحي حميد): أرويها بالإسناد المتقدم في شرح الفتح له. 485 - (نظام الفوائد لقاضي القضاة): أرويه بالإسناد المتقدم في أول الكتاب إلى القاضي جعفر بن احمد بن عبد السلام عن ¬

(¬1) كذا في "المخطوط" والصواب "المقري" (¬2) "كتاب "الناسخ والمنسوخ من كتاب الله عز وجل" مطوع. ط. المكتب الإسلامي. أما المؤلف فهو هبة الله بن سلامة بن نصر بن علي، أبو القاسم: مفسر، ضرير، من أهل بغداد، وبها وفاته، كانت له حلقة في "جامع المنصور". له كتب منها: "الناسخ والمنسوخ قي القرآن" وله "الناسخ والمنسوخ من الحديث"مخطوط وغيرهما. ["الأعلام" للزركلي (8/ 72) و"غاية النهاية" للجزري (2/ 351)] (¬3) طبع عن دار ابن حزم سنة 1413هـ بتحقيقي

الكني عن عبد المجيد بن أبي سعيد الاستراباذي عن إبراهيم بن إسماعيل المعروف ببارستان عن أحمد بن الحسن بن أبي طالب عن المؤلف. 486 - (نظام الغريب (¬1)): أرويها بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الشماخي عن محمد بن عبد الله الحضرمي عن علي بن محمد الحضرمي عن محمد بن أبي القاسم الجبائي عن أحمد بن عبد الله القريظي عن السيد عثمان بن محمد عن السيد عليان بن محمد الحاشدي عن زيد بن الحسن الفايشي عن المؤلف. 487 - (نخبة الضمان من فوائد أبي حيان): أرويها بالإسناد المتقدم في أول الكتاب وفي موضع منه إلى البابلي عن الشيخ منصور الطبلاوي عن أبي النصر الطبلاوي عن والده ناصر الدين الطبلاوي عن السيوطي عن محمد بن محمد السمنودي عن الشيخ سراج الدين البلقيني عن المؤلف. 488 - (النكت للقاضي جعفر بن أحمد بن عبد السلام (¬2)): أرويها بالإسناد المتقدم في أول هذا الكتاب المتصل بالمؤلف. 489 - (نهج (3) البلاغة من كلام أمر المؤمنين إنه للشريف .... .... ¬

.. (1):. (2):. (3): قال ابن تيمية " ... فأكثر الخطب التي ينقلها صاحب "نهج البلاغة" منسوبة لعلي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا تصح. كما أنه على صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجل وأعلى قدرا من أن يتكلم بذلك، ولكن هؤلاء وضعوا أكاذيب وظنوا أنها مدح، فلا هي صدق ولا هي مدح. وأيضا، فالمعاني الصحيحة التي توجد في كلام على موجودة في كلام غيره، لكن صاحب "نهج البلاغة" وأمثاله أخذوا كثيرا من كلام الناس فجعلوه من كلام علي، ومنه ما يحكى عن على أنه تكلم به، ومنه ما هو كلام حق يليق به أن يتكلم به، ولكن هو في نفس الأمر من كلام غيره،= (¬1) طبع بالهند سنة 1912 هـ. تحقيق بولس الألماني. معجم سركيس (1/ 927) مؤلفه عيسى بن إبراهيم الربعي (ت 480 هـ) (¬2) طبع انظر مصادر الفكر (ص 194)

الرضي (1)). أرويه بالإسناد المتقدم في أول هذا المختصر إلى الفقيه أحمد بن محمد الأكوع المعروف ¬

= ولهذا يوجد في كلام "البيان والتبين" للجاحظ وغيره من الكتب كلام منقول عن غير على، وصاحب "نهج البلاغة" يجعله عن على. وهذه الخطب المنقولة في كتاب "نهج البلاغة" لو كانت من كلام على، لكانت موجودة قبل هذا المصنف، منقولة عن علي بالأسانيد وبغيرها فإذا عرف من له خبرة بالمنقولات أن كثير منها (بل أكثرها) لا يعرف قبل هذا، علم أن هذا كذب، وإلا، فليبين الناقل لها في أي كتاب ذكر ذلك ومن الذي نقله عن علي، وما إسناده؟ وإلا، فالدعوى المجردة لا يعجز عنها أحد. ومن كان له خبرة. بمعرفة طريقة أهل الحديث ومعرفة الآثار والمنقول بالأسانيد وتبين صدقها من كذبها، علم أن هؤلاء الذين ينقلون مثل هذا عن على من أبعد الناس عن المنقولات، والتمييز بين صدقها وكذبها ... " منهاج السنة النبوية" لابن تيمية (8/ 55 - 56). وانظر. "البيان لأخطاء بعض الكتاب" (ص 69 - 85). قال الذهبي في "الميزان" (3/ 124) عند ترجمة على بن الحسين العلوي الحسيني الشريف المرتضى: " هو المتهم بوضع كتاب نهج البلاغة، وله مشاركة قوية في العلوم ومن طالع كتاب نهج البلاغة جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي كله، ففيه السب الصراح والحط على السيدين: أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفة بنفس القرشيين الصحابة وبنفس غيرهم فمن بعدهم من المتأخرين جزم بأن الكتاب أكثره باطل 1هـ. (1): في النسخة (أ) [المرتضى] والصواب من (ب) وهو محمد بن الحسين بن موسى الموسوي (أبو الحسن) الشريف الرضي، عالم، أديب، شاعر. ولد سنة (359 هـ) ببغداد وتوفي بها سنة (406 هـ) ودفن في داره. بمسجد الأنباريين. من آثاره: "ديوان شعر كبير"، "طيف الخيال"، "خصائص الأئمة"، "الآثار النبوية"، "تلخيص البيان في مجازات القرآن"، "حقائق التأويل في متشابه التنزيل". انظر: "تاريخ بغداد" (2/ 246 - 247) "وفيات الأعيان" (2/ 2 - 5) "البداية والنهاية" (12/ 30) "معجم المؤلفين" (3/ 263).

بشعلة عن السيد المرتضى بن شراهيك الوافد إلى اليمن عن أحمد بن زيد الحاجي عن الشريف يحي بن إسماعيل عن عمه الحسن بن علي الجويني عن المؤلف. 490 - (نهج الرشاد للسيد علي بن الحسين الشام) (¬1)): أرويه بالإسناد المتقدم في أول الكتاب إلى السيد إبراهيم بن قاسم المؤيد عن أحمد بن ناصر بن عبد الحق عن المؤلف .. 491 - (نوادر الأصول للحكيم الترمذي (¬2)): أرويها بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن عبد الله بن محمد النحريري عن يوسف بن زكريا عن أبيه عن الحافظ بن حجر عن على بن أبي المجد عن سليمان بن حمزة عن عيسى ابن عبد العزيز عن عبد الكريم بن محمد السمعاني عن محمد بن علي بن سعيد بن المطهر عن إسحاق بن إبراهيم البوقي عن محمد بن عبد الرحمن المقري عن أحمد البيكندي عن المؤلف. 492 - (نور السراج للسيد الهادي بن أحمد الجلال (¬3) هو السيد الهادي بن احمد الجلال، أخو السيد الحسن بن احمد. ¬

أخذ العلم عن جماعة منهم على بن محمد العقيني، رحل إليه إلى مدينة تعز وسمع عليه الصحيحين وغيرهما، ورحل إلى عبد القادر بن زياد الجعاشني في سنة (1061 هـ)، فسمع منه صحيح البخاري وجمع سنن أبي داود على إسحاق بن إبراهيم بن جعمان، وكان صاحب الترجمة عالما محققا مائلا إلى الخمول. له مصنفات منها: "شرح الأسماء الحسني" وله مصنف حماه "نور السراج" جعله على أبواب الفقر واستكمل فيه البخاري، ولعل موته كان في أول القرن الثاني عشر. انظر "البدر الطالع" (2/ 318 - 319)، الروض الأغن (2/ 141 رقم 890)): (¬1) انظر: الروض الأغن (2/ 117) (¬2) هو محمد بن علي بن الحسن بن بشير الحكيم الترمذي (أبو عبد الله) محدث، حافظ، صوفي.- الكثير بخراسان والعراق، وقدم نيسابور وحدث ها. من تصانيفه: "الأكياس والمغترين"، "رياضة النفوس"، "الكسب" وكلها في التصوف، "نوادر الأصول في معرفة أخبار الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "، و"علل العبودية" جواب. كتاب من الري"، "ختم الأولياء"، "الصلاة ومقاصدها". انظر: "طبقات السبكي" (2/ 0 2) "تذكرة الحفاظ" (12/ 97) "لسان الميزان" (5/ 308 - 310) "هدية العارفين" (2/ 15 - 16) "معجم المؤلفين" (3/ 502) (¬3) هو السيد الهادي بن احمد الجلال، أخو السيد الحسن بن احمد. أخذ العلم عن جماعة منهم على بن محمد العقيني، رحل إليه إلى مدينة تعز وسمع عليه الصحيحين وغيرهما، ورحل إلى عبد القادر بن زياد الجعاشني في سنة (1061 هـ)، فسمع منه صحيح البخاري وجمع سنن أبي داود على إسحاق بن إبراهيم بن جعمان، وكان صاحب الترجمة عالما محققا مائلا إلى الخمول. له مصنفات منها: "شرح الأسماء الحسني" وله مصنف حماه "نور السراج" جعله على أبواب الفقر واستكمل فيه البخاري، ولعل موته كان في أول القرن الثاني عشر. انظر "البدر الطالع" (2/ 318 - 319)، الروض الأغن (2/ 141 رقم 890)

أرويه بالإسناد المتقدم في أول هذا المختصر إلى السيد إبراهيم بن القاسم بن المؤيد عن السيد محمد بن يحي الحبشي وعن أحمد بن ناصر المخلافي عن المؤلف.

حرف الهاء 493 - (الهداية (¬1) للبرهان المرغيناني (¬2)): أرويها بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن أحمد بن محمد الشلبي عن السيد يوسف بن عبد الله الأرميوني عن إبراهيم بن أحمد القلقشندي عن الحافظ ابن حجر عن محمد بن علي المقري عن محمد بن حجاج الكاشغري عن حسين بن علي السغناقي عن محمد بن محمد ابن نصر النسفي عن محمد بن عبد الله الكردي عن المؤلف .. 494 - (هداية الأفكار للسيد صارم الدين إبراهيم بن محمد الوزير (¬3)): أرويها بالإسناد المتقدم في أول الكتاب إلى الإمام شرف الدين عن المؤلف. 495 - (الهداية (¬4) شرح الغاية للحسين بن القاسم): أرويها بالإسناد المتقدم إليه في الغاية له. ¬

(¬1) "الهداية شرح بداية المبتدي" من أشهر كتب الأحناف المتوسطة على الإطلاق ويعتبر عندهم من أهم المراجع في الفقه مذهبا، ولذلك فقد اعتنى به العلماء شرحا وتفسيرا، ولعل من أشهر شروحه "فتح القدير" لابن الهمام، ولعل من الذين خدموه خدمة جليلة الزيلعي في كتابه (نصب الراية) خرج به أحاديث الهداية بصورة موسوعية جعلته في الصف الأول بين كتب التخريج (¬2) هو علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني، المرغيناني، الحنفي، (برهان الدين، أبو الحسن) فقيه، فرضي، محدث، حافظ، مفسر، مشارك في أنواع من العلوم. توفي سنة (593 هـ). من تصانيفه: "شرح الجامع الكبير" للشيباني، "بداية المبتدي"، "الهداية"، "كفاية المنتهى"، "التجنيس والمزيد"، "ومختار الفتاوى"، "وكلها في فروع الفقه الحنفي. انظر: "هدية العارفين" (1/ 702) "معجم المؤلفين" (2/ 411). ملحوظة: في المخطوطة (المرغناني) والصحيح ما أثبتناه ... والله أعلم (¬3) هداية الأفكار إلى مذهب الأئمة الأطهار: شرح مختصر على "الأزهار" مع زيادات على ما فيه. له مخطوط سنة 1062هـ بجامع صنعاء، وأخرى سنة 1008هـ رقم 1058 - 1062) مصادر الفكر (ص 231) (¬4) انظر: الروض الأغن (1/ 176 رقم 312)

496 - (الهدي (¬1) لابن القيم): أرويه بالإسناد المتقدم إليه في حادي الأرواح له. ¬

(¬1) هو كتاب "زاد المعاد في هدي خير العباد" وهو كتاب قيم. مطبوع بتحقيق الشيخ (شعيب ا لإرناؤوط) والشيخ (عبد القادر الإرناؤوط)

حرف الواو 497 - (الوابل المغزار ليحي حميد): أرويه بالإسناد المتقدم في كتاب الفتح له. 498 - (الوافي (¬1) في الفرائض للحسن بن أبي البقاء): أرويه بالإسناد المتقدم في التقرير إلى الأمير الحسين بن محمد عن الإمام أحمد بن الحسين عن المؤلف. 499 - (الوافي لعلي بلال (¬2)): أرويه بالإسناد المتقدم أول الكتاب إلى القاضي جعفر عن الكني عن ابن أبي الفوارس عن أبي على بن أموج عن الشيخ علي خليل عن القاضي يوسف عن السيد بن المؤيد بالله وأبي طالب عن المؤلف. 500 - (الوسيط تفسير الواحدي): أرويه بالإسناد المتقدم له في حرف التاء. 501 - (الوسيط للغزالي): أرويه بالإسناد المتقدم إليه في كتاب الإحياء له. 502 - (الوسيط في الفرائض للعصيفري (¬3)): ¬

(¬1) انظر: الروض الأغن (1/ 144 رقم 257) (¬2) هو علي بن بلال الأملي، الزيدي مولى السيدين الأخوين المؤيد بالله وأبي طالب، وكان هذا الشيخ من المتبحرين المبرزين في فنون عديدة حافظا للسنة مجتهدا، وهو الذي يعرف بصاحب "الوافي". وله مصنفات نفيسة منها "الوافي في الفقه" وقد أكثر الرواية عنه في شرح "الأزهار" ومنها شرح "الأحكام" و"تتمة المصابيح" ولم يررخوا له تاريخ وفاة. انظر: "تراجم الرجال" (ص 23 - 24) (¬3) هو الفضل بن أبي السعد العصيفري، فرضي، توفي حدود سنة (750 هـ). من تصانيفه: "مفتاح الفائض في علم الفرائض"، و"عقد الأحاديث في علم المواريث" انظر: "هدية العارفين" (1/ 820) "معجم المؤلفين" (2/ 623)

أرويه بالإسناد المتقدم في أول هذا المختصر إلى الإمام القاسم بن محمد عن عبد العزيز ابن محمد بهران عن يحي بن محمد حميد عن إسماعيل بن شيبة عن محمد بن الحسن بن حميد عن أبيه عن السيد عبد الله بن يحي بن المهدي الزيدي عن أبيه عن إبراهيم بن أحمد الكينعي عن محمد بن عبد الله الرقيمي عن محمد بن عبد الله بن أبي النجم عن القاسم بن أحمد الضاكري عن أحمد بن نسى العنسي عن على بن مسعود النويرة عن المؤلف ..

حرف الياء 503 - (أبي قوتة للسيد يحي بن الحسين (¬1)): أرويها بالإسناد المتقدم في أول الكتاب إلى الإمام شرف الدين عن السيد صارم الدين عن أبيه عن جده عن السيد صلاح بن الجلال عن الهادي بن يحي بن الحسين عن أبيه المؤلف .. 504 - (الياقوت المعظم للإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة (¬2)): ارويه بالإسناد المتقدم أول الكتاب إلى الإمام شرف الدين عن السيد صارم الدين عن السيد أبي العطايا عن أبيه عن الواثق المطهر بن محمد بن المطهر عن أبيه عن جده عن محمد ابن احمد بن أبي الرجال عن المهدي أحمد بن الحسين عن أحمد بن محمد الأكوع المعروف بشعلة عن المؤلف. 505 - (اليقين لابن أبي الدنيا (¬3)): أرويه بالإسناد المتقدم في كتاب قصر الأمل له .. 506 - (اليواقيت ليحيى بن أحمد حنش (¬4)): ¬

(¬1) انظر: مؤلفات الزيدية (3/ 168) وأحكام اليمن (ص 97) (¬2) انظر: حكام اليمن (ص 202) (¬3) طبع تحقيق مجدي السيد إبراهيم/ مكتبة القرآن/ القاهرة (¬4) هو يحي بن حنش الزيدي الظفاري كان فقيها محققا من المذاكرين. له مصنفات منها: "أسرار الفكر في الرد على الكني وأبي مضر"، وله "الجامع في الفقه" بلغ فيه إلى الجنائز وأتمه ولده محمد مولده سنة (640 هـ). وتوفي في (697 هـ) وقبره بالطفة من ظفار رحمه الله. انظر "تراجم الرجال" (ص40)، مصادر الفكر (ص 204). ولكن كتاب "اليواقيت" محمد بن يحي بن أحمد حنش- تقدمت ترجمته- وقد وهم الشوكاني في نسبته إلى الأب يحي واسم هذا الكتاب "يواقيت السير في شرح سيرة سيد البشر وأصحابه العشرة الغرر والأئمة المنتجين الزهر" وهو الجزء الخامس من موسوعة المؤلف" غايات الأفكار ونهايات الأنظار" يشتمل على سيرة أئمة الزيدية من الإمام علي إلى أئمة عصره، مرتب عل ثمانية أبواب. مؤلفات الزيدية (3/ 172رقم 3344)

أرويه بالإسناد المتقدم إلى الإمام المهدي أحمد بن يحي في الأزهار والبحر له عن القاسم ابن أحمد حميد عن أبيه عن المؤلف ... وإلى هنا انتهى ما قصدت جمعه من الأسانيد على هذا الترتيب العجيب والتقريب الغريب وكان الفراغ من تحريره في وسط ليلة الخميس لعله خامس عشر شهر جمادي الآخرة سنة 1214هـ. بقلم مؤلفه محمد بن علي بن محمد الشوكاني غفر الله لهم. [وفرغت من تحريره نقلا عن خط سيدي العلامة أحمد بن يوسف زبارة رحمه الله، عن خط المؤلف جزاه الله خيرا. يوم الجمعة 2 / شهر الحجة الحرام 1289هـ / كتبه الحقير أحمد بن رزق السياني وفقه الله تعالى وكفر له ولوالديه والمؤمنين. آمين] (¬1) ¬

(¬1) زيادة من "ب".

بحث في قول أهل الحديث " رجال إسناده ثقات "

بحث في قول أهل الحديث " رجال إسناده ثقات " تأليف العلامة محمد بن علي الشوكاني ويليه: مناقشة للجواب السابق من القاضي محمد بن أحمد مشحم حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط 1 - عنوان الرسالة: " بحث في قول أهل الحديث: رجال إسناده ثقات ". 2 - موضوع الرسالة: يبحث في جانب من جوانب علم مصطلح الحديث. 3 - الرسالة ضمن المجلد الثالث من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني). 4 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم، أحمدك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك ... ". 5 - آخر الرسالة: " ... وإن الفرق ما بين الجودة والقوة وما بين الصحة هو الفرق بين الحديث الصحيح والحسن، والإسناد الصحيح والحسن والكلام في ذلك معروف ". انتهى تحرير الجواب في ليلة الأحد، لعله خامس وعشرون شهر جمادى الآخرة سنة 1217. بقلم المجيب: محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما. 6 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 7 - عدد الأوراق: (21). 8 - المسطرة: 22 - 26 سطرا. 9 - عدد الكلمات في السطر: (11 - 13) كلمة. 10 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم أحمدُك لا أحصي ثناء عليك. أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وعلى آله الطاهرين، ورضي الله عن أصحابه الراشدين. قلتم: - كثر الله فوائدكم، ونفع بعلومكم - تحرير السؤال. إن جماعة من المتأخرين يصححون الحديث لكون رجاله ثقات، فتراهم إذا وقفوا على قول أحد من الحفاظ. إن رجال هذا السند ثقات أو بحثوا في التقريب (¬1) أو نحوه (¬2). فوجدوا توثيق رجال سند حكموا على الحديث بالصحة، وهذا كثيرًا ما يقع في شرح المناوي (¬3) حتى أنه اعترض على السيوطي (¬4) لما رمز لحسن حديث "أمروا النساء في أنفسهن" (¬5) فقال: ¬

(¬1) وهو تقريب التهذيب لـ (أحمد بن علي بن حجر العسقلاني) طبع عدة مرات. (¬2) "الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة" للإمام الذهبي ت 748 هـ ط. أولى سنة 1403هـ - 1983م دار الكتب العلمية. "وتهذيب التهذيب" لـ (أحمد بن علي بن حجر العسقلاني). ط أولى 1416 هـ - 1996 م مؤسسة الرسالة. (¬3) في فيض القدير شرح الجامع الصغير (1/ 56 رقم: 18). (¬4) في الجامع الصغير رقم: (18). (¬5) أخرجه أبو داود رقم: (2095) وعنه البيهقي (7/ 115) من طريق إسماعيل بن أمية: ثني الثقة: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أمروا النساء في بناتهن" وهو حديث ضعيف. وقال الألباني في الضعيفة (3/ 677): وهذا إسناد ضعيف لجهالة "الثقة" فإن مثل هذا التوثيق لشخص مجهول العين عند غير الموثق غير مقبول كما هو مقرر في "الأصول" ولذلك رمز السيوطي لحسنه غير حسن إن صح ذلك عنه، فإن المناوي قد نص في مقدمة "فيض القدير" على ما يجعل الواقف على الرمز لا يثق به، ومع ذلك فكثيرًا ما يقول: كما قال في هذا الحديث "ورمز المؤلف لحسنه" ويقره وهو غير مستحق له، كما ترى، بل قلده في الكتاب الآخر، فقال في التيسير: " ... بإسناد حسن".

إنه لا يبلغ درجة الصحة، وليس كذلك، فقد قال الهيثمي (¬1) بعد عزوه للطبراني (¬2) رجاله ثقات، هكذا جزم به وقال في حديث "ابن السبيل أول شارب" (¬3) قال الهيثمي (¬4): رجاله ثقات، فرمز المؤلف (¬5) تقصير، وحقه الرمز لصحته، ونحو هذا كثير في كلامه. ¬

(¬1) في المجمع (4/ 279). (¬2) في المعجم الكبير (17/ 138). (¬3) أي: "من ماء زمزم" من حديث أبي هريرة. وهو حديث منكر. (¬4) في مجمع الزوائد (3/ 286) وقال: رواه الطبراني في الصغير (رقم 252 - الروض الداني) ورجاله ثقات. (¬5) في فيض القدير (1/ 88). وقال المناوي في التيسير لشرح الجامع الصغير (1/ 18) بعد أن عزاه للطبراني في الصغير: "رجاله ثقات لكنه فيه نكارة.". تنبيه: - اشتهر بين كثير من العلماء الاعتماد على رموز السيوطي للحديث بالصحة والحسن أو الضعف، ونرى أنه غير سائغ للأسباب الآتية: 1\ أن الرموز قد طرأ عليها التحريف والتغيير من الناسخ أو الطباع كما يعلم ذلك أهل المعرفة والعلم بالكتاب، وإليك شاهدًا على ما أقول، قول أعرف الناس به، ألا وهو العلامة عبد الرءوف المناوي، قال في شرحه عليه فيض القدير (1/ 41): "وأما ما يوجد في بعض النسخ من الرمز إلى "الصحيح" و"الحسن" و"الضعيف" بصورة رأس صاد، وحاء، وضاد، فلا ينبغي الوثوق به، لغلبة تحريف النساخ،. . . ". 2 - \ أن بعض رموز أحاديث الكتاب، قد أصابها السقط من الناسخ فلم تذكر أصلا خلافا لنسخته ... ". 3 - \ أن السيوطي معروف بتساهله في التصحيح والتضعيف، فالأحاديث التي صححها أو حسنها فيها قسم كبير منها ردها عليه الشارح المناوي، وهي تبلغ المئات إن لم نقل أكثر من ذلك، وأما الأحاديث التي سكت عليها وهي ضعيفة، فحدث عن البحر ولا حرج!!! بل إن بعضها قد ضعفها مخرجها الذي عزاه السيوطي إليه، ولم يحك هو كلامه أصلًا، وأنقل إليك ما قاله العلامة المناوي في فيض القدير تأييدًا لذلك: "وكثيرًا ما يقع للمصنف عزو الحديث لمخرجه، ويكون مخرجه قد عقبه بما يقدح في سنده، فيحذف المصنف ذلك، ويقتصر على عزوه له، وذلك من سوء التصرف اهـ. 4 - \ أن ما وقع في الجامع الصغير من الأحاديث الواهية والموضوعة لم يكن من أجل أن السيوطي متساهل فقط، بل الظاهر أنه جرى في تأليفه على القاعدة المعروفة عند المحدثين، وهي قولهم "قمش ثم فتش" فقمش وجمع ما استطاع أن يجمع، ثم لم يتيسر له التفتيش والتحقيق في كل أحاديث الكتاب، ويشهد لهذا أن قسمًا كبيرًا منها قد حكم هو نفسه عليها بالوضع في "اللآلئ المصنوعة" و"ذيل الأحاديث الموضوعة" وغيرها. انظر مقدمة ضعيف الجامع (1/ 12 - 20) للمحدث الألباني.

انتهى كلام السائل - عافاه الله - أقول: وينبغي هاهنا أن نقدم بيان ماهية الصحيح عند أهل الاصطلاح فنقول: قال الخطابي (¬1) فالحديث الصحيح عند أهل الحديث ما اتصل سنده وعدلت نقلته. وكذا قال في معالم السنن حاكيًا لذلك عن أهل الحديث، ولم يشترط الضبط ولا السلامة من شذوذ ولا علة. قال ابن دقيق العيد في الاقتراح (¬2) إن أصحاب الحديث زادوا ذلك يعني الضبط والسلامة من الشذوذ والعلة. قال: وفي هذين الشرطين نظر على مقتضى نظر الفقهاء. فإن كثيرًا من العلل التي يعلل بها المحدثون لا تجري على أصول الفقهاء (¬3) انتهى. قلت: هذه مناقشة لاصطلاح قوم باصطلاح قوم ¬

(¬1) في معالم السنن (1/ 11). (¬2) (ص186). (¬3) ومثال: ما إذا أثبت الراوي عن شيخه شيئًا فنفاه من هو أحفظ أو أكثر عددًا أو أكثر ملازمة منه، فإن الفقيه والأصولي يقولون: المثبت مقدم على النافي فيقبل. والمحدثون يسمونه شاذًا لأنهم فسروا الشذوذ بمخالفة الراوي في روايته من هو أرجح منه عند تعسر الجمع بين الروايتين. ومن ذلك أيضًا ما إذا روى العدل الضابط عن تابعي عن صاحبي حديثًا، فيرويه ثقة آخر عن هذا التابعي بعينه عن صحابي آخر غير الأول، فإن الفقهاء وأكثر المحدثين يجوزون أن يكون التابعي سمعه منهما معًا. وبعض المحدثين يعلون بهذا متمسكين بأن الاضطراب في الحديث دليل على عدم الضبط في الجملة. انظر: فتح المغيث (1/ 19 - 20). ويوضح هذا الكلام الحافظ زين الدين العراقي في التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح (ص 20 - 21): حيث يقول والجواب أن من يصنف في علم الحديث إنما يذكر الحد عند أهله لا من عند غيرهم من أهل علم آخر. وفي مقدمة مسلم: "1/ 30 - 31" أن المرسل في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار، وليس بحجة، وكون الفقهاء والأصوليين لا يشترطون في الصحيح هذين الشرطين، لا يفسد الحد عند من يشترطهما على أن المصنف قد احترز عن خلافهم وقال بعد أن فرغ من الحد وما يحترز به عنه، فهذا هو الحديث الذي يحكم له بالصحة بلا خلاف بين أهل الحديث. وقد يختلفون في صحة بعض الأحاديث لاختلافهم في وجود هذه الأوصاف فيه أو لاختلافهم في اشتراط بعض هذه الأوصاف كما في المرسل. وقد احترز المصنف عما اعترض به عليه؛ فلم يبق للاعتراض وجه، والله أعلم. وقوله: بلا خلاف بين أهل الحديث إنما قد نفى الخلاف بين أهل الحديث، لأن غير أهل الحديث قد يشترطون في الصحيح شروطًا زائدة على هذه كاشتراط العدد في الرواية كما في الشهادة. فقد حكاه الحازمي في شروط الأئمة عن بعض متأخري المعتزلة على أنه قد حكى أيضًا عن بعض أصحاب الحديث. قال البيهقي في رسالته إلى أبي محمد الجويني - رحمهما الله - رأيت في الفصول التي أملاها الشيخ - رحمه الله - حكاية عن بعض أصحاب الحديث أنه يشترط في قبول الأخبار أن يروي عدلان عن عدلين حتى يتصل مثنى مثنى برسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يذكر قائله إلى آخر كلامه، وكان البيهقي رآه من كلام أبي محمد الجويني فنبهه على أنه لا يعرف من أهل الحديث والله أعلم.

آخرين وقد تقرر أن الاصطلاحات لا مشاحنة فيها، ولا سيما وأهل الفن هم المقدمون في تحقيق شروطه وما يعتبر فيه، والفقهاء هم أقعد بمعرفة فن الفقه لا بمعرفة فن الحديث. فأكثرهم لا خبرة لهم به. ولا يفرقون بين صحيحه وحسنه وضعيفه [1] بل قد لا يفرقون بين ما كان منه ثابتًا، وما كان موضوعًا كما نشاهد ذلك في مصنفاتهم، فابن دقيق العيد (¬1) قد روى عن المحدثين زيادة على ما روى عنهم الخطابي. والزيادة مقبولة، ولا مفاد لما تعقب به ذلك من المناقشة، ولكنه قد قال ابن الصلاح (¬2) في بعض مؤلفاته: إن ¬

(¬1) في الاقتراح (ص 186). (¬2) في مقدمته (ص 10) والتقييد والإيضاح (ص 20).

الحديث الذي جمع بين اتصال السند، وعدالة النقلة والضبط، والسلامة من الشذوذ والعطلة القادحة هو الحديث الذي يحكم له بالصحة بلا خلاف، فأفاد هذا أن ما جمع هذه الأمور صحيح بالإجماع. وذلك لا يستلزم أن الصحيح لا يكون إلا ما جمع ذلك عندهم، بل فيهم من يقول: إن الصحيح قد يكون موجودًا بوجود بعض هذه الأمور. وأما زين الدين العراقي في شرح المنظومة (¬1) فقال بعد نقله لكلام بن الصلاح ما لفظه: وإنما قيد نفي الخلاف بأهل الحديث، لأن بعض متأخري المعتزلة (¬2) يشترط العدد في الرواية كالشهادة، حكاه الحازمي في شروط الأئمة (¬3) انتهى. ولا يخفاك أن إخراج بعض متأخري المعتزلة هو من قيد قوله: أهل الحديث، لأنهم ليسوا من أهل الحديث لا من قيد قوله بإجماع أهل الحديث، فإن المفهوم من إجماعهم أن بعضهم يقول بأن الصحة تثبت بدون ذلك. وقد تعقب الزين (¬4) كلامه السابق بنقل كلام ابن دقيق العيد (¬5) فقال: ولو قيل في هذا الحديث الصحيح المجمع على صحته: هو كذا وكذا إلى آخره؛ لكان حسنًا، لأن من لا يشترط مثل هذه الشروط لا يحصر الصحيح في هذه الأوصاف، ومن شرط الحد أن يكون جامعًا مانعًا. انتهى. وهذا الكلام هو الصواب لا ما قاله العراقي (¬6) كما عرفت. ويؤيد ذلك ما تقدم نقله عن الخطابي (¬7) [2]. قال السيد محمد بن إبراهيم الوزير في التنقيح (¬8) بعد نقله لكلام زين الدين السابق في التقيد بنفي الخلاف ما لفظه: قلت: بل مذهب البغدادية من المعتزلة اشتراط التواتر. ¬

(¬1) أي ألفية الحديث (ص 8). (¬2) تقدم التعريف بها. (¬3) (ص 113 - 114). (¬4) في ألفية الحديث (ص 7 - 8). (¬5) في الاقتراح (ص 187). (¬6) في ألفية الحديث (ص 7 - 8). (¬7) في معالم السنن (1/ 11). (¬8) (ص 28) بتحقيقنا.

وعندي أنه لو لم يقيد نفي الخلاف بذلك كما فعل الشيخ تقي الدين (¬1) لكان صحيحًا. ويحمل على إجماع الصحابة ومن بعدهم حتى حدث هذا الخلاف. انتهى. قلت: هو مبني على أن المراد بالتقييد ما أشار إليه زين الدين العراقي، وقد عرفت أن خلافه الصواب، وإذا تقرر أن هذا حد للصحيح المجمع عليه لا لكل صحيح فما ذكره المتأخرون كزين الدين العراقي حيث يقول في منظومته (¬2): فالأول المتصل الإسناد ... بنقل عدلٍ ضابط الفؤاد عن مثله من غير ما شذوذ ... وعلة قادحة فتو ذي وكذلك ما قال ابن حجر في النخبة (¬3) إنه خبر الآحاد بنقل عدل (¬4) تام الضبط (¬5)، متصل السند، غير معلل، ولا شاذ هو الصحيح لذاته. انتهى. هو الصحيح المجمع عليه لا كل صحيح، مع ما بين الكلامين من الاختلاف. فإن زين الدين (¬6) اشترط مجرد الضبط لا تمامه، ولم يذكر في شرح المنظومة ما يفيد أن المعتبر تمام الضبط، بل قال: ولا شك أن ضبط الراوي لا بد من اشتراطه، لأن من كثر الخطأ في حديثه وفحش؛ استحق الترك، وإن كان عدلًا انتهى. وقال في موضع آخر من الشرح المذكور ما لفظه: وقولي: ضابط احتراز عما في سنده راو مغفل، كثير الخطأ، وإن عرف بالصدق والعدالة. ¬

(¬1) في كتابه "الاقتراح" (ص 187). (¬2) (ص 5) أي في ألفية الحديث. (¬3) (ص 54). (¬4) العدل: قال ابن حجر في "النخبة" (ص 55): العدل من له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة. والمراد بالتقوى: اجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة. (¬5) والضبط: ملكة تؤهل الراوي لأن يروي الحديث كما سمعه. ضبط صدر: وهو أن يثبت ما سمعه بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء. وضبط كتاب: وهو صيانته لديه منذ سمع فيه وصححه إلى أن يؤدي منه وقيد بالتام إشارة إلى الرتبة العليا في ذلك. (¬6) (ص 5) أي في ألفية الحديث

ولا يخفى أن كثرة الخطأ وفحشه يخرجان من قيد مجرد الضبط، لأن من كان كثير الخطأ فاحشًا فيه لا يكون ممن حصلت له ملكة الضبط. وأما من كان تام الضبط فينافيه وقوع الخطأ نادرًا، لأن قيد التمام يفيد ذلك. لا يقال: إن ضرورة النظم هي الملجية إلى إهمال قيد التمام، لأنا نقول: لو كان الأمر كذلك؛ لذكر التمام في الشرح، متقرر بذلك أنه لا يعتبر تمام الضبط، بل مجرد الضبط بخلاف ابن حجر، فقد اعتبر في الحد المذكور تمام الضبط، وكذلك اعتبر زين الدين في نظمه السابق أن تكون العلة قادحة، ولم يعتبر ذلك ابن حجر في الحد المذكور، وإن كان قد ذكره في الشرح فقال: والمعلل لغة: ما فيه علة، واصطلاحًا: [3] ما فيه علة (¬1) خفية قادحة. انتهى. ولا يخفى أن إهماله لقيد قادحة في الحد يوجب الخلل فيه ولا ضرورة توجب ترك هذا القيد. فإن العلل منقسمة إلى قسمين: قادحة وغير قادحة كما هو معروف. فإن قيل: إنه اعتبر في الحد المعنى اللغوي كما يفيده كلامه المذكور. فالكتاب إنما هو مدون لبيان الأمور الاصطلاحية، لا لبيان المعاني اللغوية. وأيضًا مما اختلف فيه حد زين الدين (¬2)، وحد ابن حجر أن ابن ¬

(¬1) العلة عبارة عن سبب غامض خفي قادح مع أن الظاهر السلامة منه، ويتطرق إلى الإسناد الجامع شروط الصحة ظاهرًا، وتدرك بتفرد الراوي، وبمخالفة غيره له مع قرائن تنبه العارف على وهم بإرسال أو وقف أو دخول حديث في حديث أو غير ذلك، بحيث يغلب على ظنه فيحكم بعدم صحة الحديث أو يتردد فيتوقف، والطريق إلى معرفته جمع طرق الحديث والنظر في اختلاف رواته وضبطهم وإتقانهم، وكثر التعليل بالإرسال بأن يكون راويه أقوى ممن وصل، تقع العلة في الإسناد وهو الأكثر، وقد تقع في المتن، وما وقع في الإسناد قد يقدح فيه وفي المتن. كالإرسال والوقف، وقد يقدح في الإسناد خاصة، ويكون المتن معروفًا صحيحًا ... وقد تطلق العلة على غير مقتضاها الذي قدمناه، ككذب الراوي وغفلته وسوء حفظه، ونحوها من أسباب ضعف الحديث، وسمى الترمذي النسخ علة، وأطلق بعضهم العلة على مخالفة لا تقدح كإرسال ما وصله الثقة الضابط حتى قال: من الصحيح صحيح معلل كما قيل منه صحيح شاذ. (¬2) انظر ألفية الحديث (ص 8).

حجر (¬1) صرح بأن ذلك حد الصحيح لذاته كما عرفت. وقال في الشرح (¬2) لأنه "إما أن يشتمل من صفات القبول على أعلاها أولًا". الأول: الصحيح لذاته. والثاني: إن وجد ما يجبر ذلك القصور ككثرة الطرق فهو الصحيح أيضًا، لكن لا لذاته" انتهى. بخلاف زين الدين (¬3). فإنه جعل ذلك حدًا لمطلق الصحيح من غير تقييد بالصحيح لذاته، وكان بين الحدين المذكورين اختلافات ثلاثة. وقد وافق زين الدين السيد محمد بن إبراهيم في التنقيح (¬4) فذكر في حد الصحيح مجرد الضبط لا تمامه، وذكر العلة ولم يقيدها بالقادحة، وإنما نقل تقييد العلة ... بالقادحة عن ابن الصلاح (¬5) فإن قلت: وأي فائدة لما تعرضت له من ذكر الاختلاف بين الحد الذي ذكره العراقي، وبين الحد الذي ذكره ابن حجر؟ قلت فائدة ذلك أن تقف على اضطراب كلامهم في حد الصحيح، وعلى أن ما جمع تلك القيود هو المجمع عليه منه، وأنه قد يكون الحديث صحيحًا عند البعض مع عدم واحد منها أو اثنين. وقد صرح ابن حجر في النخبة (¬6) وشرحها بما يفيد ما ذكرناه فقال: "وتتفاوت رتبته أي الصحيح بحسب تفاوت هذه الأوصاف المقتضية للتصحيح في القوة، فإنها لما كانت مفيدة لغلبة الظن الذي عليه مدار الصحة اقتضت أن يكون لها درجات بعضها فوق بعض، بحسب الأمور المقوية. وإذا كان كذلك فما يكون رواته في الدرجة العليا من العدالة. والضبط وسائر الصفات التي توجب الترجيح كان أصح مما دونه فمن الرتبة. [4] العليا في ذلك ما أطلق عليه بعض ¬

(¬1) "شرح النخبة" (ص 54 - 55). (¬2) أي شرح النخبة (ص 54 - 55). (¬3) انظر ألفية الحديث (ص 8). (¬4) (ص 27) بتحقيقنا (¬5) في التقييد والإيضاح (ص 20). (¬6) (ص 56).

الأئمة: أنه أصح الأسانيد: كالزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه. ومحمد بن سيرين عن عبيدة السليماني عن علي. وكإبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود. ودونها في الرتبة: كرواية بريد بن عبد الله بن أبي بردة عن جده، عن أبيه أبي موسى. وكحماد بن سلمة عن ثابت عن أنس. ودونها في الرتبة: كسهيل ابن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة. وكالعلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة؛ فإن الجميع يشملهم اسم العدالة والضبط إلا أن المرتبة الأولى فيهم من الصفات المرجحة ما يقتضي تقديم روايتهم على التي تليها، وفي التي تليها من قوة الضبط ما يقتضي تقديمها على الثالثة، وهي مقدمة على رواية من يعد ما ينفرد به حسنًا: كمحمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر عن جابر. وعمرو بن سعيد عن أبيه عن جده. وقس على هذه المراتب ما يشبهها. انتهى كلامه (¬1). وهو يفيد أن الصحيح مراتب، وأن تمام الضبط وتمام العدالة إنما هو تعريف للأصح لا للصحيح. فقد يكون الحديث صحيحًا بدون قيد التمامية في الأمرين المذكورين، وهكذا السلامة من كل علة، فإنها رتبة للصحيح فوق رتبة ما هو سالم من العلة القادحة، لا من مطلق العلة، مع كونه صحيحًا. ومما يؤيد هذا أنه قد اتفق المصنفون في اصطلاح الحديث أن الصحيح مراتب: أعلاها ما في الصحيحين، ثم ما في البخاري، ثم ما في مسلم، ثم ما كان على شرطهما، ثم ما كان على شرط البخاري، ¬

(¬1) أي كلام ابن حجر في شرح النخبة (ص 58).

ثم ما كان على شرط مسلم، ثم ما صححه غيرهما من الأئمة. فهذه سبع رتب للصحيح بعضها أعلى من بعض، فأفاد ذلك أن الصحيح أنواع لا نوع واحد، وقد وقع الاختلاف من علماء الحديث في شرط البخاري ومسلم ما هو؟ فقال محمد بن طاهر في كتابه في شروط الأئمة (¬1): شرط البخاري ومسلم أن يخرجا الحديث المجمع على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور. قال العراقي (¬2) وليس ما قاله بجيد، لأن النسائي [5] ضعف جماعة أخرج لهم الشيخان أو أحدهما (¬3) وقال الحازمي في شروط الأئمة (¬4) ما حاصله: إن شرط البخاري أن يخرج ما اتصل إسناده بالثقات المتقنين من الملازمين لمن أخذوا عنه ملازمة طويلة، وإنه قد يخرج أحيانًا عن أعيان الطبقة التي تلي هذه في الإتقان والملازمة لمن رووا عنه، فلم يلزموه إلا ملازمة يسيرة. وإن شرط مسلم أن يخرج حديث هذه الطبقة الثانية. وقد يخرج حديث من لم يسلم من غوايل الجرح، إذا كان طويل الملازمة لمن أخذ عنه كحماد بن سلمة في ثابت البناني وأيوب. وقال النووي (¬5) "إن المراد بقولهم على ¬

(¬1) (ص 86): وتمامه "من غير اختلاف بين الثقات الأثبات، ويكون إسناده متصلًا غير مقطوع، فإن كان للصحابي راويان فصاعدًا فحسن، وإن لم يكن إلا راوٍ واحد إذا صح الطريق إلى ذلك الراوي أخرجاه ... ". (¬2) في ألفيته (ص 21 - 22). (¬3) قال السيوطي في "تدريب الراوي" (1/ 125): وأجيب بأنهما أخرجا من أجمع على ثقته إلى حين تصنيفهما، ولا يقدح في ذلك تضعيف النسائي بعد وجود الكتابين ونقل عن ابن حجر جوابًا آخر حيث قال: قال شيخ الإسلام: تضعيف النسائي إن كان باجتهاده أو نقله عن معاصر فالجواب ذلك، وإن نقله عن متقدم فلا. قال: ويمكن أن يجاب بأنه ما قاله ابن طاهر - في شروط الأئمة (ص 8) - هو الأصل الذي بنيا عليه أمرهما، وقد يخرجان عنه لمرجع يقوم مقامه. (¬4) (ص 151). (¬5) في مقدمة شرحه لصحيح مسلم (1/ 3):

شرطهما أن يكون رجال إسناده في كتابيهما، لأن ليس لهما شرط في كتابيهما، ولا في غيرهما" قال العراقي (¬1) وقد أخذ النووي هذا من كلام ابن الصلاح (¬2). قال وعلى هذا عمل ابن دقيق العيد، فإنه ينقل عن الحاكم تصحيحه لحديث على شرط البخاري مثلًا، ثم يعترض عليه بأن فيه فلانًا ولم يخرج له البخاري. وكذلك فعل الذهبي في مختصر (¬3) المستدرك. قال: وليس ذلك بجيد منهم. فإن الحاكم صرح في خطبة كتاب (¬4) المستدرك بخلاف ما فهموه عنه. فقال: وأنا أستعين الله تعالى على إخراج أحاديث رواتها ثقات قد احتج بمثلها الشيخان أو أحدهما. فقوله بمثلها أي بمثل رواتها لا بهم أنفسهم, ويحتمل أن يراد بمثل تلك الأحاديث. وإنما يكون مثلها إذا كانت بنفس رواتها وفيه نظر انتهى. أقول: وعلى كل تقدير فليس التصحيح لما في الصحيحين إلا لكون الرواة من الثقات. وقد عرفت أنهما أعلى مراتب الصحيح مع ما تقدم من أن في رجالهما من قد تكلم فيه بجرح، وهكذا تصحيح من صحح من الأئمة لوجود شرطهما أو أحدهما لا مستند له إلا كون رجال إسناد الحديث الذي صححه موجودين في الصحيحين، أو في أحدهما، أو مماثلين لمن فيهما [6]. فهذا التصحيح بأمرين من تلك الأمور السابقة: أحدهما اتصال السند. والثاني ثقة الراوي، وهذا هو عين ما قاله الخطابي في معالم السن (¬5) حسبما نقلناه عنه سابقًا ولا يخفى عليك أن قد قدمنا أن قد اتفق أهل الاصطلاح على أن مراتب الصحيح سبع، وقد دار الصحيح في ست منها على مجرد اتصال السند، وكون الرواة ثقات، ولم يبق من ¬

(¬1) في ألفيته (ص 22). (¬2) وتمام العبارة. فإنه لما ذكر كتاب المستدرك للحاكم قال: إنه أودعه ما رآه على شرط الشيخين، فقد أخرجا عن رواته كتابيهما إلى آخر كلامه .. (¬3) مع المستدرك (1/ 3). (¬4) في المستدرك (1/ 3). (¬5) (1/ 11).

رتب الصحيح إلا رتبة واحدة، وهي السابعة، وذلك ما صرح بصحته إمام من أئمة الحديث وإذا كانت جميع مراتب الصحيح إلا واحدة منها دائرة على مجرد اتصال السند، وثقة الراوي، فكيف يستنكر من إمام من أئمة الحديث أن يصحح حديثًا بهذين الأمرين فقط إذا تتبع السند فوجدهم ثقات اتصلت أسانيدهم! وإن لم يكونوا من رجال الصحيحين، ولا مماثلين لهم، ويكون هذا النوع السابع ملحقًا بالأنواع الستة المتقدمة. فإن قلت: ما كان في الصحيحين أو على شرطهما أو أحدهما فيبعد كل البعد أن يكون فيه شذوذ أو علة. قلت: وهكذا يبعد كل البعد أن يصرح إمام من أئمة الحديث المعتبرين بأن الحديث صحيح لاتصال سنده، وثقة رجاله، ويخفى عليه أن فيه شذوذًا أو علة. هذا على فرض أن السلامة من الشذوذ والعلة لا يكون الحديث صحيحًا إلا بها. وقد عرفت بما أسلفنا أن ذلك إنما هو شرط الصحيح المجمع عليه، لا شرط كل صحيح ومع هذا ففي كون المجمع على صحته هو المستجمع لجميع الأمور المذكورة في حد العراقي، وابن حجر، وغيرهما من المتأخرين، لا ما لم يكن جامعًا لها إشكال، وبيانه أنه قد صرح زين الدين العراقي في شرح الألفية (¬1) أن ما في [7] الصحيحين مقطوع بصحته، وروي ذلك عن ابن الصلاح قال: قال ابن الصلاح (¬2) والعلم اليقيني النظري واقع به، بالقطع بالصحة، خلافًا لمن نفى ذلك محتجًا بأنه لا يفيد إلا الظن، وإنما تلقته الأمة بالقبول؛ لأنه يجب عليهم العمل بالظن، والظن قد يخطئ. قال ابن الصلاح (¬3): وقد كنت أميل إلى هذا، وأحسبه قويًا، ثم بان لي أن المذهب الذي اخترناه أولًا هو الصحيح، لأن ظن المعصوم لا يخطئ. وقد سبقه إلى ذلك محمد بن طاهر المقدسي، وأبو نصر عبد الرحيم بن عبد الخالق بن يوسف، ورجحه النووي وعزاه إلى المحققين والأكثرين. ورجح ذلك الحافظ ابن الوزير (¬4) وقال: إن جميع ما فيها ¬

(¬1) (ص 24). (¬2) في "علوم الحديث" (ص 28). (¬3) في "علوم الحديث" (ص 28). (¬4) تنقيح الأنظار (ص45).

صحيح متلقى بالقبول. انتهى. فعلى هذا قد وقع الإجماع على حجة ما في الصحيحين، فهما من الصحيح المجمع عليه، مع أنه لا طريق إلى التصحيح إلا مجرد اتصال السند، وثقة الرواة. قال السائل كثر الله فوائده: وفيه إشكال يعني فيما قدم ذكره من أن بعض الحفاظ يصحح الحديث بمجرد كون رجاله ثقات قال: لأن رسم الصحيح مشتمل على خمسة أمور: عدالة ناقليه، وتمام ضبطهم، واتصال سندهم، وأن لا يكون الحديث شاذًا، ولا له علة قادحة وقد وقع الخلاف في وصف العلة بكونها قادحة، والظاهر أنه لا بد منها وتكلموا على العلل القادحة، وعلى أن العلل لا يدركها إلا الأفراد من الحفاظ الجامعين للطرق، وحفظ المتون، وعلى أن علم العلل من أغمض أنواع علوم الحديث (¬1) وأدقها وأشرفها، ولا يقوم به إلا من رزقه الله فهمًا ثابتًا، وحفظًا واسعًا، ومعرفة تامة بمراتب الرواة، وملكة قوية بالأسانيد والمتون، وأنه قد تقصر عبارة المعلل عن إقامة الحجة (¬2) ¬

(¬1) قال السيوطي في تدريب الراوي (ص 224): (وهذا النوع من أجلها) أي أجل أنواع علوم الحديث وأشرفها وأدقها، وإنما (يتمكن من أهل الحفظ والخبرة والفهم الثاقب) ولهذا لم يتكلم فيه إلا القليل كابن المديني، وأحمد، والبخاري، ويعقوب بن شيبة وأبي حاتم وأبي زرعة والدارقطني. وقال الحاكم في "معرفة علوم الحديث (112): وإنما يعلل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل، والحجة في التعليل عندنا بالحفظ والفهم والمعرفة لا غير. (¬2) قال ابن مهدي: في معرفة علم الحديث إلهام، لو قلت للعالم بعلل الحديث: من أين قلت هذا لم يكن له حجة، وكم من شخص لا يهتدي لذلك وقيل له أيضًا: إنك تقول للشيء: هذا صحيح وهذا لم يثبت فعمن تقول ذلك؟ فقال: أرأيت لو أتيت الناقد فأريته دراهمك، فقال: هذا جيد وهذا بهرج، أكنت تسأل عن من ذلك أو نسلم له الأمر؟ قال: بل أسلم له الأمر قال: فهذا كذلك، لطول المجالسة والمناظرة، والخبرة. وسئل أبو زرعة: ما الحجة في تعليلكم الحديث؟ فقال: الحجة أن تسألني عن حديث له علة. فأذكر علته ثم تقصد ابن وارة يعني محمد بن مسلم، وتسأله عنه؛ فيذكر علته، ثم تقصد أبا حاتم فيعلله، ثم تميز كلامنا على ذلك الحديث، فإن وجدت بيننا خلافًا؛ فاعلم أن كلا منا تكلم على مراده، وإن وجدت الكلمة متفقة؛ فاعلم حقيقة هذا العلم، ففعل الرجل ذلك فاتفقت كلمتهم، فقال أشهد أن هذا العلم إلهام. وانظر: معرفة علوم الحديث (ص 113).

على دعواه كالصيرفي، إلى غير ذلك مما يفيد أن العلل أمر لا يدركه إلا الأفراد. انتهى أقول: قد تقررنا فيما سبق أن الحديث المشتمل على الأمور الخمسة هو الصحيح المجمع عليه، لا أنه يعتبر ذلك في كل صحيح، وأيدنا ذلك بنقل كلام الخطابي، [8] وابن دقيق العيد، وبنقل كلام الحافظ ابن حجر. إن الصحيح ينقسم إلى قسمين: صحيح لذاته، وصحيح لغيره. وبنقل كلامه أيضًا أن الصحيح أنواع: بعضها أعلى من بعض، وبما ذكرناه من أن الصحيح مراتب: أعلاها ما في الصحيحين، ثم ما في أحدهما ثم ما هو على شرطهما، ثم شرط أحدهما، وبينا أنه لا شرط لهما إلا مجرد كون الرجال ثقات، والسند متصل، ولمجموع هذا يعرف أنها لم تتفق كلمة أهل الحديث على اشتراط الأمور الخمسة التي ذكرها السائل -أدام الله فوائده- حتى يرد الأشكال على تصحيح من صحح بمجرد كون الرجال ثقات والسند متصل، بل ذلك هو مذهب جماعة منهم، بل مذهب القدماء منهم، بل لم يعتبر في الرتب التي للصحيح إلا ذلك لما قدمنا أنها سبع، وأن ستًا منها دائرة على شرط الشيخين ورجالهما، وليس بيد من جزم بصحة ما في الصحيحين أو أحدهما، أو ما هو على شرطهما أو أحدهما إلا مجرد اتصال السند، وكون الرجال ثقات كما سبق تقريره غير مرة. بل قد أسلفنا عن أئمة الحديث أن في رجال الصحيحين من لم يسلم من غوائل الجرح، وأن البخاري يخرج حديث الطبقة العالية (¬1). وقد يخرج حديث الطبقة التي تليها. ومسلم يخرج حديث الطبقة الثانية، وقد يخرج حديث الطبقة الثالثة، مع أن في هؤلاء جماعة ضعفاء مشهورين، بل جزم جماعة من الحفاظ بأن معلقات البخاري (¬2) إذا أوردها بصيغة الجزم كقوله: قال فلان. أو روى فلان من جملة ¬

(¬1) انظر: شروط الأئمة (ص 151) تدريب الراوي (1/ 75). (¬2) عرف ابن حجر التعليق في الجامع الصحيح، فقال: "هو أن يحذف من أول الإسناد رجلًا، فصاعدا معبرًا بصيغة لا تقتضي التصريح بالسماع. مثل قال، وروى، وزاد، وذكر، أو يروى ويذكر، ويقال، وما أشبه ذلك من صيغ الجزم والتمريض" اهـ. فأما المعلق من المرفوعات فعلى قسمين: - أحدهما: ما يوجد في موضع آخر من كتابه هذا موصولًا. وثانيهما: ما لا يوجد فيه إلا معلقًا. فالأول: يورده معلقًا حيث يضيق مخرج الحديث، إذ من قاعدته أنه لا يكرر إلا لفائدة، فمتى ضاق المخرج، واشتمل المتن على أحكام فاحتاج إلى تكريره فإنه يتصرف في الإسناد بالاختصار، خشية التطويل. والثاني: وهو ما لا يوجد فيه إلا معلقًا، فإنه على صورتين: - إما أن يورده بصيغة الجزم. - وإما إن يورده بصيغة التمريض. فالصيغة الأولى: يستفاد منها الصحة إلى من علق عنه، لأنه لا يستجيز أن يجزم عنه بذلك، إلا وقد صح عنده عنه. فإذا جزم به عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو عن الصحابي عنه فهو الصحيح، أما إذا كان الذي علق الحديث عنه دون الصحابي؛ فلا يحكم بصحة الحديث مطلقًا، بل يتوقف على النظر فيمن أبرز من رجاله، فمنه ما يلتحق بشرطه، ومنه ما لا يلتحق. 1 - \ إما لكونه أخرج ما يقوم مقامه، فاستغنى عن إيراد هذا مستوفي السياق، ولم يهمله، بل نبه عليه فأورده بصيغة التعليق طلبا للاختصار. مثال ذلك: ما علقه في كتاب الجزية (58) في باب إذا قالوا صبأنا ولم يحسنوا أسلمنا رقم: (11) فإنه ترجم ببعض ما ورد في الحديث وهو قوله "صبأنا" ولم يورده موصولًا في الباب، واكتفى بطرق الحديث التي وقعت هذه اللفظة فيه. 2 - \ وإما لكونه لم يحصل عنده مسموعًا، أو سمعه، وشك في سماعه له من شيخه أو سمعه عن شيخه مذاكرة، فما رأى أن يسوقه مساق الأصل وغالب هذا فيما أورده عن مشايخه. فمن ذلك أنه قال في كتاب الوكالة وقال عثمان بن الهيثم أبو عمر، ثنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة، قال: وكلني رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام الحديث بطوله وأوردها في موضع أخرى منها في فضائل القرآن، وفي ذكر إبليس ولم يقل في موضع منها حدثنا عثمان، فالظاهر أنه لم يسمعه منه. الصيغة الثانية: وهي صيغة التمريض فما علق بها لا تغير الصحة عن المضاف إليه لأن مثل تلك العبارات تستعمل في الحديث الضعيف أيضًا، قال ابن الصلاح: "لكن لا تحكم على ذلك بأنه ساقط جدًا لإدخاله إياه في الكتاب الموسوم بالصحة قال ابن الصلاح: فإيراده في أثناء الصحيح مشعر بصحة أصله إشعارًا يؤنس به، ويركن إليه. - والتعاليق التي أوردها بهذه الصيغة، فمنها ما هو صحيح، ومنها ما هو ضعيف، ومنها ما أورده في موضع آخر من جامعه، ومنها ما لم يورده. - فما أورده في جامعه فهو صحيح على شروطه، لكنه قليل، وإنما علقه بصيغة التمريض، لكونه رواه بالمعنى أو اختصره. - مثاله قوله في كتاب مواقيت الصلاة، ويذكر عن أبي موسى: كنا نتناوب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند صلاة العشاء، فأعتم بها، وقد وصله في باب فضل العشاء، من نفس الكتاب، ولفظه فيه، فكان يتناوب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، عند صلاة العشاء، كل ليلة نفر منهم .. الحديث. قال الحافظ: وإنما علقه بصيغة التعريض لإيراده بالمعنى، نبه على ذلك شيخنا الحافظ أبو الفضل، وأجاب به على من اعترض على ابن الصلاح حيث فرق بين الصيغتين، وحاصل الجواب أن صيغة الجزم تدل على القوة، وصيغة التمريض لا تدل، ثم بين مناسبة العدول في حديث أبي موسى عن الجزم مع صحته إلى التمريض، بأن البخاري قد يفعل ذلك لمعنى غير التضعيف، وهو ما ذكره من إيراد الحديث بالمعنى وكذا الاقتصار على بعضه، لوجود الاختلاف بجوازه، وإن كان المصنف - ابن حجر في فتح الباري (2/ 46) - يرى الجواز. انظر تعليق التعليق (1/ 295 - 297). فائدة: المعلق في صحيح البخاري كثير جدًا، ففيه من التعاليق ألف وثلاثمائة وواحد وأربعون، وأكثرها مخرج في أصول متونه، والذي لم يخرجه مائة وستون حديثًا قد وصلها الحافظ ابن حجر في تأليف مستقل سماه "التوفيق" وفيه من التنبيه على اختلاف الروايات ثلاثمائة وأربعة وثمانون. وله في جميع التعاليق والمتابعات والموقوفات كتاب جليل بالأسانيد سماه "تعليق التعليق" واختصوه بحذف أسانيده، وسماه التشويق إلى وصل المهم من التعليق.

المحكوم بصحته كما صرح بذلك زين الدين العراقي في منظومته (¬1) وشرحها. قال في تعليل ذلك: لأنه لا يستجيز أن يجزم بذلك عنه إلا وقد صح عنده عنه. انتهى وهذا لم ¬

(¬1) (ص 26).

يتصل سنده من البخاري إلى الصحابي، بل من موضع التعليق فقط، وهو يدل على أنه يسوغ التصحيح وإن لم يتصل السند، كما في معلقات البخاري المجزومة [9] لا المروية بصيغة التمريض نحو أن يقول: يذكر، أو يروى، أو نحو ذلك مع أن ابن الصلاح (¬1) قد قال في مثل ذلك: إن إيراد البخاري له في أثناء الصحيح مشعر بصحة أصله إشعارًا يؤنس به، ويركن إليه. انتهى. وهذا من أعجب ما يحكى حيث يورد المعلق بصيغة ممرضة كأن يقول مثلًا: ويروى عن ابن عباس، أو يذكر عن ابن عباس لم يحكم بصحة ذلك مع أنه لم يكن بينه وبين ¬

(¬1) في التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح لزين الدين العراقي (ص 34). قال زين الدين العراقي في شرحه لمقدمة ابن الصلاح (ص40 - 41) قوله مثل قول البخاري باب ما يذكر في الفخذ، ويروى عن ابن عباس وجرهد ومحمد بن جحش عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. "الفخذ عورة" ا هـ. اعترض عليه بأن حديث جرهد صحيح، وعلى تقدير صحة حديث جرهد ليس على المصنف رده لأنه لم ينف صحته مطلقًا، لكن نفى كونه من شرط البخاري فإنه لما مثل به - يعني ابن الصلاح - قال: فهذا قطعًا ليس من شرطه على أنا لا نسلم أيضًا صحته لما فيه من الاضطراب في إسناده، فقيل عن زرعة بن عبد الرحمن بن جرهد عن أبيه عن جده وقيل عن زرعة عن جده ولم يذكر أباه، وقيل عن أبيه عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يذكر جده، وقيل عن زرعة بن مسلم بن جرهد عن أبيه عن جده، وقيل عن زرعة بن مسلم عن جده ولم يذكر أباه، وقيل عن ابن جرهد عن أبيه ولم يسمه، وقيل عن عبد الله بن جرهد عن أبيه. وقد أخرجه أبو داود وسكت عليه - رقم: (4014) والترمذي من طرق وحسنه - رقم: (2798) وقال في بعض طرقه: وما أرى إسناده بمتصل. وقال البخاري في صحيحه: حديث أنس أسند، وحديث جرهد أحوط. وقال الحافظ في الفتح (1/ 479): وقد وصل المصنف - البخاري - حديث أنس في الباب - رقم: 371 - وقوله "حديث أنس أسند" أي أصح إسنادًا، كأنه يقوله حديث جرهد ولو قلنا بصحته فهو مرجوح بالنسبة إلى حديث أنس، وقوله (حديث جرهد) أي وما معه (أحوط) أي للدين، وهو يحتمل أن يريد بالاحتياط الوجوب أو الورع وهو أظهر ..

الصحابي رجال ثقات من الأصل، فضلًا عن اتصال وضبط وسلامة من شذوذ وعلة، وهذا كثير في صحيح البخاري كقوله: ويروى عن ابن عباس، وجرهد، ومحمد بن جحش عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الفخذ عورة" فكيف يستنكر على حافظ من حفاظ الحديث الحكم بصحة حديث باتصال سنده، وثقة رجاله مع أنه قد تقدمه من يقول بصحة حديث بلا إسناد كما ذكرناه في بعض معلقات البخاري! بل صرح جماعة من المحدثين أن المرسل إذا أرسله آخر من طريق أخرى كان من جملة الصحيح، مع كون في سنده من لا يعرف حاله، ولا صفته. وقد روى ذلك ابن الصلاح عن الشافعي، واختاره، وتابعه العراقي واستدرك عليه استدراكًا يرجع إلى تصحيح العبارة لا إلى المخالفة وما ذكره السائل - كثر الله فوائده - في تعظيم علم العلل ناقلًا لذلك عن الحافظ ابن حجر في شرح النخبة (¬1) فأقول: الحافظ ابن حجر قال قبل هذا الكلام الذي نقله السائل - عافاه الله - في قسم المعلل في النخبة وشرحها ما لفظه: ثم الوهم وهو القسم السادس، وإنما أفصح به لطول الفصل إن اطلع عليه، أي على الوهم بالقرائن الدالة على وهم راويه من وصل مرسل، أو منقطع، أو إدخال حديث في حديث، أو نحو ذلك من الأشياء القادحة، وتحصل معرفة ذلك بكثرة التتبع، وجمع الطرق، وهذا هو المعلل، وهو من [أغمض] (¬2) أنواع علوم الحديث ثم ذكر ما ذكره السائل - عافاه الله - ولا يخفى عليك أن ما ذكره من وصل المرسل والمنقطع وما بعده هو لا يقع من الثقة إلا نادرًا، والأصل عدم هذا النادر. فإذا وجدنا الحديث قد اتصل إسناده برجال ثقات كان الواجب عليها حمل الاتصال على الوجه الذي أخبر به الثقة، [10] وصدور الوهم منه مع كونه ثقة خلاف الأصل والظاهر، لأن تلك العلل بأسرها أعم من أن تكون قادحة أو غير قادحة هي صادرة عن مجرد الوهم من غير تعهد، والثقة لا يهم إلا نادرًا، والنادر لا اعتبار به كما سلف. ¬

(¬1) (ص 89). (¬2) في المخطوط "أعظم" وما أثبتناه من النخبة.

لا يقال: إن الوهم قد يكثر لأنا نقول المفروض أنه ثقة أي حافظ عدل، ومن كان كثير الوهم ليس بثقة، فإن قيل: قد دخل الاحتمال في حديث الثقة بتجويز وقوع الوهم منه في النادر فلا يؤخذ بحديثه إلا بعد العلم بأنه لا وهم فيه. قلنا: هذا يسري إلى كل حديث صحيح، سواء كان في الصحيحين أو في غيرهما، لأن هذا التجويز لا يرتفع لمجرد قول بعض الحفاظ أنه لا وهم من رجال إسناده لين غير هذا الحافظ، ممن هو أحفظ منه أو أكثر ممارسة لرجال هذا الحديث بخصوصه قد يطلع على ما لا يطلع عليه ذلك الحافظ، لا سيما مع ما تقدم من كون هذا النوع في غاية الغموض والدقة. وحينئذ لا يجوز الجزم بصحة حديث حتى يتفق الحفاظ على أنه لا وهم فيه بوجه من الوجوه، وهم لم يتفقوا على ما في الصحيحين فضلًا عن غيرهما كما اشتهر من كلام أبي زرعة المعاصر للبخاري ومسلم، وكما اشتهر من كلام ابن حزم أن في الصحيحين حديثين موضوعين، وكما قدمنا نقله من أن في رجالهما من هو ضعيف. وقد تعرض بعض الحفاظ لتعداد الضعفاء فيهما فبلغوا في البخاري (¬1) عددًا،. . . . ¬

(¬1) "يعلم أن تخريج صاحب الصحيح لأي راو كان مقتضٍ لعدالته عنده وصحة ضبطه وعدم غفلته ولا سيما ما انضاف إلى ذلك من إطباق جمهور الأئمة على تسمية الكتابين بالصحيحين، وهذا معنى لم يحصل لغير من خرج عنه في الصحيح فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيهما هذا إذا خرج له في الأصول، فأما إن خرج له في المتابعات والشواهد والتعاليق فهذا يتفاوت درجات من أخرج له منهم في الضبط وغيره مع حصول اسم الصدق لهم وحينئذ إذا وجدنا لغيره في أحد منهم طعنا فذلك الطعن مقابل تعديل هذا الإمام فلا يقبل إلا مبين السبب مفسرًا بقادح يقدح في عدالة هذا الراوي وفي ضبطه مطلقًا أو في ضبطه لخبر بعينه؛ لأن الأسباب الحاملة للأئمة على الجرح متفاوتة عنها ما يقدح ومنها ما لا يقدح، وقد كان الشيخ أبو الحسن المقدسي يقول في الرجل الذي يخرج عنه في الصحيح هذا جاز القنطرة؛ يعني بذلك أنه لا يلتفت إلى ما قيل فيه، قال الشيخ أبو الفتح القشيري في مختصره وهكذا نعتقد، وبه نقول، ولا نخرج عنه إلا بحجة ظاهرة وبيان شاف يزيد في غلبة الظن على المعنى الذي قدمناه من اتفاق الناس بعد الشيخين على تسمية كتابيهما بالصحيحين، ومن لوازم ذلك تعديل رواتهما. قلت ابن حجر - فلا يقبل الطعن في أحد منهم إلا بقادح واضح. وقد سرد ابن حجر أسماء من طعن فيه من رجال البخاري مع حكاية ذلك الطعن والتنقيب عن سببه والقيام بجوابه والتنبيه عن وجه رده على النعت. . . ". انظر ذلك كله في هدي الساري مقدمة فتح الباري (384 - وما بعدها).

وفي مسلم (¬1) أكثر من ذلك العدد على اختلاف في مقدار العدد بين الحفاظ. وقد ¬

(¬1) قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (1/ 25): عاب عائبون مسلمًا بروايته في صحيحه عن جماعة من الضعفاء والمتوسطين الواقعين في الطبقة الثانية الذين ليسوا من شرط الصحيح ولا عيب عليه في ذلك بل جوابه من أوجه ذكرها الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله - في صيانة مسلم (94 - 95): أحدهما: أن يكون ذلك فيمن هو ضعيف عنده ولا يقال الجرح مقدم على التعديل؛ لأن ذلك فيما إذا كان الجرح ثابتًا مفسر السبب، وإلا فلا يقبل الجرح إذا لم يكن كذا، وقد قال الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي وغيره ما احتج البخاري ومسلم وأبو داود به من جماعة علم الطعن فيهم من غيرهم محمول على أنه لم يثبت الطعن المؤثر مفسر السبب. الثاني: أن يكون ذلك واقعًا في المتابعات والشواهد لا في الأصول وذلك بأن يذكر الحديث أولًا بإسناد نظيف رجاله ثقات، ويجعله أصلًا ثم يتبعه بإسناد آخر أو أسانيد فيها بعض الضعفاء على وجه التأكيد بالمتابعة أو الزيادة؛ فيه تنبيه على فائدة فيما قدمه، وقد اعتذر الحاكم أبو عبد الله بالمتابعة والاستشهاد في إخراجه عن جماعة ليسوا من شرط الصحيح؛ منهم مطر الوراق، وبقية بن الوليد، ومحمد بن إسحاق بن يسار، وعبد الله بن عمر العمري، والنعمان بن راشد، وأخرج مسلم عنهم في الشواهد في أشباه لهم كثيرين. الثالث: أن يكون ضعف الضعيف الذي احتج به طرأ بعد أخذه عنه باختلاط حدث عليه فهو غير قادح فيما رواه من قبل في زمن استقامته كما في أحمد بن عبد الرحمن بن وهب بن أخي عبد الله بن وهب فذكر الحاكم أبو عبد الله أنه اختلط بعد الخمسين ومائتين بعد خروج مسلم من مصر فهو في ذلك كسعيد بن أبي عروبة وعبد الرزاق وغيرهما ممن اختلط آخرًا، ولم يمنع ذلك من صحة الاحتجاج في الصحيحين بما أخذ عنهم قبل ذلك. الرابع: أن يعلو بالشخص الضعيف إسناده وهو عنده من رواية الثقات نازل فيقتصر على العالي ولا يطول بإضافة النازل إليه مكتفيًا بمعرفة أهل الشأن في ذلك. وقال ابن القيم في زاد المعاد (4/ 278) مجيبًا من عيب على مسلم من إخراجه حديث من تكلم فيه ما نصه: "ولكن مسلم روى من حديثه ما تابعه عليه غيره ولم ينفرد به، ولم يكن منكرًا، ولا شاذًا". انظر: الإمام مسلم بن الحجاج ومنهجه في الصحيح وأثره في علوم الحديث (2/ 430 - 433) وصيانة صحيح مسلم (ص 94 - 96) لابن الصلاح.

استدرك الدارقطني، وهو الحافظ الذي لم يكن له نظير على الشيخين في مواضع كثيرة حكى ذلك الشارحون لها، وبهذا يتقرر أن نوع المعلل الذي منشؤه الوهم لا يرتفع عن الحديث الذي قد صححه إمام من أئمة الحديث، أو إمامان، أو ثلاثة أو أكثر، لجواز أن يكون فيه علة لا يعرفها إلا من هو أحفظ منهم، وأتقن. ولا يمتنع أن يبعث الله في زمن متأخر من هو أحفظ من أهل الأزمنة المتقدمة، فإن ابن خزيمة المعروف بإمام الأئمة قد شهد له [11] جماعة بأنه أحفظ ممن تقدمه، وكذلك الدارقطني مع تأخر زمنه قد شهد له جماعة بأنه أحفظ ممن تقدمه، وكذلك ابن عساكر، وابن السمعاني، والسلفي قد شهد لهم جماعة بأنهم أحفظ ممن تقدمهم، مع أنهم من أهل القرن السادس. فليس تقدم العصر دليلًا على أن أهله أحفظ ممن بعده وأعرف بالعلل. ولا يزال هذا التجويز كائنًا إلى انقطاع الدنيا وحضور القيامة، فلا يتم تصحيح حديث حتى ينقرض العالم لجواز أن يوجد الله من هو أرفع طبقة ممن تقدمه فيطلع على علل لم يعرفها من هو دونه ممن صححه. وإذا تقرر هذا فلا بد من المصير إلى أحد أمرين: إما الرجوع إلى أنه لا اعتبار بما يندر من وهم الثقات، وأنه يسوغ التصحيح بوجود مستنده، وهو اتصال السند، وثقة رجاله، مع اعتبار الأصل والظاهر القاضيين بعدم وجود شذوذ وعلة قادحة، أو الرجوع إلى أمر آخر، وهو أن الإمام الذي جزم بصحة الحديث مستندًا إلى كون رجاله ثقات وسنده متصل يبعد كل البعد أن يطلق التصحيح مع وجود علة قادحة أو شذوذ، وأنه لا يطلق ذلك إلا بعد البحث الكامل. قال السائل - كثر الله فوائده: فإذا وقف الإنسان

على توثيق رجال سند في كتاب من كتب الرجال، أو منقولًا عن بعض أئمة الحديث، فغاية ما حصل بيده عدالة الراوي، فأين بقية القيود المعتبرة في الصحيح؟ وإن سلم أن الثقة لا يطلقونه إلا على من جمع بين العدالة وتمام الضبط كما أفدتم، فأين بقية القيود على الاتصال والسلامة من الشذوذ والعلة القادحة؟ فإن فرض أن في السند ما يدل على الاتصال، أو في كتب الرجال بقي الكلام في السلامة من الشذوذ والعلة وما قيل إن الشذوذ والعلة نادران فندورهما لا يصح معه الحكم بالصحة كما لا يخفى، لا سيما ومعرفة الشاذ (¬1) لا يكون إلا بحفظ تام، وكذلك معرفة العلة وأما الحكم بالصحة لمجرد ¬

(¬1) الشاذ هو عند الشافعي وجماعة من علماء الحجاز: ما روى الثقة مخالفًا لرواية الناس إلا أن يروي ما لا يروي غيره، قال الخليلي: والذي عليه حفاظ الحديث، أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد يشذ به ثقة أو غيره، فما كان من غير ثقة فمتروك، وما كان من ثقة توقف فيه، ولا يحتج به، وقال الحاكم: هو ما انفرد به ثقة، وليس له أصل بمتابع. وما ذكراه مشكل بأفراد العدل الضابط كحديث: "إنما الأعمال بالنيات" والنهي عن بيع الولاء وغير ذلك مما في الصحيح، فالصحيح التفصيل: فإن كان بتفرده مخالفًا أحفظ منه وأضبط، كان شاذًا مردودًا وإن لم يخالف الراوي، فإن كان عدلًا حافظًا موثوقًا بضبطه؛ كان تفرده صحيحًا، وإن لم يوثق بضبطه، ولم يبعد عن درجة الضابط كان حسنًا، وإن بعد؛ كان شاذًا منكرًا مردودًا، والحاصل أن الشاذ المردود: هو الفرد المخالف والفرد الذي ليس في رواته من الثقة، والضبط ما يجبر به تفرده. تدريب الراوي في شرح تقريب النووي (1/ 204 - 205). انظر: معرفة علوم الحديث (ص 119). والشاذ أدق من المعلل بكثير؛ فلا يتمكن من الحكم به إلا من مارس الفن غاية الممارسة، وكان في الذروة من الفهم الثاقب، ورسوخ القدم في الصناعة، ولعسره لم يفرده أحد بالتصنيف، ومن أوضح أمثلته ما أخرجه في المستدرك - (2/ 493) - من طريق عبيد بن غنام النخعي عن علي بن حكيم عن شريك، عن عطاء بن السائب عن أبي الصخر عن ابن عباس قال: في كل أرض نبي كنبيكم، وآدم كآدم، ونوح كنوح، وإبراهيم كإبراهيم، وعيسى كعيسى، "وقال: صحيح الإسناد، ولم أزل أتعجب من تصحيح الحاكم له حتى رأيت البيهقي قال: إسناد صحيح، ولكنه شاذ بمرة. ذكره السيوطي في تدريب الراوي (1/ 207).

توثيق رجاله فلا يخلو عن وصمة، ولو كان مجرد نقل رجاله موجبًا لصحة السند لم يعرف أهل الحديث، فإنهم يقولون تارة: وسنده صحيح، بإسناد صحيح؛ وتارة يقولون: رجاله ثقات، ما ذاك إلا أن قولهم بسند صحيح ورجاله ثقات فرقًا، وقد وقفت على كلام للحافظ ابن حجر في حديث (¬1) العينة لما صحح ابن القطان حديثها قلت (¬2): وعندي أن إسناد الحديث الذي صححه ابن القطان معلول، لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحًا إلى آخر ما قاله (¬3). وهذا عين ما ندعيه، ولم أقف عليه والله إلا بعد شهور من الاستشكال، وفي التنقيح (¬4) في بحث إمكان التصحيح ذكر الضرب الأول، ثم الثاني، وهو أن لا ينص على صحة الحديث أحد من المتقدمين، ولكن يبين لنا رجال إسناده وعرفناهم من كتب الجرح والتعديل الصحيحة بنقل الثقات سماعًا أو غيره من طرق النقل (¬5)، فهذا وقع فيه خلاف لابن الصلاح، فهذا فيه أن يكفي في التصحيح ¬

(¬1) أخرجه أبو داود رقم: (3462) والطبراني في "الكبير" (12/ 432 رقم: 13583) والبيهقي (5/ 316) وقد صححه الألباني في "الصحيحة" رقم: (11) بمجموع طرقه. عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم". رواه أبو داود من رواية نافع عنه، وفي إسناده مقال، ولأحمد (7/ 27 رقم: 4825 شاكر) نحوه من رواية عطاء، ورجاله ثقات، وصححه ابن القطان كما ذكره ابن حجر في "التلخيص" (3/ 19 رقم: 1181). (¬2) أي ابن حجر في التلخيص (3/ 19 رقم: 1181) (¬3) وتمامه: "لأن الأعمش مدلس، ولم يذكر سماعه من عطاء، وعطاء يحتمل أن يكون هو الخراساني فيكون من تدليس التسوية بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر فيرجع إلى الحديث الأول وهو المشهور - يعني أن الإسناد الذي صححه ابن القطان هو: الأعمش عن عطاء عن ابن عمر، والإسناد الأول الذي يعنيه الحافظ هو: عطاء الخراساني عن نافع ابن عمر. والحديث له طرق كثيرة عقد لها البيهقي في السنن الكبرى (5/ 316) بابًا وبين عللها. (¬4) (ص 48). (¬5) انظر تفصيل ذلك في تدريب الراوي (2/ 5 - 40).

معرفة رجال الإسناد، أي أنهم عدول تامو الضبط، متصل سندهم عمن رووا عنه إذا سلم تكفل كتب الجرح والتعديل بمعرفة الاتصال لكن تبقى السلامة من الشذوذ والعلة القادحة، فيحمل أنه مقيد بما ذكر في رسم الصحيح، وإلا كان مخالفًا لما تقدم. وقد يقال: إن السلامة من الشذوذ والعلة والاتصال ليس مجمعًا عليهما؛ فلا يرد الإيراد إلا على من اعتبر القيود جميعًا. أما من لم يعتبر إلا لبعض كالعدالة والضبط فلا يرد، فيصبح على قوله التصحيح مجرد كون رجاله ثقات، وهذا صحيح لو كان من يعتمد التصحيح بهذه الطريقة مخالفًا في هذه الشروط المعتبرة في الصحيح. نعم وكون الثقة هو العدل الضابط كما أفدتم وقفت على ما يؤيده من كلام ابن حجر (¬1) لما اعترض على الخطابي بأنه لم يشترط الضبط في الصحيح، إنما قال: الصحيح عندهم ما اتصل سنده، وعدلت نقلته، فقال ابن حجر: قول الخطابي (¬2) عدلت نقلته مغن عن التصريح باشتراط الضبط، لأن المعدل من عدله النقاد، أي وثقوه. وإنما يوثقون من اجتمع فيه الضبط والعدالة معًا. قلت: وفيه أنه ليس فيه إلا الضبط. والمعتبر في الصحيح تمام الضبط؛ فإن خف كان الحديث حسنًا، ووقفت على كلام للمولى الأمير - رضي الله عنه- (¬3) في ثمرات [13] النظر (¬4) بعد أن ساق كلامًا كثيرًا. قال: هاهنا فوائد كالنتائج والفروع. الأولى: أن التوثيق ليس عبارة عن التعديل، بل إن الموثق اسم مفعول صادق لا يكذب، مقبول الرواية كما سمعت من توثيقهم من ليس بعدل، فالعدالة في اصطلاحهم أخص من التوثيق، انتهى. وهذا مناقض لما ذكره .................................. ¬

(¬1) انظر "النكت على كتاب ابن الصلاح" (1/ 324). (¬2) في معالم السنن (1/ 11). (¬3) تقدم التعليق على استخدام هذا اللفظ. (¬4) (ص 116 - 117). وهو ضمن (عون القدير من فتاوى ورسائل ابن الأمير) القسم الثالث: الحديث وعلومه. بتحقيقنا.

الحافظ (¬1) ابن حجر، فإنه يقتضي أنه التوثيق أخص من التعديل، فالمرجو من مولاي تحقيق هذا البحث، وكذلك هل ثم فرق بين قولهم: وسنده جيد، وبين قولهم: وسنده صحيح؟ وكذلك قولهم: وسنده قوي؟ وما المراد بالقوي والجيد؟ انتهى كلام السائل - كثر الله فوائده - وأقول: ما ذكره هاهنا من الكلام على اعتبار الاتصال والسلامة من الشذوذ والعلة قد عرف جوابه مما سلف، وما نقله عن ابن حجر (¬2) من أنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحًا فقد خالفه غيره ممن قدمنا ذكره. وما ذكره - كثر الله فوائده - من أنه لو صح التصحيح بمجرد كون الرجال ثقات لكان متوقفًا على كون من يصحح بذلك مخالفًا في الشروط المعتبرة في الصحيح. ونقول: هو أيضًا مخالف كما أفاده ما قدمنا ذكره. ولنذكر هاهنا ما يدفع ما أشكل على السائل - عافاه الله - فإن محل إشكاله هو تصحيح من صحح بمجرد كون الإسناد صحيحًا، أو رجاله ثقات، فنقول: قال زين الدين العراقي في منظومته (¬3) الألفية: والحكم للإسناد بالصحة أو ... بالحسن دون الحكم للمتن رأوا واقبله إن أطلق من يعتمد ... ولم يعقبه بضعف ينتقد قال في الشرح ما لفظه: أي ورأوا الحكم للإسناد بالصحة كقولهم: هذا حديث إسناده صحيح، دون قولهم: هذا حديث صحيح. وكذلك حكمهم على الإسناد بالحسن كقولهم: إسناد حسن دون قولهم حديث حسن لأن قد يصح الإسناد لثقة رجاله ولا يصح الحديث لشذوذ أو علة. قال ابن (¬4) الصلاح: غير أن المصنف المعتمد منهم إذا اقتصر على قوله: [14] إنه صحيح الإسناد، ولم يذكر له علة، ولم يقدح فيه، فالظاهر منه الحكم له بأنه صحيح في ¬

(¬1) لم أعثر على هذا اللفظ. وانظر "النكت" (1/ 274). (¬2) في النكت (1/ 274). (¬3) (ص 46). (¬4) في التقييد والإيضاح (ص 58).

نفسه، لأن عدم العلة والقادح هو الأصل والظاهر. قلت: وكذلك إن اقتصر على قوله: حسن الإسناد ولم يعقبه بضعف فهو أيضًا محكوم له بالحسن. انتهى كلام زين الدين العراقي في شرحه لألفيته، حاكيًا عن ابن الصلاح، ومقررًا له. فهذان إمامان معتبران وتابعهما على ذلك السيد محمد بن إبراهيم في التنقيح (¬1) فقال بعد أن نقل كلامهما المذكور هاهنا: قلت: هذا الكلام متجه؛ لأن الحفاظ قد يذكرون ذلك لعدم العلم ببراءة الحديث من العلة لا لعلمهم بوجود العلة، ولهذا يصرحون بهذا كثيرًا فيقول أحدهم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولا أعلم له علة، على أن الأصوليين والفقهاء أو كثيرًا منهم يقبلون الحديث المعلول كما سيأتي - إن شاء الله [تعالى]- انتهى. فهؤلاء ثلاثة من أئمة الحديث، ومعهم الأصوليون والفقهاء قد صرحوا بما هو موافق لما حررته وقررته سابقًا من تحكيم الأصل، والظاهر في أني لم أقف عليه إلا بعد أن فرغت من تحرير ما سلف. وقد ذكر زين الدين العراقي في شرح منظومته (¬2) الألفية في بحث حد الصحيح بعد أن نقل كلام الخطابي في حد الصحيح أنه ما اتصل سنده وعدلت نقلته. إن الخطابي (¬3) لم يشترط في الحد ضبط الراوي، ولا سلامة الحديث من الشذوذ والعلة، ولا شك أن ضبط الراوي لا بد من اشتراطه، لأن من كثر الخطأ في حديثه وفحش استحق الترك، وإن كان عدلًا. وأما السلامة من الشذوذ والعلة فقال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد في الاقتراح (¬4) إن أصحاب الحديث زادوا ذلك في حد الصحيح. قال: وفي هذين الشرطين نظر على مقتضى نظر الفقهاء؛ فإن كثيرًا من العلل التي يعلل بها المحدثون لا تجري على أصول الفقهاء. انتهى ما نقله زين الدين العراقي في شرح ألفيته ولا يخفاك أن اعتراضه على الخطابي بأنه لم يشترط الضبط غير صحيح لما عرفت سابقًا، وقد خالفه هو ¬

(¬1) (ص 26). (¬2) (ص 7). (¬3) في معالم السنن (1/ 11). (¬4) (ص 186).

في شرحه المذكور، وفي نظمه في الألفية المذكورة كما نقلناه قريبًا عنه، وانظر كيف استدرك بالشذوذ ثم لم يصرح بأنه لا بد من اعتبار ذلك، والعلة بل قال: وأما السلامة من الشذوذ والعلة فقال الشيخ تقي الدين (¬1) إلخ. وقد قدمنا نقل كلام الشيخ تقي الدين، واعترضناه بما سلف، فارجع إليه. وأيضًا قد نقل السائل - عافاه الله - عن الحافظ ابن حجر (¬2) ما اعترض به على من اعترض كلام الخطابي، والمعترض هو زين الدين في كلامه هذا الذي نقلناه هاهنا. [15]. واعلم أن الثقة عند كثير من الحفاظ هو وصف لا يصدق إلا على أكابر الحفاظ المشهورين، ولا يصدق على كل رجال الصحيح، كما يفيد ذلك ما ذكره زين الدين العراقي في منظومته (¬3) وشرحها فقال في المنظومة: وإن معين قال من أقول لا ... بأس به فثقة ونقلا إن ابن مهدي أجاب من سأل ... أثقة كان أبو خلدة بل كان صدوقًا خيرًا مأمونًا ... الثقة الثوري لو تعونا قال في الشرح إن كلام ابن معين يقتضي التسوية بينهما، يعني ثقة ولا بأس به، لأن ابن أبي خيثمة قال: قلت ليحيى بن معين إنك تقول: فلان ليس به بأس، وفلان ضعيف، قال: إذا قلت لك: ليس به بأس فهو ثقة، وإذا قلت لك: هو ضعيف فليس هو بثقة، لا تكتب حديثه. قال ابن الصلاح: ليس في هذا حكاية ذلك عن غيره من أهل الحديث فإنه نسبه إلى نفسه خاصة بخلاف ما ذكره ابن أبي حاتم. قلت: ولم يقل ابن معين: إن قول ليس به بأس كقول ثقة حتى يلزم منه التساوي بين اللفظين، إنما قال: إن من قال فيه هذا فهو ثقة، وللثقة مراتب، فالتعبير عنه بقولهم ثقة أرفع من التعبير عنه بأنه لا بأس به وإن اشتركا في مطلق الثقة، والله أعلم. ثم قال: إن عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا أبو ¬

(¬1) (ص 186). (¬2) النكت (1/ 274). (¬3) (173 - 174).

خلدة فقيل له. أكان ثقة؟ فقال: كان صدوقًا، وكان مأمونًا، وكان خيرًا، وفي رواية وكان خيارًا، الثقة شعبة وسفيان، فانظر كيف وصف أبا خلدة بما يقتضي القبول، ثم ذكر أن هذا اللفظ يقال لمثل شعبة وسفيان، ونحوه ما حكاه المروزي قال: سألت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل -: عبد الوهاب بن عطاء ثقة؟ فقال: تدري ما الثقة؟ إنما الثقة يحيى بن سعيد القطان، انتهى ما نقله العراقي. فتأمل كيف صرح هذان الإمامان الجليلان عبد الرحمن بن مهدي [16] وأحمد بن حنبل كيف جعلا الثقة اصطلاحًا لا يصدق إلا على من هو عندهما أرفع الناس رتبة في الدين والورع، وجودة الحفظ والمعرفة بالعلل، والإحاطة بجميع أنواع الحديث مع الإمامة المجمع عليها. ولعل عبد الرحمن بن مهدي (¬1) ذكر شعبة (¬2) وسفيان (¬3) لكونهما أعظم أئمة الحديث عنده. والأمر كذلك، فإن شعبة كان يقال إنه حفظ من مائتين، وكان يقال: إنه أمير المؤمنين في الحديث، وأما سفيان الثوري فهو الإمام الذي فاق من قبله، وأتعب من بعده واتفقت على إمامته كلمة الطوائف الإسلامية من أهل عصره ومن بعدهم، وهكذا أحمد بن حنبل؛ فإنه لما سئل عن الثقة أطلقه على يحيى بن سعيد القطان (¬4)، وهو إمام الجرح ¬

(¬1) هو الإمام الكبير والحافظ عبد الرحمن بن مهدي أبو سعيد العنبري مولاهم ثقة ثبت حافظ عارف بالرجال والحديث، قال ابن المديني: ما رأيت أعلم منه. من التاسعة مات سنة 198هـ. تذكرة الحافظ (1/ 329) والتقريب "1/ 499). (¬2) شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي مولاهم أبو بسطام الواسطي ثم البصري ثقة حافظ متقن، كان الثوري يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث، وكان عابدًا، من السابعة مات سنة 160. التقريب (1/ 351). (¬3) سفيان بن سعيد بن مروت الثوري - أبو عبد الله الكوفي، ثقة حافظ فقيه عالم إمام حجة من رءوس الطبقة السابعة، مات سنة 161 هـ. التقريب (1/ 311). (¬4) يحيى بن سعيد القطان التيمي أبو سعيد البصري ثقة متقن حافظ إمام قدوة من كبار الطبقة التاسعة مات سنة 198هـ. التقريب (2/ 348).

والتعديل، وحافظ الحفاظ، وإمام الأئمة، فهذا اصطلاح بينه إمامان من أئمة الحديث وحفاظه، وأئمة الجرح والتعديل، فإن عبد الرحمن بن مهدي كان الفرد الذي لا يلحق به في زمنه أحد من أهله، وأما الإمام أحمد بن حنبل فهو الإمام الذي تتقاصر أقلام البلغاء عن التعبير بوصف يليق به، فإذا كان الثقة بشهادة هذين الإمامين الجليلين مع كون كل واحد منهما هو الرأس في زمنه، المرجوع إليه في جميع فنون الحديث لا يطلق إلا على مثل أولئك الأئمة الذين لو تفرق علم أحدهم وحفظه ومعرفته على ألف رجل لكانوا معدلين مقبولين، فكيف لا يكون الحكم من إمام من الأئمة المعتبرين بكون رجال الإسناد ثقات، وإسناده متصلًا كافيًا في كون ذلك الحديث صحيحًا، فإنه لا شك ولا ريب [17] أن الثقة بهذا الاصطلاح يكون حديثه أصح الصحيح لا صحيحًا فقط، وإنما أوردنا ما قاله هذان [الإمامان] (¬1) ليعلم المستفيد بمقدار هذه اللفظة، أعني ثقة عند أكابر الأئمة. واعلم أنه لا بد أن يكون المخبر بكون رجال السند ثقات إمامًا من الأئمة المتبحرين في هذا الفن، المتمكنين من الإحاطة بما قيل في كل واحد من رجال الإسناد، القادرين على الترجيح عند تعارض التعديل والترجيح، العارفين بعلل الحديث على اختلاف أنواعها. وهذه الأوصاف إنما يرزقها الله أفرادًا من عباده قد يوجد في كل طبقة منهم رجل، أو رجلان، أو ثلاثة، وقد لا يوجد في الطبقة أحد كما يعرف هذا من له إكباب على مطالعة تراجم أهل العصور المنقرضة، وأما من لم يرزق هذه الأوصاف فليس له أن يتقول بما لا يعلم، فيكذب على نفسه وعلى من يأخذ عنه، ويتلاعب بسنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيصحح الباطل، ويبطل الصحيح، فإن هذا يدخل تحت الحديث (¬2) المتواتر: "من كذب ¬

(¬1) في المخطوط: الإمام والصواب ما أثبتناه. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم: (108) ومسلم رقم: (2) من حديث أنس. وأخرجه البخاري في صحيحه رقم: (109) من حديث سلمة. وأخرجه البخاري في صحيحه رقم: (110) ومسلم رقم: (3) من حديث أبي هريرة.

علي متعمدًا؛ فليتبوأ مقعده من النار" وتحت حديث: "من روى عني حديثًا يظن أنه كذب؛ فهو أحد الكاذبين" وهو في الصحيح (¬1)، ويغنيه عن هذا أن يرجع إلى المؤلفات الموضوعة في تراجم الرجال، وفي ما نقل عن أئمة الجرح والتعديل المعتبرين، فإن لذلك مؤلفات معروفة قد صنفها جماعة من الحفاظ، ونقلوا عن الأئمة الكبار ... ما يستغني به الباحث عن الحديث، فإنهم ألفوا مؤلفات في رجال الصحيحين، ثم في رجال جميع [18] الأمهات الست، وفي رجال غيرها مما يلتحق بها من المسانيد وغيرها، فذكروا ما قيل في كل رجل منهم من جرح وتعديل، ورجحوا بحسب الإمكان، ثم تكلموا على نفس الأسانيد التي رويت بها الأحاديث في جميع هذه الكتب المتقدمة وغيرها، وأبانوا حال كل إسناد ورجاله وما فيه من شذوذ وعلة، وأبانوا حال كل متن وطرقه، واختلاف ألفاظه، وزيادته ممن له فهم ومعرفة، وكتب يمكنه البحث عن حال كل حديث، والوقوف على كلام الأئمة المعتبرين فيه أمكنه أن يعرف حال الحديث الذي يريد معرفته، وقد صنفوا هذا الفن على كل مسلك يظن فيه أنه أقرب إلى تناول من يتناوله، فتارة يصنفون على أبواب الفقه، وتارة يجمعون حديث كل صحابي حتى يفرغون منه، ثم يتبعونه بحديث صحابي آخر. وتارة يجمعون متون الأحاديث على ترتيب حروف المعجم، فالحمد لله الذي قرب مسافات الاجتهاد للمتأخرين بما لم يكن مثله للمتقدمين. فإن الإمام من الأئمة المتقدمين كان يرحل للحديث الواحد أو لتفسيره، وفي الأزمنة المتأخرة صارت السنة جميعها مجموعة في الدفاتر مع تفسيرها وما يستفاد منها، والكلام على رجالها، وقد يضم إلى ذلك اختلاف الأئمة في المسائل المستفادة من ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1/ 9 - مقدمة) عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من حدث عني بحديث، يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين".

الحديث، وذكر الراجح والمرجوح، كما يقع في كثير من شروح الحديث المبسوطة، فإن المطلع على شيء منها يستفيد جميع هذه الفوائد المذكورة بالوقوف على الحديث وشرحه في مصنف من المصنفات، حتى لا يحتاج بعده إلى غيره [19] وهذا معلوم لكل من له علم لا من لا علم له، فإنه لا يدري بشيء من هذا، وهو الجاني على نفسه بما أحرمها من العلم، كما تجده في غالب طلبة العلم في هذه الأزمنة. وما أشار إليه السائل - كثر الله فوائده - من أن العلامة الأخير محمد بن إسماعيل الأمير ذكر في مؤلفه المسمى بورقات (¬1) النظر إن التوثيق ليس عبارة عن التعديل، بل الموثق هو الصادق الذي لا يكذب، وإن كان غير عدل وإن العدالة في اصطلاحهم أخص من التوثيق، فأقول قد علم مما سبق من اصطلاح أئمة الحديث المتقدمين كعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل أن الثقة لا يطلق إلا على مثل أولئك الأئمة، وعلم أيضًا من اصطلاح من بعدهم ما يخالف ما ذكره السيد - رحمه الله - وهذا ابن حجر وهو من حفاظ القرن التاسع يقول: إن الثقة هو العدل الضابط كما تقدم نقل ذلك عنه، ولا يصح أن يقال: إن السيد محمد أراد بيان المعنى اللغوي للثقة، لأنه قال في اصطلاحهم أي اصطلاح أهل الحديث: ولو كان ذلك بيانًا للمعنى اللغوي؛ لكان غير صحيح، فإن الثقة في اللغة (¬2) المؤتمن، والعدل (¬3) هو المستقيم في أموره المتوسط فيها، وهما مختلفان صدقًا ومفهومًا. وأما في الاصطلاح فقد عرفت معنى الثقة (¬4). وأما العدل فهو اصطلاحا من حصلت له العدالة (¬5)، وهي ملكة في النفس يمنعها عن اقتراف الكبائر والرذائل، فالثقة أخص؛ لأن العدل مع زيادة الضبط، أو مع زيادة أنه إمام مقتدى به، متفرد في العلم والعمل. ¬

(¬1) أي كتابه " ثمرات النظر في علم الأثر" (116 - 117). (¬2) لسان العرب (15/ 212). (¬3) انظر لسان العرب (9/ 86). (¬4) تقدم وانظر النخبة (ص55). (¬5) تقدم وانظر النخبة (ص55 - 56).

فالحاصل أن العدل والثقة في اللغة يطلقان على الكافر كما يطلقان على المسلم إذا كانا متصفين [20] بذلك المعنى اللغوي. وأما في الشرع فلا يصدقان إلا على ثقات المسلمين وعدولهم. فلا أدري ما وجه ما حكم به الأمير - رحمه الله - من أن العدل أخص من الثقة، وأن الثقة قد لا يكون عدلًا. ثم قال السائل - كثر الله فوائده -: هل ثم فرق بين قولهم: سنده جيد، وبين قولهم: سنده صحيح، وسنده قوي؟ أقول: قد صرحوا بما يفيد جواب هذا السؤال، فإنهم قالوا: إن قولهم جيد الحديث، أو حسن الحديث هو من المرتبة الرابعة من مراتب التعديل (¬1)، كما ذكر ذلك زين الدين العراقي (¬2)، فيكون على هذا جيد الحديث بمنزلة قولهم: حسن الحديث، وكذلك قولهم: إسناد جيد بمنزلة إسناد حسن، ولهذا قرن زين الدين العراقي بين جيد الحديث، وحسن الحديث، وجعلهما جميعًا من الألفاظ المستعملة في أهل المرتبة الرابعة. ولعل قوي الحديث هو كجيد الحديث، لأن اللفظين جميعًا يستعملان في رجال الحسن، فهكذا يكون وصف الإسناد بالجودة كوصفه بالقوة، فظهر بهذا أن قولهم: جيد ¬

(¬1) مراتب التعديل: المرتبة الأولى: وهي أعلاها شرفًا. مرتبة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم. المرتبة الثانية: وهي أعلى المراتب في دلالة العلماء على التزكية، وهي ما جاء التعديل فيها بما يدل على المبالغة، أو عبر بأفعل التفضيل، كقولهم أوثق الناس وأثبت الناس، وأضبط الناس. وإليه المنتهى. المرتبة الثالثة: إذا كرر لفظ التوثيق، إما مع تباين اللفظين كقولهم: ثبت حجة، أو ثبت حافظ، أو ثقة ثبت ... أو إعادة اللفظ الأول كقولهم، ثقة ثقة، ونحوها، وأكثر ما وجدوا قول ابن عيينة حدثنا عمرو بن دينار، وكان ثقة ثقة ثقة إلى أن قاله سبع مرات. المرتبة الرابعة: ما انفرد فيه بصيغة دالة على التوثيق: كثقة، أو ثبت أو ثبت أو متقن. المرتبة السادسة: ما أشعر بالقرب من التجريح، وهي أدنى المراتب كقولهم ليس ببعيد من الصواب. أو شيخ أو يروى حديثه، أو يعتبر به، أو شيخ وسط، أو صالح الحديث. انظر: مقدمة لسان الميزان (ص 215 - 216). (¬2) في ألفيته (ص 171 - 172).

الحديث، وقوي الحديث، وإسناد جيد، وإسناد قوي هما دون قولهم: صحيح الحديث وإسناد صحيح، وإن الفرق ما بين الجودة والقوة، وما بين الصحة هو الفرق بين الحديث الصحيح والحسن، والإسناد الصحيح والحسن، والكلام في ذلك معروف. انتهى تحرير الجواب في ليلة الأحد لعله خامس وعشرون شهر جمادى الآخرة سنة 1217. بقلم المجيب: محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما -[21].

مناقشة للجواب - في البحث - السابق من القاضي العلامة: محمد بن أحمد مشحم رحمه الله. حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - العنوان: مناقشة للجواب السابق. 2 - موضوع المناقشة: في مصطلح الحديث. 3 - أول المناقشة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الأمين وآله الميامين، وقفت على ما حرره المولى العلامة الإمام المجمع على جلالته بين علماء الإسلام. . . 4 - آخر المناقشة: إذا شاهد المولى من العبد زلة فعادته عنها التغافل والصفح، نفع الله بعلومه المسلمين، ونصر بها سنة سيد المرسلين - اللهم صلى وسلم على سيدنا محمد وآله آمين. حرره في رجب سنة 1217 هـ. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: (14) صفحة. 7 - المسطرة: (21 - 23) سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: (11 - 12) كلمة.

ترجمة صاحب المناقشة: القاضي محمد بن أحمد مشحم. محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن جار الله مشحم الصعدي الأصل الصنعاني المولد والمنشأ. ولد سنة 1186 هـ، وقرأ الفقه على السيد العلامة الحسين بن يحيى الديلمي والفقيه العلامة سعيد بن إسماعيل الرشيدي، وشيخنا العلامة أحمد بن محمد الحرازي، وولاه الإمام المنصور بالله القضاء الصنعاني بصنعاء. قال الشوكاني في ترجمته في "البدر الطالع" رقم: (415) وكان قبل ارتحاله من صنعاء إلى تلك الجهة يكثر الاتصال بيننا، ويجري من المباحث العلمية في أنواع العلم أشياء كثيرة، وبيني وبينه مودة أكيدة. ومحبة زائدة وما زالت كتبه تصل من هنالك تارة بمسائل علمية وتارة بمطارحة أدبية. ثم قال الشوكاني وأخذ عني فنون الحديث، ثم مرض مرضًا طويلًا وانتقل إلى رحمة الله في شهر رجب سنة 1223 هـ. البدر الطالع رقم: (415) والضوء اللامع (7/ 39 رقم: 82) نيل الوطر (2/ 235).

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الأمين، وآله الميامين. وقفت على ما حرر المولى العلامة الإمام المجمع على جلالته بين علماء الإسلام - حفظ الله معاليه، وأحمد مساعيه، وأسعد لياليه وأيامه، وأمضى في البسيطة أحكامه - فسرحت النظر في رياضه، وكرعت من معين حياضه، وبقيت في النفس أشياء أوردتها على سبيل الاستفسار، وتطفلت بها على هذه الحضرة السامية المقدار، سائلًا العفو عن الزلل، والصفح عن الخطأ والوجل الخطل، مع أني - والله - أوردت ما رددت الكلام فيه على شدة وجل من تكثير الكلام، وتكدير الخاطر الشريف، بما شملته هذه الأرقام، ولكني راجعت نفسي بأنها إن بقيت على ما جهلته، ولم يتبين الصواب؛ بقيت على جهل عظيم، لا يرتضيه أولو الألباب، فتجاسرت بإرجاع المذاكرة واتكلت على سعة الخاطر الكريم، ومحبته لإيضاح الحق بأي طرق التعليم، وتمثلت ما قيل: في انقباض وحشمة فإذا ... صادفت أهل الحياء والكرم أرسلت نفسي على سجيتها ... وقلت ما قلت غير محتشم فأقول: حاصل ما استشكله السائل أولًا: التصحيح للحديث لمجرد وجدان ثقة رجال إسناده في كتاب من كتب الجرح والتعديل، أو النص من إمام على ثقتهم، مع أنهم اعتبروا في رسم الصحيح أمورا خمسة تضمنها قول النخبة (¬1) وخبر الآحاد بنقل عدل تام الضبط، متصل السند، غير معلل ولا شاذ هو الصحيح لذاته. وكان يتصور لي في جواب هذا الإشكال أمران، الاتصال فالأصل عدم الشذوذ والعلة لندورهما، فيصح مع ذلك التصحيح لوجدان كون الرواة ثقات أو [1] النص من إمام على ثقتهم، لأن ¬

(¬1) انظر ألفية الحديث للحافظ العراقي (ص 7 - 8)، والاقتراح (ص 186)، التقييد والإيضاح (ص 20).

الحافظ إذا أطلق على هذا السند، كون رجاله ثقات، وكان له علة فيبعد أن لا يذكرها بأن يقول: رجاله ثقات وله علة مثلًا، وهذا قد يسلم فيما نص على ثقة رجاله حافظ. إنما الشأن فيمن وقف في هذه الأزمان على ثقة رواة حديث في كتاب من كتب الجرح والتعديل، ولم يكن من أهل الحفظ والإتقان، حتى يعلم مخالفة راوي الحديث لمن هو أوثق منه، أو يعلم بعلة قادحة. أما من رزقه الله حفظًا واسعًا، وتمكنًا فلا فرق بينه وبين الأوائل إلا بتقدم العصور (¬1) ولسنا - بحمد الله تعالى - ممن يفضل بتقدم العصر، ولكن ¬

(¬1) قال ابن الصلاح في علوم الحديث (ص 16 - 17): إذا وجدنا فيما يروى من أجزاء الحديث وغيرها حديثًا صحيح الإسناد ولم نجده في أحد الصحيحين ولا منصوصًا على صحته في شيء من مصنفات أئمة الحديث المعتمدة المشهورة، فإنا لا نتجاسر على جزم الحكم بصحته، فقد تعذر في هذه الأعصار الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار الأسانيد؛ لأنه ما من إسناد من ذلك إلا وتجد في رجاله من اعتمد في روايته على ما في كتابه عريًا عما يشترط في الصحيح من الحفظ والضبط والإتقان. فآل الأمر إذا في معرفة الصحيح والحسن إلى الاعتماد على ما نص عليه أئمة الحديث في تصانيفهم المعتمدة المشهورة التي يؤمن فيها - لشهرتها - من التغيير والتحريف. . . وخالفه النووي في التقريب (1/ 78 - 83) فقال: والأظهر عندي جوازه لمن تمكن وقويت معرفته. وقال العراقي في ألفيته (22 - 23): وما رجحه النووي هو الذي عليه عمل أهل الحديث فقد صحح غير واحد من المعاصرين لابن الصلاح وبعده أحاديث لم نجد لمن تقدمهم فيها تصحيحًا كأبي الحسن بن القطان والضياء المقدسي والزكي عبد العظيم ومن بعدهم. وقال الحافظ ابن حجر "ما اقتضاه كلامه من قبول التصحيح من المتقدمين ورده من المتأخرين قد يستلزم رد ما هو صحيح وقبول ما ليس بصحيح، فكم من حديث حكم بصحته إمام متقدم اطلع المتأخر فيه على علة قادحة تمنع من الحكم بصحته، ولا سيما إن كان ذلك التقدم ممن لا يرى التفرقة بين الصحيح والحسن، كابن خزيمة وابن حبان". وقد كتب السيوطي في هذه المسألة بحثًا خاصًا سماه: "التنقيح لمسألة التصحيح" جنح فيه إلى التوفيق بين رأي ابن الصلاح ورأي من خالفه، وخرج مذهب ابن الصلاح تخريجًا حسنًا فقال: والتحقيق عندي أنه لا اعتراض على ابن الصلاح ولا مخالفة بينه وبين من صحح في عصره أو بعده. وتقرير ذلك أن الصحيح قسمان: صحيح لذاته، وصحيح لغيره، كما هو مقرر في كتاب ابن الصلاح وغيره. والذي منعه ابن الصلاح، إنما هو القسم الأول دون الثاني كما تعطيه عبارته. وذلك أن يوجد في جزء من الأجزاء حديث بسند واحد من طريق واحد لم تعد طرقه، ويكون ظاهر الإسناد الصحة؛ لاتصاله وثقة رجاله، فيريد الإنسان أن يحكم لهذا الحديث بالصحة لذاته بمجرد هذا الظاهر، ولم يوجد لأحد من أئمة الحديث الحكم عليه بالصحة، فهذا ممنوع قطعًا؛ لأن مجرد ذلك لا يكتفى به في الحكم بالصحة، بل لا بد من فقد الشذوذ، ونفي العلة، والوقوف على ذلك؛ لأنه متعسر بل متعذر؛ لأن الاطلاع على العلل الخفية إنما كان للأئمة المتقدمين لقرب أعصارهم من عصر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكان الواحد منهم من تكون شيوخه التابعين أو أتباع التابعين، أو الطبقة الرابعة؛ فكان الوقوف على العلل إذ ذاك متيسرًا للحافظ العارف، وأما الأزمان المتأخرة فقد طالت فيها الأسانيد، فتعذر الوقوف على العلل إلا بالنقل من الكتب المصنفة، فإذا وجد الإنسان في جزء من الأجزاء حديثًا بسند واحد ظاهره الصحة لاتصاله وثقة رجاله لم يمكنه الحكم عليه بالصحة لذاته، لاحتمال أن يكون له علة خفية لم نطلع عليها لتعذر العلم بالعلل في هذه الأزمان. وأما القسم الثاني: فهذا لا يمنعه ابن الصلاح ولا غيره، وعليه يحمل صنع من كان في عصره، ومن جاء بعده، فإني استقريت ما صححه هؤلاء فوجدته من قسم الصحيح لغيره لا لذاته وقال السيوطي في تدريب الراوي (1/ 82) والأحوط في مثل ذلك أن يعبر عنه بصحيح الإسناد، ولا يطلق التصحيح لاحتمال علة للحديث خفيت عليه، وقد رأيت من يعبر خشية من ذلك بقوله صحيح إن شاء الله.

الشأن في وجدان هذا الحافظ المتقن، مع أن معي وقفة فيما أطلق الحافظ على حديث ثقة رواته، ولم يذكر له علة، فإنه يحتمل أنه لم يجد له علة، ويحتمل أنه لم يبحث حتى يعلم أن له علة، أو لا علة له. وهذا هو ما أشرت إليه في السؤال بقولي: بقي الكلام في السلامة من الشذوذ والعلة، وما قيل إن الشذوذ والعلة نادران، يعني فيصبح مع ندورهما التصحيح، فندورهما لا يصح معه الحكم بالصحة انتهى. وذلك لأن السلامة من الأمرين إذا كانت معتبرة فلا بد من التصريح بها، لأن عدم الأمرين معتبر، وأما إذا لم يحصل

التصريح بعد هذا فهو باقٍ على التجويز. وذلك مناف لاعتبار السلامة في الحد. لا يقال أنه يجوز وجدان حافظ آخر لعلة لهذا الحديث، فلا يكون صحيحًا، لأنا نقول: فتح باب هذا التجويز يغلق باب التصحيح بالمرة. وإنما الواجب أن يبحث الحافظ فيصرح بأني لا أعلم له علة، وليس بشاذ، أو يصرح بالصحة، لأن تصريحه بصحة الحديث في قوة الإخبار بخمس جمل، وهو عدالة الناقلين، وتمام ضبطهم، واتصال سندهم، والسلامة من الشذوذ [2] والعلة. ثم أيد ما كنت أفهمه من أن العلة والشذوذ وإن كانا نادرين؛ فلا يصح الحكم بالصحة، هذا ما قاله إمام الفن ابن حجر (¬1) أنه لا يلزم من كون رجال الحديث ثقات أن يكون صحيحًا. والحاصل أن من وقف على توثيق بعض الحفاظ لرواة حديث. فقال: الحديث صحيح، فإما أن ينسب تصحيح إلى ثقة أو إلى ذلك الحافظ الذي نص على ثقة رواته. إن نسبته إلى الحافظ، فقد نقول عليه ما لم يقله، وحمله ما لم يتحمله، فإنه إنما أخبر بعدالة الرواة وضبطهم لا غير. فيتحمل شذوذ الحديث أو وجود علة له. ويحتمل أن ذلك الحافظ قد بحث فلم يجده شاذًا ولا علة له، ويحتمل أنه لم يبحث. وإما أن ينسب تصحيحه إلى نفسه، فإن كان مع أهليته وقوة معرفته قد بحث حتى كان الحديث لديه تصحيحه إلى نفسه، فإن كان مع أهليته وقوة معرفته قد بحث حتى كان الحديث لديه سالمًا من العلة والشذوذ؛ فلا مانع له من التصحيح، وإن كان لم يقف إلا على مجرد توثيق الحافظ للرواة كما هي مسألة السؤال لم يجز له التصحيح، لأن من أجاز التصحيح (¬2) اشترط أهلية المصحح بأن يكون متمكنًا قوي المعرفة، وهذا الاشتراط إنما هو ليتمكن من معرفة علة الحديث، وسلامته من الشذوذ، وإلا فلا فائدة لهذا الاشتراط أصلًا، بل كل من وقف على توثيق رجال سند صحيح الحديث، سواء كان متمكنًا قوي المعرفة أولًا. وهذا شيء لم يقله أحد من أهل العلم إن شاء الله تعالى. فهذا الأمر الذي كان ¬

(¬1) تقدم قريبًا. (¬2) انظر: منهج النقد في علوم الحديث (280).

يتصور لي في جواب هذا الإشكال. الأمر الثاني: أن الحد المذكور ليس مجمعًا عليه من أهل العلم، وهذا أشرت إليه في السؤال بقولي: وقد يقال إن السلامة من الشذوذ والعلة ليس مجمعًا عليهما، فلا يرد الإيراد إلا على من اعتبر القيود جميعًا، أما من لم يعتبر إلا البعض كالعدالة والضبط فلا يرد، فيصح على قوله التصحيح لمجرد كون رجاله ثقات، وهذا صحيح لو كان من يعتمد التصحيح لهذه الطريقة مخالفًا في هذه الشروط المعبرة في الصحيح انتهى. وأنا إلى الآن لم أجد أحدًا من أهل الاصطلاح خالف في اشتراط الضبط والسلامة من الشذوذ والعلة. أما الضبط فإن الخطابي (¬1) وإن لم يشترطه فيما نقله [3] عن أهل الحديث. فقد رد عليه المحققون بأن لا بد من اشترط عندهم، بل وعند الأصوليين أيضًا. وتأول آخرون كلامه بدخول الضبط تحت عبارته، وقال بعضهم فيما وقفت عليه الآن: أن السلامة من الشذوذ داخلة تحت الضبط؛ لأن مخالفة الثقات منافية للضبط. قلت: وعلى هذا فيدخل تحت الضبط السلامة من العلل القادحة، لأن وجدانها في الحديث مناف لضبط راويه، ولكن في هذا كله نوع تكلف كما لا يخفى. وأما السلامة من الشذوذ والعلة فهما وإن لم يذكرا في الصحيح عند بعض المحدثين فذكر المعلل (¬2) والشاذ (¬3) من جملة الأقسام المنافية للصحيح مشعر بأنه يعتبر سلامته عنهما، لا سيما والعلل مقيدة بالقادحة. وقد ذكر ابن دقيق العيد أن السلامة من الشذوذ والعلة زادها المحدثون في الحد، وهذه رواية عنهم مقبولة، وأيدها قول الزين في الألفية (¬4)، وأهل هذا الشأن قسموا السنن إلى صحيح، وسقيم، وحسن، ثم حد الصحيح بما نقله في الجواب - كثر الله فوائده - فإن ظاهره أن هذا الحد هو المعتبر عند أهل الحديث قاطبة، أو عند المعتبرين منهم، بحيث لو كان أحد المشاهير منهم مخالفًا في اعتبار - أي هذه الشروط - لم يصح للزين نسبته هذا ¬

(¬1) انظر معالم السنن (1/ 11). (¬2) تقدم توضيح ذلك. (¬3) تقدم توضيح ذلك (¬4) (ص 7).

الحد إليهم، وكذلك الكتب المؤلفة في هذا الشأن، فإنها مصرحة باعتبار هذه القيود، وما منهم أحد صرح بأنه لا يعتبر في التصحيح إلا ثقة الرواة والاتصال فقط غير الخطابي. وقد علم رده. فهذا تحقيق ما استشكله الخاطر السقيم في التصحيح، وإنما أعدته لأرتب عليه ما استشكلته في الجواب عنه، فإنه مع سعة فجاجه وتلاطم أمواجه بهرني مبدؤه، وحيرني منتهاه فأوجب تكرار المقال، وإنما "شفاء العي السؤال (¬1) ". ولا ريب أن ما كان رجاله ثقات معمول به، لأنه خبر أحادي يجب قبوله كما تقرر في الأصول. إنما الكلام في كونه صحيحًا على مقتضى الاصطلاح الحديثي، ولا ملازمة بين [4] وجوب العمل بالحديث وصحته بالمعنى الاصطلاحي، وهذا ما استشكله السائل من الجواب. قوله - كثر الله فوائده - يعني الضبط والسلامة من الشذوذ والعلة. لعل هنا سبق فلم، فإن كلام ابن دقيق العيد (¬2) إنما هو في السلامة من الشذوذ والعلة فقط. قوله كثر الله فوائده: ولكنه قد قال ابن الصلاح (¬3) - رحمه الله - في بعض كتبه إلى قوله بل فيهم من يقول: إن الصحيح قد يكون موجود بعض هذه الأمور لما خفي أن ظاهر كلام ابن الصلاح هو ما ذكره - كثر الله فوائده - ولكنه محتاج إلى تبين هذه الأمور التي يوجد الصحيح بدونها من هذه الأمور الخمسة، وتعيين من قال به من أئمة الحديث، ¬

(¬1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم: (336) والبيهقي (1/ 228) والدارقطني (1/ 189 - 190) من حديث جابر بن عبد الله وله شاهدان: الأول: عن ابن عباس أخرجه أبو داود رقم: (337) وابن ماجه رقم: (572) وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (1/ 93 رقم: 464) بدون بلاغ عطاء. أخرجه الحاكم (1/ 165) وقال حديث صحيح ووافقه الذهبي، وابن حبان رقم: (201 - موارد) والدارمي (1/ 192). الثاني: أخرجه الحاكم (1/ 178) والدارقطني (1/ 190). والخلاصة أن حديث جابر حسن بشواهده (¬2) في الاقتراح (ص 178). (¬3) انظر التقييد والإيضاح (ص 20 - 21).

فإن هذا الكلام المنقول عنه لا يؤخذ منه مذهب لقائل فيسند إليه، ولا يعرف منه الشروط التي اعتبرها بعض المحدثين فيكون اصطلاحًا يمشى عليه؛ حتى يجاب السائل أن هذا التصحيح على رأي فلان وفلان. فإنهم لا يعتبرون في التصحيح الاتصال ولا السلامة من الشذوذ والعلة القادحة: وأما فهمه لزين (¬1) الدين والسيد الوزير - رحمهما الله - (¬2) في كلام ابن الصلاح فهو مجمل، لكن الظاهر في عبارته ما ذكره مولاي - حفظه الله - وأما ما نقله زين الدين (¬3) عن ابن دقيق العيد (¬4) - رحمه الله - من قوله: ولو قيل في هذا الحديث الصحيح المجمع على صحته: هو كذا وكذا؛ لكان حسنًا؛ لأن من لا يشترط مثل هذه الشروط لا يحصر الصحيح في هذه الأوصاف، ومن شرط الحد أن يكون جامعًا انتهى. فقد كان يظهر لي فيه أن ابن دقيق العيد أراد المجمع عليه بين الفقهاء، وأهل الحديث، فإنه قال أولًا: إن السلامة من الشذوذ والعلة زادها أصحاب الحديث، وفيهما نظر على مقتضى نظر الفقهاء. وقال آخر: إذ لو قيل في هذا إلخ لمعناه حينئذ إن هذا الحد للمجمع عليه بين المحدثين والفقهاء. أما المحدثون فلاشتراطهم السلامة من الأمرين، وأما الفقهاء فإنهم لا يشترطونها لكن الحديث السالم عن الشذوذ [5] والعلة صحيح عندهم بالطريق الأولى، وهكذا عبارة الزين (¬5) مشعرة بهذا. فإن عقب مناقشة ابن دقيق العيد (¬6) باصطلاح الفقهاء بقوله: قلت قد احترزت بقولي قادحة عن العلل التي لا تقدح في صحة الحديث، فظاهر هذا أنه إنما زاد قادحة في الحد لتخرج العلل التي تعلل بها المحدثون غير جارية على أصول الفقهاء، فصار الحد بهذه الزيادة جامعًا بين اصطلاح المحدثين والفقهاء فإن العلل القادحة وإن كانت مجهولة في الحد لا يتصور من الفقهاء أن لا يعتبروا عدها في صحة الحديث كما لا يخفى. ¬

(¬1) في ألفيته (ص 7 - 8). (¬2) في التنقيح (ص 25 - 26). (¬3) في ألفيته (ص 8). (¬4) في الاقتراح (ص 187). (¬5) في ألفيته (ص 8). (¬6) في الاقتراح (ص 187).

وأما ابن الصلاح فإنه وإن لم يذكر القادحة في الحد لكنه ذكر القادحة بعد سطر منه، فدل على اعتبارها عنده في الحد، فعرف بهذا أن هذا الحد للمجمع عليه بين الفقهاء والمحدثين. ثم كلام ابن دقيق العيد (¬1)، الذي ناقش به الحد مناقشة، وهو أنه نظر على اشتراط الشرطين على مقتضى نظر الفقهاء، ولم يذكر في مستند النظر إلا أمرًا واحدًا وهو قوله: فإن كثيرًا من العلل، وأما الشذوذ فلم يتعرض له. هل يجري التعليل به على أصول الفقهاء أو لا؟ إلا أن يقال: إنه قد يجعل الشذوذ من جملة العلل. قوله حفظه الله: إذا تقرر أن هذا حد للصحيح المجمع عليه لا لكل صحيح. أقول: لا سند لهذا الكلام فيما مر إلا كلام ابن الصلاح، وهو مع كونه محتملًا لما فهمه زيد الدين، والسيد من أن ذلك التقييد إنما هو لإخراج بعض المعتزلة، ولا استدلال بالمحتمل فيه ما ذكرته أولًا. وأما ما أيده به من كلام الخطابي (¬2) فقد قرر - كثر الله فوائده - أن رواية ابن دقيق العيد عن المحدثين زيادة مقبولة [6] وأما ما قاله ابن دقيق العيد (¬3)، من أن هذا حد للمجمع عليه فالظاهر أنه أراد بين الفقهاء والمحدثين كما يشعر به كلامه السابق. قوله حفظه الله: مع ما بين الكلامين من الاختلاف، فإن زين الدين اشترط الضبط وابن حجر (¬4) اعتبر تمامه. أقول: كان يظهر لي أولا أن اعتبار ابن حجر لتمام الضبط زيادة رواها عن أهل الاصطلاح، والزيادة مقبولة كما قاله مولانا - دامت فوائده - فيما قاله ابن دقيق العيد (¬5) ولكني راجعت كلامه فوجدته موافقًا للزين، فإنهما معًا متفقان على أنه يعتبر في الحسن الضبط، ولكنه دون رتبة ما يعتبر أنه في رواة الصحيح، ¬

(¬1) انظر الاقتراح (ص 187). (¬2) في معالم السنن (1/ 11) , (¬3) في الاقتراح (ص 187). (¬4) انظر النكت (1/ 235)، والنخبة (ص 62). (¬5) في الاقتراح (ص 187).

فقد اتفقا على حصول أصل الضبط في الحسن، فالصحيح لا بد أن يكون المعتبر فيه من الضبط رتبة فوق أصله، فعبر عنها ابن حجر بتمام الضبط. وقال في الحسن. فإن خف - الضبط أي قل فقد قابل بين تمام الضبط وقلته، فالمراد بالتام كثير الضبط، وكثير الضبط تتفاوت رتبه، ولهذا عقبه بقوله: وتتفاوت رتبه (¬1). وأما الزين (¬2) فإنه اعتبر في الصحيح الضبط، واعتبر في الحسن ما رجحه ابن الصلاح (¬3) من أنه قسمان: الأول: الذي لا يخلو رجال إسناده من مستور لم تتحقق أهليته، غير أنه ليس مغفلًا كثير الخطأ إلخ. الثاني: أن يكون من المشهورين بالصدق والأمانة غير أنه لا يبلغ درجة رواة الصحيح. ولا يخفى أن القسمين المذكورين قد اعتبر فيهما من الضبط حصول أصله. فالمعتبر في الصحيح إذن رتبة فوق أصله، فغاية ما صنعه ابن حجر بيان المراد، وتهذيب الحد. وعلى هذا لا مخالفة بين زين الدين وابن حجر من هذا الوجه، وهو الأول. الوجه الثاني: وحق المخالفة التي أبداها - حفظه الله - قوله: وكذلك اعتبر زين الدين في نظمه السابق أن تكون العلة قادحة، ولم يعتبره ابن حجر، إن كان قد ذكره في الشرح فقال: والمعلل لغة ما فيه علة، واصطلاحًا ما فيه علة خفية [7] قادحة انتهى. ولا يخفى أن إهماله لقيد قادحة في الحد يوجب الخلل فيه إلى قوله: لا بيان المعاني اللغوية. أقول: حد ابن (¬4) حجر، هو قوله: وخبر الآحاد بنقل عدل تام الضبط، متصل السند، غير معلل ولا شاذ هو الصحيح لذاته، ولم يذكر فيه لفظ علة حتى يحتاج إلى وصفها بالقادحة، بل ذكر المعلل. والمعلل عندهم ما حرره في شرحه كما نقله - حفظه الله -، ¬

(¬1) في هامش المخطوط ما نصه: "ولو كان المراد بتام الضبط أعلى رتبة منه لما صح قوله. وتتفاوت رتبه كما لا يخفى." (¬2) في ألفيته (ص 34 - 35). (¬3) في التقييد والإيضاح (43 - 44). (¬4) في النخبة (ص 55 - 56).

فلا يرد عليه أنه أهمل ذكر القادحة، لأنه اكتفى بلفظ المعلل اصطلاحًا كما اكتفى بالعدل، وتام الضبط والشاذ، وإلا لوجب ذكر حدود هذه جميعًا في حد الصحيح. وعلى هذا ففي حد ابن حجر زيادة على حد الزين - رحمهما الله -، وهي قوله: خفية. فإن الزين لم يذكر إلا قادحة، فلعل الزين اكتفى بالإطلاق لأنه لا بد في الصحيح من سلامته من الخفية والجلية. ومن اعتبر سلامته من الخفية فالجلية عنده من باب أولى. قوله - كثر الله فوائده - وإنه مما اختلف فيه حد زين الدين وابن حجر أن ابن حجر صرح بأن ذلك حد الصحيح لذاته بخلاف زين الدين (¬1) فإنه جعل ذلك حدا لمطلق الصحيح من غير تقييد بالصحيح لذاته. فكان بين الحدين المذكورين اختلافات ثلاثة. أقول: لا خفاء أن حد الزين إنما هو للصحيح لذاته لا لأمر خارج، أما أولًا فإنه الذي ينصرف إليه لفظ الصحيح عند الإطلاق، وأما ثانيًا: فالصحيح لغيره قد ذكره فيما بعد بقوله: والحسن المشهور بالعدالة ... والصدق راويه إذا أتى له طرق أخرى نحوها من الطرق ... صححته كمتن لولا أن أشق وهذا معنى قول ابن (¬2) حجر في الحسن، وبكثرة طرقه يصحح، فلا مخالفة من هذا الوجه. قوله كثر الله فوائده: وقد صرح ابن حجر بما يفيد ما ذكرناه فقال: وتتفاوت رتبه إلخ. أقول إن كان المراد ما ذكره - حفظه الله -[8] من كون ما جمع القيود الخمسة هو الصحيح المجمع عليه بين المحدثين، وإنه قد يكون الحديث صحيحًا عند البعض مع عدم واحد منها أو اثنين، فلم يظهر لي أن هذا الكلام المنقول من النخبة يفيده، وقد عقب - حفظه الله تعالى - بكلام ابن حجر هذا بقوله: وهو أي كلام ابن حجر يفيد أن ¬

(¬1) في ألفيته (ص 7 - 8). (¬2) في النخبة (ص62).

الصحيح مراتب، وأن تمام الضبط وتمام العدالة إنما هو تعريف للأصح لا للصحيح، فقد يكون الحديث صحيحًا بدون قيد التمامية في الأمرين المذكورين، وهكذا السلامة من كل علة، فإنها رتبة للصحيح فوق رتبة ما هو سالم من العلة القادحة، لا من مطلق العلة مع كونه صحيحًا. أقول الذي أفاد كلامه: أن الصحيح مراتب، وأن تمام الضبط معتبر في الصحيح. ولكن التمام قابله بالعلة في حد الحسن، فالمراد به الكثرة ولا يخفى أن الكثرة متفاوتة فقال: إن ما كان في الدرجة العليا من العدالة والضبط كان أصح مما دونه، ثم قال: ودونها في الرتبة كرواية بريد بن عبد الله. ودونها كسهيل بن أبي صالح عن أبيه، ثم قال (¬1) فإن الجميع يشملهم اسم العدالة والضبط، وهذا قد يشعر بأن المعتبر إنما هو الضبط في حد الصحيح لا كثرته المعبر عنها بتام الضبط، لكن ما بعده بسطرين يبين أن المعتبر عنده الضبط، فإنه قال (¬2) وفي التي تليها يعني الرتبة الثانية من قوة الضبط ما يقتضي تقديمها على الثالثة، وهي أي الثالثة مقدمة على رواية من بعد ما ينفرد به حسنًا انتهى. ولا يخفى أن الذي يعد ما ينفرد به حسنًا لا بد فيه من اعتبار الضبط، وإنما هو أقل رتبة من رجال الصحيح، فقد تبين أن كلام ابن حجر يفيد أن المعتبر من الضبط في الصحيح فوق حصوله أصله. وهو التمامية التي عبر بها في متنه، وإلا لكان المعتبر في الحسن والصحيح نوعًا واحدًا من الضبط، وذلك باطل. ويبين من كلامه أيضًا أن الضبط أربع مراتب: الثانية والثالثة والرابعة في الصحيح [9] بأنواعه. والأولى منها في الحسن. قوله نفع الله بعلومه: مما يؤيد هذا أنه قد اتفق المصنفون أن الصحيح مراتب إلى قوله حفظه الله: وعلى كل تقدير فليس التصحيح لما في الصحيحين إلا لكون الرواة من الثقات وقد عرفت أيهما أعلى (¬3) مراتب الصحيح. أقول قد تضمن هذا الكلام الجزم بأن تصحيح أحاديث الصحيحين ليس إلا لثقة ¬

(¬1) أي ابن حجر في النخبة (ص 58). (¬2) أي ابن حجر في النخبة (58). (¬3) تقدم ذكرها.

الرواة، واتصال السند من غير اعتبار السلامة من الشذوذ والعلة، وهكذا تصحيح من صحح من الأئمة لوجود شرطهما أو أحدهما لا مستند له إلا ثقة الرجال، واتصال السند فقط. قال حفظه الله: وهذا عين ما قاله الخطابي (¬1). أقول على هذا الكلام مؤاخذات. الأول: أنه مخالف لجميع الكتب المصنفة في الاصطلاح، فإنهم حدوا الصحيح بأنه ما جمع القيود الخمسة ثم قالوا: وهو مراتب: أعلاها ما في الصحيحين، ثم كذا، ثم كذا، وهذا تصريح منهم أن الصحيحين جمعت أحاديثها هذه القيود الخمسة. الثاني: أن المعترضين اعترضوا على البخاري ومسلم بأحاديث ذكروها معلة وشاذة. فلو كان السلامة من الشذوذ والعلة ليس من شرطهما، لكان دفع تلك الأحاديث بأسهل دفع، وهو أن يقال: هذه الأحاديث لا ترد. لأن السلامة من المعل ليس من شرطهما. الثالث: أنه قال الحافظ ابن (¬2) حجر في بيان تفضيل صحيح البخاري على صحيح مسلم: وأما من حيث التفضيل فقد قررنا أن مدار الحديث الصحيح على الاتصال، وإتقان الرواة، وعدم العلل. وعند التأمل يظهر أن كتاب البخاري أتقن رجالًا، وأشد اتصالًا، ثم ما يتعلق بالاتصال والإتقان. وقال: وأما [ما] يتعلق بعدم العلة وهو الوجه السادس. فإن الأحاديث التي انتقدت عليهما إلخ. وقال [10] في الفصل الثامن (¬3) في سياق الأحاديث المنتقدة في الجواب على سبيل الإجمال بعد نقل ما قاله مسلم: عرضت كتابي على أبي زرعة، فكلما أشار أن له علة تركته، فإذا عرف ذلك وتقرر أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما لا علة له، أو فيه علة (¬4)، إلا أنها غير مؤثرةٍ ¬

(¬1) معالم السنن (1/ 11). (¬2) النكت (1/ 286). (¬3) في هدى الساري مقدمة فتح الباري (ص 347). (¬4) منهج النقد في علوم الحديث (ص 12).

عندهما إلخ انتهى، وهذا معنى اشتراط السلامة من العلة القادحة. الرابع: أنه قال ابن الصلاح في شرط مسلم: شرط مسلم في صحيحه أن يكون متصل الإسناد بنقل الثقة عن الثقة من أوله إلى منتهاه، غير شاذ ولا معلل انتهى. فهذا التصريح من أئمة الحديث شرط البخاري ومسلم السلامة من الشذوذ والعلة. وقد تبين بهذا أن المراتب الست التي لا بد فيها من السلامة من العلة والشذوذ وأما ما نص على صحته إمام فالعبرة بما اشترطه؛ فيبقى الكلام فيما إذا وقف في هذه الأزمان على حديث صحيح الإسناد لثقة رجاله بالنص على ذلك من إمام، أو لوجدانهم في كتب الجرح والتعديل ثقات. فأما على رأي ابن الصلاح فقد سد باب التصحيح والتحسين (¬1) لضعف أهله المتأخرين. والذي رآه النووي (¬2) وتبعه المحققون أنه لا بأس بالتصحيح، لكن لمن قويت معرفته، وتمكن، وهذان الشرطان ليس إلا ليأمن من أن يكون الحديث سالمًا أو معللًا، وإلا فلا فرق بين المتمكن وغيره. ومع هذا فقد قال بعض المحققين (¬3): الأحوط أن يقال: صحيح الإسناد لاحتمال علة خفيت عليه، وهذا ما يرشد أن السلامة من العلل أمر معتبر في الباب. وقال ابن حجر (¬4) في مسألة ما لو اقتصر حافظ معتمد على قوله: صحيح الإسناد الذي لا أشك فيه أن الإمام منهم لا يعدل عن قوله: صحيح إلى قوله: صحيح الإسناد إلا لأمر ما قلت: وقوله: رجاله ثقات بالأولى. قوله حفظه الله: وليس بيد من جزم بصحة ما في الصحيحين أو أحدهما أو ما هو على شرطهما أو أحدهما إلا بمجرد اتصال السند، وكون الرجال ثقات إلخ. أقول: تقدم أن الظاهر أن شرط البخاري ومسلم السلامة من [11] الشذوذ والعلة ¬

(¬1) في علوم الحديث (ص 16) وقد تقدم مناقشة ذلك. (¬2) في التقريب (1/ 121 - مع التدريب). (¬3) قاله السيوطي في تدريب الراوي (1/ 82). (¬4) انظر النكت (1/ 272).

القادحة، فما كان على شرطهما لا بد فيه من السلامة من ذينك الأمرين. قوله حفظه الله: وبهذا يتقرر أن نوع المعلل الذي منشؤه الوهم لا يرتفع عن الحديث الذي قد صححه إمام من الأئمة. أقول: لا ريب أن فتح هذا الباب يغلق باب التصحيح بالمرة. ولكن ليس المعتبر في ذلك إلا البحث من ذلك الحافظ، فإذا حكم بصحة فقد تضمن إخباره عن نفسه بأنه ليس الحديث شاذًا ولا معلًا. فيكون الحديث صحيحًا، فإن وجدت له علة فذاك أمر آخر. والتصحيح والتحسين إنما هو باعتبار الظاهر. فقوله حفظه الله تعالى: فلا بد من المصير إلى أمرين إلخ ما أفاده - كثر الله فوائده - مشعر أن السلامة من العلة والشذوذ معتبرة. ولا كلام لنا فيما صححه إمام من الأئمة، إنما كلامنا في تصحيح الحديث لمجرد ثقة ناقليه، أما معنى يجب مع تمكنه وقوة معرفته فلا كلام في صحة التصحيح. منه قوله - نفع الله بعلومه - ولنذكر هاهنا ما يدفع إشكال السائل، فإن محل استشكاله هو تصحيح من صحح لمجرد كون الإسناد صحيحًا، أو رجاله ثقات، فتقول ما قاله الزين (¬1) - رحمه الله - إلخ. أقول هذا الكلام مما يشعر أيضًا باعتبار السلامة من الشذوذ والعلة عند المحدثين، لكن هل يجري كلامهم فيما لو وقف في هذه الأزمان على ثقة رجال إسناد في كتب الجرح والتعديل، فإن كلامهم إنما هو فيما أطلقه حافظ معتمد، ثم لا يخفى أن في هذا الكلام شيء، وهو أن قولهم إن صحيح الإسناد دون صحيح المتن يشعر بعدم الصحة، وإن كان بمعنى يقاربها، فظاهر لفظه دون يقضي بانتفاء الصحة، وقول ابن الصلاح الظاهر فيما أطلق المصنف المعتمد أنه صحيح الإسناد صحته في نفسه؛ لأن الظاهر عدم الشذوذ والعلة مشعر بتساوي الأمرين، فإن جعل أن المراد قبول الحديث من غير نظر إلى صحته كما يفيده لفظ وأقبله إن كان يعود إلى الحديث. فصريح عبارة ابن الصلاح أنه صحيح في نفسه عملًا بالظاهر، فهل يصح ¬

(¬1) في ألفيته (ص 8).

أن يقال: فيه أن التصحيح كله باعتبار الظاهر، ولكن الظهور مراتب، فما صرح بين الصحة مطلقًا فهو أظهر مما صرح فيه بصحة إسناده، وهل قول الحافظ ابن حجر في هذا المقام الذي لا أشك فيه [12] إن الإمام منهم لا يعدل عن قوله: صحيح إلى قوله: صحيح الإسناد إلا لأمر ما. انتهى. توقف في صحة ما هذا شأنه أم لا؟ ثم هل قولهم: صحيح الإسناد، ورجاله ثقات سواء؟ فإن الحسن لا بد أن يكون راويه عدلًا ضابطًا، وإطلاق الثقات محتمل أن يكونوا بلغوا من الضبط إلى ما يعتبر في الصحيح، فيكون الحديث صحيحًا أو لا فيكون حسنًا. قوله حفظه الله: ولا يخفاك أن اعتراضه أي الزين على الخطابي (¬1) بأنه لم يشترط الضبط غير صحيح، هذا ولم أفهم مراده وقوله: وانظر كيف استدرك عليه بالشذوذ والعلة، ولم يصرح بأنه لا بد من اعتبار ذلك! هلا قيل ذكرهما في الألفية (¬2) تصريح باعتبارهما. وقد وقف العبد حال بحثه في هذه المذاكرة على كلام للحافظ ابن (¬3) حجر - رحمه الله - في اعتبار السلامة من الشذوذ في حد الصحيح. فرأيت نقله هنا، وإن كان غير لائق بي، لكن رأيته موافقًا لما يلمح إليه نظر المجيب نفع الله بعلومه: قال (¬4) - رحمه الله - بعد تفسيره الشاذ بأن مخالفة الثقة لأرجح منه وهو مشكل، لأن الإسناد إذا كان متصلًا، ورواته كلهم عدولًا ضابطين فقد انتفت عنه العلل الظاهرة. ثم إذا انتفى كونه معلولًا فما المانع من الحكم بصحته لمجرد مخالفة أحد رواته لمن هو أوثق منه، أو أكثر عددًا لا يستلزم الضعف بل يكون من باب صحيح وأصح؟ قال: ولم أر مع ذلك عن أحد من أئمة الحديث اشتراط نفي الشذوذ المعبر عنه بالمخالفة، وإنما الموجود في تصرفاتهم تقديم بعض ذلك على بعض في الصحة، ¬

(¬1) تقدم انظر معالم السنن (1/ 11). (¬2) في ألفيته (ص 7). (¬3) تقدم. (¬4) في النكت (2/ 653).

وأمثلة ذلك موجودة في الصحيحين وغيرها. فمن ذلك أنهما أخرجا قصة جمل (¬1) جابر من طرق، وفيها اختلاف كثير في مقدار الثمن، وفي اشتراط ركوبه. وقد رجح (¬2) البخاري الطرق التي فيها الاشتراط على غيرها مع تخريجه للأمرين، ورجح أيضًا كون الثمن أوقية مع تخريجه ما يخالف ذلك. ومن ذلك أن مسلمًا (¬3) أخرج فيه حديث مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة في الاضطجاع قبل ركعتي الفجر، وقد خالفه عامة أصحاب الزهري كمعمر، ويونس (¬4)، وعمرو بن الحارث (¬5)، والأوزاعي، وابن أبي ذئب، وسعيد وغيرهم عن الزهري، فذكروا الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، ورجح جمع منهم من الحفاظ روايتهم على رواية مالك ومع ذلك فلم يتأخر أصحاب [13] الصحيح عن إخراج حديث مالك في كتبهم. وأمثلة ذلك كثيرة، ثم قال: فإن قيل: يلزم أن يسمى الحديث صحيحًا ولا يعمل به، قلنا: لا مانع من ذلك فليس كل صحيح ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم: (2115)، (2610) (2611) ومسلم رقم: (109/ 715) وأبو داود رقم: (3505) والنسائي رقم: (4637) وأحمد (3/ 299). (¬2) انظر فتح الباري (4/ 335 - 336). (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه رقم: (121/ 736) حدثنا يحيى بن يحيى. قال: قرأت على مالك عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة. يوتر منها بواحدة. فإذا فرغ منها اضطجع على شقه الأيمن. حتى يأتيه المؤذن فيصلي ركعتين خفيفتين. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه رقم: (000/ 736) وحدثنيه حرملة أخبرنا ابن وهب، أخبرني ابن يونس عن ابن شهاب. بهذا الإسناد. (¬5) أخرجه مسلم في صحيحه رقم: (122/ 736): وحدثني حرملة بن يحيى. حدثنا ابن وهب. أخبرني عمرو بن الحارث عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير. عن عائشة زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء "وهي التي يدعو الناس العتمة" إلى الفجر، إحدى عشرة ركعة. يسلم بين كل ركعتين. ويوتر بواحدة، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر، وتبين له الفجر، وجاءه المؤذن قام فركع ركعتين خفيفتين. ثم اضطجع على شقه الأيمن. حتى يأتيه المؤذن للإقامة.

يعمل به بدليل المنسوخ. قال: وعلى تقدير التسليم إن المخالف المرجوح لا يسمى صحيحًا، ففي جعل انتفائه شرطًا في الحكم للحديث بالصحة كون ذلك نظر، بل إذا وجدت الشروط المذكورة أولا حكم للحديث بالصحة، ما لم يظهر بعد ذلك أن فيه شذوذا؛ لأن الأصل عدم الشذوذ، وكون ذلك أصلًا بلا خور، ففي عدالة الراوي وضبطه، فإذا أثبت عدالته وضبطه كان الأصل أنه حفظ ما روى حتى يتبين خلافه انتهى. وقوله حفظه الله: لا أدري ما وجه ما حكم به الأمير (¬1) - رحمه الله - من أن العدل أخص من الثقة، وأن الثقة قد لا يكون عدلًا. وجهه ما صرح به في هذه الرسالة من توثيقهم غير العدول، وذلك أنهم وثقوا أهل البدع والأهواء مع كون البدعة منافية للعدالة عندهم. فمن جملة من وثقوه كما قاله أبو معاوية الضرير. قال الحاكم احتجابه، وقد اشتهر عنه الغلو قال الذهبي (¬2) غلو التشيع، وقد وثقه العجلي، وأخرج الشيخان (¬3) لأيوب بن عائذ بن مدلج وثقه ابن معين (¬4) وأبو حاتم (¬5) والنسائي (¬6)، والعجلي (¬7) .... .... .... .... ¬

(¬1) الأمير الصنعاني في "ثمرات النظر في علم الأثر " (ص117). (¬2) في ميزان الاعتدال (1/ 459 رقم: 1085/ 2388). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4346) حدثني عباس بن الوليد: حدثنا عبد الواحد عن أيوب بن عائذ: حدثنا قيس بن مسلم قال: سمعت طارق بن شهاب يقول: حدثني أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه- قال: بعثني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى أرض قومي، فجئت ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منيخ بالأبطح فقال: "أحججت يا عبد الله بن قيس؟ " قلت: نعم يا رسول الله، قال: كيف قلت؟ "قال: قلت: لبيك إهلالًا كإهلالك". قال: "فهل سقت معك هديا؟ " قلت: لم أسق، قال: "فطف بالبيت، واسع بين الصفا والمروة ثم حل" ففعلت حتى مشطت لي امرأة من نساء بني قيس ومكثنا بذلك حتى استخلف عمر. (¬4) ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال (1/ 459). (¬5) ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال (1/ 459). (¬6) ذكره المزي في تهذيب الكمال (1/ 478 - 479). (¬7) ذكره المزي في تهذيب الكمال (1/ 478 - 479).

وزاد أبو داود (¬1) وكان (¬2) مرجئا، وساق جماعة انتهى. فعلى هذا لكلامه وجه (¬3)، ¬

(¬1) ذكره الكلاباذي في رجال صحيح البخاري (1/ 82). (¬2) المرجئة من الإرجاء وهو التأخير والإمهال. قال تعالى: [قالوا أرجه وأخاه] [الشعراء: 36] القاموس المحيط (ص 1660). وفي الاصطلاح كانت المرجئة في آخر القرن الأول تطلق على فئتين كما قال الإمام ابن عيينة: 1 - \ قوم أرجئوا أمر عثمان وعلي فقد مضى أولئك. 2 - \ فأما المرجئة اليوم فهم يقولون: الإيمان قول بلا عمل واستقر المعنى الاصطلاحي للمرجئة عند السلف على المعنى الثاني "إرجاء الفقهاء" وهو القول بأن: الإيمان التصدق أو التصديق والقول، أو الإيمان قول بلا عمل. (أي أخرج الأعمال من مسمى الإيمان) وعليه فإن: من قال الإيمان لا يزيد ولا ينقص. وأنه لا يجوز الاستثناء في الإيمان من قال بهذه الأمور أو بعضها فهو مرجئ. قال ابن تيمية في منهاج السنة (7/ 231): حدثت بدعة المرجئة في أواخر عصر الصحابة، في عهد عبد الملك بن مروان وعبد الله بن الزبير، وعبد الملك توفي سنة 86 هـ وابن الزبير قتل سنة 73 هـ. انظر مزيدًا من التفاصيل عن ذلك. الإبانة (2/ 903)، الملل والنحل (1/ 139)، منهاج السنة (1/ 309). (¬3) قال ابن حجر في هدي الساري (ص 392): له في صحيح البخاري حديث واحد في المغازي في قصة أبي موسى الأشعري أخرجه له بمتابعة شعبة - رقم: (1565، 1724، 1795، 4397) - وسفيان رقم: (1559) - وروى له مسلم - في صحيحه رقم: (6/ 686) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد، جميعًا عن القاسم بن مالك قال عمرو: حدثنا قاسم بن مالك المزني حدثنا أيوب بن عائذ الطائي عن بكير بن الأخنس. عن مجاهد عن ابن عباس قال: "إن الله فرض الصلاة على لسان نبيكم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على المسافر ركعتين، وعلى المقيم أربعًا، وفي الخوف ركعة" - والترمذي - في السنن رقم: (614) وقال هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث عبيد الله بن موسى. حدثنا عبد الله بن أبي زياد القطواني الكوفي حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا غالب أبو بشر عن أيوب بن عائذ الطائي عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب كعب بن عجرة قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أعيذك بالله يا كعب بن عجرة من أمراء يكونون من بعدي، فمن غشي أبوابهم فصدقهم في كذبهم وأعانهم على ظلمهم؛ فليس مني ولست منه، ولا يرد علي الحوض، ومن غشي أبوابهم أو لم يغش؛ فلم يصدقهم في كذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم؛ فهو مني، وأنا منه وسيرد علي الحوض. يا كعب بن عجرة! الصلاة برهان، والصوم جنة حصينة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، يا كعب بن عجرة! إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به". وهو حديث صحيح.

وهو يناقض ما صرح به أئمة الفن من أن الثقة العدل الضابط فيحتاج إلى الجمع بينهما. إذا شاهد المولى من العبد زلة ... فعادته عنها التغافل والصفح نفع الله بعلومه المسلمين، ونصر بها سنة سيد المرسلين. اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وآله آمين. حرره في رجب سنة (1217 هـ) [14].

القول المقبول في رد خبر المجهول من غير صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم

القول المقبول في رد خبر المجهول من غير صحابة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط (أ): 1 - عنوان الرسالة: (القول المقبول في رد خبر المجهول). 2 - موضوع الرسالة: في مصطلح الحديث. 3 - أول الرسالة: بحث في رد خبر المجهول. قال رضي الله عنه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله، ورضي الله عن الصحابة الراشدين، وبعد فإنه وقف الحقير أسير التقصير محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما على ما دار من المذاكرة. . 4 - آخر الرسالة:. . . . والامتثال منهم في البعض الآخر وإلى هنا انتهى الكلام على هذه المسألة وفيه كفاية لمن له هداية والصلاة والسلام على خير الأنام وآله وصحبه الأعلام. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: (21) صفحة. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: (18 - 25) سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: (9 - 11) كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الأول من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".

وصف المخطوط (ب): 1 - عنوان الرسالة: (القول المقبول في رد خبر المجهول من غير صحابة الرسول) وهو الذي اعتمدناه. 2 - موضوع الرسالة: في مصطلح الحديث. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله، ورضي الله عن الصحابة الراشدين وبعد: وقف الحقير أسير التقصير محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما على ما دار من المذاكرة 4 - آخر الرسالة: ... لمن له هداية، والصلاة والسلام على خير الأنام وآله وصحبه الأعلام. فرغ من تحريره جامعه في نهار يوم الأحد لثلاث خلت من شهر ربيع الأول سنة (1206) وكان فراغي من نقله من نسخة المصنف ليلة الخميس ليلة رابع شهر شعبان سنة (1208) هـ. 5 - نوع الخط: خط نسخي واضح. 6 - عدد الصفحات: (16) صفحة. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: (24 - 29) سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: (10 - 12) كلمة. 9 - تاريخ النسخ: يوم الخميس لعله رابع شهر شعبان سنة (1208). 10 - الرسالة من المجلد الأول من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".

بسم الله الرحمن الرحيم [القول المقبول في رد خبر المجهول بحث في رد خبر المجهول قال -رضي الله عنه-] (¬1): بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله، ورضي الله عن الصحابة الراشدين وبعد، [فإنه] (¬2) وقف الحقير أسير التقصير محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما على ما دار من المذاكرة بين مولاي العلامة صارم الإسلام إبراهيم بن محمد بن إسحاق (¬3) حفظه الله وبين سيدي العلامة شرف الإسلام الحسين بن يحيى الديلمي (¬4) عافاه الله في قبول [خبر] (¬5) مجهول الحال في الشهادة على رؤية ¬

(¬1) زيادة من (أ). (¬2) زيادة من (أ). (¬3) السيد إبراهيم بن محمد بن إسحاق بن المهدي أحمد بن الحسن بن الإمام القاسم بن محمد. ولد سنة 1140 هـ ونشأ بصنعاء وأخذ العلم عن والده، قال الشوكاني في ترجمته في البدر الطالع رقم: (14) وكم تصل إلى عندي منه رسائل ونصائح فيما يتعلق بشأن الدولة، ويأخذ علي أنه لا يحل السكوت، وله رغبة في المباحثات العلمية شديدة، بحيث إنه لا يعرض البحث في مسألة من المسائل إلا وفحص عنه، وسأل وراجع. وكثيرًا ما تغد علي منه سؤالات أجيب عنها برسائل، كما يحكي ذلك مجموع رسائلي، مع أنه نفع الله به إذ ذاك عالي السن قد قارب السبعين، وأنا في نحو الثلاثين، وهذا أعظم دليل على تواضعه. مات سنة 1241 هـ. انظر: البدر الطالع رقم: (14) ونيل الوطر (1/ 253). (¬4) السيد الحسين بن يحيي بن إبراهيم الديلمي الذماري، ولد سنة 1149 هـ ونشأ بذمار، وأخذ عن علمائها كالفقيه عبد الله بن حسين دلامة، والفقيه حسن بن أحمد الشبيبي. ثم ارتحل إلى صنعاء، وقرأ العربية، وله قراءة في الحديث عن السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير. وقال الشوكاني في البدر الطالع رقم: (155): وقد جرى بيننا مباحثة علمية مدونة في رسائل هي في مجموع ما لي من الفتاوى والرسائل، ولا يزال يعاهدني بعد رجوعه من ذمار، ويتشوق إلى اللقاء وأنا كذلك، والمكاتبة بيننا مستمرة إلى الآن، وهو من جملة من رغبني في شرح المنتقى. من مصنفاته: "العروة الوثقى في أدلة مذهب ذوي القربى" وله "الإقناع في الرد على من أحل السماع ". انظر: "نيل الوطر" (1/ 402) و"البدر الطالع" رقم: (155). (¬5) زيادة من (أ).

هلال رمضان (¬1) فمولانا صارم الإسلام جزم بعدم قبوله واعتذر عن حديث قبوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للأعرابي قبل اختباره والعلم بعدالته بإبراز الفرق بين مجهول الصحابة وغيرهم. وسيدي شرف الدين جنح إلى القبول ميلًا منه إلى ما ذكره العلامة الإمام محمد بن إبراهيم الوزير في عواصمه (¬2) وتنقيحه (¬3) وسيأتي الكلام عليه، والذي لاح للخاطر الفاتر والنظر القاصر عدم قبول المجهول مطلقًا إلا أن يكون صحابيًا كما جزم به مولانا الصارم حفظه الله. ولما كانت هذه المسألة أعني قبول المجهول بأقسامه، وعدم قبوله مطلقًا أو مقيدا ببعض الأقسام، والفرق بين مجهول الصحابة وغيرهم وعدمه من أهم المسائل التي يقبح جهل ما هو الحق فيها من القاصر والكامل لانبناء قناطر من قواعد الدين عليها واحتياج كل ناظر وباحث في غالب الحالات إليها، ولذلك وصى العلامة ابن الإمام في شرح الغاية بالمبالغة في البحث وإمعان النظر في قبول مجهول الصحابة وعدمه مع أن ذلك ليس من عاداته في ذلك الكتاب، فقال: وهذه المسألة تنبني عليها أكثر الأحكام الشرعية فلا ينبغي [1 أ] لمجتهد أن يقتصر على أول نظر بل يبالغ في [1] البحث والطلب حتى يدرك ما هو الحق من هذه الأقوال فإنه من سلم من داء التقليد والعصبية إذا حقق نظره في هذه المسألة علم حقها من باطلها علمًا يقينيا. انتهى. وأنت تعلم أن الكلام هنا فيما هو أعم من مجهول الصحابة فالحاجة إلى تحقيق ما هو الحق فيه أشد وأشد، لا سيما وقد اشتهر على ألسن العامة وبعض الخاصة في هذه الأعصار أن من ظاهره الإسلام فظاهره الإيمان حتى سرى داء هذه الكلمة إلى كثير من ¬

(¬1) سيأتي تخريجه. (¬2) (1/ 371). (¬3) (ص 197 - 202).

أرباب القضاء والفتيا لما تلقوها وقبلوها وجعلوا عليها مدار إصدار المقبول وإيراده، ولم يفرقوا بين مجهول ومجهول، ولا بين حقوق الله وحقوق العباد، مع مخالفة ذلك لصرائح نصوص أئمتهم في مختصرات كتبهم ومطولاتها بل [مع] (¬1) مخالفة ذلك لإجماعهم، بل لإجماع الأمة في بعض الأقسام كما سيأتيك بيانه، فكأنهم تلقنوا هذه الكلمة المخالفة لدليل العقل والنقل من أم الكتاب، ولهذا ترى كثيرًا منهم يظنها من الضروريات التي لا ينكرها إلا المكابرون، وحال بينهم وبين معرفة ما هو الحق فيها أولا ومذاهب الأئمة ثانيًا القصور عن مدارك الاجتهاد التي لا يجوز إحرازها إلا الأفراد، والتقصير عن مراجعة أقول الأئمة التي تتجلى لمن وقف عليه كل ظلمة وغمة، فقد صار العالم بهذا الشأن المحدود من فرسان ذلك الميدان عند وقوفه على ما يصدر من أرباب الولايات في هذه القضية من الخبط والخلط كما قيل [شعرًا] (¬2): كأنني بينهم ضفدع ... يصيح وسط الماء في اليم إن نطقت أشرقها ماؤها [2] ... أو سكتت ماتت من الغم فلنتكلم في هذه المسألة بقدر ما تبلغ [إليه] (¬3) الطاقة، ولعله لا يخفى بعده الصواب إن شاء الله مبتدئين بنقل [كلام] (¬4) أئمة الأصول، فإن عليهم في مثل هذه [1 ب] المسألة تدور رحا القبول، ولنجعل البحث الأول في رد رواية المجهول مطلقًا وهو أعم من مسألة السؤال، وإبطال الأعم يستلزم إبطال الأخص تكثيرًا للفائدة إن فرضنا أن الإخبار برؤية الهلال (¬5) من قبيل الرواية، وإن فرضنا أنه من قبيل الشهادة كما يشهد بذلك صريح الأحاديث فلا شك أن الشروط المعتبرة ...................... ¬

(¬1) زيادة من [ب]. (¬2) زيادة من [أ]. (¬3) زيادة من [ب]. (¬4) في [ب]: أقوال. (¬5) سيأتي قريبًا.

في (¬1) الرواية معتبرة في الشهادة بل الأمر في الشهادة أشد وسنتكلم بعد ذلك في خصوص مسألة السؤال فنقول: قال ابن الحاجب في مختصر (¬2) المنتهى ما لفظه: مسألة: مجهول (¬3) الحال لا يقبل (¬4) وعند أبي حنيفة (¬5) قبوله، وقال المحقق ابن الإمام في الغاية وشرحها ما لفظه ¬

(¬1) الرواية في اصطلاح العلماء (إخبار) يحترز به عن الإنشاء (عن) أمر عام من قول أو فعل لا يختص واحد منهما بشخص معين من الأمة، ومن صفة هذا الإخبار أنه لا ترافع فيه ممكن عند الحكام. الشهادة: فإنها إخبار بلفظ خاص عن خاص علمه مختص بمعين يمكن الترافع فيه عند الحكام. ومن شروط الراوي عند الأداء: 1 - العقل: إجماعًا إذ لا وازع لغير عاقل يمنعه من الكذب ولا عبادة أيضًا كالطفل. وقال الشافعي في الرسالة: ص 372 - 375: أقبل في الحديث الواحد والمرأة ولا أقبل واحدًا منهما وحده في الشهادة. وأقبل في الحديث: "حدثني فلان عن فلان" إذا لم يكن مدلسًا، ولا أقبل في الشهادة إلا "سمعت" أو "رأيت" أو "أشهدني" ... ثم يكون بشر كلهم تجوز شهادته، ولا أقبل حديثه، من قبل ما يدخل في الحديث من كثرة الإحالة وإزالة بعض ألفاظ المعاني، وتختلف الأحاديث، فآخذ ببعضها، استدلالًا بكتاب أو سنة أو إجماع أو قياس، وهذا لا يؤخذ به في الشهادات هكذا، ولا يؤخذ فيها بحال. وانظر الكوكب المنير (2/ 378). 2 - الإسلام: إجماعًا؛ لتهمة عداوة الكافر للرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولشرعه. 3 - البلوغ: عند الأئمة الأربعة وغيرهم. وروي عن أحمد أن رواية المميز تقبل. 4 - الضبط: لئلا يغير اللفظ والمعنى فلا يوثق به. 5 - العدالة: إجماعًا لما سبق من الأدلة (ظاهرًا وباطنًا). (¬2) (2/ 64). (¬3) انظر توضيح الأفكار للأمير الصنعاني (1/ 173 - 185). (¬4) قال الشافعي في الرسالة (ص 374) رواية المجهول غير مقبولة بل لا بد فيه من خبرة ظاهرة، والبحث عن سيرته وسريرته. وانظر الكفاية (ص 149)، تدريب الراوي (1/ 316). (¬5) وظاهر مما أورده البزدوي والبخاري أن الإمام أبا حنيفة يقبل رواية المجهول - من الصحابة - لأن الأصل فيهم العدالة. كشف الأسرار (2/ 704). وقال البزدوي في كشف الأسرار (2/ 708، 720): ولذلك جوز أبو حنيفة - رحمه الله - القضاء بظاهر العدالة من غير تعديل، حين إن رواية مثل هذا المجهول في زماننا لا يحل العمل به لظهور الفسق. ثم قال: " ... ولهذا - أي ولاشتراط العدالة: لم يجعل خبر الفاسق والمستور حجة لفوات أصل العدالة في حق الفاسق، وفوات كمالها في حق المستور". ثم قال: "إلا أن خبر المجهول في القرون الثلاثة مقبول لغلبة العدالة فيهم، وخبر المجهول بعد القرون الثلاثة مردود لغلبة الفسق". وانظر: مسلم الثبوت وشرحه فواتح الرحموت (2/ 146 - 147).

: فمن لا تعرف عدالته ولا مقابلها بأن يكون مجهول الحال، لا تقبل روايته على المختار، وهو قول الجمهور من العلماء، ثم قال بعد أن ذكر الدليل على عدم القبول خلافًا لأبي حنيفة. وقال صاحب الفصول: وهو قول محمد بن منصور وابن زيد والقاضي في العمدة وابن فورك (¬1)، وقال الإمام المهدي (¬2) في المعيار (¬3) وشرحه ما لفظه: مسألة: الأكثر من الأصوليين - العدلية (¬4) والأشعرية (¬5) - لا يجوز أن يقبل خبر مسلم مجهول العدالة أي لم ¬

(¬1) وانظر المحصول (4/ 402)، جمع الجوامع للسبكي (2/ 150). (¬2) المهدي أحمد بن يحيى بن المرتضى، ولد بمدينة ذمار سنة 764 هـ قرأ في علم العربية، فلبث في قراءة النحو والتصريف والمعاني والبيان قدر سبع سنين وبرع في العلوم الثلاثة. من مصنفاته: دافع الأوهام، رياضة الأفهام في لطف الكلام، إكليل التاج وجوهرة الوهاج. البدر الطالع رقم: (77). (¬3) "المعيار" واسمه" معيار العقول، وشرحه منهاج الوصول "وهو الكتاب السابع من موسوعته" "البحر الزخار" وهو مرتب على مقدمة وأحد عشر بابًا. مؤلفات الزيدية (2/ 38). (¬4) العدلية: سموا بالعدلية لقولهم: الله أعدل من أن يظلم عبده ويؤاخذه بما لم يفعله، وهو أصل كلام القدرية الذي يعرفه عامتهم وخاصتهم وهو أساس مذهبهم وشعارهم. منهاج السنة لابن تيمية (3/ 141). (¬5) تقدم التعريف بها (ص 151).

يعرف حال عدالته، وقالت الحنفية (¬1): بل يجب أن تقبل، وحكاه الحاكم عن الشافعي (¬2)، وحكى الفخر [3] الرازي في المحصول (¬3) عن الشافعي أنه لا يقبل، وهذه الحكاية هي الأظهر، ثم قال: والصحيح عندنا ما عليه الأكثر، ومن ثم قلنا: المجهول لا يؤمن من فسقه فلا يظن صدقه، وحصول الظن معتبر، ثم احتج على ذلك وطول. وقال السبكي في جمع الجوامع (¬4): فلا يقبل المجهول باطنًا وهو [المستور] (¬5) خلافًا لأبي حنيفة وابن فورك وسليم الرازي، ثم قال (¬6): أما المجهول باطنًا أو ظاهرًا فمردود إجماعًا وكذا مجهول العين، ولا [ينافي] (¬7) ما قاله ابن [أبي] (¬8) شريف في حاشيته حاكيًا عن المصنف في شرح المختصر من أن حكاية ابن الصلاح (¬9) ثم النووي (¬10) ثم العراقي في ألفيته (¬11) رد المجهول باطنًا وظاهرًا عن الجماهير [2أ] يتضمن إثبات خلاف فيعارض حكاية الإجماع؛ لأن غاية ذلك عدم العلم منهم بالإجماع، ومن علم حجة على من لم يعلم، وناقل الإجماع ناقل للزيادة التي لم تقع منافية للأصل فقبولها واجب وإجماعًا ودعوى أن الاقتصار على الرواية عن الجمهور تتضمن إثبات خلاف ممنوعة، والسند أن عدم العلم بالإجماع ليس علمًا بالعدم، على أنه قد سبق صاحب الجمع إلى حكاية ذلك الإجماع على رد [خبر] (¬12) المجهول باطنًا وظاهرًا: الأبياري بالباء الموحدة ثم التحتانية حكاه عن ¬

(¬1) انظر: مسلم الثبوت وشرحه فواتح الرحموت (2/ 146 - 147). (¬2) انظر الرسالة (ص 374 - 378). (¬3) (4/ 402). (¬4) (2/ 150). (¬5) في [أ] المشهور. (¬6) (2/ 150). (¬7) في [ب] ينافيه. (¬8) زيادة من [أ]. (¬9) في مقدمته (ص 144 - 145). (¬10) في التقريب (1/ 316). (¬11) (ص 158). (¬12) زيادة من [أ].

السبكي في شرحه على المختصر (¬1) وأيضًا جزم السبكي بحكاية الإجماع مطلقًا من غير تردد كما فعل في "جمع الجوامع" (¬2) مشعر بعدم صحة ذلك التضمن الذي ظنه في شرحه للمختصر (¬3) إذا عرفت هذا علمت أن "جمع الجوامع" (¬4) مقيد لإطلاق خلاف أبي حنيفة ومن معه في مجهول الحال مطلقًا كما وقع في مختصر المنتهى، وغاية السول، والمعيار وغيرها بمجهول الحال في الباطن وهو المستور فيكون هو محل الخلاف، فاتضح بهذا أنه لم يقل بقبول مجهول الحال مطلقًا أحد، وأيضًا قد قيد بعضهم قول أبي حنيفة ومن معه بقبول المجهول بمجهول الصحابة، فإن صح ذلك ارتفع الخلاف من البين وكان المجهول مطلقا سواء كان مجهول حال أو عين غير مقبول من غير الصحابة بالإجماع، إلا أنه يعكر على هذا ما وقع من السيد العلامة للإمام محمد بن إبراهيم الوزير في العواصم والقواصم (¬5) والتنقيح (¬6) [عن] (¬7) حكاية الخلاف في المجهول مطلقًا، فإنه قال في التنقيح (¬8) في مجهول العين وهو من لم يرو عنه إلا راو واحد وفيه أقوال، الصحيح الذي عليه أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم أنه لا [4] يقبل. والثاني: أنه يقبل مطلقًا وهو قول من لم يشترط في الراوي غير الإسلام. والثالث: إن كان المتفرد بالرواية عنه لا يروي إلا عن عدل قبل مثل ابن مهدي ويحيى بن سعيد القطان ومالك ومن ذكر بذلك معهم وإلا لم يقبل. والرابع: إن كان مشهورًا في غير العلم بالزهد أو النجدة قبل وإلا فلا. وهو قول ابن عبد البر كما سيأتي [2 ب] إن شاء الله تعالى. والخامس: إن زكاه أحد من أئمة الجرح والتعديل مع رواية واحد عنه قبل وإلا فلا، وهو اختيار أبي الحسن بن القطان في بيان ¬

(¬1) (2/ 64). (¬2) (2/ 150 - 151). (¬3) (2/ 64). (¬4) (2/ 150 - 151). (¬5) (1/ 371). (¬6) ص 198. (¬7) في [ب] من. (¬8) ص 198.

"الوهم" (¬1) "والإيهام". قلت: [والسادس] (¬2) إن كان صحابيًا قبل وهو مذهب الفقهاء وبعض المحدثين وشيوخ الاعتزال، ثم قال (¬3) في مجهول الحال ظاهرًا وباطنًا وفيه أقوال: الأول أنه لا يقبل حكاه ابن الصلاح (¬4) وزين الدين (¬5) عن الجماهير. والثاني يقبل مطلقًا، والثالث إن كان الراويان عنه لا يرويان إلا عن عدل قبل، وإلا فلا. ثم قال في مجهول الحال باطنًا فهذا يحتج به بعض من رد القسمين الأولين وبه قطع الإمام سليم بن أيوب الرازي (¬6) إلخ .. كلامه وفيه مخالفة لإطلاق أرباب الأصول وغيرهم والذي رأيناه في كتب الاصطلاح التي اعتمدها السيد رحمه الله واختصر التنقيح منها أن تلك الأقوال التي ذكرها في مجهول العين وجعلها باعتبار القبول إنما هي باعتبار رفع اسم الجهالة لا باعتبار القبول كما صنع إلا في مجهول الصحابة ولا ملازمة بين ارتفاع جهالة العين وبين القبول فإنه لا بد بعد ارتفاع جهالة العين من معرفة العدالة ظاهرًا وباطنًا أو ظاهرًا فقط كان ذلك الارتفاع مستلزمًا للقبول لما كان [الحكاية] (¬7) الخلاف في المجهول بالمعنيين الآخرين فائدة ألا ترى أن القائلين برد مجهول الحال ظاهرًا وباطنًا وهم جميع الأمة كما حكاه صاحب الجمع (¬8) أو الجماهير كما حكاه ابن الصلاح (¬9) وزين الدين (¬10) ¬

(¬1) في (ب) من. (¬2) في (ب) والخامس. (¬3) ابن الوزير في التنقيح (ص 200). (¬4) وانظر مقدمة ابن الصلاح (ص 144). (¬5) "فتح المغيث" (ص 160). (¬6) ذكره العراقي في "فتح المغيث". (¬7) في (ب) الحكاية. (¬8) في "جمع الجوامع" للسبكي (2/ 150). (¬9) في مقدمته (ص 144). (¬10) في "فتح المغيث" (ص 160).

والقائلين برد مجهول الحال ظاهرًا وهم من عدا [أبو] حنيفة (¬1) ومن معه [3 أ] يجعلون عدالة الظاهر والباطن، أو الظاهر فقط شرطًا في قبول الرواية وذلك أمر وراء ارتفاع جهالة العين، فتلك الأقوال التي ذكرها صاحب التنقيح (¬2) وجعلها [موجبة] (¬3) إلى القبول لا تتم إلا أن تكون باعتبار من يقول إن جهالة الحال مطلقًا لا تقدح في قبول الرواية، وقد عرفت من الكلام السالف الإجماع على أنه غير مقبول وأن خلاف أبي حنيفة (¬4) ومن معه إنما هو باعتبار مجهول الحال في الباطن، وكذلك حكايته لتلك الأقوال الثلاثة في مجهول [5] الحال ظاهرًا وباطنًا، فإن ابن الصلاح (¬5) والزين (¬6) في منظومته وعليهما عول السيد -رحمه الله- في جمع ذلك الكتاب (¬7) لم يذكرا إلا أن الرد مذهب الجماهير، وقد عرفت فيما سبق أن هذه العبارة لا تستلزم إثبات خلاف وأن غايتها عدم العلم بالإجماع فيقبل ناقله. ولا شك أن السيد (¬8) -رحمه الله تعالى- من بحور العلم وأوعيته فربما وقف على ما لم نقف عليه، ولكنه إذا عارض حكايته للخلاف حكاية الإجماع من مثل السبكي ومن معه؛ كان المقام من مجالات النظر ومحارات الفكر على أن المسألة من أصلها باعتبار اضطراب الأقوال والأدلة فيها من معارك الأبطال. ثم إن السيد (¬9) رحمه الله قال إن ظاهر المذهب يعني مذهب الزيدية قبول هذا المسمى ¬

(¬1) في (ب) أبا. (¬2) ابن الوزير (ص 200 - 201). (¬3) في (ب) موجهة. (¬4) تقدم توضيح ذلك آنفًا. (¬5) في مقدمته (144). (¬6) في ألفيته (ص 158 - 159). (¬7) ابن الوزير في "التنقيح" (ص 200). (¬8) أي ابن الوزير. (¬9) في "التنقيح" (ص 201).

عندهم بالمستور قال بل [قد] (¬1) نص على قبوله وسماه هذه التسمية الشيخ أحمد في الجوهرة [ولا] (¬2) أعلم أن أحدًا من الشارحين اعترضه والأدلة تناوله سواء رجعنا إلى العقل وهو الحكم بالراجح لأن [3 ب] صدقه راجح، أو إلى السمع وهو قبول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمن هو كذلك كالأعرابيين في الشهادة بالفطر من رمضان (¬3) والأعرابي (¬4) بالشهادة بالصوم في أوله إلخ. كلامه. [وأقول] (¬5) لا نسلم أن المستور عند أصحابنا هو المستور باصطلاح المحدثين أعني مجهول الحال باطنًا بل هو بمعنى المستور من موجبات الجرح. . . ¬

(¬1) زيادة من (ب). (¬2) في (ب) ولم. (¬3) أخرجه أحمد (9/ 249 رقم: 39 - الفتح الرباني) وأبو داود رقم: (2339) من حديث ربعي بن حراش عن رجل من أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: اختلف الناس في آخر يوم من رمضان فقام أعرابيان فشهدا عند النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالله لأهلا الهلال أمس عشية، فأمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الناس أن يفطروا. وهو حديث صحيح. (¬4) أخرجه أبو داود رقم: (2340) والنسائي رقم: (2113) والترمذي رقم: (691) وابن ماجه رقم: (1652) وابن خزيمة في صحيحه رقم: (1924 - 1923)، وابن حبان في صحيحه رقم: (3446). عن ابن عباس قال: "أن أعرابيًا جاء إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: إني رأيت الهلال، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ " قال: نعم، قال: "أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ " قال: نعم، قال: "فأذن في الناس يا بلال: أن يصوموا غدًا ". وهو حديث ضعيف، وله شاهد من حديث ابن عمر أخرجه أبو داود رقم: (2342) وابن حبان رقم: (3447) والحاكم (1/ 423) وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي، والدارمي (2/ 4) والبيهقي (4/ 212) والدارقطني (2/ 156 رقم: 1) وقال: تفرد به مراون بن محمد، عن ابن وهب وهو ثقة فيه نظر، فقد تابعه هارون بن سعد الأيلي عن ابن وهب، عند الحاكم (1/ 423) والبيهقي (4/ 212) عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: تراءى الناس الهلال، فأخبرت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أني رأيته فصام، وأمر الناس بصيامه". وهو حديث صحيح. (¬5) زيادة من (أ).

[وأقول] (¬1) ولو سلم أن المستور عندهم هو المستور باصطلاح المحدثين لم يستلزم نص صاحب الجوهرة على قبوله نص جميعهم عليه، ولا ترك الاعتراض عليه الرضي بقوله وعدم النص على خلافه، وكتب أهل البيت طافحة بعدم قبول مجهول الحال ومجهول العدالة وهو أعم من مجهول الظاهر والباطن فقط، فكيف يكون نص صاحب الجوهرة على قبوله دليلًا على أنه المذهب. وأما تلك الحجة العقلية فممنوعة لأن مناط الرجحان انتفاء المانع، ولم ينتف، وأما الحجة السمعية فهي أخص من الدعوى لأن غايتها قبول مجهول الصحابة، ونحن نقول بموجبها، وقد ذكر السيد رحمه الله في آخر التنقيح (¬2) أن الزيدية يقبلون المجهول سواء عندهم في ذلك الصحابي وغيره. قال ذكر ذلك [السيد] (¬3) عبد الله بن زيد (¬4) في "الدرر المنظومة" وهو أحد قولي المنصور بالله ذكره في (هداية [المسترشد] (¬5) وهو أرجح احتمالي أبي طالب (¬6) في (جوامع الأدلة) وأحد احتمالية في "المجزئ" وهذا المذهب مشهور عن الحنفية، والزيدية مطبقون [4أ] على قبول مراسيل (¬7) الحنفية فقد دخل عليهم حديث ¬

(¬1) زيادة من (ب) (¬2) (ص 202). (¬3) في (ب) الفقيه. (¬4) تقدمت ترجمته. (¬5) في (ب) المسترشدين. (¬6) تقدمت ترجمته. (¬7) المرسل في اللغة: مشتق من الإرسال بمعنى الإطلاق تقول: أرسلت الغنم، أي أطلقتها، وقال تعالى: (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين) [مريم: 83]، فكأن المرسل أطلق الإسناد، ولم يقيده بجميع رواته. والمرسل في الاصطلاح: فقد اختلفت فيه العبارات، وذهب كل فريق مذهبًا إلا في صورة واحدة، فقد اتفق الجميع عليها وهي "أن قول التابعي الكبير، كعبيد الله بن عدي بن الخيار، وقيس بن أبي حازم، وسعيد بن المسيب، قال رسول الله كذا، أو فعل كذا، أو أقر كذا يسمى مرسلًا ". قال ابن الصلاح "في علوم الحديث" (ص51): "والمشهور التسوية بين التابعين أجمعين" أي لا فرق بين صغير وكبير. وقيل: المرسل: هو قول غير الصحابي. قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا المشهور عند الفقهاء ويندرج فيه: المنقطع وهو الذي سقط من إسناده رجل غير الصحابي. والمعضل: وهو الذي سقط منه اثنان. وقيل: المرسل: هو ما رواه الرجل عمن لم يستمع منه. حكم العمل بالحديث المرسل: لا يعمل بالحديث المرسل المطلق، لأنه نوع من الضعيف الذي لا تقام به حجة، ولا يبنى عليه برهان. انظر: "الكفاية في علم الرواية" ص 384.

المجهول على كل حال وإن كان المختار عند متأخريهم رده فذلك لا يغني مع قبولهم لمراسيل من يقبله. انتهى. وأقول إن كان الدليل على أن مذهب الزيدية قول الفقيه عبد الله [6] بن زيد مقبول فهو من ذلك الجنس الذي عرفناك، وإن كان الواقع في كتابه (¬1) حكاية ذلك عن الزيدية فقد خالفه في ذلك سائر أئمة الزيدية بل روى عنهم السيد نفسه في هذا الكتاب (¬2) بعينه ما يخالف ذلك في بحث معرفة من تقبل روايته ومن ترد فقال: الذي في كتب أئمة الزيدية أنه يشترط في الراوي أربعة شروط: الأول: أن يكون بالغًا، الثاني: أن يكون عاقلًا، الثالث: أن يكون مسلمًا، الرابع: أن يكون عدلًا مستورًا، فكيف يجوز نسبة القول بقبول المجهول مطلقًا إليهم بمجرد نص واحد منهم أو بمجرد الإلزام من جهة قبول مراسيل الحنفية؟ وكيف يحل التمسك بذلك مع تصريحهم بما يخالفه من جعلهم [العدالة] (¬3) والستر من شوائب القوادح في العدالة شرط من شروط القبول! وأما مجرد احتمال كلام أبي طالب وأحد قولي المنصور بالله فذلك لا يسوغ جعل ذلك مذهبًا لهما فكيف يجعل مذهبًا لجميع الزيدية؟ ثم إن السيد ¬

(¬1) "التنقيح" (ص 187) لابن الوزير. (¬2) "التنقيح" (ص 187) لابن الوزير. (¬3) في (ب) للعدالة.

رحمه الله تعالى ذكر تشكيكًا على القول بأنه لا بد من معرفة العدالة [الباطنة] (¬1) فقال: (¬2) وقول المحدثين إنه لا بد من معرفة العدالة [الباطنة] (¬3) مشكل إما لفظًا فقط أو لفظًا ومعنى وطول الكلام في ذلك في التنقيح وحاصل الإشكال باعتبار [4ب] اللفظ أنهم إما أن يريدوا بقولهم عدل في الباطن من رجع في عدالته إلى قول المزكين أو الخبرة وأورد على الطرفين إشكالات. باختيار الشق الثاني من شقي الترديد يلوح اندفاع ما أورده، وحاصل الإشكال باعتبار اللفظ، والمعنى أنه يلزم المعتبرين لذلك أمران ذكرهما هنالك فلا نطول بذكرهما والكلام عليهما فراجعهما. [فائدة] (¬4) قال العضد في "شرح المختصر" (¬5) ما معناه أن الأصل الفسق، والعدالة طارئة، قلت: وهو الحق لأن العدالة (¬6) حصول ملكة أعني كيفية راسخة في النفس، والأصل عدم الحصول والرسوخ بلا نزاع، وفي هذا المقدار من نقل أقوال الرجال كفاية. ولنعد إلى ذكر الدليل على عدم قبول المجهول ورد ما ظنه القائلون بالقبول دليلًا، ثم نتكلم بعد ذلك في مجهول الصحابة فنقول استدل على عدم القبول بدليلين. الأول: إن الأدلة القرآنية نحو قوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} (¬7) وقوله: {إن يتبعون إلا الظن} (¬8) وقوله [7]: {وإن الظن لا يغني من الحق شيئًا} (¬9) ¬

(¬1) في (أ) الباطنية. (¬2) ابن الوزير في "التنقيح" (ص 202). (¬3) في (أ) الباطنية. (¬4) زيادة من (ب). (¬5) (2/ 64). (¬6) العدالة: ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة والمراد بالتقوى، اجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة. "النخبة" لابن حجر (ص 55). (¬7) [الإسراء: 36]. (¬8) [النجم: 23]. (¬9) [النجم: 28]

دلت على منع العمل بالظن في المعلوم عدالته وفسقه والمجهول فخولف [ذلك] (¬1) في المعلوم عدالته. قال العضد بدليل هو الإجماع. الثاني: أن الفسق مانع من القبول قال العضد وابن الإمام في شرح الغاية بالاتفاق فوجب تحقق ظن عدمه كالصبا والكفر وهذان الدليلان المربوطان بالنصوص القرآنية وإجماع الأمة مغنيان عن غيرهما وغاية الكلام أن البراءة الأصلية كافية في سقوط [التعبد] (¬2) بأحكام الشرع فلا [5 أ] ينقل عنها شيء من الشكوك التي لا يستفاد من إخبار المجاهيل سواها لا سيما مع أمره -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بترك ما يريب إلى ما لا يريب (¬3) وقبول خبر المجهول دخول في أعظم ريب واحتج من قال بالقبول (¬4) وهو أبو حنيفة ومن تبعه بثلاث حجج: الأولى: أن الفسق سبب التثبت فإذا انتفى انتفى، وهو مندفع من طريقين. الأولى: ذكرها العلامة [العضد] (¬5) في شرح المختصر وهي أن انتفاء السبب المعين لا يوجب انتفاء المسبب لجواز تعدد السبب وقد ناقشه السعد بأن المراد إلزام القائلين بمفهوم الشرط وهي مناقشة واهية، ولذلك اعترف بصحة ما ذكره العلامة، فقال بعد ذلك إلا أنه يمكن تمشيته بما ذكره من أن تعدد السبب هنا معلوم؛ لأن الجهل بالعدالة والفسق أيضًا سبب التثبت يعني أن انتفاء السبب المعين لا يوجب انتفاء المسبب؛ لأن السبب هاهنا متعدد ¬

(¬1) زيادة من (ب). (¬2) زيادة من (ب). (¬3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه النسائي (2/ 234) والترمذي رقم: (2518) وقال: حديث حسن صحيح، والحاكم (4/ 99)، وأحمد (1/ 200) وأبو نعيم في "الحلية" (8/ 264). عن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: حفظت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دع ما يريبك إلا ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة". وهو حديث صحيح. (¬4) انظر "مسلم الثبوت وشرحه فواتح الرحموت" (2/ 146 - 147). (¬5) زيادة من (أ).

وهو الجهل بالعدالة والفسق، فلا يلزم من انتفاء الفسق انتفاء التثبت. الطريقة الثانية ذكرها المحقق العضد (¬1) وهي عدم تسليم أن المنتفي هنا هو الفسق، بل العلم به، ولا يلزم من عدم العلم بالشيء عدمه، والمطلوب العلم بانتفائه، ولا يحصل إلا بالخير أو التركيبة. الحجة الثانية: أن ظاهره الصدق كإخباره، فيقبل كإخباره بأن اللحم مذكاة، وبكون الماء طاهرًا أو نجسًا، ورد أولًا بأن ذلك ليس محل النزاع، إذ محله فيما يشترط فيه عدم الفسق، وذلك مما يقبله فيه الفاسق [5 ب]. قال العضد وابن الإمام اتفاقًا، وثانيًا أن الرواية أعلى مرتبة من هذه الأمور لأنها تثبت شرعًا عامًا فلا يلزم من القبول [8] في ذلك القبول في الرواية. الحجة الثالثة: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحن نحكم (¬2) بالظاهر، وهذا ظاهر، إذ يوجب ظنًا، ولذلك ¬

(¬1) في شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 64 - 66). (¬2) قال العراقي في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في منهاج البيضاوي رقم (78): "لا أصل له، وسئل عنه المزي فأنكره ". وكذلك قال ابن كثير والسخاوي كما في "المقاصد الحسنة" رقم (178) وأيضًا السيوطي كما في "كشف الخفاء" للعجلوني رقم (585) وانظر: "موافقة الخبر الخبر" لابن حجر (1/ 181 - 183). قلت: وقد ورد في السنة ما يؤدي معناه: منها: ما أخرجه البخاري رقم (6967) ومسلم رقم (4/ 1713) عن أم سلمة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع ... ". وهو حديث صحيح. ومنها: ما أخرجه النسائي (8/ 233) وترجم له في باب الحكم بالظاهر. ومسلم في صحيحه رقم (144/ 1064) من حديث أبي سعيد: "إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم". وهو حديث صحيح. وما أخرجه مسلم رقم (12/ 1497) من حديث ابن عباس في قصة الملاعنة: " لو كنت راجمًا أحدًا من غير بينة رجمتها". وهو حديث صحيح.

أسلم أعرابي (¬1) فشهد بالهلال فقبل وأجيب أولًا بمنع الظاهر، قال العضد: بل يستوي فيه صدقه وكذبه ما لم تعلم عدالته، وأما قصة الأعرابي (¬2) فقال أيضًا: لعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرف عدالته لأن الإسلام يجب ما قبله، ولم يحدث بعده ما ينقض العدالة، وثانيًا بالمعارضة بنحو قوله: {ولا تقف ما ليس لك به علم} (¬3)، {إن يتبعون إلا الظن} (¬4) وأقول الحديث (¬5) لا أصل له كما قال المزي والذهبي. قال الحافظ ابن كثير: هذا الحديث كثيرًا ما يلهج به أهل الأصول ولم أقف [له] (¬6) على سند، وسألت عنه الحافظ أبا الحجاج المزي فلم يعرفه، ولكن له شواهد كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنما أقضي بنحو ما أسمع» وهو في الصحيح (¬7). وقال البخاري (¬8) في كتاب الشهادات قال عمر [رضي الله عنه] (¬9) إن أناسًا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن ظهر لنا خيرًا أمناه وقربناه وليس إلينا من سريرته شيء، يحاسبه الله على سريرته، ومن أظهر سوءًا لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة. ورواه أحمد في .... ..................... ¬

(¬1) تقدم آنفا. (¬2) تقدم تخريجه (¬3) [الإسراء: 36]. (¬4) [النجم: 23]. (¬5) تقدم تخريجه. (¬6) زيادة من (أ). (¬7) في البخاري رقم (6967) ومسلم رقم (4/ 1713) من حديث أم سلمة. وقد تقدم أنفًا. (¬8) في صحيحه رقم (2641). (¬9) زيادة من (أ).

مسنده (¬1) مطولًا وأبو داود (¬2) مختصرًا وهو من رواية أبي فراس عن عمر، قال أبو زرعة [لا أعرفه] (¬3). ومن الشواهد أيضًا حديث أن العباس (¬4) قال يا رسول الله كنت مكرهًا [6 أ] يعني يوم بدر، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أما ظاهرك فكان علينا وأما سريرتك فإلى الله». على أنه لا حجة في هذا الحديث لمن قال بقول المجهول سواء قلنا بصحته أو لا. قال العلامة محمد بن إبراهيم في العواصم (¬5) إن الظاهر المذكور في الحديث هو ما بدى للإنسان من الأحوال وسائر الأمور المعلومة دون البواطن الخفية كقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للعباس (¬6) كان ظاهرك علينا، يريد ما علمنا بما أضمرت إنما عرفنا ما أظهرت، وكون الراوي صادقًا أو كاذبًا في نفس الأمر ليس مما يسمى ظاهرًا في اللغة العربية والعرف المتقدم، وإنما هذا اصطلاح الأصوليين يسمونه المظنون ظاهرًا، ولم يثبت هذا في اللغة، ولا يجوز أن يفسر كلام ¬

(¬1) قال الحافظ في "الفتح" (5/ 352) وفي رواية أي فراس عن عمر عند الحاكم "إنا كنا نعرفكم إذ كان فينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا الوحي ينزل، وإذ يأتينا من أخباركم، وأراد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد انطلق ورفع الوحي. قوله: (فمن أظهر لنا خيرا أمناه بهمزة بغير مد وميم مكسورة ونون مشددة من الأمن أي صيرناه عندنا أمينًا)، وفي رواية أبي فراس "ألا ومن يظهر منكم خيرًا ظننا به خيرًا وأحببناه عليه". قوله: (الله يحاسب) كذا لأبي ذر عن الحموي بحذف المفعول، وللباقين "الله محاسبه" بميم أوله وهاء آخره. قوله: (سويًا) في رواية الكشميهني "شرًا" وفي رواية أبي فراس "ومن يظهر لنا شرًا ظننا به شرًا، وأبغضناه عليه، سرائركم فيما بينكم وبين ربكم، قال المهلب: هذا إخبار من عمر عما كان الناس عليه في عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعما صار بعده، ويؤخذ منه أن العدل من لم توجد منه الريبة وهو قول أحمد وإسحاق كذا قال: وهذا إنما هو في حق المعروفين لا من لا يعرف حاله أصلًا". (¬2) قال الحافظ في "الفتح" (5/ 352) وفي رواية أي فراس عن عمر عند الحاكم "إنا كنا نعرفكم إذ كان فينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا الوحي ينزل، وإذ يأتينا من أخباركم، وأراد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد انطلق ورفع الوحي. قوله: (فمن أظهر لنا خيرا أمناه بهمزة بغير مد وميم مكسورة ونون مشددة من الأمن أي صيرناه عندنا أمينًا)، وفي رواية أبي فراس "ألا ومن يظهر منكم خيرًا ظننا به خيرًا وأحببناه عليه". قوله: (الله يحاسب) كذا لأبي ذر عن الحموي بحذف المفعول، وللباقين "الله محاسبه" بميم أوله وهاء آخره. قوله: (سويًا) في رواية الكشميهني "شرًا" وفي رواية أبي فراس "ومن يظهر لنا شرًا ظننا به شرًا، وأبغضناه عليه، سرائركم فيما بينكم وبين ربكم، قال المهلب: هذا إخبار من عمر عما كان الناس عليه في عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعما صار بعده، ويؤخذ منه أن العدل من لم توجد منه الريبة وهو قول أحمد وإسحاق كذا قال: وهذا إنما هو في حق المعروفين لا من لا يعرف حاله أصلًا". (¬3) زيادة من (ب). (¬4) تقدم في المجلد الأول -العقيدة-. (¬5) (1/ 376 - 378). (¬6) تقدم في المجلد الأول -العقيدة-.

رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باصطلاح الأصوليين، ألا ترى أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [9] لم يجعل صدق عمه العباس في دعواه للإكراه ظاهرًا، وإن كان صدقه بعد إسلامه مظنونًا راجحًا، بل الظاهر أن صدقه قبل إسلامه كان مظنونًا راجحًا لأنه كان من أهل السيادة والأنفة من الكذب [في الأخبار التي لا يعلم صدقها ولا كذبها؛ لأنه ليس مسمى في اللغة ظاهرًا، فلا يكون في الحديث حجة] (¬1). إذا تبين لك هذا فاعلم أن مسألة السؤال أعني الإخبار برؤية الهلال إن كان من قبيل الرواية دون الشهادة [6 ب] كما يدل على ذلك قبوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للواحد في هلال رمضان كما ثبت عند أبي داود [والنسائي والترمذي] (¬2) من حديث (¬3) ابن عباس أن أعرابيًا شهد أنه رأى هلال رمضان، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله» قال نعم، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا بلال أذن في الناس أن يصوموا غدًا»، وأصرح منه ما ثبت عند أبي داود (¬4) من حديث ابن عمر بلفظ أخبرت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه، فالكلام الذي سلف في إبطال [مطلق] (¬5) رواية المجهول كاف في إبطال المقيد بهذه الصورة؛ لأن إبطال الأعم [يستلزم إبطال] (¬6) الأخص وإن كانت مسألة النزاع من قبيل الشهادة كما يدل على ذلك حديث، «عهد إلينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ننسك للرؤية، فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما»، أخرجه أبو داود (¬7) من حديث الحسين بن الحارث الجدلي، وأخرجه. . . . . . . ¬

(¬1) زيادة من (ب). (¬2) في (ب) والترمذي والنسائي. (¬3) تقدم تخريجه، وهو حديث ضعيف. (¬4) في "السنن" رقم (2342)، وهو حديث صحيح، وقد تقدم. (¬5) زيادة من (ب). (¬6) في (ب) مستلزم لإبطال. (¬7) في "السنن" رقم (2338). وهو حديث صحيح.

النسائي (¬1). من حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب بلفظ فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا. وفي رواية (¬2) قدم أعرابيان، فشهدا وفي أخرى عند أبي داود (¬3) [7] والنسائي (¬4) «أن ركبا جاءوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشهدون أنهم رأو الهلال» وفي حديث الأعرابي بلفظ شهد، فلا شك أن جميع شروط قبول الرواية شروط للشهادة، بل الشهادة أخص باعتبار أن من شروط قبولها الاختبار وانتفاء كفر التأويل وفسقه مع عدم اشتراط ذلك في الرواية. أما الاختبار فظاهر، وأما فسق التأويل فقد ذكر العلامة ابن الوزير في .... ...... ¬

(¬1) في "السنن" (4/ 132 رقم 2116) وهو حديث صحيح. (¬2) عند أبي داود في "السنن" رقم (2339). (¬3) في "السنن" رقم (1157). (¬4) في "السنن" رقم (1507) قلت: وأخرجه أحمد (5/ 58) وابن ماجه رقم (1653) وصححه ابن المنذر وابن السكن وابن حزم كما في "تلخيص الخبير" (2/ 87 رقم 696). قال الخطابي في "معالم السنن": لا أعلم اختلافًا أن شهادة الرجلين العدلين مقبولة في رؤية هلال شوال، وإنما اختلفوا في شهادة رجل واحد، فقال أكثر العلماء: لا يقبل فيه أقل من شاهدين عدلين. وقد روي عن عمر بن الخطاب من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى (أنه أجاز شهادة رجل واحد في أضحى أو فطر) ومال إلى هذا القول بعض أهل الحديث وزعم أن باب رؤية الهلال باب الإخبار، فلا يجري مجرى الشهادات، ألا ترى أن شهادة الواحد مقبولة في رؤية هلال شهر رمضان، فكذلك يجب أن تكون مقبولة في هلال شهر شوال. قال: لو كان ذلك من باب الإخبار لجاز فيه أن يقول: أخبرني فلان أنه رأى الهلال، فلما لم يجز ذلك على الحكاية من غيره علم أنه ليس من باب الإخبار، والدليل على صحة ذلك أنه يقول أشهد أني رأيت الهلال كما يقول ذلك في سائر الشهادات، ولكن بعض الفقهاء ذهب إلى أن رؤية هلال رمضان خصوصًا من باب الإخبار، وذلك لأن الواحد العدل فيه كاف عند جماعة من العلماء، واحتج بخبر ابن عمر أنه قال: (أخبرت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أني رأيت الهلال فأمر الناس بالصيام).

العواصم (¬1) أنه غير مانع من قبول الرواية، ونقل الإجماع على ذلك من طرق عشر مع القطع بأن [أكثر] (¬2) منهم قائلون بعدم قبول شهادة فاسق التأويل، وقريب منه كفر التأويل، وإن قال جماعة من أهل مذهبنا [بقبولها] (¬3) في الشهادة. إذا عرفت هذا فما دل على عدم قبول رواية المجهول دل على عدم قبول شهادته مع ما يدل على خصوص الشهادة من قوله تعالى: {ممن ترضون من الشهداء} (¬4) وقوله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} (¬5) وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وشهد شاهد عدل» وقد نهانا رسول الله [10] صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الصيام المفروض إلى غاية للنهي هي رؤية الهلال كما يدل على ذلك: «لا تصوموا حتى تروا الهلال» (¬6) أو شهادة شاهدي عدل كما يدل على ذلك: "وشهد شاهدا عدل" أو كمال العدة كما يدل على ذلك: «فأكملوا العدة ثلاثين يومًا» (¬7) فقبل حصول واحد من هذه الثلاثة الصوم بنية الفرض منهي عنه، فالتعبدية منتف فأي ضرورة تلجئ المتدين [7 ب] إلى قبول رواية المجاهيل مع انتفاء الأسباب التي يتوقف تعلق حكم وجوب الصوم بناء عليها مع ما في ذلك من الوقوع في النهي! وهل هذا إلا من المخالفة للشريعة السمحة السهلة والوقوع في المضائق التي لم يتعبدنا الله بها؟. ¬

(¬1) (1/ 373 - 374). (¬2) في (ب) كثيرًا. (¬3) زيادة من (ب) (¬4) [البقرة: 282]. (¬5) [الطلاق: 2]. (¬6) تقدم تخريجه. (¬7) أخرجه البخاري رقم (1906) ومسلم رقم (3/ 100) وأحمد (2/ 63) والدرامي (2/ 3) والنسائي (4/ 134) والدارقطني (2/ 161 رقم 21) والبيهقي (4/ 204 - 205) من حديث ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر رمضان فقال: "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له".

فإن قلت: من الأسباب التي يجب عندها الصوم شهادة الواحد كما ثبت ذلك عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند شهادة الأعرابي [وهو مجهول] (¬1)، قلت: أما أولًا: فقد قدمنا لك أنه شهد بعد إسلامه والإسلام يجب ما قبله، فهو في تلك الحال لا يتصف بجهالة العين ولا الحال. وأما ثانيًا فهو متوقف على إمكان الجمع بينه وبين حديث وشهد شاهدًا عدل وحديث فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا (¬2) بأن في قبول الواحد زيادة يجب قبولها، وإنه يدل على قبول الواحد بالمنطوق (¬3) ومقابله بالمفهوم (¬4) والمنطوق [أرجح] (¬5) أو عدم إمكانه بهذا الوجه والمصير إلى التعارض وترجيح قبول الواحد في كل واحد من الطرفين نزاع طويل. وأما ثالثًا فسيأتيك الفرق بين مجهول الصحابة وغيرهم وقبول الواحد العدل لو سلمنا أنه من الأسباب لم يكن مضرًا بمحل النزاع؛ لأن كلامنا في قبول المجهول أو المجاهيل كما سلف وإذا [قد] (¬6) تبين لك الكلام في مطلق المجهول فلنتكلم على مجهول الصحابة، وبيانه متوقف على ذكر الخلاف في عدالة الصحابة، وفيه أربعة مذاهب: أنهم عدول (¬7) مطلقًا ونسبه ابن الحاجب في ...................... ¬

(¬1) زيادة من (ب). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم التعريف بها. (¬4) تقدم التعريف بها. (¬5) زيادة من (ب). (¬6) زيادة من (ب). (¬7) قال الشيخ تقي الدين وغيره "الذي عليه سلف الأمة وجمهور الخلف أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين عدول بتعديل الله تعالى لهم"، المسودة (ص 292). وقال ابن الصلاح في مقدمته ص 146 - 147: الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة، ولا يعتد بخلاف من خالفهم. قال الإمام الجويني في البرهان (1/ 632) ولعل السبب في قبولهم من غير بحث عن أحوالهم أنهم نقلة الشريعة، ولو ثبت التوقف في روايتهم لانحصرت الشريعة على عصر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولما استرسلت على سائر الأعصار. قال إلكيا الطبري: وأما ما وقع بينهم من الحروب والفتن فتلك أمور مبنية على الاجتهاد، وكل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد والمخطئ معذور بل مأجور، وكما قال عمر بن عبد العزيز: تلك دماء طهر الله منها سيوفنا فلا نخضب بها ألسنتنا- أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 934 رقم 1778) وابن الجوزي في سيرة عمر بن عبد العزيز ص 165 بسند لا بأس به. قلت: وهذا القول هو الراجح والله أعلم.

مختصر (¬1) المنتهى وشارحه العضد والسبكي في "جمع الجوامع" (¬2) إلى الأكثر [وكذلك] (¬3) الإمام المهدي في المعيار. ¬

(¬1) (2/ 67). (¬2) (2/ 166). أما القول الثاني: أن حكمهم في العدالة حكم غيرهم فيبحث عنها. "البحر المحيط" (4/ 229). القول الثالث: أنهم كلهم عدول قبل الفتن لا بعدها، فيجب البحث عنهم، وأما بعدها فلا يقبل الداخلون فيها مطلقًا، أي من الطرفين؛ لأن الفاسق من الفريقين غير معين، وبه قال عمرو بن عبيد من المعتزلة. وهذا القول غاية الضعف لاستلزامه إهدار غالب السنة، فإن المعتزلين لتلك الحروب هم طائفة يسيرة بالنسبة إلى الداخلين فيها، وفيه أيضًا أن الباغي غير معين من الفريقين، وهو معين بالدليل الصحيح، وأيضًا التمسك بما تمسكت به كل طائفة يخرجها من إطلاق اسم البغي عليها على تقدير تسليم أن الباغي من الفريقين غير معين. القول الرابع: أنهم كلهم عدول إلا من قاتل عليًا، وبه قال جماعة من المعتزلة والشيعة. وقال ابن قاضي الجبل: "وهذه الأقوال باطلة بعضها منسوب إلى عمرو بن عبيد وأحزابه، وما وقع بينهم محمول على الاجتهاد ولا قدح على مجتهد عند المصوبة وغيرهم". "الكوكب المنير" (2/ 476 - 477)، "مقدمة ابن الصلاح" (ص 301). القول الخامس: أن من كان مشتهرًا منهم بالصحة والملازمة فهو عدل لا يبحث عن عدالته دون من قلت صحبته ولم يلازم وإن كانت له رواية، كذا قال الماوردي. وهو قول ضعيف لاستلزامه إخراج جماعة من خيار الصحابة الذين أقاموا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قليلًا ثم انصرفوا كوائل بن جحدر، ومالك بن الحويرث وعثمان بن العاص. انظر "الكوكب المنير" (2/ 477). (¬3) في (ب) وكذا.

قال مسألة، الأكثر والصحابة عدول. الأشعرية مطلقًا. المعتزلة إلا من ظهر فسقه ولم يتب، وكذلك ابن الإمام في شرح الغاية قال وهو قول جمهور الفقهاء وجماعة من المحدثين. قلت إلا أن أهل هذا القول لا يجعلون (¬1) الصحبة بمنزلة العصمة من موجبات القدح كما يظنه كثير من الناس؛ ولهذا قال المحلي في شرح الجوامع عند قول السبكي: والأكثر على عدالة الصحابة ما لفظه، ومن طرأ له منهم قادح كسرقة أو زنا عمل بمقتضاه [11] انتهى. قال ابن أبي شريف في حاشية الجمع ما لفظه قوله: ومن طرأ له قادح منهم ... إلخ أشار به إلى أنه ليس المراد بكونهم عدولًا ثبوت (¬2) العصمة [لهم واستحالة المعصية عليهم، إنما المراد ما صرح به من أنه لا يبحث عن عدالتهم ومن فوائد القول] (¬3) بعدالتهم مطلقًا أنه إذا قيل عن رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: سمعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول كذا كان حجة (¬4) كتعيينه باسمه انتهى بلفظه. قال السيد العلامة محمد بن إبراهيم الوزير في التنقيح (¬5) بعد أن ذكر القول بعدالة ¬

(¬1) انظر "اللمع" ص 43. (¬2) انظر "اللمع" ص43. (¬3) زيادة من (ب). (¬4) قال الأنباري: وليس المراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم واستحالة المعصية عليهم، إنما المراد قبول رواياتهم من غير تكلف بحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية، إلا أن يثبت ارتكاب قادح، ولم يثبت ذلك لله الحمد، فنحن على استصحاب ما كانوا عليه في زمن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يثبت خلافه، ولا التفات إلى ما يذكره أهل السير فإنه لا يصح، وما صح فله تأويل صحيح. قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" (ص 263 - بتحقيقي): وإذا تقرر لك عدالة جميع من ثبتت له الصحبة علمت أنه إذا قال الراوي عن رجل من الصحابة ولم يسمه كان ذلك حجة، ولا تضر الجهالة لثبوت عدالتهم على العموم. وانظر: المسودة (ص 292)، مقدمة ابن الصلاح (ص 301). (¬5) (ص 259).

الصحابة (¬1) كلهم ما لفظه إلا ما قام الدليل على أنه فاسق تصريح، ولا بد من هذا إلا الاستثناء على جميع المذاهب وأهل الحديث، وإن أطلقوا القول بعدالة الصحابة كلهم [فإنه] (¬2) يستثنون من هذه صفته، وإنما لم يذكروه لندره (¬3) ولأنهم قد بينوا ذلك في معرفة كتب الصحابة وقد فعلوا [8ب] مثل هذا في قولهم أن المراسيل لا تقبل على الإطلاق من غير استثناء مع أنهم يقبلون مراسيل الصحابة، وبعضهم يقبل ما علقه البخاري، وما حكم بعض الحفاظ بصحة إسناده [وإن لم] (¬4) يبين إسناده، ونحو ذلك من المسائل قال: وأنا أنقل نصوصهم على ذلك لتعرف صحة ما ذكرته من الإجماع على صحة هذا الاستثناء، ثم نقل في التنقيح (¬5) مادة من ذلك نفيسة، فراجعها وبهذا تعلم أن القائلين بعدالة الصحابة مطلقًا قاتلون بقبول مجاهيلهم، بل ذلك هو فائدة هذه المقالة كما [قال] (¬6) ابن أبي شريف، وأهل هذه المقالة هم أكثر الأمة، فمجهول الصحابة مقبول عند أكثر الأمة. المذهب الثاني أن الصحابة كلهم عدول إلا من ظهر فسقه ولم يتب، وقد رواه الإمام المهدي في المعيار وشرحه عن المعتزلة واحتج له واختاره. فقال والحجة لنا على عدالة من لم يظهر فسقه منهم ... إلخ. ¬

(¬1) قال ابن الصلاح في مقدمته (ص 301): للصحابة بأسرهم خصيصة، وهي أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم، بل ذلك مفروغ منه لكونهم على الإطلاق معدلين بنصوص الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة. وانظر "الإرشاد" للنووي (2/ 591). (¬2) في (ب) فإنهم. (¬3) والنادر لا حكم له، ثم إنه لم يثبت عن واحد من الصحابة كذب بصورة من الصور. ذكره السخاوي، انظر "فتح المغيث" (3/ 106). (¬4) في (أ) وإن. (¬5) (ص 261). (¬6) في (ب) قاله.

وهكذا قال ابن بهران في الكافل بلفظ: والصحابة كلهم عدول إلا من أبا. قال ابن لقمان في شرحه أنه المختار عند الأكثر، وقال إلا من أبا العدالة منهم بأن ظهر فسقه ولم يتب. وأهل هذا القول يقبلون مجهول الصحابة، وفي عده مذهبًا مستقلًا كما وقع في بعض كتب الأصول كالغاية والمعيار نظر. لأنه عين المذهب الأول، فلا يتم جعله مخالفًا له إلا مع الإغماض عما ذكره المحلي [9 أ] وابن شريف وابن الوزير (¬1) كما سبق، وقد تركه ابن الحاجب (¬2) وصاحب جمع الجوامع (¬3) فأصابا، ونسب ابن الحاجب إلى المعتزلة (¬4) القول بأن الصحابة كلهم عدول إلا من قاتل عليًا لا كما فعله الإمام المهدي في المعيار [12]. المذهب الثالث: أنهم كغيرهم، وهذا قول القاضي أبو بكر الباقلاني. المذهب الرابع: أنهم كلهم عدول إلى حين ظهور الفتن، وهذا قول عمرو بن عبيد (¬5). إذا عرفت هذا تبين لك أن قبول مجهولهم مذهب جميع الأمة، ولم يخالف في ذلك إلا عمرو بن عبيد وأبو بكر الباقلاني على أن عمر بن عبيد من القائلين بعدالة مجهولهم قبل ذلك الوقت وبعده إذا لم يلابس الفتن فلا مخالف في ذلك على الحقيقة إلا أبو بكر الباقلاني. قال العلامة ابن الوزير في التنقيح (¬6) وأما القول بعدالة المجهول منهم فهو إجماع ¬

(¬1) في "التنقيح" (ص 259). (¬2) في "مختصر المنتهى" (2/ 67). (¬3) (2/ 166). (¬4) تقدم آنفًا (¬5) هو عمرو بن عبيد بن باب التيمي بالولاء أو عثمان البصري، شيخ المعتزلة في عصره، ومفتيها، وأحد الزهاد المشهورين، كان جده من سبي فارس، وفيه قال المنصور: "كلكم طالب صيد غير عمرو بن عبيد" له رسائل وخطب وكتب، منها "التفسير" و"الرد على القدرية". انظر "الأعلام للزركلي" (5/ 81). (¬6) (ص 267).

أهل السنة والمعتزلة والزيدية. وقال ابن عبد البر في التمهيد (¬1) إنه مما لا خلاف فيه انتهى. وأما الدليل على ذلك فاعلم أن الله سبحانه وتعالى قد تولى تعديل الصحابة بنفسه، وكذلك رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقل، الأحوال أن يجعل [حكم] (¬2) ذلك التعديل حكم تعديل العبيد بعضهم بعضًا، فإذا لم تثبت لهم هذه المزية أعني قبول مجهولهم، ولا يقبل من عرفناه عينًا وحالًا، فأي طائل وأي ثمرة لقوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} (¬3) وقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا} (¬4)، قال العضد (¬5) أي عدولًا، قال ابن أبي شريف وأكثر المفسرين على أن الصحابة المرادون من هاتين الآيتين، ومن ذلك قوله تعالى: {والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} (¬6) الآية. ولقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خير أمتي قرني»، أخرجه الشيخان (¬7) وحديث: «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه» أخرجه الشيخان (¬8). وحديث: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» (¬9) على مقال فيه. وحديث: «أوصيكم [بأصحابي] (¬10) ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشوا الكذب». ¬

(¬1) (22/ 47) لابن عبد البر. (¬2) زيادة من (ب). (¬3) [آل عمران: 110]. (¬4) [البقرة: 143]. (¬5) في "مختصر المنتهى" (2/ 67). (¬6) [الفتح: 29]. (¬7) البخاري في صحيحه رقم (2652) ومسلم رقم (2533) من حديث عبد الله ابن مسعود. (¬8) أخرجه البخاري في صحيحه (3673) ومسلم في صحيحه (221/ 2540) من حديث أبي سعيد الخدري. (¬9) تقدم تخريجه مطولًا -وهو حديث موضوع- انظره في المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني -العقيدة-. (¬10) في (ب) أصحابي.

ورواه أحمد (¬1) والترمذي (¬2) وأبو داود الطيالسي (¬3) وفي المتفق (¬4) عليه: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته». ومن الأدلة [الدالة] (¬5) على المطلوب قبوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمجهولهم كما في حديث عقبة بن الحارث عند البخاري (¬6) ومسلم (¬7) وفيه أنه تزوج أم يحيى بنت [13] أبي إهاب، فجاءت أمة سوداء فقالت قد أرضعتكما، فذكرت ذلك للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعرض عني، قال فتنحيت فذكرت ذلك له قال: وكيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما. وفي لفظ (¬8) "كيف وقد قيل" وفي أخرى فنهاه عنها، وفي أخرى "دعها عنك"، [وكذلك] (¬9) قبوله للأعرابي (¬10) في الصيام إن سلمت جهالته، وقد سبق الكلام عليه، وكذلك حديث: «إن الناس [10أ] اختلفوا في آخر يوم من رمضان، فقدم أعرابيان فشهدا عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ¬

(¬1) في "المسند" (1/ 18 - 26). (¬2) في "السنن" رقم (2165) وقال: حديث صحيح. (¬3) في "المسند" (34) وصححه الحاكم (1/ 113 - 114) ووافقه الذهبي، وهو من حديث جابر بن سمرة عن عمر، وهو حديث صحيح. (¬4) أخرجه البخاري رقم (2652) ومسلم رقم (2533) من حديث عبد الله بن مسعود. (¬5) زيادة من (ب). (¬6) في صحيحيه رقم (88) و (2052) و (2640) و (2659) و (5104). (¬7) لم يخرجه مسلم. (¬8) انظر التعليقة السابقة. وانظر "فتح الباري" (9/ 153). (¬9) زيادة من (ب). (¬10) تقدم تخريجه.

بالله لأهلا الهلال أمس عشية فأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [الناس] (¬1) أن يفطروا وأن يغدوا إلى مصلاهم» رواه أحمد (¬2) وأبو داود (¬3) وابن ماجه (¬4). قال الشيخ أبو الحسين في "المعتمد" (¬5) ما لفظه أعلم أنه إذا ثبت اعتبار العدالة وجب إن كان لها ظاهرًا أن يعتمد عليه، وإلا لزم اختبارها ولا شبهة في أن بعض الأزمان كزمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد كانت العدالة منوطة بالإسلام، وكان الظاهر من المسلم كونه عدلًا؛ ولهذا اقتصر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قبول خبر الأعرابي عن رؤية الهلال على ظاهر إسلامه، واقتصر الصحابة على إسلام من كان يروي الأخبار من العرب، وأما الأزمان التي كثرت فيها الخيانات ممن يعتقد الإسلام فليس الظاهر من إسلام الإنسان كونه عدلًا، فلا بد من اختباره. وقد ذكر الفقهاء هاذ التفصيل. انتهى كلامه. وأما [ما ذكره] (¬6) الجلال في كتابه عصام المتورعين عن مزالق المتشرعين من الجواب عن ذلك بأن خاصة للنوع، ثم قال [وتحققه] (¬7) أن حكم المجموع ليس حكمًا للأفراد، فإن الجماعة تحمل الحجر وتغلب الجيش دون الواحد ... إلخ [كلامه] (¬8) فأقول: لا شك أن لفظ أصحابي جنس مضاف، وهو من صيغ العموم على ما هو الحق وإن منعه هو وجماعة من أهل [10 ب] الأصول، ومدلول العموم من باب الكلية [أعني الحكم] (¬9) .... .... .... .... .. ¬

(¬1) زيادة من (أ). (¬2) في "المسند" (9/ 349 رقم 39 - الفتح الرباني). (¬3) في "السنن" رقم (2339). (¬4) في "السنن" رقم (1653) وهو حديث صحيح. وقد تقدم. (¬5) (2/ 136). (¬6) في (ب) ما حكاه. (¬7) في (ب) وتحقيقه. (¬8) زيادة من (أ). (¬9) في (أ) (أي محكوم).

[فيه] (¬1) على كل فرد فرد، قال في جمع الجوامع (¬2) في بحث العموم ما لفظه ومدلوله كلية أي محكوم فيه على كل فرد مطابقة إثباتًا أو سلبا لا كلي، ولم يحك الخلاف في ذلك عن أحد، فلا يخرج فرد من أفراد الصحابة عن ذلك إلا بدليل أو ظهور قادح، وكذلك الخطابات القرآنية نحو [14] كنتم خير أمة، وكذلك جعلناكم [أمة وسطًا] (¬3)، ونحوهما ظاهرة في تناول كل مخاطب إلا لمخرج، والمجهول الذي هو محل باقٍ غير مخرج. وهو المطلوب. وأما المعارضة بنحو قوله تعالى: {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} (¬4) ¬

(¬1) زيادة من (ب). (¬2) (2/ 167). (¬3) زيادة من (ب). (¬4) [البقرة: 187]. فوائد: من هو الصحابي: قال الحافظ ابن حجر في "الإصابة في تمييز الصحابة" (1/ 7، 8) بتصرف، وأصح ما وقف عليه من ذلك أن الصحابي، من لقي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مؤمنًا به ومات على الإسلام، فيدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته له أو قصرت، ومن روى عنه أو لم يرو، ومن غزا أو لم يغز، ومن رآه رؤية ولم يجالسه، ومن لم يره لعارض كالعمى. ولذلك يدخل في التعريف: كل مكلف من الجن والإنس. وكل من لقيه مؤمنًا ثم ارتد، ثم عاد إلى الإسلام، ومات مسلمًا سواء اجتمع به صلى الله عليه وسلام مرة أخرى أم لا، وهذا هو الصحيح المعتمد كالأشعث بن قيس، فإنه ارتد ثم عاد إلى الإسلام في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ومات مسلمًا، فقد اتفق أهل الحديث على عده من الصحابة. ويخرج من التعريف: من لقيه كافرًا، ولو أسلم بعد ذلك، إذا لم يجتمع به مرة أخرى. من لقيه مؤمنًا بغيره، كما لقيه من مؤمني أهل الكتاب قبل البعثة. من لقيه مؤمنًا به، ثم ارتد ومات على ردته والعياذ بالله. ثم قال: "وهذا التعريف مبني علي الأصح المختار عند المحققين كالبخاري وشيخه أحمد بن حنبل ومن تبعهما ". العدالة: تطلق العدالة على معان كثيرة منها: التجنب عن تعمد الكذب في الرواية والانحراف فيها بارتكاب ما يوجب عدم قبولها. وهذا المعنى هو مراد المحدثين من قولهم: الصحابة كلهم عدول. فقد قال السخاوي في "فتح المغيث" (3/ 106): قال ابن الأنباري: ليس المراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم واستحالة المعصية منهم، وإنما المراد قبول رواياتهم من غير تكلف بحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية إلا إن ثبت ارتكاب قادح ولم يثبت ذلك ولله الحمد. وقيل أن المقصود من عدالة الصحابة بالدرجة الأولى هو تنزههم عن الكذب، فهم عدول لا يكذبون ولم تعرف عنهم هذه الرذيلة، أما الصحابي فيمكن أن يصدر منه الذنب لأنه ليس معصومًا، إلا أن هذا الذنب لا يسقط عدالته لأن كل ابن آدم خطاء. ومما تقدم نجد أن الجهالة أقسام ثلاثة: (الأول): مجهول العين: وهو من لم يرو عنه إلا راو واحد وفيه أقوال: 1 - ): الصحيح الذي عليه أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم أنه لا يقبل. 2 - ): أنه يقبل مطلقًا، وهو قول من لم يشترط في الراوي غير الإسلام. 3 - ): أنه كان المنفرد بالرواية عنه لا يروي إلا عن عدل قبل مثل ابن مهدي ويحيى بن سعيد القطان ومالك ومن ذكر بذلك معهم وإلا لم يقبل. 4 - ): إن كان مشهورًا في غير العلم بالزهد والنجدة قبل، وإلا فلا. 5 - ): إن زكاه أحد أئمة الجرح والتعديل مع رواية واحد من قبل وإلا فلا، وهو اختيار أبي الحسن ابن القطان في (بيان الوهم والإيهام). 6 - ): إن كان صحابيًا قبل، وهو مذهب الفقهاء. انظر: "التنقيح" (ص 198). (الثاني) مجهول الحال: في العدالة في الظاهر والباطن مع كونه معروف العين، وفيه أقوال: 1 - ): لا يقبل، حكاه ابن الصلاح وزين الدين عن الجماهير. 2 - ): يقبل مطلقًا وإن لم تقبل رواية مجهول العين. 3 - ): إن كان الراويان عنه لا يرويان إلا عن عدل قبل وإلا فلا. "مقدمة ابن الصلاح" (ص 145)، "فتح المغيث" للعراقي (ص 160). (الثالث) مجهول العدالة الباطنة وهو عدل في الظاهر، فهذا لا يحتج به بعض من رد القسمين الأولين، وبه قطع الإمام سليم بن أيوب الرازي قال: لأن الأخبار مبنية على حسن الظن بالراوي. ولأن رواية الأخبار تكون عند من يتعذر عليه معرفة العدالة في الباطن، وتفارق الشهادة، فإنها تكون عند الحكام، ولا ينظر عليهم ذلك فاعتبرت فيها العدالة في الباطن والظاهر. وانظر: تفصيل ذلك: "فتح المغيث" (ص160) للزين العراقي.

ونحوها فغير منتهضة للتصريح بالتوبة عنهم في البعض والامتثال منهم في البعض الآخر، وإلى هنا انتهى الكلام على هذه المسألة وفيه كفاية [لمن له هداية، والصلاة والسلام على خير الأنام وآله وصحبه الأعلام] (¬1). [فرغ من تحريره جامعه في نهار يوم الأحد لثلاث خلت من شهر ربيع الأول سنة 1206 وكان فراغي من نقله من نسخة المصنف ليلة الخميس ليلة رابع شهر شعبان سنة 1208] (¬2) ¬

(¬1) زيادة من (أ). (¬2) زيادة من (ب).

بحث في الجواب على من قال أنه لم يقع التعرض لمن في حفظه ضعف من الصحابة

بحث في الجواب على من قال أنه لم يقع التعرض لمن في حفظه ضعف من الصحابة تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: (بحث في الجواب على من قال أنه لم يقع التعرض لمن في حفظه ضعف من الصحابة). 2 - موضوع الرسالة: في مصطلح الحديث. 3 - أول الرسالة: بحمد الله. ورد سؤال معناه أن أهل الحديث جزموا بعدالة جميع الصحابة ... 4 - آخر الرسالة: لما أنكر عليه التفرد ببعض الأحاديث: إن أصحابي كان شغلهم الصفق بالأسواق ونحو ذلك كثير. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني. 7 - الرسالة صفحة واحدة فقط، تحتوي على (23) سطرًا، وكل سطر يحتوي على (8 - 9) كلمة. 8 - الرسالة من المجلد الخامس من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".

بسم الله الرحمن الرحيم بحمد الله: ورد سؤال معناه أن أهل الحديث جزموا بعدالة جميع الصحابة بالأدلة الدالة على المزايا كتابًا وسنة، ولكنه قد نسب إلى بعضهم ضعف الحفظ والنسيان، والصحبة لا تعصم عن مثل ذلك، فما بال المحدثين لم يتعرضوا لذلك؟ وأجبت بأن هذا السؤال أخذه السائل من كونه لم يقع الكلام في ذلك في كتب الجرح والتعديل، ونحن نقول أن الصحابة -رضي الله عنه- ما كانوا يقبلون حديث من تعرض له منهم سهو، أو نسيان، أو ضعف حفظ، أو نحو ذلك. وقد وقع بينهم ذلك في أحاديث معروفة، وقصص مذكورة كحديث قليب بدر (¬1) وحديث: «إن الميت يعذب ببكاء أهله .................... ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (3976) ومسلم رقم (2875) من حديث أنس بن مالك. وفيه " ... فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا"، قال عمر: يا رسول الله، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم". قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخًا وتصغيرًا ونقيمة وحسرة وندما. روت عائشة رضي الله عنها هذه الرواية بعد موت عمر وتمسكت بقوله الله تعالى: {وما أنت بمسمع من في القبور} [فاطر: 22]. وفي المسألة قولان: 1 - ): أنهم لا يسمعون وهو مذهب الحنفية. ومن أدلتهم على ذلك: 1 - ): قوله تعالى: {وما أنت بمسمع من في القبور}، [فاطر: 22]. 2 - ): قوله تعالى: {إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين} [النمل: 80]. وأجاب الآخرون بأن الآيتين مجاز، وأنه ليس المقصود بـ (الموتى) وبـ (من في القبور) الموتى حقيقة في قبورهم، وإنما المراد بهم الكفار الأحياء، شبهوا بالموتى، والمعنى من هم حال الموتى أو في حال من سكن القبر". 3 - ): وقوله تعالى: {ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما ااستجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير} [فاطر: 13 - 14]. فهذه الآية صريحة في نفي السمع عن أولئك الذين كان المشركون يدعونهم من دون الله تعالى، وهم موتى الأولياء والصالحين الذين كان المشركون يمثلون في تماثيل وأصنام لهم، يعبدونها فيها، وليس لذاتها. 4 - ): حديث قليب بدر - تقدم تخريجه. ووجه الاستدلال بهذا الحديث: 1 - ): ما في إحدى الروايات - عند البخاري رقم (3980، 3981) والنسائي (1/ 693) من حديث ابن عمر - من تقييده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سماع موتى القليب بقوله: "الآن" فإن مفهومه أنهم لا يسمعون من غير هذا الوقت، وهو المطلوب. وقد نبه على ذلك العلامة الألوسي في كتابه "روح المعاني" (6/ 455) ففيه تنبيه قوي على أن الأصل في الموتى أنهم لا يسمعون، ولكن أهل القليب في ذلك الوقت قد سمعوا نداء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبإسماع الله تعالى إياهم خرقًا للعادة ومعجزة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 2 - ): أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقر عمر وغيره من الصحابة على ما كان مستقرًا في نفوسهم واعتقادهم أن الموتى لا يسمعون. وأقرهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على فهمهم للآية على ذلك الوجه العام الشامل لموتى القليب، وغيرهم لأنه لم ينكره عليهم، ولا قال لهم: أخطأتم، فالآية لا تنفي مطلقًا سماع الموتى بل إنه أقرهم على ذلك، ولكن بين لهم ما كان خافيًا عليهم من شأن القليب، وأنهم سمعوا كلامه حقًا، وأن ذلك أمر خاص مستثنى من الآية، معجزة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 5 - ): قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام" وهو حديث صحيح. ووجه الاستدلال به: أنه صرح في أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يسمع سلام المسلمين عليه إذا لو كان يسمعه بنفسه، لما كان بحاجة إلى من يبلغه إليه كما هو ظاهر لا يخفى على أحد إن شاء الله تعالى. وإذا كان الأمر كذلك فبالأولى أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يسمع غير السلام من الكلام. وإذا كان كذلك فلأن لا يسمع السلام غيره من الموتى أولى وأحرى. أدلة المخالفين وهم القائلين بأن الموتى يسمعون: 1 - ): الدليل الأول وهو حديث قليب بدر وقد تقدم. وقد عرفت مما سبق أنه خاص بأهل قليب بدر من جهة، وأنه دليل على أن الأصل في الموتى أنهم لا يسمعون من جهة أخرى، وأن سماعهم كان خرقًا للعادة. 2 - ): قوله: صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الميت ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا" وهو حديث صحيح أخرجه البخاري رقم (1338) ومسلم رقم (2870) من حديث أنس رضي الله عنه. وهذا خاص بوقت وضعه في قبره ومجيء الملكين إليه لسؤاله فلا عموم فيه. والخلاصة: أن الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال أئمة الحنفية وغيرهم - على أن الموتى لا يسمعون. وأن هذا هو الأصل: فإذا ثبت أنهم يسمعون في بعض الأحوال. كما في حديث خفق النعال، أو أن بعضهم سمع في وقت ما، كما في حديث القليب، فلا ينبغي أن يجعل ذلك أصلًا، فيقال: إن الموتى يسمعون كما فعل بعضهم كلا فإنها قضايا جزئية، لا تشكل قاعدة كلية، يعارض بها الأصل المذكور، بل الحق أنه يجب أن تستثنى منه، على قاعدة استثناء الأقل من الأكثر أو الخاص من العام كما هو مقرر في علم أصول الفقه. وقال الحافظ في "الفتح" (7/ 307): لا معارضة بين حديث ابن عمر والآية لأن الموتى لم تمتنع كقوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة} الآية، {فقال لها وللأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا} الآية - وقد جاء في المغازي - قول قتادة إن الله أحياهم حتى سمعوا كلام نبيه عليه الصلاة والسلام توبيخًا وحسرة وندمًا. انظر: "روح المعاني" للألوسي (6/ 454 - 456)، "الدر المنثور" (5/ 191).

عليه» (¬1)، وحديث ........................................ ¬

(¬1) قالت عائشة رضي الله عنها لما بلغها رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلفظ: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله" فقالت: يرحم الله عمر، ما حدث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الميت ليعذب ببكاء أهله، ولكن قال: "إن الله ليزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله" ثم قالت حسبكم القرآن {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: 164]. أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1288) ومسلم رقم (929). وفي رواية أنه ذكر لها أن عمر يقول: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله" فقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ، إنما مر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على يهودية يبكى عليها، فقال: "إنها ليبكى عليها وإنها لتعذب في قبرها". أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1289) ومسلم رقم (27/ 932). وقد ثبت الحديث - "إن الميت ليعذب ببكاء أهله"- في صحيح البخاري أيضًا رقم (1281) ومسلم رقم (28/ 933) من طريق المغيرة بلفظ: "من ينح عليه يعذب بما نيح عليه". فهذا الحديث قد ثبت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من طريق ثلاثة من الصحابة، ثم إن عائشة رضي الله عنها ردت ذلك متمسكة بما تحفظه، وبعموم القرآن، وأنت تعلم أن الزيادة مقبولة بالإجماع إن وقعت غير منافية، والزيادة هاهنا في رواية عمر وابنه، والمغيرة غير منافية لأنها متناولة بعمومها للميت من المسلمين، ولم تجعل عائشة روايتها مخصصة للعموم أو مقيدة الإطلاق حتى يكون قولها مقبولًا من وجه، بل صرحت بخطأ الراوي أو نسيانه، وجزمت بأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقل ذلك، وأما تمسكها بقول الله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: 164]. فهو لا يعارض الحديث لأنه عام والحديث خاص.

فاطمة (¬1) بنت قيس في السكنى والنفقة، وحديث ..................................... ¬

(¬1) عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (في المطلقة ثلاثًا): "ليس لها سكنى ولا نفقة". أخرجه مسلم في صحيحه رقم (44/ 1480). قالوا: وحديث فاطمة بنت قيس فيه مطاعن بضعف الاحتجاج به وحاصلًا أربعة مطاعن: 1 - كون الراوي امرأة ولم تقترن بشاهدين عدلين يتابعانها على حديثها. 2 - أن الرواية تخالف ظاهر القرآن. 3 - أن خروجها من المنزل لم يكن لأجل أنه لا حق لها في السكن بل لإيذائها أهل زوجها بلسانها. 4 - معارضة روايتها برواية عمر. وأجب بأن كون الراوي امرأة غير قادح، فكم من سنن ثبتت عن النساء يعلم ذلك من عرف السير وأسانيد الصحابة. وأما قول عمر: "لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أحفظت أم نسيت" - أخرجه مسلم رقم (46/ 1480) - فهذا تردد منه في حفظها، وإلا فإنه قد قيل عن عائشة وحفصة عدة أخبار، وتردده في حفظها عذر له في عدم العمل بالحديث، ولا يكون شكه حجة على غيره. وأما قوله: إنه مخالف للقرآن وهو قوله تعالى: {لا تخرجوهن من بيوتهن} [الطلاق: 1]، فإن الجمع ممكن بحمل الحديث على التخصيص لبعض أفراد العام، وأما رواية عمر فأرادوا بها قوله: وسنة نبينا وقد عرف من علوم الحديث أن قول الصحابي من السنة كذا يكون مرفوعًا. فالجواب: أنه أنكر أحمد بن حنبل هذه الزيادة من قول عمر، وجعل يقسم ويقول: وأين كتاب الله إيجاب النفقة والسكنى للمطلقة ثلاثًا، وقال: هذا لا يصح عن عمر سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "لها السكنى والنفقة"، فإنه من رواية إبراهيم النخعي عن عمر، وإبراهيم لم يسمعه من عمر، فإنه لم يولد إلا بعد موت عمر بسنين. وأما القول بأن خروج فاطمة من بيت زوجها كان لإيذائها لأهل بيته بلسانها، فكلام أجنبي عما يفيده الحديث الذي روت، ولو كانت تستحق السكنى لما أسقطه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبذاءة لسانها، ولوعظها وكفها عن إيذائة أهل زوجها. ولا يخفى ضعف هذا المطاعن في رد الحديث. فالحق: ما أفاده الحديث أن المطلقة ثلاثًا ليس لها سكنى ولا نفقة. وانظر: "زاد المعاد" (5/ 675).

مس (¬1) الذكر، وحديث ............................ ¬

(¬1) عن بسرة بنت صفوان أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من مس ذكره فليتوضأ". أخرجه أحمد (6/ 406 - 407) وأبو داود رقم (181) والترمذي رقم (82) والنسائي (1/ 100) وابن ماجه رقم (479) وهو حديث صحيح. عن طلق بن علي رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا نبي الله أيتوضأ أحدنا إذا مس ذكره؟، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هل هو إلا بضعة منك أو من جسدك" وهو حديث صحيح. أخرجه أبو داود رقم (182) والترمذي رقم (85) والنسائي (1/ 101) وابن ماجه رقم (483) والطيالسي رقم (1096) وأحمد (4/ 23). وقد ادعى قوم نسخ حديث طلق بهذا، وعللوا بأن طلقًا قدم على رسول الله وهم يؤسسون المسجد، وأبو هريرة أسلم متأخرًا وهو قول محتمل النسخ. قلت: لكن المحققين من أئمة الأصول لا يرون هذا دليلًا على النسخ. مذاهب أهل العلم في ذلك: 1 - ذهب بعضهم إلى ترك الوضوء من مس الذكر، وهم علي بن أبي طالب، وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وحذيفة بن اليمان، وعمران بن حصين، وأبي الدرداء، ... ". 2 - وذهب آخرون إلى إيجاب الوضوء من مس الذكر، وهم: عمر بن الخطاب وابنه عبد الله، وأبو أيوب الأنصاري، وزيد بن خالد، وأبو هريرة، وجابر وعائشة. الخلاصة: قال المحدث الألباني في "تمام المنة" (ص 103): قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما هو بضعة منك"، فيه إشارة لطيفة إلى أن المس الذي لا يوجب الوضوء، إنما هو الذي لا يقترن معه شهوة، لأنه في هذه الحالة يمكن تشبيه مس العضو بمس عضو آخر من الجسم، بخلاف ما إذا مسه بشهوة، فحينئذ لا يشبه مسه مس العضو الآخر، لأنه لا يقترن عادة بشهوة، وهذا أمر بين كما ترى. وعليه فالحديث ليس دليلًا للحنفية -ومن وافقهم- الذين يقولون بأن المس مطلقًا لا ينقض الوضوء، بل هو دليل يقول بأن المس بغير شهوة لا ينقض، وأما المس بالشهوة فينقض بدليل حديث بسرة. وبهذا يجمع بين الحديثين وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض كتبه على ما أذكر. والله أعلم" اهـ.

الإصباح جنبا للمجامع في ليل رمضان (¬1). وكذلك أحاديث ......................... ¬

(¬1) روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من أدركه الصبح وهو جنب فلا صوم له". وهو حديث صحيح: أخرجه ابن ماجه رقم (1702) وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/ 303 رقم 622): "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، رواه النسائي في الكبرى عن محمد بن منصور، عن سفيان بن عيينة به". ورواه الإمام أحمد في مسنده - (2/ 314) - عن عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: "إذا نوى للصلاة -صلاة الصبح- وأحدكم جنب فلا يصم يومئذ .. " وذكره البخاري تعليقًا. وفي الصحيحين - البخاري رقم (1925، 1926) ومسلم رقم (75/ 1109) - أن أبا هريرة سمعه من الفضل زاد مسلم ولم أسمعه من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلما بلغ هذا عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصبح جنبًا فيقوم فيغتسل ويخرج والماء يتحدر على جلده فيصوم ذلك اليوم" وهو حديث صحيح أخرجه البخاري رقم (1926) ومسلم رقم (75/ 1109). وأجاب الجمهور: بأنه منسوخ وأن أبا هريرة رجع عنه لما روي له حديث عائشة وأم سلمة، وأفتى بقولهما. عن أبي بكر، قال سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقص يقول: في قصصه: من أدركه الفجر جنبًا فلا يصم. فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن الحارث (لأبيه) فأنكر ذلك، فانطلق عبد الرحمن وانطلقت معه، حتى دخلنا على عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، فسألهما عبد الرحمن عن ذلك، قال فكلتاهما قالت: "كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصبح جنبًا من غير حلم ثم يصوم" قال: فانطلقنا حتى دخلنا على مروان، فذكر ذلك له عبد الرحمن، فقال مروان: عزمت عليك إلا ما ذهبت إلى أبي هريرة فرددت عليه ما يقول، قال فجئنا أبا هريرة، وأبو بكر حاضر ذلك كله، قال فذكر له عبد الرحمن فقال أبو هريرة: أهما قالتاه؟ قال نعم. قال: هما أعلم. ثم رد أبو هريرة ما كان يقول في ذلك إلى الفضل بن العباس. فقال أبو هريرة سمعت ذلك من الفضل، ولم أسمعه من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فرجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك. قلت لعبد الملك: أقالت: في رمضان؟ قال كذلك، "كان يصبح جنبًا من غير حلم ثم يصوم". ورد البخاري حديث أبي هريرة: بأن حديث عائشة أقوى سندًا. انظر "صحيح البخاري" (4/ 143) في آخر حديث رقم (1926). وقال ابن عبد البر في "التمهيد" (17/ 418 - 427): إنه صح وتواتر، وأما حديث أبي هريرة فأكثر الروايات أنه كان يفتي به. ورواية الرفع أقل. ومع التعارض يرجح لقوة الطريق.

من جامع ولم ينزل (¬1)، ونحو هذه الواقعات. ¬

(¬1) روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "الماء من الماء". أخرجه مسلم في صحيحه رقم (81/ 343) وأبو داود رقم (217) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 54). هذا الحديث كان معمولًا في أول الإسلام ثم نسخ بأحاديث صحيحة. (منها): ما أخرجه البخاري رقم (291) ومسلم رقم (348) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل". (ومنها): ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (88/ 349) والترمذي رقم (108، 109) وأحمد (6/ 47) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 56). عن أبي موسى الأشعري قال: اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار، فقال الأنصاريون لا يجب الغسل إلا من الدفق أو من الماء، وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل. قال: قال أبو موسى: فأنا أشفيكم من ذلك، فقمت فاستأذنت على عائشة فأذن لي. فقلت لها: يا أماه (أو يا أم المؤمنين) إن أريد أن أسألك عن شيء، وإني أستحييك، فقالت: لا تستحي أن تسألني عما كنت سائلًا عنه أمك التي ولدتك. فإنما أنا أمك. قلت: فما يوجب الغسل؟ قالت: على الخبير سقطت. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان، فقد وجب الغسل".

وقد نقل ما وقع بينهم من ذلك علماء الإسلام، وتعرضوا للترجيح في كثير من المواطن لحديث قوي الحفظ على ضعيفه، وحديث من كثرت منه الملازمة على من لم تكثر منه كما في قول أبي هريرة (¬1) -رضي الله عنه- في بعض المواطن لما أنكر عليه التفرد ببعض الأحاديث: إن أصحابي كان شغلهم الصفق بالأسواق، ونحو ذلك كثير. ¬

(¬1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (7354) ومسلم في صحيحه رقم (2492) من حديث أبي هريرة قال: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والله الموعد، إني كنت امرءًا مسكينًا، ألزم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، فشهدت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم وقال: "من يبسط رداءه حتى أقضي مقالتي ثم يقبضه، فلن ينسى شيئًا سمعه مني"، فبسطت بردة كانت علي، فوالذي بعثه بالحق، ما نسيت شيئًا سمعته منه.

سؤال عن عدالة جميع الصحابة هل هي مسلمة أم لا؟!

سؤال عن عدالة جميع الصحابة هل هي مسلمة أم لا؟! تأليف: محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: (سؤال عن عدالة جميع الصحابة، هل هي مسلمة أم لا؟!). 2 - موضوع الرسالة: في مصطلح الحديث. 3 - أول الرسالة: قال رضي الله عنه: الجواب: أن لأهل العلم في هذه المسألة أقوالًا: (الأول): ذهب إليه الجمهور أنهم كلهم عدول- رضي الله عنهم وأرضاهم - 4 - آخر الرسالة: سميته أدب الطلب ومنتهى الأرب بحسب ما ظهر لي وقوي لدي والله سبحانه أعلم. والصلاة والسلام على خير الأنام وآله وصحبه الأعلام آمين آمين 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - المسطرة: الأولى: (5) سطرًا. الثانية: (19) سطرًا. الثالثة: (19) سطرًا. الرابعة: (20) سطرًا. الخامسة: (18) سطرًا. 7 - عدد الكلمات في السطر: (8 - 10) كلمة. 8 - الرسالة ضمن المجلد الأول من "الفتح الرباني في فتاوى الشوكاني".

[بسم الله الرحمن الرحيم] سؤال عن عدالة (¬1) جميع الصحابة هل هي مسلمة أم لا؟ قال (¬2) رضي الله عنه: الجواب: إن لأهل العلم في هذه المسألة أقوالًا. الأول: ذهب إليه الجمهور (¬3) أنهم كلهم عدول رضي الله عنهم وأرضاهم. الثاني: أنهم كغيرهم وبه قال الباقلاني (¬4). الثالث: أنهم عدول [1أ] إلى حين ظهور الفتن بينهم وهو قول عمرو بن عبيد (¬5). الرابع: أنهم عدول إلا من ظهر فسقه (¬6)، وهو قول المعتزلة وجماعة من الزيدية، والحق ما ذهب إليه الأولون لمخصصات يتعسر حصرها، منها: أن الله سبحانه قد تولى تعديلهم بقوله: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} (¬7) وبقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا} (¬8) أي عدولًا. وبقوله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين} (¬9) ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (42). (¬2) أي الإمام محمد بن علي الشوكاني. (¬3) انظر: "مقدمة ابن الصلاح" (ص142) و"التنقيح" (ص 197). (¬4) أي حكمهم في العدالة حكم غيرهم فيبحث عنها، وهو قول باطل كما تقدم. انظر: "اللمع" (ص 42)، "المستصفى" (2/ 259). وقد نسبه الشوكاني في "الإرشاد" (ص 261 بتحقيقنا" إلى الحسين بن القطان. وانظر: "البحر المحيط" (4/ 299). (¬5) تقدمت ترجمته. (¬6) وقد نسب هذا القول إلى واصل بن عطاء وأصحابه الواصلية، وكذلك نسب إلى ضرار وأبو الهذيل ومعمر والنظام وأكثر القدرية. انظر "الإحكام" للآمدي (2/ 90) "تيسير التحرير" (3/ 64)، "أصول الدين" للبغدادي (ص 290) "مقالات الإسلاميين" (2/ 145). (¬7) [آل عمران: 110]. (¬8) [البقرة: 143]. (¬9) [الفتح: 18].

ونحو ذلك. وكذلك تولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعديلهم بقوله: «خير القرون قرني» الحديث وهو في الصحيح (¬1) ومثل حديث: «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» وهو في الصحيح (¬2) أيضًا. وقوله: «أصحابي كالنجوم» (¬3) وقوله: «لا تمس النار رجلًا رآني» (¬4) على ما فيهما من المقال. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. وورد في البعض منهم خصائص تخصه كما ورد في أهل بدر: «إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (¬5). على أن المطلوب من الحكم بعدالة الجميع هنا ليس هو إلا قبول الرواية من غير بحث عن حال الصحابي، ومرجع القبول على ما هو الحق عندي هو صدق اللهجة والتحرز عن الكذب، ولم يفش في خير القرون الكذب، بل ولا في القرن الذي يليهم ولا في الذي يليه كما ثبت في حديث: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب» (¬6). وبالجملة فالقول بعدالة الجميع [1ب] أقل ما يستحقون من المزايا التي وردت بها الأدلة الصحيحة، ويقال في جواب القوال الثاني، بأن جعلهم كغيرهم إهمال لمزاياهم وإهدار لخصائصهم (¬7) وطرح لكثير من الآيات والأحاديث الصحيحة، ويقال في جواب القول ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (2652) ومسلم رقم (2533) من حديث عبد الله بن مسعود وقد تقدم. (¬2) أخرجه البخاري رقم (3673) ومسلم رقم (221/ 2540) من حديث أبي سعيد الخدري. (¬3) تقدم وهو حديث موضوع. (¬4) أخرجه الترمذي في "السنن" رقم (3858) من حديث جابر بن عبد الله وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث موسى بن إبراهيم الأنصاري. وهو حديث ضعيف. (¬5) أخرجه البخاري رقم (3007) ومسلم رقم (161/ 2494) من حديث علي رضي الله عنه. (¬6) أخرجه البخاري رقم (2652) ومسلم رقم (2533) من حديث عبد الله بن مسعود وقد تقدم. (¬7) قال ابن الصلاح في مقدمته (ص 301): للصحابة بأسرهم خصيصة وهي أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم، بل ذلك مفروغ منه لكونهم على الإطلاق معدلين بنصوص الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة. وقال ابن كثير في "اختصار علوم الحديث" ص154: "والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة، لما أثنى الله عليهم في كتابه العزيز، وبما نطقت به السنة النبوية في المدح لهم في جميع أخلاقهم وأفعالهم، وما بذلوا من الأموال والأرواح بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رغبة فيما عند الله من الثواب الجزيل، والجزاء الجميل. وأما ما شجر بينهم بعده عليه الصلاة والسلام، فمنه ما وقع عن غير قصد، كيوم الجمل، ومنه ما كان عن اجتهاد، كيوم صفين. والمجتهد يخطئ ويصيب، ولكن صاحبه معذور وإن أخطأ، ومأجور أيضًا، وأما المصيب فله أجران اثنان، وكان علي وأصحابه أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين. وقول المعتزلة: الصحابة عدول إلا من قاتل عليًا - قول باطل مرذول ومردود ا هـ. وانظر: "البرهان" (1/ 407) "فتح المغيث" للعراقي (ص350).

الثالث بأن تقييد ثبوت العدالة إلى وقت ظهور الفتن لا يتم بعد تسليم أنهم دخلوا فيها صانهم الله جراءة لا على بصيرة ولا تأويل. وذلك مما لا ينبغي إطلاقه على آحاد الناس مع الاحتمال. فكيف بالواحد من الصحابة؟ فكيف بجميعهم؟ ثم ليت شعري ما يقول صاحب هذا القول أعني عمرو بن عبيد (¬1) في البدريين الداخلين في تلك الحروب، فإن الله قد غفر لهم ما قارفوه من الذنوب، ولعله لا يجد عن هذا جوابًا، وهو مع هذه من رءوس أهل البدع ومن المتهمين في الدين، ومما يحقق تصميمه على هذه المقالة في الصحابة أنه كان يقول لو شهد عندي علي وطلحة والزبير على تافه ثفلٍ ما قبلت شهادتهم (¬2). فانظر هذه الجرأة العظيمة من هذا المبتدع الجاهل للشرع وأهله، ويقال لأهل القول الرابع أن ما ذكرتم من ظهور الفسق لا نسلم وجوده على الحقيقة، وإنما هو بحسب الأهواء ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (42). (¬2) ذكره صاحب الفرق بين الفرق (ص 101). وكذلك ذكره الغزالي في " المستصفى " (2/ 259).

والدعاوي الفارغة والقيام في مراكز المذاهب، فذلك لا يضرنا ولا ينفعكم، وأيضًا أن ذلك الموجب للفسق إن كان لا يعود إلى ما يتعلق بالرواية والحفظ فلا اعتداد به [2 أ] لما قدمنا لك من الاعتبار بصدق اللهجة وحفظ المروي وعدم الدخول في بدعة من البدع توجب التهمة لذلك الراوي بالدعاء إلى مذهبه. وجميع الصحابة رضي الله عنهم منزهون عن جميع ذلك لا يخالف إلا من قد غلت في صدره مراجل الرفض. قال السائل: كذلك إذا أخرج أصحاب السنن عن شخص ورووا عنه كفعل البخاري (¬1) عن .......................... ¬

(¬1) أخرج له البخاري في صحيحه - مقرونًا مع المسور بن مخرمة. انظر الحديث رقم (2307 - 2308) من حديث مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين، فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أحب الحديث إلي أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي وإما المال. . . ". وانظر الأحاديث رقم (1711، 2712، 2731، 2732). روى البخاري في صحيحه عن مروان غير مقرون بغيره، وذلك كما في حديث رقم (4592) عن ابن شهاب قال: حدثني سهل بن سعد الساعدي أنه رأى مروان بن الحكم في المسجد، فأقبلت حتى جلست على جنبه، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أملى عليه: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) ابن أم مكتوم وهو يملها علي فقال: يا رسول الله والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت - وكان أعمى- فأنزل الله على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي ثم سري عنه فأنزل الله: (غير أولي الضرر). قال الحافظ ابن حجر في "هدي الساري" ص 384: " ... ينبغي لكل منصف أن يعلم أن تخريج صاحب الصحيح لأي راو كان مقتضٍ لعدالته عنده وصحة ضبطه وعدم غفلته، ولا سيما ما انضاف إلى ذلك من إطباق جمهور الأئمة على تسمية الكتابين بالصحيحين، فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيهما، هذا إذا خرج له في الأصول، فأما إذا خرج له في المتابعات والشواهد والتعاليق فهذا يتفاوت درجات من أخرج له منهم في الضبط وغيره مع حصول اسم الصدق لهم. وحينئذ إذا وجدنا لغيره في أحد منهم طعنًا فذلك الطعن مقابل لتعديل هذا الإمام، فلا يقبل إلا مبين السبب مفسرًا بقادح يقدح في عدالة هذا الراوي وفي ضبطه مطلقًا أو في ضبطه لخبر بعينه؛ لأن الأسباب الحاملة للأئمة على الجرح متفاوتة منها ما يقدح، ومنها ما لا يقدح، وقد كان الشيخ أبو الحسن المقدسي يقول في الرجل الذي يخرج عنه في الصحيح: هذا هو جاز القنطرة، يعني بذلك أنه لا يلتفت إلى ما قيل فيه.

مروان (¬1) هل هو تعديل أم لا (¬2)؟. ¬

(¬1) مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي الأموي. أبو عبد الملك. ولد بعد الهجرة بسنتين وقيل بأربع مات سنة 65 هـ وكانت ولايته على دمشق تسعة أشهر. قال البخاري: لم ير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال ابن عبد البر في الاستيعاب (3/ 444 رقم 2399): ولد يوم الخندق، وعن مالك أنه ولد يوم أحد. وانظر: "تهذيب التهذيب" (4/ 50). قال الحافظ ابن حجر: "وعاب الإسماعيلي على البخاري تخريج حديثه، وعد من موبقاته أنه رمى طلحة أحد العشرة يوم الجمل وهما جميعًا مع عائشة فقتل، ثم وثب على الخلافة بالسيف، واعتذرت عنه في مقدمة "شرح البخاري" هدي الساري (ص443) فقلت: "وهو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية ابن عم عثمان بن عفان، يقال له رؤية، فإن ثبتت فلا يعرج على من تكلم فيه، وقال عروة بن الزبير: كان مروان لا يتهم في الحديث، وقد روى عنه سهل بن سعد الساعدي الصحابي اعتمادًا على صدقه، وإنما نقموا عليه أنه رمى طلحة يوم الجمل بسهم فقتله ثم شهر السيف في طلب الخلافة حتى جرى ما جرى، فأما قتل طلحة فكان متأولًا فيه كما قرره الإسماعيلي وغيره، وأما ما بعد ذلك فإنما حمل عنه سهل بن سعد وعروة وعلي بن الحسين وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وهؤلاء أخرج البخاري أحاديثهم عنه في صحيحه لما كان أميرًا عندهم بالمدينة قبل أن يبدو منه في الخلاف على ابن الزبير ما بدا، والله أعلم." (¬2) إن رواية الثقة عن شخص لا تكون تعديلًا له مطلقًا، وهو قول أكثر الشافعية وابن حزم الظاهري والخطيب، وقال ابن الصلاح عند أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم ... وهو الصحيح. انظر: "مقدمة ابن الصلاح" (ص53) "تدريب الراوي" (1/ 314) "الكفاية" (ص89)، "تيسير التحرير" (3/ 50 - 55) "اللمع" ص44. وقيل: إنها تعديل له مطلقًا، اختاره القاضي وأبو الخطاب والحنفية وبعض الشافعية، عملًا بظاهر الحال. "المسودة" (ص 253، 271)، "تيسير التحرير" (3/ 50 - 55). وقال أبو بكر القفال الشاشي والخطيب البغدادي والصيرفي: ولا يقبل تعديل مبهم، كحدثني ثقة، أو عدل، أو من لا أتهمه لاحتمال كونه مجروحًا عند غيره. "المسودة" (ص 256)، "كشف الأسرار" (3/ 71). وقبله المجد من أصحابنا، وإن لم يقبل المرسل والمجهول، فقال: إذا قال العدل: حدثني الثقة، أو من لا أتهمه، أو رجل عدل ونحو ذلك فإنه يقبل، وإن رددنا المرسل والمجهول؛ لأن ذلك تعديل صريح عندنا"

والجواب أنه إذا كان لذلك الراوي شرط معروف فيمن يروي عنه، وكان من أهل التحري والإتقان والخبرة الكاملة في الفن، وصرح بأنه لا يروي إلا عمن حصل فيه ذلك الشرط كان الظاهر وجود الشرط المذكور في جميع رواته، فإن كان المجتهد يرى أن ما جعله ذلك الراوي شرطًا تحصل به مفهوم العدالة عنده وفي اجتهاده فلا بأس، فذلك وإن لم يكن للراوي شرط معروف، أو كان ولكن لا يراه المجتهد المطلع على ذلك محصلًا لمفهوم العدالة فلا يكون ذلك تعديلًا، فلا بد من هذا التفصيل وتقييد أحوال المختلفين في هذه المسألة به فاعرفه، قال السائل: وهل مسألة الجرح والتعديل يجوز فيها التقليد أم لا (¬1)؟ أقول: ينبغي أن يعلم السائل أن التقليد هو قبول رأي الغير دون روايته من دون مطالبة بالحجة، وتعديل المعدل للراوي ليس من الرأي في ورد ولا صدر، بل هو من الرواية [2ب] بحال من يعدله أو يجرحه؛ لأنه ينقل إلينا ما كان معلومًا لديه من حال الراوي، وهذا بلا شك من الرواية لا من الرأي، فلا مدخل لهذه المسألة في التقليد، وقد أوردها بعض المتأخرين لقصد التشكيك على المدعين للاجتهاد زاعمًا أنهم لم يخرجوا عن التقليد من هذه الحيثية، وأنت خبير بأن هذا التشكيك باطل نشأ من عدم الفرق بين الرواية والرأي، ومن هاهنا يعرف السائل بأن الاجتهاد متيسر لا متعذر ولا متعسر، والهداية بيد الله عز وجل، وقد أوضحت هذه المسألة في مؤلفاتي بمباحث مطولة (¬2) لا يتسع المقام لبسطها، وأطال وأطاب الكلام في شأنها الإمام محمد بن إبراهيم الوزير رحمه الله تعالى ¬

(¬1) انظر: الرسالة رقم (1). (¬2) منها "القول المفيد في حكم التقليد" بتحقيقنا.

في كتابه العواصم والقواصم (¬1) في الذب عن سنة أبي القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فليرجع إليه فإنه كتاب يكتب بماء الأحداق في صفحات الخدود الرقاق، وقد أوضحت ما يحتاج إليه المجتهد من العلوم في الكتاب الذي سميته "أدب الطلب ومنتقى الأرب" (¬2) بحسب ما ظهر لي وقوي لدي، والله سبحانه أعلم، والصلاة والسلام على خير الأنام وآله وصحبه الأعلام آمين آمين آمين آمين. ¬

(¬1) (2/ 8 - 20). (¬2) (28 - 40) بتحقيقنا.

رفع البأس عن حديث النفس والهم والوسواس

رفع البأس عن حديث النفس والهم والوسواس تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: (رفع البأس عن حديث النفس والهم والوسواس) , 2 - موضوع الرسالة: في الحديث. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، أحمدك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآله وصحبه، وبعد: فإنه ورد سؤال من الشيخ العلامة علي بن محمد بن محمد بن عبد الوهاب -كثر الله فوائده- وهذا لفظه: 4 - آخر الرسالة: ... والبحث في هذا يطول جدًا. وقد جمعت فيه مصنفين مطولًا ومختصرًا- ولله الحمد. حرره مؤلفه في يوم الأربعاء الثالث من شهر القعدة من شهور سنة (1228 هـ) حامدًا لله شاكرًا له مصليًا مسلمًا على رسوله. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - عدد الأوراق: (8). 7 - المسطرة: (28 - 32) سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: (12 - 13) كلمة. 9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني. 10 - تاريخ النسخ: الأربعاء \3 \ ذي القعدة \1228 هـ. 11 - الرسالة من المجلد الرابع من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".

[بسم الله الرحمن الرحيم] أحمدك: لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأصلي وأسلم على رسولك وآله وصحبه، وبعد: فإنه ورد سؤال من الشيخ العلامة علي بن محمد بن عبد الوهاب (¬1) -كثر الله فوائده- وهذا لفظه: عرض لي إشكال في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت بها أنسفها (¬2) ما لم ¬

(¬1) هو أكبر أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب سنًا رحمه الله، فقد كان الشيخ يكني به. ولد علي بن محمد بن عبد الوهاب في مدينة الدرعية. ونشأ بها وأخذ العلم عن والده الشيخ محمد بن عبد الوهاب. قال عنه الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: "الشيخ علي الإمام العلامة الثقة الزاهد الورع. كان شهمًا همامًا، فقيهًا، صدوقًا" وكان يحضر المغازي مع الغازي من أئمة آل سعود. توفي سنة 1245 هـ. "علماء نجد خلال ستة قرون (3/ 735 - 736" عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح البسام. (¬2) قال ابن منظور في "لسان العرب" (14/ 233): النفس: الروح، قال ابن سيده. قال أبو إسحاق: النفس في كلام العرب يجري على ضربين: أحدهما قولك خرجت نفس فلان أي روحه. وفي نفس فلان أن يفعل كذا وكذا أي في روعه، والضرب الآخر معنى النفس فيه معنى جملة الشيء وحقيقته، تقول: قتل فلان نفسه وأهلك نفسه أي أوقع الإهلاك بذاته كلها وحقيقته، والجمع من كل ذلك أنفس ونفوس. وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم (2/ 147 - 148): ضبط العلماء أنفسها بالنصب والرفع وهما ظاهران إلا أن النصب أظهر وأشهر. قال ابن رشد: روي الحديث بالوجهين، فمعنى الرفع: ما وقع من الخطرات دون قصد. ومعنى النصب: ما حدثت به أنفسها أن تفعله ولم تفعله. قال: ويؤيد هذا لفظ التجاوز، لأنه إنما يكون عما اكتسب. وقال الأبي في إكمال إكمال المعلم (1/ 395): أن في النفس ثلاث خطرات: خطرات لا تقصد ولا تندفع ولا تستقر، وهم وعزم. فالخطرات خاف الصحابة أن يكونوا كلفوا بالتحفظ منها، ثم رفع ذلك الخوف، وأما الهم وهو حديث النفس اختيارًا أن تفعل ما يوافقها فغير مؤاخذ به.

تتكلم أو تعمل به" (¬1): ما هو هذا المغفور؟ هل هو شيء يستقر في القلب (¬2)، ويريده الإنسان أم هو خاطر يمر على القلب لا يستقر (¬3)، ولا يريده الإنسان؟ فإن كان الأول: فكيف من نوى الردة مثلًا -والعياذ بالله- ولم يرتكب موجبها من قول أو فعل؟ وكذلك من عزم على فعل ذنب من الذنوب في حينه أم معلقًا على وصول شيء ونحو ذلك؟ وكذلك من دخل في عبادة من صلاة أو صيام أو طهارة (¬4) ثم نوى إبطالها والخروج منها من غير فعل يوجب البطلان؟ فإن قلتم إنه يكفر ويأثم وتبطل عبادته، فما قولكم في من نوى الطلاق أو العتاق ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (2528، 5269) ومسلم رقم (127) وأبو داود رقم (2209) والنسائي رقم (3434) والترمذي رقم (1183) وابن ماجه رقم (2041، 2044) وابن حبان في صحيحه رقم (4319) وأحمد في مسنده (2/ 393، 425، 474، 481) والطيالسي في مسنده (ص 322 رقم 2459). عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله تجاوز لي عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تكلم به". (¬2) قال الرازي في تفسيره (7/ 125): أن الخواطر الحاصلة في القلب على قسمين فمنها ما يوطن الإنسان نفسه عليه ويعزم على إدخاله في الوجود، ومنها ما لا يكون كذلك، بل تكون أمورًا خاطرة بالبال مع أن الإنسان يكرهها، ولكنه لا يمكنه دفعها عن النفس، فالقسم الأول يكون مؤاخذًا به، والثاني لا يكون مؤاخذًا به. ألا ترى إلى قوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم}. وقال في آخر هذه السورة: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}. وقال: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا}. (¬3) قال الرازي في تفسيره (7/ 125): أن الخواطر الحاصلة في القلب على قسمين فمنها ما يوطن الإنسان نفسه عليه ويعزم على إدخاله في الوجود، ومنها ما لا يكون كذلك بل تكون أمورًا خاطرة بالبال مع أن الإنسان يكرهها، ولكنه لا يمكنه دفعها عن النفس، فالقسم الأول يكون مؤاخذًا به، والثاني لا يكون مؤاخذًا به. ألا ترى إلى قوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم}. وقال في آخر هذه السورة: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}. وقال: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا}. (¬4) قال ابن الجوزي: إذا حدث نفسه بالمعصية لم يؤاخذ، فإن عزم وصمم زاد على حديث النفس وهو من عمل القلب. قال: والدليل على التفريق بين الهم والعزم أن من كان في الصلاة فوقع في خاطره أن يقطعها لم تنقطع، فإن صمم على قطعها بطلت. انظر: "فتح الباري" (11/ 327).

بقلبه، لكن لم يتكلم بموجبه -إن فرقتم في الحكم بين هذه المسائل- فما وجه الفرق مع أن ظاهر الحديث لا يقتضي التفرقة؟، وإن كان المراد من الحديث الخاطر الذي يمر على القلب لا يستقر فيه، ولا يريده الإنسان، فما هو الحرج المرفوع المعفو لهذه الأمة دون غيرها؟ وما معنى قول من قال من السلف في قوله: {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} (¬1) الآية. حيث قال: إنها أرجى آية في القرآن (¬2)؟ ¬

(¬1) [البقرة: 260]. ذكر ذلك صاحب "الجامع لأحكام القرآن" (3/ 296): ثم قال: "اختلف الناس في هذا السؤال هل صدر من إبراهيم عن شك أم لا؟ فقال الجمهور: لم يكن إبراهيم عليه السلام شاكًا في إحياء الله الموتى قط، وإنما طلب المعاينة وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به. وقال القرطبي في تفسيره (3/ 300): {قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} أي سألتك ليطمئن قلبي بحصول الفرق بين المعلوم برهانًا والمعلوم عيانًا والطمأنينة: اعتدال وسكون، فطمأنينة الأعضاء معروفة، كما قال عليه السلام: "ثم اركع حتى تطمئن راكعًا" الحديث، وطمأنينة القلب هي أن يسكن فكره في الشيء المعتقد، والفكر في صورة الإحياء غير محظور كما لنا نحن اليوم أن نفكر فيها، إذ هي فكر فيها عبر، فأراد الخليل أن يعاين فيذهب فكره في صورة الإحياء. وقال الرازي في تفسيره (7/ 40): أما قوله تعالى: {قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} فاعلم أن اللام في (ليطمئن) متعلق بمحذوف. والتقدير: سألك ذلك إرادة طمأنينة القلب. قالوا، والمراد منه أن يزول عنه الخواطر التي تعرض للمستدل، وإلا فاليقين حاصل على كلتا الحالتين. (¬2) يشير إلى موقف عمر بن الخطاب من صلح الحديبية، فذهب عمر رضي الله عنه إلى الصديق رضي الله عنه، فقال: يا أبا بكر، أليس برسول الله؟ قال: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟!! فقال أبو بكر: يا عمر، الزم غرره -طريقته- فإني أشهد أنه رسول الله، فقال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله. وكأن الفارق لما يزل في نفسه بعض الحرج في قبول هذا الشرط، فرأى أن يستبين من الرسول وجه الحق وأن يسمع منه، فأتى رسول الله وقال له: ألست برسول الله؟ قال: "بلى"، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: "بلى"، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: "بلى"، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال الرسول: "أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره، ولن يضيعني". "السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة" (2/ 334) للدكتور محمد بن محمد أبو شهبة.

وكذلك ما وقع في نفوس بعض الصحابة -رضي الله عنهم- يوم الحديبية (¬1) كعمر، وغيره. وقد طالعت كلام كثير من أهل العلم من شراح الحديث، وغيرهم في معنى هذا الحديث، فما وجدت في كلامهم ما يدفع الإشكال. فالمسئول منكم -أدام الله النفع بكم- تحرير الجواب، وتبين ما هو الصواب؟ وكذلك ما يقول في رجل معه علة السلس، فإن بكر بالخروج إلى صلاة الجمعة اعتراه الحدث لطول المدة، وإن تأخر إلى حين دخول الإمام أو إلى قريب من الخطبة فاتته الفضيلة، ولكنه إذا تأخر هذا التأخر صلى بطهارة؟ وهل شهود الخطبة واجب أم لا؟. انتهى السؤال. وأقول -مستعينا بالله ومتكلًا عليه، مصليًا مسلمًا على رسوله وآله وصحبه- إن قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم يتكلموا أو يعملوا به» كما في حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح (¬2) يدل على مغفرة كل ما وقع من حديث النفس؛ فإن لفظ "ما" من صيغ العموم (¬3)، كما صرح به أهل اللغة، وأهل المعاني والبيان. فهذا اللفظ في قوله: «إن الله غفر لأمتي كل ما حدثت به أنفسها». وهكذا ما ثبت في لفظ آخر في الصحيح (¬4) وغيره من حديث أبي هريرة: «إن الله تجاوز لأمتي ما ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة. (¬2) تقدم آنفًا. (¬3) انظر: "الكوكب المنير" (3/ 120) و"تيسير التحرير" (1/ 224). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5269).

حدثت به أنفسها» فإنه في قوة: "كل ما حدثت به أنفسها". وهكذا بقية الألفاظ في الصحيح وغيره؛ فإنها دالة على العموم؛ مفيدة لعدم اختصاص التجاوز والمعرفة: [1 أ] ببعض حديث النفس دون بعض. ويؤيد ذلك ما في الحديث الثابت في "الصحيح": أنها لما أنزلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير} (¬1) فإن هذه الآية لما نزلت اشتد على أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، فأتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله! كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة. وقد أنزلت عليك هذه الآية، ولا نطيقها؟ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: {سمعنا وعصينا} بل قولوا: {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}» فقالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما اقترأها القوم، وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله في أثرها: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه، والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}. فلما فعلوا ذلك، نسخها الله تعالى، فأنزل عز وجل: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} -قال نعم- {ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا} -قال: نعم- {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} -قال نعم- {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولنا فانصرنا على القوم الكافرين} (¬2) ¬

(¬1) [البقرة: 284]. (¬2) [البقرة: 286].

قال نعم- هذا لفظ حديث أبي هريرة الثابت في "الصحيح" (¬1) وفي حديث ابن عباس الثابت في الصحيح (¬2) أيضًا بلفظ: "قد فعلت" مكان: "قال: نعم" في هذه المواضع، ولا يخفاك أن الحرج الذي رفعه الله في الآية الأولى ونسخه وغفره لأمته، هو التسوية بين إبداء ما في النفس أو إخفائه، ولفظ الآية يقتضي العموم، لأن قوله: {أو تخفوه} الضمير يرفع إلى قوله: {ما في أنفسكم} ولفظ "ما" من صيغ العموم -كما قدمنا- لأنها الموصولة، ثم رفع الله عنهم هذا التكليف، ولم يحملهم ما لا طاقة لهم به. ولفظ: {ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} يقتضي العموم؛ لأن "ما" في: {ما لا طاقة لنا به} هي الموصولة أو الموصوفة أي: لا تحملنا الشيء الذي لا طاقة لنا به أو شيئًا لا طاقة لنا به، فقال: نعم أو قال: قد فعلت. وهكذا يصح أن تكون "ما" في "ما حدثت به أنفسها" موصوفة، كما يصح أن تكون موصولة، أي: الشيء الذي حدثت به أنفسها أو شيئًا حدثت به أنفسها. وهكذا في: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} كما صح أن تكون "ما" موصولة يصح أن تكون موصوفة؛ أي: إن تبدوا الشيء الذي في أنفسكم أو شيئًا في أنفسكم أو تخفوا الشيء الذي في أنفسكم أو شيئًا في أنفسكم (¬3). فتقرر لك بهذا أن الشيء الذي تجاوز الله لهذه الأمة من حديث النفس هو كل ما ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (125) وأحمد (2/ 412). والبيهقي في "الشعب" رقم (327) وهو حديث صحيح. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (126) والنسائي في تفسيره (1/ 293 رقم 79). والترمذي رقم (2992) وقال: هذا حديث حسن. وهو كما قال. (¬3) انظر: إعراب القرآن الكريم وبيانه (1/ 446 - 448). محيي الدين الدرويش.

يصدق عليه أنه حديث نفس، كائنًا ما كان سواء استقر في النفس وطال الحديث لهابه أو قصر، وسواء بقي زمنًا كثيرًا أو قليلًا، وسواء مر على النفس مرورًا سريعًا أو تراخى فيها، فالكل [1 ب] مما غفره الله لهذه الأمة وشرفها به وخصها برفع الحرج فيه، دون سائر الأمم، فإنها كانت مخاطبة بذلك مأخوذة به، ولا يقال: كيف خوطبت الأمم المتقدمة بمجرد الخواطر التي تمر بأنفسهم من حديث النفس مع كون ذلك من تكليف ما لا يطاق، ولا تقدر على دفعه الطبائع البشرية؟ لأنا نقول: {ويفعل الله ما يشاء} (¬1)، و {يحكم ما يريد} (¬2)، {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} (¬3). فظهر لك بهذا أن كل ما يصدق عليه حديث النفس، فهو مغفور، عفو، متجاوز عنه، كائنًا ما كان على أي صفة كان، فلا يقع به ردة، ولا يكتب به ذنب، ولا تبطل به عبادة، ولا يصح به طلاق، ولا عتاق (¬4) ولا شيء من العقوبة، كائنا من كان، فإن ¬

(¬1) [إبراهيم: 27]. (¬2) [المائدة: 1]. (¬3) [الأنبياء: 23]. (¬4) قال ابن القيم في "زاد المعاد" (5/ 184 - 185): أنا ما لم ينطق به اللسان من طلاق أو عتاق، أو يمين، أو نذر ونحو ذلك، عفو غير لازم بالنية والقصد، وهذا قول الجمهور. وفي المسألة قولان: أحدهما: التوقف فيها، قال عبد الرزاق عن معمر. سئل ابن سيرين عمن طلق في نفسه، فقال: أليس قد علم الله ما في نفسك؟ قال: بلى، قال: فلا أقول فيها شيئًا. الثاني: وقوعه إذا جزم عليه، وهذا رواية أشهب عن مالك، وروي عن الزهري. وحجة هذا القول قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما الأعمال بالنيات"، وأن من كفر في نفسه، فهو كفر، وقوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به} [البقرة: 284]، وأن المصر على المعصية فاسق مؤاخذ وإن لم يفعلها، وبأن أعمال القلوب في الثواب والعقاب كأعمال الجوارح، ولهذا يثاب على الحب والبغض، والموالاة والمعاداة في الله، وعلى التوكل والرضى، والعزم على الطاعة، ويعاقب على الكبر والحسد، والعجب والشك والرياء وظن السوء بالأبرياء. قال ابن القيم: ولا حجة في شيء من هذا على وقوع الطلاق والعتاق بمجرد النية من غير تلفظ، أما حديث: "الأعمال بالنيات" فهو حجة عليهم، لأنه أخبر فيه أن العمل مع النية هو المعتبر، لا النية وحدها، وأما من اعتقد الكفر بقلبه أو شك، فهو كافر بزوال الإيمان الذي هو عقد القلب مع الإقرار، فإذا زال العقد الجازم، كان نفس زواله كفرًا، فإن الإيمان أمر وجودي ثابت قائم بالقلب، فما لم يقم بالقلب حصل ضده وهو الكفر، وهذا كالعلم والجهل إذا فقد العلم، حصل الجهل، وكذلك كل نقيضين زال أحدهما خلفه الآخر. وأما الآية فليس فيها أن المحاسبة بما يخفيه العبد إلزامه بأحكامه بالشرع، وإنما فيها محاسبته بما يبديه أو يخفيه، ثم هو مغفور له أو معذب، فأين هذا من وقوع الطلاق بالنية، وأما أن المصر على المعصية فاسق مؤاخذ، فهذا إنما هو فيمن عمل المعصية، ثم أصر عليها، فهنا عمل اتصل به العزم على معاودته، فهذا هو المصر، وأما من عزم على المعصية ولم يعملها، فهو بين أمرين إما أن لا تكتب عليه، وإما أن تكتب له حسنة إذا تركها لله عز وجل، وإما الثواب والعقاب على أعمال القلوب فحق، والقرآن والسنة مملوآن به. ولكن وقوع الطلاق والعتاق بالنية من غير تلفظ أمر خارج عن الثواب والعقاب، ولا تلازم بين الأمرين، فإن من يعاقب عليه من أعمال القلوب هو معاصي قلبية يستحق العقوبة عليها، كما يستحقه على المعاصي البدنية، إذ هي منافية لعبودية القلب، فإن الكبر والعجب والرياء وظن السوء محرمات على القلب. وهي أمور اختيارية يمكن اجتنابها فيستحق العقوبة على فعلها، وهي أسماء لمعان مسمياتها قائمة بالقلب.

الرجل الذي حدث نفسه ولم يعمل ولا تكلم قد غفر الله له ذلك الحديث الذي حدث به نفسه بالردة إلى غاية هي العمل أو التكلم، فإن حصل منه العمل وذلك بأن يفعل فعلًا يقتضي الردة أو تكلم بما يقتضي الردة صار مرتدًا أو لزمته أحكام المرتدين. وهكذا بقية ما سأل عنه السائل. وما يؤيد هذا ويدل عليه الحديث الثابت ...........................

في "الصحيح" (¬1) من حديث ابن عباس، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يروي عن ربه: «إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة». وفي حديث أبي هريرة الثابت في "الصحيح" (¬2) عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «قال الله عز وجل: "إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة فإن عملها كتبتها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإن هم بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها سيئة واحدة".» وفي لفظ من حديث أبي هريرة الثابت في "الصحيح" (¬3) قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قال الله عز وجل: "إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة، فأنا أكتبها حسنة ما لم يعمل، فإذا عملها، فأنا أكتبها بعشر، فإذا تحدث بأن يعمل سيئة، فأنا أغفرها له ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها له مثلها». وفي لفظ من حديثه الثابت في "الصحيح" (¬4) أيضًا: قال: "قالت ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6491) ومسلم رقم (131) وأحمد (1/ 227، 310، 361) والبيهقي في "الشعب" (1/ 299 رقم 333). وأبو عوانة في صحيحه (1/ 84). وهو حديث صحيح. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7501) ومسلم رقم (128 إلى رقم 130) والترمذي رقم (3073) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأحمد في "المسند" (2/ 234، 315، 11؛ 498) وابن حبان في صحيحه رقم (382). وهو حديث صحيح. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (205/ 129). (¬4) انظر التعليقة السابقة.

الملائكة (¬1) رب! ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة -وهو أبصر به- فقال: ارقبوه: فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جراي (¬2) -أي من أجلي- وألفاظ الأحاديث في هذا الباب كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية، فإن قوله: «لا وإن هم بسيئة فلم يعملها» يدل على أن كل ما هم به الإنسان -أي هم كان- سواء كان حديث نفس أو عزم أو إرادة أو نية لا يؤاخذ به حتى يعمله، كما يدل على ذلك إطلاق السيئة وعدم تقييدها. وكما يفيده جعل العمل مقابلًا للهم، فإنه يدل على أنه إذا لم يعمل بالسيئة، فهو من قسم الهم (¬3). ¬

(¬1) قال الحافظ: في "الفتح" (11/ 325): "فيه دليل على أن الملك يطلع على ما في قلب الآدمي إما باطلاع الله إياه أو يخلق له علمًا يدرك به ذلك، وقيل بل يجد الملك للهم بالسيئة رائحة خبيثة، وبالحسنة رائحة طيبة. وقال ابن تيمية في "الفتاوى" (4/ 253): أن الله قادر أن يعلم الملائكة بما في نفس العبد كيف شاء كما هو قادر على أن يطلع بعض البشر على ما في الإنسان. ثم قال: وقد قيل في قوله تعالى: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} أن المراد به الملائكة: والله قد جعل الملائكة تلقي في نفس العبد الخواطر، كما قال عبد الله بن مسعود: "إن للملك لمة وللشيطان لمة، فلمة الملك تصديق بالحق ووعد بالخير، ولمة الشيطان تكذيب بالحق وإيعاد بالشر". وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الملائكة، وقرينه من الجن، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وأنا، إلا أن الله قد أعانني عليه فلا يأمرني إلا بخير". (¬2) جراي: بتشديد الراء وفتح الياء، وفيه لغة أخر بالمد أي "جرائي" من "أجلي". انظر: "تاج العروس" (1/ 72) القاموس المحيط (ص1749 - 1650). (¬3) قال الحافظ في "الفتح" (11/ 325): قال المازري: ذهب ابن الباقلاني يعني ومن تبعه إلى أن من عزم على المعصية بقلبه ووطن عليها نفسه أنه يأثم، وحمل الأحاديث الواردة في العفو عمن هم بسيئة ولم يعملها على الخاطر الذي يمر بالقلب ولا يستقر. قال المازري: وخالفه كثير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، ونقل ذلك نص الشافعي. ويؤيده قوله في حديث أبي هريرة فيما أخرجه مسلم من طريق همام عنه بلفظ "فأنا أغفرها له ما لم يعملها". فإن الظاهر أن المراد بالعمل هنا عمل الجارحة بالمعصية المهموم به. وتعقبه عياض بأن عامة السلف وأهل العلم على ما قال ابن الباقلاني لاتفاقهم على المؤاخذة بأعمال القلوب. لكنهم قالوا: إن العزم على السيئة يكتب سيئة مجردة لا السيئة التي هم أن يعملها، كمن يأمر بتحصيل معصية، ثم لا يفعلها بعد حصولها، فإنه يأثم بالأمر المذكور لا بالمعصية ... وهنا قسم آخر وهو من فعل المعصية ولم يتب ثم هم أن يعود إليها فإنه يعاقب على الإصرار كما جزم ابن المبارك وغيره في تفسير قوله تعالى: {ولم يصروا على ما فعلوا} ويؤيد أن الإصرار معصية اتفاقًا، فمن عزم على المعصية وصمم عليها كتبت عليه سيئة، فإذا عملها كتبت عليه معصية ثانية. قال النووي: وهذا ظاهر حسن لا مزيد عليه، وقد تظاهرت نصوص الشريعة بالمؤاخذة على عزم القلب المستقر كقوله تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة} وقوله: {اجتنبوا كثيرًا من الظن} وغير ذلك.

وأيضًا: يدل أعظم دلالة ذكر حرف الشرط في قوله: "فإن عملها" فإن هذه الصيغة تفيد أنه لا مؤاخذة بالسيئة (¬1) حتى يعملها، وبهذا يرد على من جعل القصد، والعزم (¬2)، وعقد القلب أمورًا زائدة على مجرد الهم [2أ]. وأما ما روي (¬3) عن بعض أهل العلم من الفرق بين ما استقر من أفعال القلوب، وما لم يستقر، وأنه يؤاخذ بما استقر منها، لا بما لم يستقر، وأن حديث: «إن الله تجاوز ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة. (¬2) اختلف أهل العلم في أحوال القلب مما يرد عليه من الوساوس قبل عمل الجوارح، وأكثرهم على أن ذلك على ثلاث مراحل: أولها: الخاطر والهاجس وحديث النفس الذي لا يستقر وسرعان ما يزول، فهذا لا يؤاخذ عليه العبد، وقد سماه بعضهم همًا كما فعل الباقلاني ومن وافقه. الثانية: هي قصد الفعل مع التردد، وهو الهم، والأكثرون على عدم المؤاخذة بهذا القسم أيضًا. الثالث: هي قوة ذلك القصد والتصميم على الفعل ورفع التردد، وهذا هو العزم والتحقيق أن صاحبه يؤاخذ عليه وهو مذهب الأكثرين. انظر: "تأويل مختلف الحديث" (ص 149)، "فتح الباري" (11/ 323 - 329)، "إكمال إكمال المعلم" (1/ 236). (¬3) انظر: "فتح الباري" (11/ 327).

لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تكلم به أو تعمل» محمول على ما لم يستقر فلا يخفاك (¬1): إنه لا وجه لهذا التأويل المتعسف، والتفرقة بين ما يشمله الحديث ويدل عليه، بإدخال بعضه تحت حكم العفو والتجاوز، وإخراج بعضه عن ذلك الحكم وجعله مما لم يتناوله التجاوز عن حديث النفس، مع كونه منه! وفي هذا التعسف ما لم تلج إليه ضرورة، ولا قام عليه دليل. وقد استدل بعض القائلين بالتفرقة المذكورة بقوله سبحانه: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها} (¬2) وجعل هذه الآية دليلًا على تأويل حديث التجاوز عن حديث النفس، وتخصيصه بما لم يستقر في الحديث! ولا يخفاك أنه لا دلالة في الآية على ما استدل به لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام! وبيان ذلك: أن قوله: {فأقم وجهك للدين} (¬3) إن أريد به معناه الحقيقي، فليس فيه الأمر بمجرد الإقامة للوجه، وذلك عمل جارحة لا عمل قلب، وإن كان المراد بإقامة الوجه: الكناية عن الإتيان بأمور الدين التي شرعها الله لعباده، فهي: أقوال وأفعال، لا حديث نفس! وإن كان محل الاستدلال الذي زعمه هذا المستدل هو قوله في الآية: {فطرت الله التي فطر الناس عليها} (¬4): فليس في ذلك إلا أن كل مولود يولد على الفطرة، وهذه الفطرة (¬5) هي الخلقة التي خلقها الله عليها، والطبع الذي طبعه عليه، وليست من حديث النفس في ورد ولا صدر!. ولهذا إنها توجد مقارنة للولادة والمولود، لا حديث نفس له، ولا اعتقاد، ولا قصد، ولا نية! وكذلك بعد الولادة بأيام طويلة حتى يبلغ حد التمييز. ¬

(¬1) تقدم التعليق على ذلك. (¬2) [الروم: 30]. (¬3) [الروم: 30]. (¬4) [الروم: 30]. (¬5) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (14/ 27).

ومثل هذا قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الثابت في "الصحيح" (¬1) «كل مولود يولد على الفطرة، ولكن أبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه». فإن هذه هي الفطرة التي ذكرها الله في تلك الآية. وإذا تقرر لك أن هذا معنى الآية، علمت أنه لا يصح الاستدلال بها على هذا المدلول الذي لا تدل عليه بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام! وكيف تجعل هذه الدلالة التي هي أخفى من السها (¬2) مرجحة على دلالة الحديث التي هي أوضح من شمس النهار، وموجبة لتأويله وقصره على بعض مدلوله، وإخراج بعضه، مع ما فيه من العموم الشامل المفيد لتلك الغاية التي هي العمل أو التكلم، فإن هذه الغاية بمجردها دلت على أنه حديث النفس هو شيء مغاير للقول والعمل، فكل ما لم يخر من الخواطر القلبية إلى التكلم أو العمل به، فهو حديث نفس من غير فرق بين المستقر منها [2ب] وغير المستقر على ما بيناه. وأوضح من هذا الحديث دلالة على المطلوب حديث (¬3): "من هم بسيئة، فإن عملها كتبت عليه سيئة، وإن لم يعملها لم تكتب عليه". وفي رواية صحيحة (¬4): ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4775) ورقم (1385) ومسلم في صحيحه رقم (2658) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه البخاري رقم (6599) ومسلم في صحيحه رقم (2658) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما من مولود إلا يولد على هذه الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه، كما تنتج الإبل فهل تجدون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها ... ". (¬2) هو كويكب صغير خفي الضوء في بنات نعش الكبرى، والناس يمتحنون به أبصارهم. "لسان العرب" (6/ 416). (¬3) أخرج مسلم في صحيحه رقم (203/ 128) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قال الله عز وجل: إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة .... ". (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه رقم 205/ 129) من حديث أبي هريرة ورقم (207/ 131) من حديث ابن عباس.

"كتبت له حسنة" (¬1) فإن هذا الحديث يدل على أكمل دلالة، وينادي بأعلى صوت أن الهم مغفور بجميع أقسامه. ما لم يعمل به ولا أصرح، وأوضح من قوله: "ما لم يعملها"، فإن عملها كتبت عليه سيئة" (¬2). فإن التقييدين "ما لم يعملها" ثم المجيء بالشرطية، وجعل الكتب لها عليه جزاء لعملها في غاية الوضوح. فهل أوضح من هذا وأنطق من دلالته؟! فكيف يقال: إن هذا محمول على ما لم يستقر (¬3) دون ما استقر من حديث النفس؟ وما الذي يفيد أن هذا الاستقرار قد خرج من الخواطر القلبية والأحاديث النفسية إلى حيز الأفعال الجوارحية؟ وما الموجب لهذا التأويل المتعسف والتخصيص المتعنت؟ وما المقتضي لتخصيص هذا الكلام النبوي، والعبارة المحمدية؟! فإن هذا من التقول على الله بما لم يقل، ومن إثبات الإثم على العباد، ¬

(¬1) قال الحافظ في "الفتح" (11/ 326): يحتمل أن تكون حسنة من ترك بغير استحضار ما قيد به دون حسنة الآخر لما تقدم أن ترك المعصية كف عن الشر، والكف عن الشر خير، ويحتمل أن يكتب لمن هم بالمعصية ثم تركها حسنة مجردة. فإن تركها من مخافة الله سبحانه كتبت حسنة مضاعفة. وقال الخطابي: محل كتابة الحسنة على الترك أن يكون التارك قد قدر على الفعل ثم تركه، لأن الإنسان لا يسمى تاركاً إلا مع القدرة، ويدخل فيه من حال بينه وبين حرصه على الفعل مانع كأن يمشي إلى امرأة ليزني بها مثلاً فيجد الباب مغلقاً ويتعسر فتحه. ووقع في حديث أبي كبشة الأنماري ما قد يعارض ظاهر حديث الباب - من هم ... ". وهو ما أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه بلفظ: "إنما الدنيا لأربعة" فذكر الحديث وفيه: "وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علماً فهو يعمل في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يرى لله فيه حقاً فهذا بأخبث المنازل. ورجل لم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهما في الوزر سواء". فقيل الجمع بين الحديثين بالتنزيل على حالتين، فتحمل الحالة الأولى على من هم بالمعصية هماً مجرداً من غير تصميم، والحالة الثانية على من صمم على ذلك وأصر عليه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم في بداية الرسالة وانظر "الفتح" (11/ 327 - 328).

والمؤاخذة لهم بما صرحت الشريعة المطهرة بأنه عفو. وقال بعض هؤلاء العالمين بالفرق بين ما استقر من حديث النفس وما لم يستقر بأنه يمكن إدخال الحديث المستقر تحت قوله: "ما لم تعمل"! وما أبعد هذا! وأن العمل والتكلم هما قسيم حديث النفس ومقابلاه، كما في حديث: "الهم بالسيئة" وهما أيضًا الغاية التي ينتهي عندها التجاوز! وكل عربي أو فاهم للغة العرب يفهم من هذا التركيب المذكور في الحديث، وهو أنه لو قال قائل: قد تجاوزت عن كل من حدث نفسه بشتمي ما لم يتكلم بالشتم أو يعمل عملًا يدل عليه. فإن كل من يفهم لغة العرب يفهم أن كل ما لم يتكلم به من الشتم ولا عمل عملًا يدل عليه، داخل تحت عموم ذلك التجاوز دخولًا ظاهرًا وواضحًا. فإن قال قائل: إذا حدث نفسه حديثًا كثيرًا بالشتم، ولم يتكلم به ولا عمل عملًا يدل عليه فقد صار ذلك من جملة العمل الذي يدل على الشتم! فإن بطلان هذا ما يفهمه الصبيان. وهكذا لو قال قائل: من هم بشتمي ولم يشتمني لم أؤاخذه، فإن شتمني وأخذته فإن كل من يفهم لغة العرب يعلم أن المؤاخذة ليست إلا على الشتم الصراح الذي تسمعه الآذان أو تراه الأعين، وأن كل ما لم يبرز إلى الخارج منه عفو مغفور، غير مؤاخذ به. فإن قال قائل: إنه إذا استقر ذلك الهم في نفسه كان بمنزلة الشتم الصراح باللسان! كان بطلان هذا الكلام مما يفهمه الصبيان. ومما يزيدك بصيرة، ويطلعك على بطلان هذا الاستدلال، أن جعل حديث النفس أو الهم من العمل سيلزم منه الدور أو التسلسل في مثل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما الأعمال بالنيات» (¬1) فإن النية: هي القصد، وعقد القلب. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1) ومسلم رقم (1907). وأبو داود رقم (2201) والترمذي رقم (1647) وأحمد (1/ 302 رقم 300 - شاكر) وله ألفاظ. وهو حديث صحيح. وسيأتي تخريج الحديث بطرقه في رسالة خاصة ضمن هذا المجلد رقم (54).

وقد جعلت في الحديث من محصلات الأعمال، فلو جعلت من جملة الأعمال، لكانت محصلة لنفسها، ومحصلة، وهذا ظاهر لا يلتبس على من له فهم. فعرفت بهذا بطلان ما قاله المخصصون للمستقر من حديث النفس بالمؤاخذة، وأنه ليس في أيديهم أثارة من علم، بل مجرد رأى بحت لا وجه له، ولا دليل عليه، ولا ملجئ إليه، ولا مسوغ له. ثم يقال لهذا القائل: ماذا تريد بكون الخواطر المستقرة من حديث النفس مخالفة لغير ما هو مستقر منها، وزائدة عليها؟ [3أ] فإنه إن قال: إن كونها زائدة على الهم يقتضي المؤاخذة بها!. فكلامه باطل؛ فإن الصادق المصدوق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد حكى لنا عن ربه: أنه لا يؤاخذ إلا إذا عملها. ولا شك ولا ريب أن القصد (¬1)، والعزم، وعقد القلب، والنية -لو فرضنا- أنها أمور زائدة على مجرد الهم لم تكن بها مؤاخذة، لأنها ليست بعمل. والمؤاخذة إنما هي العمل، ولا يخالف في ذلك مخالف من أهل اللسان، ولا من أهل الشرع. وإن قال: إن كونها زائدة لا يقتضي المؤاخذة بها، ولكنها تتميز عن الهم بكونها زائدة عليه! فيقال له: لا فائدة في هذا أصلًا، فإنها إذا كانت مغفورة لا يؤاخذ الله العبد بها، فذلك هو المطلوب، والتفرقة ضائعة باعتبار ما نحن بصدده، وقد دلت الأحاديث أن المؤاخذة (¬2) ليست إلا بالعمل كما دلت الأحاديث المصرحة بأن الله غفر لهذه الأمة ما حدثت به أنفسها، وبأن المؤاخذة ليست إلا بالعمل أو التكلم. ¬

(¬1) تقدم ذكر ذلك. (¬2) انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (1/ 425).

ومن أعظم الأدلة وأوضحها ما في حديث ابن عباس هنا: «وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له حسنة» (¬1) وفي اللفظ الآخر: من حديث أبي هريرة: «وإن تركها فاكتبوها له حسنة» (¬2). فإن هذا يدل على أن الله يكتب لمن هم بالسيئة، ولم يعملها، حسنة. ومعلوم أن القاصد، والعازم، والناوي، والمريد للسيئة لم يعملوها، فهم في عداد من يكتب له بتلك السيئة التي قصدها، أو عزم عليها، أو نواها، أو أرادها حسنة، لأنه لم يعملها، ولأنه تركها بلا شك ولا شبهة. فاندفع ما جاء به الفارقون بين الهم، وبين تلك الأمور، ولم يشتمل كلامهم على فائدة يعتد بها فيما نحن بصدده. واعلم أنه قد زعم قوم من علماء الكلام أن العزم (¬3) إن شارك الفعل للمعزوم عليه، كان مؤاخذًا به ومعاقبا عليه! قالوا: فمن عزم على أن يستخف بنبي من الأنبياء، أو بكتاب من الكتب المنزلة، كفر بمجرد هذا العزم، وإن لم يفعل فعلًا، ولا قال قولًا! هذا معنى كلامهم، وهو كلام ساقط، وتفرقة باطلة، ليس عليها أثارة من علم نقل ولا عقل! وبيان ذلك أن الغاية التي أثبتت الأدلة المؤاخذة بها هي العمل أو التكلم. وهذا العازم لم يعمل، ولا تكلم. فالقول بالمؤاخذة له: قول بلا دليل، بل قول مخالف للدليل مخالفةً واضحةً ظاهرةً. والذي حملهم على هذا خيال مختل وشبهة داحضة، وهو أنهم ظنوا أن هذا العازم على ما ذكروه، وقد ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (207/ 131) وقد تقدم. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (205/ 129) وقد تقدم. (¬3) انظر: "الفتح" (11/ 328).

عزم على ما لا يجوز (¬1)، وأن ذلك موجب للمؤاخذة! وهذا غلط ظاهر، فإنه لا شك أنه قد عزم على ما لا يجوز، لكن الذي لا يجوز هو ما عزم عليه، والنزغة الشيطانية، فإن الشرع قد جاءنا بأنها عفو مغفورة، ما لم يعمل أو يتكلم. وهذا لم يعمل، ولا تكلم. وليس عزمه بعمل، ولا كلام باتفاق أهل اللغة والشرع، وهذا هو المعنى الذي فهمه السلف الصالح من هذه الأحاديث. ورحم الله الأمام الشافعي، فإنه قال في "الأم" (¬2) كل ما لم يحرك به لسانه فهو حديث النفس الموضوع عن بني آدم. انتهى. ولم يصب من تأوله، كما لم يصب من تأول الأحاديث [3ب]. فقد تبين بجميع ما ذكرناه جواب ما سأل عنه السائل -كثر الله فوائده- وأن الحرج المغفور لهذه الأمة هو ما كان من تكليف غيرهم من العقوبة على حديث النفس وما تخفيه الضمائر، وما تهتم به القلوب من غير فرق بين ما استقر وطال أمد لبثه وتردد في النفس، وتكرر حديثهما به، وبين ما مر بها وعرض عرضًا يسيرًا، فإنه مغفور لنا، ومعاقب به من قبلنا كما قدمنا ذكره. ولا يشكل هذا التقرير الذي قررناه، بما ورد في مواضع مخصوصة مما يدل على المؤاخذة بشيء من الأفعال القلبية من دون عمل ولا تكلم، فإن ذلك يقصر على موضعه، ويخص بسببه، ويكون ما ورد منها مخصصًا لهذه العمومات التي ذكرناها، ¬

(¬1) قال الحافظ في "الفتح" (11/ 552): وظاهر الحديث أن المراد بالعمل عمل الجوارح لأن المفهوم من لفظ (ما لم يعمل) يشعر بأن كل شيء في الصدر لا يؤاخذ به سواء توطن به أم لم يتوطن، ... ثم قال: وفي الحديث إشارة إلى عظيم قدر الأمة المحمدية لأجل نبيها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (تجاوز لي) وفيه إشعار باختصاصها بذلك، بل صرح بعضهم بأنه كان حكم الناسي كالعامد في الإثم، وأن ذلك من الإصر الذي كان على من قبلنا، ويؤيده ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة لما نزلت: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} اشتد ذلك على الصحابة فذكر الحديث في شكواهم - تقدم في بداية الرسالة. (¬2) عزاه إليه الحافظ في "الفتح" (11/ 328).

وذلك كقوله سبحانه: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم} (¬1) الآية. فإنها تدل على المؤاخذة بمجرد الإرادة في الحرم أو في البيت الحرام لشيء من المعاني التي تصدق عليها أنها ظلم للنفس أو ظلم للغير إذا كانت تلك الإرادة متعلقة بما هو إلحادٌ من ذلك. فهذه الآية لو حملناها على ظاهرها (¬2)، ولم نتأولها بوجه من وجوه التأويل، لورودها مخالفة للأدلة القطعية الدالة على عدم المؤاخذة بما تخفيه القلوب، وتضمره السرائر حتى يعمل أو يتكلم به. لكان الواجب على قصرها على المورد الذي وردت فيه، وتخصيصها بالمكان الذي خصها به الدليل، فيقال: إن المؤاخذة. بمجرد الإرادة لما هو إلحاد بظلم خاص بالحرم أو البيت الحرام، فتقصر على محلها، وموردها، ومكانها، وليس فيها ما يقتضي كل الأحوال، أو الأزمنة، أو الأمكنة. فإن قلت: فهل نجعل من هذا القبيل الوارد مخالفًا لتلك الأدلة العامة ما ثبت في "الصحيح" من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قيل: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصًا على قتل ............................. ¬

(¬1) [الحج: 25]. وتمام الآية: {نذقه من عذاب أليم}. (¬2) قال الحافظ في "الفتح" (11/ 328): " ... ويؤيد ذلك أن الحرم يجب اعتقاد تعظيمه، فمن هم بالمعصية فيه خالف الواجب بانتهاك حرمته، وتعقب هذا البحث بأن تعظيم الله آكد من تعظيم الحرم ومع ذلك فمن هم بمعصية لا يؤاخذه، فكيف يؤاخذ بما دونه؟ ويمكن أن يجاب عن هذا بأن انتهاك حرمة الحرم بالمعصية تستلزم انتهاك حرمة الله لأن تعظيم الحرم من تعظيم الله فصارت المعصية في الحرم أشد من المعصية في غيره، وإن اشترك الجميع في ترك تعظيم الله تعالى، نعم من هم بالمعصية قاصدًا الاستخفاف بالحرم عصى، ومن هم بمعصية الله قاصدًا الاستخفاف بالله كفر، وإنما المعفو عنه من هم بالمعصية ذاهلاً عن قصد الاستخفاف. وانظر "زاد المعاد" (5/ 184 - 185).

صاحبه» (¬1)؟. قلت: لا أجعله من هذا القبيل؛ لأن هذا المقتول لم يكن منه مجرد الحرص فقط، بل قد فعل في الخارج فعلًا هو عمل ظاهر، وهو أخذه لسيفه وملاقاته لصاحبه قاصدًا لقتله عازما على سفك دمه، فهو داخل تحت قوله: "ما لم يعمل أو يتكلم" وهذا قد عمل، وداخل تحت قوله: «ومن هم بالسيئة لم تكتب عليه حتى يعملها». وهذا قد أردف القصد بالعمل. وعلى تسليم أن هذا العمل الذي عمله، وهو حمله للسيف وملاقاته لصاحبه ليقتله لا يكون عملًا؛ لأنه لم يعمل العمل المقصود، وهو القتل ولا سيما بعد قوله فيه: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه» فإنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ جعل السبب الموجب للنار هو مجرد الحرص فقط، فيكون هذا الحديث مما خصصت به تلك العمومات، ولا معارضة بين عام وخاص، بل الواجب بناء العام على الخاص بالاتفاق (¬2). والوجه ظاهر في تخصيص الحرص على قتل المسلم بالمؤاخذة به، وإخراجه من تلك ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (31 و6875 و7083) ومسلم رقم (2888) وأبو داود رقم (4368) والنسائي (7/ 124 رقم 4118) من حديث أبي بكرة. (¬2) قال الحافظ في "الفتح" (11/ 327): ... وتعقبه عياض بأن عامة السلف وأهل العلم على ما قال ابن الباقلاني لاتفاقهم على المؤاخذة بأعمال القلوب لكنهم قالوا: إن العزم على السيئة يكتب سيئة مجردة لا السيئة التي هم أن يعملها كما يأمر بتحصيل معصية ثم لا يفعلها بعد حصولها فإنه يأثم بالأمر المذكور، لا بالمعصية ومما يدل على ذلك حديث "إذا التقى المسلمان " قال: والذي يظهر أنه من هذا الجنس وهو أنه يعاقب على عزمه بمقدار ما يستحقه ولا يعاقب عقاب من باشر القتل حسًا. وقال الحافظ في "الفتح" (13/ 34): واستدل بقوله "إنه كان حريصًا على قتل صاحبه" من ذهب إلى المؤاخذة بالعزم وإن لم يقع الفعل وأجاب من لم يقل بذلك أن في هذا فعلاً وهو المواجهة بالسلاح ووقوع القتال، ولا يلزم من كون القاتل والمقتول في النار أن يكون في مرتبة واحدة، فالقاتل يعذب على القتال والقتل، والمقتول يعذب على القتال فقط، فلم يقع التعذيب على العزم المجرد.

العمومات لما في إراقة دم المسلم من عظم الذنب الذي لا يماثله فيه غيره من الذنوب التي يرتكبها المسلمون بعد الإسلام مما ليس بشرك. ولأجل هذا اختلف السلف في قبول توبة القاتل [4أ] اختلافًا طويلًا (¬1) على ما هو ¬

(¬1) قال ابن كثير في تفسيره (1/ 536) قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا} [النساء: 93]، وقد كان ابن عباس يرى أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمدًا، وقال الإمام البخاري: حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا المغيرة بن النعمان قال: سمعت ابن جبير قال: اختلف فيها أهل الكوفة فرحلت إلى ابن عباس فسألته عنها، فقال: نزلت هذه الآية: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم} هي آخر ما نزل وما نسخها شيء. رواه البخاري رقم (4590) ومسلم رقم (18/ 160) كلاهما من طريق سعيد بن جبير. وقال ابن جرير في تفسيره (5/ 219) عن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس عن قوله: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم} قال: إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام، ثم قتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم ولا توبة له، فذكرت ذلك لمجاهد فقال: إلا من ندم. والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله -عز وجل- فإن تاب وأناب وخشع وخضع وعمل عملاً صالحًا يبدل الله سيئاته حسنات، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن ظلامته، قال تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلهًا} إلى قوله تعالى {إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحًا} [الفرقان: 70]. وقال تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} [الزمر:53]. وهذا عام في جميع الذنوب من كفر وشرك وشك ونفاق وقتل وفسق وغير ذلك كل من تاب تاب الله عليه. قال الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك، وثبت في الصحيحين -أخرجه البخاري رقم (3470) ومسلم في صحيحة رقم (2786) عن أبي سعيد الخدري -خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس ثم سأل عالمًا: هل له من توبة؟ فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة، ثم أرشده إلى بلد يعبد الله فيها فهاجر إليها فمات في الطريق فقبضته ملائكة الرحمة.

معروف في كتب التفسير، وفي كتب شروح الحديث. وكما أن تخصيص المؤاخذة بالحرص على القتل وإخراجه من تلك العمومات لما ذكرنا؛ فكذلك أيضًا تخصيص المؤاخذة (¬1) بالإرادة بإلحاد بظلم في البيت الحرام أو في الحرم له وجه ظاهر واضح، وهو كون ذلك المريد في ذلك المكان المقدس المطهر الذي هو محل للطاعات، لا للمعاصي. ولهذا ورد في الترغيب في الطاعات فيه، ومضاعفة ثوابها (¬2) ما ورد. وورد أيضًا- في الترهيب عن المعاصي (¬3) فيه، وكثرة إثمها ما ورد، مما هو معروف. فإن قلت: هل يكون من هذا القبيل المخصص لتلك العمومات ما ورد في شأن أهل القرية التي أصبحت كالصريم، فإن الله عاقبهم بمجرد قولهم: {أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين} (¬4). قلت: ليس من هذا القبيل؛ فإنهم قد تكلموا بما عزموا عليه، كما حكى الله عنهم في قوله: {فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين} (¬5). ¬

(¬1) انظر "فتح الباري" (11/ 328). (¬2) انظر تفسير ابن كثير (2/ 332 - 335). (¬3) انظر تفسير ابن كثير (5/ 408). (¬4) [القلم: 24] (¬5) [القلم: 23 - 24]. قال القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (18/ 241): في هذه الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان، لأنهم عزموا على أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم}. وقال الطبري في "جامع البيان" (14\ ج 29/ 34): صح أن الذي هو أولى بتأويل الآية قول من قال: معنى قوله {وغدوا على حرد قادرين} وغدوا على أمر قد قصدوه واعتمدوه واستسروه بينهم، قادرين عليه في أنفسهم.

وقد سبق تقييد تلك المعلومات بعدم العمل أو التكلم كما أسلفنا، وهؤلاء قد تكلموا بما عزموا فعوقبوا لأجل تكلمهم لا لأجل عزمهم. قال السائل -كثر الله فوائده- وما معنى قول من قال من السلف في قول الله تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} (¬1) الآية. حيث قال إنها أرجى آية (¬2) في القرآن؟. وكذلك ما وقع في نفوس بعض الصحابة -رضي الله عنهم- يوم الحديبية (¬3) كعمر وغيره؟. وقد طالعت كلام كثير من أهل العلم من شراح الحديث، وغيرهم في معنى الحديث، فما وجدت في كلامهم ما يدفع الإشكال؟. أقول: وجه قول بعض السلف: إنها أرجى آيةٍ؛ أن الله سبحانه لم يؤاخذ نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام بطلب الطمأنينة؛ فإذا طلبها الواحد منا أو اختلج في خاطره شيء من الوسوسة الشيطانية؛ لم يكن مؤاخذا بذلك بالأولى. ولهذا قال نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما ثبت عنه في "الصحيح" (¬4) «نحن أحق بالشك ......................... ¬

(¬1) [البقرة: 260]. (¬2) تقدم ذكر ذلك. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3372) ورقم (4537 و4694) ومسلم في صحيحه رقم (151، 2370) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: {رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي".

من (¬1) إبراهيم ". فإذا كان نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أحق بطلب الطمأنينة من إبراهيم الخليل، فنحن أيضًا -أيتها الأمة- أحق بذلك منه. وليس في هذا -والعياذ بالله- ما يقدح في دين طالب الطمأنينة أو يثلم في إيمانه؛ لأنه طلب شيئا طلبه أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام. فأين نحن منهم؟ وملائكة الله -سبحانه- تتنزل عليهم في الوقت بعد الوقت، والحين بعد الحين، ويرون من براهين الله سبحانه ما لا يمكننا الوقوف عليه، ولا الوصول إلى بعضه. وقد ورد في الأحاديث الكثيرة الصحيحة في الوسوسة، ما هو معروف، فلنذكر بعضه هاهنا: فأخرج أحمد (¬2) ومسلم (¬3) من حديث أنس مرفوعا:» إن أحدكم يأتيه الشيطان فيقول: من خلقك؟ فيقول: الله. فيقول: من خلق الله؟ فإذا وجد أحدكم ذلك فليقل: آمنت بالله ورسوله [4 ب]؛ فإن ذلك يذهب عنه «. ¬

(¬1) قال الحافظ في "الفتح" (6/ 412): ثم اختلفوا في معنى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نحن أحق بالشك" فقال بعضهم: معناه نحن أشد اشتياقا إلى رؤية ذلك من إبراهيم، وقيل معناه إذا لم نشك نحن فإبراهيم أولى أن لا يشك، أي لو كان الشك متطرقا إلى الأنبياء لكنت أنا أحق به منهم. وقد علمتم أني لم أشك فاعلموا أنه لم يشك، وإنما قال ذلك تواضعا منه، أو من قبل أن يعلمه الله بأنه أفضل من إبراهيم، وهو كقوله في حديث أنس عند مسلم: "أن رجلا قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا خير البرية قال ذاك إبراهيم، وقيل أن سبب هذا الحديث أن الآية لما نزلت قال بعض الناس: شك إبراهيم ولم يشك نبينا فبلغه ذلك فقال: نحن أحق بالشك من إبراهيم. وقال ابن الجوزي: إنما صار أحق من إبراهيم لما عانى من تكذيب قومه وردهم عليه وتعجبهم من أمر البعث فقال: أنا أحق أن أسأل إبراهيم، لعظيم ما جرى لي مع قومي المنكرين لإحياء الموتى ولمعرفتي بتفضيل الله لي، ولكن لا أسأل في ذلك. (¬2) في "المسند" (3/ 102). (¬3) في صحيحه رقم (136).

وأخرج نحوه أحمد (¬1)، من حديث عائشة. وأخرج البخاري (¬2) من حديث أنس مرفوعا:» لن يبرح الناس يتساءلون: هذا الله خالق كل شيء؛ فمن خلق الله؟ «. وأخرج نحوه البخاري (¬3)، ومسلم (¬4)، من حديث أبي هريرة مرفوعا، وزاد،» فإذا بلغه فليستعذ بالله، ولينتبه «. وأخرج نحوه الطبراني في "الكبير" (¬5) من حديث ابن عمر مرفوعا. وأخرج نحوه ابن أبي الدنيا في "مكائد الشيطان" (¬6) عن عائشة مرفوعًا. وأخرج أيضًا نحوه: مسلم (¬7)، وأبو داود (¬8) من حديث أبي هريرة مرفوعا. وأخرج البخاري (¬9)، ومسلم (¬10)، وغيرهما من حديث عائشة:» أن النبي - صلى ¬

(¬1) في "المسند" (6/ 257) وأورده الهيثمي في "المجمع" (1/ 33) وقال: "رواه أحمد وأبو يعلى- في مسنده (8/ 160 - 161 رقم 4704) والبزار- (1/ 34 رقم 50 - كشف) - ورجاله ثقات. (¬2) في صحيحه رقم (7396). (¬3) في صحيحه رقم (3276). (¬4) في صحيحه رقم (134، 135). (¬5) ذكره الهيثمي في "المجمع" (1/ 34) وقال: رواه الطبراني في الأوسط - رقم 1917 - والكبير ورجاله رجال الصحيح خلا أحمد بن محمد بن نافع الطحان شيخ الطبراني والله أعلم. وأحمد بن محمد بن نافع هذا ترجم له الذهبي في "تاريخه" حوادث (291 هـ- 300 هـ) (ص72) وسكت عنه. (¬6) (ص 49 رقم 28) بسند صحيح. (¬7) في صحيحه رقم (134، 135). (¬8) في "السنن" رقم (4721). قلت: وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (3276). (¬9) في "الأدب المفرد" رقم (1285) فيه "ليث" و"شهر" ضعيفان. (¬10) لم يخرجه مسلم في صحيحه. قلت: وأخرجه أحمد (6/ 106) وأبو يعلى في مسنده (8/ 109 رقم 4649). وأورده الهيثمي في "المجمع" (1/ 33) وقال: "رواه أحمد، وأبو يعلى بنحوه ... وفي إسناده شهر ابن حوشب. قلت: وليث وهما ضعيفان. وخلاصة القول أن الحديث ضعيف والله أعلم.

الله عليه وآله وسلم - سئل عن الوسوسة؟ فكبر ثلاثًا، وقال: ذاك صريح الإيمان ". وأخرج مسلم (¬1)، وغيره (¬2) من حديث أبي هريرة قال: "جاء أناس من أصحاب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إلى رسول الله، فقالوا: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟ قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذاك صريح الإيمان". وأخرج مسلم (¬3) وغيره (¬4) عن عبد الله بن مسعود قال: "سئل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عن الوسوسة؟ فقال: تلك محض الإيمان". وأخرج أحمد (¬5) من حديث عائشة: "أن الناس سألوا رسول الله، عن الوسوسة التي يجدها أحدهم، لأن يسقط من عند الثريا أحب إليه من أن يتكلم به؟ قال؟ ذاك محض الإيمان". وأخرج نحوه: الجماعة (¬6) من حديث ابن مسعود، وفيه: "ذاك صريح الإيمان". وأخرج نحوه مسلم (¬7)، وأبو داود (¬8) من حديث أبي هريرة، والطبراني في "الأوسط" (¬9) من حديث ابن عباس. ¬

(¬1) في صحيحه رقم (132). (¬2) كأبي داود رقم (5111) وابن حبان رقم (145، 148). وهو حديث صحيح. (¬3) في صحيحه رقم (133). (¬4) كابن حبان في صحيحه رقم (149). وهو حديث صحيح. (¬5) في "المسند" (6/ 106) بإسناد ضعيف. (¬6) تقدم. (¬7) في صحيحه رقم (132). (¬8) في "السنن" (5111) وقد تقدم. (¬9) لم أجده في "الأوسط" من حديث ابن عباس. وهو في "الصغير" (2/ 237 - الروض الداني) من حديث ابن عباس بسند ضعيف. وذكره الهيثمي في "المجمع" (1/ 34) وقال: رواه الطبراني في "الصغير" ورجاله رجال الصحيح خلا شيخ الطبراني منتصر بن محمد أبو منصور البغدادي. ترجم له الخطيب في "تاريخه" (13/ 269) ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلاً. للعلماء أقول في تفسير قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين سئل عن الوسوسة: "ذلك محض الإيمان" منها: ما ذكره المازري في "المعلم بفوائد مسلم" (1/ 210 - 211): أما قوله: "ذلك محض الإيمان" فلا يصح أن يراد به أن الوسوسة هي الإيمان؛ لأن الإيمان هو اليقين، وإنما الإشارة إلى ما وجدوا من الخوف من الله تعالى أن يعاقبوا على ما وقع في أنفسهم فكأنه يقول: جزعكم من هذا هو محض الإيمان، إذ الخوف من الله تعالى ينافي الشك فيه، فإذا تقرر هذا تبين أن هذا التبويب المذكور- في بعض نسخ مسلم "باب الوسوسة محض الإيمان"- غلط على مقتضى ظاهره. وأما أمره عليه السلام لهم عند وجود ذلك أن يقول: "آمنت بالله" فإن ظاهره أنه أمرهم أن يدفعوا الخواطر بالإعراض عنها والرد لها من غير استدلال ولا نظر في إبطالها، والذي يقال في هذا المعنى: إن الخواطر على قسمين: فأما التي ليست بمستقرة ولا اجتلبتها شبهة طرأت فهي التي تدفع بالإعراض عنها، وعلى هذا يحمل الحديث، وعلى مثلها ينطلق اسم الوسوسة، فكأنه لما كان أمرا طارئا على غير أصل دفع بغير نظر في دليل إذ لا أصل له ينظر فيه. وأما الخواطر المستقرة التي أوجبتها الشبهة فإنها لا تدفع إلا بالاستدلال، ونظر في إبطالها، ومن هذا المعنى حديث "لا عددي"- سيأتي قريبًا-. وقيل سبب الوسوسة علامة الإيمان لأن الشيطان إنما يوسوس لمن أيس من إغرائه من أهل الإيمان القوي. وقيل: الوقوف عن الاسترسال مع وساوس الشيطان ودفعها وإثبات خالق لا خالق له هو محض الإيمان.

وأخرج -أيضًا- الطبراني في "الأوسط" (¬1) من حديث أم سلمة مرفوعا- بلفظ: ¬

(¬1) في "الأوسط" (3/ 371 رقم 3430). وفي "الصغير" (1/ 129) وذكره الهيثمي في (المجمع) (1/ 34). وقال: رواه الطبراني في "الأوسط" و"الصغير" وفي إسناده سيف بن عميرة. قال الأزدي يتكلمون فيه". اهـ. قلت: وسيف هذا صدوق له أوهام كما في "التقريب".

» لا يلقى ذلك الكلام إلا مؤمن «. وأخرج من حديثها (¬1) - أيضا-: "أن رجلا قال: يا رسول الله! إني أحدث نفسي بالشيء، لو تكلمت به لحبطت أجري؟ فقال: الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة". وأخرج أحمد (¬2)، وأبو داود الطيالسي (¬3) والطبراني في الكبير (¬4)، والبيهقي في "الشعب" (¬5) من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لما سئل عن الوسوسة-: "الحمد لله، إن الشيطان قد أيس أن يعبد بأرضي هذه ولكن قد رضي منكم بالمحقرات من أعمالكم". وأخرج الطبراني في "الكبير" (¬6) من حديث معاذ قال: "قلت يا رسول الله! إنه ليعرض في نفسي الشيء، لأن أكون حممة أحب إلي من أن أتكلم به ... " فذكر نحو ما تقدم. وأخرج ....................................................................... ¬

(¬1) لم يخرجه الطبراني في الكبير ولا في الأوسط ولا في الصغير انظر "مجمع الزوائد" (1/ 32 - 35) و"مجمع البحرين" (1/ 110 - 113) من حديث أم سلمة. بل أخرجه أبو داود في سننه رقم (5112) وابن أبي عاصم في "السنة" رقم (658) وأحمد (1/ 235) من حديث ابن عباس. (¬2) في "المسند" (1/ 340) (¬3) في مسنده (ص 352 رقم 2704). (¬4) رقم (10838). (¬5) رقم (340). قلت وأخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم (669) وابن منده في "الإيمان" رقم (345). (¬6) في "الكبير" رقم (367). بسند رجاله ثقات إلا أنه منقطع. وأورده الهيثمي في "المجمع" (1/ 34) وقال: رواه الطبراني في الكبير وهو من رواية ذر بن عبد الله عن معاذ ولم يدركه.

الديلمي (¬1) عن معاذ مرفوعا:» إن إبليس له خرطوم كخرطوم الكلب واضعه على قلب ابن آدم، يذكره الشهوات واللذات، ويأتيه بالأماني، ويأتيه بالوسوسة على قلبه ليشككه في ربه، فإذا قال العبد: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وأعوذ بالله أن يحضرون، إن الله هو السميع العليم، خنس الخرطوم عن القلب «. والأحاديث في هذا الباب كثيرة، بالغة حد التواتر. وقد دلت على أمور: منها أن للشيطان قدرة على تشكيك الإنسان حتى يشككه في خالقه، ويخطر بباله -بوسوسته- أن يقول في نفسه: من خلق الله؟ فانظر إلى أي مرتبة بلغ اللعين في الوسوسة؟ خيل إلى الإنسان أن خالقه مخلوق؟ وتشعب في ذهنه من وسوسته أن خالق هذا الرب الذي خلق الخلق [5 أ] من ذا هو؟ وناهيك بهذا المبلغ الذي بلغه اللعين، والمكان الذي وصل إليه. ثم أرشد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- هذا الذي وسوس له الشيطان، وأدخله في هذا الشك العظيم، والممارة- الكبيرة أن يقول: آمنت بالله (¬2) ورسوله، وأن يستعيذ (¬3) بالله ¬

(¬1) لم أجده في "الفردوس بمأثور الخطاب". وقد أخرج أبو يعلى في "المسند" رقم (1546/ 4301) عن أنس مرفوعًا بلفظ "إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإن ذكر الله خنس، وإن نسي التقم قلبه فذلك الوسواس الخناس". وأورده الهيثمي في "المجمع" (7/ 149) وقال: رواه أبو يعلى وفيه عدي ابن أبي عمارة وهو ضعيف. قلت: وزياد النميري: ضعيف. والخلاصة أن الحديث ضعيف. (¬2) قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "قل آمنت بالله" أمر بتذكر الإيمان الشرعي واشتغال القلب به لتمحى تلك الشبهات، وتضمحل تلك الترهات لها، وهذه كلها أدوية للقلوب السليمة الصحيحة المستقيمة التي تعرض الترهات لها، ولا تمكث فيها، فإذا استعملت هذه الأدوية على نحو ما أمر به بقيت القلوب على صحتها وانخفضت سلامتها، فأما القلوب التي تمكنت أمراض الشبه فيها، ولم تقدر على دفع ما حل بها بتلك الأدوية المذكورة فلا بد من مشافهتها بالدليل الفعلي والبرهان القطعي. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (1/ 345 - 346). (¬3) قوله: "فليستعذ بالله ولينته" لما كانت هذه الوساوس من إلقاء الشيطان ولا قوة لأحد بدفعه إلا بمعونة الله وكفايته أمر بالالتجاء إليه والتعويل في دفع ضرره عليه، وذلك معنى الاستعاذة على ما يأتي. ثم عقب ذلك بالأمر بالانتهاء عن تلك الوساوس والخواطر. أي عن الالتفات إليها والإصغاء نحوها، بل يعرض عنها، ولا يبالي بها، وليس ذلك نهيا عن إيقاع ما وقع منها ولا عن ألا يقع منه لأن ذلك ليس داخلاً تحت الاختيار ولا الكسب، فلا يكلف بها. "المفهم" للقرطبي (1/ 345) "فتح الباري" (6/ 341).

من الشيطان، ويكف نفسه عن الانقياد لوسوسته. ومن الأمور التي دلت عليها هذه الأحاديث أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- سمى هذه الوسوسة: "صريح (¬1) الإيمان" وفي لفظ أنها: "محض (¬2) الإيمان". وإنما سماها "محض الإيمان" و"صريح الإيمان" لأن الشيطان لم يقدر من المؤمن إلا على ذلك، وهو شيء مغفور، متجاوز عنه، ولم يطمع فيه بأن يقبل ما يوسوس به إليه، أو يتأثر له، أو يقدح به في دينه. كلا، ومن لم يكن ثابت الإيمان؛ فإن الشيطان اللعين ينقله من رتبة إلى رتبة، ومن درجة إلى درجة، حتى يزيغ عن الدين، ويدخل في سبيل الملحدين، ويؤيد هذا قوله في الحديث السالف لا يلقي ذلك الكلام إلا مؤمن، فكان عدم التأثر لها: "محض الإيمان" و"صريح الإيمان". ويمكن أن يقال: إنما كان ذلك: "محض الإيمان" و"صريح الإيمان" لوقوع المدافعة من المؤمن عن أن يتكلم بشيء مما وسوس به إليه الشيطان، وسوله له، ¬

(¬1) الصريح والمحض: الخالص الصافي، وأصله في اللبن، ومعنى هذا الحديث: أن هذه الإلقاءات والوساوس التي تلقيها الشياطين في صدور المؤمنين تنفر منها قلوبهم، ويعظم عليهم وقوعها عندهم، وذلك دليل صحة إيمانهم ويقينهم ومعرفتهم بأنها باطلة ومن إلقاءات الشيطان، ولولا ذلك لركنوا إليها، ولقبلوها ولم تعظم عندهم، ولا سموها وسوسة، ولما كان ذلك التعاظم وتلك النفرة عن ذلك الإيمان. عبر عن ذلك بأنه خالص الإيمان، ومحض الإيمان وذلك من باب تسمية الشيء باسم الشيء إذا كان مجاورا له، أو كان منه بسبب. "المفهم" (1/ 344) "المنهاج شرح صحيح مسلم" (2/ 155). (¬2) الصريح والمحض: الخالص الصافي، وأصله في اللبن، ومعنى هذا الحديث: أن هذه الإلقاءات والوساوس التي تلقيها الشياطين في صدور المؤمنين تنفر منها قلوبهم، ويعظم عليهم وقوعها عندهم، وذلك دليل صحة إيمانهم ويقينهم ومعرفتهم بأنها باطلة ومن إلقاءات الشيطان، ولولا ذلك لركنوا إليها، ولقبلوها ولم تعظم عندهم، ولا سموها وسوسة، ولما كان ذلك التعاظم وتلك النفرة عن ذلك الإيمان. عبر عن ذلك بأنه خالص الإيمان، ومحض الإيمان وذلك من باب تسمية الشيء باسم الشيء إذا كان مجاورا له، أو كان منه بسبب. "المفهم" (1/ 344) "المنهاج شرح صحيح مسلم" (2/ 155).

وأخطره على قلبه. ولهذا قال قائل الصحابة: لأن يسقط من عند الثريا أحب إليه من أن يتكلم بما وسوس به إليه الشيطان، كما في حديث عائشة، فقال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في جواب ذلك:» ذاك محض الإيمان «(¬1). وقال قائلهم: إني أحدث نفسي بالشيء، لو تكلمت به: لأحبطت أجري (¬2): كما في الحديث الآخر. وكما قال معاذ: قلت: يا رسول الله! إنه ليعرض في نفسي الشيء؛ لأن أكون حممة أحب إلي من أن أتكلم به. فالمؤمن إذا بلغ من تحفظه إلى هذا الحد، حتى يكون سقوطه من الثريا إلى الثرى، أخف عنده من التكلم به، وصار احتراقه بالنار التي يكون حممة أيسر عنده من ذلك، فلا رتبة أعلى من هذه الرتبة من الإيمان، ولا صلابة في الدين أقوى من هذه الصلابة؛ فيستحق إيمان من كان كذلك أن يكون "محض الإيمان" و"صريح الإيمان". ويؤيد ما ذكرناه أولاً ما تقدم في حديث (¬3) ابن عباس: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لما سئل عن الوسوسة؟ قال: «الحمد لله، إن الشيطان قد أيس أن يعبد بأرضي هذه، ولكن قد رضي منكم بالمحقرات». فإن هذا يدل على أن مجرد عدم تأثير الشيطان في المؤمنين بشيء من الإغواء والتسويل، إلا مجرد الوسوسة التي خاطر من خواطر القلب المغفورة، من النعم التي أنعم الله بها على عباده. ولهذا حمد الله النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- على ذلك؛ فإن الشيطان الرجيم هو القائل: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} (¬4) ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) [ص: 82 - 83].

[5 ب]. فإذا لم يكن له سبيل على المؤمنين، إلا بأن يوسوس لهم وسوسة لا وجود لسمع من معناها في الخارج، ولا تبرز في قول، ولا فعل، فذلك من أعظم النعم التي ينبغي شكر الله عليها، ومن أعظم الأدلة الدالة على قوة إيمان العبد، وصلابته في الدين؛ فإنه قد نجا بإيمانه الذي تفضل الله به عليه من جميع مكائد الشيطان، وسلم من كل نزغاته، التي توجب الإثم، ويطلق عليها اسم الذنب، ولم يقدر على شيء منه، إلا مجرد الوسوسة المغفورة، المعفو عن صاحبها. ومثل هذا قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في الحديث السابق لما سمع قول القائل: إني أحدث نفسي بالشيء، لو تكلمت به لأحبطت عملي. فقال:- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة». فإن هذا الحديث يدل أبلغ دلالة على أن الشيطان لا يقدر على المؤمن إلا مجرد الوسوسة، وذلك من النعم العظيمة؛ لأن كيد اللعين كيد عظيم وتسلطه على بني آدم تسلط شديد، فإذا رد الله كيده إلى محض الوسوسة، فقد سلم المؤمن منه، ونجا. ولا يكون من هذا القبيل، إلا خلص المؤمنين، فمن بلغ إلى هذه الرتبة العلية، وهي أنه قد سلم من كيد الشيطان العظيم، ورد اله كيد اللعين إلى الوسوسة؛ فذاك "صريح الإيمان" و"محض الإيمان". فقد اتضح لك بهذا ما يرفع عنك الإشكال، ويدفع الاضطراب. وقد كررنا في هذا الجواب بعض التكرير؛ بقصد الإيضاح؛ لأن المقام من أعظم المقامات التي تشكل على أهل العلم، ويسألون عنها. ولا أظن أنه بقي في صدر من تأمل ما حررناه هاهنا خرج، ولله الحمد. وإذا عرفت هذا، فاعلم أن الواقع من عمر -رضي الله عنه- في الحديبية، ليس إلا مجرد استشكال وقوع الصلح على تلك الكيفية، وقال: لم نعط الدنية في ديننا مع كوننا على الحق، وعدونا على ......................................

الباطل (¬1)؟. ويتم إلى ذلك السؤال عما وعدهم به رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من فتح مكة، فلما تبين له وجه المصلحة في ذلك الصلح، ثم تبين له أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لم يعين لهم وقت فتح مكة في ذلك العام، قنع وارتفع ما حصل له من الإشكال. فليس الواقع معه إلا مثل ما يقع لمن يستشكل بحثا من الأبحاث العلمية، ويسأل عنه من يرجو عنده الفائدة. وإذا كان قد وقع مع الصحابة ما ذكرنا من الوسوسة التي يحب أحدهم أن يسقط من الثريا إلى الثرا، ولا يتكلم بها، ويحب الآخر أن يحترق حتى يصير حممة، ولا يتكلم بها، وجعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ذلك "محض الإيمان" و"صريح الإيمان" فكيف يستبعد من عمر أن يشكل (¬2) عليه مثل ذلك الأمر، ويسأل عنه؟ وبهذا يتضح للسائل -كثر الله فوائده- جواب ما سأل عنه من قول الخليل عليه السلام: {قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} (¬3). ويظهر وجه قول بعض السلف: "إن هذه الآية أرجى آية في القرآن [6 أ] ويتضح ما استشكله (¬4) من قول عمر رضي الله عنه. قال السائل -كثر الله فوائده- وكذلك ما يقول في رجل معه علة السلس، فإن بكر بالخروج إلى صلاة الجمعة اعتراه الحدث لطول المدة، وإن تأخر إلى حين دخول الإمام، أو إلى فراغه من الخطبة فاتته الفضيلة، ولكنه إذا تأخر هذا التأخر صلى بطهارة كاملة؟. وهل شهود الخطبة واجب أم لا؟ انتهى. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2731، 2732) و (3182، 4844) ومسلم في صحيحه رقم (1785) وقد تقدم. (¬2) تقدم. (¬3) [البقرة: 260] (¬4) تقدم.

أقول: قد تقدم في العام الأول من السائل -كثر الله فوائده- سؤال في أحكام السلس، وما يتعلق بها، ويتفرع عليها. وأجبنا على ذلك جوابا، ربما يستفاد منه جواب هذا، فليراجعه إن شاء. ولا شك أن مجرد التبكير إلى صلاة الجمعة فضيلة، وسنة حافظ عليها السلف، وأرشد إليها رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حتى فضل أجر المبكرين وثوابهم على حسب اختلافهم في التبكير، فقال: فيما ثبت عنه في "الصحيح" (¬1)» من اغتسل يوم الجمعة، ثم راح في الساعة الأولى، فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة، فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضة؛ فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر». فهذا المبتلى بعلة السلس؛ إذا كانت العلة مطبقة مستمرة، لا يمكن تأدية الفرض إلا مع خروج شيء من ذلك، كان حكمه حكم الصحيح الذي لا علة معه في طهارته، وثيابه، وبدنه، وصلاته في أول الوقت. وذلك الخارج عفو لا يبطل به وضوءه، ولا يتنجس به ثوبه الذي سيصلي فيه تلك الفريضة، ولا بدنه، ولا غير ذلك. وقد أوضحنا هذا في الجواب الذي حررناه العام الأول على السائل -كثر الله فوائده- وأما هذه المسألة التي وقع السؤال عنها؛ فإن كان يثق من نفسه أنه إذا ترك التبكير وحضر مع حضور الإمام، لم يخرج شيء من الخارج، فترك التبكير أولى له. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (881) ومسلم رقم (850) وأبو داود رقم (351) والنسائي (3/ 99 رقم 1388) والترمذي رقم (499) وابن ماجه في "السنن" رقم (1092) وابن حبان في صحيحه رقم (2764) وأحمد رقم (2/ 460) والبغوي في "شرح السنة" (4/ 234 رقم 1063) ومالك في "الموطأ" (1/ 101) والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 297). كلهم من حديث أبي هريرة. وهو حديث صحيح.

وإن كان معذورًا -في الواقع- لكن إذا قدر على تأدية الصلاة بطهارة كاملة مع انقطاع الخارج منه، فذلك متحتم لازم، لأن الطهارة فريضة من فرائض الصلاة المتعينة على كل مصل، إذا كان متمكنا من ذلك غير معذور عنه. وأما ما سأل عنه -عافاه الله- من كون شهود الخطبة واجبًا أم لا؟ فلم يتقرر لهذا بدليل صحيح معتبر ما يدل على وجوب الخطبة في الجمعة حتى يكون شهودها واجبًا. والفعل الذي وقعت المداومة عليه لا يستفاد منه الوجوب، بل يستفاد منه أن ذلك المفعول على الاستمرار سنة من السنن المؤكدة. فالخطبة في الجمعة سنة من السنن المؤكدة، وشعار من شعائر الإسلام [6 ب] لم تترك منذ شرعت إلى موته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، ولا أقيمت صلاة جمعة بغير خطبة. وهكذا ما بعد عصره، في جميع الأقطار إلى هذا العصر لم تترك في قطر من أقطار المسلمين، ولا أهملت في عصر من العصور الإسلامية. وأما كونها واجبة مفترضة، فلم يأت في كتاب الله سبحانه ولا في سنة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ما يدل على ذلك، ولا بلغ إلينا ما يفيد الوجوب. وقد استدل بعض أهل العلم بقوله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله} (¬1) وأن السعي إذا كان مأمورًا به، كان المسعو إليه أولى بالوجوب؟ ويجاب عن هذا: بأن الذكر المأمور بالسعي إليه هو صلاة الجمعة، كما في أول الآية: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله}. فالمسعو إليه هو الصلاة، والصلاة هي ذكر الله. واستدل بعض القائلين بوجوب الخطبة بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: (صلوا كما رأيتموني ¬

(¬1) [الجمعة: 9].

أصلي» (¬1). وهذا استدلال غير صحيح؛ فإن النزاع في الخطبة، وليست بصلاة فكيف يستدل عليها بهذا الحديث؟ ولعل هذا المستدل قد علق بذهنه ما يقوله بعض الفقهاء من أن خطبة الصلاة كركعتين، فحقق هذا التشبيه، وجزم بأنها ركعتان، ثم استدل عليها فغلط غلطا متكررًا، وخبط خبطا شديدًا، وغفل عن كون القائل من الفقهاء إنما قال: إنها كركعتين، ولم يقل: إنها ركعتان والذي حمل هذا القائل على أنها كركعتين شيء لا يقع في ذهن متيقظ، ولا ينفق على محقق. وذلك أنه لما استقر في ذهنه أن صلاة الجمعة بدل عن الظهر، وأن الظهر أربع ركعات، ظن أن البدل لا بد أن يكون كالمبدل في العدد؛ فجعل الخطبة منزلة منزلة ركعتين، فجاء بجهل مرتب على جهل. وتكلم بباطل متفرع على باطل! وهكذا من توغل في الرأي، وجعله مرجعا للمسائل الشرعية؛ فإنه يأتي بمثل هذه الخرافات المخزية!. وبالجملة، فلا شيء من كتاب، ولا سنة يدل على أن الخطبة واجبة من واجبات الشريعة، وفريضة من فرائضها!. ولو كان طول الملازمة يستفاد منه الوجوب، لكانت نوافله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وأذكاره التي داوم عليها، ولم يخل بها واجبة! واللازم باطل بإجماع المسلمين فالملزم مثله. وبيان الملازمة: اتصاف الخطبة، وهذه النوافل، والأذكار بكون كل واحدة منه وقعت الملازمة له، والمداومة عليه، والمواظبة على فعله، وبيان بطلان اللازم: إجماع المسلمين أجمعين -إلا من لا يعتد بخلافه- أن تلك النوافل التي واظب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، والأذكار التي كان يحافظ عليها، غير واجبة [7 أ]!. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (631) وأبو داود رقم (589) والترمذي رقم (205) والنسائي (2/ 77) وابن ماجه رقم (979) من حديث مالك بن الحويرث.

واعلم أن من تأمل فيما وقع لأهل العلم في هذه العبادة الفاضلة التي افترضها الله عليهم في الأسبوع، وجعلها شعارا من شعائر الإسلام -وهي صلاة الجمعة- من الأقوال الساقطة، والمذاهب الزائفة، والاجتهادات الداحضة قضى من ذلك العجب!. فقائل يقول: الخطبة كركعتين، وأن من فاتته لم تصح جمعته! وكأنه لم يبلغه ما ورد عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من طرق متعددة يقوي بعضها بعضا، ويشد بعضها من عضد بعض "أن من فاتته ركعة من ركعتي الجمعة، فليضف إليها أخرى، وقد تمت صلاته" (¬1). ¬

(¬1) أخرجه النسائي (3/ 112 رقم 1425) بإسناد صحيح من طريق قتيبة عن أبي هريرة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: "من أدرك من صلاة الجمعة ركعة فقد أدرك". وأخرجه الحاكم (1/ 291) من طريق الوليد بن مسلم، عنه بلفظ النسائي إلا أنه زاد في آخره "الصلاة". وأخرجه الحاكم (1/ 291) والبيهقي (3/ 203) والدارقطني (2/ 11 رقم 4) بإسناد حسن من طريق أسامة بن زيد الليثي، عنه بلفظ: "من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى". ثم أخرجه الحاكم (1/ 291) والبيهقي (3/ 203) والدارقطني (2/ 11 رقم 6) من طريق صالح ابن أبي الأخضر، عنه بلفظ: "من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى، فإن أدركهم جلوسا صلى أربعا" ولم يذكر الحاكم الجملة الأخيرة. وأخرجه ابن ماجه (1/ 356 رقم 1121) من طريق عمر بن حبيب، عنه: بلفظ أسامة بن زيد الليثي. ولحديث أبي هريرة شاهد من حديث ابن عمر مرفوعا. بلفظ: "من أدرك ركعة يوم الجمعة فقد أدركها وليضف إليها أخرى". وأخرجه الدارقطني (2/ 13 رقم 14) من طريق عيسى بن إبراهيم عنه. وأخرجه الطبراني في "الصغير" (1/ 339 رقم 562) من طريق إبراهيم بن سليمان الدباس. عنه. وأخرجه النسائي (1/ 274 رقم 557) وابن ماجه رقم (1123) والدارقطني (2/ 12 رقم 12) من طريق سالم. عنه. والخلاصة أن الحديث بذكر الجمعة صحيح من حديث ابن عمر، لا من حديث أبي هريرة. وانظر الكلام بتوسع على هذا الحديث في كتاب "إرواء الغليل" (3/ 84 - 90 رقم 622). للمحدث الألباني.

ولا بلغه غير هذا الحديث من الأدلة! وقائل يقول: لا تنعقد الجمعة إلا بثلاثة مع الإمام! وقائل يقول: بأربعة معه! وقائل يقول: بستة! وقائل يقول: بتسعة! وقائل يقول: باثني عشر! وقائل يقول: بعشرين! وقائل يقول: بثلاثين! وقائل يقول: لا تنعقد إلا بأربعين! وقائل يقول: بخمسين! وقائل يقول: لا تنعقد إلا بستين! وقائل يقول: بثمانين! وقائل يقول: بجمع كثير من غير تقييد! وقائل يقول: إن الجمعة لا تصح إلا في مصر جامع وحدده بعضهم بأن يكون الساكنون فيه: كذا وكذا من آلاف! وآخر قال: أن يكون فيه جامع، وحمام! وآخر قال: أن يكون فيه كذا! وآخر قال: أن يكون فيه كذا! وآخر قال: إنها لا تجب إلا مع الإمام الأعظم؛ فإن لم يوجد، أو كان مختل العدالة بوجه من الوجوه، لم تجب الجمعة، ولم تشرع!

ونحو هذه الأقوال التي ليس عليها أثارة من علم، ولا يوجد في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حرف واحد يدل على ما ادعوه من كون هذه الأمور المذكورة شروطا لصحة صلاة الجمعة أو فرضا من فرائضها أو ركنا من أركانها! فيا لله العجب! ما يفعل الرأي بأهله! وما يخرج من رءوسهم من الخزعبلات الشبيهة بما يتحدث الناس به في مجامعهم، وما يجرونه في أسمارهم من القصص، والأحاديث الملفقة، وهي من الشريعة المطهرة بمعزل! يعرف هذا كل عارف بالكتاب والسنة وكل متصف بصفة الإنصاف، وكل من ثبت قدمه، ولم يتزلزل عن طريق الحق بالقيل والقال. ومن جاء بالغلط، فغلطه رد عليه، مضروب به في وجهه. والحكم بين العباد هو كتاب الله، وسنة رسوله، كما قال سبحانه: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} (¬1). {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا} (¬2). {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} (¬3). فهذه الآيات، ونحوها، تدل أبلغ دلالة، وتفيد أعظم فائدة أن المرجع مع الاختلاف إلى حكم الله ورسوله [7 ب]. وحكم الله هو كتابه. وحكم رسوله -بعد أن قبضه الله إليه- هو: سنته ليس غير ¬

(¬1) [النساء: 59]. (¬2) [النور: 51]. (¬3) [النساء: 65].

ذلك. ولم يجعل الله لأحد من العباد -وإن بلغ في العلم إلى أعلى مبلغ، وجمع منه ما لم يجمعه غيره- أن يقول في هذه الشريعة بشيء لا دليل عليه من كتاب ولا سنة. والمجتهد -وإن جاءت الرخصة له بالعمل برأيه عند عدم الدليل- فلا رخصة لغيره أن يأخذ بذلك الرأي كائنا من كان. والبحث في هذا يطول جدا. وقد جمعت فيه مصنفين مطولا ومختصرا -ولله الحمد-. حرره مؤلفه في يوم الأربعاء الثالث من شهر ذي القعدة من شهور سنة 1228 حامدًا لله شاكرا له مصليا مسلما على رسوله [8 أ].

الأبحاث الوضية في الكلام على حديث (حب الدنيا رأس كل خطية)

الأبحاث الوضية في الكلام على حديث (حب الدنيا رأس كل خطية) تأليف محمد بن علي الشوكاني حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه محفوظة بنت علي شرف الدين أم الحسن

وصف المخطوط (أ): 1 - عنوان الرسالة: (الأبحاث الوضية في الكلام على الحديث: "حب الدنيا رأس كل خطية"). 2 - موضوع الرسالة: في "الحديث". 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين وصحبه الراشدين. وبعد: فإنه ورد إلي سؤال من عالم مفضال هو لطف الله بن أحمد جحاف .. 4 - آخر الرسالة: " .... وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. والله ولي التوفيق، حرر في أوائل ليلة الخميس لعله في شهر جمادى الآخرة سنة (1217 هـ) بقلم مؤلفه الحقير محمد بن علي الشوكاني. غفر الله ذنوبه وستر عيوبه". 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - عدد الصفحات: 16 صفحة. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: (21 - 24) سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: (11 - 12) كلمة. 9 - الناسخ: المؤلف محمد بن علي الشوكاني. 10 - الرسالة من المجلد الثالث من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".

الأبحاث الوضية في الكلام على حديث حب الدنيا رأس كل خطية [صورة عنوان الرسالة من المخطوط (أ)]

[صورة الصفحة الأولى من المخطوط (أ)].

[صورة الصفحة الأخيرة من المخطوط (أ)].

وصف المخطوط (ب): 1 - عنوان الرسالة: (سؤال عن حديث حب الدنيا رأس كل خطية). 2 - موضوع الرسالة: في " الحديث ". 3 - أول الرسالة: قال رضي الله عنه: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين وصحبه الراشدين، وبعد: فإنه ورد إلي سؤال من بعض الأعلام ولفظه. . . 4 - آخر الرسالة: لكن الخطر فيه دون الخطر في حب ما هو من الدنيا كالمال والبنين والشهوات والشرف، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والله ولي التوفيق، والحمد لله أولا وآخرًا، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه وسلم. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: (14) صفحة. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: (18 - 23) سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: (10 - 12) كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الثالث من " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني ".

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، و [على] (¬1) آله الطاهرين وصحبه الراشدين، وبعد: فإنه ورد إلي سؤال من [عالم مفضال هو لطف الله بن أحمد حجاف (¬2) - لا برح من الله في خفي الألطاف (¬3) -]، ولفظه: ورد [في (¬4)] حديث أخرجه البيهقي (¬5) وغيره مرفوعا، وبعضهم صحح رفعه قال: ¬

(¬1) زيادة من (ب). (¬2) هو لطف الله بن أحمد بن لطف الله بن أحمد بن لطف الله بن أحمد حجاف، الصنعاني المولد والدار والمنشأ، ولد سنة 1189 هـ، وأخذ العلم عن جماعة من علماء العصر. قال الشوكاني في " البدر الطالع " (2/ 60 - 71): وقد كتب إلي. . . بحيث لو جمع هو وما أكتبه عليه من الجوابات لكان مجلدًا، أو لعل غالب ذلك محفوظ لديه وعندي منه القليل، وهو قوي الإدراك، جيد الفهم، حسن الحفظ، مليح العبارة، فصيح اللفظ، بليغ النظم والنشر. (¬3) في (ب): بعض الأعلام. (¬4) زيادة من (أ). (¬5) في " الشعب " (7/ 338 رقم 10501) من مراسيل الحسن مرفوعا. قلت: وأخرجه البيهقي في " الزهد " رقم (249) من كلام عيسى ابن مريم عليه السلام. وأخرجه أحمد بن حنبل في " الزهد " رقم (472، 473) من طريقين عن عيسى عليه السلام من قوله، وهو الأشبه على إعضال الطريقين. وأخرجه أبو نعيم في " الحلية " (6/ 388) من قول عيسى عليه السلام أيضا. وأورده الزركشي في " التذكرة في الأحاديث المشتهرة " (ص 122\ رقم 1)، وعزاه لابن لأبي الدنيا في كتاب " مكائد الشيطان " من كلام ابن دينار. قلت: لم أجده في " مكائد الشيطان " المطبوع بتحقيق مجدي السيد إبراهيم. عزاه العراقي في " تخريج أحاديث إحياء علوم الدين " (4/ 1854) إلى ابن أبي الدنيا في ذم الدنيا. وعزاه الألباني في " الضعيفة " رقم (1226) إلى ابن عساكر (7/ 98 رقم 1) من قول: " سعد بن مسعود الصيرفي "، وذكر أنه تابعي، وأنه كان رجلا صالحا. وأورده السيوطي في " الجامع الصغير " رقم (3662)، وعزاه للبيهقي فقط عن الحسن البصري مرسلا، ورمز السيوطي لضعفه، وقال المناوي في " فيض القدير " (3/ 369) متعقبا على السيوطي: " ثم قال - أعني البيهقي -: ولا أصل له من حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "، قال الحافظ الزين العراقي: ومراسيل الحسن عندهم شبه الريح. وقال المناوي في " التيسير بشرح الجامع الصغير " (1/ 492): " وقال المؤلف - يعني في فتاويه -: رفعه وهم، بل عده الحفاظ موضوعا ". وقال السيوطي في " الدرر المنتثرة " (ص 191 رقم 184): " قد عد الحديث في الموضوعات "، وذكره ابن تيمية في " أحاديث القصاص " (ص 58 رقم 7)، وقال: " هذا معروف عن جندب بن عبد الله البجلي، وأما عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فليس له إسناد معروف ". وأورده القاري في " الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة " - " الموضوعات الكبرى " - (ص 88 رقم 63) وقال: " القائل بأنه موضوع لم يصرح بإسناده، والأسانيد مختلفة، والمرسل حجة عند الجمهور إذا صح إسناده، قلت: المرسل ضعيف عند جماهير المحدثين والشافعي وكثير من الفقهاء وأصحاب الأصول، ولهذا قال ابن المديني: مرسلات إذا رواها عنه الثقات صحاح، وقال الدارقطني: في مراسيله ضعف، فالاعتماد على عماد الإسناد " اهـ. وقد حكم المحدث الألباني على حديث الحسن البصري في " ضعيف الجامع " (3/ 90 رقم 2681) بالضعف، وعندما تكلم على طرقه في " الضعيفة " رقم (1226) حكم عليه بالوضع. وخلاصة الأمر أن الحديث موضوع، والله أعلم.

قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " حب الدنيا رأس كل خطيئة "، فأشكل علينا استدلالهم به من وجوه: الأول: أنهم جعلوا محبة الدنيا أصلا في الخطايا مع أن حبها أمر جبلي، فكيف يمكن أن يزيل الإنسان ما ركزه الله في طبيعته من حبها؟ وهل هي إلا فتنة جعلها الله؟ الثاني: نسألكم: ما المراد بالدنيا؟ إن قال: المراد بها متاعها من منقول وغيره، فهذا غير مسلم لأن الدنيا غير متاعها، وإن قال: هو من تسمية الحالية والمحلية [أو (¬1)] المظروف والظرف فهو مجاز، فنقول: الأصل الحقيقة، وأيضا لا بد من قرينة ترد من الشارع تدل ¬

(¬1) زيادة من (ب).

على أن المراد بذلك المجاز، والآيات [القرآنية] (¬1) تشهد بأن المراد بالدنيا هي الحياة الأولى كما دل على ذلك: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها} [1 أ] {نوف إليهم أعمالهم فيها} (¬2)، {تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة} (¬3)، {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} (¬4)، والآيات (¬5) في ذلك كثيرة. الثالث: إن قام الدليل على أن المراد هنا المعنى المجازي - وما أظنه يقوم - فنقول بعد ذلك كله: [قد] (¬6) سلمنا أنه المراد، لكن نحكم بأنها سبب لوقوع المفاسد والطغيان كثيرًا، فتكون محرمة وجمعها قبيح، لكن لا يخفى أن تحريم المسبب لا يستلزم تحريم السبب في أمثلة كثيرة، كما لو تسبب عن السمر خروج وقت [صلاة] (¬7) الضحى، فإنه لا يقضى بتحريم ذلك السبب، فما بقي إلا أن المراد تحريم حب الحياة وقبحها لئلا يرد علينا شيء، وذلك مجرى [1] على التساهل بالآخرة، وليس ذلك من قبيل المسبب المحرم اللازم منه تحريم سببه، بل ذلك السبب نفسه قد صح عن الشارع تقبيحه، فكان [بالدليل] (¬8)، والمقصود إظهار الفائدة. انتهى السؤال. ¬

(¬1) زيادة من (ب). (¬2) [هود: 15]. (¬3) [الأنفال: 67]. (¬4) [آل عمران: 185]. (¬5) منها قوله تعالى: (وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا) [الأنعام: 70]. وقوله تعالى: (وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع) [الرعد: 26]. وقوله تعالى: (يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا) [يونس: 23]. وقوله تعالى: (الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة. . .) [إبراهيم: 3]. (¬6) زيادة من (ب). (¬7) زيادة من (ب). (¬8) زيادة من (ب).

[الجواب] والجواب - بمعونة الوهاب - ينحصر في أبحاث خمسة: الأول: الكلام على الحديث المسئول عنه فنقول: قال الحافظ السخاوي في " المقاصد الحسنة في الأحاديث الدائرة على الألسنة " (¬1): أخرجه البيهقي (¬2) في الحادي والسبعين من الشعب بإسناد حسن إلى الحسن البصري [رفعه] (¬3) مرسلا، وأورده في الفردوس (¬4) بلا إسناد عن علي [رضي الله عنه] (¬5) [رفعه] (¬6)، وهو عند البيهقي أيضًا في الزهد (¬7)، وأبي نعيم في ترجمة البلوي من الحلية (¬8) من قول عيسى ابن مريم عليه السلام، وعند ابن أبي الدنيا في مكائد الشيطان له من قول مالك بن دينار [1 ب]، وعند [ابن يونس (¬9)] في ترجمة سعد بن مسعود التجيبي من تاريخ مصر له من قول سعد هذا، وجزم ابن تيمية (¬10) بأنه من قول جندب البجلي رضي الله عنه. قال السخاوي: وبالأول يرد عليه وعلى غيره ممن صرح بالحكم [عليه] (¬11) بالوضع؛ لقول ابن المديني: مرسلات الحسن البصري إذا رواها عنه الثقات صحاح، ما أقل ما ¬

(¬1) (ص 296 - 297 رقم 384). (¬2) تقدم آنفا. (¬3) في (ب): يكون. (¬4) (2/ 231 رقم 3112، 3113). (¬5) زيادة من (ب). (¬6) في (ب): يرفعه. (¬7) (ص 249). (¬8) (6/ 388). (¬9) في (ب): أبو نواس. (¬10) في أحاديث القصاص (ص 58 رقم 7). (¬11) زيادة من (ب).

يسقط منها! وقال أبو زرعة: كل شيء يقول الحسن: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وجدت له أصلا ثابتا ما خلا أربعة أحاديث، وليته ذكرها، وقال الدارقطني: في مراسيله ضعيف، وللديلمي عن أبي هريرة [رفعه] (¬1): (الآفات تصيب أمتي حبهم الدنيا وجمعهم الدنانير والدراهم، لا خير في كثير ممن جمعها إلا من سلطه الله على هلكتها في الحق). قلت: فعلى هذا يكون الحديث مرسلا قويا؛ لأنه قد تقوى بما تقدم ذكره، ولا ينافي رفعه وقف من وقفه على بعض الصحابة، أو على من بعدهم، فقد يتكلم الصحابي أو التابعي بالحديث [2] النبوي من دون أن يرفعه، إما لإخراجه مخرج الأمثال المرسلة، أو [لكون] (¬2) المقام ليس مقام [الرواية] (¬3)، أو [لكون] (¬4) الحديث مشتهرا شهرة تغني عن رفعه، وعلى كل حال فمعناه صحيح، وقد ورد ما يشهد له ويقويه كحديث: (الدنيا ملعونة وملعون ما فيها، إلا ذكر الله [وما والاه] (¬5) أو عالم أو متعلم)، وهو في السنن (¬6). ¬

(¬1) في (ب): يرفعه. (¬2) في (ب): يكون. (¬3) في (ب): للرواية. (¬4) في (ب): يكون. (¬5) زيادة من (ب). (¬6) أخرجه الترمذي رقم (2322)، وقال: حديث حسن غريب، وابن ماجه رقم (4112) من حديث أبي هريرة. وأخرجه البغوي في " شرح السنة " (14/ 229 رقم 4028) عن عبد الله بن ضمرة. وأخرجه أبو داود في " المراسيل " رقم (502)، وأحمد في الزهد رقم (154) عن محمد بن المنكدر، ورجاله ثقات، رجال الشيخين. وأخرجه أبو نعيم في " الحلية " (3/ 157) و (7/ 90)، والبيهقي في " الزهد " رقم (246) من حديث جابر بن عبد الله. وأخرجه البزار في " المسند " (4/ 108 رقم 3310 - كشف) من حديث عبد الله بن مسعود. والخلاصة أن الحديث حسن، وقد حسنه المحدث الألباني في " صحيح الجامع " رقم (3414).

وحديث: (الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون؟) أخرجه مسلم (¬1)، والنسائي (¬2)، وغيرهما (¬3) من حديث أبي سعيد الخدري. وأخرجه العسكري (¬4) من حديث [2 أ] أبي هريرة بلفظ: " الدنيا حلوة خضرة، من أخذها بحقها بورك له فيها، ورب متخوض في مال الله ورسوله له النار يوم القيامة "، وأصله في البخاري (¬5) بلفظ: " إن رجالا يتخوضون في مال الله. . . ". وفي البخاري (¬6) أيضًا من حديث حكيم بن حزام أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال له: " يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذ بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه ". وقد روي من حديث ميمونة عند أبي يعلى (¬7) والطبراني (¬8)، ¬

(¬1) في صحيحه رقم (99/ 2742). (¬2) في " عشرة النساء " رقم (387). (¬3) كابن ماجه رقم (4000)، والبيهقي في " السنن الكبرى " (1/ 91) وفي " الآداب " رقم (744)، وأحمد في " المسند " (3/ 7، 19، 22)، والبغوي في " شرح السنة " (9/ 12 رقم 2243)، والترمذي رقم (2191) وقال: حديث حسن صحيح. (¬4) لم أعثر عليه. (¬5) في صحيحه (3118) عن خولة الأنصارية رضي الله عنها قالت: " سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة ". يتخوضون: أي يتصرفون في مال المسلمين بالباطل. " الفتح " (6/ 219). (¬6) في صحيحه رقم (1472، 2750، 3143، 6441). خضرة: أي مشتهاة، والنفوس تميل إلى ذلك. " الفتح " (6/ 219). (¬7) في مسنده (13/ 15 رقم 22/ 7099) من حديث ميمونة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الدنيا خضرة حلوة، فمن اتقى فيها وأصلح وإلا فهو كالآكل ولا يشبع ". (¬8) في " الكبير " (24/ 24 رقم 58) مختصرًا. وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 246 - 247)، وقال: رواه أبو يعلى والطبراني باختصار كثير عنه، وفيه " المثنى بن الصباح " وهو ضعيف. قلت: والمثنى بن الصباح ضعفه الأئمة المتقدمون، والضعف على حديثه بين، انظر: " الكامل " لابن عدي (6/ 2418) والمجروحين لابن حبان (3/ 20).

والرامهرمزي (¬1) في الأمثال، وعن عبد الله بن عمرو عند الطبراني (¬2). وأخرج أحمد (¬3) من حديث عائشة بلفظ: " الدنيا دار من لا دار له، ولها يجمع من لا عقل له "، قال السخاوي (¬4): ورجاله ثقات. وأخرج مسلم (¬5) من حديث أبي هريرة: " الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر "، وقد روي من حديث ابن عمرو عند البزار (¬6). ومن حديث ابن [عمرو (¬7)] عند الطبراني (¬8)، وأبي نعيم (¬9)، وأخرجه أيضًا من حديثه ¬

(¬1) نسبه صاحب " كنز العمال " (3/ 212 - 213 رقم 6200) إلى الرامهرمزي في الأسندة، ونقل عنه قوله: " وسنده حسن عن ميمونة ". (¬2) عزاه الهيثمي في " المجمع " (10/ 246)، وقال: رجاله ثقات. (¬3) في " المسند " (6/ 71). (¬4) في " المقاصد الحسنة " رقم (494). (¬5) في صحيحه رقم (1/ 2956). قلت: وأخرجه الترمذي رقم (2324)، وقال: حديث حسن صحيح. وابن ماجه رقم (4113)، وأحمد في " المسند " (2/ 323، 389، 485)، وابن حبان في صحيحه رقم (2488 - موارد). (¬6) في " المسند " (4/ 247 رقم 3645 - كشف) بسندين. وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 289)، وقال: " رواه البزار بسندين، أحدهما ضعيف، والآخر فيه جماعة لم أعرفهم ". (¬7) في المخطوط: [عمر]، والصواب ما أثبتناه من " المجمع " (10/ 289). (¬8) كما في " المجمع " (10/ 289). (¬9) في " الحلية " (8/ 185)، وقال أبو نعيم: " غريب من حديث عبد الله بن عمرو، بهذا اللفظ لم نكتبه إلا من حديث يحيى بن أيوب " اهـ.

أحمد (¬1) وأبي نعيم (¬2). ¬

(¬1) في " المسند " (2/ 197). (¬2) في " الحلية " (8/ 177)، وفيها " عبد الرحمن بن عمرو " وهو خطأ، والصواب " عبد الله بن عمرو "، وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 288 - 289)، وقال: " رواه أحمد والطبراني باختصار، ورجال أحمد رجال الصحيح غير عبد الله بن جنادة، وهو ثقة ". قلت: وأخرجه البغوي في " شرح السنة " (14/ 297 رقم 4106)، والحاكم في " المستدرك " (4/ 315)، وسكت هو والذهبي عن الكلام عليه. فائدة: قال القرطبي في " المفهم " (7/ 109 - 110) قوله: " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " إنما كانت الدنيا كذلك لأن المؤمن فيها مقيد بقيود التكاليف، فلا يقدر على حركة ولا سكون إلا أن يفسح له الشرع، فيفك قيده ويمكنه من الفعل أو الترك، مع ما هو فيه من توالي أنواع البلايا والمحن والمكابدات من الهموم والغموم والأسقام والآلام، ومكابدة الأنداد والأضداد والعيال والأولاد، وعلى الجملة: " وأشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل بحسب دينه " كما قاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأي سجن أعظم من هذا؟ ثم هو في هذا السجن بحسب على غاية الخوف والوجل؛ إذ لا يدري بماذا يختم له من عمل؟ كيف وهو يتوقع أمرا لا شيء أعظم منه، ويخاف هلاكا لا هلاك فوقه؟ فلولا أنه يرتجي الخلاص من هذا السجن لهلك مكانه، لكنه لطف به فهون عليه ذلك كله بما وعد على صبره، وبما كشف له من حميد عاقبة أمره. والكافر منفك عن تلك الحالات بالتكاليف، آمن من تلك المخاويف ، مقبل على لذاته، منهمك في شهواته، معتز بمساعدة الأيام، يأكل ويتمتع كما تأكل الأنعام، وعن قريب يستيقظ من هذه الأحلام، ويحصل السجن الذي لا يرام، فنسأل الله السلامة من أهوال يوم القيامة. وانظر: شرح صحيح مسلم للنووي (18/ 93). وقال القاضي عياض في " إكمال المعلم بفوائد مسلم " (8/ 511): قوله: " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " معناه: أن المؤمن مدة بقائه فيها وعلمه بما أعد له في الآخرة من النعيم الدائم والبشر، أنه عند موته وعرضه عليه فحبسه عنه في الحياة الدنيا وتكليفه ما ألزمه، ومنعه مما حرم عليه من شهواته كالمسجون المحبوس عن لذاته ومحابه، حتى إذا ما فارقها استراح من نصبها وأنكادها خرج إلى ما أعد له، واتسعت آماله، وقضى ما شاء من شهواته، والكافر إنما له من ذلك ما في الدنيا على قلته وتكديره بالشوائب وتنكيده بالعوائق، حتى إذا فارق ذلك صار إلى سجن الجحيم وعذاب النار وشقاء الأبد.

وأخرجه مسلم (¬1)، والنسائي (¬2)، وابن ماجه (¬3) من حديث عبد الله بن عمرو: " الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة ". وأخرج في مسند الفردوس (¬4) عن ابن عمر مرفوعا: " الدنيا منظرة الآخرة، فاعبروها ولا تعمروها ". وأخرج العقيلي في " الضعفاء " (¬5) من حديث طارق بن أشيم: " نعمت الدار الدنيا لمن تزود منها لآخرته "، وهو عند الحاكم في مستدركه (¬6)، وصححه وتعقبه الذهبي بأنه منكر. والأحاديث في هذا الباب [3] كثيرة جدا، ولا يخفى ما في هذه الأحاديث التي سقناها من الدلالة على صحة معنى حديث: " حب الدنيا رأس كل خطيئة " (¬7)، فإن ما كان ¬

(¬1) في صحيحه رقم (1467). (¬2) في " السنن " (6/ 69). (¬3) في " السنن " رقم (1855)، وهو حديث صحيح. (¬4) أورده الديلمي في " الفردوس بمأثور الخطاب " (2/ 228 رقم 3102). (¬5) في " الضعفاء الكبير " (3/ 89)، وتتمة الحديث: " ما يرضي به ربه، وبئست الدار الدنيا لمن صرعته عن آخرته، وقصرت به عن رضا ربه، فإذا قال العبد: قبح الله الدنيا، قالت الدنيا: أقبح الله أعصانا للرب ". وقال العقيلي: هذا يروى عن علي من قوله. (¬6) (4/ 312 - 313)، وفي سنده عبد الجبار بن وهب: مجهول وحديثه منكر. انظر: " الميزان " (2/ 534)، و" الضعفاء " للعقيلي (3/ 89 رقم 1060). والخلاصة أن حديث طارق بن أشيم ضعيف، والله أعلم. (¬7) تقدم تخريجه.

من هذه الأحاديث وغيرها متضمنا لذم الدنيا والتنفير منها ففيه دليل على أنها لا تكون محلا للمحبة، وأن حبها وهي بهذه المثابة وسيلة للخطيئة، وما كان منها متضمنا لمدحها أو إباحة الانتفاع بها فهو مقيد يفيد مسوغ للتناول، وليس فيه ما يفيد أنها محل للمحبة. وبالجملة فالأدلة الواردة في ذم البخل كتابا (¬1) وسنة (¬2) تدل على صحة معنى هذا ¬

(¬1) منها: قول الله عز وجل: (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء) [محمد: 38]. ومنها قول الله عز وجل: (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) [آل عمران: 180]. ومنها قول الله عز وجل: (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد) [الحديد: 24]. (¬2) منها ما أخرجه أبو داود رقم (1698)، وأحمد (2/ 160، 195)، والحاكم (1/ 415)، وصححه ووافقه الذهبي، عن عبد الله بن عمرو قال: خطب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " إياكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا "، وهو حديث صحيح. ومنها ما أخرجه البخاري رقم (6638)، ومسلم رقم (30/ 990) من حديث أبي ذر قال: انتهيت إليه وهو يقول في ظل الكعبة: " هم الأخسرون ورب الكعبة، هم الأخسرون ورب الكعبة، قلت: ما شأني؟ أيرى في شيء؟ ما شأني؟ فجلست إليه وهو يقول فما استطعت أن أسكت، وتغشاني ما شاء الله، فقلت: من هم بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ قال: الأكثرون أموالا، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا ". ومنها ما أخرجه البخاري رقم (1407)، ومسلم رقم (992): حدثنا أبو العلاء بن الشخير أن الأحنف بن قيس حدثهم قال: جلست إلى ملأ من قريش، فجاء رجل خشن الشعر والثياب والهيئة، حتى قام عليهم فسلم ثم قال: " بشر الكانزين برصف يحمى عليه في نار جهنم، ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نفض كتفه، ويوضع على نفض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه، يتزلزل، ثم ولى فجلس إلى سارية، وتبعته وجلست إليه وأنا لا أدري من هو؟ فقلت له: لا أرى القوم إلا قد كرهوا الذي قلت، قال: إنهم لا يعقلون شيئا، قال لي خليلي، قال: قلت: من خليلك؟ قال: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا أبا ذر أتبصر أحدا؟ " قال: فنظرت إلى الشمس ما بقي من النهار وأنا أرى أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرسلني في حاجة له، قلت: نعم، قال: " ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير "، وإن هؤلاء لا يعقلون، إنما يجمعون الدنيا، لا والله، لا أسألهم دنيا ولا أستفتيهم عن دين حتى ألقى الله. ومنها ما أخرجه مسلم رقم (3/ 2958)، والترمذي رقم (3354)، والنسائي (6/ 238)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقرأ: " ألهاكم التكاثر " قال: " يقول ابن آدم: مالي مالي، (قال:) وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟ " ومنها ما أخرجه مسلم رقم (5/ 2959) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يقول العبد: مالي مالي، إنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، وما هو سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس ". قوله: (ألهاكم التكاثر) [التكاثر: 1] يعني: شغلكم الإكثار من الدنيا ومن الالتفات إليها عما هو الأولى بكم من الاستعداد للآخرة، وهذا الخطاب للجمهور؛ إذ جنس الإنسان على ذلك مفطور، كما قال تعالى: (كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة) [القيامة: 20 - 21]، وكما قال تعالى: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين. . . .) [آل عمران: 14]. وقوله: " يقول ابن آدم: مالي مالي ": أي يغتر بنسبة المال إليه وكونه في يديه، حتى ربما يعجب به ويفخر به، ولعله ممن تعب هو في جمعه، ويصل غيره إلى نفعه، ثم أخبر بالأوجه التي ينتفع بالمال فيها، وافتتح الكلام بـ (إنما) التي هي للتحقيق والحصر فقال: " إنما له من ماله ثلاث ". وقوله: " أو أعطى فاقتنى " أي أعطى الصدقة فاقتنى الثواب لنفسه كما قال في الرواية الأخرى: " أو تصدقت فأمضيت "، وقد رواه ابن ماهان: " فأقنى " بمعنى: أكسب غيره كما قال تعالى (أغنى وأقنى) [النجم: 48] " المفهم " (7/ 110 - 112).

الحديث المسئول عنه؛ لأن البخل بمتاع الحياة الدنيا لا تكون إلا من محب لها، متهالك عليها، وهكذا الأدلة الدالة على ذم التكاثر والجمع والكنز والمنع لما يجب [2 ب] في المال، فإنها تفيد صحة معنى الحديث المسئول عنه؛ لأن كل ذلك لا يصدر إلا من محب للدنيا، وهكذا الأدلة الواردة في الترغيب في الزهد (¬1)، والترهيب من مقابله هي تفيد هذا ¬

(¬1) منها ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (125/ 1054) عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه ". (منها) ما أخرجه البخاري رقم (6460)، ومسلم رقم (126/ 1055) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم ارزق آل محمد قوتا ". قوتا: ما يقوت الأبدان ويكف عن الحاجة والفاقة، وهذا الحديث حجة لمن قال: إن الكفاف - كما جاء في رواية أخرى - أفضل من الغنى والفقر، ووجه التمسك بهذا الحديث أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما يدعو لنفسه بأفضل الأحوال، وأيضا فإن الكفاف حالة متوسطة بين الغنى والفقر، فإن حالة صاحب الكفاف حالة الفقير؛ إذ لا يترفه في طيبات الدنيا، ولا في زهرتها، فكانت حاله إلى الفقر أقرب، فقد حصل له ما حصل للفقير من الثواب على الصبر، وكفي مرارته وآفاته. انظر: " المفهم " (7/ 130 - 132). ومنها ما أخرجه مسلم رقم (55/ 2858) عن المستورد أخي بني فهر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه - وأشار يحيى بالسبابة - في اليم، فلينظر بم يرجع؟ ". قال القرطبي في " المفهم " (7/ 125 - 126): وهذا مثل لحقارة الدنيا وقلتها، وهو نحو قوله تعالى: (قل متاع الدنيا قليل) [النساء: 77]، أي: كل شيء يتمتع به في الدنيا من أولها إلى آخرها قليل؛ إذ لا بقاء ولا صفو فيه، وهذا بالنسبة إلى نفسها، وأما بالنسبة إلى الآخرة فلا خطر ولا قدر للدنيا، وهذا هو المقصود بتمثيل هذا الحديث حيث قال: " فلينظر بماذا يرجع؟ "، ووجه هذا التمثيل أن القدر الذي يتعلق بالإصبع من ماء البحر لا قدر له ولا خطر، وكذلك الدنيا بالنسبة إلى الآخرة. ومنها ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2/ 2957) عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بالسوق داخلا من بعض العالية، والناس كنفته، فمر بجدي، أسك ميت، فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال: " أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ " فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: " أتحبون أنه لكم؟ " قالوا: والله لو كان حيا كان عيبا فيه؛ لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟ فقال: فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم ". جدي أسك: أصل السك: ضيق الصماخ، وقال الهروي في غريب الحديث (4/ 160): الاستكاك: الصم، استكت أسماعهم: صموا، وقال ثابت: السك: صغر الأذن مع لصوقها وقلة إشرافها. قال القرطبي في " المفهم " (7/ 108): وقوله: " والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم " الدنيا: وزنها (فعلى) وألفها للتأنيث، وهي الدنو بمعنى القرب، وهي صفة لموصوف محذوف، كما قال تعالى: (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) [آل عمران: 185]، غير أنه قد كثر استعمالها استعمال الأسماء، فاستغني عن موصوفها كما جاء في هذا الحديث. والمراد: الدار الدنيا أو الحياة الدنيا التي تقابلها الدار الأخرى أو الحياة الأخرى، ومعنى هوان الدنيا على الله: أن الله تعالى لم يجعلها مقصودة لنفسها، بل جعلها طريقا موصلة إلى ما هو المقصود لنفسه، وأنه لم يجعلها دار إقامة ولا جزاء، وإنما جعلها دار رحلة وبلاء، وأنه ملكها في الغالب الكفرة والجهال، وحماها الأنبياء والأولياء. . . وقد أوضح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا المعنى فقال: " لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء " - أخرجه ابن ماجه رقم 4110 - ، وحسبك بها هوانا أن الله قد صغرها وحقرها وذمها وأبغضها وأبغض أهلها ومحبيها، ولم يرض لعاقل فيها إلا بالتزود منها والتأهب للارتحال عنها. ومنها ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1465)، ومسلم في صحيحه رقم (123/ 1052) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جلس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المنبر وجلسنا حوله، فقال: " إن مما أخاف عليكم بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها ". من دلائل الزهد ومعناه: 1 - أن يكون العبد بما في يد الله أوثق منه بما في يد نفسه، وهذا ينشأ من صحة اليقين وقوته، وقال الفضيل بن عياض: " أصل الزهد الرضا عن الله عز وجل "، أخرجه البيهقي في " الزهد " رقم (78). 2 - أن يكون العبد إذا أصيب في دنياه من ذهاب مال أو ولد أو غير ذلك أرغب في ثواب ذلك مما ذهب منه من الدنيا أن يبقى له. وقد روي عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقول في دعائه: " اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ". أخرجه الترمذي رقم (3502)، وابن السني في " عمل اليوم والليلة " رقم (446)، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " رقم (401)، والحاكم في " المستدرك " (1/ 528)، وقال: حديث صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، وهو حديث حسن. 3 - أن يستوي عند العبد حامده وذامه في الحق، وهذه من علامات الزهد في الدنيا واحتقارها، وقلة الرغبة فيها، قال إبراهيم بن أدهم: " الزهد ثلاثة أصناف: زهد فرض، وزهد فضل، وزهد سلامة، فأما الزهد الفرض فالزهد في الحرام، والزهد الفضل الزهد في الحلال، والزهد السلامة الزهد في الشبهات ".

المفاد.

وهكذا إذا تدبر الإنسان المعاصي الشرعية التي ثبت النهي عنها فإنه يجدها لا محالة ناشئة عن حب الدنيا؛ إذ المعاصي بأسرها لا تكون إلا لمحبة المال، أو لمحبة الشرف، أو لقضاء شهوة جسمانية أو نفسانية، والمحبة لكل هذه أو لبعضها هي من محبة الدنيا بلا شك ولا شبهة. ومن أعظم ما يشهد لمعنى حديث: " حب الدنيا رأس كل خطيئة " (¬1) الأحاديث الواردة في ذم حب الشرف والمال كحديث: " ما ذئبان ضاريان " (¬2)، وهو حديث ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) ورد من حديث ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأسامة بن زيد وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم أجمعين. - أما حديث ابن عمر فقد أخرجه البزار (4/ 234 رقم 3608 - كشف) عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما ذئبان ضاريان في حظيرة يأكلان ويفسدان بأضر فيها من حب الشرف وحب المال في دين المرء المسلم ". قال البزار: لا نعلمه يروى عن ابن عمر إلا من هذا الوجه، وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 250)، وقال: " رواه البزار، وفيه قطبة بن العلاء وقد وثق، وبقية رجاله ثقات ". وأخرجه أبو نعيم في " الحلية " (7/ 89)، والقضاعي في " مسند الشهاب " (2/ 26 رقم 812)، والعقيلي في " الضعفاء " (3/ 487)، وابن حجر في " اللسان " (4/ 473 - 474). - وأما حديث ابن عباس فقد أخرجه الطبراني في " الأوسط " (1/ 470 رقم 855)، وفي " الكبير " (10/ 388 رقم 10779) عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما ذئبان ضاريان باتا في غنم بأفسد لها من حب ابن آدم الشرف والمال ". وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 250)، وقال: " رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عيسى بن ميمون، وهو ضعيف، وقد وثق "، ولم ينسبه الهيثمي للطبراني في " الكبير " كما هو شرطه. وأخرجه أبو نعيم في " الحلية " (3/ 220)، وقال: " هذا حديث غريب من حديث محمد بن كعب عن ابن عباس، لم نكتبه إلا من هذا الوجه ". - وأما حديث أبي هريرة فقد أخرجه أبو يعلى في " المسند " (11/ 331 رقم 609/ 6449) عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما ذئبان ضاريان جائعان في غنم افترقت، أحدهما في أولها، والآخر في آخرها، بأسرع فسادا من امرئ في دينه يحب شرف الدنيا ومالها ". وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 250)، وقال: " رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن عبد الملك بن زنجويه، وعبد الله بن محمد بن عقيل، وقد وثقا ". وأورده ابن حجر في " المطالب العالية " (3/ 207 رقم 3372)، وعزاه إلى أبي يعلى، وقال البوصيري: " رواه أبو يعلى والطبراني بإسناد جيد ". وأخرجه أبو نعيم في " الحلية " (7/ 89)، والقضاعي في " مسند الشهاب " (2/ 25 رقم 811) و (2/ 26 رقم 813)، والطبراني في " الأوسط " (1/ 432 رقم 776) من طريق آخر. - وأما حديث أسامة بن زيد فقد أخرجه الطبراني في " الصغير " (2/ 149 رقم 943 - الروض الداني)، وفي " الأوسط " والضياء في " المختارة "، كما في " تخريج أحاديث إحياء علوم الدين " (4/ 1886) عنه بلفظ: " ما ذئبان ضاريان باتا في حظيرة فيها غنم يفترسان ويأكلان بأسرع فسادا من طلب المال والشرف في دين المسلم ". - وأما حديث أبي سعيد الخدري فقد أخرجه الطبراني في " الأوسط " كما في " المجمع " (10/ 250) عنه بلفظ: " ما ذئبان ضاريان في زريبة غنم فيها فسادا من طلب المال والشرف في دين المسلم "، وفيه خالد بن يزيد العمري، وهو كذاب. والخلاصة أن الحديث صحيح بمجموع طرقه.

صحيح، وإذا قد ثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ذم حب الشرف والمال، والتنفير عنه، والتنويه بأنه مرجع المعاصي وأصل الخطايا، فهو مفيد لصحة معنى حديث: " حب الدنيا رأس كل خطيئة " (¬1)، والاختلاف في العموم [4] والخصوص لا يقدح في هذه [الإفادة] (¬2). وبالجملة فيغني عن هذا كله ما في كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه في ذم الدنيا، والتنفير منها، وإيضاح أنها ظل زائل، وأنها وإن كانت موجودة فهي بالعدم أشبه، وإن ظن ظان أن في متاعها نفعا فهو إلى الضر أقرب، فمن ذلك قوله عز وجل: {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} (¬3)، وقوله: {تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة} (¬4). وقوله: {إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد} (¬5). ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) في (ب): الأحاديث. (¬3) [آل عمران: 185]. (¬4) [الأنفال: 67]. (¬5) [الحديد: 20].

وقوله: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير} [3أ] {المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب} (¬1). وقوله تعالى: {زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا} (¬2). وقوله تعالى: {وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون} {أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين} (¬3). وقوله [تعالى (¬4)]: {بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى} (¬5). وقوله تعالى: {واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا} (¬6). وقوله [تعالى (¬7)]: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا} (¬8). وقوله تعالى: {وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين} ¬

(¬1) [آل عمران: 14]. (¬2) [البقرة: 212]. (¬3) [القصص: 60 - 61]. (¬4) زيادة من (ب). (¬5) [الأعلى: 16 - 17]. (¬6) [الكهف: 45]. (¬7) زيادة من (ب). (¬8) [الكهف: 46].

{يتقون أفلا تعقلون} (¬1). وقوله [تعالى (¬2)]: {وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع} (¬3). وقوله تعالى: {يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار} (¬4)، والآيات القرآنية [5] في هذا الباب كثيرة جدا، فالاستكثار منها تحصيل للحاصل، وليس المراد إلا الإشارة لما فيه تصحيح لمعنى حديث: " حب الدنيا رأس كل خطيئة ". البحث الثاني: في بيان ماهية الدنيا لغة وشرعا. فأما في اللغة فقد فسرها أئمة اللغة (¬5) في مؤلفاتها بأنها ضد الآخرة، وأنها صفة للدنو، وهو القرب، وضدها أيضًا القصوى، وهي البعيدة، ومنه: {إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى} (¬6)، أي: بالعدوة الدانية إليكم، وهم بالعدوة [3 ب] القاصية عنكم، فلما كانت الدنيا قريبة من أهلها بمعنى أنهم متلبسون بزمنها ومكانها ومتاعها قبل تلبسهم بالآخرة سميت دنيا، وأصلها دنوي بالواو كما صرح به أهل اللغة (¬7) والصرف، ¬

(¬1) [الأنعام: 32]. (¬2) زيادة من (ب). (¬3) [الرعد: 26]. (¬4) [غافر: 39]. (¬5) الدنو غير مهموز: مصدر دنا يدنو فهو دان، وسميت الدنيا لدنوها، ولأنها دنت وتأخرت الآخرة، وكذلك السماء الدنيا هي القربى إلينا، والنسبة إلى الدنيا دنياوي، " لسان العرب " (4/ 419). (¬6) [الأنفال: 42]. (¬7) " القاموس المحيط " (ص 1656).

ولهذا يقال في النسبة: دنياوي ودنيوي. وأما في الشرع فالآيات القرآنية تفيد تارة أنها مقابل الآخرة كما في قوله تعالى: {الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة} (¬1)، وقوله [تعالى (¬2)]: {وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع} (¬3)، وقوله [تعالى (¬4)]: {يا قوم إنما الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار} (¬5)، وقوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما} (¬6)، وقوله تعالى: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب} (¬7). وقوله تعالى: {وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون} (¬8) [6]، وقوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} (¬9). وقوله تعالى: {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا} ¬

(¬1) [إبراهيم: 3]. (¬2) زيادة من (أ). (¬3) [الرعد: 26]. (¬4) زيادة من (أ). (¬5) [غافر: 39]. (¬6) [الأحزاب: 28 - 29]. (¬7) [الشورى: 20]. (¬8) [الأنعام: 32]. (¬9) [إبراهيم: 27].

{حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} (¬1)، وقوله تعالى: {وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين} (¬2)، وقوله تعالى: {بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى} (¬3)، وقوله تعالى: {تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة} (¬4)، إلى غير ذلك من الآيات. ومن الآيات القرآنية ما يفيد [4 أ] أن الحياة الدنيا هي المتاع العاجل، والأفعال الصادرة من أهلها كقوله تعالى: {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} (¬5)، وقوله تعالى: {إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد} (¬6)، وقوله تعالى: {وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون} (¬7)، وقوله تعالى: {يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع} (¬8). ومن الآيات القرآنية ما يفيد أن المتاع العاجل والأفعال الصادرة هي غير الدنيا؛ وذلك لأنها تارة تضاف إلى الدنيا، وتارة تضاف إلى الحياة الدنيا، والمضاف غير المضاف إليه، فمن ذلك قوله تعالى: {تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة} (¬9). ¬

(¬1) [النحل: 41]. (¬2) [النحل: 122]. (¬3) [الأعلى: 16 - 17]. (¬4) [الأنفال: 67]. (¬5) [آل عمران: 185]. (¬6) [الحديد: 20]. (¬7) [الأنعام: 32]. (¬8) [غافر: 39]. (¬9) [الأنفال: 67].

وقوله تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا} (¬1)، فجعل هذه الأمور متاعا، وأضافه إلى الحياة الدنيا، فأفادت الإضافة أنه غيرها، وكذلك إضافة العرض إلى الدنيا، وكذلك قوله تعالى: {وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه} [7] {متاع الحياة الدنيا} (¬2). وقوله تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} (¬3)، وقوله تعالى: [و] (¬4) {قال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا} (¬5). وقوله تعالى: [قل] (¬6) {إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم} (¬7). وقوله تعالى: {يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا} (¬8). وقوله تعالى: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم} [4 ب] {إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا} (¬9)، وقوله تعالى: {ليس له دعوة في ............... ¬

(¬1) [آل عمران: 14]. (¬2) [القصص: 60 - 61]. (¬3) [الكهف: 46]. (¬4) زيادة من (أ). (¬5) [يونس: 88]. (¬6) زيادة من (أ). (¬7) [يونس: 69 - 70]. (¬8) [يونس: 23]. (¬9) [التوبة: 55].

{الدنيا} (¬1)، وقوله تعالى: {فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى} (¬2)، وقوله تعالى: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها} (¬3)، ومن الآيات القرآنية ما يفيد أن متاع الدنيا منها لا أنه هي، ولا هو غيرها، كقوله تعالى: {ولا تنس نصيبك من الدنيا} (¬4). وبالجملة فالآيات القرآنية في هذا المعنى كثيرة جدا يطول الاستقصاء لها، وكذلك الأحاديث النبوية فإنها واردة مورد هذه الآيات، وهكذا الأشعار العربية والتراكيب اللغوية. وهاهنا تحقيق يستفيد منه اللبيب ما لا ينكره فهمه، ولا يخالفه علمه، وبه يحصل الجمع بين جميع ما أشرنا إليه وذكرنا بعضه، وهو أنا نقول: إن هذا [الموجود (¬5)] الخارجي (¬6) المتشخص إما جسم أو هو جوهر أو عرض، والجسم إما أن يكون ناميا أو غير نام، [والنامي (¬7)] أن يكون حيوانا أو غير حيوان، وكل نوع من هذه الأنواع يختص باسم يتميز به عن الآخر كالتراب والماء والنار والهواء، ثم منها [8] ما هو بسيط، ومنها ما هو مركب مع غيره، والمراد من هذا التقسيم أن هذه الموجودات ¬

(¬1) [غافر: 43]. (¬2) [الأعراف: 169]. (¬3) [الشورى: 20]. (¬4) [القصص: 77]. (¬5) في (ب): الوجود. (¬6) انظر: " منهاج السنة " لابن تيمية (202، 205)، و" شرح الأصول الخمسة " ص 217، و" تلبيس الجهمية " (1/ 47). (¬7) في (ب): والثاني.

المشاهدة قد سميت بأسماء، ثم ما كان منها في جهة السفل [فهي] (¬1) الأرض، وما كان منها في جهة العلو فهو السماء، ولكل نوع من الأجسام والأعراض الكائنة في الحيزين اسم يخصه ويتميز به عن غيره، فهذه الموجودات الخارجية هي بالنسبة إلى الموجودات التي ستكون في الآخرة دنيا؛ لأنها دنت منا، أي: قربت، وتلك أخرى [5 أ] لأنها تأخرت عنا، أي: بعدت، وهكذا ما يوجد من المأكولات والمشروبات والملبوسات وسائر ما يستمتع [به] (¬2) في هذه الدار يقال له: دنيا؛ لأنها دنت ودنا الانتفاع بها بالنسبة إلى المأكولات والمشروبات [والملبوسات] (¬3) ونحوها التي ستكون في الدار الآخرة؛ لأن هذه لما كانت قريبة وتلك بعيدة كانت هذه دنيا وتلك أخرى، وهكذا الحياة الكائنة في هذه الدار فإنها دنيا لدنوها بالنسبة إلى الحياة الكائنة في الآخرة، ولهذا وصفها الله سبحانه بالحياة الدنيا أي: القريبة، وهكذا الأزمان والأكوان الكائنة في هذه الدار، فإنها دنيا لأنها دنت [بالنسبة] (¬4) إلى الأكوان [والأزمان] (¬5) الكائنة في الآخرة. إذا عرفت هذا فقد تطلق هذه الصفة - أعني الدنيا - على جميع هذه الأشياء، وذلك إذا قوبلت بالآخرة كما قدمنا تحقيقه [9]، وقد تطلق هذه الصفة على بعض هذه المذكورات كالحياة الدنيا، وقد يضاف بعض هذه المذكورات إلى الدنيا كمتاع الدنيا من باب إضافة الشيء إلى أصله أو إلى جنسه كخاتم حديد ورطل زيت ورجل القوم، ومن ذلك: " الدنيا ملعونة، وملعون ما فيها " (¬6)، فإنه أطلقها على بعض ما تطلق عليه، وجعل البعض الآخر كالمغاير لها من جهة كونه مظروفا لها، والظرف غير المظروف، ¬

(¬1) في (ب): فهو. (¬2) زيادة من (ب). (¬3) زيادة من (ب). (¬4) زيادة من (أ). (¬5) في (ب): الأزمنة. (¬6) تقدم تخريجه، وهو حديث حسن.

مع أنه يصدق على الأشياء المظروفة أنها دنيا كما تقدم، فمعنى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " حب الدنيا رأس كل خطيئة " (¬1) أن حب هذه الأشياء التي هي دانية إلينا رأس كل خطيئة؛ إذ لا يوجد ذنب من الذنوب ولا خطيئة من الخطايا إلا وهي راجعة إلى حب هذه الأشياء [5 ب]. فإن من جملة الدنيا الشهوات الجسمية والنفسية، فإنها بالنسبة إلى شهوات الآخرة دنيا، فكل مستلذ للحواس والأعضاء فهو دنيا لقربه منا وبعد مستلذات الحواس والأعضاء الكائنة في الآخرة عنا. ومن جملة الدنيا الأفعال والأقوال الكائنة في هذه الدار، فإنها بالنسبة إلى الأفعال والأقوال الكائنة في الآخرة دنيا، وليس من حق الدنيا أن تكون جميعها شرا محضا، بل فيها ما هو خير كالأفعال والأقوال التي هي طاعات وعبادات، وإليها يتوجه ما ورد في مدح الدنيا كحديث: " لا تسبوا الدنيا، فإنها مطية الآخرة " (¬2)، وفي لفظ: " مزرعة الآخرة " (¬3) [10]، وحديث .................... ¬

(¬1) تقدم تخريجه، وهو حديث موضوع. (¬2) أخرجه ابن عدي في " الكامل " (1/ 304) من طريق إسماعيل بن أبان الغنوي: ثنا السري بن إسماعيل، عن عامر، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تسبوا الدنيا، فنعم مطية المؤمن، عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشر ". وفيه إسماعيل بن أبان الغنوي الكوفي، قال عنه يحيى بن معين: كذاب، وقال عنه ابن عدي: عامتها - أي: رواياته - مما لا يتابع عليه إما إسنادا وإما متنا، فهو حديث ضعيف جدا. وأورده صاحب " الكنز " (3/ 239 رقم 6343)، وعزاه للديلمي وابن النجار عن ابن مسعود، ولفظه: " لا تسبوا الدنيا، فلنعم المطية للمؤمن، عليها يبلغ الخير، وعليها ينجو من الشر ". وأورده الديلمي في " الفردوس " (5/ 10 رقم 7288) من حديث ابن مسعود، ولفظه: " لا تسبوا الدنيا، فنعم مطية المؤمن هي، عليها تبلغه الجنة، وبها ينجو من النار ". (¬3) قال العجلوني في " كشف الخفاء " رقم (1320): لم أقف عليه مع إيراد الغزالي له في " الإحياء "، وفي " الفردوس " رقم (3102) بلا سند عن ابن عمر مرفوعا: " الدنيا قنطرة الآخرة، فاعبروها ولا تعمروها ". والعقيلي في " الضعفاء " (3/ 89)، والحاكم في " المستدرك " (4/ 312)، وصححه الحاكم، لكن تعقبه الذهبي بأنه منكر، قال: وعبد الجبار لا يعرف. وانظر: " الأسرار المرفوعة " (205)، و" المقاصد " (497)، " الشذرة في الأحاديث المشتهرة " (1/ 298 رقم 437).

" الدنيا ملعونة [و (¬1)] ملعون ما فيها إلا ذكر الله أو عالم أو متعلم " (¬2)، وبهذا التقرير يتضح الصواب، وينكشف عن وجه السؤال كل جلباب. البحث الثالث: في جواب ما أورده السائل [كثر الله فوائده] (¬3) من الوجوه فقال: الوجه الأول: كيف تكون الدنيا أصل الخطايا مع أن حبها أمر جبلي؟ فنقول: [إن] (¬4) الأمر الجبلي هو محبة الحياة، وما لا يمكن حفظها إلا به، وأما محبة التكاثر المفضي إلى التكالب على الدنيا، وكذلك محبة الشرف والرياسة والعلو والظفر من كل شيء بأحسنه، فهذا إنما هو [في] (¬5) جبلة الطبائع الشيطانية لا الطبائع الإنسانية، فإذا كان الشخص مفتونا بحب شيء من ذلك فهو الذي أرخى عنان نفسه حتى تفلتت ¬

(¬1) زيادة من (أ). (¬2) تقدم، وهو حديث حسن. قال القرطبي في " المفهم " (7/ 109): ووجه الجمع بينهما أن المباح لعنه من الدنيا ما كان منها مبعدا عن الله وشاغلا عنه، كما قال بعض السلف: كل ما شغلك عن الله تعالى من مال وولد فهو عليك مشئوم، وهو الذي نبه الله على ذمه بقوله تعالى: (أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد) [الحديد: 20]، وأما ما كان من الدنيا يقرب إلى الله تعالى ويعين على عبادة الله تعالى فهو المحمود بكل لسان، والمحبوب لكل إنسان، فمثل هذا لا يسب، بل يرغب فيه ويحب، وإليه الإشارة بالاستثناء حيث قال: " إلا ذكر الله، وما والاه، أو عالم، أو متعلم "، وهو المصرح به في قوله: " فإنها نعمت مطية المؤمن، عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشر ". (¬3) زيادة من (أ). (¬4) زيادة من (أ). (¬5) زيادة من (أ).

عليه في شعاب الأماني وهضاب التسويف؛ فصار مقهورًا بتفريطه، مستعبدا بترخيصه، ولو زجرها بزواجر التقوى، وربطها برباط القنوع، وضربها بعصا الزهد، لكان قاهرا لها لا مقهورا بها، وحاكما عليها لا محكوما عليه منها. وفي هذا العالم الإنساني من صلحاء العباد من هو لما ذكرناه شاهد صدق، وهذا يجده كل عاقل من نفسه، فإنه إذا استرسل في شهوة من الشهوات، أو خلى بين نفسه وبين لذة من اللذات، وجد من نفسه ميلا إليها ورغوبا فيها لم يكن قد وجده قبل ذلك. على أنه لو قال قائل: إن حب ما لا تتم الحياة إلا به في هذه الدنيا [6 أ] ليس هو أمرا [11] جبليا، بل هو أمر دعت إليه الضرورة، فإن الحياة ما دامت لا بد لصاحبها من تناول ما يسد به رمقه، ويدفع به جوعته، ويزيل به ضرورته، وهذا أمر دعت إليه الضرورة؛ لأنه محبوب حبا جبليا، فإنه لو كان كذلك لم يعف الإنسان شيئا من ذلك، مع أنه إذا تناول ما يكفيه من طعام أو شراب أو نكاح لم يكن ذلك محبوبا إليه في تلك الحال، فتناول ما دعت إليه الضرورة من الدنيا مما هو سائغ، وليس بقبيح عقلا، ولا شرعا، لو فرضنا أنه من حب الدنيا لا من ضرورة الحاجة إليه لكان مأذونا فيه بالأدلة الثابتة في الكتاب (¬1) والسنة (¬2) القاضية بأن ذلك مأذون فيه، فيكون الحب الذي هو رأس كل خطيئة ما زاد على ذلك. فحاصل هذا الجواب هو أنا نمنع أن يكون الإنسان مجبولا على محبة شيء من الدنيا، ¬

(¬1) منها قوله تعالى: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) [القصص: 77]. (¬2) منها ما أخرجه النسائي (7/ 61 رقم 3939)، وأحمد (3/ 128، 199، 285)، والحاكم في " المستدرك " (2/ 160)، والبيهقي في " السنن الكبرى " (7/ 78) من طرق: عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حبب إلي من الدنيا النساء والطيب، وجعل قرة عيني في الصلاة "، وهو حديث صحيح.

وما توجبه الضرورة من سد الجوعة ونقع الغلة ليس من المحبة في شيء، بل ذلك أمر أوجبته الضرورة، ولو سلمنا أن هذا القدر الذي تدعو إليه الضرورة متلازم هو والمحبة لم يرد الاعتراض بذلك، فإن الشارع قد أذن فيه، وإنما الممنوع المذموم ما تتسبب عنه الخطايا، وهو ما زاد على ذلك. البحث الرابع: في جواب ما أورده السائل [عافاه الله] (¬1) من قوله: ما المراد بالدنيا؟ إن قال: المراد بها متاعها. . . إلى آخر ما ذكره. ونقول: الجواب على هذا قد أسلفناه في البحث الثاني مستكملا مطولا [12] على وجه لا يبقى بعده إشكال، فلا نطول بإعادته، بل يرجع السائل إليه ليندفع ما أورده. البحث الخامس: في الجواب عن قول السائل [كثر الله فوائده] (¬2) أن تحريم المسبب لا يستلزم (¬3) تحريم السبب، إلى آخر كلامه. لعله يريد [6 ب] أن الخطايا المتسببة عن حب الدنيا وإن كانت محرمة فإن ذلك لا يستلزم تحريم حب الدنيا الذي هو السبب، وهذا الكلام إنما [يرد] (¬4) لو قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: حب الدنيا حرام لأنه رأس كل خطيئة، ولم يقل هكذا، بل قال: " حب الدنيا رأس كل خطيئة " (¬5)، ولم يذكر حكم الحب، فكان الأنسب بسياق السؤال أن يسأل السائل [عافاه الله] (¬6): هل الحب حلال أم حرام؟ إن قيل: إنه حرام لكونه سببا للخطايا فتحريم المسبب لا يستلزم تحريم السبب، وهذا البحث يعود إلى الكلام على وسائل الحرام، هل هي حرام أم لا؟ والخلاف في ذلك مشهور معروف. ¬

(¬1) زيادة من (أ). (¬2) زيادة من (أ). (¬3) انظر: " الكوكب المنير " (1/ 450 - 451)، " المدخل إلى مذهب أحمد " (ص 67). (¬4) في (ب): يراد. (¬5) تقدم، وهو حديث موضوع. (¬6) زيادة من (أ).

وأما قوله: [كما] (¬1) لو تسبب عن السمر خروج وقت صلاة الضحى فإنه لا يقضي بتحريم ذلك السبب. فهذا التمثيل غير مطابق لما هو مثال له، فإن كلامه في [أن] (¬2) تحريم المسبب لا يستلزم تحريم السبب، وهذا المسبب - أعني خروج وقت الضحى - ليس من المسببات المحرمة حتى يقال: لا يستلزم تحريمه تحريم سببه، فإن فوات صلاة الضحى ليس من المحرمات، والأولى التمثيل بسبب يفضي إلى [مسبب] (¬3) محرم كالاستمتاع [13] بمكان من بدن الحائض، هو حول فرجها، وكان المستمتع لا يملك إربه، بل يتدرج من الحلال إلى الحرام، ولولا التلبس بهذا السبب وهو الاستمتاع بما هو حول الحمى لم يقع في الحمى، فهذا يصلح للتمثيل به للوسائل إلى الحرام. وقد صح حديث: " الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، والمؤمنون وقافون عند الشبهات، فمن تركها فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه " (¬4)، والأمثلة للوسائل إلى الحرام كثيرة جدا يمكن إيراد صور منها في كل باب من أبواب العبادات والديانات والمعاملات. وأما قوله [كثر الله فوائده] (¬5): فما بقي إلا تحريم حب الحياة وقبحها. فيقال: وأي دليل دل على تحريم حب الحياة؟ إن كان [7 أ] لكونه وسيلة إلى الخطايا فهذا محل الخلاف في الوسائل، وإن كان من حديث: " حب الدنيا رأس كل خطيئة " ¬

(¬1) زيادة من (ب). (¬2) زيادة من (أ). (¬3) في (ب): سبب. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (52)، ومسلم رقم (2051)، والترمذي رقم (1205)، وقال: حديث حسن صحيح. والنسائي (7/ 241، 4453)، وابن ماجه رقم (3984)، وغيرهم من طرق وبألفاظ متقاربة من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. (¬5) زيادة من (أ).

فليس ما يفيد تحريم الحب، اللهم إلا أن يقال: إن الحب للدنيا لما كان رأسا للخطايا، والرأس جزء من الذات، بل هو أعظم أجزائها، كان هذا الحب جزءا من الخطيئة التي هي المعصية، والخطيئة حرام، فجزؤها حرام. ثم حمل الدنيا في قوله: " حب الدنيا رأس كل خطيئة " (¬1) على حب الحياة هو تخصيص بلا مخصص، أو تقييد بلا مقيد، فإنك قد عرفت مسمى الدنيا لغة وشرعا بما حررناه سابقا، ثم حب الحياة وطول العمر قد كان من مقاصد جماعة من الأنبياء، وجمهور من الصلحاء والعلماء، وهو كما يكون وسيلة للشر لأهل العصيان يكون وسيلة للخير لأهل الطاعات، وهو إن كان [14] من الدنيا كما قررناه سابقا لكن الخطر فيه دون الخطر في حب ما هو من الدنيا كالمال والبنين والشهوات والشرف. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية ... والله ولي التوفيق. [حرر في أوائل ليلة الخميس، لعله ثاني شهر جمادى الآخرة سنة 1217 هـ، بقلم مؤلفه الحقير محمد بن علي الشوكاني غفر الله ذنوبه، وستر عيوبه] (¬2). [والحمد لله أولا وآخرًا، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه وسلم، بلغ مقابلته على الأم] (¬3). ¬

(¬1) تقدم تخريجه، وهو حديث موضوع. (¬2) زيادة من (أ). (¬3) زيادة من (ب).

سؤال عن معنى بني الإسلام على خمسة أركان وما يترتب عليه

(47) 11/ 5 سؤال عن معنى بني الإسلام على خمسة أركان وما يترتب عليه تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط (أ): 1 - عنوان الرسالة: (سؤال عن معنى " بني الإسلام على خمسة أركان " وما يترتب عليه). 2 - موضوع الرسالة: في " الحديث ". 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، هذا سؤال من الحقير عبد الله بن محمد الكبسي إلى مولانا المالك الندي العلامة شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني، حفظه الله، وبارك لنا في إمامته. . . 4 - آخر الرسالة:. . . فهؤلاء فرطوا فيما أوجب الله عليهم من التعليم، كما فرط الجاهلون فيما أوجب الله عليهم من التعلم، وفي هذا المقدار كفاية والحمد لله أولا وآخرا. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - عدد الصفحات: (6) صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: (25 - 28) سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: (9 - 11) كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الخامس من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

وصف المخطوط (ب): 1 - عنوان الرسالة: سؤال عن معنى بني الإسلام على خمسة أركان وما يترتب عليه. 2 - موضوع الرسالة: في " الحديث ". 3 - أول الرسالة: سؤال عن معنى بني الإسلام على خمسة أركان وما يترتب عليه، وما المراد في بناء الإسلام على خمسة أركان؟ هل يصير له حكم البناء القائم؟ 4 - آخر الرسالة: كما فرط الجاهلون فيما أوجب الله عليهم من التعلم، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والحمد لله أولا وآخرًا، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: (4) صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: (22 - 28) سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: (12 - 13) كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الخامس من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

[سؤال: عن معنى بني الإسلام على خمسة أركان وما يترتب عليه، وما المراد في بني الإسلام على خمسة أركان؟ هل يصير له حكم البناء القائم على أركان إذا اختل البعض منها اختل الأصل؟ فإذا كان هذا المراد فأصل الإسلام كلمة التوحيد المحتوية على النفي والإثبات، فهل لا بد لكل مكلف من معرفة قول لا إله إلا الله واستحضار هذا المعنى والموجب لهذا الاستشكال إنما ينبعث أشياء: منها ما صار خلقا وعادة عند تشييع الجنازة، فتنطلق طائفة بالنفي وتقتصر عليه، وطائفة بالاستثناء فقط، ثم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، فهل يكون ذلك في سائر الأركان كالصلاة والزكاة والحج؟ فما حكم من تركها؟ وهل يثبت حكم الإسلام لمن أتى بالبعض منها؟ هذا حاصل السؤال] (¬1). ¬

(¬1) هذا نص السؤال من (ب).

[بسم الله الرحمن الرحيم] الحمد لله رب العالمين، هذا سؤال من الحقير عبد الله بن محمد الكبسي إلى مولانا المالك البدر العلامة شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني حفظه الله وبارك لنا في إمامته، والسؤال هو عن معنى حديث بني (¬1) الإسلام على خمسة أركان (¬2) وما يترتب عليه، وما المراد من بناء الإسلام على خمسة؟ هل يصير له حكم البناء القائم على أركان إذا اختل (¬3) البعض منها اختل أصل البناء، فإذا كان هذا هو المراد فأصل الإسلام وأساسه كلمة التوحيد المحتوية على النفي والإثبات، فالمنفي كل فرد من أفراد حقيقة الإله غير مولانا جل وعلا، ولا ثبت في تلك الحقيقة فرد واحد وهو مولانا جل وعلا، فلا توجد تلك الحقيقة ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (8)، ومسلم رقم (16)، والنسائي (8/ 107 رقم 5001)، والترمذي (5/ 5 رقم 2736). (¬2) الأركان في اللغة: جمع ركن، وهو: أحد الجوانب التي يستند إليها الشيء ويقوم بها، وهو جزء من أجزاء حقيقة الشيء، يقال: ركن الصلاة وركن الوضوء، " المعجم الوسيط " (1/ 372). والركن في الاصطلاح: " ما يقوم به ذلك الشيء، من التقوم؛ إذ قوام الشيء بركنه، لا من القيام "، " التعريفات للجرجاني " (ص 117). وقيل: الركن - بضم أوله وسكون ثانيه -: ج أركان وأركن، الجانب القوي من الشيء، والركن: ما لا يقوم الشيء إلا به، ومنه أركان الصلاة، " معجم لغة الفقهاء " (ص 226). (¬3) قال القاضي عياض في " الإيمان من إكمال العلم ": فهي دعائم الإسلام، فمن جحد واحدة منها كفر، ومن ترك واحدة منها لغير عذر وامتنع من فعلها مع إقراره بوجوبها قتل عندنا وعند الكافة، وأخذت الزكاة من الممتنع كرها، وقوتل إن امتنع، إلا الحج لكونه على التراخي. وقيل: قتل من ترك الفرائض مع الإقرار بوجوبها إنما يكون بعد الاستتابة، قال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه وجماعة من أهل الكوفة والمزني صاحب الشافعي: " لا يقتل، بل يعزر ويحبس حتى يصلي "، انظر: " مجموع الفتاوى " (7/ 259، 610)، " المنهاج " (1/ 212، 2/ 70).

لغيره، فهذا التركيب الشريف في قولنا: لا إله إلا الله هو نفي الإلهية عن كل شيء، وأنها نهايته، فهل لا بد لكل مكلف من معرفة قولنا لا إله إلا الله، واستحضار هذا المعنى عند التلفظ بها أصلاً والموجب لهذا الاستشكال أني تتبعت أشياء، منها ما صار خلقا وعادة عند تشييع الجنائز من التهليل، فتنطق طائفة بالنفي وتقتصر عليه، والطائفة الأخرى تنطق بالاستثناء فقط، وأنكرت ذلك أنا وغيري مرارا، ولا أحد فهم وجه الإنكار، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " (¬1). ومن حقها فيهم اشتملت عليه [1 ب]، وإذا كان الأمر في هذا الركن المشتمل على التوحيد على هذه الصفة فهل يكون ذلك في سائر الأركان (¬2)، فالصلاة الواجبة أو ما لا تصح إلا به قطعا لا يتم الإسلام إلا بها، فما حكم من تركها مستمرا، أو في بعض الأحيان، أو ترك ما لا يتم إلا به قطعا، وكذلك الزكاة والصوم والحج؟ فهل يثبت حكم الإسلام لمن ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (1399، 6924 و7284 و7285)، ومسلم في صحيحه رقم (32/ 20)، وأبو داود رقم (1556)، والنسائي (5/ 14 - 15)، والترمذي رقم (2607)، وقال: حديث حسن صحيح، وأحمد (2/ 423، 528) من حديث أبي هريرة. (¬2) فرق بعض أهل العلم بين الفرائض في مسألة القتل حدا أو كفرًا لمن أقر بوجوبها ولم يأت بها: 1 - إنه يقتل كفرًا لا حدًا بترك واحدة من الأربع حتى الحج إذا عزم على تركه بالكلية، وهو قول طائفة من السلف، وإحدى الروايات عن أحمد، ونصره شيخ الإسلام ابن تيمية. 2 - إنه يقتل حدا لا كفرًا، وهو المشهور عند كثير من السلف، وكثير من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي، وإحدى الروايات عن أحمد، وصححه النووي وغيره. 3 - إنه يقتل كفرًا لا حدا بترك الصلاة دون غيرها، هو رواية عن أحمد، وقال به كثير من السلف وبعض المالكية والشافعية. 4 - إنه يقتل كفرًا لا حدا بترك الصلاة والزكاة دون غيرهما. 5 - إنه يقتل كفرًا لا حدا بترك الصلاة، وبترك الزكاة إذا قاتل الإمام عليها، دون ترك الصوم والحج، وانظر: " مجموع الفتاوى " (7/ 258، 259، 302)، المجموع (3/ 13 - 17).

أتى بالبعض وترك البعض الآخر؟ فمن تفضلاتكم وعميم إحسانكم الإفادة على كل واحد من الخمسة الأركان، وفيمن أتى بالأكثر منها وترك الأقل، مثل أن يأتي بالصلاة والصوم والحج ويقول الشهادة ويترك الزكاة مثل ثعلبة (¬1) بن حاطب، أو تساهل بالصلاة وأتى بالأركان الأخرى، وهل يستوي التارك لركن واحد هو والتارك للجميع أصلا؟ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (¬2). [ويتلو ذلك جواب مولانا العلامة البدر شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني كثر الله فوائده، وبارك للكافة في أوقاته آمين، بما لفظه:] (¬3) ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره " جامع البيان " (6 ج 10/ 189)، والبغوي في تفسيره (3/ 124)، والسيوطي في " الدر المنثور " (3/ 261)، وابن كثير في تفسيره (4/ 184 - 185). وفي القصة: " أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري قال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه "، وذكر الحديث بطوله في دعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له وكثرة ماله ومنعه الصدقة، ونزول قوله تعالى: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله. . . .) [التوبة: 75]. تنبيه: قال ابن حزم في " المحلى " (11/ 207 - 208): " على أنه قد روينا أثرًا لا يصح، وأنها نزلت في ثعلبة بن حاطب، وهذا باطل لأن ثعلبة بدري معروف، ثم ساق الحديث بإسناده من طريق معان بن رفاعة عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة، وقال: " وهذا باطل لا شك لأن الله أمر بقبض زكوات أموال المسلمين، وأمر عليه السلام عند موته ألا يبقى في جزيرة العرب دينان، فلا يخلو ثعلبة من أن يكون مسلمًا ففرض على أبي بكر وعمر قبض زكاته، ولا بد، ولا فسحة في ذلك، وإن كان كافرًا ففرض ألا يبقى في جزيرة العرب، فسقط هذا الأثر بلا شك. وفي رواته معان بن رفاعة، والقاسم بن عبد الرحمن، وعلي بن يزيد - هو ابن عبد الملك -، وكلهم ضعفاء، وللشيخ " عذاب الحمش " رسالة في نقد هذه القصة جمع فيها أقوال أهل العلم سماها " ثعلبة بن حاطب الصحابي المفترى عليه "، وانظر: " الإصابة " (1/ 516 - 517 رقم 931)، " الثقات " (3/ 46). (¬2) هذا نص السؤال في (أ). (¬3) زيادة من (أ).

بسم الله الرحمن الرحيم معنى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: بني الإسلام على خمسة أركان أن هذه الخمسة هو التي عليها عمدة الإسلام، لا يتم إلا باجتماعها، فهو من باب الاستعارة تشبيها للأمر المعنوي وهو الإسلام بالأمر الحقيقي الموجود في الخارج وهو الشيء المبني، فكما أن الأبنية الموجودة في الخارج لا تتم إلا بما لا بد منه [2 أ] كذلك الإسلام لا يتم إلا بهذه الأمور الخمسة، وقد أشار إلى هذا المعنى الحقيقي الشاعر بقوله: والبيت لا ينبني إلا بأعمدة ... ولا عمود إذا لم ترس أوتاد وقد أشار إلى معنى هذا الحديث ما صح عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ في الصحيحين (¬1) وغيرهما من طرق أنه لما سئل عن الإسلام فقال: " أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم [1] رمضان، وتحج البيت "، فأخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أن ماهية الإسلام هي هذه الخمسة، ومما يؤيد أنه لا يتم الإسلام إلا بالقيام بهذه الأركان ما ثبت عنه [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ] (¬2) من الحكم بكفر من ترك أحدهما كما في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة " (¬3)، ومثل قوله تعالى: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} (¬4)، ومثل ما صح عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ في الصحيحين (¬5) ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (50)، ومسلم في صحيحه رقم (5/ 9) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (1/ 8) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (¬2) زيادة من (ب). (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (82)، وأحمد (3/ 389)، وأبو داود رقم (4678)، والترمذي رقم (2620)، وابن ماجه رقم (1078) من حديث جابر، وهو حديث صحيح. (¬4) [آل عمران: 97]. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (25)، ومسلم في صحيحه رقم (36/ 22) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

وغيرهما من طرق أنه قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويصوموا رمضان، ويحجوا البيت "، ثم عقب (¬1)، ذلك بأن من جاء بهذه فقد عصم ماله ودمه، فأفاد ذلك أن دم من لم يقم بهذه غير معصوم، وكذلك ماله، ولا يكون ذلك إلا لعدم خروجه من دائرة الكفر إلى دائرة الإسلام [إلا بها] (¬2) [2 ب]، وكذلك أجمع الصحابة [رضي الله عنهم] (¬3) على قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة) (¬4)، فقاتل هو والصحابة رضي الله عنهم المانعين من الزكاة وحدها، وحكموا عليهم بالردة، وسموا قتالهم قتال أهل الردة وأما ما [ذكر] (¬5) السائل عافاه الله من أنه [هل] (¬6) يجب تصور معنى لا إله إلا الله؟ فهذا التركيب يفهمه كل عربي لا يخفى على أحد كما يفهم معنى قول القائل: ما في الدار إلا زيد، وما جاءني إلا عمرو، وهذا يكفي في القيام بكلمة الشهادة التي هي مفتاح باب دار الإسلام وأعظم ركن من أركانه، وإذا قالها الكافر وجب الكف عنه حتى يشرح الله صدره للإسلام، فيقوم ببقية الأركان، ولهذا ثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه قال لأسامة بن زيد رضي الله عنه لما قتل كافرا بعد أن قال: لا إله إلا الله، واعتذر بأنه قالها تعوذا من القتل، فقال له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟ "، ثم كرر عليه ذلك حتى تمنى أسامة [رضي الله عنه] (¬7) ما تمناه، وفي قصة أخرى أنه قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " ما أمرت أن أفتش عن قلوب الناس " (¬8) أو ¬

(¬1) أي: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث:. . . فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله ". (¬2) زيادة من (أ). (¬3) زيادة من (ب). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1399) و (1400)، ومسلم في صحيحه رقم (32/ 20) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬5) في (ب): ذكره. (¬6) زيادة من (أ). (¬7) زيادة من (أ). (¬8) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (158/ 96) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه.

كما قال. وأما ما ذكره السائل [عافاه الله] (¬1) من أنه قد يقول بعض من يحمل الجنازة بالنفي فقط ثم يجيبه الآخر بالإثبات، فلا يخفى [2] أن هؤلاء لهم عذر واضح، وهو أنهم قد جعلوا أنفسهم بمنزلة الشخص الواحد، فكأن مجموع النفي والإثبات [قائم] (¬2) بكل واحد منهم، وهم لا يريدون غير هذا، ولو قيل للنافي: كيف قلت: لا إله فقط، فإن ذلك يستلزم نفي إلهية الرب سبحانه؟ لقال: لم أرد هذا [3 أ]، بل أردت أنه الإله وحده اكتفاء بالاستثناء الواقع من الآخرين، فهذا اللفظ وإن كان مستنكرا (¬3) وبدعة، ولكنه لا يستلزم ما فهمه السائل، والعمدة على ضمائر القلوب ومقاصد النفوس، ومثل هذا في الابتداع ما يلهج به كثير من المتصوفين (¬4) في أنه يهمل اللفظ الدال على النفي، ويقتصر على اللفظ الدال على الاستثناء تحرجا منه عن مدلول [بلفظ] (¬5) النفي الشامل، وهو جهل منه، فإن الكلام بتمامه ¬

(¬1) زيادة من (أ). (¬2) في (أ): قام. (¬3) قال النووي في " الأذكار " (ص 203): واعلم أن الصواب والمختار وما كان عليه السلف رضي الله عنهم السكوت في حال السير مع الجنازة، فلا يرفع صوت بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك، والحكمة فيه ظاهرة، وهي أنه أسكن لخاطره وأجمع لفكره فيما يتعلق بالجنازة، وهو المطلوب في هذا الحال، فهذا هو الحق، ولا تغتر بكثرة من يخالفه، فقد قال أبو علي الفضيل بن عياض رضي الله عنه ما معناه: " الزم طرق الهدى، ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين ". وقد صدر عن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء السؤال الرابع من " الفتوى " رقم (7582): سؤال: هل يصح تشييع الجنازة مع التهليل والأذان بعد وضعه في اللحد؟ جواب: لم يثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه شيع جنازة مع التهليل ولا الأذان بعد وضع الميت في لحده، ولا ثبت ذلك عن أصحابه رضي الله عنهم فيما نعلم، فكان بدعة محدثة، وهي مردودة لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " أخرجه البخاري رقم (2697)، ومسلم رقم (1718). (¬4) انظر: البدع والمحدثات وما لا أصل له (ص 359 - 360)، " أحكام الجنائز وبدعها " للألباني (ص 92). (¬5) زيادة من (ب).

[و] (¬1) لا يتم إلا بمجموع النفي والإثبات، وهو شأن كل استثناء (¬2) متصل، ومع هذا فتعليم الشارع لأمته أن يقولوا: لا إله إلا الله، يدحض كل شبهة، ويرفع كل جهل، وقد جاء بذلك القرآن الكريم في غير موضع، فهذا المتصوف الجاهل تحرج عن تعليم الله [عز وجل] (¬3) ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وظن بجهله أنه قد جاء بما هو أولى من ذلك، مع أنه جاء بكلام غير مفيد وتركيب ناقص، وليس بمعذور كما عذر الجماعة الذي يقول أحدهم بالنفي والآخر بالإثبات؛ لأن أولئك قد نزلوا أنفسهم منزلة الشخص الواحد وأما قول السائل: فهل يكون ذلك في سائر الأركان ... إلخ؟ فنقول: نعم لا بد أن يأتي بكل واحد منها على الصفة المجزية التي لا اختلال فيها، باعتبار ما هو الواجب الذي لا تتم الصورة الشرعية إلا به، فإن انتقض من ذلك ما يخرج [ما] (¬4) جاء به عن الصورة الشرعية [3 ب] فهو بمنزلة من ترك ذلك من الأصل، لكنه إذا كان ذلك لجهله بالوجوب عليه وترك التعلم لما يلزمه فهو من هذه الحيثية [أثم بترك] (¬5) واجب التعلم [3] معذور بالجهل، فلا يكون كمن ترك عالما عامدا؛ لأن جهله بوجوب التعلم مع ظنه بأن الذي افترضه الله عليه هو ما فعله على تلك الصورة الناقصة يدفع عنه معرة الكفر، ولا يدفع عنه معرة الإثم، وقد ثبت أن بعض أهل الكفر تكلم بكلمة (¬6) الشهادة، ¬

(¬1) زيادة من (أ). (¬2) وانظر: " الكوكب المنير " (3/ 331)، " نهاية السول " (2/ 124). (¬3) زيادة من (أ). (¬4) في (ب): عما. (¬5) في (أ): أنه ترك. (¬6) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2808) من حديث البراء رضي الله عنه يقول: " أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل مقنع بالحديد فقال: يا رسول الله أقاتل أو أسلم؟ قال: أسلم ثم قاتل، فأسلم ثم قاتل فقتل، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عمل قليلا وأجر كثيرًا ". وقال الحافظ في " الفتح " (6/ 25): " أخرج ابن إسحاق في المغازي قصة عمرو بن ثابت بإسناد صحيح عن أبي هريرة أنه كان يقول: أخبروني عن رجل دخل الجنة لم يصل صلاة؟ ثم يقول: هو عمرو بن ثابت، قال ابن إسحاق: قال الحصين بن محمد: قلت لمحمود بن لبيد: كيف كانت قصته؟ قال: كان يأبى الإسلام، فلما كان يوم أحد بدا له فأخذ سيفه حتى أتى القوم فدخل في عرض الناس، فقاتل حتى وقع جريحًا، فوجده قومه في المعركة فقالوا: ما جاء بك؟ أشفقة على قومك أم رغبة في الإسلام؟ قال: بل رغبة في الإسلام، قاتلت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أصابني ما أصابني، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنه من أهل الجنة ".

ثم عرض الجهاد فجاهد وقتل، فأخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بأن الله [تعالى] (¬1) أدخله الجنة ولم يصل ركعة، فجعل اشتغال هذا بواجب الجهاد عذرا، والجاهل لو علم أن صلاته الواجبة لا تتم بالصلاة التي جاء بها على الصورة الناقصة لجاء بالصورة التامة، وبادر إلى تعلمها، لكن اجتمع تفريط أهل الجهل [عن] (¬2) التعلم، وتفريط أهل العلم عن التعليم، فاشتركت الطائفتان في الإثم؛ لأن الله سبحانه أوجب على العلماء أن يعلموا، وأخذ [الله] (¬3) عليهم الميثاق، فذلك كما في قوله: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} (¬4)، وفي الآية الأخرى: {إن الذين يكتمون} (¬5) إلى آخر الآية (¬6) المصرحة باستحقاقهم للعنة الله عز وجل ولعنة اللاعنين. فهؤلاء فرطوا فيما أوجب الله عليهم من التعليم، كما فرط الجاهلون فيما أوجب الله عليهم من التعلم، وفي هذا المقدار كفاية [لمن له هداية] (¬7)، والحمد لله أولا وآخرا [4 أ]، [وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه] (¬8). ¬

(¬1) زيادة من (ب). (¬2) في (ب): من. (¬3) زيادة من (أ). (¬4) [آل عمران: 187]. (¬5) [البقرة: 159]. (¬6) (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون). (¬7) زيادة من (ب). (¬8) زيادة من (ب).

الأذكار (جواب على بعض الأحاديث المتعارضة فيها)

(48) 14/ 5 الأذكار (جواب على بعض الأحاديث المتعارضة فيها) تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: (الأذكار: جواب على بعض الأحاديث المتعارضة فيها). 2 - موضوع الرسالة: في " الحديث ". 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: من قال حين يصبح. . . 4 - آخر الرسالة:. . . وفي هذا كفاية، والله ولي التوفيق، كتب من خط المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله له، حرر في النصف من شهر شعبان الكريم سنة 1243، تمت بحمد الله. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - عدد الصفحات: (2) صفحة. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: (29 - 32) سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: (17 - 20) كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الخامس من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة، لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال، أو زاد عليه " رواه مسلم (¬1)، وأبو داود (¬2)، والترمذي (¬3)، والنسائي (¬4)، وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتب له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا (¬5) من الشيطان الرجيم يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك " رواه الجماعة (¬6) إلا أبا داود، كثر الله فوائدكم، ونفع المسلمين والإسلام بعلومكم، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته. أشكل على محبكم تعارض هذين الحديثين في الأفضلية، فأفشوا الغليل بما سنح من الجواب الشافي - كتب الله ثوابكم -، وإذا بسطتم الجواب لتتم الفائدة ويزول الإشكال فالأجر مضاعف - كتب الله ثوابكم -. ¬

(¬1) في صحيحه رقم (28/ 2691). (¬2) في " السنن " رقم (5091). (¬3) في " السنن " رقم (3469). (¬4) في " عمل اليوم والليلة " رقم (568)، كلهم من حديث أبي هريرة، وهو حديث صحيح. (¬5) يعني: أن الله تعالى يحفظه من الشيطان في ذلك اليوم، فلا يقدر منه على زلة ولا وسوسة ببركة تلك الكلمات. (¬6) أخرجه البخاري رقم (3293)، ومسلم رقم (29/ 2692)، والترمذي رقم (3468)، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " رقم (826)، وابن ماجه رقم (3789).

الجواب من سيدنا العلامة شيخ الإسلام وشفاء الأوام العالم الرباني محمد بن علي الشوكاني - مد الله مدته، وأكثر إفادته -: بسم الله الرحمن الرحيم الجواب - وبالله الاستعانة، وعليه التوكل -: إن الحديثين صحيحان، وقد دل كل واحد منهما على أن فاعل أحدهما قد جاء بما يعظم أجره ويكثر ثوابه، حتى أنه لا يؤجر أحد من العباد فيما جاء به من الأذكار أو سائر القربات التي شرعها الله سبحانه لعباده بمثل أجره إلا من جاء بما جاء به، وهو أن يقول كما قال، فالذي ذكر الله سبحانه فقال: لا إله (¬1) إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء ¬

(¬1) قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (17/ 17 - 18): هذا فيه دليل على أنه لو قال هذا التهليل أكثر من مائة مرة في اليوم كان له هذا الأجر المذكور في الحديث على المائة، ويكون له ثواب آخر على الزيادة، وليس هذا من الحدود التي نهى عن اعتدائها ومجاوزة أعدادها، وإن زيادتها لا فضل فيها أو تبطلها كالزيادة في عدد الطهارة وعدد ركعات الصلاة. ويحتمل أن يكون المراد الزيادة من أعمال الخير لا من نفس التهليل، ويحتمل أن يكون المراد مطلق الزيادة، سواء كانت من التهليل أو من غيره أو منه ومن غيره، وهذا الاحتمال أظهر، والله أعلم. وظاهر إطلاق الحديث أنه يحصل هذا الأجر المذكور في هذا الحديث من قال هذا التهليل مائة مرة في يومه، سواء قاله متوالية أو متفرقة، في مجالس أو بعضها أول النهار وبعضها آخره، لكن الأفضل أن يأتي بها متوالية في أول النهار ليكون حرزًا له في جميع نهاره. وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث التهليل: ومحيت عنه مائة سيئة، وفي حديث التسبيح: حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر، ظاهره أن التسبيح أفضل، وقد قال في حديث التهليل: ولم يأت أحد أفضل مما جاء به. قال القاضي عياض في " إكمال المعلم بفوائد مسلم " (8/ 192): ويحتمل الجمع بينهما أن حديث التهليل أفضل، وأنه إنما زيد في الحسنات ومحي من السيئات المحصورة، ثم جعل له من فضل عتق الرقاب ما قد زاد على فضل التسبيح وتكفيره جميع الخطايا؛ لأنه قد جاء أنه " من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوًا منه من النار "، أخرجه البخاري رقم (2517)، ومسلم رقم (1509) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. فهنا قد حصل بهذا العتق تكفير جميع الخطايا عمومًا بعد حصر ما عد منها خصوصًا مع زيادة مائة درجة، وما زاده عتق الرقاب الزائدة عن الواحدة. وقد جاء في الحديث (أ) (يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم رقم (32/ 2695) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لأن أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، خير مما طلعت عليه الشمس ".) هنا أيضًا: أفضل الذكر التهليل، وأنه أفضل ما قاله عليه السلام والنبيون من قبله، وقد قيل إنه اسم الله الأعظم، وهي كلمة الإخلاص.

قدير، مائة مرة لا يؤجر أحد من العباد بمثل أجره، إلا من قال كما قال، والذي ذكر الله سبحانه (¬1) فقال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة، لا يؤجر أحد من العباد بمثل أجره إلا من قال كما قال، ولا إشكال في ذلك بالنسبة إلى من لم يذكر الله تعالى بأحد الذكرين؛ لأنه لم يأت بما وقع النص عليه في الحديثين أن الذاكر بأحدهما لا يؤجر أحد من العباد بمثل أجره؛ لأنه خارج عن الأحد الذي ذكر الله سبحانه بأحد الذكرين، فلم يقل كما قال الذاكر بأحد الذكرين، فلا يستحق مثل أجره، وأما باعتبار الشخصين الذاكر كل واحد منهما بأحد الذكرين دون الآخر، فقد جاء كل واحد منهما بما يستحق به من الأجر أن لا يعطى أحد مثلما أعطي من الثواب إلا من قال مثل قوله، فالذاكر بقوله: سبحان الله وبحمده حين يصبح وحين يمسي مائة مرة، لم يذكر بقوله: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. ¬

(¬1) التسبيح بمعنى التنزيه عما لا يليق به جل جلاله من الشريك والصاحبة والولد والنقائص مطلقًا، وسمات الحدوث مطلقًا. وقال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (1/ 276): عن طلحة بن عبيد الله قال: سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن تفسير سبحان الله فقال: " هو تنزيه الله عز وجل عن كل سوء "، وهو مشتق من السبح وهو الجري والذهاب، قال تعالى: (إن لك في النهار سبحًا طويلا)، فالمسبح جار في تنزيه الله تعالى وتبرئته من السوء. وقال الأصفهاني في مفردات ألفاظ القرآن (ص 392): والتسبيح: تنزيه الله تعالى، وجعل ذلك في فعل الخير كما جعل الإبعاد في الشر، فقيل: أبعده الله، وجعل التسبيح عاما في العبادات قولا كان أو فعلا أو نية.

والذاكر بقوله: لا إله إلا الله إلخ، لم يذكر بقوله: سبحان الله وبحمده إلخ، مع استحقاق كل واحد منهما لأجر لا يظفر به إلا من قال مثل قوله، ولم يقل أحدهما بما قاله الآخر، بل قال بما يساويه في المبالغة في الثواب إلى حد لا يماثله أحد، ولا يحصل لغيره إلا من قال مثل قوله، فلا بد من الجمع بين الحديثين بأن يقال: الذاكر بأحد الذكرين مخصص من عموم الحديث الآخر، فالذاكر بأحدهما قد حصل له من الأجر بالنسبة إلى جميع الذاكرين من العباد ما لا يحصل لواحد منهم إلا من قال مثل قوله، فيدخل كل فرد من أفراد العباد تحت هذا العموم الشمولي إلا من قال بالذكر المذكور، أو بما يساويه، وهو الذكر الآخر. فعرفت أن كل واحد من الذاكرين شامل لجميع الذاكرين مخصص تخصيصا متصلا بمن قال مثل قوله، ومخصص تخصيصا منفصلا بمن قال بالذكر الآخر المساوي له، وهو أن يعطى أجرًا [1 أ] لا يناله إلا من قال مثل قوله، وإيضاح هذا التخصيص أن يقال بأحد الذكرين قد تساوى القائل بالذكر الآخر في حصول المزية له، وهي أنه لا ينال مثل أجره إلا من قال مثل قوله، فيكون كل واحد منهما مستثنى من العموم الآخر، فالذاكر بالتسبيح خارج عن العموم المذكور في التوحيد، والذاكر بالتوحيد خارج عن العموم المذكور في التسبيح، وعموم حديث كل واحد منهما إنما هو بالنسبة إلى غيرهما، وهما مخصصان بخروج كل واحد منهما عن عموم الحديث الآخر، فيقال: الذاكر هذا التسبيح قد فضل على كل ذاكر إلا على الذاكر هذا التوحيد، والذاكر بهذا التوحيد قد فضل على كل ذاكر إلا على الذاكر بهذا التسبيح، فلم يبق حينئذ بين الحديثين (¬1) تعارض بالنسبة إلى ¬

(¬1) قال القرطبي في " المفهم " (7/ 20): ثم لما كان الذاكران في إدراكاتهم وفهومهم مختلفين كانت أجورهم على ذلك بحسب ما أدركوا، وعلى هذا ينزل اختلاف مقادير الأجور والثواب المذكور في أحاديث الأذكار، فإنك تجد في بعضها ثوابًا عظيمًا مضاعفًا، وتجد تلك الأذكار بأعيانها في رواية أخرى أكثر أو أقل كما اتفق هنا في حديث أبي هريرة المتقدم، فإن فيه ما ذكرناه من الثواب، وتجد تلك الأذكار بأعيانها، وقد علق عليها من ثواب عتق الرقاب أكثر مما علقه على حديث أبي هريرة، وذلك أنه قال في حديث أبي هريرة: " من قال ذلك في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب "، وفي حديث أبي أيوب عند مسلم رقم (29/ 2692): من قالها عشر مرات كانت له عدل أربع رقاب "، وعلى هذا فمن قال ذلك مائة مرة كانت له عدل أربعين رقبة "، وكذلك تجده في غير هذه الأذكار، فيرجع الاختلاف الذي في الأجور لاختلاف أحوال الذاكرين، وبهذا يرتفع الاضطراب بين أحاديث الباب. فائدة: وهذه الأجور العظيمة والعوائد الجمة إنما تحصل كاملة لمن قام بحق هذه الكلمات، فأحضر معانيها بقلبه، وتأملها بفهمه، واتضحت له معانيها، وخاض في بحار معرفتها، ورتع في رياض زهرتها، ووصل فيها إلى عين اليقين، فإن لم يكن فإلى علم اليقين، وهذا هو الإحسان في الذكر، فإنه من أعظم العبادات لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ". أخرجه مسلم رقم (8)، وأبو داود رقم (4695)، والترمذي رقم (2613)، والنسائي (8/ 97) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو حديث صحيح.

كل ذاكر بهما لخروجه من عمومه بالتخصيص المنفصل الواقع في الحديث الآخر. هذا على تقدير أن المبالغة في كل واحد منهما إلى حد لا يأتي بمثل أجره لا من قال مثل قوله يوجب الاشتراك بينهما في أن أجر كل واحد منهما بمنزلة عظيمة، ومزية جليلة محدودة هذا الحد، وقد فعل كل واحد منهما ما يقتضي ذلك، فالمصير إلى التخصيص لا بد منه، أما لو فرضنا أن اتحادهما في تلك المزية لا توجب تساويهما، بل أجر كل واحد منهما مختص بالذكر الذي جاء به، فتكون مزية المسبح بالنسبة إلى المسبحين، ومزية الموحد بالنسبة إلى الموحدين، فلا تعارض بين الحديثين، بل أجر ذلك المسبح بذلك التسبيح قد فضل كل متعرب، ويدخل في ذلك الموحد؛ لأنه لم يأت بذكر التسبيح، وأجر الموحد قد فضل كل متعرب، ويدخل في ذلك المسبح بذلك التسبيح؛ لأنه لم يأت بذكر التوحيد، فعرفت بهذا أن لك في الكلام على الجمع بين الحديثين وجهين يزول الإشكال بكل واحد منهما. ونوضح هذا من الوجهين بمثال يرتفع عنده الإشكال، فنقول مثلا: لو خرج على السلطان خارجان، كل واحد منهما في جيش، فبعث لحربه أميرين، مع كل واحد منهما

جيش، فقال السلطان لكل طائفة من طائفتي الجيشين المبعوثين مع الأميرين: من جاء منكم برأس أحد الخارجين علينا أعطيه من الجائزة ما لا أعطيه أحدًا، فهذا الكلام يحتمل أن يريد السلطان أن من جاء برأس واحد من الخارجين أعطاه من الجائزة ما لا يعطيه أحدا من الناس الخارجين مع الأميرين، ويحتمل أن يريد ما لا يعطيه أحدا من الناس الخارجين مع كل أمير من الأميرين خطابا لكل واحد من الرجلين المرغبين في العطية. وعلى المثال الأول يحصل التعارض بين الرجلين، ويجمع بين الكلامين بأن المراد في ترغيب كل واحد منهما بالنسبة إلى من عدا الآخر الذي رغب بمثل ترغيبه، وعلى المثال الثاني لا تعارض؛ لأن كل واحد من الرجلين وعد بأن يعطى من الجائزة ما لا يعطى أحد من القوم الذي هو منهم مع أميره وجيشه، وفي هذا كفاية، والله ولي التوفيق. كتب من خط المجيب محمد بن علي الشوكاني - غفر الله له -، حرر النصف من شهر شعبان الكريم سنة 1243، تمت بحمد الله [ا ب].

بحث في الكلام على حديث " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد "

(49) 19/ 5 بحث في الكلام على حديث " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد " تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: (بحث في الكلام على حديث " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد "). 2 - موضوع الرسالة: في " الحديث ". 3 - أول الرسالة: اعلم أن حديث: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر " قد ظن بعض أهل العلم أنه لا يصح الاستدلال به على رفع الإثم عن المجتهد المخطئ، وثبوت الأجر له. . . 4 - آخر الرسالة:. . . والمداهاة له ولم نتعبد بذلك، فكيف يحمل عليه قول الشارع؟ وفي هذا المقدار كفاية، والحمد لله أولا وآخرًا، حرره محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: (5) صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: (17 - 22). 8 - عدد الكلمات في السطر: (10 - 11). 9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني 10 - الرسالة من المجلد الخامس من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

بسم الله الرحمن الرحيم اعلم أن حديث: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر " (¬1) قد ظن بعض أهل العلم أنه لا يصح الاستدلال به على رفع الإثم عن المجتهد المخطئ، وثبوت الأجر له، زاعما أن المراد بالاجتهاد هنا هو بذل الجهد في البحث عن الخصومة الواردة عليه كالبحث مثلا عن عدالة الشهود، وعن حال المدعي والمدعى عليه، ونحو ذلك مما يتعلق بالخصومة، وروي نحو هذا عن العلامة المقبلي (¬2). وأقول: قد تقرر في علم المعاني والبيان (¬3) - وهو العلم الباحث عن دقائق العربية وأسرارها - أن حذف المتعلق مشعر بالتعميم، وهنا قد حذف المتعلق، فيكون معناه البحث عن كل ما يتعلق بالخصومة من الأمور التي ينبغي البحث عنها، وإن أهم هذه الأمور وأولاها بالبحث هو حكم الله (¬4) في تلك الحادثة التي وردت فيها الخصومة؛ لأن الحاكم ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7352)، ومسلم رقم (1716)، وأحمد (4/ 198، 204)، والدارقطني (4/ 211)، والبيهقي (10/ 118 - 119) من حديث عمرو بن العاص. وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (1716)، وأبو داود رقم (3574)، والدارقطني (4/ 210 - 211)، والبغوي رقم (2509) من طرق عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي به. وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (7353)، ومسلم رقم (1716)، وأبو داود رقم (3574)، وابن ماجه رقم (2314)، والدارقطني (4/ 210 - 211، 221)، والبيهقي (10/ 119)، والبغوي رقم (2509)، وأحمد (4/ 198، 204، 205)، والشافعي في ترتيب المسند (2/ 176 - 177) من طريق يزيد بن الهاد عن أبي بكر بن محمد بن حزم عن أبي هريرة. وأخرجه الترمذي رقم (1326)، والنسائي (8/ 223 - 224)، والبيهقي (10/ 119) من طرق عن عبد الرزاق به. (¬2) في " العلم الشامخ " (ص 488 - 489). (¬3) انظر: " معترك الأقران في إعجاز القرآن " (1/ 240 - 244). (¬4) قال ابن القيم في " إعلام الموقعين " (1/ 87 - 88): ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علمًا. ثانيهما: فهو الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرًا، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله. وقال عمر بن الخطاب في رسالة القضاء إلى أبي موسى الأشعري:. . . " ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق، وإياك والغضب والقلق والضجر، والتأذي بالناس، والتنكر عند الخصومة أو الخصوم، فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر ويحسن به الذكر. . . ".

مأمور بأن يحكم فيها بحكم الله (¬1) عز وجل، فلا يحكم بإقرار ولا شهادة ولا يمين ولا بقول حتى يعلم أن هذه الأمور يصح جعلها حجة للحكم، ولا يكون ذلك إلا بانتهاض دليلها، وخلوصه عن شوائب القدح والنقض والمعارضة، فإذا ثبت له ذلك بالبرهان الذي تقوم به الحجة فالبحث عما عداه يسير؛ لأنه يعرف مثلا عدالة الشهود (¬2) بمجرد التزكية وعدم المعارضة لها بالجرح، ويعرف حال الخصمين في الورع والوقوف على رسوم الشرع، وعدم التهور في الدعاوى الباطلة، أو إنكار ما يجب التخلص عنه بالبحث عن حالهما، وذلك إنما هو بعد ثبوت حكم الاستجابة بذلك المستند [1 ب]. فلو قدرنا أنه أجهد نفسه في البحث عن أحوال الشهود، أو عن حال الخصمين قبل ¬

(¬1) قال ابن القيم في " أعلام الموقعين " (1/ 86): قوله - عمر بن الخطاب -: " القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة " يريد به أن ما يحكم به الحاكم نوعان: أحدهما: فرض محكم غير منسوخ كالأحكام الكلية التي أحكمها الله في كتابه. الثاني: أحكام سنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذان النوعان هما المذكوران في حديث عبد الله بن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " العلم ثلاثة فما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، وسنة قائمة، وفريضة عادلة ". (¬2) كما في رسالة عمر لأبي موسى الأشعري: " والمسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجربًا عليه شهادة زور، أو مجلودًا في حد، أو ظنينًا في ولاء أو قرابة، ثم الفهم الفهم فيما أولي إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة. . . ".

أن يعلم أن حكم الله في تلك الخصومة كذا، وأنه لا يصلح مستندا للحكم إلا بشرط كذا، كان إجهاد نفسه في البحث عن حال الشهود أو الخصومة مع جهله لحكم الله سبحانه في تلك الحادثة ضائعًا لا يستحق المصيب فيها أجرين، ولا المخطئ أجرًا، بل هذا القاضي هو أحد قضاة النار كما ورد بذلك الدليل الصحيح (¬1)؛ لأنه لا يخلو عن أحد أمرين: إما الحكم بالحق وهو لا يعلم بأنه الحق، أو الحكم بالباطل وهو يعلم بخلافه، فكان من قضاء النار في كلا حالتيه. فإن قلت: أريد إيضاح الكلام في المقام بما يحصل به الانفهام، قلت: افرض هذه الحادثة في رجل ادعى على آخر مالا، ثم جاء بشاهد، وأعوزه أن يأتي بشاهد آخر، وطلب من الحاكم أن يحلفه حتى يقوم يمينه مقام الشاهد الآخر، فهاهنا يجب على الحاكم أن يقدم البحث، ويجهد نفسه في الفحص عن حكم الله سبحانه في الحادثة، حتى يعلم قيام الحجة التي تصلح مستندا للحكم بالشاهد الواحد واليمين (¬2)، وذلك هو يحق له البحث وإجهاد النفس بإمعان النظر فيه، وإشباع الفحص عنه والبحث عما عداه من عدالة الشاهد وحال الخصمين، فهو شيء تفرع عن كون ذلك المستند صالحًا للحكم به، فلو ذهب يجهد نفسه في البحث عن حال الشاهد، أو نحو ذلك قبل أن ¬

(¬1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه ابن ماجه رقم (2315)، وأبو داود رقم (3573)، والنسائي في " السنن الكبرى " (3/ 461 رقم 5922/ 1)، والترمذي رقم (1322)، والحاكم في " المستدرك " (4/ 90) عن بريدة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار "، وهو حديث صحيح. (¬2) أخرج مسلم في صحيحه رقم (3/ 1712) عن ابن عباس: " أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى بيمين وشاهد "، وأخرج أحمد (3/ 305)، وابن ماجه رقم (2369)، والترمذي رقم (1344)، والبيهقي (10/ 170) من حديث جابر: " أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى باليمين مع الشاهد "، وهو حديث صحيح.

يعلم جواز الحكم بالشاهد الواحد واليمين أو عدم جوازه، لكان سعيه ضائعًا وبحثه ذاهبًا، واجتهاده في ذلك لا يعود عليه بفائدة؛ لأنه اشتغل بالنظر [2 أ] في شيء تفرع عن أصل، وهو لا يدري بالأصل. فانظر أصلحك الله ما هو الأمر الذي ينبغي أن يحمل عليه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " إذا اجتهد الحاكم " (¬1)، وعلى كل حال فالمقام مقام البحث عن حكم الله سبحانه في الحادثة، والحاكم المذكور في الحديث هو الحاكم المأمور بأن يحكم بما شرعه الله لعباده فيها، فأي معنى لحمل اجتهاده على البحث عن أمور لا تعلق لها بالحكم إلا من جهة كونها راجعة إليه، ومتفرعة عنه. ثم انظر ما وقع في حديث معاذ لما بعثه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قاضيًا، فإنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال له: " بم تحكم؟ قال: بكتاب الله سبحانه، قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قال: فإن لم تجد؟ فقال: أجتهد رأيي " (¬2). ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) أخرجه أبو داود (9/ 509 مع العون)، والترمذي (4/ 556 - مع التحفة)، والدارمي (1/ 60)، وأحمد في " المسند " (5/ 230، 242)، والبيهقي (10/ 114)، والطيالسي (1/ 286 - منحة المعبود)، وابن سعد في الطبقات (2/ 347 - 348)، وابن عبد البر في " الجامع " (2/ 55 - 56)، وابن حزم في " الإحكام " (6/ 26)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 154 - 155، 188 - 189) من طرق عن شعبة عن أبي العون عن الحارث بن عمرو - أخي المغيرة بن شعبة - عن أصحاب معاذ بن جبل. قال الإمام البخاري في " التاريخ الكبير " (2/ 277): " الحارث بن عمرو عن أصحاب معاذ روى عنه أبو العون، ولا يصح، ولا يعرف إلا بهذا، مرسل " اهـ. وقال الترمذي: " هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده عندي بمتصل " اهـ. قلت: وأخرجه الحافظ العراقي في " تخريج أحاديث مختصر المنهاج في الإحكام " (6/ 35): " وأما خبر معاذ فإنه لا يحل الاحتجاج به لسقوطه، وذلك أنه لم يرو قط إلا من طريق الحارث بن عمرو، وهو مجهول لا يدري أحد من هو " اهـ. وقال ابن الجوزي في " العلل المتناهية ": (2/ 758 رقم 1264): " هذا حديث لا يصح وإن كان الفقهاء كلهم يذكرونه في كتبهم ويعتمدون عليه، ولعمري إن كان معناه صحيحًا إنما ثبوته لا يعرف لأن الحارث بن عمرو مجهول، وأصحاب معاذ من أهل حمص لا يعرفونه، وما هذا طريقه فلا وجه لثبوته ". قلت: والحديث أعل بعلل ثلاث: 1 - ): الإرسال. 2): جهالة أصحاب معاذ. 3) جهالة الحارث بن عمرو. وأما قول الجوزي: " إن كان معناه صحيحًا " فأوضحه الألباني في " الضعيفة " (2/ 286) فقال: " هو صحيح المعنى فيما يتعلق بالاجتهاد عند فقدان النص، وهذا مما لا خلاف فيه، ولكنه ليس صحيح المعنى عندي فيما يتعلق بتصنيف السنة مع القرآن، وإنزاله إياه معه منزلة الاجتهاد منهما، فكما أنه لا يجوز الاجتهاد مع وجود النص في الكتاب والسنة، فكذلك لا يأخذ بالسنة إلا إذا لم يجد في الكتاب، وهذا التفريق بينهما مما لا يقول به مسلم، بل الواجب النظر في الكتاب والسنة معًا وعدم التفريق بينهما، وقد ذكر الشيخ حمدي بن عبد المجيد السلفي في تحقيق كتاب " المعتبر " للزركشي (ص 68) العلماء الذين ضعفوا هذا الحديث وهم: 1 - ) البخاري. 2) الترمذي. 3) العقيلي. 4) الدارقطني. 5) ابن حزم. 6) ابن طاهر المقدسي. 7) الجوزقاني. 8) ابن الجوزي. 9) الذهبي. 10) السبكي. 11) العراقي. 12) ابن الملقن. 13) ابن حجر. قلت: وضعفه المحدث الألباني في " الضعيفة " (2/ 273 رقم 881).

فانظر كيف كان الأمر المهم عند بعث هذا الصحابي للقضاء؟ هو السؤال له للإرشاد لا للاسترشاد عن مستند ما يحكم به لا عن غيره، وهكذا كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يأمر من يبعثه من القضاة والولاة، وكذلك كان يرشد إلى ذلك معظم الخلفاء الراشدون (¬1) من يبعثونه، ثم انظر قول هذا الصحابي العظيم: أجتهد رأيي، فإن المراد بلا ¬

(¬1) ومن أحسن ما يعرفه القضاة كتاب عمر رضي الله عنه الذي كتبه إلى أبي موسى الذي رواه الدارقطني (4/ 206، 207 رقم 15)، وفي إسناده عبيد الله بن أبي حميد، وهو ضعيف. والبيهقي في " السنن الكبرى " (10/ 115)، وقال ابن القيم في " إعلام الموقعين " (1/ 86) بعد أن أورده: وهذا كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تأمله والتفقه فيه، ولفظه: أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فعليك بالفعل والفهم وكثرة الذكر، فافهم إذا أدلى إليك الرجل الحجة، فاقض إذا فهمت، وامض إذا قضيت، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آس بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك؛ حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على المدعي، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حراما أو حرم حلالا، ومن ادعى حقًا غائبًا أو بينة فاضرب له أمرًا ينتهي إليه، فإن جاء ببينته أعطيته حقه، وإلا استحللت عليه القضية، فإن ذلك أبلغ في العذر وأجلى للعمى. ولا يمنعك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، الفهم الفهم فيما يختلج في صدرك مما ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم اعرف الأشباه والأمثال، وقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله تعالى وأشبهها بالحق. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودًا في حد، أو مجربًا عليه شهادة زور، أو ظنينًا في ولاء أو نسب أو قرابة، فإن الله تعالى تولى منكم السرائر، وادرأ بالبينات والأيمان، وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس عند الخصومة، والتفكر عند الخصومات، فإن القضاء عند مواطن الحق يوجب الله تعالى به الأجر ويحسن به الذكر، فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله تعالى ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما ليس في قلبه شانه الله تعالى، فإن الله تعالى لا يقبل من العباد إلا ما كان خالصًا، فما ظنك بثواب من الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام " اهـ.

شك ولا شبهة أن يجتهد رأيه في مستند الحكم، فيستخرجه من قياس أو نحوه على ما في الكتاب والسنة، فهذا هو الاجتهاد الذي قال فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب " (¬1) إلى آخر الحديث. فالحاصل أن هذا الحديث إن كان عاما كما ذكرناه سابقا، فالاجتهاد في مستند الحكم داخل فيه دخولا أوليا؛ لأنه الفرد الكامل الذي لا ينبغي أن يراد سواه إلا طريق التبع كالبحث عن حال الشهود والخصوم، مع أنه لا يبحث عن ذلك لذاته [2 ب]، بل ليعلم الحاكم وجود المستند الذي ثبت عن الشارع، فإن النظر في الشهادة ليس إلا لمعرفة ¬

(¬1) تقدم تخريجه.

حصول الأهلية وقدر وجود المانع، فيثبت عند ذلك أن مستند الحكم هو الشهادة التي قد علم الحاكم باجتهاده أنها مستند للحكم تقوم بها الحجة الشرعية. وإن كان الحديث غير عام بل يطلق فما شأن دلالة الأفعال؟ فالمقتضى حمله على الاجتهاد في مستند الحكم على حسب ما قررناه سابقا، والنظر في حال الشهود والخصوم ليس بمقصد مستقل، بل هو متفرع عن المستند ومكمل له، ولا يحمل الحديث على غير ذلك مما لا مدخل له في مستند الحكم، وما هو فرع عنه؛ لأنه على فرض أن له نفعًا في الجملة كالبحث مع المدعى عليه من الحاكم بما يتأثر عنه الإقرار هو سياسة عرفية لا شرعية؛ لأنه لا يتم ذلك إلا بنوع من المحادثة له، والفتل في الذروة والغارب منه (¬1)، والمداهاة له، ولم نتعبد بذلك، فكيف يحمل عليه قول الشارع!. وفي هذا المقدار كفاية، والحمد لله أولا وآخرًا. حرره محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما [3 أ]. ¬

(¬1) قال الجوهري في " الصحاح " (5/ 1788): " الفتيلة: الذبالة، وذبال مفتل: شدد لكثرة، وفتله عن وجه فانفتل: أي: صرفه فانصرف، وفتلت الحبل وغيره، و" ما زال فلان يفتل من فلان في الذروة والغارب " أي: يدور من وراء خديعته "، وقال ابن منظور في " لسان العرب " (10/ 178): وهو مثل في المخادعة.

جواب عن سؤال خاص بالحديث " لا عهد لظالم " وهل هو موجود فعلا من عدمه؟

(50) 13/ 5 جواب عن سؤال خاص بالحديث " لا عهد لظالم " وهل هو موجود فعلا من عدمه؟ تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان المخطوط: (جواب عن سؤال خاص بالحديث: " لا عهد لظالم "، وهل هو موجود فعلا من عدمه؟) 2 - موضوع الرسالة: في " الحديث ". 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله الأكرمين وصحبه الأفضلين، وبعد: فإنه وصل من سيدي العلامة حسنة الآل. . . 4 - آخر الرسالة:. . . قال الله عز وجل: {يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم}، وفي هذا كفاية. انتهى ما أفاده شيخنا القاضي العلامة البدر الشوكاني عافاه الله وكثر فوائده، آمين. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - عدد الصفحات: (5) صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: (23 - 26) سطرًا 8 - عدد الكلمات في السطر: (12 - 14) كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الخامس من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله الأكرمين، وصحبه الأفضلين. وبعد: فإنه وصل من سيدي العلامة، حسنة الآل وفرد الكمال يحيى بن مطهر (¬1) - كثر الله فوائده - سؤال، هو أنه بحث عن الذي يزعم كثير من الناس أنه حديث، وهو قولهم: " لا عهد لظالم (¬2) " (¬3) فلم يجده، ثم قال: فهل عندكم علم بوجوده ولو على ضعفٍ؟ وإلا أفدتم بما يستفيد به من يخشى اغتراره بذلك من أهل العلم أو غيرهم، فإن الأمر عظيمٌ، وقد كرر الله سبحانه الأمر بالوفاء في مواضع من كتابه العزيز، منها قوله عز من قائل: {وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون} (¬4)، وقوله تعالى: {وأوفوا بعهد الله إذا ..................... ¬

(¬1) يحيى بن مطهر بن إسماعيل بن يحيى بن الحسين بن القاسم، ولد في شهر جمادى الأولى سنة 1190 هـ، وطلب العلم على جماعة من مشايخ صنعاء كالقاضي العلامة عبد الله بن محمد مشحم، وله سماعات كثيرة. وقال الشوكاني في " البدر " رقم (585): " وهو حال تحرير هذه الترجمة يقرأ علي في العضد وحواشيه، وفي شرح التجريد للمؤيد بالله، وفي شرحي للمنتقى، وفي مؤلفي المسمى " إتحاف الأكابر بإسناد الدفاتر "، وفي مؤلفي المسمى بـ " الدرر " وشرحه المسمى بالدراري. . . ". وقد سألني بسؤالات وأجبت عليها برسائل هي مجموعات الفتاوى، وله جدول مفيد جدا، وأشعار فائقة، ومعاني رائعة، ومكاتباته إلي موجودة في مجموع الأشعار المكتوبة إلي. وانظر: " التقصار " (438 - 439)، " نيل الوطر " (2/ 411 - 414). (¬2) لم يثبت كما قال الشوكاني في الجواب. (¬3) في هامش المخطوط ما نصه: في الأصل: وقال: إنه بحث عن ذلك، ولعله هو بحث عنه فما قبله ". (¬4) [الأنعام: 152].

عاهدتم} (¬1)، وقوله: {ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا} (¬2)، وقوله: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا} (¬3)، والأحاديث في ذلك لا تخفى. وفي حديث أبي هريرة عند أبي داود (¬4) والنسائي (¬5): " ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون "، قال بعض الشراح: قوله: وأنتم صادقون يدل على تحريم الحلف على الشيء وهو يعتقد كذبه، فإن هذه هي اليمين الغموس (¬6) المحرمة، انتهى. فإذا كان هذا فيما يعتقد كذبه فكيف ما يعتقد صدقه ويحلف عليه ثم ينكث؟ فأحسنوا بالإفادة - أحسن الله إليكم - وبينوا معنى " لا عهد " هل المراد نفي الذات؟ فقد وقع كما وقع الفخر في حديث " أنا سيد ولد آدم ولا فخر " (¬7)، قيل: المعنى: ولا فخر أكمل ...................... ¬

(¬1) [النحل: 91]. (¬2) [النحل: 95]. (¬3) [الإسراء: 34]. (¬4) في " السنن " رقم (3248). (¬5) في " السنن " (7/ 5 رقم 3769)، قلت: وأخرجه ابن حبان (ص 286 رقم 1176 - موارد)، والبيهقي في " السنن الكبرى " (10/ 29)، وهو حديث صحيح. (¬6) أخرج البخاري في صحيحه رقم (6675، 6870، 6920) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: " جاء أعرابي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: الإشراك بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: ثم عقوق الوالدين، قال: ثم ماذا؟ قال: اليمين الغموس، قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: الذي يقتطع مال امرئ مسلم هو فيها كاذب ". (¬7) أخرجه الترمذي في " السنن " رقم (3615)، وقال: وفي الحديث قصة، وهذا حديث حسن صحيح من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر ".

منه (¬1)، أو ما يلازمها نحو يجب الوفاء به، أو يوجب الحنث فما المخصص، فالأدلة الصحيحة على أن كل عهد يجب الوفاء به أو التكفير عنه، وذلك كما يكون إتيانه عملا (¬2) من أعمال البر، وهو معنى: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم} (¬3) في وجه، وعلى فرض صحة هذا الحديث فهو لا يقوى لمعارضة غيره، ثم هل المراد بالظالم الحالف بمعنى أن حلفه وفجوره من جملة الظلم أو المراد المحلوف له؟ قال الله سبحانه: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار} (¬4) والركون الميل ¬

(¬1) قاله الزركشي. (¬2) في المخطوط (غير)، ولعل الصواب (عملا). (¬3) [البقرة: 224]، قال ابن كثير في تفسيره (1/ 600): أي لا تجعلوا أيمانكم بالله تعالى مانعة لكم من البر وصلة الرحم إذا حلفتم على تركها. (¬4) [هود: 113]، قال ابن كثير في تفسيره (4/ 354) عن ابن عباس: ولا تميلوا إلى الذين ظلموا، وهذا القول حسن، أي: لا تستعينوا بالظلمة فتكونوا كأنكم قد رضيتم بباقي صنيعهم. قال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (9/ 108): قوله تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) فيه أربع مسائل: الأولى: قوله تعالى: (ولا تركنوا): الركون حقيقة الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشيء والرضا به، قال قتادة: معناه لا تودوهم ولا تطيعوهم. . . وقال ابن زيد: الركون هنا الادهان، وذلك ألا ينكر عليهم كفرهم. الثانية: قرأ الجمهور: (ولا تركنوا) يفتح الكاف، قال أبو عمرو: هي لغة أهل الحجاز، وقرأ طلحة بن مصدف وغيرهما: (تركنوا) بضم الكاف، قال الفراء: وهي لغة تميم. الثالثة: قوله تعالى (إلى الذين ظلموا): قيل: أهل الشرك، وقيل: عامة فيهم وفي العصاة. . . وهذا هو الصحيح في معنى الآية، وأنها دالة على هجران الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم، فإن صحبتهم كفر أو معصية؛ إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودة. . . الرابع: قوله تعالى: (فتمسكم النار) أي: تحرقكم بمخالطتهم ومصاحبتهم وممالأتهم على إعراضهم وموافقتهم في أمورهم.

اليسير، وهو يشمل الأحوال حتى المجالسة والزيارة، فضلا عن المداهنة والرضى بالأعمال، فكيف يقبل عهده فضلا أن يتعهد له؟ وثلاث من كن فيه [1 أ] كن عليه: الثالثة: النكث، قال تعالى: {فمن نكث فإنما ينكث على نفسه} (¬1)، وقد ورد أن خلف الوعد ثالث النفاق إشارة إلى حديث: " آية المنافق (¬2) ثلاث "، فكيف بنكث العهد؟ وفي الكشاف (¬3) حديث رواه لا أدري صحته: " أسرع الخير ثوابًا صلة الرحم، وأعجل الشر عقابًا البغي واليمين الفاجرة " (¬4) انتهى، فأحسنوا بالإفادة لا برحتم، انتهى السؤال. وأقول - حامدًا لله، مصليًا مسلمًا على رسوله وآله -: إن الجواب عن هذا السؤال ¬

(¬1) [الفتح: 10]. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (33)، ومسلم رقم (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان ". (¬3) (3/ 127 - 128). (¬4) أخرجه ابن ماجه رقم (4212)، وأبو يعلى في مسنده (8/ 10 - 11 رقم 4512)، كلاهما من طريق معاوية بن إسحاق عن عائشة بنت طلحة عن عائشة رضي الله عنها، وهو حديث ضعيف جدا، انظر: " الضعيفة " رقم (2787)، وعوضًا عنه حديث أبي بكرة أخرجه أبو داود رقم (4902)، والترمذي رقم (2511)، وابن ماجه رقم (4211)، والحاكم رقم (2/ 356) و (4/ 162 - 163). قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ولفظه: " ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة مثل البغي وقطيعة الرحم "، وهو حديث صحيح.

النفيس يتحصل في أبحاث: البحث الأول: إن هذا اللفظ - أعني: " لا عهد لظالم " - لم يكن من كلام النبوة، ولا من كلام أحد من الصحابة، ولا من كلام أحد من أهل العلم الذين هم أهله، وإنما هو جرى في هذه الديار على ألسن كثير من العوام، فاستروح إليه من يريد الغدر في عهده، والنكث في عقده، والحنث في يمينه، وهو استرواح إلى الباطل البحت، وركون على السراب، وتشبث بالهباء، وكل من لديه أدنى علم وأحقر عرفان يعلم أن هذه العهود والعقود التي شدد الله سبحانه في كتابه العزيز في الوفاء بها، ويهدد ويوعد من نكث عهده وغدر في عقده في مواضع كثيرة، منها ما ذكره السائل - كثر الله فوائده - هي واردة في معاهدة المشركين ومعاقدة الكافرين، لا خلاف في ذلك، كما تدل عليه أسباب النزول، وأهل الشرك هم أهل الظلم الكامل البالغ إلى أعلى المبالغ، ولهذا يقول الله سبحانه: {إن الشرك لظلم عظيم} (¬1) ولا شك أن الاعتبار بعموم اللفظ (¬2) لا بخصوص السبب، فتشمل الآيات والأحاديث المعاهدة للمسلمين، والمعاقدة لأهل الظلم منهم، بل تناولها للمعاهدة للمسلمين هو من باب فحوى الخطاب وقياس الأولى؛ لأن المسلم أولى أن يحفظ عهده والوفاء بعقده من المشرك، وإذا لم يسوغ شرك المشرك وظلمه النقض لعهده، والغدر بعقده وعدم الوفاء له، فكيف يجوز ذلك في عهد المسلم وعقده؟ وبالجملة فهذا معلوم بأدلة الكتاب (¬3) والسنة وبإجماع المسلمين ¬

(¬1) [لقمان: 13]. (¬2) انظر: " الكوكب المنير " (3/ 177)، " اللمع " ص 22. (¬3) قال تعالى: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون) [النحل: 91]. قال تعالى: (إنما يتذكر أولو الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق) [الرعد: 19 - 20]، قال تعالى: (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار) [الرعد: 25].

أجمعين، لا يعرف عن أحد منهم في ذلك خلاف، وكما اتفقوا على تحريم الغدر وترك الوفاء بالعهد فقد اتفقوا على أن الأحاديث الصحيحة الواردة [1 ب] في أن الغدر في العهد من خصال المنافقين، وأنه يدخل عهد المسلم للمسلم تحت ذلك دخولا أوليا، وكذلك اتفقوا على أن ما ورد في الأحاديث الصحيحة أنه ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة (¬1)، ويقال: هذه غدرة فلان، يتناول عهد المسلم للمسلم تناولا أوليا لا شك في هذا ولا ريب، والحاصل أن الوفاء بالعهود، وعدم جواز نكثها، والمخالفة لمضمونها، هو قطعي من قطعيات الشريعة. ولو نتبع ما في الكتاب العزيز والسنة المطهرة من ذلك لجاء في مؤلف مستقل، يعلم ذلك كل من له علم بالكتاب والسنة، فكيف يتمسك من يؤمن بالله واليوم الآخر بهذه الفرية التي ليس فيها مرية، وتعارض بها قطعيات الشريعة التي هي فيها كالجبال الرواسي؟ فلو قدرنا أن لهذا اللفظ المكذوب والكلام الموضوع وجهًا يعرف به لم يحل لمؤمن أن يتمسك به، أو يعارض به ما هو قطعي من قطعيات الشريعة، بل لو قدرنا أنه قد خرج من مخرج صحيح أو حسن لم يحل نصبه في مقابلة آيات القرآن الكثيرة العدد، الوافرة المدد، والأحاديث المتواترة تواترًا، لا يخفى هذا إلا على من لا يدري بما في الكتاب والسنة، فكيف وهذا اللفظ باطل باطل قد تبرمت عنه المؤلفات في الأحاديث الموضوعة المكذوبة، فضلا عن مجاميع السنة ومسانيدها؟ وفي هذا المقدار من هذا البحث كفاية، فإن ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (3186 و3187)، ومسلم رقم (13/ 1736) من حديث عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به، يقال: هذه غدرة فلان ". وأخرج مسلم في صحيحه رقم (9/ 1735) من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء، فقيل: هذه غدرة فلان بن فلان ".

الكلام إنما نحتاج إليه على شيء له وجود ونسبة إلى الصحة أو الحسن أو الضعف، فكيف نحتاج إليه على شيء لا وجود له إلا على ألسن العوام الذين يجري على ألسنهم كل زور وفحشٍ وخطلٍ من القول وباطل من الكلام!. البحث الثاني: اعلم أن العهد قد يظن كثير من الناس أن المراد به اليمين لا غير، وهو ظن فاسد وتخيل مختل، فالعهد يطلق في الغالب على الأمان، وأكثر الآيات والأحاديث واردة في العهد بهذا المعنى، وورد بمعنى [2 أ] الوصية، ومنه حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " إنه لعهد النبي الأمي أن لا يجني إلا مؤمن " (¬1) الحديث. وحديث عبد بن زمعة حيث قال: " في ابن وليدة زمعة، وهو ابن أخي عهد إلي فيه " (¬2)، ومن ذلك حديث: " تمسكوا بعهد ابن أم عبد " (¬3)، أي: ما يوصيكم به، ويطلق أيضًا على الذمة. ¬

(¬1) أخرجه ابن عدي في " الكامل " (6/ 2340)، وفيه موسى بن طريف من غلاة الشيعة، وانظر: " الذخيرة " رقم (4460). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2053 و2218 و2421 و2533 و2745 و4303 و6765 و6817، 7182). ومسلم في صحيحه رقم (36/ 1457) من حديث عائشة قالت: " اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال سعد: يا رسول الله ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلي أنه ابنه، انظر إلى شبهه، وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولد على فراش أبي، فنظر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى شبهه فرأى شبهًا بينًا بعتبة، فقال: هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش، وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة ". (¬3) وهو جزء من حديث أخرجه الطبراني في " الأوسط " رقم (5840)، وأورده الهيثمي في " مجمع الزوائد " (9/ 295)، وقال: وفيه يحيى بن عبد الحميد الحماني، وهو ضعيف. وأخرجه الفسوي في " المعرفة والتاريخ " (1/ 480)، والحاكم (3/ 75) من طرق، وصححه وأقره الذهبي، وأخرجه ابن حبان رقم (2193 - موارد). وتكلم عليه الألباني في " الصحيحة " رقم (1233)، فانظره. وخلاصة القول أن الحديث صحيح لغيره، والله أعلم.

ومنه حديث: " لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده (¬1) بكافر " (¬2)، وكذلك حديث: " من قتل معاهدًا " (¬3)، وورد بمعنى اليمين، ومنه حديث: " وأنا على عهدك ووعدك " (¬4)، أي: على ما عاهدتك عليه من الإيمان بك، وفي كونه معنى اليمين وردت آيات وأحاديث. قال في الصحاح (¬5): العهد: الأمان واليمين والموثق والذمة والحفاظ والوصية، وقد عهدت إليه: أي: أوصيته، ومنه اشتق العهد الذي يكتب للولاة، ويقول: علي عهد الله لأفعلن كذا، ثم قال: وعهدته مكان كذا: أي: لقيته، وعهدي به قريب، وقول الشاعر (¬6): ¬

(¬1) أخرجه أحمد (1/ 119)، والنسائي (8/ 19 - 20)، وأبو داود في " السنن " رقم (4530)، والحاكم في " المستدرك " (2/ 141) من حديث قيس بن عباد، وفيه: ". . . المؤمنون تكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده، من أحدث حدثًا فعلى نفسه، ومن أحدث حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ". (¬2) من هامش المخطوط ما نصه: ليست هذه اللفظة - أعني بكافر - في الحديث، وإنما ذكرها من حمل الحديث في العطف على النسق الأول على وجه التقدير لتصحيح الكلام، فالعجب من الكاتب حيث أدرجها في الحديث على وهمه. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3166)، وطرفه (6914) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا ". (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6306)، وطرفه (6323) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، قال: ومن قالها من النهار مؤمنا بها، فمات من يومه قبل أن يمسي، فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو مؤمن بها، فمات قبل أن يصبح، فهو من أهل الجنة ". (¬5) (2/ 515). (¬6) قيل: هو أبو خراش الهذلي.

وليس كعهد الدار يا أم مالك ... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل أي: ليس الأمر كما عهدت، ولكن جاء الإسلام فهدم ذلك، وفي الحديث: " إن كرم العهد من الإيمان " (¬1)، أي: رعاية المودة، انتهى. قال في النهاية (¬2): ويكون بمعنى اليمين والأمان والذمة والحفاظ والرعاية والحرمة والوصية، ولا تخرج الأحاديث الواردة فيه عن أبي أحد هذه المعاني، انتهى. وذكر في القاموس (¬3) هذه المعاني، وزاد منها التقدم إلى المرء في الشيء والتوحيد، قال: ومنه: {إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا} (¬4). والحاصل أنه ورد استعمال العهد في جميع هذه المعاني، في بعضها بكثرة، وفي بعضها بقلة، والسياقات والأسباب ترشد إلى ما هو المراد، وما ورد في الكتاب والسنة من الأمر بالوفاء بالعقود فالمراد بها العهود، قال في الصحاح (¬5): والمعاقدة المعاهدة، وكذا سائر كتب (¬6) اللغة. البحث الثالث: الجواب عن قوله - عافاه الله -: وبينوا معنى لا عهد، فيقال: قد قدمنا أن هذا الكلام لم يصح بوجه من الوجوه، بل هو باطل مكذوب موضوع، فالتعرض لبيان معناه شغلة بلا فائدة، وإن كان ولا بد من بيان ما يريد به من يتكلم به من العوام [2 ب] فهم يريدون (¬7) أنه إذا وقع من الحلف لمن يزعم أنه ظالم فإن هذا العهد كلا عهد، ووقوعه في الخارج لا حكم له، بل كأن لم يكن. ¬

(¬1) فلينظر من أخرجه؟ (¬2) (3/ 325) لابن الأثير. (¬3) (ص 387). (¬4) [مريم: 87]. (¬5) (2/ 510) (¬6) " كلسان العرب " (9/ 449). (¬7) في هامش المخطوط: يريدون نفي الذات وما يلازمها، السؤال بما له.

البحث الرابع: الجواب عن قوله - كثر الله فوائده - حاكيًا عن غيره أن معنى: " أنا سيد ولد آدم ولا فخر " أن المعنى لا فخر أكمل منه، فيقال: هذا المعنى لم يكن المقصود من هذا الحديث الصحيح، بل المقصود منه أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أخبر الناس عن هذه المزية التي جعلها الله له، وهي السيادة العامة (¬1) الثابتة على جميع ولد آدم، وإنه لم يقصد بذلك إلا إخبارهم بما من الله به عليه وشرفه به، لا أنه مقدر بذلك الفخر، فإنه منهي عنه بالكتاب والسنة، فكيف يصدر عنه؟ (¬2) البحث الخامس: الجواب عن قوله - كثر الله فوائده -: هل المراد بالظالم الحالف، بمعنى أن حلفه وفجوره من جملة الظلم، أو المراد المحلوف له إلخ؟ فيقال: مرادهم بهذا الكلام المكذوب الباطل أنهم إذا حلفوا لمن يعتقدون أنه ظالم فإن هذه اليمين لا تلزمهم، ولا تثبت عليهم حكمًا، ولا يتعلق لهم إرادة للمعنى الأول؛ لأنهم إنما يريدون تخليص أنفسهم عما أخذ عليهم من اليمين أو الأمان أو البيعة أو نحو ذلك. البحث السادس: الجواب عن قوله: " ثلاث من كن فيه كن عليه " إلخ، فيقال: لم يكن هذا اللفظ حديثًا ولا مرويًا عن صحابي، ولكن قال بعض العلماء: ثلاث يعود ¬

(¬1) قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (3/ 66): إنما قال هذا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحدثًا بنعمة الله تعالى، وقد أمره الله تعالى بهذا، ونصيحة لنا بتعريفنا حقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال القاضي عياض: قيل: السيد: الذي يفوق قومه والذي يفزع إليه في الشدائد، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيدهم في الدنيا والآخرة. وقال القرطبي في " المفهم " (1/ 426): أي: المقدم عليهم، والسيد هو الذي يسود قومه، أي: يفوقهم بما جمع من الخصال الحميدة بحيث يلجئون إليه، ويعولون عليه في مهماتهم، وقد تحقق كمال تلك المعاني كلها لنبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك المقام الذي يحمده ويغبطه فيه الأولون والآخرون، ويشهد له بذلك النبيون والمرسلون، وهذه حكمة عرض الشفاعة على خيار الأنبياء، فكلهم تبرأ منها ودلى على غيره إلى أن بلغت محلها، واستقرت في نصابها. (¬2) في هامش المخطوط في المقدر الذي يقتضيه المقام مصححًا لهذا المعنى؛ لأنه وقع ما يقدر الافتخار، ومن هو في مقام النبوة أبعد عن القصد إلى ما لا يليق، وأحرص على كل حسن.

وبالها على فاعلها: النكث فإن الله تعالى يقول: {فمن نكث فإنما ينكث على نفسه} (¬1)، والمكر فإن الله تعالى يقول: {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله} (¬2)، والخدع فإن الله تعالى يقول: {يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم} (¬3)، وها هنا رابعة وهي البغي، قال الله عز وجل: {يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم} (¬4)، وفي هذا كفاية. انتهى ما أفاده شيخنا القاضي العلامة البدر الشوكاني عافاه الله، وكثر فوائده، آمين [3 أ]. ¬

(¬1) [الفتح: 10]. (¬2) [فاطر: 43]. (¬3) [البقرة: 9]. (¬4) [يونس: 23].

فوائد في أحاديث فضائل القرآن

فوائد في أحاديث فضائل القرآن تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: (فوائد في أحاديث فضائل القرآن). 2 - موضوع الرسالة: في "الحديث". 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. وصل من الصنو العلامة عماد الإسلام محمد بن إسماعيل بن عبد الكريم بن علي من ذرية الإمام شرف الدين الساكنين في حصن كوكبان. 4 - آخر الرسالة: غفر الله له ولآبائه ولمشايخه في الدين ولجميع إخوانه المؤمنين وصلى الله وسلم على سيد البشر، وآله الغرر وصحبه الدرر آمين. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - الناسخ: محمد بن محمد بن أحسن الأخفش. 7 - عدد الصفحات: (8) صفحات. 8 - عدد الأسطر في الصفحة: (23) سطرًا. 9 - عدد الكلمات في السطر: (12) كلمة. 10 - الرسالة من المجلد الخامس من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. وصل من الصنو العلامة عماد الإسلام محمد بن إسماعيل بن عبد الكريم بن علي من ذرية الإمام شرف الدين الساكنين في حصن كوكبان، المحروس إلى المولى العلامة الشهير المحقق الخطير الحافظ الكبير، شيخ الإسلام وبدره المشرق التام المستمد من بحر علومه القاصي والداني شمس الدين محمد بن علي الشوكاني، لا زالت بحار علومه زاخرة ولا برحت سماء تحقيقه ماطرة ولفظ السؤال: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جعل العلماء ورثة الأنبياء، وزين بهم الأرض كما زين بالنجوم السماء، وجعلهم قدوة يقتدى بهم ويعمل بقولهم وأمر تعالى في محكم التنزيل بسؤالهم فقال وقوله الحق المبين: {فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (¬1). نعم. أتم الله عليكم النعم. المرفوع إلى جناب سيدي عز الإسلام والقدوة لمن اقتدى من الخاص والعام، العالم العلامة، والحجة الفهامة، محمد بن علي الشوكاني نوره الله بنور المعاني وجزاه عن المسلمين خيرًا والسلام عليه ورحمة الله وبركاته وصلى الله وسلم على محمد وآله. والمسؤول عنه حكم الأحاديث الواردة في فضائل القرآن العظيم وسوره وآيات منه، هل أحاديث ما ورد صحيحة واردة عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لأن السيد العلامة محمد بن إبراهيم الوزير رحمه الله تعالى ذكر في كتاب التنقيح (¬2) في باب الموضوع من الأحاديث عن زين الدين العراقي (¬3) تعداد الكذابين حسبة وتقربًا إلى الله تعالى فمن ¬

(¬1) [النحل: 43]. (¬2) (ص 172) بتحقيقنا. (¬3) في "فتح المغيث" (ص 120). شر الضعيف الخبر الموضوع ... الكذب المختلق المصنوع وكيف كان لم يجيزوا ذكره ... لمن علم ما لم يبين أمره وأكثر الجامع فيه إذ خرج ... لمطلق الضعف عنى أبا الفرج

أولئك أبو عصمة نوح بن مريم المروزي (¬1) قيل لأبي عصمة [1 أ]: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه في فضائل القرآن سورة سورة وليس عن أصحاب عكرمة هذا؟ فقال رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومحمد بن إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبة، وكان يقال لأبي عصمة هذا نوح الجامع (¬2). قال أبو حاتم ابن حبان "جمع كل شيء إلا الصدق" (¬3). قال الحاكم (¬4) وضع حديث فضائل القرآن. وروى ابن حبان في مقدمة تاريخ الضعفاء عن ابن مهدي (¬5) قال: قلت لميسرة بن عبد ربه: من أين جئت بهذه الأحاديث: من قرأ كذا فله كذا قال وضعتها أرغب الناس فيها، وهكذا حديث أبي (¬6) الطويل في فضائل سور القرآن سورة ¬

(¬1) نوح بن أبي مريم، واسمه حابنة، وقيل حافنة، وقيل: يزيد من جعونة المروزي أبو عصمة القرشي قاضي مرو، ويعرف بنوح الجامع. قال البخاري منكر الحديث. وقال في موضع آخر: نوح بن أبي مريم ذاهب الحديث جدًا قال أبو حاتم، ومسلم بن الحجاج، وأبو بشر الدولابي، والدارقطني: متروك الحديث، وذكر الحاكم أبو عبد الله النيسابوري الحافظ: أنه وضع حديث فضائل القرآن. انظر: "تهذيب الكمال" (30/ 56 - 65 رقم 7095)، "الكاشف" رقم (5992)، "شذرات الذهب" (1/ 283). (¬2) قال ابن قطلوبغافي تاج التراجم (ص 76): لقب بذلك لأنه أول من جمع فقه أبي حنيفة. وقيل: لأنه كان جامعًا بين العلوم، له أربعة مجالس، مجلس للشعر، مجلس للأثر، ومجلس لأقاويل أبي حنيفة، ومجلس للنحو. (¬3) انظر: "تدريب الراوي" (1/ 253). (¬4) في "المدخل" (ص 54). (¬5) أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (1/ 40) من طريق ابن حبان. (¬6) أورده ابن الجوزي في "الموضوعات" (1/ 239) من طريق يزيغ بن حبان عن علي بن زيد ابن جدعان، وعطاء بن أبي ميمونة عن زر بن حبيش عن أبي وقال: الآفة فيه من يزيغ، ثم أوده من طريق مخلد بن عبد الواحد عن علي وعطاء وقال: (الآفة فيه من مخلد).

سورة فروينا عن المؤمل بن إسماعيل: حدثني به شيخ بكذا، فسرت إليه فقلت من حدثك قال حدثني شيخ بالبصرة وهو حي فسرت إليه فقال حدثني شيخ ببغداد فسرت إليه فأخذ بيدي وأدخلني بيتًا فإذا فيه قوم من المتصوفة فيهم شيخ فقال هذا حدثني. فقلت يا شيخ من حدثك؟ قال لم يحدثني به أحد ولكنا رأينا الناس قد رغبوا عن القرآن فوضعنا لهم هذا الحديث فيصرفون قلوبهم إلى القرآن. قال زين الدين (¬1): وكل من أودع حديث أبي المذكور تفسيره كالثعلبي والواحدي والزمخشري مخطٍ انتهى. قال وذكر عن بعض الثقات أنه قال: لم أعجب من فلان وفلان - يعدد المفسرين - ولا الزمخشري إذ لم يكونوا من أهل الحديث، إنما عجبت من أبي بكر بن داود (¬2) حيث أودع كتابه حديث فضائل القرآن وهو يعلم أنه حديث محال لكن شره المحدثين حملهم على تنفيق أحاديثهم ولو بالأباطيل انتهى. فتحققوا نوركم الله هل هذا يقدر مع ما هم عليه من المعرفة لما جاء عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولما جاء في الكذب وسيما للزمخشري فهل يقدر هذا مع أن ابن خلكان قد ذكر من مصنفاته ما عدده ومن جملتهن كتاب الغريب في الحديث (¬3) فهل يقدر كذبهم في هذه المواضع [1 ب] فهذا مشكل وبتنويركم إن شاء الله تعالى ينجلي وهل يلتفت إلى هذا مع نسبة زين الدين لأن ذلك يقتضي القدح في جناب بعضهم البعض من جهة أن الآخر لم يصح عنده ما قال الآخر، لا من جهة كونه كذب على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. نعم نوركم الله وكيف يكون حكم الحديث المورد في كتاب إرشاد الغبي الذي لفظه وسمعت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة. (¬2) في "فتح المغيث" (ص 125). (¬3) وهو "الفائق في غريب الحديث" أربع مجلدات.

أنه قال من بلغه عن الله تبارك وتعالى ما فيه ثواب فعمل به أعطاه الله تعالى. ولكن هذا الحديث لم يسند إلى أحد الرجال الثقات، ولا إلى أحد الكتب المصححة فهل هذا من الأحاديث الصحاح أو يكون من جملة المكذوب فيهن؟ نعم. وإذا كان صحيحًا فهل يقدر ما أورد محمولا عليه؟ وإذا قد صح فما يكون حكم الراوي هل يروي ما كان محمولا على هذا الحديث إذا قد صح وجائز له أن يسنده إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أم لا يسنده بل يطلق. ومما يلحق بهذا سؤال عن الأحاديث الواردة في طلب العلم الشريف، وفي العلم هل هي صحيحة لا ريب في صحتها أم هي من جملة المكذوب فيهن، وعن الأحاديث الواردة فيمن قرأ سورة البقرة أو آية الكرسي (¬1) في بيت لا يدخله شيطان ثلاثة أيام إذا صحت على ما صحت على ما يحمل الشيطان يراد به كل شيطان أو مخصوصين لأن الأحاديث التي وردت أنه حال قيام العبد إلى الوضوء يقوم ملك وشيطان وكذا حال الصلاة لأنه إذا الوضوء في البيت أو الصلاة يقدر امتناعهم، وكذا الأحاديث الواردة في التفكر هل هي صحيحة؟ وأن تفكر ساعة خير من عبادة ألف سنة، وإذا هي صحيحة فعلام تحمل هل يراد بها الساعة الفلكية أم ساعة عرفية التي تطلق على اللحظة نعم حماكم الله تعالى كيف يكون تقدير الحديث الذي ذكر في عدة الحصن الحصين الذي هو: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر الله لهم" (¬2) على ما [2 أ] يحمل لأن ظاهره الإغراء من الله تعالى بالذنوب أو كيف يحمل حماكم الله تعالى وكيف يكون حكم العوام والنساء الذين يقرؤن القرآن من غير معرفة حله وحرامه ولا معانيه ولا تأمل، بل قد لا تحصل معهم لذة لتلاوته، فهل لهم الأجر الوارد في جميعه من غير نقص شيء مما قد صح عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أم لا يكون لهم شيء فهل يكون لهم أجر على مجرد درسه أم لا، وهل يأثم من كان هكذا ¬

(¬1) سيأتي في الجواب. (¬2) انظره في الرسالة رقم (55) من مجلدنا هذا "القرآن - الحديث".

وهجره عن الدرس من غير أنه ينساه بل يقلل في درسه أم لا لأنه لا يخفاكم ما قاله في النهاية لفظه وفي الحديث: "لا يعذب الله سبحانه قلبًا وعى القرآن" إيمانًا به وعملاً، وأما من حفظ ألفاظه وضيع حدوده فهو غير واع له. وعن الحسن قال قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله، وإنما حفظوا حروفه وضيعوا حدوده حتى إن أحدهم ليقول: والله لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفًا، وقد والله أسقطه كله ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق ولا عمل، والله ما هو إلا يحفظ حروفه وأضاع حدوده لا كثر الله تعالى في الناس من هؤلاء هذا لفظه فأحسنوا بجواب حاوٍ لكل مسألة إلى رأسها لتكمل الفائدة، وحاو لجميع المسئولين عنه جزاكم الله تعالى خير الدارين ويكون من غير عجل ليحصل جواب شافٍ يعمل به ويعتمد عليه، ويكون حجة على من أراد فعل ما جزمتم بعدم صحته من غير عجل، ومن غير إهمال ولا أن يحتاج السائل إلى معاودتكم للجواب بل ميعاد لا اختلاف فيه فالمؤمن إذا قال صدق، وليكمل لكم الأجر إن شاء الله تعالى وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والله الهادي إلى الصواب ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم انتهى السؤال بلفظه وحروفه [2 ب]. ويتلوه الجواب النافع الحاسم القاطع مع المولى البدر الطالع المشرق الصادع الجدل البارع الموجز الجامع كثر الله علومه ووسع منطوقه ومفهومه، وأعاد على العالمين من بركات أياديه ما ينتفع به الأولون، ويكشف به أعاديه، ولفظ الجواب منقول بحروفه من خط يده الكريمة:

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله الطاهرين وصحبه المكرمين. وبعد: فإنها وصلت هذه الأسئلة من السائل - كثر الله فوائده -، فأقول: أما أحاديث فضائل القرآن سورة سورة فلا خلاف بين من يعرف الحديث أنها موضوعة مكذوبة وقد أقر واضعها أخزاه الله بأنه الواضع لها، وليس بعد الإقرار شيء. ولا اغترار لمثل ذكر الزمخشري (¬1) رحمه الله لها في آخر كل سورة فإنه - وإن كان إمام اللغة والآلات على اختلاف أنواعها - فلا يفرق في الحديث بين أصح الصحيح، وأكذب الكذب، ولا يقدح ذلك في علمه الذي بلغ فيه غاية التحقيق، ولكل علم رجال وقد وزع الله سبحانه الفضائل بين عباده، والزمخشري (¬2) نقل هذه الأحاديث من تفسير الثعلبي (¬3) وهو مثله في عدم المعرفة بعلم السنة وقد أوضحت الكلام على هذا في مؤلفي الذي سميته الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة (¬4)، وما ذكره السائل من أن للزمخشري مؤلفًا في غريب (¬5) الحديث فليس ذلك بمناف لما ذكرناه من عدم علمه بفن الحديث لأن المعرفة بفن الحديث هي تمييز الحديث الصحيح من الحسن من الضعيف من الموضوع، وقد صنف في علم غريب الحديث جماعة من أهل العلم [3 أ] من أولهم الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام وهو إمام كبير في علم السنة من أقران ابن معين وابن مهدي وعلي بن المديني، وهكذا صنف جماعة ممن بعده في ذلك، والزمخشري رحمه الله هو إمام اللغة الذي لا ¬

(¬1) في "الكشاف". انظر فهو يذكر فضل السورة في نهايتها. (¬2) في "الكشاف". انظر فهو يذكر فضل السورة في نهايتها. (¬3) انظر تفسيره. (¬4) (ص 296). (¬5) "الفائق في غريب الحديث" للزمخشري.

يجارى ولا يبارى، فتصنيفه في غريب الحديث (¬1) واقع من الخبير به فقد يشتمل تصنيفه في هذا على ما لا يشتمل عليه تصانيف من تقدمه ولا سيما وهو ممن تكلم في تمييز حقائق اللغة من مجازاتها، وجعل في ذلك مصنفًا (¬2) لا يقدر عليه غيره، والحديث الذي ذكره العنسي في إرشاده بلفظ من بلغه عن الله سبحانه ما فيه ثواب إلخ. في إسناده متروك وقد رواه ابن عبد البر وصرح بضعفه، وكذلك رواه البغوي، وأقول ليس هذا الحديث ضعيفًا فقط بل موضوع مكذوب لا يحل لمسلم أن يرويه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلا لبيان أنه موضوع فقد أخطأ من قال إنه يجوز التساهل في الأحاديث الواردة في فضائل الأعمال، وذلك لأن الأحكام الشرعية متساوية الأقدام لا فرق بين واجبها ومحرمها ومسنونها ومكروهها ومندوبها فلا يحل إثبات شيء منها إلا بما تقوم به الحجة وإلا فهو من التقول على الله بما لم يقل، ومن التجري على الشريعة المطهرة بإدخال ما لم يكن فيها، وقد صح تواترًا أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" (¬3). فهذا الكذاب الذي كذب على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - محتسبًا للناس بحصول الثواب لم يربح إلا كونه من أهل النار، فإن أبا معمر عباد ....................... ¬

(¬1) الفائق في غريب الحديث للزمخشري. (¬2) "أساس البلاغة" من مجلدين ط 3 الهيئة العامة للكتاب\ مصر 1985 م. كما طبع عدم طبعات. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (3/ 3) من حديث أبي هريرة. وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (108) ومسلم في صحيحه رقم (2/ 2) من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من تعمد علي كذبًا فليتبوأ مقعده من النار". * وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (106) ومسلم في صحيحه رقم (1/ 1) من حديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تكذبوا علي، فإنه من يكذب علي يلج النار". وأخرجه البخاري رقم (1291) ومسلم في صحيحه رقم (4/ 4) من حديث المغيرة سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن كذبا علي ليس ككذب على أحد فمن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار".

ابن عبد الله (¬1) المذكور في إسناد هذا الحديث متروك لا تحل الرواية عنه بحال. وأما سؤال السائل عافاه الله تعالى عن الأحاديث الواردة في طلب العلم فمنها الصحيح (¬2) ومنها الحسن (¬3) ومنها الضعيف (¬4) مرة، وأشمل كتاب في ذلك كتاب العلم لابن عبد البر، وقد ذكرت في كتابي (¬5) المشار إليه جميع ما فيه ضعف منها، وما ليس ¬

(¬1) انظر: "الميزان" (4/ 31). ط: دار الكتب العلمية. (¬2) منها ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2699) وأبو داود رقم (4946) والترمذي رقم (1930) وابن ماجه رقم (225). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " .... ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة .... ". وهو حديث صحيح. (¬3) منها ما أخرجه ابن ماجه رقم (226) والحاكم (1/ 100) وابن حبان في صحيحه رقم (85، 1322) وأحمد (4/ 239) وقال الهيثمي في "المجمع" (1/ 131) رواه الطبراني في "الكبير" ورجاله رجال الصحيح. من حديث صفوان بن عسّال المرادي رضي الله عنه قال: أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في المسجد متكئ على برد له أحمر، فقلت له: يا رسول الله إني جئت أطلب العلم، فقال: "مرحبًا بطالب العلم، إن طالب العلم لتحفه الملائكة بأجنحتها ثم يركب بعضهم بعضًا حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب". وهو حديث حسن. (¬4) منها ما أخرجه ابن ماجه رقم (224) وفيه حفص بن سليمان البزار ضعيف وقال البخاري: تركوه، انظر: "ميزان الاعتدال" (1/ 558). عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "طلب العلم فريضة على كل مسلم وواضع العلم عند أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب". وهو حديث ضعيف. وانظر شواهد ومتابعات هذا الحديث في "جامع بيان العلم" (1/ 23 - 68). ومنها ما أخرجه الترمذي رقم (2648) وأورده الهيثمي في "المجمع" (1/ 123) وقال: رواه الطبراني، وفيه أبو داود الأعمى وهو كذاب. من حديث سخبرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما من عبد يطلب العلم إلا كان كفارة ما تقدم". وهو حديث ضعيف جدًا. (¬5) في "الفوائد المجموعة" (ص 272 - 295).

بصحيح فمن [3 ب] أراد استيفاء ذلك نظر فيه. وأما سؤال السائل عافاه الله عن الأحاديث الواردة فيمن قرأ سورة البقرة إلخ. فأقول قد ورد في بعض السور وبعض الآيات ما هو صحيح (¬1) وما هو حسن (¬2) وما هو ضعيف (¬3) واستوفيت ذلك في .............................................. ¬

(¬1) منها ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (780) والترمذي رقم (2877) وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي رقم (965) في "عمل اليوم والليلة". عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة". وهو حديث صحيح. ومنها: ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (806) والنسائي (2/ 138) والحاكم (1/ 558) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما جبريل عليه السلام قاعد عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع نقيضًا من فوقه فرفع رأسه، فقال: "هذا باب من السماء فتح لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته". وهو حديث صحيح. ومنها: ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (804) عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين البقرة، وسورة آل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما، اقرؤوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة وتركها حسرة، ولا تسطيعها البطلة". وهو حديث صحيح. (¬2) ما أخرجه الحاكم موقوفًا (2/ 260) ومرفوعًا (1/ 561). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: اقرؤوا سورة البقرة في بيوتكم، فإن الشيطان لا يدخل بيتًا يقرأ فيه سورة البقرة. وهو حديث حسن بشواهده. (¬3) (منها) ما أخرجه الترمذي (2878) والحاكم (2/ 259) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لكل شيء سنام، وإن سنام القرآن سورة البقرة، وفيها آية هي سيدة آي القرآن". وهو حديث ضعيف.

تفسيري (¬1) في أوائل السور التي ورد فيها ذلك. وأما التي لم يرد فيها شيء فلم أذكر في أوائلها شيئًا، فمن أحب معرفة ذلك راجعه فإن استيفاءه يحتاج إلى مؤلف. وكذلك استيفاء ما ورد في طلب العلم وما ذكره السائل عافاه الله من السؤال الوارد في آية الكرسي (¬2) وأنه لا يدخل البيت الذي تقرأ فيه شيطان فهو حديث صحيح من دون تقييد بقوله ثلاثًا، وهو من أحاديث عدة الحصن (¬3) وقد تكلمت عليه في شرحها وظاهره العموم فلا يدخل البيت شيطان لا من الموسوسين في صدور الناس ولا من الموسوسين في الطهارات ولا من غيرهم. وأما سؤال السائل عافاه الله عن أحاديث التفكر فحديث: "فكر ساعة خير من ¬

(¬1) (1/ 79 - 81) (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2311) وطرفاه (3275 و5010) عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث طويل: " .... فقال لي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: ما هي؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير - فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أما إنه قد صدقك وهو كذوب ... ". وأخرج مسلم في صحيحه رقم (258/ 810) من حديث أبي بن كعب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم". قال قلت: الله ورسوله أعلم قال: "يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم" قال: قلت: الله لا إله إلا هو الحي القيوم. قال: فضرب في صدري وقال: "والله ليهنك الله أبا المنذر". (¬3) وهو: "تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين من كلام سيد المرسلين" (ص 370 - 371).

عبادة ستين سنة". رواه أبو الشيخ (¬1) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا وفي إسناده عثمان بن عبد الله (¬2) القرشي وإسحاق بن نجيح (¬3) الملطي وهما كذابان والمتهم به أحدهما وقد رواه الديلمي (¬4) من حديث أنس من وجه آخر ولا يصح ويغني عن هذا الكذب ما في الكتاب العزيز (¬5) من الإرشاد إلى التفكر. وما سأل عنه السائل عافاه الله عن المراد بالساعة في الحديث فالمراد بها في اللغة (¬6) والشرع اللحظة لا الساعات التي اصطلح غير أهل الشرع المقدرة لليوم والليلة بأربع ¬

(¬1) في "العظمة" (ص 48 رقم 44). (¬2) قال ابن حبان: كان يضع الحديث، لا يحل كتب حديثه إلا على سبيل الاعتبار. انظر: "المجروحين" (2/ 102)، "ميزان الاعتدال" (3/ 41). (¬3) قال ابن حجر في "التقريب" (1/ 62 رقم 440) إسحاق بن نجيح الملطي، أبو صالح، أو أبو زيد، نزيل بغداد كذبوه، من التاسعة. وانظر: "المجروحين" (2/ 134). وفي سنده عطاء الخراساني، وهو صدوق يهم كثيرًا ويرسل، ويدلس وقد رواه هاهنا بالعنعنة. انظر: "التقريب" (2/ 23). و"التهذيب" (7/ 212). والخلاصة أن الحديث ضعيف جدًا. (¬4) في "الفردوس بمأثور الخطاب" (2/ 70 رقم 2397). وقال الفتني في "تذكرة الموضوعات" (ص 188): فيه كذابان وضعه أحدهما. (¬5) منها قوله تعالى: { ... ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار} [آل عمران: 191]. وقوله تعالى: {ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} [النحل: 11]. وقوله تعالى: {ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} [النحل: 69]. (¬6) انظر: "لسان العرب" (6/ 431).

وعشرين ساعة. وأما سؤال السائل عافاه الله عن حديث لو لم تذنبوا إلخ. فهو حديث صحيح (¬1) ووجه تفسيره صبيح فإن المراد [4 أ] أن هذا النوع الإنساني ليس بمعصوم عن (¬2) مقارفة الذنوب ولهذا جعل الله سبحانه في الآخرة دار نعيم وهي الجنة ودار عذاب وهي النار، فلو فرضنا أن هذا النوع لا يذنب منهم أحد لكانوا غير بني آدم، ولجاء الله سبحانه بقوم يطيعون ويعصون كما سبق به قدر الله عز وجل، وخلق لهم الجنة والنار لكن هؤلاء بنو آدم هم الذين يطيعون ويعصون فلم يخلق الله سبحانه خلقًا يكونون في الدنيا غيرهم وفاءً بما جرى به قلم القضاء الرباني. وأما سؤاله عافاه الله عن الذي يقرأ القرآن ولا يعرف معناه كالعوام فنقول: الأجر على تلاوة القرآن ثابت، لكنه إذا كان يتدبر معانيه ويمكنه فهمه فأجر مضاعف، وأما أصل الثواب لمجرد التلاوة (¬3) فلا شك فيه والله سبحانه لا يضيع عمل عامل (¬4) وتلاوة كتابه سبحانه من أشرف الأعمال لفاهمٍ وغير فاهمٍ، وإذا أضاع أحدٌ ما اشتمل عليه القرآن من الأحكام أثم من جهة الإضاعة لا من جهة التلاوة. ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (55) من مجلدنا هذا. (¬2) انظر "المرجع السابق". (¬3) منها: ما أخرجه الترمذي رقم (2910) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف". وهو حديث صحيح. ومنها: ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (804). عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه". وهو حديث صحيح. (¬4) يشير إلى قوله تعالى: {فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض .... } [آل عمران: 195].

حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله له صبح يوم الثلاثاء خاتمة شهر جمادى الآخرة من شهور سنة 1244 انتهى لفظ الجواب بحروفه المنقولة من خط اليد الطولى التي لم تشب بقصر، ولكنها صاغت الدرر ونظمتها في سلك من الذهب الأحمر، وقلدها سوالف الجيد الأنور، والعنق الأزهر، فتزينت بهذه الحلية فرائد المعاني وتساجلن الثناء شكرًا للحافظ الشوكاني برغم أنف كل حاسد وشاني، بقلم الناقل الحقير أخي القصور والتقصير محمد بن محمد بن أحسن الأخفش غفر الله له ولآبائه ولمشائخه في الدين، ولجميع إخوانه المؤمنين وصلى الله وسلم على سيد البشر وآله الغرر وصحبه الدرر آمين.

بحث في حديث "لعن الله اليهود لاتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد"

بحث في حديث "لعن الله اليهود لاتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد" (¬1) تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب ¬

(¬1) عنوان الرسالة في (أ): "بحث في الصلاة في مكان أو مسجد فيه قبر".

وصف المخطوط (أ): 1 - عنوان الرسالة: (بحث في الصلاة في مكان أو مسجد فيه قبر). 2 - موضوع الرسالة: في "الحديث". 3 - أول الرسالة: (بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، أحمدك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وحبيبك وعلى آله الأطهار الأخيار وبعد: فإنه: ... ). 4 - آخر الرسالة: ... إلى هنا انتهى المراد، وفيه كفاية لمن له هداية. حرره الحقير محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما في نهار يوم السبت لعله سادس شهر جمادى الأولى سنة 1209. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني. 7 - عدد الصفحات: 7 صفحات. 8 - عدد الأسطر في الصفحة: (22 - 30) سطرًا 9 - عدد الكلمات في السطر: (11 - 13) كلمة. 10 - الرسالة من المجلد الثالث من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".

وصف المخطوط (ب): 1 - عنوان الرسالة: (بحث في حديث لعن الله اليهود لاتخاذ قبور أنبيائهم مساجد). وهو العنوان الذي اعتمدته. 2 - موضوع الرسالة: في "الحديث". 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، أحمدك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وحبيبك، وعلى آله الأطهار الأخيار، وبعد: فإنه وصل من سيدي العلامة 4 - آخر الرسالة: في تحويل الأحكام الشرعية بإجماع المسلمين، إلى هنا انتهى المراد، وفيه كفاية لمن له هداية، انتهى من تحريره القاضي النحرير عمدة الإسلام، وعمادهم محمد بن علي الشوكاني حفظه الله، وحفظه الله في نهار السبت لعله 4\ شهر جمادى أولى سنة 1209. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 7 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: (14 - 26) سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: (14) كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الثالث من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين، أحمدك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وحبيبك، وعلى آله الأطهار الأخيار، وبعد: فإنه وصل من سيدي العلامة جمال الكمال، كمال الجمال علي بن محمد بن (¬1) شمس الدين - لا برح على بقاء تردي الليالي في نعم تفوت عد العادين - سؤال عن حديث: لعن اليهود لاتخاذ قبور أنبيائهم مساجد، ولفظه: والمطلوب منكم والمعول عليكم أولا النظر في صحة الحديث، ثم بعد الصحة النظر في الهيئة التي لعنوا على فعلها، هل كانت السجود إلى القبر، أو كانوا يعتقدون الصلاة عند قبورهم قربة إلى الله - عز جل -، أو كان الواقع كالموجود في قبور الأئمة أن يكون القبر في مؤخر القبة أو في جانب منها، ويستدبره المصلي، أو يجعله في جانب منه. ثم بعد ذلك هل يقتضي الحديث الحظرية أو التنزيه فقط؟ فالباعث على ذلك أنها وقعت مذاكرة عن الصلاة في قبة سيدي محمد بن الحسن في الروضة، وقبره في مؤخر القبة في الجانب الأيمن. انتهى المقصود من السؤال. ¬

(¬1) العلامة الأديب علي بن محمد بن علي بن أحمد بن الناصر بن عبد الرب بن علي بن شمس الدين بن الإمام المتوكل على الله يحيى شرف الدين الحسني الكوكباني. مولده في المحرم سنة 1149 هـ بكوكبان وبه نشأ وأخذ النحو والصرف والبيان. وقال الشوكاني في "البدر الطالع" رقم (339): برع في النحو والصرف والمعاني والبيان والأصول، وله نظم جيد، فمنه ما كتبه إلي، وقد اطلع على بعض رسائلي. توفي سنة 1212 هـ. "البدر الطالع" رقم (339) و"نيل الوطر" (2/ 161 - 162).

وأقول: الجواب بعون الله الملك الوهاب ينحصر في أبحاث أربعة: الأول: في الكلام على طرق الحديث المسئول عنه. الثاني: في الكلام على متنه. الثالث: في العلة التي لأجلها ورد ذلك الحديث. الرابع: في حكم الصلاة في المكان الذي فيه قبر. أما الكلام عن الأول فاعلم أن هذا الحديث مما وقع الاتفاق بين جميع علماء الحديث على صحته، ولم يتكلم أحد منهم عليه بما يقتضي تضعيفه، ويغلب في ظني أنه متواتر (¬1) المعنى، وذلك لأنه رواه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - جماعة من الصحابة، منهم: أبو هريرة، أخرج حديثه الشيخان (¬2)، وأبو داود (¬3)، والنسائي (¬4)، وعائشة ¬

(¬1) المتواتر: هو ما رواه جمع كثير، تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، أو وقوعه منهم من غير قصد التواطؤ، عن جمع مثلهم، حتى يصل المنقول إلى منتهى السند، ويكون مستند علمهم بالأمر المنقول عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المشاهدة أو السماع. وقد تكون السنة المتواترة قولية، أو فعلية، والأولى قليلة، والثانية كثيرة، وهي نوعان: لفظي، ومعنوي. اللفظي هو: ما اتفق رواته في لفظه - ولو حكمًا - وفي معناه وذلك كحديث: "من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار". والمعنوي: هو ما اختلفوا في لفظه ومعناه مع رجوعه لمعنى كلي، وذلك بأن يخبروا عن وقائع مختلفة تشترك في أمر واحد، فالأمر المشترك المتفق عليه بين الكل هو المتواتر، فمنه أحاديث رفع اليدين في الدعاء، فقد روي عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحو مائة حديث فيه رفع يديه في الدعاء لكنها في قضايا مختلفة، فكل قضية منها لم تتواتر، والقدر المشترك فيها وهو الرفع عند الدعاء تواتر باعتبار المجموع. "إرشاد الفحول" (ص 188) بتحقيقنا، "الكوكب المنير" (2/ 324)، "المحصول" (4/ 83، 227). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (437). ومسلم رقم (530 و532). (¬3) في "السنن" رقم (3227). (¬4) في "السنن" رقم (4/ 95، 96 رقم 2047). وله عندهم ألفاظ، منها: من حديث أبي هريرة قال: قال: "لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". ومنها "قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".

أخرج حديثها أيضًا الشيخان (¬1)، والنسائي (¬2)، وابن عباس أخرجه أيضًا الشيخان (¬3)، والنسائي (¬4). وله حديث آخر من طريق أخرى عند أبي داود (¬5) والترمذي (¬6)، وحسنه، وجندب بن عبد الله البجلي عند مسلم (¬7) والنسائي (¬8)، وأسامة بن زيد عند أحمد (¬9) ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1330). ومسلم رقم (19/ 529). (¬2) في "السنن" (4/ 95 رقم 2046). عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (435، 436). ومسلم رقم (22/ 531) (¬4) في "السنن" (2/ 40 - 41 رقم 703). ولفظه: "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". (¬5) في "السنن" رقم (3236). (¬6) في "السنن" رقم (320) وقال: حديث حسن. قلت: وأخرجه النسائي (4/ 94 رقم 2043) وابن ماجه رقم (1575). وهو حديث حسن دون قوله: "متخذين عيها السرج". عن ابن عباس قال: "لعن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج". (¬7) في صحيحه رقم (23/ 532). (¬8) في "التفسير" (1/ 406 رقم 143). عن جندب قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يموت بخمس، وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلاً. ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك" وهو حديث صحيح. (¬9) في "المسند" (5/ 204).

والطبراني (¬1) بإسناد جيد. وعن أمير المؤمنين عند البزار (¬2)، وعن زيد بن ثابت عن الطبراني (¬3) بإسناد جيد، وعن ابن مسعود عند الطبراني (¬4) أيضًا بإسناد جيد، وعن أبي عبيدة بن الجراح عند البزار (¬5)، وعن أبي سعيد عند البزار (¬6) أيضًا، وفي إسناده عمر بن صهباء، وهو ضعيف. ¬

(¬1) في "المعجم الكبير" (1/ 164 رقم 393). قلت: وأخرجه الطيالسي (2/ 113). وأورده الهيثمي في "المجمع" (2/ 27) وقال: رجاله موثقون. وقال الشوكاني في "نيل الأوطار" (2/ 114) سنده جيد. من حديث أسامة بن زيد أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في مرضه الذي مات فيه: "أدخلوا علي أصحابي، فدخلوا عليه وهو متقنع ببردة معافري فكشف القناع فقال: لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". (¬2) في "مسنده" (1/ 219 رقم 438 - كشف) عن علي بن أبي طالب قال: قال لي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مرضه الذي مات فيه، قال: "ائذن للناس علي، فأذنت، فقال: لعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مسجدًا، ثم أغمي عليه فلما أفاق قال: يا علي! ائذن للناس علي، فأذنت للناس عليه فقال: لعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مسجدًا، ثم أغمي عليه فلما أفاق قال: ائذن للناس، فأذنت لهم، فقال: لعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مسجدًا، ثلاثًا في مرض موته" وإسناده ضعيف. (¬3) في "المعجم الكبير" (5/ 150 رقم 4907). وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 27). وقال: "رواه الطبراني في "الكبير" ورجاله موثقون. قلت: وأخرجه أحمد (5/ 184). (¬4) في "المعجم الكبير" (10/ 332 رقم 10413) عن عبد الله قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إن شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد". وأورده الهيثمي في "المجمع" (2/ 27) وقال: رواه الطبراني في "الكبير" وإسناده حسن. وأخرجه أحمد رقم (3844، 4143 - شاكر) وابن خزيمة رقم (789). وإسناده حسن. (¬5) في مسنده (1/ 220 رقم 439 - كشف). وقال الهيثمي في "المجمع" (2/ 28) رجاله ثقات. (¬6) في مسنده (1/ 220 رقم 440 - كشف). وأورده الهيثمي في "المجمع" (2/ 28) وقال: رواه البزار وفيه عمر بن صهبان وقد اجتمعوا على ضعفه.

وعن جابر (¬1) عن ابن عدي؛ فهؤلاء أحد عشر صحابيًا. وقد رواه جماعة كثيرون من التابعين يزيدون على عدد الصحابة بأضعاف مضاعفة، ثم رواه من التابعين [1] عالم، ورواه بعد ذلك من لا يمكن حصره، إذا انفرد هذا فقد رواه من أهل كل عصر من لا سبيل إلى تجويز تواطئهم على الكذب، وما كان كذلك فهو المتواتر (¬2) على ما هو المذهب المختار في الأصول. وأما الكلام الثاني، وهو ما يتعلق بمتن الحديث فاعلم أن له ألفاظًا منها: "لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". ومنها: "قاتل الله اليهود؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". ومنها: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". ومنها: "أن من كان قبلكم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك". واللفظ الأول أخرجه الشيخان (¬3)، وأهل السنن (¬4) من حديث أبي هريرة، واللفظ الثاني أخرجه أيضًا أبو داود (¬5) وغيره من حديثه، واللفظ الثالث أخرجه مالك في الموطأ (¬6) من حديث عطاء بن يسار، واللفظ الرابع (¬7) أخرجه مسلم والنسائي من ¬

(¬1) لم أعثر عليه الآن في الكامل. (¬2) تقدم تعريف ذلك. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) تقدم تخريجه. (¬6) (1/ 172 رقم 85) مرسلاً. (¬7) تقدم تخريجه.

حديث جندب. وللحديث ألفاظ أخرى. ولا يخفى على من له علم بمدلولات الألفاظ أن اللعن والدعاء عليهم بالمقاتلة من الله، واشتداد غضبه عليهم من أعظم الأدلة على التحريم. وقد تقرر في الأصول (¬1) أن النهي بمجرده حقيقة في التحريم؛ فلفظ: أنهاكم كاف في استفادة التحريم مع عدم وجود الموجب للصرف إلى الكراهة. ولم يوجد هاهنا، إنما وجد ما لو انفرد عن النهي لكان قاضيًا بالتحريم، وهو اللعن والدعاء بالغضب ونحوهما. وقوله: اتخذوا جملة مستأنفة على سبيل البيان الموجب اللعن، كأنه قيل: ما سبب لعنهم؟ فأجيب بقوله: اتخذوا. وقد استشكل ذكر النصارى فيه؛ لأن اليهود لهم أنبياء بخلاف النصارى، فليس بين عيسى - عليه السلام - وبين نبينا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - نبي غيره، وليس له قبر. وأجيب أيضًا بأن الجمع في قوله أنبيائهم باعتبار المجموع من اليهود والنصارى، لا باعتبار طائفة اليهود وحدها وطائفة النصارى وحدها، وقيل الأنبياء وكبار (¬2) أتباعهم، فاكتفى بذكر الأنبياء تغليبًا. ¬

(¬1) فإن تجردت صيغة النهي عن المعاني المذكورة والقرائن فهي للتحريم. انظر: "الرسالة" (ص 217، 343)، "اللمع" (ص 14)، "التبصرة" (ص 99)، "المسودة" (ص 81). (¬2) عن عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة". أخرجه البخاري رقم (427) ومسلم رقم (16/ 528) وأحمد (6/ 51). قال القرطبي في "المفهم" (2/ 127 - 128): قوله أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوروا تلك الصور، قال الشيخ: إنما فعل ذلك أوائلهم ليستأنسوا برؤية تلك الصورة، ويتذكروا بها أحوالهم الصالحة، فيجتهدون كاجتهادهم، ويعبدون الله تعالى عند قبورهم. فمضت لهم بذلك أزمان ثم إنهم خلف من بعدهم خلف جهلوا أغراضهم، ووسوس لهم الشيطان: أن آباءهم وأجدادهم كانوا يعبدون هذه الصور، ويعظمونها فعبدوها فحذر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن مثل ذلك، وشدد النكير والوعيد على فعل ذلك، وسد الذرائع المؤدية إلى ذلك".

ويؤيد هذا حديث جندب (¬1) السابق بلفظ: كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد. والمراد بالاتخاذ أعم من أن يكون ابتداعًا واتباعًا؛ فاليهود ابتدعت، النصارى اتبعت. ولا ريب أن النصارى تعظم قبور كثير من الأنبياء الذين تعظمهم اليهود، والمساجد جمع مسجد، قال في القاموس (¬2) والمسجد معروف، ويفتح جيمه، والمفعل من باب نصر بفتح العين اسمًا كان أو مصدرًا إلا أحرفا كمسجد، ومطلع، ومشرق، ومسقط، ومفرق، ومجزر، ومسكن، ومرفق، ومنبت، ومنسك، ألزموها كسر العين، والفتح جائز وإن لم نسمعه. وما كان من باب جلس فالموضع بالكسر والمصدر بالفتح نزل منزلا أي نزولاً، وهذا [2] منزله بالكسر؛ لأنه بمعنى الدار. انتهى. وكلام أهل الصرف مثل هذا الكلام، كما وقع في شافية ابن الحاجب (¬3) أن ما كان مضارعه مفتوح العين أو مضمومها فهو على مفعل، بفتح العين ومن مكسورها. والمثال على مفعل بكسرها إلا مواضع جاءت على خلاف القياس. إذا تقرر هذا فمعنى اتخاذهم (¬4) لقبور أنبيائهم مساجد أن يعمروا عليها أو حولها مكانًا يصلى فيه، وإن لم ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) (ص: 366). (¬3) شرح شافية ابن الحاجب (1/ 117 - 120). (¬4) الذي يفهم من هذا الاتخاذ إنما هو ثلاث معان: الأول: الصلاة على القبور بمعنى السجود عليها. الثاني: السجود إليها واستقبالها بالصلاة والدعاء. الثالث: بناء المساجد عليها وقصد الصلاة فيها. * قال ابن حجر الهيتمي في "الزواجر" (1/ 121): "واتخاذ القبر مسجدا معناه الصلاة عليه أو إليه". * قال الصنعاني في "سبل السلام" (1/ 214): "واتخاذ القبر مساجد أعم من أن يكون بمعنى الصلاة إليها أو بمعنى الصلاة عليها". وجملة القول أن الاتخاذ المذكور في الأحاديث المتقدمة يشمل كل هذه المعاني الثلاثة فهو من جوامع كلمه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال الشافعي في "الأم" (1/ 246): وأكره أن يبنى على القبر مسجد وأن يسوى، أو يصلى عليه، وهو غير مسوى (يعني أنه ظاهر معروف) أو يصلى إليه، قال: وإن صلى إليه أجزأه وقد أساء، أخبرنا مالك أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" قال: وأكره هذا للسنة والآثار، وأنه كره - والله تعالى أعلم - أن يعظم أحد من المسلمين، يعني يتخذ قبره مسجدًا ولم تؤمن في ذلك الفتنة والضلال على ما يأتي بعده". * قال المحدث الألباني تعليقًا على قول الشافعي "وأكره": هي كراهة التحريم. وقال الشيخ علي القارئ في "مشكاة المصابيح" (1/ 456) نقلا عن بعض أئمة الحنفية: "سبب لعنهم: إما لأنهم كانوا يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيمًا لهم، وذلك هو الشرك الجلي، وإما لأنهم كانوا يتخذون الصلاة لله تعالى في مدافن الأنبياء، والسجود على مقابرهم والتوجه إلى قبورهم حالة الصلاة، نظرًا منهم بذلك إلى عبادة الله والمبالغة في تعظيم الأنبياء، وذلك هو الشرك الخفي لتضمنه ما يرجع إلى تعظيم مخلوق فيما لم يؤذن له فنهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمته عن ذلك إما لمشابهة ذلك الفعل سنة اليهود، أو لتضمنه الشرك الخفي". حكم هذا الاتخاذ: اتفقت المذاهب الأربعة على تحريم ذلك، ومنهم من صرح بأنه كبيرة. قال ابن حجر الهيتمي في "الزواجر " (1/ 120): "الكبيرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتسعون: اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها واتخاذها أوثانًا، والطواف بها، واستلامها والصلاة إليها".

يكن السجود على نفس القبر لأن المسجد يطلق على المكان الذي يصلى في بعضه، مثلا تقول: المسجد الفلاني مسجد فلان، إذا كان يصلي فيه، وإن لم يقع السجود في جميع أجزائه. وعلى هذا يقال لمن بنى حول القبر مسجدًا، وجعل القبر في موضع منه أن جعل القبر مسجدًا، هذا باعتبار عدم الفرق بين مسجد بفتح الجيم وبكسرها. وأما على ما روي عن سيبويه (¬1) أن المسجد بفتح الجيم لمكان السجود، وبكسرها للمكان المعروف؛ فإن كان لفظ مساجد في الحديث جمعًا لمسجد بكسر الجيم فالكلام كما تقدم، وإن كان جمعًا لمسجد بفتح الجيم فالمحرم إنما هو اتخاذ القبر نفسه مكانًا يسجد عليه، فيكون عمارة المساجد في القبور من ذلك القبيل، من غير فرق بين كون القبر في جهة القبلة أو في غيرها، هذا ما يتعلق بمتن الحديث من الكلام. ¬

(¬1) ذكره ابن منظور في "لسان العرب" (6/ 175).

وأما الكلام على البحث الثالث؛ وهو بيان العلة التي لأجلها ورد النهي فقال العلماء: إنما نهى (¬1) النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجدًا خوفًا من المبالغة في تعظيمه، والافتتان به، وربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية، ولما احتاجت الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - حين كثر المسلمون، وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين وفيها حجرة عائشة التي دفن فيها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر، وعمر بنوا على القبر حيطانًا مرتفعة مسندين حوله لئلا يظهر في المسجد، فيصلي إليه العوام، ويؤدي إلى المحذور، ثم بنوا جدارين من ركني القبر (¬2) الشماليين حرفوهما حتى التقيا، بحيث لا يتمكن أحد من استقبال (¬3) القبر. وقد حمل بعضهم الوعيد على من كان في ذلك الزمان لقرب العهد بعبادة الأوثان، وهو تقييد بلا دليل، لأن التعظيم والافتتان لا يختصان بزمان دون زمان، أو مكان دون مكان، فعليه البرهان. وقد قيل إنه يؤخذ من قوله: كانوا يتخذون [3] قبور أنبيائهم مساجد كما في بعض أحاديث الباب، ومن قوله: والمتخذين عليها المساجد كما في بعض آخر أن محل الذم على ذلك أن تتخذ المساجد على القبور بعد الدفن لا لو بني ¬

(¬1) قال القرطبي في "المفهم" (2/ 128): "ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأعلوا حيطان تربته، وسدوا المداخل إليها وجعلوها محدقة بقبره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة - إذ كان مستقبل المصلين - فتتصور الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلث من ناحية الشمال، حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره ولهذا الذي ذكرناه كله قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره". (¬2) ذكره القرطبي في "المفهم" (2/ 128). (¬3) هذا في العصر الذي عاش فيه القرطبي ولكن قد طرأ تعديل في العصر المملوكي ثم العثماني بحيث أصبح القبر ضمن حجرة مربعة تعلوه القبة الخضراء. فمن صلى خلف الحجرة لم يكن مستقبلا القبر لوجود الساتر.

المسجد أولاً، وجعل القبر في جانبه ليدفن فيه، واقف المسجد أو غيره، فليس بداخل في ذلك. قال العراقي (¬1) والظاهر أنه لا فرق، فإنه إذا بني المسجد لقصد أن يدفن في بعضه أحد فهو داخل في اللعنة، بل يحرم الدفن في المسجد، وإن شرط أن يدفن فيه لم يصح الشرط لمخالفته لمقتضى وقفه مسجدًا انتهى. إذا تقرر ما حكيناه عن العلماء من أن العلة في زجره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن اتخاذ قبره مسجدًا هي خشية الافتتان (¬2) لاح من ذلك المنع من عمارة المساجد في مكان فيه قبر، والمنع من القبر في جانب من جوانب المسجد من غير فرق بين القبلة وغيرها، لأن ذلك كله مما يدعو إلى المبالغة في التعظيم التي هي ذريعة (¬3) الافتتان. ¬

(¬1) انظر: "طرح التثريب في شرح التقريب" (4/ 298). (¬2) تقدم توضيح ذلك. (¬3) قال ابن تيمية في "التوسل والوسيلة" (ص 25): ولهذا كانت زيارة قبور المسلمين على وجهين: زيارة شرعية، وزيارة بدعية. فالزيارة الشرعية: أن يكون مقصود الزائر الدعاء للميت كما يقصد بالصلاة على جنازته الدعاء له. فالقيام على قبره من جنس الصلاة عليه، قال تعالى: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} [التوبة: 84]. فنهى عن الصلاة عليهم والقيام على قبورهم لأنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم كافرون فلما نهى عن هذا وهذا لأجل هذه العلة وهي الكفر دل ذلك على انتفاء هذا النهي عن انتفاء هذه العلة ... ". ولهذا كانت الصلاة على الموتى من المؤمنين والقيام على قبورهم من السنة المتواترة فكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي على موتى المسلمين، وشرع ذلك لأمته وكان إذا دفن الرجل من أمته يقوم على قبره ويقول: "سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل" - أخرجه أبو داود رقم (3221) من حديث عثمان - وغيره. وكان يزور قبور أهل البقيع والشهداء بأحد ويعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم". - أخرجه مسلم رقم (975) من حديث بريدة رضي الله عنه. وأما الزيارة البدعية: فهي التي يقصد بها أن يطلب من الميت الحوائج أو يطلب منه الدعاء والشفاعة، أو يقصد الدعاء عند قبره لظن القاصد أن ذلك أجوب للدعاء. فالزيارة على هذه الوجوه كلها مبتدعة لم يشرعها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا فعلها الصحابة لا عند قبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا عند غيره. وهي من جنس الشرك وأسباب الشرك ولو قصد الصلاة عند قبور الأنبياء والصالحين من غير أن يقصد دعاءهم والدعاء عندهم مثل أن يتخذ قبورهم مساجد لكان ذلك محرمًا منهيًا عنه، ولكان صاحبه متعرضًا لغضب الله ولعنته ... ". وانظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 283 - 284).

ولهذا ترى كثيرًا من العامة إذا رأى قبرًا في مسجد، أو في شهدٍ مرغ فيه خده والتمسه مرة بعد مرة، ولا سيما إذا كان فيه زخرفة، أو عليه أعواد منقوشة، أو ثياب ملونة؛ فإن العامي الغليظ إذا أراد على تلك الصفة ظن أنه النافع الضار، كما وقع مثل ذلك في كثير من الأقطار. ومن ههنا يظهر سر مبالغته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في الزجر عن اتخاذ القبور مساجد، وتكرير ذلك مرة بعد أخرى، بل ما زال ينهى عن ذلك إلى أيام مرضه. وقد أخرج مسلم (¬1) عن جندب بن عبد الله البجلي قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد". الحديث، بل وقع منه النهي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن مجرد رفع القبور لتلك العلة، كما في حديث أبي الهياج (¬2) عن علي - عليه السلام - قال: أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرًا إلا سويته" رواه الجماعة (¬3) إلا البخاري. وعن جابر قال: نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن يجصص القبر، وأن ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) أخرجه أحمد (1/ 89) ومسلم في صحيحه رقم (93/ 969) وأبو داود رقم (3218) والنسائي (4/ 88 رقم 2031). وهو حديث صحيح. (¬3) أخرجه أحمد (1/ 89) ومسلم في صحيحه رقم (93/ 969) وأبو داود رقم (3218) والنسائي (4/ 88 رقم 2031). وهو حديث صحيح.

يقعد عليه، وأن يبنى عليه". رواه أحمد (¬1)، ومسلم (¬2)، والنسائي (¬3)، وأبو داود (¬4)، والترمذي (¬5)، وصححه (¬6) ولفظه: "نهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها، وأن يبنى عليها وأن توطأ". وفي لفظ النسائي (¬7) نهى أن يبنى أو يزاد عليه، أو يجصص، أو يكتب عليه". وكل هذا إنما هو لسد ذرائع (¬8) ما نشأ عن ذلك من المفاسد التي يبكي لها الإسلام. من ذلك ما يسمع به كل أحد من جماعة كثيرة من سكان تهامة، فإنه لم يدعوا شيئًا مما كانت الجاهلية تفعله [4] بالأصنام إلا فعلوه، بل زادوا على ذلك؛ فإن الجاهلية قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، وهؤلاء القبوريون (¬9) قالوا: نعبدهم ليضروا وينفعوا، ¬

(¬1) في "المسند" (3/ 399). (¬2) في صحيحه رقم (970). (¬3) في "السنن" (4/ 86 رقم 2027). (¬4) في "السنن" رقم (3225). (¬5) في "السنن" رقم (1052). (¬6) في "السنن" (3/ 368). وهو حديث صحيح. (¬7) في "السنن" (4/ 86 رقم 2026). (¬8) الذرائع جمع ذريعة وهي - أي الذريعة (ما) أي شيء من الأفعال أو الأقوال (ظاهره مباح، ويتوصل به إلى محرم). ومعنى سدها: المنع من فعلها لكي لا تؤدي إلى حرام. انظر: "الكوكب المنير" (4/ 234) "الموافقات" (2/ 285). (¬9) قال ابن القيم في "إغاثة اللهفان" (1/ 284): " ... لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوها بها تحت أمر غيرهم". قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وإكرامها بما نهى عنه الشرع: من إيقاد النيران، وتقبيلها وتخليقها وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا. وأخذ تربتها تبركًا وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها. وإلقاء الخرق على الشجر. ومن جمع بين سنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في القبور وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادًا للآخر مناقضًا له بحيث لا يجتمعان أبدًا. فنهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة إلى القبور وهؤلاء يصلون عندها ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها، ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله تعالى. ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها. ونهى أن تتخذ عيدًا، وهؤلاء يتخذونها أعيادًا ومناسك ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر. وأمر بتسويتها، وهؤلاء يبالغون في مخالفة أمره ويرفعونها عن الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القباب. ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه ونهى عن الكتابة عليها، وهؤلاء يتخذون عليها الألواح ويكتبون عليها القرآن وغيره ونهى أن يزاد عليها غير ترابها وهؤلاء يزيدون عليه سوى التراب الآجر والأحجار والجص.

ويحيوا ويميتوا، وغير ذلك. ولا شك أن دخول القبب والمشاهد والمساجد المعمورة على القبور تحت الأحاديث القاضية بالمنع من رفع القبور وزخرفتها ثابت بفحوى الخطاب. لا يقال أن قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد" (¬1) ¬

(¬1) وهو حديث صحيح. - أخرجه مالك (1/ 185 - 186) مع تنوير الحوالك مرسلاً. - وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" (2/ 240 - 241) من طريق عطاء بن يسار مرسلا بسند صحيح. - وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (1/ 406 رقم 1587)، عن زيد بن أسلم مرسلاً. - وأخرجه ابن أبي شيبة (34513) عن زيد بن أسلم مرسلا بسند صحيح. - وأخرجه أحمد موصولا (2/ 246) والحميدي (2/ 445 رقم 1025) وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 283) و (7/ 317) عن أبي هريرة بسند حسن بلفظ: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". - وأخرج عبد الرزاق في "المصنف" (3/ 577 رقم 6726) وابن أبي شيبة (3/ 345) عن ابن عجلان، عن سهيل، عن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب أنه قال - ورأى رجلا وقف على البيت الذي فيه قبر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو له ويصلي عليه - فقال حسن للرجل: لا تفعل فإن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تتخذوا قبري عيدًا ... ". والحديث مرسل، وسهيل ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (4/ 249) ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلاً. * وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه أحمد (2/ 367) وأبو داود (2/ 534 رقم 2042) مرفوعًا "لا تتخذوا قبري عيدًا ... " وهو حديث حسن. حسنه ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" (321 - 323). * وله شاهد آخر أخرجه إسماعيل الجهضمي في "فضل الصلاة على النبي" رقم 20 بتحقيق الألباني. وأبو يعلى في "المسند" (1/ 361 رقم 209/ 469)، والحديث بهذه الطرق صحيح، والله أعلم.

يدل على أن النهي لذلك، فمهما لم تحصل العبادة لم يحصل تحريم جعل المساجد على القبور؛ لأنا نقول: هذا الحديث مع كونه مرسلا كما سلف ليس فيه إلا وقوع الدعاء منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بأن لا يجعل قبره وثنًا يعبد، وذلك لا يستلزم أن يكون هو العلة في الزجر عن اتخاذ القبور مساجد. ولو سلم ذلك لم يكن دليلا على جواز جعل المساجد على القبور؛ لأن جعلها كذلك وسيلة للعبادة، أو ما في حكمها، وذريعة إلى تلك العلة المدعاة. وما كان وسيلة إلى محرم فهو محرم، وكل محرم يجب تركه. فتلك الوسيلة يجب تركها وهو المطلوب. وأما الكلام على البحث الرابع، وهو في حكم الصلاة في الموضع الذي فيه قبر فاعلم أن حديث: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا" (¬1) حديث صحيح يدل على جواز الصلاة في جميع المواضع إلا ما خصصه حديث صحيح، والمخصص من ذلك مواضع. واختلف في عددها، منها المقبرة والمراد بها المكان الذي يقبر فيه. وقد أخرج أحمد (¬2)، وأبو داود (¬3)، والترمذي (¬4) .................. ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (335) ومسلم رقم (3/ 521) من حديث جابر. (¬2) في "المسند" (3/ 83، 96). (¬3) في "السنن" رقم (492). (¬4) في "السنن" رقم (317).

وابن ماجه (¬1) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام"، وأخرجه أيضًا الشافعي (¬2)، وابن خزيمة (¬3)، وابن حبان (¬4)، والحاكم (¬5). قال الترمذي (¬6): وهذا حديث فيه اضطراب. رواه سفيان الثوري عن عمرو بن يحيى، عن أبيه مرسلاً، قال: وكان عامة روايته عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مرسلة، ورواه حماد بن سلمة عن عمرو بن يحيى، عن أبيه عن أبي سعيد ورواه محمد بن إسحاق عن عمرو بن يحيى عن أبيه قال: وكان عامة روايته عن أبي سعيد، وكأن رواية الثوري أصح وأثبت. وقال الدارقطني في العلل (¬7): المرسل المحفوظ، ورجح البيهقي (¬8) المرسل، وقال النووي (¬9): هو ضعيف، وقال صاحب الإمام (¬10): حاصل ما علل به الإرسال، وإذا كان الواصل له ثقة فهو مقبول. قال الحافظ (¬11) وأفحش ابن دحية (¬12) فقال في كتاب ¬

(¬1) في "السنن" رقم (745). (¬2) في "ترتيب المسند" (3/ 83 - 96). (¬3) في صحيحه رقم (792). (¬4) في صحيحه رقم (1699). (¬5) في المستدرك (1/ 251) (¬6) في "السنن" رقم (2/ 131). (¬7) (11/ 319 - 320 رقم 2310) (¬8) في "السنن الكبرى" (2/ 434 - 435). (¬9) في "خلاصة الأحكام" (1/ 321 - 322 رقم 938). (¬10) عزاه إليه الحافظ في "التلخيص" (1/ 501) ط قرطبة. (¬11) في "التلخيص" (1/ 501). (¬12) عزاه إليه الحافظ في "التلخيص" (1/ 501). وقال الألباني في "الإرواء" (1/ 320): "وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وقد صححه كذلك الحاكم والذهبي، وأعله بعضهم بما لا يقدح، وقد أجبنا عن ذلك في صحيح أبي داود رقم (507) وذكرت له هناك طريقًا آخر صحيحًا هو في منجاة من العلة المزعومة، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أسانيد جيدة، ومن تكلم فيه فما استوفى طرقه. وقد أشار إلى صحته الإمام البخاري في "جزء القراءة" (ص 4). وخلاصة القول: أن الحديث صحيح.

التنوير له: لا يصح من طريق من الطرق، كذا قال، ولم يصب. انتهى. والحديث صححه الحاكم في المستدرك، وابن حزم الظاهري، وأشار ابن دقيق العيد [5] في الإمام (¬1) إلى صحته. وفي الباب عن علي - عليه السلام - عند أبي داود (¬2)، وعن عمر عند الترمذي (¬3) وابن ماجه (¬4)، وعن عمر عند ابن ماجه (¬5)، وعن أبي مرثد الغنوي عند مسلم (¬6)، وأبي داود (¬7)، والترمذي (¬8)، والنسائي (¬9)، ولفظه: "لا تصلوا ولا تجلسوا عليها"، وعن جابر وعبد الله بن عمرو، وعمران بن الحصين، ومعقل بن يسار، وأنس بن مالك، جميعهم عند ابن عدي في الكامل (¬10)، وفي إسناد حديثهم عباد بن (¬11) كثير، وهو ¬

(¬1) عزاه إليه الحافظ في "التلخيص" (1/ 501) ط قرطبة. (¬2) في "السنن" رقم (490) وهو حديث ضعيف. (¬3) في "السنن" رقم (346). (¬4) في "السنن" رقم (746) وهو حديث ضعيف. (¬5) في "السنن" رقم (747) وهو حديث ضعيف. (¬6) في صحيحه رقم (98/ 972). (¬7) في "السنن" رقم (3229). (¬8) في "السنن" رقم (1050). (¬9) في "السنن" رقم (2/ 67 رقم 760) وهو حديث صحيح. (¬10) (4/ 1640 - 1641). (¬11) وهو عباد بن كثير الثقفي البصري. قال البخاري: تركوه. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال العجلي: ضعيف. انظر: "تهذيب التهذيب" (5/ 87 - 89 رقم 169).

ضعيف، ضعفه أحمد، وابن معين. قال ابن حزم (¬1): أحاديث النهي عن الصلاة إلى القبور والصلاة في المقبرة أحاديث متواترة، ولا يسع أحدًا تركها، قال العراقي (¬2) إن أراد بالتواتر ما يذكره الأصوليون من أنه رواه عن كل واحد من رواته جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب في الطرفين والواسطة، فليس كذلك؛ فإنها أخبار آحاد، وإن أراد بذلك وصفها بالشهرة فهو قريب. وأهل الحديث غالبًا إنما يريدون بالمتواتر المشهور انتهى. وفيه أن المعتبر في التواتر (¬3) هو أن يروي الحديث جمع عن جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب لا أن يرويه جمع كذلك عن كل واحد من رواته؛ فإنه بما لم يعتبره أهل الأصول إلا أن يريد لكل واحد من رواته كل رتبة من رتب رواته. فهذه الأحاديث تدل على المنع من الصلاة في المقبرة، وإلى القبور. وقد ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل (¬4)، ولم يفرق بين المنبوشة وغيرها، ولا بين أن يفرش عليها شيء يقيه من النجاسة أم لا؟ ولا بين أن يكون في القبور، أو في مكان متفرد عنها كالبيت. وإلى ذلك ذهبت الظاهرية. قال ابن حزم (¬5): وبه يقول طوائف من السلف، فحكي عن خمسة صحابة النهي عن ذلك؟ وهم علي، وعمر، وأبو هريرة، وأنس، وابن عباس، وقال: ما نعلم لهم مخالفًا من الصحابة، وحكاه (¬6) عن جماعة من التابعين: إبراهيم النخعي، ونافع بن جبير بن مطعم، وطاووس، وعمرو بن دينار، وخيثمة، وغيرهم. ¬

(¬1) في "المحلى" (4/ 30 - 32). (¬2) في "التقييد والإيضاح" (ص 265). (¬3) تقدم توضيح ذلك. (¬4) ذكره ابن حزم في "المحلى" (4/ 31 - 32). (¬5) في "المحلى" (4/ 30 - 31). (¬6) أي ابن حزم في "المحلى" (4/ 30 - 31).

وقوله: لا نعلم لهم مخالفًا في الصحابة إخبار عن علمه، وإلا فقد حكى الخطابي في معالم (¬1) السنن عن عبد الله بن عمر أنه رخص في الصلاة في المقبرة. وحكي أيضًا عن الحسن أنه صلى في المقبرة. وقد ذهب إلى تحريم الصلاة على القبر من أهل البيت - عليهم السلام - المنصور بالله، والهادوية (¬2). وصرحوا بعدم صحتها إن وقعت فيها، وإن وقعت بينها فمكروهة فقط. وذهب الشافعي (¬3) إلى الفرق بين المقبرة المنبوشة وغيرها فقال: إذا كانت مختلطة بلحم الموتى وصديدهم، وما يخرج منهم لم تجز الصلاة فيها للنجاسة (¬4)؛ ¬

(¬1) (1/ 330). (¬2) في "البحر الزخار" (1/ 216 - 217). (¬3) في "الأم" (2/ 95 - 96). (¬4) قال ابن القيم في "إغاثة اللهفان" (1/ 274): أن النهي عن الصلاة في المقبرة لأجل النجاسة قول باطل من عدة أوجه: 1 - أن الأحاديث كلها ليس فيها فرق بين المقبرة الحديثة والمنبوشة كما يقول المعللون بالنجاسة. 2 - أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد، ومعلوم قطعًا أن هذا ليس لأجل النجاسة. فإن ذلك لا يختص بقبور الأنبياء؛ ولأن قبور الأنبياء من أطهر البقاع، وليس للنجاسة عليها طريق البتة، فإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم، فهم في قبورهم طريون. 3 - أنه نهى عن الصلاة إليها. 4 - أنه أخبر أن الأرض كلها مسجد، إلا المقبرة والحمام، ولو كان ذلك لأجل النجاسة لكان ذكر الحشوش والمجازر ونحوها أولى من ذكر القبور. 5 - أن موضع مسجده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مقبرة للمشركين، فنبش قبورهم وسواها واتخذه مسجدًا، ولم ينقل ذلك التراب بل سوى الأرض ومهدها وصلى فيه كما ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك - أخرجه البخاري في صحيحه رقم (428) ومسلم رقم (524) -. 6 - أنه لعن المتخذين عليها المساجد، ولو كان ذلك لأجل النجاسة لأمكن أن يتخذ عليها المساجد مع تطينها بطين طاهر. فتزول اللعنة وهو باطل قطعًا. 7 - أنه قرن في اللعن بين متخذي المساجد عليها وموقدي السرج عليها فهما في اللعنة قرينان، وفي ارتكاب الكبيرة صنوان. فإن كل ما لعن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو من الكبائر، ومعلوم أن إيقاد السرج عليها إنما لعن فاعله لكونه وسيلة إلى تعظيمها، وجعلها نصبًا يوفض إليه المشركون، كما هو الواقع، فهكذا اتخاذ المساجد عليه. ولهذا قرن بينهما، فإن اتخاذ المساجد عليها تعظيم لها، وتعريض للفتنة بها. ثم قال ابن القيم في "إغاثة اللهفان" (1/ 275): فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه، وفهم عن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقاصده جزم جزما لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة منه باللعن والنهي بصيغتيه: صيغة "لا تفعلوا" وصيغة "إني أنهاكم" ليس لأجل النجاسة بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه، وارتكب ما عنه نهاه، واتبع هواه، ولم يخش ربه ومولاه". وقال الأشرم: إنما كرهت الصلاة في المقبرة للتشبه بأهل الكتاب؛ لأنهم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد. "إغاثة اللهفان" (1/ 276).

فإن صلى رجل في مكان ظاهر منها أجزته. وإلى مثل ذلك ذهب أبو طالب، وأبو العباس، والإمام يحيى، وقال الرافعي: أما المقبرة فالصلاة مكروهة فيها بكل حال. وذهب الثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة إلى كراهة الصلاة في المقبرة، ولم يفرقوا كما فرق الشافعي (¬1) ومن معه بين المنبوشة وغيرها. وذهب مالك إلى جواز الصلاة في المقبرة وعدم الكراهة. والأحاديث ترد عليه. وقد احتج له بعض أصحابه بأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - صلى على قبر المسكينة (¬2) السوداء، وهذا من أعجب ما يتفق لمن لا عناية له بعلم الرواية. والحاصل أن اسم المقبرة يصدق على المكان الذي هو موضع للقبر وإن اتسع من غير فرق بين ما فيه قبر واحد أو قبور متعددة، قال في القاموس (¬3): القبر مدفن الإنسان، الجمع قبور، والمقبرة مثلثة الباء، وكمكنسة موضعها. انتهى. والمراد بالمكان الذي يصدق عليه اسم المقبرة هو ما كان له حائط، أو حدود معلومة، أو نحو ذلك مما يمتاز به عن غيره، فإذا جعلت مثلا قطعة من الأرض للقبر فيها، ثم دفن ¬

(¬1) في "الأم" (2/ 95 - 96). (¬2) أخرجه البخاري رقم (1337) ومسلم رقم (956) وأبو داود رقم (3203) وابن ماجه رقم (1527) وأحمد (2/ 353) والبيهقي (4/ 47) من حديث أبي هريرة. (¬3) (ص 590).

فيها ميت واحد قيل لها مقبرة لغة وعرفا. والمسجد الذي فيه قبر من هذا القبيل، وغلب اسم المسجد عليه لا يرفع صدق اسم المقبرة عليه، وإلا لزم أن المقبرة إن سميت باسم خاص غير اسم المقبرة مثل خزيمة مثلا التي هي مقبرة صنعاء أن لا يثبت لها حكم المقبرة، واللازم باطل فالملزوم مثله. أما الملازمة فظاهرة، وأما بطلان اللازم فلأن الأسماء لا تأثير لها في تحويل الأحكام الشرعية بإجماع المسلمين. إلى هنا انتهى المراد، وفيه كفاية لمن له هداية. [حرره الحقير محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما في نهار يوم السبت لعله سادس شهر جمادى الأولى سنة 1209] (¬1). [انتهى من تحريره القاضي النحرير عمدة الإسلام وعمادهم محمد بن علي الشوكاني حفظه الله، وحفظه الله في نهار السبت لعله 6 شهر جمادى أول سنة 1209] (¬2). ¬

(¬1) زيادة من (أ). (¬2) زيادة من (ب).

إتحاف المهرة بالكلام على حديث: "لا عدوى ولا طيرة"

إتحاف المهرة بالكلام على حديث: "لا عدوى ولا طيرة" تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: (أ): 1 - عنوان الرسالة: (إتحاف المهرة بالكلام على حديث: "لا عدوى ولا طيرة"). 2 - موضوع الرسالة: في "الحديث". 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، ما قولكم - رضي الله عنكم - وبارك للمسلمين في أوقاتكم وشكر سعيكم فيمن ابتلي بنحو الجمرة من الأمراض التي تعتقد العامة أنها معدية وأريد بيع ملبوسه هل يجب. 4 - آخر الرسالة: أمام محراب قبة المهدي عباس، محمد بن قاسم بن أحمد أبو طالب غفر الله له ولوالديه ولجميع المؤمنين آمين. وصلى الله على سيدنا محمد الأمين وعلى آله الطاهرين وأصحابه الراشدين عدد ما خلق من شيء. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - الناسخ: محمد بن قاسم بن أحمد أبو طالب. 7 - تاريخ النسخ: 22 شهر الحجة الحرام سنة 1349. 8 - عدد الصفحات: 12 صفحة. 9 - عدد الأسطر في الصفحة: (17 - 21) سطرًا. 10 - عدد الكلمات في السطر: (12 - 14) كلمة. 11 - الرسالة من المجلد الأول من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".

[عنوان الرسالة من المخطوط (أ)]

وصف المخطوط (ب): 1 - عنوان الرسالة: (إتحاف المهرة بالكلام على حديث: "لا عدوى ولا طيرة"). 2 - موضوع الرسالة: في "الحديث". 3 - أول الرسالة: ما قولكم رضي الله عنكم وشكر سعيكم فيمن ابتلي بنحو الجمرة من الأمراض التي تعتقد العامة أنها معدية وأريد بيع ملبوسه ... 4 - آخر الرسالة: للأحاديث الصحيحة فالحق ما أسلفناه من الجمع بين العام والخاص والله أعلم. انتهى من تحرير المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما في صبح يوم الخميس لعله سادس عشر شهر جمادى الآخرة سنة 1209 هـ. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - المسطرة: الأولى: (7) سطرًا. الثانية: (21) سطرًا. الثالثة - العاشرة: (26) سطرًا. الرابعة: (3) سطرًا. 7 - عدد الكلمات في السطر: (16) كلمة. 8 - الرسالة من المجلد الأول من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".

[صورة الصفحة الأولى من المخطوط (ب)

[صورة الصفحة الثانية من المخطوط (ب)

[صورة الصفحة الأخيرة من المخطوط (ب)

بسم الله الرحمن الرحيم ما قولكم رضي الله عنكم [وبارك للمسلمين في أوقاتكم] (¬1) وشكر سعيكم فيمن ابتلي بنحو الجمرة من الأمراض التي تعتقد العامة أنها معدية وأريد بيع ملبوسه هل يجب على المتولي لذلك البيان. وهل يجوز له بيعه إلى من يعلم أو يظن أنه يبيعه غير مبين لجهل أو جرأة. وهل عموم أدلة (لا عدوى) (¬2) وحديث: "فر من المجذوم (¬3) كما تفر من الأسد" (¬4) وما حكم إنكار أبي هريرة لحديث لا عدوى وبناه على (لا يورد) وما رطانته بالحبشية؟ جزيتم خيرًا، وما حال الحديثين فإن البخاري علق حديث المجذوم وقال في حديث لا يورد وعن أبي سلمة ولم يذكر له سندًا [1] إلا أن يكون سنده لحديث لا عدوى لكون أبي سلمة فيه [كل السؤال إلى هنا يتلوه الجواب] (¬5). ¬

(¬1) زيادة من (أ). (¬2) سيأتي تخريجه (¬3) الجذام: علة رديئة تحدث من انتشار المرة السوداء في البدن كله فيفسد مزاج الأعضاء وهيئتها وشكلها، وربما فسد في آخره اتصالها حتى تتآكل الأعضاء وتسقط ويسمى داء الأسد. وفي هذه التسمية ثلاثة أقوال للأطباء: أحدها: أنها لكثرة ما تعتدي الأسد، والثاني: لأن هذه العلة تجهم وجه صاحبها وتجعله في سحنة الأسد. "زاد المعاد" (4/ 136). قال الدكتور الأزهري: هذا المرض سمي بداء الأسد، لأنه يحول وجه المريض بما يجعله يشبه الأسد، لكثرة وجود أورام صغيرة وتجعدات في الوجه، وخطورة هذا المرض في إتلاف الأعصاب المتطرفة فيفقد المريض حساسية الأطراف أولاً، ثم تتساقط الأصابع تدريجيًا. وهو من الأمراض المعدية التي تجيء عدواها من التنفس مع المخالطة الطويلة ويعزل الآن جميع مرضى الجذام في مستعمرات خاصة بهم لمنع انتشار المرض. حاشية: "زاد المعاد" (4/ 136). (¬4) سيأتي تخريجه. (¬5) زيادة من (ب).

إتحاف المهرة بالكلام على حديث لا عدوى ولا طيرة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله. تحقيق ما هو الحق في جواب هذا السؤال يتوقف على تنقيح الكلام في الأحاديث الواردة في نفي العدوى والطيرة على العموم والجمع بينها وبين ما ورد مخالفًا لها. فأقول وبالله أستعين: حديث "لا عدوى ولا طيرة" أخرجه الشيخان (¬1) من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "لا عدوى ولا طيرة ولا صفر ولا هامة"، فقال أعرابي: ما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيخالطها البعير الأجرب فيجربها قال: "فمن أعدى الأول؟ ". قال معمر: قال الزهري (¬2) فحدثني رجل عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا يوردن ممرض على مصح"، قال: فراجعه الرجل فقال: أليس قد حدثتنا أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا عدوى ولا طيرة ولا صفر ولا هامة" قال: لم أحدثكموه. قال الزهري: قال أبو سلمة قد حدثت به وما سمعت، أبو هريرة نسي حدثنا قط غيره، هذا لفظ أبي داود (¬3) ولهذا يتبين ما وقع في رواية أخرى (¬4) أن أبا هريرة لما قيل له قد حدثتنا أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا عدوى" .. الحديث. رطن بالحبشية فإن هذه الرطانة (¬5) هي إنكار التحديث كما وقع مبينًا في هذه الرواية وقد روى ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5770) ومسلم رقم (101/ 2220). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5774) ومسلم رقم (104/ 2221). (¬3) في "السنن" رقم (4/ 232). (¬4) تقدم آنفًا. (¬5) وفي الحديث: "فقال للحارث: أتدري ماذا قلت؟ قال: لا. قال أبو هريرة: قلت أبيت".

حديث لا عدوى، مسلم (¬1)، وأبو داود (¬2) ومن طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة وأخرجه أيضًا أبو داود (¬3) من طريق أبي صالح عن أبي هريرة. وأخرجه أيضًا مسلم (¬4) من طريق جابر بلفظ قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "لا عدوى ولا طيرة ولا غول". وأخرجه البخاري (¬5) ومسلم (¬6) وأبو داود (¬7) والترمذي (¬8) وابن ماجه (¬9) من حديث أنس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل الصالح، والفأل الصالح الكلمة الحسنة". وأخرجه أبو داود (¬10) من حديث سعد بن مالك أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ¬

(¬1) في صحيحه رقم (106/ 2220). (¬2) في "السنن" رقم (3912). (¬3) في "السنن" رقم (3913). (¬4) في صحيحه رقم (107/ 2222). قال جمهور العلماء (ولا غول): كانت العرب تزعم أن الغيلان في الفلوات، وهي جنس من الشياطين فتتراءى للناس وتتغول تغولا أي تتلون تلونًا فتضلهم عن الطريق فتهلكهم، فأبطل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذاك. وقال آخرون: ليس المراد بالحديث نفي وجود الغول وإنما معناه إبطال ما تزعمه العرب من تلون الغول بالصور المختلفة واغتيالها. وقالوا: ومعنى لا غول أي لا تستطيع أن تضل أحدًا. (¬5) في صحيحه رقم (5776). (¬6) في صحيحه رقم (2224). (¬7) في "السنن" رقم (3916). (¬8) في السنن (1615). (¬9) في "السنن" رقم (3537). (¬10) في "السنن" رقم (3921) وهو حديث صحيح. * قال ابن الأثير في "النهاية" (5/ 283): الهامة: الرأس، واسم طائر. وهو المراد في الحديث. وذلك أنهم كانوا يتشاءمون بها. وهي من طير الليل. وقيل هي البومة، وقيل كانت العرب تزعم أن روح القتيل الذي لا يدرك بثأره تصير هامة، فتقول: اسقوني. فإذا أدرك بثأره طارت. وقيل: كانوا يزعمون أن عظام الميت، وقيل روحه، تصير هامة فتطير ويسمونه الصدى فنفاه الإسلام ونهاهم عنه. * العدوى: اسم من الإعداء، كالرعوى والبقوى، من الإرعاء والإبقاء. يقال: أعداه الداء يعديه إعداء وهو أن يصيبه مثل ما بصاحب الداء. "النهاية" (3/ 192). * الطيرة: بكسر الطاء وفتح الياء، وقد تسكن: هي التشاؤم بالشيء. وهو مصدر تطير. يقال: تطير طيرة وتخير خيرة ولم يجيء من المصادر هكذا غيرهما. وأصله فيما يقال: التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرهما. وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم فنفاه الشرع وأبطله ونهى عنه، وأخبر أنه ليس له تأثير في جلب نفع أو دفع ضر. "النهاية" (3/ 152).

يقول: "لا هامة ولا عدوى ولا طيرة" فهذا الحديث قد رواه [2] عن أبي هريرة غير أبي سلمة، ورواه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - غير أبي هريرة كما بيناه. وأيضًا الإنكار إذا وقع من راوي الحديث بعد أن رواه عنه الثقة لا يكون قادحًا كما تقرر في علوم الحديث (¬1) لاحتمال النسيان فكيف إذا رواه عنه الثقات، فكيف إذا شاركه فيما رواه غيره، وإذا تقرر فالعدوى والطيرة المذكورتان في هذه الأحاديث نكرتان في سياق النفي، والنكرة الواقعة كذلك من صيغ العموم كما تقرر في الأصول (¬2) فكأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: ليس شيء من أفراد العدوى والطيرة ثابتًا. ومما يقوي هذا العموم ما أخرجه أبو داود (¬3) والترمذي (¬4) وصححه وابن ماجه (¬5) من حديث ابن مسعود عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "الطيرة شرك ¬

(¬1) مقدمة ابن الصلاح (ص 37)، "تدريب الراوي" (1/ 232). (¬2) انظر "الكوكب المنير" (3/ 136) و"تيسير التحرير" (1/ 219)، "المسودة" (ص 101). (¬3) في "السنن" رقم (3910). (¬4) في "السنن" رقم (1614) وقال: هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث سلمة بن كهيل .. (¬5) في "السنن" رقم (3538) وهو حديث صحيح.

ثلاث مرات وما منا إلا .. ولكن الله يذهبه بالتوكل". قال الخطابي (¬1) قال محمد بن إسماعيل يعني البخاري: كان سليمان بن حرب ينكر هذا ويقول: هذا الحرف ليس قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وكأنه قول ابن مسعود. وحكى الترمذي (¬2) عن البخاري عن سليمان بن حرب نحو هذا وأن الذي أنكره هو "وما منا إلا". قال المنذري (¬3) أما الصواب ما قاله البخاري وغيره أن قوله: وما منا إلا إلخ من كلام ابن مسعود مدرج. قال الحافظ أبو القاسم الأصبهاني (¬4) والمنذري (¬5) وغيرهما في الحديث إضمار أي وما منا إلا وقد وقع في قلبه شيء من ذلك يعني قلوب أمته وقيل: معناه ما منا إلا من يعتريه التطير وسبق إلى قلبه الكراهة فحذف اختصارًا واعتمادًا على فهم السامع. ويؤيد هذا المعنى ما أخرجه أحمد (¬6) ومسلم (¬7) من حديث معاوية بن الحكم السلمي قال: "قلت يا رسول الله إني حديث عهد بالجاهلية وقد جاء الله بالإسلام فإن منا رجالا يأتون الكهان (¬8)، قال: فلا تأتهم، قال: ومنا رجال يطيرون، قال: ذلك شيء يجدونه في ¬

(¬1) في "معالم السنن" (4/ 230 - مع السنن). (¬2) في "السنن" رقم (4/ 161). (¬3) في "مختصر السنن" (5/ 374). (¬4) في "الترغيب والترهيب" (1/ 418). (¬5) في "الترغيب والترهيب" (3/ 647). (¬6) في "المسند" (5/ 447، 448). (¬7) في صحيحه رقم (121/ 537). (¬8) قال القاضي عياض في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (7/ 153): الكهانة كانت في العرب على ثلاثة ضروب: أحدهما: أن يكون له إنسان أي من الخير، فيخبره بما يسترق من السمع من السماء وهذا القسم قد بطل منذ بعث الله محمدًا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الثاني: أن يخبر بما يطرأ في أقطار الأرض وما خفي عنه بما قرب أو بعد. الثالث: التخمين والخرز، وهذا يخلق الله منه لبعض الناس قوة ما لكن الكذب في هذا الباب أغلب، ومن هذا الفن العرافة، وصاحبها عراف وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها بها، وقد يعتضد بعض أهل هذا الفن في ذلك بالزجر والطرق والنجوم وأسباب معتادة وهذا الفن هي العيافة بالياء. وكلها ينطلق عليها اسم الكهانة عندهم.

صدورهم فلا يصدنكم" الحديث. قال النووي في شرح مسلم (¬1) معناه أن كراهة ذلك يقع في نفوسكم في العادة، ولكن لا تلتفتوا إليه ولا ترجعوا عما كنتم عزمتم عليه قبل هذا. انتهى. وإنما جعل الطيرة في هذا الحديث من الشرك لأنهم كانوا يعتقدون أن التطير يجلب لهم نفعًا أو يدفع عنهم ضررًا إذا عملوا بموجبه فكأنهم أشركوه مع الله تعالى، ومعنى إذهابه بالتوكل أن ابن آدم إذا تطير وعرض له خاطر من التطير أذهبه الله بالتوكل والتفويض إليه وعدم العمل بما خطر من ذلك، فمن توكل سلم من ذلك ولم يؤاخذه الله بما عرض له من التطير. وأخرج أبو داود (¬2) عن عروة بن عامر القرشي قال: ذكرت الطيرة عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقال [3]: "أحسنها الفأل ولا ترد مسلمًا، فإن رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك". قال أبو القاسم الدمشقي: ولا صحبة (¬3) لعروة القرشي تصح. وذكر البخاري وغيره أنه سمع من ابن عباس فعلى هذا يكون حديثه مرسلاً. وقال النووي في ¬

(¬1) (14/ 223 - 224). (¬2) في "السنن" رقم (3919). وهو حديث ضعيف. (¬3) انظر "الإصابة" (4/ 404 - 405 رقم 5536). "تهذيب التهيب" (3/ 95).

شرح (¬1) مسلم: وقد صح عن عروة بن عامر الصحابي رضي الله عنه ثم ذكر الحديث وقال في آخره: رواه أبو داود بإسناد صحيح انتهى. وأخرج أبو داود (¬2) من حديث قطن بن قبيصة عن أبيه قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقول: "العيافة والطيرة والطرق من الجبت". العيافة (¬3) هي زجر الطير والتفاؤل بها كما كانت العرب تفعل ذلك والطرق الضرب بالحصى، وقيل: هو الخط في الرمل. وفي كتاب أبي داود (¬4) أن الطرق الزجر والعيافة الخط، والجبت كل ما عبد من دون الله، وقيل: هو الكاهن والشيطان. وقوله: لا صفر ولا هامة في الأحاديث السابقة قيل: أن الصفر حية (¬5) في البطن تصيب الإنسان إذا جاع فتؤذيه وكانت العرب تزعم أنها تعدي. وقيل هو تأخير المحرم إلى صفر وهو النسيء الذي كانت تفعله الجاهلية فأبطلهما الإسلام. وقيل: إنه شهر صفر لأنهم كانوا ينتكبون فيه من الشروع في الأعمال كالنكاح والبناء والسفر. والهامة كانت الجاهلية تزعم أنه إذا قتل قتيل وقف على قبره طائر لا يزال يصيح يقول: اسقوني اسقوني حتى يقتلوا قاتله. ¬

(¬1) (14/ 224) (¬2) في "السنن" رقم (3907) وهو حديث ضعيف. (¬3) العيافة: زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها. وهو من عادة العرب كثيرًا، وهو كثير في أشعارهم يقال: عاف يعيف عيفًا، إذا زجر وحدس وظن. وبنو أسد يذكرون بالعيافة ويوصفون بها. قيل عنهم: إن قومًا من الجن تذاكروا عيافتهم فأتوهم، فقالوا: ضلت لنا ناقة فلو أرسلتم معنا من يعيف. فقالوا لغليم منهم: انطلق معهم فاستردفه أحدهم، ثم ساروا فلقيهم عقاب كاسرة إحدى جناحيها، فاقشعر الغلام، وبكى فقالوا: مالك؟ فقال: كسرت جناحًا ورفعت جناحًا، وحلفت بالله صراحًا ما أنت بإنسي ولا تبغي لقاحًا. "النهاية" (3/ 330). (¬4) في "السنن" رقم (4/ 229). (¬5) "النهاية" (3/ 35).

ومن الأحاديث الدالة على عدم جواز التطير، ما أخرج أبو داود (¬1)، والنسائي (¬2) من حديث بريدة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث غلامًا سأل عن اسمه فإذا أعجبه (¬3) اسمه فرح به ورئي بشر ذلك في وجهه، وإن كره اسمه رئي كراهة ذلك في وجهه. وظاهر ما أسلفنا من الأحاديث أنه لا يجوز اعتقاد ثبوت العدوى في شيء ولا التطير من أمر من الأمور، ولكنه قد ورد ما يعارض ذلك في الظاهر كحديث الشريد بن مؤيد الثقفي عند مسلم (¬4) والنسائي (¬5) وابن ماجه (¬6) قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: أنا قد بايعناك فارجع. وأخرجه البخاري في صحيحه (¬7) تعلقًا من حديث سعيد بن مثنى قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "لا عدوى ولا طيرة ولا هام ولا صفر، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد". ومن ذلك حديث: "لا يورد ممرض على مصح" المتقدم (¬8). ¬

(¬1) في "السنن" رقم (3920). (¬2) في "السنن الكبرى" رقم (5/ 354 رقم 8822) وهو حديث صحيح. (¬3) منها ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2731، 2732) وفيه: "لما جاءهم سهيل بن عمرو يوم الحديبية قال: قد سهل لكم من أمركم". وذكر الحافظ له شاهدين في "الفتح" (5/ 320). (ومنها): ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6190، 6193) عن الزهري عن ابن المسيب عن أبيه أن أباه جاء إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ما اسمك؟ قال: حزن. قال: أنت سهل. قال: لا أغير اسمًا سمانيه أبي، قال ابن المسيب فما زالت الحزونة فينا بعد". (¬4) في صحيحه رقم (2231). (¬5) في "السنن" (7/ 105). (¬6) في "السنن" رقم (3544). (¬7) في صحيحه رقم (5707). (¬8) البخاري في صحيحه رقم (5774) وقد تقدم.

قال القاضي (¬1) عياض: قد اختلفت الآثار عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في قصة المجذوم فثبت عنه الحديثان المذكوران، وعن جابر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -[4]- أكل مع مجذوم، وقال له: كل ثقة بالله تبارك وتعالى وتوكلا عليه (¬2). وعن عائشة قالت: كان لنا مولى مجذوم فكان يأكل في صحافي ويشرب في أقداحي وينام على فراشي (¬3). قال: وقد ذهب عمر (¬4) وغيره من السلف إلى الأكل معه ورأوا أن الأمر باجتنابه منسوخ، والصحيح الذي قاله الأكثرون. ويتعين المصير أنه لا نسخ بل بحث الجمع بين الحديثين وحمل الأمر باجتنابه والفرار منه على الاستحباب والاحتياط، وأما الأكل معه ففعله لبيان الجواز وأنه أعلم. كذا في شرح مسلم (¬5) للنووي. والحديث الذي أشار إليه بأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أكل مع المجذوم أخرجه أبو داود (¬6) والترمذي (¬7) وابن ماجه (¬8). ¬

(¬1) في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (7/ 163). (¬2) أخرجه الترمذي رقم (1817) وابن ماجه رقم (3542). قال الترمذي: هذا حديث غريب. وأخرجه الحاكم (4/ 136 - 137) وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وتعقبه الألباني في "الضعيفة" (3/ 282). لا يخفى بعده عن الصواب ونحوه قول المناوي في "التيسير" إسناده حسن مغترًا بما نقل في الفيض عن ابن حجر أنه قال: حديث حسن. وخلاصة القول أن الحديث ضعيف والله أعلم. (¬3) انظر "فتح الباري" (10/ 159). (¬4) ذكره النووي في شرحه لصحيح مسلم (14/ 228). (¬5) (14/ 228). (¬6) في "السنن" رقم (3925). (¬7) في "السنن" رقم (1818). (¬8) في "السنن" رقم (3542).

قال الترمذي (¬1) غريب لا نعرفه إلا من حديث يوسف بن محمد عن المفضل بن فضالة وهذا شيخ بصري والمفضل بن فضالة شيخ مصري أوثق من هذا وأشهر وروى شعبة هذا الحديث عن حبيب بن الشهيد عن ابن بريدة: أن عمر أخذ بيد مجذوم. وحديث شعبة أشبه عندي وأصح انتهى. قال الدارقطني (¬2) تفرد به مفضل بن فضالة البصري أخو مبارك عن حبيب بن الشهيد عنه يعني عن ابن المنكدر. وقال ابن عدي الجرجاني: لا أعلم [أحدًا] (¬3) يرويه عن حبيب بن الشهيد غير مفضل بن فضالة وقالوا تفرد بالرواية عنه يونس بن محمد انتهى والمفضل بن فضالة (¬4) البصري كنيته أبو مالك. قال يحيى بن معين: ليس بذاك، وقال النسائي: ليس بالقوي وقال أبو حاتم (¬5) يكتب حديثه، وذكره ابن حبان في الثقات (¬6). قال القاضي (¬7) عياض: قال بعض العلماء (¬8) في هذا الحديث وما في معناه - يعني حديث الفرار من المجذوم - دليل على أنه يثبت للمرأة الخيار في فسخ النكاح إذا وجدت زوجها مجذومًا أو وجدت به جذامًا. قال أيضًا، قالوا: ويمنع من المسجد والاختلاط بالناس. قال: وكذلك اختلفوا (¬9) في أنهم إذا كثروا هل يؤمرون أن يتخذوا لأنفسهم موضعًا منفردًا خارجًا عن الناس ولا يمنعون من التصرف في منافعهم وعليه أكثر الناس، أم لا يلزمهم التنحي. ¬

(¬1) في "السنن" (4/ 226). وهو حديث ضعيف وقد تقدم. (¬2) ذكره الحافظ في "الفتح" (10/ 159). (¬3) زيادة يقتضيها السياق. (¬4) انظر "تهذيب التهذيب" (4/ 140). (¬5) ذكره ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (4/ 140). (¬6) ذكره ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (4/ 140). (¬7) في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (7/ 164). (¬8) منهم الخطابي في "أعلام الحديث" (3/ 2119) والباجي في "المنتقى" (7/ 265). (¬9) انظر تفصيل الأقوال في "فتح الباري" (10/ 159 - 160).

قال (¬1) ولم يختلفوا في القليل منهم يعني في أنهم لا يمنعون قال: ولا يمنعون من صلاة الجمعة مع الناس ويمنعون من غيرها. قال: ولو استضر أهل قرية بمن جذم لمخالطتهم في الماء فإن قووا على استنباط ماء آخر من غير حرج ولا ضرر أمروا به وإلا استنبطه لهم آخرون، أو قاموا من يستقي لهم وإلا فلا يمنعون. قال النووي في شرح مسلم (¬2) في الكلام على حديث لا يورد ممرض على مصح قال العلماء: الممرض صاحب الإبل المراض والمصح صاحب الإبل الصحاح. فمعنى الحديث لا يورد صاحب الإبل المراض إبله على إبل صاحب الإبل الصحاح لأنه ربما أصابها المرض بفعل الله تعالى وقدره [5] الذي أجرى به العادة فيجعل لصاحبها ضررًا بمرضها، وربما حصل له ضررًا أعظم من ذلك باعتقاد العدوى بطبعها فيكفر. والله أعلم. انتهى. وأشار إلى نحو هذا الكلام ابن بطال (¬3) وقال: النهي ليس للعدوى بل للتأذي بالرائحة الكريهة ونحوها حكاه ابن رسلان في شرح السنن. وقال ابن الصلاح (¬4) وجه الجمع أن هذه الأمراض لا تعدي بطبعها لكن الله سبحانه جعل مخالطة المريض للصحيح سببًا لعداية مرضه ثم قد يتخلف ذلك عن سببه كما في غيره من الأسباب. قال الحافظ ابن حجر في شرح (¬5) النخبة: والأولى في الجمع أن يقال إن نفيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - للعدوى باق على عمومه، وقد صح قوله: لا يعدي شيء شيئًا. وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لمن عارضه بأن البعير الأجرب يكون بين الإبل ¬

(¬1) القاضي عياض في "إكمال المعلم" (7/ 164). (¬2) (14/ 214 - 215). (¬3) ذكره ابن حجر في "فتح الباري (10/ 159). " (¬4) ذكره ابن حجر في "فتح الباري (10/ 161). وانظر "شرح النخبة" (ص 97 - 98). (¬5) (ص 98 - 99).

الصحيحة فيخالطها فتجرب، حيث رد عليه بقوله: "فمن أعدى الأول" يعني أن الله سبحانه ابتدأ في الثاني كما ابتدأه في الأول. قال: وأما الأمر بالفرار من المجذوم فمن باب سد الذرائع لئلا يتفق للشخص الذي يخالطه شيء من ذلك بتقدير الله تعالى ابتداءً لا بالعدوى المنفية فيظن أن ذلك بسبب مخالطته ويعتقد تأثير العدوى فيقع في الحرج فأمر بتجنبه حسما للمادة انتهى. وقد ذكر مثل هذا في فتح الباري (¬1) في كتاب الجهاد منه. والمناسب للعمل الأصولي أن تجعل الأحاديث الواردة بثبوت العدوى في بعض الأمور أو الأمر بالتجنب أو الفرار مخصصة لعموم حديث (لا عدوى) ما ورد في معناه كما هو شأن العام والخاص فيكون الوارد في الأحاديث في قوة لا عدوى إلا في هذه الأمور، وقد تقرر في الأصول أنه يبنى العام على الخاص مع جهل التاريخ. وادعى بعضهم أنه إجماع. والتاريخ في هذه الأحاديث مجهول ولا مانع من أن يجعل الله سبحانه في بعض الأمراض خاصية يحصل بها العدوى عند المخالطة دون بعض (¬2)، وقد ذهب إلى نحو هذا ¬

(¬1) (6/ 61). (¬2) قال ابن القيم في "زاد المعاد" (4/ 140 - 143): والعدوى جنسان: أحدهما: عدوى الجذام فإن المجذوم تشتد رائحته حتى يسقم من أطال مجالسته ومحادثته، وكذلك المرأة تحت المجذوم فتضاجعه في شعار واحد، فيوصل إليها الأذى وربما جذمت، وكذلك ولده ينزعون في الكبر إليه، وكذلك من كان به سل ودق ونقب، والأطباء تأمر أن لا يجالس المسلول ولا المجذوم. ولا يريدون بذلك معنى العدوى وإنما يريدون به معنى تغيير الرائحة، وأنها قد تسقم من أطال اشتمالها والأطباء أبعد الناس عن الإيمان بيمن وشؤم، وكذلك النقبة تكون بالبعير - وهو جرب رطب - فإذا خالط الإبل أو حاكها، وأوى في مباركها، وصل إليها بالماء الذي يسيل منه، وبالنطف نحو ما به، فهذا هو المعنى الذي قال فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يورد ذو عاهة على مصح" كره أن يخالط المعيوه الصحيح، لئلا يناله من نطفه وحكته نحو ما به. قال: وأما الجنس الآخر من العدوى، فهو الطاعون ينزل ببلد، فيخرج منه خوف العدوى وقد قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا وقع ببلد وأنتم بها فلا تخرجوا منها، وإذا كان ببلد فلا تدخلوها" - أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5729) ومسلم رقم (2219) من حديث عبد الله بن عباس. يريد بقوله، لا تخرجوا من البلد إذا كان فيه كأنكم تظنون أن الفرار من قدر الله ينجيكم من الله، ويريد إذا كان ببلد، فلا تدخلوه. أي: مقامكم في الموضع الذي لا طاعون فيه أسكن لقلوبكم، وأطيب لعيشكم، ومن ذلك المرأة تعرف بالشؤم أو الدار، فينال الرجل مكروه أو جائحة، فيقول: أعدتني بشؤمها، فهذا هو العدوى لذي قال في رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا عدوى". - وقالت طائفة: بل الأمر باجتناب المجذوم والفرار منه على الاستحباب والاختيار، والإرشاد، وأما الأكل معه، ففعله لبيان الجواز وأن هذا ليس بحرام. - وقالت فرقة أخرى: بل الخطاب بهذين الخطابين جزئي لا كلي، فكل واحد خاطبه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما يليق بحاله فبعض الناس يكون قوي الإيمان قوي التوكل تدفع قوة توكله قوة العدوى، كما تدفع قوة الطبيعة قوة العلة فتبطلها وبعض الناس لا يقوى على ذلك، فخاطبه بالاحتياط والأخذ بالتحفظ، وكذلك هو - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل الحالتين معًا، لتقتدي به الأمة فيهما فيأخذ من قوي أمته بطريقة التوكل والقوة والثقة بالله، ويأخذ من ضعف منهم بطريقة التحفظ والاحتياط وهما طريقان صحيحان: أحدهما: للمؤمن القوي، والآخر للمؤمن الضعيف فتكون لكل واحد من الطائفتين حجة وقدرة بحسب حالهم وما يناسبهم، وهذا كما أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كوى، وأثنى على تارك الكي، وقرن تركه بالتوكل، وترك الطيرة ولهذا نظائر كثيرة، وهذه طريقة لطيفة حسنة جدًا من أعطاها حقها، ورزق فقه نفسه، أزالت عنه تعارضًا كثيرًا يظنه بالسنة الصحيحة. وذهبت فرقة أخرى إلى أن الأمر بالفرار منه، ومجانبته لأمر طبيعي وهو انتقال الداء منه بواسطة الملامسة والمخالطة والرائحة إلى الصحيح. وهذا يكون مع تكرير المخالطة والملامسة له، وأما أكله معه مقدارًا يسيرًا من الزمان لمصلحة راجحة، فلا باس به، ولا تحصل العدوى من مرة ولحظة واحدة، فنهى سدًا للذريعة، وحماية للصحة، وخالطه مخالطة ما للحاجة والمصلحة، فلا تعارض بين الأمرين. - وقالت طائفة أخرى: يجوز أن يكون هذا المجذوم الذي أكل معه به من الجذام أمر يسير لا يعدي مثله، وليس الجذمى كلهم سواء، ولا العدوى حاصلة من جميعهم، بل منهم من لا تضر مخالطته، ولا تعدي، وهو من أصابه من ذلك شيء يسير، ثم وقف واستمر على حاله، ولم يعد بقية جسمه فهو أن لا يعدي غيره أولى وأحرى. - وقالت فرقة أخرى: إن الجاهلية كانت تعتقد أن الأمراض المعدية تعدي بطبعها من غير إضافة إلى الله سبحانه، فأبطل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتقادهم ذلك، وأكل مع المجذوم ليبين لهم أن الله سبحانه هو الذي يمرض ويشفي ونهى عن القرب منه ليتبين لهم أن هذا من الأسباب التي جعلها الله مفضية إلى مسبباتها، ففي نهيه إثبات الأسباب، وفي فعله بيان أنها لا تستقل بشيء بل الرب سبحانه إن شاء سلبها قواها، فلا تؤثر شيئًا، وإن أبقى عليها قواها فأثرت. - وقالت فرقة أخرى: بل هذه الأحاديث فيها الناسخ والمنسوخ، فينظر في تاريخها، فإن علم المتأخر منها، حكم بأنه الناسخ، وإلا توقفنا فيها. - وقالت فرقة أخرى: بل بعضها محفوظ، وبعضها غير محفوظ، وتكلمت في حديث "لا عدوى" وقال: قد كان أبو هريرة يرويه أولاً، ثم شك فيه فتركه وراجعوه فيه، وقالوا: سمعناك تحدث به، فأبى أن يحدث به. قال أبو سلمة: فلا أدري، أنسي أبو هريرة، أم نسخ أحد الحديثين الآخر؟ وأما حديث جابر: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ بيد مخذوم، فأدخلها معه في القصعة فحديث لا يثبت ولا يصح، وغاية ما قال فيه الترمذي: إنه غريب لم يصححه ولم يحسنه. وقد قال شعبة وغيره: اتقوا هذه الغرائب. قال الترمذي: ويروى هذا من فعل عمر، وهو أثبت، فهذا شأن هذين الحديثين اللذين عورض بهما أحاديث النهي. أحدهما: رجع أبو هريرة عن التحديث به وأنكره. والثاني: لا يصح عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والله أعلم - تقدم تخريجه وهو حديث ضعيف. وانظر: "مفتاح دار السعادة" (3/ 364 - 379). "فتح الباري" (10/ 158 - 161).

مالك وغيره كما سيأتي في الكلام على الطيرة، وإذا تقرر هذا فالمتوجه على من علم بأن هذا الثوب ونحوه كان لمجذوم أو من مرضه يشبه مرضه في العدوى - أنه لا يبيعه إلا بعد البيان للمشتري أو بعد أن يغسله غسلا يزول به الأثر الذي يخشى تعديه إلى الغير أو التأذي برائحته، ولا شك أن البيع بدون بيان نوع من الغرر الذي ثبت النهي عنه في الأحاديث (¬1) الصحيحة للقطع بأن الغالب من الناس ينفر من السلعة التي يقال أنها لمجذوم أو نحوه أشد النفور ويمتنع من أخذها ولو بأدون الأثمان، وهذا معلوم مشاهد موجود في الطباع، وخلاف ذلك لا يوجد إلا في أندر الأحوال ولا اعتبار [6] بالنادر فأي غرر أعظم من هذا، وأي خدع أشد منه؟. ¬

(¬1) منها: ما أخرجه مسلم رقم (4/ 1513) والترمذي رقم (1230) والنسائي (7/ 262 رقم 4518) وابن ماجه رقم (2194) وأبو داود رقم (3376) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر".

وقد تقدم ما حكاه القاضي عياض (¬1) عن أكثر الناس أن المجذومين يتخذون لأنفسهم موضعًا منفردًا عن الناس، ولا شك أن التضرر بذلك أخف من التضرر بلبس ثيابهم والأكل والشرب في أوانيهم، ومن حاول الجمع بين الأحاديث بغير ما ذكرناه كلامه أيضًا غير مخالف لهذا فإنه إذا كان الأمر بالفرار من المجذوم لأجل التأذي برائحته فالتأذي شابه كذلك، وهكذا إذا كان الأمر بالفرار منه لأجل سد الذريعة فربما كان عدم البيان ذريعة إلى الاعتقاد نحو أن يصاب من اشترى ثوب المجذوم ونحوه بمثل عاهته ثم يعلم بعد ذلك أن الثوب الذي لبسه كان لمجذوم، فإنه ربما كان سببًا لحصول الاعتقاد. وكما ورد ما يعارض عموم الأحاديث القاضية بنفي العدوى ورد أيضًا ما يعارض الأحاديث القاضية بنفي الطيرة على العموم، فأخرج البخاري (¬2) ومسلم (¬3) وأبو داود (¬4) والترمذي (¬5) والنسائي (¬6) عن ابن عمر قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "الشؤم في الدار والمرأة والفرس". وفي رواية لمسلم (¬7) "إنما الشؤم في ثلاث: المرأة والفرس والدار". وفي رواية (¬8) له: "إن كان الشؤم في شيء ففي الفرس والمسكن والمرأة". وفي رواية (¬9) له أيضًا: "إن كان الشؤم في شيء ففي الرتع والخادم والفرس". ¬

(¬1) في "إكمال المعلم" (7/ 164). (¬2) في صحيحه رقم (5753). (¬3) في صحيحه رقم (115/ 2225). (¬4) في "السنن" رقم (3922). (¬5) في "السنن" (2825). (¬6) في "السنن" رقم (3598). وهو حديث صحيح. (¬7) في صحيحه رقم (118/ 2225) من حديث عبد الله بن عمر عن أبيه. (¬8) مسلم في صحيحه رقم (119/ 2227) من حديث سهل بن سعد. (¬9) عند مسلم في صحيحه رقم (120/ 2227) من حديث جابر.

قال في الفتح (¬1) وفي رواية عثمان بن عمر: لا عدوى ولا طيرة، إنما الشؤم في ثلاثة، قال مسلم (¬2) لم يذكر أحد في حديث ابن عمر: لا عدوى ولا طيرة، إلا عثمان ابن عمر. قال الحافظ (¬3) ومثله في حديث [سعيد بن أبي وقاص] (¬4) الذي أخرجه أبو داود (¬5) ولكن قال فيه: وإن يكن الطيرة في شيء الحديث. وأخرج أبو داود (¬6) والحاكم (¬7) وصححه من حديث أنس قال رجل: يا رسول الله إنا كنا في دار كثير فيها عددنا كثير فيها أموالنا فتحولنا إلى دار أخرى فقل فيها عددنا، وقلت فيها أموالنا، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "ذروها ذميمة". وأخرج مالك في الموطأ (¬8) عن يحيى بن سعيد: جاءت امرأة إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقالت: دار سكناها والعدد كثير والمال وافر فقل العدد وذهب المال، فقال: "دعوها فإنها ذميمة". وله شاهد من حديث عبد الله بن شداد بن الهاد أحد كبار التابعين أخرجه عبد الرزاق (¬9) بإسناد صحيح. قال النووي (¬10) اختلف العلماء في حديث: الشؤم في ثلاث، فقال مالك - رحمه الله - هو على ظاهره وإن الدار قد يجعل الله تبارك وتعالى سكناها سببًا للضرر أو الهلاك، وكذا ¬

(¬1) (6/ 61). (¬2) في صحيحه رقم (4/ 1747). (¬3) في "الفتح" (6/ 61). (¬4) كذا في المخطوط. وفي السنن سعد بن مالك (¬5) في "السنن" رقم (3921) وهو حديث صحيح. (¬6) في "السنن" رقم (3924) وهو حديث حسن. (¬7) لم أقف عليه في المستدرك قلت: وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" رقم (918). (¬8) (2/ 972). (¬9) في "المصنف" (10/ 411 رقم 19526) بإسناد صحيح. (¬10) في "شرحه لصحيح مسلم" (14/ 220 - 221).

اتخاذه المرأة المعينة أو الفرس أو الخادم قد يحصل الهلاك عنده بقضاء الله تعالى. وقال الخطابي (¬1) قال كثيرون هو في معنى [7] الاستثناء من الطيرة أي الطيرة منهي عنها إلا أن يكون له دار يكون صحبتها أو فرس أو خادم فليفارق الجمع بالبيع ونحوه. وطلاق المرأة. وقال آخرون شؤم الدار ضيقها وسوء جيرانهم وأذاهم وشؤم المرأة عدم ولادتها وسلاطة لسانها وتعرضها للريب، وشؤم الفرس أن يغزى عليها، وقيل: حرانها وغلاء ثمنها، وشؤم الخادم سوء خلقه وقلة تعهده لما فوض إليه، وقيل المراد بالشؤم هنا عدم الموافقة. قال القاضي عياض (¬2) قال بعض العلماء: لهذه الفصول السابقة في الأحاديث ثلاثة أقسام: أحدها: ما لم يقع الضرر به ولا اطردت به عادة خاصة ولا عامة فهذا لا يلتفت إليه وأنكر الشارع الالتفات إليه، وهو الطيرة. والثاني: ما يقع عنده الضرر عمومًا لا يخصه ونادرًا لا يتكرر كالوباء فلا يقدم عليه ولا مخرج منه. والثالث يخص ولا يعم كالدار والفرس والمرأة فهذا يباح الفرار منه انتهى. وقال ابن قتيبة (¬3) وجهه أن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون فنهاهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وأعلمهم أنه لا طيرة فلما أبوا أن ينتهوا بقيت الطيرة في هذه الأشياء الثلاثة. قال الحافظ (¬4) فمشى ابن قتيبة على ظاهره ويلزم على قوله: أن من تشاءم بشيء منها نزل به ما يكره. قال القرطبي (¬5) ولا يظن به أن يحمله على ما كانت عليه الجاهلية تعتمده بناء على أن ذلك يضر وينفع بذاته، فإن ذلك خطأ وإنما عنى به أن هذه الأشياء هي أكثر ما يتطير الناس به فمن وقع في نفسه منها شيء أبيح له أن يتركه ويستبدل به ¬

(¬1) في "معالم السنن" (4/ 236 - 237). (¬2) في "إكمال المعلم" (7/ 149). (¬3) ذكره الحافظ في "الفتح" (6/ 61). (¬4) في "الفتح" (6/ 61). (¬5) في "إكمال المعلم" (7/ 151).

غيره انتهى. وقد ورد في رواية البخاري (¬1) في النكاح بلفظ: ذكروا الشؤم فقال: إن كان في شيء (¬2) ففي .. ولمسلم (¬3) إن يك من الشؤم شيء حق وفي رواية (¬4) أخرى: "إن كان الشؤم في شيء"، وكذا في حديث جابر عند مسلم (¬5) وكذا في حديث سهل بن سعد عند البخاري (¬6) في كتاب الجهاد وذلك يقتضي عدم الجزم بذلك بخلاف ما في حديث ابن عمر (¬7) بلفظ: "الشؤم في ثلاث" وبلفظ آخر: "إنما الشؤم في ثلاث" ونحو ذلك مما تقدم. قال ابن العربي (¬8) معناه إن كان خلق الله الشؤم في شيء فيما جرى من بعض العادة فإنما يخلقه في هذه الأشياء. قال المازري (¬9) محل هذه الرواية إن يكن الشؤم حقًا فهذه الثلاث أحق به بمعنى أن النفوس يقع فيها التشاؤم بهذه أكثر مما يقع بغيرها. وروى أبو داود (¬10) في الطب عن ابن القاسم عن مالك أنه سئل عن حديث الشؤم في ثلاث فقال: كم من دار سكنها أناس فهلكوا، قال المازري (¬11) فيحمله مالك على ظاهره، والمعنى أن قدر الله ربما اتفق به ما ¬

(¬1) في صحيحه رقم (5094). (¬2) وتمامه "ففي الدار والمرأة والفرس". (¬3) في صحيحه رقم (117/ 2225). (¬4) في صحيحه رقم (119/ 2226). (¬5) في صحيحه رقم (120/ 2227). (¬6) في صحيحه رقم (5095). (¬7) عند البخاري في صحيحه رقم (5093). (¬8) ذكره الحافظ في "الفتح" (6/ 61). (¬9) في "المعلم بفوائد مسلم" (3/ 104). (¬10) في "السنن" (4/ 237) وهو حديث صحيح مقطوع قاله الألباني في صحيح أبي داود (3922). (¬11) في "المعلم بفوائد مسلم" (3/ 104).

يكره عند سكنى الدار فيضر ذلك [8] كالسبب فيتسامح في إضافة الشيء إليه اتساعًا. وقال ابن العربي (¬1) لم يرد مالك إضافة الشؤم إلى الدار وإنما هو عبارة عن جري العادة فيها فأشار إلى أنه ينبغي للمرء الخروج عنها صيانة لاعتقاده عن التعلق بالباطل. وقيل: معنى الحديث أن هذه الأشياء يطول تعذيب القلب بها مع كراهة أمرها وملازمة السكنى والصحبة ولو لم يعتقد الشؤم فيها فأشار الحديث إلى الأمر بفراقها ليزول التعذيب. قال الحافظ (¬2) وما أشار إليه ابن العربي في تأويل كلام مالك أولى، وهو نظير الأمر بالفرار من المجذوم مع صحة نفي العدوى، والمراد بذلك حسم المادة وسد الذريعة؛ لئلا يوافق شيء من ذلك القدر فيعتقد من وقع له أن ذلك من العدوى أو من الطيرة فيقع في اعتقاد ما نهي عن اعتقاده فأشير إلى اجتناب مثل ذلك، والطريق فيمن وقع له ذلك في الدار مثلا أن يبادر إلى التحول منها لأنه متى استمر فيها ربما حمله ذلك على اعتقاد صحة الطيرة والتشاؤم. قال ابن العربي (¬3) وصف الدار بأنها ذميمة يدل على جواز ذكرها بقبح ما وقع فيها مرضه أن يعتقد أن ذلك كان منها، ولا يمنع ذم المحل المكروه وإن كان ليس منه شرعًا. وقال الخطابي (¬4) معناه إبطال مذهب الجاهلية في التطير فكأنه قال: إن كانت لأحدكم دار يكره سكناها أو امرأة يكره صحبتها أو فرس يكره سيره فليفارقه. وقيل: إن المعنى في ذلك ما رواه الدمياطي (¬5) بإسناد ضعيف في "الخيل" إذا كان الفرس ضروبًا فهو مشؤوم، وإذا حنت المرأة إلى زوجها الأول فهي مشؤومة وإذا كانت ¬

(¬1) ذكره الحافظ في "الفتح" (6/ 61). (¬2) في "فتح الباري" (6/ 61). (¬3) ذكره الحافظ في "فتح الباري" (6/ 62). (¬4) في "معالم السنن" (4/ 236). (¬5) ذكره الحافظ في "فتح الباري" (6/ 62).

الدار بعيدة من المسجد فلا يسمع فيها الآذان فهي مشؤومة. وقيل: كان ذلك في أول الأمر ثم نسخ بقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ} (¬1)، حكاه ابن عبد البر (¬2). قال الحافظ (¬3) والنسخ لا يثبت بالاحتمال لا سيما مع إمكان بجمع، وقد ورد في نفس هذا الخبر نفي التطير ثم إثباته في الأشياء المذكورة، وقيل: يحمل الشؤم على معنى قلة الموافقة وسوء الطبائع، وهو كحديث سعد بن أبي وقاص رفعه "من سعادة المرء المرأة الصالحة والمسكن الصالح والمركب الهنيء، ومن شقاوة المرء المرأة السوء والمسكن السوء والمركب السوء". أخرجه أحمد (¬4) وهذا تخصيص معنى الأجناس المذكورة دون بعض، وبه صرح بن عبد البر (¬5) فقال: يكون لقوم دون قوم وذلك بقدر الله. وقال المهلب (¬6) ما حاصله: أن المخاطب بقوله: الشؤم في ثلاثة من التزم التطير ولم يستطع صرفه عن نفسه فقال لهم: إنما يقع ذلك في الأشياء التي تلازم في غالب الأحوال، فإذا كان كذلك فاتركوها عنكم ولا تعذبوا [9] أنفسكم بها، ويدل على ذلك تصديره الحديث بنفي الطيرة، واستدل بما أخرجه ابن حبان (¬7) عن أنس رفعه: "لا طيرة والطيرة على من تطير وإن يكن في شيء ففي المرأة" الحديث، وفي إسناده عقبة بن (¬8) ¬

(¬1) [الحديد: 22]. (¬2) في "التمهيد" (16/ 206). (¬3) في "فتح الباري" (6/ 62 - 63). (¬4) لم أقف عليه عند أحمد. (¬5) في "التمهيد" (16/ 206). (¬6) ذكره الحافظ في "الفتح" (6/ 63). (¬7) في صحيحه رقم (6123). (¬8) انظر "تهذيب التهذيب" (3/ 51). قال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال أحمد بن حنبل: ضعيف ليس بالقوي. انظر: "تهذيب الكمال" (19/ 305 - 306 رقم 4373). "الثقات" لابن حبان (7/ 272).

حميد عن عبيد الله بن أبي بكر عن أنس وعقبة مختلف فيه، والأرجح ما قدمناه من بناء العام على الخاص فيكون الحديث في قوة ليست الطيرة في شيء إلا في الأمور المذكورة وهذا هو الذي ذهب إليه جماعة ممن قدمنا النقل عنهم وقد زاد الدارقطني (¬1) من طريق أم سلمة و"السيف" وإسناده صحيح إلى الزهري، وهو رواه عن بعض أهل أم سلمة عنها. قال الدارقطني (¬2) والمبهم هو أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة سماه عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري في روايته، وأخرجه ابن ماجه (¬3) من هذا الوجه موصولا فقال عن الزهري عن أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة عن زينب بنت أم سلمة أنها حدثت لهذا الحديث وزادت فيه و"السيف". وأبو عبيدة (¬4) المذكور هو ابن بنت أم سلمة، أمه زينب بنت أم سلمة. وقد روى النسائي (¬5) الحديث المتقدم في ذكر الأمور المشؤومة فأدرج فيه "السيف"، وخالف فيه الإسناد أيضًا. وجاء عن عائشة (¬6) أنها أنكرت الحديث المذكور في شؤم تلك الأمور فروى أبو داود الطيالسي عنها في مسنده (¬7) عن محمد بن راشد عن مكحول قال: قيل لعائشة إن أبا هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "الشؤم في ثلاثة، فقالت: لم يحفظ أنه دخل وهو يقول: قاتل الله اليهود يقولون: الشؤم في ثلاثة فسمع آخر الحديث ¬

(¬1) في "غرائب مالك" كما ذكره الحافظ في "الفتح" (6/ 63). (¬2) في "غرائب مالك" كما ذكره الحافظ في "الفتح" (6/ 63). (¬3) في "السنن" رقم (1995). وهو حديث شاذ (¬4) ذكره الحافظ في "الفتح" (6/ 63). (¬5) في "الكبرى" (5/ 403 رقم 9280/ 5). عن ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن محمد بن زيد بن قنفذ، عن سالم بن عبد الله: أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن كان في شيء ففي: المسكن، والمرأة والفرس، والسيف". (¬6) عزاه إليه الحافظ في "الفتح" (6/ 61). (¬7) رقم (1776 - منحة المعبود).

ولم يسمع أوله. ومكحول لم يسمع من عائشة فهو منقطع لكن روى أحمد (¬1) وابن خزيمة (¬2) والحاكم (¬3) من طريق قتادة عن أبي حيان أن رجلين من بني عامر دخلا على عائشة فقالا: إن أبا هريرة قال: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "الطيرة في الفرس والمرأة والدار" فغضبت غضبًا شديدًا وقالت: ما قاله، وإنما قال: إن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون من ذلك انتهى. قال في الفتح (¬4) ولا معنى لإنكار ذلك على أبي هريرة مع موافقة غيره من الصحابة له في ذلك، وقد تأوله غيرها على أن ذلك سيق لبيان اعتقاد الناس في ذلك، لا لأنه إخبار من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بثبوت ذلك، وسياق الأحاديث الصحيحة المقدم ذكرها يبعد هذا التأويل. قال ابن العربي (¬5) هذا جواب ساقط لأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لم يبعث ليخبر الناس عن معتقداتهم الماضية أو الحاصلة، وإنما بعث ليعلمهم ما يلزمهم أن يعتقدوا انتهى. وأما ما أخرجه الترمذي (¬6) من حديث حكيم بن معاوية قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا شؤم" وقد يكون [10] اليمن في المرأة والدار والفرس، ففي إسناده ضعف مع مخالفته للأحاديث الصحيحة فالحق ما أسلفناه من الجمع بين [العام والخاص] (¬7) والله أعلم. ¬

(¬1) في "المسند" (6/ 240) وأورده الهيثمي في "المجمع" (5/ 104) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. (¬2) عزاه إليه الحافظ في "الفتح" (6/ 61). (¬3) عزاه إليه الحافظ في "الفتح" (6/ 61). (¬4) في "الفتح" (6/ 61). (¬5) ذكر الحافظ في "الفتح" (6/ 61). (¬6) في "السنن" رقم (5/ 127) عقب الحديث رقم (2824). وهو حديث صحيح. (¬7) في (أ): [العام على الخاص].

[انتهى من تحرير المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما في صبح يوم الخميس لعله السادس عشر شهر جمادى الآخرة سنة 1209] (¬1). [حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما صبح يوم الخميس لعله سادس عشر شهر جمادى الآخرة سنة 1209انتهى. وكان الفراغ من نقله في هذا صبح يوم الجمعة لعله ثالث شهر الحجة الحرام. ختام عام أربعة وثمانين ومائتين ونيف. حرره لنفسه ولمن شاء الله بعده حسب الإمكان خادم العلم الشريف عبد الملك بن حسين غفر الله لهما آمين. انتهى. كان الفراغ من رقمه من خط القاضي العلامة الوجيه وذلك في 22 شهر الحجة الحرام سنة 1349 حرره الفقير إلى رحمة الله تعالى أمام محراب قبة المهدي عباس، محمد بن قاسم بن أحمد أبو طالب غفر الله له ولوالديه ولجميع المؤمنين آمين. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الأمين وعلى آله الطاهرين وأصحابه الراشدين عدد ما خلق من شيء] (¬2).] ¬

(¬1) زيادة من (ب). (¬2) زيادة من (أ).

بحث في قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات"

بحث في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "إنما الأعمال بالنيات" تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: (بحث في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "إنما الأعمال بالنيات"). 2 - موضوع الرسالة: في "الحديث". 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. كثر الله فوائدكم صيغة إنما حاصره لا يخالف في ذلك من يعتد به، واستعمالات أهل اللغة في نظمهم 4 - آخر الرسالة: ... فهو فاسد بعدم النية، وفي هذا كفاية وإن كان البحث محتملا للتطويل انتهى نقله في خط المجيب شيخ الإسلام البدر رحمه الله وغفر له وجزاه خيرًا. آمين. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: (4) صفحة. 7 - المسطرة: الأولى: 21 سطرًا. الثانية: 20 سطرًا. الثالثة: 19 سطرا. الرابعة: 11 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: (8 - 10) كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الخامس من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

بسم الله الرحمن الرحيم - كثر الله فوائدكم - صيغة إنما (¬1) حاصره لا يخالف في ذلك من يعتد به، واستعمالات أهل اللغة في نظمهم ونثرهم قاضية بذلك قضاء لا يدفع، فأفاد ذلك حصر أن يكون المقدر بحيث ينطبق على هذا التركيب انطباقًا يناسب المدلول بالقصر مع ما يقتضيه من هذه الجمعية ومصيرها للجنس، وكأنه قال: إنما كل ............................. ¬

(¬1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1) ومسلم في صحيحه رقم (155/ 1907) والترمذي رقم (1647) وأبو داود رقم (2201) والنسائي رقم (1/ 58) وابن ماجه رقم (4227) وأحمد في "المسند" (1/ 25 - 43) والدارقطني رقم (1/ 50 رقم 1) ومالك في "الموطأ" (ص 341 رقم 983) برواية محمد بن الحسن الشيباني. وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 342) كلهم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "إنما الأعمال بالنية وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه". منزلة الحديث: قال الحافظ في "الفتح" (1/ 11): قد تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم هذا الحديث قال أبو عبيد: "ليس في أخبار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيء أجمع ولا أغنى ولا أكثر فائدة من هذا الحديث، اتفق الشافعي فيما نقله البويطي عنه، وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني وأبو داود والترمذي والدارقطني وحمزة الكتاني على أنه "ثلث الإسلام" ومنهم من قال ربعه، وقال عبد الرحمن بن مهدي" يدخل في ثلاثين بابًا من العلم" وقال: "ينبغي أن يجعل هذا الحديث رأس كل باب وقال ينبغي لمن صنف كتابًا أن يبدأ فيه بهذا الحديث تنبيهًا للطالب على "تصحيح النية" وقد فعل هذا البخاري في صحيحه، والنووي في الأربعين النووية، والعراقي في كتابه "التقريب" الذي شرحه ابنه أبو زرعة في كتاب "طرح التثريب" وقال الشافعي: يدخل هذا الحديث في سبعين بابًا من العلم وقال ابن رجب: "وهذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور الدين عليها". وعن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه قال: أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث: حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه "إنما الأعمال في النيات" وحديث عائشة رضي الله عنها "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وحديث النعمان بن بشير رضي الله عنه "الحلال بين والحرام بين".

عمل بنية (¬1)، وهذه الصيغة لا خلاف في كونها مفيدة للقصر، وأنها أقوى صيغه المذكورة في علم البيان والأصول. إذا تقرر لك أن ههنا ثلاثة (¬2) تراكيب تفيد حصر الأعمال في النية، وقصرها عليها إنما والتعريف المنضم إليه، ونفي النكرة، والاستثناء بإلا علمت أنها قد تعاضدت الدلالات على حصر الأعمال في النيات (¬3)، وقصرها عليها، وبعد هذا ¬

(¬1) قال جماهير العلماء من أهل العربية والأصول وغيرهم لفظة إنما موضوعة للحصر تثبت المذكور وتنفي ما سواه فتقدير هذا الحديث أن الأعمال تحسب بنية، ولا تحسب إذا كانت بلا نية، قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (13/ 255) "والأعمال أعم أن تكون أقوالا أو أفعالا فرضًا أو نفلا قليلة أو كثيرة صادرة من المكلفين المؤمنين" بالنيات جمع نية قال الحافظ: وهو من مقابلة الجمع بالجمع وورد بإفراد النية، ووجهه أن محل النية القلب وهو متحد فناسب إفرادها بخلاف الأعمال فإنها متعلقة بالظواهر وهي متعددة فناسب جمعها، ولأن النية ترجع إلى الإخلاص وهو واحد للواحد الذي لا شريك له. انظر: "فتح الباري" (1/ 14) و"عمدة القاري" (1/ 24). وقال القرطبي في "المفهم" (3/ 744): أنه عموم مؤكد بـ (إنما) الحاصرة، فصار في القوة كقوله: لا عمل إلا بنية. فصار ظاهرًا في نفي الإجزاء والاعتداد بعمل لا نية له. (¬2) هذا التركيب يفيد الحصر عند المحققين، واختلف في وجه إفادته لأن الأعمال جمع محلى بالألف واللام مفيد للاستغراق، وهو مستلزم للقصر لأن معناه كل عمل بنية، فلا عمل إلا بنية، وقيل "إنما" وحدها أفادت الحصر واختلفوا هل إفادتها للحصر بالمنطوق أو بالمفهوم أو بأصل الوضع أو بالعرف، أو إفادتها له بالحقيقة أو بالمجاز؟ والظاهر أنها تفيده بالمنطوق وضعًا حقيقيًا وهذا هو المشهور عند جميع أهل الأصول من المذاهب الأربعة. انظر: "الإحكام" للآمدي (3/ 297، 298)، "عمدة القاري" (1/ 23). (¬3) قال ابن تيمية في بيان هذا الحديث من وجوه: أحدها: أن النية المجردة من العمل يثاب عليها والعمل المجرد من النية لا يثاب عليه فإنه قد ثبت بالكتاب والسنة واتفاق الأئمة أن من عمل الأعمال الصالحة بغير إخلاص لله لم يقبل منه ذلك، وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة". ثانيها: أن من نوى الخير وعمل فيه مقدوره وعجز عن إكماله كان له أجر كامل كما في الصحيح - عن البخاري رقم (4423) - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم، قالوا: وهم بالمدينة قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر". ثالثها: أن القلب ملك البدن والأعضاء جنوده فإذا طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث الملك خبثت جنوده، والنية عمل الملك بخلاف الأعمال الظاهرة فإنها عمل الجنود. رابعها: أن توبة العاجز عن المعصية تصح عند أهل السنة كتوبة المحبوب عن الزنا، وكتوبة المقطوع اللسان عن القذف وغيره، وأصل التوبة عزم القلب وهذا حاصل عند العجز. خامسها: أن النية لا يدخلها فساد بخلاف الأعمال الظاهرة فإن النية أصلها حب الله ورسوله وإرادة وجهه، وهذا هو بنفسه محبوب الله ورسوله، مرضي لله ورسوله، والأعمال الظاهرة تدخلها آفات كثيرة، وما لم تسلم منها لم تكن مقبولة ولهذا كانت أعمال القلب المجردة كما قال بعض السلف: "قوة المؤمن في قلبه وضعفه في جسمه، وقوة المنافق في جسمه وضعفه في قلبه". "مختصر الفتاوى المصرية" (ص 11).

يتوجه النظر إلى المقتضى المقدر، وهو في المقام لا يكون إلا عامًا كالثبوت والحصول والوجود ونحوها، وكل واحد منهما يفيد انتفاء تلك الذات بانتفاء النية، فتكون غير موجودة شرعًا، وإذا وجد عمل بلا نية فليس هو الموجود الشرعي، بل الموجود المخالف له، فلا يأتيه لوجودها. ولو سلمنا لوجودها، وأن لها إنسيابًا إلى الشرعية بوجه ما كان بقدر ما رفع الاعتداد بها متحتمًا، كتعذر الصحة، والأخرى ونحوهما، لأن هذا المقدار وإن لم ترفع الذات كانتقادية الأدلة فإنه قريب منها باعتبار أن تلك الذات [1 أ] لاغية لا يترتب عليها شيء من الأحكام الشرعية، بخلاف ما لو قدر الكمال أو التمام أو نحوها، فإنه يفيد بقاء الذات شرعية، وهو خلاف ما في عبارة الشارع من النفي الصراح الذي يندفع عنده كل احتمال، ويرتفع لديه كل تأويل. قال السائل - عافاه الله -: ولعمري إن ذلك مشكل لوجهين .. إلخ. أقول: هذا القصد اللازم الضروري يمنع أولا كونه لازمًا غير منفك بالضرورة، فإن

عروض (¬1) الذهول للفاعلين، والغفلة والدخول في فكر ما مشوشة للذهن معلوم بالوجه أن يخبره كل عاقل من نفسه، ويعرفه من غيره، ومن كان كذلك قد يصدر منه أفعال وهو ذاهل عنها، غافل عما يريده منها، وهذا يكفي في دفع دعوى التلازم العقلي، ويدفع أيضًا دعوى الضرورة، ثم يقول السائل - كثر الله فوائده -: ما ذكرت من ملازمة القصد لكل فعل، وإن ذلك ضروري ما تريد؟ هل من الأفعال على العموم أم الأفعال الشرعية؟ إن أردت الأفعال على العموم فغير مسلم، لأن منها الأفعال الشرعية، ولا بد من قصدها، ولا ملازمة هنا لذلك، ولا ضرورة أبدًا معلوم لكل عاقل أنه لا بد من النيات إليها، واستحضار لها بجواز أن يكون الفعل الذي أوقعه غير شرعي، وإن أردت الأفعال التي ليست شرعية فتسليم دليله لا يفيد، لأنه خارج عن محل النزاع على أن في الأفعال التي ليست شرعية ما لا يقصد كالأفعال الجبلية، وأفعال الذاهل والساهي، وإن أردت الشرعية فحسب [1 ب]، فالأمر أوضح من ذاك، لأنه لا يقول أحد بالتلازم ما بين الفعل الشرعي وبين قصده شرعًا، لأن كونه شرعيًا أمر زائد على مجرد الفعل، بل هو وصف له فلا بد من قصد له من حيث كونه فعلا شرعيًا (¬2)، لا من حيث كونه فعلاً ¬

(¬1) قال الحافظ في "الفتح" (1/ 18) واستدل بهذا الحديث على أنه لا يجوز الإقدام على العمل قبل معرفة الحكم، لأنه فيه أن العمل يكون منتفيًا إذا خلا عن النية، ولا يصح نية فعل الشيء إلا بعد معرفة حكمه، وعلى أن الغافل لا تكليف عليه، لأن القصد يستلزم العلم بالمقصود والغافل غير قاصد. (¬2) قال الحافظ في "الفتح" (1/ 13): "والنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي ليحسن تطبيقه على ما بعده وتقسيمه أحوال المهاجر فإنه تفصيل لما أجمل، والحديث متروك الظاهر لأن الذوات غير منتفية، إذا التقدير: لا عمل إلا بالنية فليس المراد نفي ذات العمل لأنه قد يوجد بغير نية، بل المراد نفي أحكامها كالصحة والكمال، لكن الحمل على نفي الصحة أولى لأنه أشبه بنفي الشيء نفسه، ولأن اللفظ دل على نفي الذات بالتصريح وعلى نفي الصفات بالتبع، فلما منع الدليل نفي الذات بقيت دلالته على نفي الصفات مستمرة، وقال شيخ الإسلام: الأحسن تقدير أن الأعمال تتبع النية لقوله في الحديث: "فمن كانت هجرته".

فقط، وهذا واضح. قوله: وأما الثاني إلخ. أقول: قد عرف جوابه مما قدمنا، وأما الكلام في عموم المقتضى وعدمه فالحق أنه يقدر بحسب الحاجة، وبما يفيده الكلام الذي اقتضاه إما عمومًا، وإما خصوصًا. قوله: وتلك الحجة هي الجملة الشرطية. أقول: ليست بشرطية، بل خبرية، لم يدخلها شيء من أدوات إنما المذكورة في الحديث، هي سور لحصر الجملة الخبرية، والجملة الشرطية (¬1) في الحديث هي قوله: فمن كانت (¬2) هجرته .. إلخ. ¬

(¬1) قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله .... ". قال الحافظ في "الفتح" (1/ 16): قيل: الأصل تغاير الشرط والجزاء فلا يقال مثلا من أطاع أطاع وإنما يقال مثلا من أطاع نجا، وقد وقعا في هذا الحديث متحدين - فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرتهه - فالجواب أن التغاير يقع تارة باللفظ وهو الأكثر، وتارة بالمعنى ويفهم ذلك من السياق، ومن أمثلة قوله تعالى: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا}. [الفرقان: 71]، وهو مؤول على إرادة المعهود المستقر في النفس كقولهم أنت أنت أي الصديق، أو هو مؤول على إقامة السبب مقام المسبب لاشتهار السبب، وقال بعض أهل العلم إن الشرط محذوف وتقديره: من كانت هجرته إلى الله ورسوله نية وقصدًا فهجرته إلى الله حكمًا وشرعًا. وقيل: إذا اتحد لفظ المبتدأ والخبر والشرط والجزاء علم منهما المبالغة إما في التعظيم، وإما في التحقير. (¬2) لما ذكر - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أن الأعمال بالنيات وأن حظ العامل من عمله بنيته من خير أو شر وهاتان كلمتان جامعتان وقاعدتان كليتان لا يخرج عنهما شيء "ذكر بعد ذلك مثلا من الأمثال والأعمال التي صورتهما واحدة ويختلف صلاحها وفسادها باختلاف النيات وكأنه يقول سائر الأعمال على حذو هذا المثال. ولهذا المعنى اقتصر في جواب هذا الشرط على إعادته بلفظه لأن حصول ما نواه بهجرته نهاية المطلوب في الدنيا والآخرة، ومن كانت هجرته من دار الشرك إلى دار الإسلام ليطلب دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها في دار الإسلام فهجرته إلى ما هاجر إليه من ذلك. فالأول تاجر والثاني خاطب، وليس واحد منهما بمهاجر شرعًا، وفي قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إلى ما هاجر إليه تحقير لما طلبه من أمر الدنيا واستهانة به حيث لم يذكره باسمه الظاهر الصريح. وأيضًا لما كانت الهجرة إلى الله ورسوله واحدة لا تعدد فيها اتحد الجواب فيها بلفظ الشرط - فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته ... ". ولما كانت الهجرة من الأمور الدنيا لا تنحصر فقد يهاجر الإنسان لطلب دنيا مباحة تارة، ومحرمة تارة، وإفراد ما يقصد بالهجرة من أمور الدنيا لا تنحصر لذلك قال: فهجرته إلى ما هاجر إليه يعني كائنًا ما كان. انظر: "فتح الباري" (1/ 14).

قوله: سوى التصريح بكون العمل تابعًا للقصد. أقول: التابع غير المتبوع ذاتًا وزمانًا، وإلا لم يكن التابع تابعًا ولا المتبوع متبوعًا وهذا يفيد عدم ما ذكره من التلازم العقلي الضروري، فإنه لو كان كذلك لم يفارقه قط، بل يوجد بوجوده، ويعدم بعدمه. وأما قوله: من دون تعرض لطلبه فهو يخالف ما جزاه به من التابعية والمتبوعية، فإنه لا بد من طلب كل واحد منهما، وإلا لم يكن من جنس أفعال العقلاء. قوله: إنما صلاح الأعمال (¬1) بصلاح النية. ¬

(¬1) قال ابن القيم في "إعلام الموقعين" (3/ 123): "والنية روح العمل ولبه وقوامه وهو تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها. والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد قال كلمتين كفتا وشفتا وتحتهما كنوز العلم وهما "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" فبين في الجملة الأولى أن العمل لا يقع إلا بالنية ولهذا لا يكون عمل إلا بنية، ثم بين في الجملة الثانية أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه وهذا يعم العبادات والمعاملات والأيمان والنذور وسائر العقود والأفعال، وهذا دليل على أن من نوى بالبيع عقد الربا حصل له الربا ولا يعصمه من ذلك صورة البيع، وأن من نوى بعقد النكاح التحليل كان محللا ولا يخرجه من ذلك صورة عقد النكاح". وكون النية أساس العمل وقاعدته هو ما دل عليه الكتاب والسنة فأما الكتاب فقول الله جل وعلا: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]. فحصر أمر المكلفين كله في عبادته وجعل شرط ذلك الإخلاص، ولا يميز العمل الخالص من غيره إلا النية، وقال سبحانه وتعالى في موضع آخر: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2]، وهذا أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو أمر لجميع الأمة وإخلاص الدين والعبادة لله شرط لصحة العمل. ولهذا إذا دخل الشرك العبادة أفسدها وصار العمل مردودًا على صاحبه قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]. وإن كان فيه مراءاة للغير وطلب لمدحهم وثناءهم فإن الله يبرأ من هذا العمل ويترك العامل وعمله. * فائدة: الإنسان في هذه الحياة مجبول على العمل والتحرك بدوافع وغايات متعددة، والأعمال التي يقوم بها قولية وفعلية كفًا وفعلا وهذه الأعمال إما من أعمال القلوب، أو أعمال الجوارح أو منهما جميعًا. والأعمال باعتبار آخر إما فطرية جبلية وإما تكليفية عبادية بأمر الله تعالى وتكليف منه. وما أمر الله به وكلف عباده قد يتشابه بما يقوم به الإنسان من العادات استجابة للغريزة والفطرة والحاجة ولا يميز بين الأمرين ويفرق بين المتشابهين إلا النية، لذلك فإن من أبرز حكمة مشروعية النية: 1 - ) تمييز العبادات عن العادات: ومثاله: دفع الأحوال مردد بين أن يفعل هبة أو هدية أو وديعة وبين أن يفعل قربة إلى الله كالزكاة والصدقات والكفارات فلما تردد بين هذه الأغراض وجب تمييز النية ما يفعل لله عما يفعل لغير الله. 2 - ) تمييز مراتب العبادات بعضها من بعض، فالنية تحدد رتب العبادات من نوافل ومفروضات فإنها كذلك تحدد رتبة العبودية ومدى قيام القلب بها. وبالنية تتفاوت درجات الإيمان والتقوى وبها يتميز المؤمن من المنافق والمخلص من المرائي ومدى ارتباط القلب بالجوارح وارتباطها به، وإن لله عبوديتين باطنية وعبودية ظاهرة فله على قلبه عبودية وعلى لسانه وجوارحه عبودية فقيامه بصورة العبودية الظاهرة مع تعريه عن حقيقة العبودية الباطنية مما لا يقربه إلى ربه، ولا يوجب له الثواب وقبول عمله، فإن المقصود امتحان القلوب وابتلاء السرائر فعمل القلب هو روح العبودية ولبها، فإذا خلا عمل الجوارح منه كان كالجسد الموات بلا روح.

أقول: إن كان المراد هنا الصلاح [2 أ] المقابل لضده، وهو الفساد استلزم ذلك فساد العلم بعدم النية، وهو المطلوب. وإن كان المراد معنى آخر فهو غير ظاهر من لفظ الصلاح. قوله: اختلفا قبولا وأداء. أقول: هذا يستلزم رد العمل لعدم النية، وهو مطلوب من قال بتلك التقديرات، فهو يناسب بقدر الصحة المستلزمة للفساد المرادف للبطلان، لأن العمل إذا كان مردوًدا فهو غير صحيح، وكذلك إذا كان غير صالح فهو فاسد بعدم النية. وفي هذا كفاية. وإن كان البحث ..................................................

محتملا (¬1) للتطويل. انتهى نقله من خط المجيب شيخ الإسلام البدر - رحمه الله، وجزاه خيرا - آمين. ¬

(¬1) انظر: "طرح التثريب في شرح التقريب" لـ (زين الدين العراقي) (2/ 7 - 20).

بحث في حديث: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم .. إلخ"

بحث في حديث: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم .. إلخ" تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: (بحث في حديث: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم .. "). 2 - موضوع الرسالة: في "الحديث". 3 - أول الرسالة: الحمد لله تعالى، سأل الحقير حاكم الحضرة عهدة المسلمين حافظ الدين عليه السلام كثر الله تعالى فوائده، وأطال مدته عن معنى حديث شريف 4 - آخر الرسالة: ... ما يظهر لي في معنى هذا الحديث الصحيح ومن رام الوقف على جميع ما قيل في ذلك فليبحث مطولات شروح الحديث، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. والله ولي التوفيق، وذكر اسمه هنا. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - المسطرة: الأولى: (24) سطرا. الثانية: (24) سطرا. الثالثة: (10) أسطر. 7 - عدد الكلمات في السطر: (13) كلمة. 8 - الرسالة من المجلد الثالث من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".

بسم الله الرحمن الرحيم بحث في حديث: "لو لم تذنبوا" الحمد لله تعالى سأل الحقير حاكم الحضرة، عهدة المسلمين، حافظ الدين، عليه السلام، كثر الله تعالى فوائده، وأطال مدته، عن معنى حديث شريف، وعرضت ما لاح للذهن القاصر عليه فأمرني -عافاه الله- بتحرير أصل ذلك وفرعه، فأجبته لوجوب جوابه، مقتنصا بذلك من نفحاته، متوسلا إلى استخراج ثمراته من ينابيع إفاداته عن قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم" رواه البخاري (¬1) ومسلم (¬2). وله شواهد (¬3). قال القاضي أحمد (¬4) المسوري - عفا الله عنه - في رسالته ............. ¬

(¬1) لم يخرجه البخاري بهذا اللفظ. وأخرجه البخاري رقم (7507) ومسلم رقم (2758) من حديث أبي هريرة بلفظ آخر. (¬2) في صحيحه رقم (11/ 2749) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم". (¬3) منها: ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (10/ 2748) من حديث أبي أيوب الأنصاري، عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "لو أنكم لم تكن لكم ذنوب، يغفرها الله لكم، لجاء الله بقوم لهم ذنوب، يغفرها لهم". ومنها: ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (9/ 2748) عن أبي أيوب أنه قال حين حضرته الوفاة: كنت كتمت عنكم شيئا سمعته من رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقا يذنبون يغفر لهم". ومنها: ما أخرجه أحمد (4/ 346) ومسلم في صحيحه رقم (2750) من حديث حنظلة الأسيدي في حديث طويل: " ... والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة" ثلاث مرات. (¬4) أحمد بن سعد الدين بن الحسين بن محمد المسوري اليمني ولد سنة 1007 هـ بناحية الشرف، كان عظيم الشأن جليل القدر. من مصنفاته: "الرسالة المنقذة من الغواية في طريق الرواية" مجموع الأسانيد. توفي سنة 1079 هـ. انظر: "الروض الأغن" (1/ 42 - 43 رقم 70)، "البدر الطالع" (1/ 58).

المعروفة (¬1) مشككا في شأن ما لاح له في تناقض الأدلة، حرس الله ذلك عنه، ومن ذلك قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "والذي نفسي بيده .. إلخ". مع قول الله تعالى: {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم} (¬2) هذا تناقض. قال في صوارم اليقين لقطع شكوك أحمد بن سعد الدين: "إن الآية الكريمة لها محمل صحيح، وذكره، ولعل معناه أن الآية مسوقة لعدم الإتيان بالواجب من الزكاة ونحوها، وأنه متعذر المجيء بآخرين، لأنه إن كان من الملائكة فهم معصومون، وإن كان من الجنس غير في الصفات فهم غير معصومين، ويحضرني أنه قال في الكشاف (¬3): ¬

(¬1) "الرسالة المنقذة من الغواية في طريق الرواية". (¬2) [محمد: 38]. قال ابن جرير الطبري في "جامع البيان" (13 جـ 26/ 66): وقوله تعالى: (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم) أي وإن تتولوا أيها الناس عن هذا الدين الذي جاءكم به محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فترتدوا راجعين عنه: (يستبدل قوما غيركم) أي يهلككم ثم يجيء بقوم آخرين غيركم بدلا منكم يصدقون به، ويعملون بشرائعه (ثم لا يكونوا أمثالكم) يقول: ثم لا يبخلوا بما أمروا به من النفقة في سبيل الله، ولا يضيعون شيئا من حدود دينهم، ولكنهم يقومون بذلك كله على ما يؤمرون به. (¬3) أي الزمخشري في "الكشاف" (5/ 532). قال ابن كثير في تفسيره (7/ 324): قوله: (وإن تتولوا) أي: عن طاعته واتباع شرعه يستبدل قوما غيركم (ثم لا يكونوا أمثالكم) أي ولكن يكونون سامعين مطيعين له ولأوامره. ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلا هذه الآية: (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) قالوا: يا رسول الله، من هؤلاء الذين إن تولينا استبدل بنا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ قال: فضرب بيده على كتف سلمان الفارسي ثم قال: "هذا وقومه، ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس". أخرجه الترمذي رقم (3260) وقال: هذا حديث غريب، في إسناده مقال، وابن حبان رقم (7123) والحاكم (3/ 458) والبيهقي في "الدلائل" (6/ 333 - 334) كلهم من طرق مختلفة عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة به.

{وإن تتولوا} معطوف على: {وإن تؤمنوا وتتقوا} فيكون المراد بالتولي الكفر، وهو غير ما أراده صاحب الرسالة من أن المراد عدم الذنب، بل أعم من ذلك. وقال فيها أيضا: إن (لو) في الحديث المذكور في اللغة لامتناع الشيء (¬1) لامتناع غيره، ثم بين الامتناع بما معناه، فلم يكن عندي ليؤخذ بلفظه: إن الذنب متعذر عدم كونه من المتكلفين، فالمجيء بآخرين ممتنع كذلك، وذكر مما أجيب به عن معنى الحديث قولا ونقلا، ولم يكن منه ما لاح لي هو أن الذي ينبغي أن يكون (لو) في هذا المقام من قبيل لو لم يخف الله لم يعصه، فيكون معنى الحديث: فأولى أن يذهب لكم، وأنتم تذنبون ويكون المراد بالذهاب الموت. قال في الأفعال: ذهب (¬2) الإنسان ذهابا وذهوبا مات. وهي لأمر مضى، ويكون المراد بالمجيء بآخرين من الجنس غايته تحصيل ما اشتمل عليه التكوين من الأسلاف والأخلاق. ¬

(¬1) وهو المشهور على ألسنة النحاة، ومشى عليه المعربون أنها حرف امتناع لامتناع، أي يدل على امتناع الجواب لامتناع الشرط، فقولك: لو جئت لأكرمتك؛ دال على امتناع. وقيل: هي مجرد ربط الجواب بالشرط دالة على التعليق في الماضي كما دلت (إن) على التعليق في المستقبل، ولم تدل بالإجماع على امتناع ولا ثبوت. واعترض عليه ابن هشام وقال: هذا القول كإنكار الضروريات إذ فهم الامتناع منها كالبديهي. وهناك أقوال أخرى انظرها في "معترك الأقران في إعجاز القرآن" (2/ 294 - 298). (¬2) انظر لسان العرب (5/ 66) و"الصحاح" (1/ 130).

وإن ذلك لازم حكمه. وأبان الحديث وجه أولوية [1] لزوم ذلك من تبيين أن لله في ذلك حكمة، ولا بد منه، لا كما ظنه من فهم أن الذنب مقصود للشارع، وأنه يلزم أن يكون الذنب منهي عنه، مأمور به، فذلك باطل فيجب المصير إلى أي جمع. وإن يكاد أبعد تأويل وارتكاب أبعد تأويل، كيف وهذه وجوه صحيحة صريحة يجب المصير إليها أولى من نسبة التناقض إلى الشريعة المطهرة، صانها الله عن ذلك: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} (¬1). هذا ما لاح لي، وفوق كل ذي علم عليم. انتهى السؤال بلفظه. الجواب نقل من خط المولى العلامة الرباني محمد بن علي الشوكاني، كثر الله فوائده. ¬

(¬1) [النجم: 3 - 4].

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين، وبعد: فإنه وصل هذا البحث من سيدي العلامة عماد الدين محمد بن مطهر بن إسماعيل بن يحيى بن الحسين بن الإمام القاسم - رضوان الله عليهم جميعا - وأقول: إن وجه وقوع الإشكال في هذا الحديث لجماعة من أهل العلم أنهم ظنوا أنه يدل على أن وقوع الذنوب من العصاة مطلوب للشارع، وهذا تخيل مختل، وفهم فاسد معتل، فإن الحديث لا يدل على ذلك لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام. فإن قوله: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم ... إلخ". لا يدل إلا على أن هذا النوع الإنساني (¬1) باعتبار مجموعة لا ¬

(¬1) قال ابن الجوزي: "هفوات الطبائع البشرية لا يسلم منها أحد". انظر: "فتح الباري" (11/ 101). قال ابن تيمية في "منهاج السنة" (2/ 431): إذا ابتلي العبد بالذنب وقد علم أنه سيتوب منه ويتجنبه، ففي ذلك من حكمة الله ورحمته بعبده أن ذلك يزيده عبودية وتواضعا وخشوعا وذلا ورغبة في كثرة الأعمال الصالحة ونفرة قوية عن السيئات. وذلك يدفع عنه العجب والخيلاء ونحو ذلك مما يعرض للإنسان، وهو أيضًا يوجب الرحمة لخلق الله، ورجاء التوبة والرحمة لهم إذا أذنبوا وترغيبهم في التوبة. وهو أيضًا يبين من فضل الله وإحسانه وكرمه ما لا يحصل بدون ذلك كما قال: - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو لم تذنبوا .. ". وهو أيضًا يبين قوة حاجة العبد إلى الاستعانة بالله والتوكل عليه واللجء إليه في أن يستعمله في طاعته ويجنبه معصيته وأنه لا يملك ذلك إلا بفضل الله عليه وإعانته له، فإن من ذاق مرارة الابتلاء وعجزه عن دفعه إلا بفضل الله ورحمته، كان شهود قلبه وفقره إلى ربه واحتياجه إليه في أن يعينه على طاعته ويجنبه معصيته أعظم ممن لم يكن كذلك، ولهذا قال بعضهم: كان داود - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة. وقال بعضهم: لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه. ولهذا تجد التائب الصادق أثبت على الطاعة وأرغب فيها وأشد حذرا من الذنب من كثير من الذين لم يبتلوا بالذنب. وقد تكون التوبة موجبة له من الحسنات ما لا يحصل لمن يكن مثله تائبا من الذنب. فمن يجعل التائب الذي اجتباه الله وهداه منقوصا بما كان من الذنب الذي تاب منه، وقد صار بعد التوبة خيرا مما كان قبل التوبة، فهو جاهل بدين الله. وانظر: "فتح الباري" (11/ 104 - 108).

يخلو عنه الذنب قط. ولو فرضنا أنه يخلو عنه لم يكن إنسانا بل غير إنسان، لأن العصمة لجملة النوع باطلة، وما استلزم الباطل باطل. وقد قضى الله في سابق علمه كما أخبرنا بذلك في كتابه (¬1) على لسان رسله أن فريقا من هذا النوع في الجنة، وفريقا في السعير. وأن منهم الشقي والسعيد، والبر والفاجر، والمسلم والكافر. وأخبرنا أيضًا على لسان (¬2) رسله أنه خلق الجنة وخلق لها أهلا، وخلق النار وخلق لها أهلا، وأخبرنا أيضًا أنه الغفور الرحيم، المنتقم الجبار، شديد العقاب ونحو ¬

(¬1) منها قوله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير) [الشورى: 7]. (¬2) منها ما أخرجه أحمد (1/ 44 - 45) وأبو داود رقم (4703) والنسائي في "تفسيره" رقم (210) والترمذي (5/ 226 رقم 3075) وقال: هذا حديث حسن. وابن حبان (1804 - موارد) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عنها (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى). [الأعراف: 172]، فقال: "إن الله خلق آدم عليه السلام ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، قال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون" فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا خلق الله العبد للجنة استعمله بأعمال أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال الجنة فيدخل به الجنة، وإذا خلق الله العبد للنار استعمله بأعمال أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار". وهو حديث صحيح لغيره.

ذلك من الأسماء والصفات (¬1). فلو فرضنا أن مجموع هذا النوع الإنساني لا يصدر من ذنب أصلا كانت هذه الإخبارات الإلهية باطلة، وما استلزم الباطل باطل. وبيان الملازمة أنه إذا لم يوجد المذنب لم يوجد الشقي منهم. ولا الكافر ولا الفاجر، ولا من هو من أهل النار. وأيضا لم يوجد من يستحق العفو عنه، والرحمة له، والانتقام منه، والعقوبة له. وأما بطلان اللازم فظاهر، فتقرر بهذا أن الحديث مسوق لبيان أن العصمة عن مجموع هذا النوع الإنساني (¬2) منتفية، وأنهم على [2] ما حكاه الله في محكم كتابه، وعلى لسان رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومنهم المطيع، ومنهم العاصي، ومنهم من جمع بين الطاعة والمعصية، وأنهم مظاهر الأسماء الحسنى والصفات المتضمنة للغضب والرضا، والرحمة والعقوبة، والنعيم ¬

(¬1) قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (2/ 261): أنه سبحانه له من الأسماء الحسنى، ولكل اسم من أسمائه أثر من الآثار في الخلق والأمر، لا بد من ترتبه عليه كترتب المرزوق والرزق على الرازق، وترتب المرحوم وأسباب الرحمة على الرحيم، وترتب المرئيات والمسموعات على السميع والبصير ... فلو لم يكن في عباده من يخطئ ويذنب ليتوب عليه ويغفر له ويعفو عنه لن يظهر أثر أسمائه الغفور والعفو والحليم والتواب، وما جرى مجراها، وظهور أثر هذه الأسماء ومتعلقاتها في الخليقة كظهور آثار الأسماء الحسنى ومتعلقاتها، فكما أن اسمه الخالق يقتضي مخلوقا، والباري يقتضي مبروءا، والمصور يقتضي مصورا ولا بد، فأسماؤه الغفار التواب تقتضي مغفورا له وما يغفره له كذلك من يتوب عليه، وأمورا يتوب عليه من أجلها، ومن يحلم عنه ويعفو عنه، وما يكون متعلق الحلم والعفو، فإن هذه الأمور متعلقة بالغير ومعانيها مستلزمة لمتعلقاتها. (¬2) قال ابن القيم في "مفتاح دار السعادة" (2/ 292): إن الحكمة الإلهية اقتضت تركيب الشهوة والغضب في الإنسان، وهاتان القوتان فيه منزلة صفاته الذاتية، لا ينفك عنهما، وبهما وقعت المحنة والابتلاء، عرض لنيل الدرجات العلى، واللحاق بالرفيق الأعلى، والهبوط أسفل سافلين ... والمقصود أن تركيب الإنسان على هذا الوجه هو غاية الحكمة، ولا بد أن يقتضي كل واحد من القوتين أثره، فلا بد من وقوع الذنب والمخالفات والمعاصي، ولا بد من ترتب آثار هاتين القوتين عليهما، ولو لم يخلقا في الإنسان لم يكن إنسانا، بل كان ملكا، فالترتب من موجبات الإنسانية، كما قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون".

والعذاب والعفو والعقاب، وأن منهم فريق الجنة (¬1)، ومنهم فريق النار. فمن رام أن يكونوا جميعا معصومين عن الذنوب فقد رام شططا، وخالف الشرائع بأسرها، كما خالف الواقع ونفس الأمر. ولم يبق على ما زعمه ثمرة لإنزال الكتب، وبعثة الرسل. هذا حاصل ما يظهر لي في معنى هذا الحديث الصحيح. ومن رام الوقف على جميع ما قيل في ذلك فليبحث مطولات شروح الحديث. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والله ولي التوفيق. (وذكر اسمه هنا) [3]. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (3/ 198) والترمذي رقم (2501) وابن ماجه رقم (4251) والدارمي (2/ 303) والحاكم (4/ 244) عن أنس. وهو حديث حسن.

بحث في بيان العبدين الصالحين المذكورين في حديث الغدير

بحث في بيان العبدين الصالحين المذكورين في حديث الغدير تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: (بحث في بيان العبدين الصالحين المذكورين في حديث الغدير). 2 - موضوع الرسالة: في "الحديث". 3 - أول الرسالة: الحمد لله وحده وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله، وبعد، فإنه ورد السؤال عن تفسير ما وقع في حديث الغدير. 4 - آخر الرسالة: ... من بين من تقدمه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من الأنبياء والصالحين بخلاف الحمزة وجعفر، فإن المخصص لهما واضح لو لم يكن إلا مجرد القرابة القربى فهذا ما ظهر، والله سبحانه أعلم. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - المسطرة: الأولى: (18) سطرا. الثانية: (15) سطرا. 7 - عدد الكلمات في السطر: (8) كلمة. 8 - الرسالة من المجلد الثالث من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".

الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله. وبعد: فإنه ورد في السؤال عن تفسير ما وقع في حديث الغدير عند الطبراني عن (¬1) عن جرير ¬

(¬1) في "المعجم الكبير" (2/ 357 رقم 2505) وأورده الهيثمي في "المجمع" (9/ 106) وفيه بشر بن حرب وهو لين، ومن لم أعرفه أيضا. عن بشر بن حرب عن جرير قال: شهدنا الموسم في حجة مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي حجة الوداع، فبلغنا مكانا يقال له غدير خم، فنادى: الصلاة جامعة، فاجتمعنا المهاجرون والأنصار، فقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسطنا فقال: "أيها الناس بم تشهدون؟ قالوا: نشهد أن لا إله إلا الله. قال: "ثم مه؟ " قالوا: وأن محمدا عبده ورسوله، قال: "فمن وليكم؟ " قالوا: الله ورسوله مولانا، قال: "من وليكم؟ " ثم ضرب بيده على عضد علي رضي الله عنه فأقامه فنزع عضده فأخذ بذراعيه فقال: "من يكن الله ورسوله مولياه فإن هذا مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، اللهم من أحبه من الناس فكن له حبيبا، ومن أبغضه فكن له مبغضا، اللهم إني لا أجد أحدا أستودعه في الأرض بعد العبدين الصالحين غيرك فاقض فيه بالحسنى". قال بشر: قلت: من هذين العبدين الصالحين؟ قال: لا أدري. وذكره السيوطي في "الموضوعات" رقم (261) وعزاه للطبراني عن جرير وقال: قال ابن كثير: غريب جدا بل منكر. غدير خم: الغدير فعيل من الغدر، غدير: بفتح أوله، وكسر ثانيه وأصله غادرت الشيء إذا تركته وهو فعيل بمعنى مفعول كأن السيل غادره في موضعه فصار كل ماء غودر من ماء المطر في مستنقع صغيرا كان أو كبيرا غير أنه لا يبقى إلى القيظ سمي غديرا. خم: اسم موضع غدير خم، وهو بين مكة والمدينة وبينه وبين الجحفة ميلان. خم في اللغة: قفص الدجاج، فإن كان منقولا من الفعل فيجوز أن يكون مما لم يسم فاعله من قولهم: خم الشيء، إذا ترك في الخم، وهو حبس الدجاج. وقيل: خم اسم رجل صباغ أضيف إليه الغدير الذي هو بين مكة والمدينة بالجحفة. وقال الحازمي: خم واد بين مكة والمدينة عند الجحفة به غدير، عنده خطب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا الوادي موصوف بكثرة الوخامة. "معجم البلدان" (2/ 389) (4/ 188). قال ابن كثير في "البداية والنهاية" (5/ 182 - 183): في إيراد الحديث الدال على أنه - عليه السلام - خطب بين مكة والمدينة مرجعه من حجة الوداع قريب من الجحفة - يقال غدير خم - فبين فيها فضل علي بن أبي طالب وبراءة عرضه مما كان تكلم فيه بعض من كان معه بأرض اليمن، بسبب ما كان صدر منه إليهم من المعدلة التي ظنها بعضهم جورا وتضييقا وبخلا، والصواب كان معه في ذلك، ولهذا لما تفرغ - عليه السلام - من بيان المناسك ورجع إلى المدينة بين ذلك في أثناء الطريق، فخطب خطبة عظيمة في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة عامئذ وكان يوم الأحد بغدير خم شجرة هناك، فبين فيها أشياء، وذكر من فضل علي وأمانته وعدله وقربه إليه ما أزاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه. أخرج النسائي في "فضائل الصحابة" (ص 15): عن زيد بن أرقم قال: لما رجع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن حجة الوداع ونزل غدير خم، أمر بدوحات فقممن ثم قال: "كأني قد دعيت فأجبت، إني قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يتفرقا حتى يردوا علي الحوض، ثم قال: إن الله مولاي وأنا ولي كل مؤمن ثم أخذ بيد علي فقال: من كنت وليه، فهذا وليه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه". وأخرجه الترمذي في "السنن" رقم (3713) من حديث زيد بن أرقم. وهو حديث صحيح. وفيه "من كنت مولاه فعلي مولاه". ولم يذكر العبدين الصالحين.

بلفظ: "من يكن الله ورسوله مولاه فإن هذا مولاه - يعني عليا عليه السلام - اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، اللهم من أحبه من الناس فكن له حبيبا، ومن أبغضه من الناس فكن له بغيضا، اللهم إني لا أجد أحدا أستودعه في الأرض بعد العبدين الصالحين غيرك فاقض عني فيه بالحسنى" انتهى. ومحل السؤال: من هما العبدان الصالحان المذكوران في الحديث؟ وأقول: قد اختلف في تفسيرهما، فقيل: هما الخضر (¬1) .................. ¬

(¬1) قال ابن حجر في "الإصابة" (2/ 246 رقم 2275): اختلف في نسبه وفي كونه نبيا وفي طول عمره وبقاء حياته. وأخرج البخاري في صحيحه رقم (3402) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهز من خلفه خضراء". وانظر تفصيل ذلك في الرسالة رقم (35) من مجلدنا هذا، ولتعلم أن اسم الخضر لم يذكر في القرآن، إنما ذكرت فيه قصته مع نبي الله موسى عليه السلام، وصرحت السنة باسمه، كما في حديث ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذكر القصة وقد أخرجه البخاري في صحيحه رقم (74، 78، 2267، 2728، 3278، 3400، 3401، 4725، 4726، 4727، 6672، 7478).

وإلياس (¬1)، وقيل: هما الحمزة بن عبد المطلب (¬2) وجعفر بن أبي طالب بن عبد ......... ¬

(¬1) قال تعالى: (وإن إلياس لمن المرسلين إذ قال لقومه ألا تتقون أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين) [الصافات: 123 - 125]. ذكر اسم (إلياس) عليه السلام في القرآن الكريم في ثلاث مواطن من سورة الأنعام، وفي آيتين من الصافات، أولاهما ذكر فيها لفظ (إلياس) والثانية ذكر فيها لفظ (إلياسين) قال تعالى: (سلام على إل ياسين). قال ابن كثير في "البداية والنهاية" (1/ 314): أي إلياس، والعرب تلحق النون في أسماء كثيرة، وتبدلها من غيرها، كما تقول: إسماعيل وإسماعين، وإسرائيل وإسرائين، وإلياس وإلياسين. قال علماء النسب: هو إلياس التشبي. وقيل: ابن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون. وقيل: إلياس بن العازر بن العيزار بن هارون بن عمران. وقالوا: كان إرساله إلى أهل بعلبك غربي دمشق فدعاهم إلى الله عز وجل وأن يتركوا عبادة صنم لهم كانوا يسمونه بعلا. (¬2) حمزة بن عبد المطلب بن هاشم، عم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان يقال له: أسد الله وأسد رسوله، يكنى أبا عمارة، وأبا يعلى أيضًا بابنيه عمارة ويعلى. أسلم في الثانية من المبعث، وكان حمزة أخا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الرضاعة، أرضعتهما ثويبة. شهد حمزة بدرا، وأبلى بلاء حسنا، وشهد أحدا وقتل يومئذ شهيدا، قتله وحشي بن حرب الحبشي، مولى جبير بن عدي. ومثل بحمزة، فقطعت هند كبده، وجدعت أنفه، وقطعت أذنيه، وبقرت بطنه، فلما رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما صنع بحمزة فقال: "لئن ظفرت بقريش لأمثلن بثلاثين منهم، وقيل بسبعين منهم" فأنزل الله عز وجل: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون) [النحل: 126 - 127]. انظر: "سيرة ابن هشام" (3/ 148). "الاستيعاب" (1/ 425 - 427) "الإصابة" رقم (1831).

المطلب (¬1). وقيل هما أبو بكر (¬2) وعمر (¬3). وقيل هما: الحسنان السبطان (¬4). والأقرب ¬

(¬1) جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، أبو عبد الله، ابن عم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأحد السابقين إلى الإسلام، وأخو علي شقيقه. قال ابن إسحاق: أسلم بعد خمس وعشرين رجلا، وقيل بعد واحد وثلاثين، وآخى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينه وبين معاذ بن جبل. وقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أشبهت خلقي وخلقي" من حديث البراء. انظر: "فتح الباري" (7/ 75). وهاجر إلى الحبشة فأسلم النجاشي ومن تبعه على يديه، ثم هاجر إلى المدينة فقدم والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخيبر. انظر: "الإصابة" رقم (1169) شذرات الذهب (1/ 12، 48) "تهذيب التهذيب" (2/ 98). (¬2) أبو بكر الصديق هو: عبد الله بن أبي قحافة، واسم أبي قحافة: عثمان بن عامر بن عمر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك القرشي التيمي. وهو الخليفة الأول، توفي وهو ابن ثلاث وستين سنة. وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (3655) عن ابن عمر قال: "كنا نخير بين الناس في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، رضي الله عنهم. وأخرج البخاري في صحيحه رقم (3656) من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر، ولكن أخي وصاحبي". انظر: "فتح الباري" (7/ 23 - 27). "الاستيعاب" (4/ 177 رقم (2906). "الإصابة" رقم (9636). (¬3) عمر بن الخطاب بن نفيل القرشي العدوي رضي الله عنه. ولد بعد الفيل بثلاث عشرة سنة، وكان إليه السفارة في الجاهلية. وكان عند المبعث شديدا على المسلمين، ثم أسلم، فكان إسلامه فتحا على المسلمين وفرجا لهم من الضيق. لقبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالفاروق، وكنيته أبو حفص. انظر: "الفتح" (7/ 45 - 50). "الإصابة" (4/ 484). "الكاشف" رقم (309) "الاستيعاب" رقم (1899). (¬4) الحسن بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي حفيد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ابن ابنته فاطمة رضي الله عنها. وابن ابن عمه علي بن أبي طالب، يكنى أبا محمد، ولدته فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة، وعق عنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم سابعه بكبش، وحلق رأسه، وأمر أن يتصدق بزنة شعره فضة. ومات الحسن بن علي - رضي الله عنهما - بالمدينة. وانظر: "الاستيعاب" (1/ 439 - 442). "تهذيب التهذيب" (2/ 195). والحسين بن علي بن أبي طالب أمه فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يكنى أبا عبد الله، ولد لخمس خلون من شعبان سنة أربع وقيل: سنة ثلاث، عق عنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما عق عن أخيه، وكان الحسين فاضلا دينا كثير الصيام والصلاة والحج. قتل رضي الله عنه يوم الجمعة لعشر خلت من المحرم يوم عاشوراء سنة 61 هـ بموضع يقال له: كربلاء من أرض العراق بناحية الكوفة. انظر: "الاستيعاب" (1/ 442 - 445). "شذرات الذهب" (1/ 66). "جمهرة أنساب العرب" (ص 52).

أنهما الحمزة وجعفر كما نقل ذلك السمهودي، لأن ظاهر قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد العبدين الصالحين أنهما عند هذه المقالة غير موجودين، والأمر في الحمزة وجعفر. كذلك فإن الحمزة استشهد في يوم أحد (¬1)، وجعفر في يوم مؤتة (¬2). وهذه المقالة من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت في يوم غدير خم (¬3) بعد رجوعه من حجة الوداع. وحجة الوداع متأخرة عن يوم أحد بسنين متعددة، ومتأخرة أيضًا عن يوم مؤتة فعرفت ¬

(¬1) قال الحافظ في الفتح (7/ 346): كانت عنده الوقعة المشهورة في شوال سنة ثلاث باتفاق الجمهور. وقال مالك: كانت بعد بدر بسنة. وقيل كانت بعد الهجرة بأحد وثلاثين شهرا. (¬2) قال الحافظ في الفتح (7/ 511): " ... عن عروة بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجيش إلى مؤتة في جمادى من سنة ثمان. مؤتة: بالقرب من البلقاء، وقيل: هي على مرحلتين من بيت المقدس. (¬3) كان ذلك في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة عامئذ وكان يوم الأحد. "البداية والنهاية" (5/ 182).

بهذا أنه لا يصح تفسيرها في الحديث بأبي بكر وعمر، لأنهما كانا حيين عند هذه المقالة بلا ريب. ولا بالحسنين لذلك. وأما الخضر وإلياس فإنهما وإن كانا متقدمين ولكن لا وجه لتخصيصهما من بين من تقدمه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأنبياء والصالحين بخلاف الحمزة وجعفر، فإن المخصص لهما واضح لو لم يكن إلا مجرد القرابة القربى، فهذا ما ظهر. والله سبحانه أعلم.

بحث في حديث (أجعل لك صلاتي كلها) وفي تحقيق الصلاة على الآل ومن خصهم

بحث في حديث (أجعل لك صلاتي كلها) وفي تحقيق الصلاة على الآل ومن خصهم تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط (أ): 1 - عنوان الرسالة: (بحث في حديث "أجعل لك صلاتي كلها" وفي تحقيق الصلاة على الآل ومن خصهم). 2 - موضوع الرسالة: في "الحديث". 3 - أول الرسالة: الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله، ورضي الله عن الصحابة الراشدين، آمين، وبعد: فإنه وصل إلى أسير التقصير محمد بن علي الشوكاني. 4 - آخر الرسالة: ... وقد عرفت أن الأولى أن يُصلى على الآل في كل موضع يُصلى فيه على رسول الله لما سلف. انتهى تحرير هذا البحث في نهاية يوم السبت من غرة شهر جمادى الآخرة سنة 1208 هـ كتبه محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - الناسخ: المؤلف محمد بن علي الشوكاني. 7 - عدد الصفحات: (7) صفحات. 8 - المسطرة: الأولى: (27) سطرا. الثانية: (26) سطرا. الثالثة والرابعة: (27) سطرا. الخامسة: (26) سطرا. السادسة: (27) سطرا. السابعة: (4) أسطر. 9 - عدد الكلمات في السطر: (11 - 13) كلمة. 10 - الرسالة من المجلد الثالث من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".

وصف المخطوط (ب): 1 - عنوان الرسالة: (بحث في حديث "أجعل لك صلاتي كلها" وفي تحقيق الصلاة على الآل ومن خصهم). 2 - موضوع الرسالة: في "الحديث". 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. سيدنا العلامة المحقق بدر الإسلام محمد بن علي الشوكاني كثر الله فوائده وجعل سوابغ نعمه ... 4 - آخر الرسالة: ... وأشدها ما سلف. انتهى من تحرير المجيب جامعه قرة عين المسلمين عز الإسلام والدين محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما. وأقام به الدين إنه حليم كريم. حرره حفظه الله في شهر القعدة سنة 1208 هـ. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - عدد الصفحات: (12) صفحة. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: (29 - 30) سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: (16 - 18) كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الثالث من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. سيدنا العلامة المحقق بدر الإسلام محمد بن علي الشوكاني كثر الله فوائده، وجعل سوابغ نعمه وآلائه عليه عائدة، وأتحفه بشريف سلامه، وجزيل إلمامه، دار في ذلك الموقف المبارك بيوم الجمعة مع الاجتماع بكم وبأولئك الأعيان الذين هم أشبه بالملأ الأعلى، كثر الله أعداد أمثالهم من العلماء في الملأ. ذكر الحديث الشريف، وهو قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "إذا تُكفى همك، ويغفر ذنبك" (¬1) جوابا على القائل له: جعلت لك صلاتي كلها. فحصلت المراجعة في لفظ الصلاة (¬2)، إلام ينصرف؟ هل إلى ذات الأذكار والأركان؟ أم إلى الدعاء؟. ¬

(¬1) سيأتي تخريجه. (¬2) الصلاة أصلها في اللغة الدعاء، مأخوذة من صلى يصلي إذا دعا. وقال قوم: هي مأخوذة من الصلا وهو عرق في وسط الظهر ويغترق عند العجب فيكتنفه، ومنه أخذ المصلى في سبق الخيل؛ لأنه يأتي في الحلبة ورأسه عند صلوى السابق، فاشتقت الصلاة منه إما لأنها ثانية للإيمان فشبهت بالمصلى من الخيل، وإما لأن الراكع تثنى صلواه. والصلا: مغرز الذنب من الفرس، والاثنان صلوان. والمصلى: تالي السابق؛ لأن رأسه عند صلاه. وقيل: هي مأخوذة من صليت العود بالنار إذا قومته ولينته بالصلاء. والصلاء: صلاء النار بكسر الصاد محدود، فإن فتحت الصاد قصرت فقلت صلا النار، فكأن المصلي يقوم نفسه بالمعاناة فيها ويلين ويخشع. والصلاة: الدعاء، والصلاة: الرحمة، ومنه: "اللهم صل على محمد". والصلاة العبادة، ومنه قوله تعالى: (وما كان صلاتهم عند البيت) أي عبادتهم. والصلاة النافلة، ومنه قوله تعالى: (وأمر أهلك بالصلاة) والصلاة التسبيح، ومنه قوله تعالى: (فلولا أنه كان من المسبحين) أي من المصلين، ومنه سبحة الضحى، وقد قيل في تأويل: (نسبح بحمدك): نصلي، والصلاة: القراءة، ومنه قوله تعالى: (ولا تجهر بصلاتك). انظر: "الصحاح" (6/ 2402). و"الجامع لأحكام القرآن" (1/ 168 - 169).

وذكرتم في غضون جوابكم ذكرها بمعنى الدعاء في بعض السنن، وبمعنى ذات الأركان قد ذكرت كذلك، ولم يتبين الصحيح من القولين فيعلم، أو صحتهما [1]. ويحصل ترجيح، أو وقف، وكل من المحاضرين عنده فيما أظن ما يشفي غلته في ذلك، محيط به علمه ما عداني، فأين أنا من أولئك الرجال أهل التدين والكمال. وتقدموا للعاشقين فكلهم ... طلب النجاة لنفسه إلا أنا فلكم الفضل بتحقيق ما لديكم في ذلك، وإن شققت عليكم بكثرة السؤالات فويل الشجي من الخلي. وقد سمعت من جوابكم ما تقدم ذكره من ورود الأمرين، لكن المراد من الصحيح ما يسفر به الصبح من فوائدكم، أبقاكم الله لذي عينين. مع أن جمعان ذكر في ذلك في شرح العدة ما لفظه: ومعنى: جعلت لك صلاتي كلها، أي دعائي كله لمن يذكر غير هذا. وأي الوجهين صح فقد عم فضل الله به، كثر خير ربنا وطاب، إنما حيث الصحيح أو الأصح أحد القولين أراد الحقير التطلع له ومعرفته إن شاء الله، وأسأل الله أن يجعل العمل خالصا لوجهه، ويعلمنا ما جهلناه، ويرزقنا العمل بما علمناه، فلا حول ولا قوة إلا بالله. نعم، وكذلك حصلت المذاكرة هنالك، هل يكون السلام على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مقرونا بكل صلاة يلفظ بها؛ فإذا صلى المصلي مثلا عشرا سلم عشرا، مقترنة بها كل سلام مع كل صلاة، أو يكون السلام بعد إكمال الصلاة، فإذا صلى مثلا ألفا قال بعدها، إما بلا فصل، أو مع تراخ: السلام عليك أيها النبي الكريم .. إلخ، فقد أجزأه، وفعل ما كفاه. وأما في قوله تعالى: {وسلموا تسليما} فقد أجبتم في السؤال السابق في حديث النفث بعد الإخلاص والمعوذتين عند النوم أنها لا تقتضي الترتيب، فهاهنا كذلك

تكون أولا. وسؤال آخر لم يحصل مذاكرة به: من جملة الألفاظ الواردة عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة عليه. اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد. كما حرره في مجموعة سيدنا حامد شاكر - رحمه الله - بغير زيادة مع أني ما قد وجدته مفردا هكذا إلا في مجموعه رحمه الله. نعم فإذا وسط المصلي التسليم بينه، فقال: اللهم صل وسلم على محمد، وعلى آل محمد، هل قد أجزأه عن التسليم المعروف عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وهو السلام عليك .. إلخ. فهو أعني: وسلم قد ورد في لفظه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بفتح اللام، فهل يكون كذلك هنا بكسرها في دعاء الصباح والمساء ونحوه كما عرفتم؟ وعلى دين نبينا محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الفائدة مستمدة، والشيء بالشيء يذكر: حذف الآل في الصلاة المذكورة في الصباح والمساء، هل هي كذلك بغير ذكر الآل في كل الروايات، أو في بعض؟ فإن كانت في البعض فما يحمل في البعض الآخر إلا على غفلة، أو سهو، أو تحامل، كما فعله أكثر المحدثين السابقين [2]، وحذا حذوهم جماعة من اللاحقين والنقال اعتباطا، فلم يسمع في كل ما رووه من أحاديث الصلاة عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - صلاة واحدة كما علمتم، ولم يذكر فيها الآل، وهم الذين حققوها لنا، ورووها، ودونوها، وتحروا النقص ولو بالحرف الواحد والزيادة في روايتهم، فما بالهم وهنوها. يا لله العجب، والله خير مستعان. عرفت قدري ثم أنكرته ... فما عدا الله مما بدا والأعداء قد عرفت باردة، والحجة واردة، والله سبحانه حسبي وكفى. وإن كانت لم تسمع، أعني: الصلاة المذكورة في الصباح والمساء، ومثلها إلا كذلك بغير الآل، فهل الأولى ترك ذكرهم فيها للاتباع. أما الأولى زيادة ذكرهم، وما عسى أن يسألهم الله عن هذه الزيادة إن لم يثبت عليها، ولا يعاتبهم الرسول من أجلها، وهو الحادي إليها

بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "لا تصلوا علي الصلاة البتراء" أو معناه، كنا نحب اتباع الحق، فإن كان في البناء على ما سمع من إفراد الأصل عن الفروع لزمناه وإن شق، والله يلهم إلى ما علمه صلاحا، ويجعل يوم دنيانا وآخرتنا أوله صلاحا، وأوسطه فلاحا، وآخره نجاحا. آمين اللهم آمين. وشريف سلامه عليكم، ورحمة الله وبركاته، وصليت على سيدنا محمد وآله وسلمت] (¬1). ¬

(¬1) زيادة من (ب) وهو نص السؤال.

[الجواب، قال - حفظه الله تعالى - ما لفظه: بسم الله الرحمن الرحيم] (¬1) الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله، ورضي الله عن الصحابة الراشدين آمين، وبعد: فإنه وصل إلى أسير التقصير محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما - من مولانا العلامة عين الآل الكرام علي بن إسماعيل (¬2) بن الإمام - لا برحت نعم الله الجليلة الجزيلة واصلة إليه على الدوام - سؤالات نفيسة، وطلب - حفظه الله - من الحقير الجواب عليها. السؤال الأول: عن حديث أبي بن كعب (¬3) لما قال للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "أجعل لك صلاتي كلها؟ " فقال له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "إذا تكفى همك، ويغفر ذنبك" هل تنصرف الصلاة المذكورة إلى ذات الأركان؟ أم إلى ¬

(¬1) زيادة من (ب). (¬2) علي بن إسماعيل بن علي بن القاسم بن أحمد بن الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم بن محمد. ولد سنة 1151هـ بشهارة، ونشأ بها، برع في الأدب وسهل له كتابة الشعر بشكل مدهش، كان يتردد على صنعاء ويتصل برجالها وعلمائها ومنهم الإمام الشوكاني الذي سمع منه بعض مؤلفاته. قال الشوكاني في "البدر الطالع" (1/ 433 - 437): وهو حسن المحاضرة لا يمل جليسه لما يورده من الأخبار والأشعار والظرائف واللطائف والمباحثات العلمية والاستفادة فيما لم يكن لديه منها وتحرير الأسئلة الحسنة، وقد كتب إلي من ذلك شيئا كثيرا، وأجبت عليه برسائل هي في مجموع رسائلي. توفي سنة 1230 هـ. انظر: "نيل الوطر" (2/ 125 - 126 رقم 331). "البدر الطالع" (1/ 433). (¬3) أخرجه أحمد (5/ 136) والترمذي رقم (2457) والحاكم (2/ 421 و513) وصححه ووافقه الذهبي. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وهو حديث حسن.

الدعاء؟ هذا حاصل السؤال. وأقول: الصلاة في اللغة (¬1) الدعاء كما حقق ذلك جماعة من الأئمة المعتبرين، وفي الشرع ذات الأركان والأذكار، وقد ذكر العلامة جار الله في كشافه (¬2) ما يشعر بملاحظة المعنى الشرعي عند أهل اللغة، فقال [3]: إنها تعني الصلاة مأخوذة من تحريك الصلوين وهي الشهادتان. قال النووي في شرح مسلم (¬3): اختلف العلماء في أصل الصلاة، فقيل: هي الدعاء؛ لاشتمالها عليه، وهذا قول جماهير أهل العربية والفقهاء وغيرهم، وقيل: لأنها تالية لشهادة التوحيد كالمصلي من السابق في خيل الحلية. وقيل: هي من الصلوين، وهما عرقان مع الردف. وقيل: هما عظمان [ينحنيان في الركوع والسجود، قالوا: ولهذا كتبت الصلوة بالواو في المصحف] (¬4). وقيل: هي من الرحمة. وقيل: أصلها الإقبال على الشيء. وقيل غير ذلك. انتهى. وقد تقرر في الأصول (¬5) أنها تقدم الحقيقة (¬6) الشرعية (¬7) فالعرفية (¬8) .................... ¬

(¬1) انظر "الصحاح" (6/ 2402). و"لسان العرب" (7/ 397). (¬2) (1/ 155). (¬3) (4/ 75). (¬4) زيادة من "شرح مسلم للنووي" (4/ 75). (¬5) انظر "الكوكب المنير" (1/ 149) "الإبهاج" (1/ 275). (¬6) قيل من الحق في اللغة: وهو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره، وفي اصطلاح أهل المعاني هو الحكم المطابق للواقع يطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك ويقابله الباطل. وقيل: هي اللفظ المستعمل فيما وضع له. وقيل من حق الشيء بمعنى ثبت. والتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الإسمية. انظر: "التعريفات" (ص94) "الإبهاج" (1/ 271). (¬7) هي اللفظ المستعمل فيما وضع له بوضع الشارع. (¬8) هي اللفظة المنتقلة عن معناها إلى غيره بعرف الاستعمال العام أو الخاص، فالعامة: هي أن يختص تخصيصها بطائفة دون أخرى (كدابة) فإن وضعها بأصل اللغة لكل ما يدب على الأرض من ذي حافر وغيره، ثم هجر الوضع الأول وصارت في العرف حقيقة (للفرس) ولكل ذات حافر. وكذا شاع استعماله في غير موضوعه اللغوي، كالغائط والعذرة والراوية، فإن حقيقة الغائط: المطمئن من الأرض، والعذرة: فناء الدار، والراوية: الجمل الذي يستقى عليه بالماء. والخاصة: هي ما خصته كل طائفة من الأسماء بشيء من مصطلحاتهم، كمبتدأ وخبر وفاعل ومفعول ونعت وتوكيد. في اصطلاح النحاة. ونقض وكسر وقلب في اصطلاح الأصوليين، وغير ذلك مما اصطلح عليه أرباب كل فن. انظر: "الكوكب المنير" (1/ 150) و"التحصيل" (1/ 224).

فاللغوية، فلو فرضنا تجرد الصلاة المذكورة في الحديث عن القرائن كان المتعين حملها على الصلاة الشرعية التي هي ذات الأذكار والأركان، ولكنها قد اقترنت في الحديث بما يوجب صرف معناها إلى المدلول اللغوي، وبيانه أن لفظ الحديث على ما ساقه العامري في آخر البهجة عن الترمذي (¬1) وغيره، من طريق أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إذا ذهب ربع الليل قام فقال: "يا أيها الناس اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه"، فقال أبي بن كعب: يا رسول الله، إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ فقال: "ما شئت"، قال: الربع، قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير لك"، قال: يا رسول الله، الثلث؟ قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير لك" قال: النصف، قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير لك" قال: يا رسول الله، فأجعل صلاتي كلها لك؟ قال: "إذن تكفى همك، ويغفر ذنبك" انتهى. ففي الحديث قرينتان [مشعرتان بأن المراد بالصلاة المذكورة الصلاة اللغوية أعني الدعاء لا الشرعية] (¬2). ¬

(¬1) في "السنن" (4/ 636 - 637 رقم 2457). (¬2) زيادة من (أ).

القرينة الأولى: أن أول الحديث في الترغيب، والإكثار من الذكر، فينبغي أن يكون مراد أبي بالصلاة المذكورة بعد ذلك الصلاة الذكرية اللغوية، ليكون سؤاله مطابقا لما سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بصدده، ويبعد كل البعد أن يريد بسؤاله الصلاة الشرعية، التي هي ذات الأركان، وهو عربي اللسان، عارف بمخالفة ما جاء به سياق الكلام. ومن تتبع كلام العرب، وعرف كيفية محاوراتهم، علم أنهم يراعون في أكاليمهم السياق، ويحرصون على مطابقته، ولا يخرجون عنه إلى غيره. القرينة الثانية: قوله: يا رسول الله، إني أكثر الصلاة عليك. فإن المجيء بلفظ: على، بعد الصلاة من أعظم المشعرات بأن مراده بالصلاة الصلاة الذكرية، لا الشرعية؛ لأنه لو أراد الشرعية التي هي ذات الأركان لقال: إني أكثر الصلاة لك؛ فهاتان قرينتان من نفس الحديث. القرينة الثالثة: ما أخرجه الحافظ أحمد بن معد التجيبي في الأربعين له، في فضل الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -؛ فإنه قال: وإن جعلت الصلاة على نبيك معظم عبادتك، فقد كفاك الله دنياك وآخرتك، ثم أتى بالحديث [4]، فإن قوله: وإن جعلت الصلاة إلخ ... مشعر بأنها الصلاة الذكرية، ولو أراد الركنية لقال: وإن جعلت الصلاة لنبيك .. إلخ. القرينة الرابعة: أن الصلوات الخمس المفترضة أوجبها الله تعالى على كل فرد من أفراد العباد، فمن جعلها لغيره لم يؤد ما افترض الله عليه، فلا يجوز جعلها للخير، فتقرر من هذا أن المراد بالصلاة المذكورة في الحديث هي الذكرية، أعني: الدعاء. والظاهر أن المراد كل الأدعية؛ لأن لفظ صلاتي مصدر (¬1) مضاف، وهو من صيغ العموم، فكأنه قال: أجعل كل دعاء أردت أن أدعو به لنفسي لك، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "إذن تكفى همك .. إلخ". ¬

(¬1) انظر "اللمع" (ص 15)، "الكوكب المنير" (3/ 136).

أي إذا جعلت مكان الدعاء لنفسك الدعاء لي حصلت لك المغفرة، وكفاية المهمات. وقد ورد في الحديث القدسي: "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" (¬1) ولا شك أن الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مشتملة على ذكر الله، وذكر رسوله؛ فهي أفضل الأذكار. ¬

(¬1) أخرجه البيهقي في "الشعب" رقم (572) من حديث عمر بن الخطاب ورقم (573) من حديث جابر بن عبد الله ورقم (574) من حديث مالك بن الحارث. وأخرجه الترمذي رقم (2926) وقال: هذا حديث حسن غريب. من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يقول الرب عز وجل: من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه". وهو حديث ضعيف. انظر: "الضعيفة" رقم (1335).

السؤال الثاني: قال - حفظه الله -: هل يكون السلام على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مقرونا بكل صلاة تلفظ بها، فإذا صلى المصلي عشرا سلم عشرا، مقترنا بها كل سلام مع كل صلاة، ويكون السلام بعد كمال الصلاة، فإذا صلى مثلا ألفا ثم قال بعدها: إما بلا فصل، أو مع تراخ: السلام عليك أيها النبي الكريم .. إلخ، فقد أجزأه، وفعل ما كفاه. انتهى. أقول: ينبغي للمصلي على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن يجعل السلام مقترنا بالصلاة كما علمنا الله تعالى بقوله: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} (¬1) فلا يحسن إفراد الصلاة عن السلام، كما لا يحسن العكس. ومن الإفراد أن تأتي بلفظ الصلاة، وتكررها مرات، ثم تأتي بعد ذلك بلفظ السلام مرة، أو مرات، أو بالعكس. وأما تقديم الصلاة على السلام، أو العكس، فليس في القرآن ما يقتضي ذلك، لما تقرر عند أئمة النحو وغيرهم من أن الواو لمطلق الجمع من غير ترتيب ولا معية، ولكنه يستفاد تقديم الصلاة على السلام من غير الآية؛ فإن من تتبع ما ورد عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من ذلك وجده في جميع المواطن بتقديم الصلاة على السلام، إلا في صلاة الصلاة، فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - اقتصر في ذلك على تعليمهم كيفية الصلاة ثم قال: والسلام كما علمتم؛ لأنهم قد كانوا عرفوا كيفية السلام عليه قبل أن يعرفوا كيفية الصلاة عليه، كما يشعر بذلك ما أخرجه أحمد (¬2)، والبخاري (¬3)، ومسلم (¬4)، وأبو داود (¬5) ............................ ¬

(¬1) [الأحزاب: 56]. (¬2) في "المسند" رقم (4/ 241). (¬3) في صحيحه رقم (6357). (¬4) في صحيحه رقم (66/ 406). (¬5) في "السنن" رقم (976 و977).

والنسائي (¬1)، وابن ماجه (¬2) عن [كعب بن عجرة] (¬3) قال: قلنا: يا رسول الله، قد علمنا، أو عرفنا كيف السلام عليك، فكيف الصلاة ... الحديث. وأما لفظ الصلاة والسلام فينبغي أن يكون [5] في المواطن الواردة عنه (¬4) - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، على صفة من الصفات على تلك الصفة بلا زيادة ولا نقصان، لأن تعليمه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لأمته أن تكون الصلاة بلفظ، كذا حكمه حكم البيان، لما في القرآن، ولكنه إذا كان البيان مختصا بموضع خاص كانت تلك الصفة مختصة بذلك الموضع، وما لم ترد فيه صفة خاصة فتأدية المشروع تحصل بامتثال ما في القرآن من نحو: اللهم صل وسلم على محمد، أو صلى الله على محمد وسلم، أو نحو ذلك. ¬

(¬1) في "السنن" رقم (3/ 48) وفي "عمل اليوم والليلة". رقم (54). (¬2) في "السنن" رقم (904). (¬3) في المخطوط (ب) أبي بن كعب، والصواب ما أثبتناه من (أ). (¬4) في حاشية المخطوط (أ) ما نصه: تحقيق ما ظهر، وكلام المجيب - أحسن الله جزاءه - في قوله أن تكون في المواطن إلخ، مثل الصلاة المشروعة ذات الأذكار والأركان، ومثل الصلاة في دعاء الصباح والمساء. وفي مثل الخطب، وصلاة الجنازة، ونحو ذلك؛ فهذا تكون الصلاة بلفظ أحد ما ورد عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مقترنا بها. وقوله: - دامت إفادته - وما لم ترد فيه صفة خاصة إلخ مثل الصلاة عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في غير المواطن التي ذكرت كفي سائر اليوم مثلا، وسائر الأوقات إذا قال العبد: اللهم صل وسلم على محمد، وعلى آل محمد، فقد أتى بمشروع، وامتثل لما ورد في الذكر الحكيم، والحمد لله رب العالمين على الوقوف ما كان. حاكا في النفس من عين صافية. أفادها هذا الجواب كما أفاد في غضونه جميع ما أراده السائل - وفقه الله - بتبيين شاف كاف مبين بالأدلة، والمآخذ الصحيحة الواضحة الحقيقة كما تظهر لمن تأمل، وما اشتمل لفظ الجواب ومفهوماته على ما يغني عن هذا، لكني رقمته لينطبع في خاطري إن شاء الله، وزيادة إيضاح لمثلي، وإلا فقد كفا جواب المجيب - أثابه الله -، وزاد في فوائده، ورزق السائل والمسئول خلوص النية، وصلاح الطوية، والتوفيق، وحسن الختام. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله الأعلام. من رقم السائل.

وينبغي أن يضم إلى ذلك الآل لورود الصلاة عليهم في السنة متصلة بالصلاة عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في أحاديث كثيرة، منها ما هو مقيد بالصلاة، ومنها ما هو مطلق، وإذا ثبت في موضع من المواضع إفراد الصلاة عن السلام، أو العكس، أو حذف الصلاة على الآل، فالأحسن أن لا تفرد الصلاة على السلام، ولا يفردهما عن الآل، لأن الموضع الخاص الذي ورد فيه ذكر الصلاة فقط، أو السلام فقط، أو ذكرهما بدون الآل ليس فيه ما يدل على كراهة الزيادة، لأن مجرد الاقتصار على بعض ما ورد لا ينافي الإتيان بجميع الوارد. لأن الإتيان بجميع الوارد إتيان بالبعض منه وزيادة، ولا سيما إذا كانت الأحاديث خارجة من مخرج واحد، فإنه ينبغي ملاحظة الزيادة المقبولة التي لا تنافي الأصل، وضمها إليه كما تقرر في علم الأصول، ولا يكون ذكر الأصل بدونها مستلزما لعدم اعتبارها، وأيضا قد تقرر في الأصول (¬1) أن بعض الأحاديث إذا ورد مطلقا، وورد البعض الآخر مقيدا توجب العمل بالمقيد بشروط معروفة. ولا شك أن الأحاديث المقيدة بالسلام، أو بذكر الآل بالنسبة إلى الأحاديث الخالية عنهما، أو عن أحدها، حكم المقيد بالنسبة إلى المطلق، ولكن بشرط أن لا تكون تلك الزيادة وذلك القيد مختصين بموضع مخصوص لا ينبغي مجاوزته إلى غيره، وبشرط أن يتحد المطلق والمقيد حكما وسببا، أو حكما (¬2) فقط، أو سببا فقط على حسب الخلاف المبسوط في الأصول (¬3)، وبهذا يظهر الجواب عن السؤال الثالث، أعني: قول السائل - حفظه الله - أن من جملة الألفاظ الواردة عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، فهل تجزئ المصلي إذا وسط التسليم؟ فقال: ¬

(¬1) انظر "الكوكب المنير" (4/ 675) "تيسير التحرير" (3/ 158). (¬2) في هذه الحالة يحمل المطلق على المقيد إذا اتحد الحكم والسبب وكان الحكم مثبتا. انظر "كشف الأسرار" (2/ 287) "الكوكب المنير" (3/ 397). (¬3) انظر "اللمع" (ص 24)، "التبصرة" (ص 216). "نهاية السول" (2/ 141).

اللهم صل وسلم على محمد وعلى آل محمد .. إلخ. فإن قلت: الأحاديث الواردة بذكر الآل مقيدة بالصلاة كما في حديث أبي مسعود؛ فإنه ثبت عنه من طريق ابن حبان (¬1)، والحاكم (¬2)، والبيهقي (¬3)، وابن خزيمة (¬4)، وصححوه بزيادة: كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ وفي رواية: كيف نصلي عليك في صلاتنا؟ وهذه الزيادة تدل على أن التعبد بالصلاة على الآل إنما ورد [6] في الصلاة فقط، فلا يصح تقييد الأحاديث المطلقة بذلك لما قدمنا من أن المقيد وما فيه الزيادة إذا كانا مقيدين بموضع خاص لم يعمل بالقيد والزيادة في غير ذلك الموضع. قلت: تقييد حديث ابن مسعود بالصلاة لا يدل على تقييد الأحاديث الواردة بمشروعية الصلاة على الآل مطلقا؛ وذلك كحديث أبي هريرة عند أبي داود (¬5) عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بلفظ: "من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا أهل البيت فليقل: اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد". وأخرجه النسائي (¬6) عن علي - عليه السلام - بهذا اللفظ، ولا شك أن تقييد هذين ¬

(¬1) في صحيحه رقم (515 - موارد). (¬2) في المستدرك (1/ 268). (¬3) في "السنن الكبرى" رقم (2/ 146 - 147، 338). (¬4) في صحيحه رقم (711). وهو حديث حسن. (¬5) في "السنن" رقم (982). قلت: وأخرجه البخاري في "تاريخه" (3/ 87) والبيهقي في "السنن" رقم (2/ 151). وهو حديث ضعيف. (¬6) عزاه إليه المزي في "تهذيب الكمال" (5/ 348): وقال قبله: روى له النسائي في "مسند علي" حديثا واحدا معللا.

الحديثين، وأمثالهما بالصلاة في الصلاة لأجل تلك الزيادة الواردة في حديث أبي مسعود في غاية البعد، لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قد جعل هذه الصلاة سببا للاكتيال بالمكيال الأوفى، وذلك مطلوب في جميع الأوقات، وتقييده بوقت الصلاة غير مناسب لذلك، ومخالف لما تقرر في الأصول (¬1) من الشروط المعتبرة في حمل المطلق على المقيد. فإن قلت: ألفاظ الصلاة الواردة في الأحاديث الصحيحة مطلقا في الصلاة وغيرها، إذا أراد المصلي أن يأتي بجميع الألفاظ الواردة، هل يمكنه ذلك؟. قلت: نعم يمكن ذلك، قال النووي في شرح المهذب (¬2) ينبغي أن يجمع ما في الأحاديث الصحيحة فيقول: اللهم صل على محمد النبي الأمي، وأزواجه، وذريته كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد. قال العراقي: بقي عليه مما في الأحاديث الصحيحة ألفاظ أخر، وهي خمسة، يجمعها قولك: اللهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي، وعلى آل محمد، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته، وأهل بيته، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد النبي الأمي، وعلى آل محمد، وأزواجه، وذريته، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. انتهى. وقد وردت زيادات غير هذه في أحاديث أخر عن علي - عليه السلام - وابن مسعود وغيرهما، ولكن فيها مقال، فلا ترد عليهما، لأنها إنما قصد جمع ألفاظ الأحاديث الصحيحة كما سلف. ¬

(¬1) انظر "الكوكب المنير" (3/ 401) "اللمع" (ص 24). (¬2) في "المجموع" (3/ 448 - 452).

[السؤال الثالث] (¬1) قال السائل - حفظه الله - حكم في الآل (¬2) في الصلاة المذكورة، في الصباح والمساء، هل هي كذلك بغير ذكر الآل في كل الروايات، أو في بعض؟ فإن كانت في البعض فما تحمل في البعض الآخر إلا على غفلة، أو سهو، أو تحامل، كما فعله أكثر المحدثين السابقين، وحذا حذوهم جماعة من اللاحقين إلى آخر كلامه، كثر الله فوائده [7]. أقول: الذي وقفت عليه من الألفاظ الصلاة على رسول الله في أدعية الصباح والمساء ليس فيه ذكر الصلاة على الآل في الكتب الحديثية، وقد عرفت مما سبق أن لفظ الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ورد في بعض الأحاديث غير مقيد بالسلام، وفي بعضها مقيدا به وورد بعض آخر غير معطوف عليه الصلاة على آل رسول الله. وفي بعض بعطف الصلاة على الآل على الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. وقد قررناه فيما سبق أن العمل بالزيادة متوجه إذا كملت شروط قبولها، وهو مجمع على ذلك كما في الكتب الأصولية، فينبغي للمصلي في كل موضع أن يجمع بين (¬3) الصلاة والسلام، ويضم الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلى الصلاة عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ليكون مؤديا لذلك على وجه أكمل، وفاعلا لهذه القربة ¬

(¬1) في المخطوط (أ، ب) الرابع والصواب ما أثبتناه. (¬2) واختلف في آل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أربعة أقوال: 1 - فقيل: هم الذين حرمت عليهم الصدقة. 2 - أنهم ذريته، وأزواجه خاصة. 3 - أن آل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمته وأتباعه إلى يوم القيامة. 4 - آله الأتقياء من أمته. وقدم ابن القيم أدلة هذه الأقوال ثم قال: والصحيح القول الأول ويليه الثاني. انظر: "جلاء الأفهام" (ص 316 - 335). "المجموع" (3/ 448). (¬3) انظر "المجموع" (3/ 448).

العظيمة على طريق أتم. أما ذكر السلام فلتصريح القرآن به، وكذلك التصريح به في كثير من الأحاديث، وأما ذكر الآل فلوروده في عدة أحاديث. ولا شك، ولا ريب أن المصلي الصلاة الكاملة أكمل أجرا من المقتصر على البعض، لكونه ممتثلا بيقين، ومؤديا للبعض في ضمن الكل. وحديث: "لا تصلوا علي الصلاة البتراء" (¬1) إن صح كان من الأدلة القاضية بمنع ترك الصلاة على آل رسول الله عند الصلاة عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بعد ثبوت تفسير الصلاة البتراء بالصلاة التي ترك فيها ذكر الآل. ومن الأدلة على ذلك ما رواه الأمير الحسين في الشفا (¬2) عن علي - عليه السلام - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إذا صليتم علي فصلوا على آلي معي؛ فإن الله لا يقبل الصلاة علي إلا مع آلي". وفي أمالي (¬3) أبي طالب قال: أخبرنا أبي - رحمه الله - قال: أخبرنا أبو القاسم حمزة العلوي العباسي قال: حدثني علي بن عبد الله بن سنان عن جعفر بن محمد، عن آبائه - عليهم السلام - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "ارفعوا (¬4) أصواتكم بالصلاة علي، وعلى أهل بيتي؛ فإنها تذهب النفاق". وروى السهمودي في جواهر العقدين في فضل الشرفين من حديث علي عليه ¬

(¬1) وقد جزم الحفاظ بأنه لم يصح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. انظر الكلام عليه وعلى ما ورد في معناه في تحقيقي "لنيل الأوطار" خلال شرح الحديث رقم (780). (¬2) (1/ 281) بدون زمام ولا خطام. (¬3) تيسير المطالب في أمالي السيد أبي طالب (ص 281). (¬4) في حاشية المخطوط (أ) ما نصه: سل مع صحة رواية رفع الأصوات بالصلاة، هل تكون عامة؛ فيدخل فيها الصلاة في الصلاة؟ إذا كان كذلك لم يحك عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الرفع بها في الصلاة، وقد حكوا كل حالاته حتى اضطراب لحيته، وجزئيات حركاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فيها قولا وفعلا عند تحرج السائل عافاه الله.

السلام، قال: الدعاء محجوب حتى يصلى على محمد وأهل بيته، قال: أخرجه الديلمي (¬1)، وفيه أيضًا عن أبي مسعود الأنصاري البدري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "من صلى علي صلاة لم يصل فيها علي، وعلى أهل بيتي لم يقبل منه"، قال أخرجه الدارقطني (¬2)، والبيهقي (¬3) وغيرهما. وقد اعتذر لأئمة الحديث في تركهم للصلاة على الآل عند الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأعذار أحسنها أنهم يجعلون الأحاديث المقيدة بالصلاة على الآل خاصة بالمواضع التي وردت فيها ويجعلون التقييد في غير تلك المواضع بمطلق الصلاة التي أمر الله بها في كتابه، ولكن قد عرفت أن الأولى أن يصلي على الآل في كل موضع يصلي فيه على رسول الله لما سلف (¬4). [انتهى من تحرير هذا البحث في نهاية يوم السبت من غرة شهر جمادى الآخرة سنة 1208 هـ كتبه محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما] (¬5). [انتهى من تحرير مباحث المجيب حفظه الله، ومتع بحياته، وأدام للمسلمين والآل فائدته بحق محمد وآله وصحبه. وكان تحرير الإجابة في نهار السبت من غرة شهر جمادى الآخرة سنة 1208] (¬6). ¬

(¬1) في "الفردوس بمأثور الخطاب" (3/ 255 رقم 4754). وأخرجه الطبراني في "الأوسط" رقم (721) وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 160) وقال: رجاله ثقات. قلت: عبد الكريم الخزاز واهي الحديث ولم يوثقه أحد، وعد هذا الحديث من مناكيره. انظر: "لسان الميزان" (4/ 53). وخلاصة القول أن الحديث ضعيف. (¬2) في "السنن" (1/ 355 رقم 6). (¬3) في "السنن الكبرى" (2/ 379) وقال: تفرد به جابر الجعفي وهو ضعيف. (¬4) انظر "شرح المنتقى" (2/ 72). (¬5) زيادة من (أ). (¬6) زيادة من (ب).

[هذه الأبيات كتبها (¬1) السائل لما اطلع على الجواب المذكور سابقا] (¬2): هذا الجواب عن المسائل قد شفى ... قلبا من الإشكال كان على شفا لا زلتُ بالإرشاد منك لكل ما ... أعيا ذوي الأنظار تأتي بالشفا وجزيت عن تنقيحك المختار والتصحيح ... خيرا من حديث المصطفى صلى عليه مسلما رب الورى ... والآل أرباب المعارف والوفا [ثم ذكر حفظه الله تعالى: فائدة: ذكرها ابن القيم في إعلام الموقعين (¬3) ما لفظه: "وإذا كان الله تعالى لا يعذب تائبا فهكذا الحدود لا تقام على تائب. وقد نص الله تعالى سقوط الحد عن المحاربين بالتوبة التي وقعت قبل القدرة عليهم، مع عظم ذنبهم؛ وذلك تنبيه على سقوط ما دون الحراب بالتوبة الصحيحة بطريق الأولى، وقد روينا في سنن النسائي (¬4) من حديث سماك عن علقمة بن وائل، عن أبيه أن امرأة وقع عليها رجل في سواد الصبح، وهي تعمل بمكره على نفسها، فاستغاثت برجل مر عليها وفر صاحبها، ثم مر عليها ذو عدد، فاستغاثت بهم، فأدركوا الرجل الذي استغاثت به، فأخذوه وسبقهم الآخر فجاءوا به إليها فقال: أنا الذي أغثتك وقد ذهب الآخر. قال: فأتوا به نبي الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فأخبر أنه وقع عليها، وأخبر القوم أنهم أدركوه يشتد، فقال: إنما كنت أغثتها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني، فقالت: كذب هو الذي وقع علي، فقال ¬

(¬1) علي بن إسماعيل بن علي بن القاسم بن أحمد بن الإمام المتوكل على الله. (¬2) زيادة من (ب). (¬3) (3/ 8). (¬4) في "السنن" رقم (4/ 56 رقم 1454). قلت: وأخرجه أبو داود رقم (4379) وأحمد في المسند (6/ 399) والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 284، 285) من حديث علقمة بن وائل عن أبيه، وقال الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/ 75 رقم 1175) حسن دون قوله: "ارجموه" والأرجح أنه لم يرجم.

النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: انطلقوا به فارجموه، فقام رجل من الناس فقال: لا ترجموه وارجموني، فأنا الذي فعلت بها الفعل، فاعترف، فاجتمع ثلاثة عند رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: الذي وقع عليها، والذي أغاثها، والمرأة. فقال: أما أنت فقد غفر لك، وقال للذي أغاثها قولا حسنا. فقال عمر: ارجم الذي اعترف بالزنا، فأبى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لأنه قد تاب إلى الله تعالى. قال ابن القيم (¬1) وليس بحمد الله فيه إشكال؛ فإن قيل: كيف أمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - برجم المغيث من غير بينة ولا إقرار؟ قيل: هذا من أدل الدلائل على اعتبار القرائن، والأخذ بشواهد الأحوال في التهم، وهو يشبه الحدود بالرائحة والقي كما اتفق عليه الصحابة، وإقامة حد الزنا، كما نص عليه عمر، وذهب إليه فقهاء أهل المدينة، وأحمد في ظاهر مذهبه، وكذلك أنه يقام الحد على المتهم إذا وجد المسروق عنده، فهذا الرجل لما أدرك وهو يشتد هربا، وقالت المرأة: هذا هو [الرجل] (¬2) الذي فعل بي، وقد اعترف بأنه دنا منها، وأتى إليها، وادعى أنه كان مغيثا لا مريبا، ولم ير أولئك الجماعة غيره، كان هذا من أظهر الأدلة على أنه صاحبها، وكان الظن المستفاد من ذلك لا يقصر عن الظن المستفاد من شهادة البينة. واحتمال الغلط أو عداوة الشهود كاحتمال الغلط وعداوة المرأة هنا، بل ظن عداوة المرأة في هذا الموضع في غاية الاستبعاد، فنهاية الأمر أن هذا لوث ظاهر لا يستبعد ثبوت الحد بمثله شرعا، كما تقبل القسامة باللوث الذي لعله دون هذا في كثير من المواضع، فهذا الحكم من أحسن الأحكام وأجراها على قواعد الشرع، والأحكام الظاهرة تابعة للأدلة الظاهرة من البينة، والأقارير، وشواهد الأحوال، وكونها في نفس الأمر قد تقع غير مطابقة أمرا لا يقدح في كونها طرقا وأسبابا لأحكام، فالبينة لم تكن موجهة بذاتها للحد، وإنما ¬

(¬1) في أعلام الموقعين (3/ 9). (¬2) زيادة من المخطوط (أ).

ارتباط المدلول بدليله، فإن كان هناك دليل يقاومها، أو أقوى منها لم يلغه الشارع، وظهور الأمر بخلافه لا يقدح في كونها دليلا كالبينة والإقرار. وأما سقوط الحد عن المعترف، فإذا لم يتسع له نطاق عمر بن الخطاب فأحرى أن لا يتسع له نطاق كثير من الفقهاء، ولكن اتسع له نطاق الرءوف الرحيم فقال: لأنه قد تاب إلى الله تعالى، وأبى أن يحده. ولا ريب أن الحسنة التي جاء بها من اعترافه طوعا واختيارا خشية من الله، وحده وإنقاذ الرجل المسلم من الهلاك، وتقويم حياة أخيه، واستسلامه للقتل أكثر من السيئة التي فعلها مقاومة هذا الدواء لذلك الداء. وكانت القوة صالحة فزال المرض وعاد القلب إلى حال الصحة، فقيل: لا حاجة [لنا] (¬1) بحدك، وإنما جعلناه طهرة ودواء، فإذا تطهرت بغيره فعفونا يسعك. فأي حكم أحسن من هذا وأرشد مطابقة للرحمة والحكمة والمصلحة؟ وبالله التوفيق انتهى (¬2). ولا يخفى عليك أن جعله لهذه الواقعة مشبهة لإقامة الحدود بالرائحة في غاية البعد؛ فإن وجد أن الرائحة متنوعة من فم الشارب، مما لا يبقى معه شك ولا ارتياب أنه قد شرب الخمر، فكيف ينزل ما نحن فيه تلك المنزلة ويلحق بتلك الواقعة والحال أن الرجل يقول: إنما أغثتها، والجماعة الممسكون له لم يخبروا بغير وجدانهم له يشتد، ولم يكن هناك إلا مجرد الدعوى من المرأة مع أنها مقرة بأنها قد استغاثت برجل مر عليها قبل استغاثتها بالجماعة. وأبعد من ذلك جعل هذه القرينة مساوية لقرينة الحبل. وكل عاقل يعلم أن بين الواقعتين ما بين السماء والأرض؛ فإن من المقطوع به أن المرأة التي لا زوج لها لا تحبل إلا بعد زنا، هذا مما لا يشك فيه أحد. وأما تنزيله للظن الحاصل بهذه القرينة منزلة الظن الحاصل من الشهادة، فمن الغرائب [10] التي يتعجب منها؛ فإن الله - جل جلاله - قد تعبدنا بالعمل بالظن ¬

(¬1) في المخطوط "إنا" وما أثبتناه من إعلام الموقعين (3/ 10). (¬2) كلام ابن القيم في إعلام الموقعين (3/ 9 - 10).

الحاصل عن البينة، لأنه مستفاد من طريق شرعها الله لعباده، ولم يتعبدنا بالظن الحاصل من القرينة، ولو كان الأمر كذلك لكانت الطرق المثمرة للعمل غير منحصرة، بل كلما أفاد الظن كان معمولا به، وهذا خرق لإجماع المسلمين. وقد أرشد الله عباده إلى ترك العمل بالظنون، ونهاهم عن اتباعه كما في كتابه العزيز، وما عمل به من الظنون كأخبار الآحاد، والحكم بالشهادة واليمين، فلكون دليل العمل به مخصصا لذلك العموم، لأنا نقول: قد عارضه ما هو أرجح منه، وهو استثباته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في الحدود استثباتا زائدا على استثباته في غيرها، حتى إنه كان يعرض عن الرجل بعد أن يسمع منه الإقرار بالزنا مرة بعد مرة، ثم يقول له بعد ذلك: صنعت كذا وكذا، ويأتي بألفاظ تدل على الوقائع بدون كناية، كقوله لماعز (¬1): "أفنكتها؟ " قال: نعم، وكقوله: "حتى غاب ذاك منك في ذاك منها كما يغيب المرود في المكحلة، والرشا في البئر؟ " قال: نعم. وربما استثبت فسأله عن عقله، أو سأل قومه عن ذلك، كما في حديث ماعز (¬2) أنه قال له: "أبك جنون؟ " وقوله للسارق (¬3) "ما أخالك سرقت". ¬

(¬1) أخرجه أبو داود رقم (4428) والنسائي في "الكبرى" (4/ 276 - 277 رقم 7164/ 1) والدارقطني (3/ 196 رقم 339) من حديث أبي هريرة. وهو حديث ضعيف. انظر: "الضعيفة" رقم (2957). قلت: ويغني عنه الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6824) من حديث ابن عباس وفيه: "لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت. فقال: لا يا رسول الله. قال: أفنكتها؟ لا يكني قال: نعم، فعند ذلك أمر برجمه". وهو حديث صحيح. (¬2) أخرجه البخاري رقم (6815 و6825) ومسلم رقم (16/ 1691) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) أخرجه أبو داود رقم (4380) وأحمد (5/ 293) والنسائي (8/ 67 رقم 4877) وابن ماجه رقم (2597) والدارمي (2/ 173) والبيهقي (8/ 276) من حديث أبي أمية المخزومي. وهو حديث ضعيف. انظر: "الإرواء" رقم (2426).

وقوله: "ادرءوا الحدود بالشبهات" (¬1) فإذا كانت الحدود بعد ثبوتها ثبوتا لا يرتاب فيه تدرأ بالشبهات، فكيف يجوز الحكم بها بمجرد الشبهة الواهية!. وقد أجاب بعض المتأخرين، وهو السيد العلامة أحمد بن محمد بن إسحاق بن المهدي عن ذلك بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - نزل سكوت الرجل الذي ادعت المرأة وقوعه عليها منزلة الإقرار، ويجاب عنه بأن الرجل مصرح في مقام الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بالإنكار، ومدع للإغاثة، كما وقع في حديث النسائي الذي تقدم ذكره. وأما إشكال إسقاطه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - للحد عن الرجل الذي اعترف بالزنا، وجواب ابن القيم عنه بما سلف. فنقول: إذا كانت رواية النسائي كما ساقها في كلامه من أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أبى أن يقيم على الرجل الحد، فلا شك أنه مشكل وإن لم يقع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بعد قول عمر إلا قوله: "لقد تاب توبة" .. إلخ، فليس فيه دلالة على أنه أسقط الحد، ولا يلزم من هذه العبارة عدم إقامة الحد، فإنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قد قال مثلها لماعز (¬2)، وفي ................................. ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه في "السنن" رقم (2545) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا". وهو حديث ضعيف. وأخرجه الترمذي رقم (1424) والحاكم (4/ 384 - 385) والدارقطني (3/ 84 رقم 8) والبيهقي (8/ 238). من حديث عائشة رضي الله عنها ولفظه: "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم". وهو حديث ضعيف. وأخرجه البيهقي في "السنن" رقم (8/ 238) عن علي رضي الله عنه ولفظه: "ادرءوا الحدود بالشبهات". وهو حديث ضعيف. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (22/ 1695).

رواية (¬1) أنه قالها للمرأة الجهنية، وفي رواية (¬2) أنه قال لماعز: "والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها" على أنه يعارض ما وقع في هذا الحديث على فرض أنه وقع من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - التصريح بترك الرجم في سنن الترمذي (¬3) وصححه من حديث [11] علقمة بن وائل عن أبيه بلفظ: وقال للرجل الذي وقع عليها ارجموه، وقال: "لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم". فهذا صريح أنه أمر برجمه. وعزا في جامع الأصول (¬4) هذه الرواية إلى أبي داود (¬5)، والترمذي (¬6)، ثم قال: وفي رواية للترمذي (¬7) قال: استكرهت امرأة على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فدرأ عنها الحد، وأقامه على الذي أصابها .. انتهى. وفي سنن أبي داود (¬8) أنهم قالوا للرجل الذي وقع عليها: "ارجمه"، وقال: "لقد تاب توبة" إلخ. وليس فيه أنه امتنع من رجمه، وذلك لا ينافي الأمر بالرجم كما عرفت، ومما يؤيد ما رواه الترمذي من الأمر بالرجم ما وقع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من التشديد في أمر الحد، والزجر عن إسقاطه، والشفاعة فيه، حتى قال لأسامة لما شفع في ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (23/ 1695). (¬2) أخرجه أبو داود في "السنن" رقم (4428) من حديث أبي هريرة. وهو حديث ضعيف. انظر "الإرواء" رقم (2354). (¬3) (4/ 56 رقم 1454). وقال الألباني في "صحيح الترمذي" (2/ 75 رقم 1175) حسن دون قوله: "ارجموه" والأرجح أنه لم يرجم. (¬4) (3/ 504 - 505 رقم 1832). (¬5) في "السنن" رقم (4379) وقد تقدم وهو حديث حسن دون قوله: "ارجموه". (¬6) (4/ 56 رقم 1454). وقال الألباني في "صحيح الترمذي" (2/ 75 رقم 1175) حسن دون قوله: "ارجموه" والأرجح أنه لم يرجم. (¬7) في "السنن" رقم (4/ 55 رقم 1453) وقال: هذا حديث غريب وليس إسناده بمتصل. وهو من حديث عبد الجبار بن وائل عن أبيه. وهو حديث ضعيف. (¬8) في "السنن" رقم (4379) وقد تقدم وهو حديث حسن دون قوله "ارجموه".

المرأة المخزومية التي سرقت: "أتشفع في حد من حدود الله! " ثم قام فاختطب فقال: "إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" أخرجه الجماعة (¬1) كلهم من حديث عائشة. وأخرج أبو داود (¬2) والنسائي (¬3) من حديث عائشة قالت: قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود" وفي إسناده عبد الملك بن زيد العدوي، ويشهد له حديث ابن عمر (¬4) وابن مسعود (¬5) بنحوه، كما ذكر ذلك الحافظ في التلخيص (¬6). فإن قلت: سلمنا أنه ما أمر به - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من الحد لذلك الرجل الذي تبينت براءته مرجوح، وكذلك إسقاطه للحد على فرض ثبوت ما يدل عليه، ولكن علام تحمل ما وقع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -؟ قلت: قد تقرر في .................................. ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (6788) ومسلم رقم (8/ 1688 و10/ 1688) وأبو داود رقم (4373) والترمذي رقم (1430) والنسائي (8/ 73 - 74) وأحمد (6/ 162) وابن ماجه رقم (2547). (¬2) في "السنن" رقم (4375). (¬3) في "السنن الكبرى" (4/ 310 رقم 7294/ 2). قلت: وأخرجه أحمد (6/ 181) والطحاوي في "مشكل الآثار" (3/ 129). وهو حديث صحيح. (¬4) رواه أبو محمد بن حزم في كتاب "الإيصال" من حديث عمر موقوفا عليه بإسناد صحيح. قاله ابن حجر في "التلخيص" (4/ 56). (¬5) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (10/ 85 - 86) بلفظ: "أقيلوا ذوي الهيئة زلاتهم". (¬6) (4/ 56) لابن حجر.

الأصول (¬1) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يجوز عليه الخطأ في الاجتهاد، ولكنه لا يقر عليه، ولا مانع من أن يكون هذا منه ويحمل على أن كان العمل بمجرد القرينة في الحدود، وإسقاطها عن التائب جائزا ثم نسخ بما ورد من التحري فيها، والمبالغة في الاستفصال، وعدم جواز إثباتها إلا بالإقرار أو الشهادة، وبما ورد من الزجر عن إسقاط الحدود بدون سبب يجوز الإسقاط (¬2). ¬

(¬1) انظر: "اللمع" (ص 76)، "التبصرة" (ص524)، "تيسير التحرير" (4/ 190). القول الأول: على جواز الخطأ إلا أنه لا يقر عليه واختار هذا ابن الحاجب والآمدي ونقله عن أكثر أصحاب الشافعي والحنابلة وأصحاب الحديث. انظر: "المسودة" (ص 509) و"اللمع" (ص 76). القول الثاني: ومنع قوم جواز الخطأ عليه لعصمة منصب النبوة عن الخطأ في الاجتهاد. وهو اختيار ابن السبكي والحليمي والرازي والبيضاوي والشيعة، وانظر أدلة هذا القول ومناقشتها في "المسودة" (ص 510) "الإحكام" للآمدي (4/ 216). (¬2) قال ابن قدامة في المغني (12/ 484 - 485): وإن تاب من عليه حد من غير المحاربين، وأصلح، ففيه روايتان: إحداهما: يسقط عنه لقوله تعالى: (والذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما) [النساء: 16]. وذكر حد السارق، ثم قال: (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه) [المائدة: 39]. وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له". أخرجه ابن ماجه رقم (4250) من حديث أبي عبيدة بن عبد الله عن أبيه وهو حديث حسن. ومن لا ذنب له لا حد عليه، وقال في ماعز لما أخبر بهربه: "هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه" أخرجه أبو داود رقم (4420) من حديث جابر وهو حديث حسن. ولأنه حق خالص لله تعالى. فيسقط بالتوبة كحد المحارب. والرواية الثانية: لا يسقط وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي، لقول الله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) [النور: 2]. وهذا عام في التائب وغيره، وقال تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) [المائدة: 38]. ولأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم ماعزا والغامدية، وقطع الذي أقر بالسرقة وقد جاءوا تائبين يطلبون التطهير بإقامة الحد، وقد سمى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعلهم توبة، فقال في حق المرأة: "لقد تابت توبة لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم" تقدم تخريجه، وجاء عمرو بن سمرة إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إني سرقت جملا لبني فلان، فطهرني. وقد أقام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحد عليهم، ولأن الحد كفارة، فلم يسقط بالتوبة ككفارة اليمين والقتل، ولأنه مقدور عليه، فلم يسقط عنه الحد بالتوبة، كالمحارب بعد القدرة عليه، فإن قلنا بسقوط الحد بالتوبة فهل يسقط بمجرد التوبة، أو بها مع إصلاح العمل؟ فيه وجهان: أحدهما: يسقط بمجردها وهو ظاهر قول أصحابنا، لأنها توبة مسقطة للحد، فأشبهت توبة المحارب قبل القدرة عليه. والثاني: يعتبر إصلاح العمل، لقول الله تعالى: (فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما) [النساء: 16]. وقال سبحانه وتعالى: (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه) [المائدة: 39]. فعلى هذا القول، يعتبر مضي مدة يعلم بها صدق توبته وصلاح نيته، وليست مقدرة بمدة معلومة.

وإذا عرفت هذا استرحت من الإشكالات التي يوردها الناس على حديث وائل المذكور، وهي كثيرة وأشدها ما سلف. انتهى من تحرير المجيب جامعه قرة عين المسلمين عز الإسلام والدين محمد بن علي الشوكاني، غفر الله لهما، وأقام به الدين، إنه حليم كريم. حرره - حفظه الله - في شهر القعدة سنة 1208 هـ] (¬1). ¬

(¬1) زيادة من (ب).

تنبيه الأعلام على تفسير المشتبهات بين الحلال والحرام

تنبيه الأعلام على تفسير المشتبهات بين الحلال والحرام تأليف العلامة محمد بن علي الشوكاني حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه محفوظة بنت علي شرف الدين أم الحسن على صفحة المجلد ما نصه: (الحمد لله: هذا المجلد هو أحد المجلدات التي سميتها "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني" غفر الله له) وقد كملت خمسة مجلدات، جزى الله مؤلفه عن المسلمين خيرا وأسكنه بحبوحة جنانه وتغشاه بواسع رضوانه.

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: "تنبيه الأعلام على تفسير المشتبهات بين الحلال والحرام". 2 - موضوع الرسالة: في "الحديث". 3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم" وبعد حمد الله حق حمده وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله، فإنه وصل سؤال على أحسن منوال من سيدي العلامة صفي الإسلام نبراس الآل الكرام أحمد بن يوسف زبارة ثبت الله إيراده. 4 - آخر الرسالة: قال في "الأم" التي بخط مؤلفها حفظه الله وكثر فوائده، ما لفظه: وكان الفراغ من تحريره في نهار الجمعة، لعله تاسع عشر من محرم الحرام سنة خمس عشرة ومائتين وألف هجرية، انتهى والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله، وكان الفراغ من فعله صبح يوم الخميس شهر صفر سنة سبع عشرة ومائتين وألف هجرية بقلم إبراهيم بن عبد الله الحوثي ... بلغ قراءة ومقابلة على نسخة منقولة من خط المؤلف عافاه الله شهر صفر سنة 1343 حرره الحقير محمد بن أحمد الشاطبي. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: (29) صفحة مع صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر: (22) سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: (10 - 12) كلمة. 9 - الناسخ: إبراهيم بن عبد الله الحوثي. 10 - الرسالة من المجلد الثالث من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".

[صفحة عنوان المخطوط]

[الصفحة الأولى من المخطوط]

[الصفحة ما قبل الأخيرة من المخطوط]

[الصفحة الأخيرة من المخطوط]

[السؤال] بسم الله الرحمن الرحيم. وبعد حمد الله حق حمده وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله، فإنه وصل سؤال على أحسن منوال من سيدي العلامة صفي الإسلام، نبراس الآل الكرام، أحمد بن يوسف زبارة (¬1) - ثبت الله إيراده وإصداره - إلى الحقير إلى رحمة القدير محمد بن علي الشوكاني - غفر الله ذنوبه، وستر عن عيون الناس عيوبه - مضمونه الاستفهام عن معنى ما في حديث النعمان بن بشير مرفوعًا بلفظ: (الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات) (¬2). قال - كثر الله فوائده - ما لفظه: هل المراد بالحلال والحرام والشبهة فيما يتعلق ¬

(¬1) هو أحمد بن يوسف بن الحسين بن أحمد بن صلاح بن أحمد بن الحسين بن علي زبارة. نسبة إلى محل يقال له: (زبار) في بلاد خولان، ولد سنة 1166 هـ، أو في التي بعدها، وقرأ على مشايخ صنعاء. قال الشوكاني في البدر الطالع (1/ 130 - 131): وحضر في قراءة الطلبة علي في شرحي للمنتقى، وطلب مني إجازته له، وقد كنت في أيام الصغر حضرت عنده وهو يقرأ في شرح الفاكهي للملحة. وهو أكبر مني، فإنه كان إذ ذاك في نحو ثلاثين سنة، وهو حسن المحاضرة، جميل المروءة، كثير التواضع. توفي سنة 1252 هـ. وانظر: "نيل الوطر" (1/ 249). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (52) بلفظ: "الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب". وقد روي الحديث عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حديث ابن عمر، وعمار بن ياسر، وابن مسعود، وسلمان الفارسي، وجابر الأنصاري، وابن عباس، وأنس بن مالك، والحسن بن علي، وأبي الدرداء، ووابصة بن معبد، وواثلة، وغيرهم. وحديث النعمان أصح حديث في الباب وأتم.

بأفعال الآدميين وسائر ما يباشرونه من المأكولات والمشروبات والمنكوحات، وسائر ما يتعلق به [من] الإنشاءات والمعاملات. وما المراد بالاتقاء للشبهة في ذلك؟ وما تمثيله؟ فهل المراد مثلا ما وقع لبعض العلماء أنه وقع نهب أموال في جهة من جهات الإسلام بالقرب من بلده، فترك جميع المأكول من اللحم والحب، وسائر ما جلب إلى محله، واقتصر على أكل العشب سنة؟ وقد مقت عليه كثير من علماء عصره. ذكره ابن القيم أو معناه في الكلم الطيب، ومثلا لو علم أن له في صنعاء محرما، أو رضيعة، فنقول: لا يجوز له الإقدام إلى تزوج امرأة على ظاهر الحديث، وإن غلب على الظن كونها غير رحمه؟ أو يكون تمثيل اتقاء الشبهة بأنه لا يقدم على الفعل المباح، أو المندوب خوفا من عدم القيام بالواجب، أو فعل المحظور، كلو ترك التزوج بزايد على الواحدة خوفا من الميل عن أحد الضرتين، لأنه لا يأمن على نفسه تعدي الحمى الوارد في متن الحديث: (ألا وإن حمى الله محارمه). فنقول: على هذا ينبغي عدم التزوج بزايد على الواحدة، لا سيما [2] مع ورود الدليل القرآني بقوله تعالى، قال تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء} الآية (¬1) أو يكون اتقاء الشبهات عاما في الأفعال والاعتقادات والعبادات، كعدم تفسير المتشابه مثلا، ورده إلى المحكم خوفا من الدخول في شبهة من فسر القرآن برأيه الوارد النهي (¬2) عنه، والتوقف عن الخوض في الصفات ونحوها مما يتعلق بأفعال المكلفين (¬3) من القدر والإرادات والحكم فيها، هل هي مخلوقة للخالق، أو محدثة من المخلوق؟ وغيرها من سائر ما ذكره المتكلمون من أهل هذه المقالات، وكعدم ¬

(¬1) [النساء: 129]. (¬2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه الترمذي برقم (5952) وقال: حديث غريب. قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قال في القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ". وهو حديث ضعيف. (¬3) انظر الرسالة رقم (1)، (2) من القسم الأول العقيدة.

سجود التلاوة في الصلاة، حيث يقول مثلا الشافعي: "سجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - للتلاوة في صلاة الفجر" (¬1). فيقول المخالف له: زيادة على القطعي، وهي لا ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (1078) ومسلم رقم (110/ 578) من حديث أبي رافع، قال: صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ: (إذا السماء انشقت) [الانشقاق: 1] فسجد فقلت: ما هذه السجدة؟ فقال: سجدت فيها خلف أبي القاسم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه. قال ابن رشد في "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" (1/ 516 وما بعدها) فأما حكم سجود التلاوة فإن أبا حنيفة وأصحابه قالوا: هو واجب. وقال مالك والشافعي: هو مسنون وليس بواجب، وسبب الخلاف: اختلافهم في مفهوم الأوامر بالسجود، والأخبار التي معناها معنى الأوامر بالسجود مثل قوله تعالى: (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا) [مريم: 58]. هل هي محمولة على الوجوب أم على الندب؟ فأبو حنيفة حملها على ظاهرها من الوجوب، ومالك والشافعي اتبعا في مفهومها الصحابة، إذ كانوا هم أقعد بفهم الأوامر الشرعية، وذلك أنه لما ثبت أن عمر بن الخطاب قرأ السجدة يوم الجمعة، فنزل وسجد الناس، فلما كان في الجمعة الثانية وقرأها، تهيأ الناس للسجود، فقال: على رسلكم، إن الله لم يكتبها علينا، إلا أن نشاء، قالوا: وهذا بمحضر الصحابة، فلم ينقل عن أحد منهم خلاف، وهم أفهم بمغزى الشرع وهذا إنما يحتج به من يرى قول الصحابي إذا لم يكن له مخالف حجة. وقد احتج أصحاب الشافعي في ذلك بحديث زيد بن ثابت أنه قال: "كنت أقرأ القرآن على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقرأت سورة الحج، فلم يسجد ولم نسجد". أخرجه البخاري رقم (1072 و1073) ومسلم رقم (106/ 577) وأبو داود رقم (1404) والترمذي رقم (576) والنسائي (2/ 160) والدارقطني (1/ 410 رقم 15) والبيهقي (2/ 320 - 321). وكذلك أيضًا يحتج لهؤلاء بما روي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنه لم يسجد في المفصل" أخرجه أبو داود رقم (1403) من حديث ابن عباس، وهو حديث ضعيف. وبما روي أنه سجد فيها، لأن وجه الجمع بين ذلك يقتضي ألا يكون السجود واجبا، وذلك بأن يكون كل واحد منهم حدث بما رأى، من قال: إنه سجد، ومن قال: إنه لم يسجد. وأما أبو حنيفة: فتمسك في ذلك بأن الأصل هو حمل الأوامر على الوجوب، والأخبار التي تتنزل منزلة الأوامر، وقد قال أبو المعالي: إن احتجاج أبي حنيفة بالأوامر الواردة بالسجود في ذلك لا معنى له، فإن إيجاب السجود مطلقا ليس يقتضي وجوبه مقيدا وهو عند القراءة، أعني: قراءة آية السجود. قال: ولو كان الأمر كما زعم أبو حنيفة، لكانت الصلاة تجب عند قراءة الآية التي فيها الأمر بالصلاة، وإذا لم يجب ذلك فليس يجب السجود عند قراءة الآية التي فيها الأمر بالسجود من الأمر بالسجود. ولأبي حنيفة أن يقول: قد أجمع المسلمون على أن الأخبار الواردة في السجود عند تلاوة القرآن هي بمعنى الأمر، وذلك في أكثر المواضع، وإذا كان ذلك كذلك فقد ورد الأمر بالسجود مقيدا بالتلاوة - أعني: عند التلاوة - وورد الأمر به مطلقا فوجب حمل المطلق على المقيد، وليس الأمر في ذلك بالسجود، كالأمر بالصلاة، فإن الصلاة قيد وجوبها بقيود أخرى، وأيضا فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد سجد فيها، فبين لنا بذلك معنى الأمر بالسجود الوارد فيها - أعني أنه عند التلاوة - فوجب أن يحمل مقتضى الأمر في الوجوب عليه" اهـ.

تقبل إلا بدليل قطعي كحكم النقصان مع المقطوع به، فإنه لم ينقص عنه إلا بدليل قطعي، كقوله تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} (¬1). فهل هذا الذي يقول بعدمه ممن اتقى الشبهة أم لا؟ وهل يدخل في ذلك المقلد بتقليد إمامه، لأنه مثلا قد اتقى الشبهة بسنية السجود أو عدمه؟ أم هو باق فيمن لم يتق هذه الشبهة؟ وهل يجوز مثلا مع تضييق الحادثة كتركة رجل لا تكفي (¬2) إلا دينه أو تكفينه؟ فماذا يصنع مثلا من لم يرجح تقديم الكفن على الدين، كونه كالمستثنى له من حال حياته؟ أو تقديم قضاء الدين على الكفن بتقديم الدليل العقلي على قول من يقول به، لأنه لا تضرر من الميت في تلك الحال، بخلاف صاحب الدين فالتضرر [3] معه حاصل، فكيف يجوز اتقاء الشبهة مع تضييق الحادثة! والاتقاء يؤدي إلى حرمان الميت وأهل الدين جميعا، وكلو خشي فوت الجماعة، وحصل له مدافعة الأخبثين، أو الريح، وكاستعمال الماء مع ¬

(¬1) [النساء: 101]. (¬2) سيأتي توضيح ذلك.

خروج الوقت، أو التيمم وإدراك الصلاة في الوقت؟ فنقول لا يبرأ عن الشبهة إلا من صلى صلاتين: واحدة بالتيمم، والأخرى بعد خروج الوقت بالوضوء، كقول المرتضى أو الناصر: وكامرأة خطبها معيب بما يفسخ به عالم ورع، وصحيح جاهل فاسق، فنقول بترك الكل أم يكون الخروج من الشبهة بتزويج المعيب أو الصحيح الموصوفين، بما ذكر؟ فهذه أطراف ذكرتها لكم على جهة التنبيه، وكيف يكون الحكم فيما هذا حاله؟ وما هو المشتبه فيها وما لا؟ ومثل المسألة التي نحن بصددها في الحدود المحدودة بين القبائل، وشجار الزكوات والحرفة والمعاش. هل يكون الإجمال في ذلك والوصف للواقع من دون جزم بأن هذا الوجه الشرعي اتقاء للحرام أو الشبهة؟ أم يكون الإجمال في ذلك ليس اتقاء (¬1)؟ فأفضلوا بالإفادة في ذلك، ومن أفضالكم إذا ثم بحث في ذلك غير ما أشكل على المسترشد أفضلتم بإدخاله في الجواب، فليس المراد إلا طلب الفائدة ... انتهى. ¬

(¬1) انظر: إكمال المعلم بفوائد مسلم (5/ 287 - 290).

[الجواب] وأقول: الجواب بمعونة الملك الوهاب يشتمل على أبحاث: الأول: لفظ الحديث في الصحيحين وغيرهما عن النعمان بن بشير أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما شك فيه من الإثم أو شك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله تعالى، من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه [4] " يواقعه. وفي لفظ للبخاري (¬1) "لا يعلمها كثير من الناس"، وفي لفظ للترمذي (¬2) "لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هي أم من الحرام". وفي لفظ لابن حبان (¬3) "اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال، من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه". وللحديث ألفاظ كثيرة، ولم يثبت في الصحيح إلا من حديث النعمان بن بشير فقط، وقد ثبت في غير الصحيح من حديث عمار (¬4)، وابن عمر (¬5) عند الطبراني في ¬

(¬1) في صحيحه رقم (52). (¬2) في "السنن" رقم (1205). (¬3) في صحيحه رقم (5569). (¬4) أخرجه الطبراني في "الأوسط" رقم (1756). وأورده الهيثمي في "المجمع" في موضعين (4/ 293) وقال: رواه أبو يعلى - في مسنده رقم (1653) - وفيه موسى بن عبيدة، وهو متروك. وأورده الهيثمي في "المجمع" (4/ 73) وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف. بلفظ: "إن الحلال بين والحرام بين وبينهما شبهات، من توقاهن كن وقاء لدينه، ومن توقع فيهن أوشك أن يواقع الكبائر، كمرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه، لكل ملك حمى". (¬5) أخرجه الطبراني في الأوسط رقم (2889) عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الحلال بين والحرام بين، وبينهما شبهات، فمن اتقاها كان أنزه لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات أوشك أن يقع في الحرام، كالمرتع حول الحمى، يوشك أن يواقع الحمى وهو لا يشعر". ورواه الطبراني عن ابن عمر كذلك في "الصغير" (1/ 19): بلفظ: "الحلال بين، والحرام بين، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك". وأشار الزيلعي في نصب الراية (2/ 472) إلى ضعفه. وذكر هذا الحديث ابن أبي حاتم في كتابه "العلل" رقم (1887) عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الحلال بين والحرام بين". قال أبي: ثم كتب إلينا أحمد بن شبيب عن سعيد، اجعلوا هذا الحديث عن عبد الله بن عمر.

الأوسط. ومن حديث ابن عباس عنده في الكبير (¬1)، ومن حديث واثلة عند الأصفهاني في الترغيب (¬2)، وفي أسانيدها مقال. وقد ادعى أبو عمرو الداني (¬3) أن هذا الحديث لم يروه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - غير النعمان بن بشير، وهو مردود (¬4) بما ¬

(¬1) أي للطبراني في "الكبير" رقم (10824). وأورده الهيثمي في "المجمع" (10/ 294) وقال: وفيه "سابق الجزري" ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. عن ابن عباس أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك شبهات، فمن أوقع بهن فهو قمن أن يأثم، ومن اجتنبهن فهو أوفر لدينه كمرتع إلى جنب حمى أوشك أن يقع فيه، ولكل ملك حمى، وحمى الله الحرام". (¬2) (2/ 44 رقم 1118) وهو حديث ضعيف جدا. وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 294) وقال: رواه أبو يعلى والطبراني وفيه "عبيد الله بن القاسم". وهو متروك. (¬3) هو عثمان بن سعيد بن عثمان، أبو عمرو الداني، يقال له: ابن الصيرفي من موالي بني أمية، أحد حفاظ الحديث، ومن الأئمة في علم القرآن وروايته وتفسيره. انظر: "الأعلام" للزركلي (4/ 206). (¬4) قال الحافظ في "الفتح" (1/ 126): فائدة: ادعى أبو عمرو الداني أن هذا الحديث لم يروه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير النعمان بن بشير، فإن أراد من وجه صحيح، فمسلم، وإلا فقد رويناه من حديث ابن عمر، وعمار في "الأوسط" للطبراني، ومن حديث ابن عباس في "الكبير" له ومن حديث واثلة في "الترغيب" للأصبهاني، وفي أسانيدها مقال، وادعى أيضًا أنه لم يروه عن النعمان غير الشعبي، وليس كما قال، فقد رواه عن النعمان أيضًا خيثمة بن عبد الرحمن، عند أحمد وغيره، وعبد الملك بن عمير عند أبي عوانة وغيره، وسماك بن حرب عند الطبراني، لكن مشهور عن الشعبي، رواه عنه جمع جم من الكوفيين ورواه عنه من البصريين عبد الله بن عوف" اهـ.

تقدم ... ولعله يريد أنه لم يثبت في الصحيح إلا من طريقه كما سلف. البحث الثاني: في ذكر كلام أهل العلم في تفسير الشبهات (¬1)، وبيان ما هو الراجح لدى المجيب - غفر الله له -. فقيل: إنها ما تعارضت فيه الأدلة وقيل: إنها ما اختلف فيه العلماء، وقيل: المراد بها قسم المكروه، لأنه يجتذبه جانبا الفعل والترك، وقيل: هي المباح. ويؤيد الأول والثاني ما وقع في رواية للبخاري (¬2) بلفظ: "لا يعلمها كثير من الناس". وفي رواية للترمذي (¬3) "لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هي أم من الحرام". ومفهوم قوله: "كثيرا" أن معرفة حكمها ممكن، لكن للقليل من الناس، وهم المجتهدون؛ فالشبهات على هذا في حق غيرهم. وقد يقع لهم حيث لا يظهر لهم ترجيح أحد الدليلين. ويؤيد الثالث والرابع ما وقع في رواية لابن حبان (¬4) بلفظ: "اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال، من فعل استبرأ لعرضه ودينه". فعلى هذين قد تضمن الحديث [5] تقسيم الأحكام إلى ثلاثة أشياء (¬5)، وهو تقسيم صحيح، لأن الشيء إما أن ينص الشارع على طلبه مع الوعيد على تركه، أو ينص على تركه مع الوعيد على فعله، أو لا ينص على واحد منهما. فالأول: الحلال البين. والثاني الحرام البين. والثالث: المشتبه لخفائه، فلا يدرى أحلال هو أم حرام؟. وما كان هذا سبيله ينبغي اجتنابه، لأنه إن كان في نفس الأمر حراما فقد برئ من ¬

(¬1) انظر "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (5/ 287). (¬2) رقم (52). (¬3) في "السنن" رقم (1205). (¬4) في صحيحه رقم (5569). (¬5) انظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (17/ 385).

التبعة، وإن كان حلالا فقد استحق الأجر على الترك بهذا القصد (¬1). ¬

(¬1) قد أكثر العلماء من الكلام على تفسير المشتبهات، ونحن ننبهكم على أمثل طريقة، فاعلم أن الاشتباه هو الالتباس، وإنما يطلق في مقتضى هذه التسمية هاهنا على أمر ما أشبه أصلا ما، ولكنه مع هذا يشبه أصلا آخر يناقض الأصل الآخر، فكأنه كثرت أشباهه، وقيل: اشتبه بمعنى اختلط، حتى كأنه شيء واحد من شيئين مختلفين. وإذا أحطت بهذا علما فيجب أن تطلب هذه الحقيقة، فنقول: قد تكون أصول الشرع المختلفة تتجاذب فرعا واحدا تجاذبا متساويا في حق بعض العلماء، ولا يمكنه تصور ترجيح ورده لبعض الأصول يوجب تحريمه، ورده لبعضها يوجب تحليله، فلا شك أن الأحواط تجنب هذا، ومن تجنبه وصف بالورع والتحفظ في الدين، وما أخذه من المسلمين بعيب فاعل هذا، بل المعلوم انتظار الألسنة بالثناء عليه والشهادة له بالورع إذا عرف بذلك. وقد سئل مالك عن خنزير الماء فوقف فيه لما تعارضت الآي عنده فنظر إلى عموم قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) [المائدة: 3]. فخاف أن يدخل في عموم فيحرم، ونظر إلى عموم قوله تعالى: (أحل لكم صيد البحر وطعامه) [المائدة: 96]. وأمكن عنده أن يدخل في عموم هذه الآية فيحل، ولم تظهر له طرق الترجيح الواضحة في أن يقدم آية على آية، ووقف فيه، ومن هذا المعنى أن يعلم أصل الحكم ولكنه يلتبس وجود شرط الإباحة حتى يتردد بينه وبين شرط التحريم، وذلك أن الإنسان يحل له أن يأكل ملكه أما في معناه مما أبيح له تملكه، ويحرم عليه أكل ملك غيره وما في معناه. وقد وجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تمرة ساقطة فترك أكلها واعتل بأنه لولا أنه يخاف أن تكون صدقة لأكلها، فلما كانت الصدقة محرمة عليه وشك، هل حصل هذا التحريم في هذه التمرة تركها، ولحقت بالمشتبهات، وهذا إذا كان الاشتباه من جهة أصول الشرع بعد نظر صحيح فيها، أو في القسم الأخير الذي ذكرناه مع فقد أصول ترد إليها وعدم أمارات وظنون يعول عليها. وأما إذا كان الأمر خلاف ذلك، فليس من الورع التوقف بل ربما خرج بعضه على ما يكره، وبيان تلك بالمثال: أن من أتى على ماء لم يجد سواه ليتوضأ منه فقال في نفسه: لعل نجاسة سقطت من قبل أن أرد عليه وامتنع من الطهارة به، فإن ذلك ليس بممدوح، وخارج عما وقع في الحديث، لأن الأصل طهارة الماء وعدم الطوارئ واستصحاب هذا كالعلم الذي يظن أنه لم يسقط منه شيء، مع أن هذه النكرة إذا أمر معها تكررت ولم يقف عند حد وأدى ذلك إلى انقطاع عن العبادات. انظر مزيد من تفصيل ذلك "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (5/ 285 - 286). قال الحافظ في "الفتح" (1/ 127): "وحاصل ما فسر العلماء الشبهات أربعة أشياء: أحدها: تعارض الأدلة. ثانيها: اختلاف العلماء، وهي منتزعة من الأولى. ثالثها: أن المراد بها مسمى المكروه، لأنه يجتذبه جانبا الفعل والترك. رابعها: أن المراد بها المباح، ولا يمكن قائل هذا أن يحمله على متساوي الطرفين من كل وجه، بل يمكن حمله على ما يكون من قسم "خلاف الأولى" بأن يكون متساوي الطرفين، باعتبار ذاته راجح الفعل أو الترك، باعتبار أمر خارج. قال النووي في "شرح مسلم" (11/ 208): "وأما الشبهات فمعناه أنها ليست بواضحة الحل ولا الحرمة، فلهذا لا يعرفها كثير من الناس، ولا يعلمون حكمها، وأما العلماء فيعرفون حكمها بنص أو قياس أو استصحاب أو غير ذلك، فإذا تردد الشيء بين الحل والحرمة ولم يكن فيه نص ولا إجماع، اجتهد فيه المجتهد فألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي، فإذا ألحقه به صار حلا، وقد يكون غير خال عن الاحتمال البين، فيكون الورع تركه، ويكون داخلا في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه". وما لم يظهر للمجتهد فيه شيء وهو مشتبه، فهل يؤخذ بحله أم بحرمته أم يتوقف؟ فيه ثلاثة مذاهب حكاها القاضي عياض وغيره، والظاهر أنها مخرجة على الخلاف المذكور في الأشياء قبل ورود الشرع - وفيه أربعة مذاهب: الأصح: أنه لا يحكم بحل ولا حرمة، ولا إباحة ولا غيرها، لأن التكليف عند أهل الحق لا يثبت إلا بالشرع. والثاني: أن حكمها التحريم. والثالث: الإباحة. والرابع: التوقف. والله أعلم اهـ.

ونقل ابن المنير (¬1) عن بعض ....................................... ¬

(¬1) هو أحمد بن محمد بن منصور بن أبي القاسم بن مختار الجروي الجذامي الإسكندري، أبو العباس ناصر الدين قاضي الإسكندرية وعالمها، كان إماما بارعا في الفقه والأصلين والعربية، له الباع الطويل في علم التفسير والقراءات والنظر والبلاغة والإنشاء خطيبا مصقعا، وله شعر لطيف ولد سنة 620 هـ وتوفي سنة 683 هـ. قال عز الدين بن عبد السلام: "ديار مصر تفتخر برجلين في طرفيها، ابن المنير بالإسكندرية، وابن دقيق العيد بقوص". "طبقات المفسرين" للداودي (1/ 86). "معجم المفسرين" لعادل نويهض (1/ 66).

مشايخه (¬1). أنه كان يقول: المكروه عقبة بين العبد والحرام، فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام. والمباح عقبة بينه و [بين] المكروه، فمن استكثر منه تطرق إلى المكروه. قال الحافظ ابن حجر في الفتح (¬2) "والذي يظهر لي رجحان الأول - يعني أن المشتبهات هي ما تعارضت فيه الأدلة - ثم قال: ولا يبعد أن يكون كل من الأوجه مرادا، ويختلف ذلك باختلاف الناس: فالعالم الفطن لا يخفى عليه تمييز الحكم، فلا يقع له ذلك إلا في الاستكثار من المباح أو المكروه، ومن دونه تقع له الشبهة في جميع ما ذكر بحسب اختلاف الأحوال، ولا يخفى أن المستكثر من المكروه يصير فيه جرأة على ارتكاب المنهي عنه بالجملة، أو يحمله اعتياده لارتكاب المنهي غير المحرم على ارتكاب المنهي المحرم، أو يكون ذلك لستر فيه، وهو أن من تعاطى ما نهي عنه يصير مظلم القلب ¬

(¬1) هو القباري، قال الحافظ في "الفتح" (1/ 127): وقال ونقل ابن المنير في مناقب شيخه القباري عنه، أنه كان يقول: المكروه عقبة بين العبد والحرام، فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام، والمباح عقبة بينه وبين المكروه، فمن استكثر منه تطرق إلى المكروه. وهو منزع حسن، ويؤيده رواية ابن حبان من طريق ذكر مسلم إسنادها، ولم يسق لفظها، فيها من الزيادة: "اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال، من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه، ومن أرتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى يوشك أن يقع فيه". (¬2) (1/ 127 - 128) حيث قال: "والذي لي رجحان الوجه الأول ... ، ولا يبعد أن يكون كل من الأوجه مرادا، ويختلف ذلك باختلاف الناس: فالعالم الفطن لا يخفى عليه تمييز الحكم فلا يقع له ذلك إلا في الاستكثار من المباح أو المكروه كما تقرر قبل، ودونه تقع له الشبهة في جميع ما ذكر بحسب اختلاف الأحوال، ولا يخفى أن المستكثر من المكروه تصير فيه جرأة على ارتكاب المنهي في الجملة، أو يحمله اعتياده ارتكاب المنهي غير المحرم على ارتكاب المنهي المحرم إذا كان من جنسه، أو يكون ذلك لشبهة فيه وهو أن من تعاطى ما نهي عنه يصير مظلم القلب لفقدان نور الورع فيقع في الحرام ولو لم يختر الوقوع فيه .. ".

لفقدان نور الورع، فيقع في الحرام، ولو لم يختر الوقوع فيه، ولهذا قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم" إلى آخر الحديث. انتهى ما ذكره الحافظ في الفتح (¬1). ولا يخفى عليك أن تفسير المشتبهات بكل واحد من التفسيرين الأولين صحيح، لأنه يصدق على كل واحد [6] منهما أنه مشتبه، وبيانه: أن ما تعارضت فيه الأدلة، ولم يتميز للناظر فيها الراجح من المرجوح، لا يصح أن يقال هو من الحلال البين، ولا من الحرام البين، لأن الأمر الذي تعارضت أدلته، وخفي راجحه من مرجوحه لم يتبين أمره بلا ريب؛ إذ المتبين هو ما لم يبق فيه إشكال، وما تعارضت أدلته فيه أعظم الإشكال، وهكذا ما اختلف فيه العلماء، لكن بالنسبة إلى المقلد، لأنه لا يعرف الحق والباطل، ويميز بينهما إلا بواسطة أقوال أهل العلم الذين يأخذ عنهم ويقلدهم، وليست له من الملكة العلمية ما يقتدر به على الوصول إلى دلائل المسائل، ومعرفة العالي منها والسافل. فإذا اختلف عالمان في شيء، فقال أحدهما: إنه حلال. وقال الآخر: إنه حرام، وكان كل واحد منهما بمحل من العلم يساوي الآخر في اعتقاد المقلد، فلا شك ولا ريب أن هذا الشيء الذي اختلف فيه هذان العالمان، فقال أحدهما: حلال، وقال الآخر: حرام؛ لا يصح أن يقال هو من الحلال البين، ولا من الحرام البين بالنسبة إلى ذلك المقلد. وكل شيء لا يصح أن يكون أحد هذين الأمرين لا ريب أنه من المشتبهات. فإن قلت: فماذا يصنع هذا المقلد عند هذا الاختلاف؟ إن قلت يتورع ويقف عند هذه الشبهة استلزم ذلك أن يترك أكثر الأحكام الشرعية، بل جميعها إلا القليل النادر؛ إذ أكثر المسائل الشرعية قد وقع الاختلاف فيها بين أهل العلم، فهذا يثبت هذا الحكم، وهذا ينفيه، وهذا يحلله، وهذا يحرمه؟. قلت: ليس المراد بالوقوف عند الشبهات أن يترك القولين جميعا، بل المراد الأخذ بما ¬

(¬1) (1/ 128).

لا يعد حرجا عند القائلين كليهما. مثلا لو قال أحدهما: لحم الخيل (¬1) أو الضبع (¬2) ¬

(¬1) اختلف العلماء في حكم لحم الخيل إلى مجيز وإلى مانع، فالذين ذهبوا إلى جواز أكل لحم الخيل استدلوا بما يلي: أخرج البخاري برقم (5520) ومسلم رقم (1941) من حديث جابر رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل". أخرج البخاري رقم (5510) ومسلم رقم (1942) من حديث أسماء - رضي الله عنها - قالت: "ذبحنا على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرسا ونحن بالمدينة فأكلها". قال ابن رشد في "بداية المجتهد" (2/ 518): "وأما الخيل فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها محرمة، وذهب الشافعي، وأبو يوسف ومحمد وجماعة إلى إباحتها". استدل المحرمون بقوله تعالى في سورة النحل الآية (8): (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة). قال ابن رشد على هذا الخلاف في "بداية المجتهد" (2/ 519): "وأما سبب اختلافهم في الخيل، فمعارضة دليل الخطاب في هذه الآية لحديث جابر، ومعارضة قياس الفرس على البغل والحمار له، لكن إباحة لحم الخيل نص في حديث جابر، فلا ينبغي أن يعارض بقياس ولا بدليل خطاب". وانظر: "فتح الباري" (9/ 649). (¬2) اختلف العلماء بين مجيز ومحرم، أما المجيزون فقد استدلوا بما يلي: أخرج أحمد (3/ 318، 322) والدارمي (2/ 74 - 75) والترمذي رقم (1791) وقال حديث حسن صحيح. والنسائي (7/ 200) وابن ماجه رقم (3236) والطحاوي في "شرح المعاني" (2/ 164) والبيهقي (9/ 318). وهو حديث صحيح. عن عبد الرحمن بن أبي عمار قال: "سألت جابر بن عبد الله عن الضبع، آكلها؟ قال: نعم. قلت: أصيد هي؟ قال: نعم. قلت: فأنت سمعت ذلك من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم". وأما المحرمون فقد استدلوا بما أخرج البخاري رقم (5530) ومسلم رقم (1932) من حديث أبي ثعلبة الخشني أنه قال: "نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أكل كل ذي ناب من السباع، إن السباع محرمة". قال الشافعي: وما زال الناس يأكلونها - أي الضبع - ويبيعونها بين الصفا والمروة من غير نكير. وحرمها الحنفية عملا بحديث أبي ثعلبة الخشني. انظر: "سبل السلام" (7/ 291) و"بداية المجتهد" (2/ 514 - 515).

حلال، وقال [7] الآخر: لحم الخيل أو الضبع حرام، أو قال أحدهما: شراب النبيذ أو المثلث (¬1) حلال، وقال الآخر: حرام، أو قال أحدهما: بيع النساء حلال، وقال الآخر: حرام، ونحو ذلك من الأحكام. فالوقف الذي هو من شأن أهل الإيمان أن يترك المقلد أكل لحم الخيل، ولحم الضبع، وشرب النبيذ والمثلث، ولا يعامل ببيع النساء، فهذا الوقف مسلك يرضى به كل واحد من العالمين المختلفين (¬2). ¬

(¬1) المثلث من الشراب الذي طبخ حتى ذهب ثلثاه. "لسان العرب" (2/ 120). (¬2) قال ابن تيمية في "مجموع فتاوى" (29/ 315 - 331): "الورع من قواعد الدين، ثم ذكر الحديث: "الحلال بين .. " وحديث: "دع ما يريبك .. " وحديث: "التمرة .. ". ثم قال: وهذا يتبين بذكر أصول: أحدها: أنه ليس كل ما اعتقد فقيه معين أنه حرام كان حراما، إنما الحرام ما ثبت تحريمه بالكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو قياس مرجح لذلك وما تنازع فيه العلماء رد إلى هذه الأصول، فمن الناس من يكون نشأ على مذهب إمام معين، أو استفتى فقيها معينا، أو سمع حكاية عن بعض الشيوخ فيريد أن يحمل المسلمين كلهم على ذلك وهذا غلط. الثاني: أن المسلم إذا عامل معاملة يعتقد هو جوازها وقبض المال جاز لغيره من المسلمين أن يعامله في مثل ذلك المال وإن لم يعتقد جواز تلك المعاملة. الثالث: أن الحرام نوعان: حرام لوصفه: كالميتة والدم ولحم الخنزير، فهذا إذا اختلط بالماء والمائع وغيره من الأطعمة، وغير طعمه أو لونه أو ريحه حرمه، وإن لم يغير ففيه نزاع. حرام لكسبه: كالمأخوذ غصبا، أو بعقد فاسد، فهذا إذا اختلط بالحلال لم يحرم، فلو غصب الرجل دراهم أو دنانير، أو دقيقا، أو حنطة، أو خبزا وخلط ذلك بماله، لم يحرم الجميع، لا على هذا ولا على هذا. الرابع: المال إذا تعذر معرفة مالكه صرف في مصالح المسلمين، عند جماهير العلماء، كمالك وأحمد وغيرهما، فإذا كان بيد الإنسان غصوب أو عواري أو ودائع أو رهون قد يئس من معرفة أصحابها فإنه يتصدق بها عنهم، أو يصرفها في مصالح المسلمين، أو يسلمها إلى قاسم عادل يصرفها في مصالح المسلمين. الخامس: وهو الذي يكشف سر المسألة، وهو أن المجهول في الشريعة كالمعدوم والمعجوز عنه، فالله إذا أمرنا بأمر كان ذلك مشروطا بالقدرة عليه، والتمكن من العمل به، فما عجزنا عن معرفته، أو عن العمل به سقط عنا ... ".

أما القائل بالتحريم فظاهر. وأما القائل بالحل فإنه لا يقول يجب على الإنسان أن يأكل لحم الخيل، أو لحم الضبع، أو شرب النبيذ، أو المثلث، أو يعامل ببيع النساء. بل غاية ما يقول به أن ذلك حلال يجوز فعله، ويجوز تركه. فالتارك عند كل من القائلين مصيب، إنما يختلف الحال عندهما أن القائل بالتحريم يقول: يثاب التارك ثواب من ترك الحرام، والقائل بالتحليل لا يقول بالإثابة في الترك، لأنه فعل أحد الجائزين. وكما أن الوقوف المحمود للمقلد هو ما ذكرناه؛ كذلك الوقوف للعالم المجتهد عند تعارض الأدلة هو أنه يترك ما فيه البأس إلى ما لا بأس به (¬1). مثلا إذا تعارضت عنده أدلة تحليل لحم الخيل والضبع والتحريم، وأدلة تحليل شرب النبيذ والمثلث وبيع النسا (¬2)، والتحريم، ولم يهتد إلى الترجيح، ولا إلى الجمع بين الأدلة، فالورع المحمود هو الوقف الذي أرشد إليه المصطفى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وهو أن لا يأكل لحم الخيل والضبع، ولا يشرب النبيذ والمثلث، ولا يعامل ببيع النساء، ولا يفتي بحل شيء من ذلك. ولا ريب أنه إذا وفد إلى عرصات القيامة، ووقف بين يدي الرب - سبحانه - وجد صحايف سيئاته خالية عن ذكر هذه الأمور؛ لأن تركها ليس بذنب؛ فإن الله - سبحانه - لا يحاسب أحدا من عباده على ترك مثل هذه الأمور، بل ربما وجد ما وقع منه من الكف للنفس عن هذه الأمور [8] المشتبهة في صحايف حسناته، لأنه قد وقف عندما أمر ¬

(¬1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه الترمذي رقم (2451) وابن ماجه رقم (4215) من حديث عطية السعدي وكان من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به البأس". وهو حديث ضعيف. (¬2) سيأتي برسالة كاملة. المراد بيع النسيئة. رقم (114).

بالوقوف عنده، واستبرأ لعرضه ودينه، والله - سبحانه - لا يضيع ترك تارك كما لا يضيع عمل عامل: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} (¬1). وكما أن الورع قد يكون في الترك (¬2) فقد يكون في الفعل مثلا: لو تعارضت عند ¬

(¬1) [الزلزلة: 7 - 8]. (¬2) قال ابن تيمية في "مجموع فتاوى" (17/ 385): وأما في الواجبات فيقع الغلط في الورع من ثلاث جهات: أحدها: اعتقاد كثير من الناس أنه من باب الترك، فلا يرون الورع إلا في ترك الحرام لا في أداء الواجب، وهذا يبتلى به كثير من المتدينة المتورعة. ترى أحدهم يتورع عن الكلمة الكاذبة وعن الدرهم فيه شبهة، لكونه من مال ظالم أو معاملة خاسرة، ويتورع عن الركون إلى الظلمة من أجل البدع في الدين وذوي الفجور في الدنيا. ومع هذا يترك أمورا واجبة عليه إما عينا وإما كفاية وقد تعينت عليه، من صلة رحم، وحق جار، ومسكين، وصاحب، ويتيم، وابن سبيل، وحق مسلم، وذي سلطان وذي علم، وعن أمر بمعروف ونهي عن منكر وعن الجهاد في سبيل الله، إلى غير ذلك مما فيه نفع للخلق في دينهم ودنياهم مما وجب عليه، أو يفعل ذلك لا على وجه العبادة لله تعالى، بل من جهة التكليف ونحو ذلك. وهذا الورع قد يوقع صاحبه في البدع الكبار، فإن ورع الخوارج والروافض والمعتزلة ونحوهم من هذا الجنس، تورعوا عن الظلم وعما اعتقدوه ظلما من مخالطة الظلمة في زعمهم، حتى تركوا الواجبات الكبار، من الجمعة والجماعة، والحج، والجهاد، ونصيحة المسلمين، والرحمة لهم، وأهل هذا الورع ممن أنكر عليهم الأئمة، كالأئمة الأربعة، وصار حالهم يذكر في اعتقاد أهل السنة والجماعة. الثانية: من الاعتقاد الفاسد أنه إذا فعل الواجب والمشتبه، وترك المحرم والمشتبه فينبغي أن يكون اعتقاد الوجوب والتحريم بأدلة الكتاب والسنة، وبالعلم لا بالهوى وإلا فكثير من الناس تنفر نفسه عن أشياء لعادة ونحوها. فيكون ذلك مما يقوي تحريمها واشتباهها عنده، ويكون بعضهم في أوهام وظنون كاذبة. فتكون تلك الظنون مبناها على الورع الفاسد، فيكون صاحبه ممن قال الله تعالى فيه: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس) [النجم: 23]. وهذه حال أهل الوسوسة في النجاسات - فإنهم من أهل الورع الفاسد المركب من نوع دين وضعف عقل وعلم، وكذلك ورع قوم يعدون غالب أموال الناس محرمة أو مشتبهة أو كلها، وآل الأمر ببعضهم إلى إحلالها لذي السلطان، لأنه مستحق لها، وإلى أنه لا يقطع بها يد السارق ولا يحكم فيها بالأموال المغصوبة. وقد أنكر حال هؤلاء الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره، وذم المتنطعين في الورع، وقد روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثا. وورع أهل البدع كثير منه من هذا الباب، بل ورع اليهود والنصارى والكفار عن واجبات دين الإسلام من هذا الباب، وكذلك ما ذمه الله تعالى في القرآن من ورعهم عما حرموه ولم يحرمه الله تعالى كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام. ومن هذا الباب الذي ذمه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الذي في الصحيح لما ترخص في أشياء فبلغه أن أقواما تنزهوا عنها فقال: "ما بال رجال يتنزهون عن أشياء أترخص فيها؟ والله إني لأرجو أن أكون أعلمهم بالله وأخشاهم" وفي رواية: "أخشاهم وأعلمهم بحدوده له". ولهذا يحتاج المتدين المتورع إلى علم كثير بالكتاب والسنة والفقه في الدين، وإلا فقد يفسد تورعه الفاسد أكثر مما يصلحه، كما فعله الكفار وأهل البدع من الخوارج والروافض وغيرهم. الثالثة: جهة المعارض الراجح، هذا أصعب من الذي قبله، فإن الشيء قد يكون جهة فساده تقتضي تركه. وقد تبين أن من جعل الورع الترك فقط، وأدخل في هذا الورع أفعال قوم ذوي مقاصد صالحة بلا بصيرة من دينهم، وأعرض عما فوتوه بورعهم من الحسنات الراجحة، فإن الذي فاته من دين الإسلام أعظم مما أدركه، فإنه قد يعيب أقواما هم إلى النجاة والسعادة أقرب". وقال ابن تيمية (21/ 310 - 311): "إنما يقتضي اتقاء الشبهات التي يشتبه فيها الحلال بالحرام، بخلاف ما إذا اشتبه الواجب أو المستحب بالمحظور، وقد ذكر ذلك أبو طالب المكي. ولهذا لما سئل الإمام أحمد عن رجل مات أبوه وعليه دين، وله ديون فيها شبهة أيقضيها ولده؟ فقال: أيدع ذمة أبيه مرهونة؟ وهذا جواب سديد، فإن قضاء الدين واجب، وترك الواجب سبب للعقاب، فلا يترك لما يحتمل أن يكون فيه عقاب، ويحتمل أن لا يكون .. " اهـ.

العالم الأدلة القاضية بوجوب الغسل يوم الجمعة، والأدلة القاضية بعدم الوجوب، فإن الورع والوقوف عن المشتبهات هو أن يغتسل، لأن ................

الأدلة (¬1) القاضية بعدم الوجوب ليس فيها المنع من الغسل، بل فيها الترغيب إليه، كحديث: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل" (¬2). وهكذا المقلد إذا سمع أحد العالمين يقول بوجوب الغسل، والآخر يقول لا يجب. فالورع والوقوف عند المشتبه هو أن يغتسل، لأن القائل بعدم الوجوب لا يقول بعدم الجواز، بل يقول بأن الغسل مسنون أو مندوب (¬3). ¬

(¬1) منها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (858) ومسلم رقم (846) وأبو داود رقم (341) والنسائي (3/ 93) وابن ماجه رقم (1089) وأحمد (3/ 6) من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "غسل الجمعة واجب على كل محتلم". ومنها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (877) ومسلم رقم (844) والترمذي رقم (492) والنسائي (3/ 93) ومالك رقم (5) من حديث ابن عمر قال: قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل". (¬2) أخرجه أبو داود رقم (354) والترمذي رقم (497) والنسائي (3/ 94) وأحمد (5/ 8، 11، 16، 22) من حديث سمرة بن جندب. وله شواهد من حديث أنس وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة وجابر وعبد الرحمن بن سمرة، وابن عباس، انظر: "نصب الراية" (1/ 91 - 93). وهو حديث حسن بمجموع طرقه. (¬3) قال النووي في "المجموع" (4/ 405): وغسل الجمعة سنة، وليس بواجب وجوبا يعصي بتركه بلا خلاف عندنا وفيمن يسن له أربعة أوجه: الصحيح: المنصوص - وبه قطع المصنف والجمهور - يسن لكل من أراد حضور الجمعة، سواء الرجل والمرأة والصبي والمسافر والعبد وغيرهم لظاهر حديث ابن عمر، ولأن المراد النظافة وهم في هذا سواء، ولا يسن لمن لم يرد الحضور، وإن كان من أهل الجمعة لمفهوم الحديث والانتفاء المقصود ولحديث ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل، ومن لم يأتها فليس عليه غسل من الرجال والنساء". رواه البيهقي (3/ 190) بهذا اللفظ بإسناد صحيح. الثاني: يسن لكل من حضرها ولمن هو من أهلها - ومنعه عذر حكاه الماوردي والروياني والشاشي وغيرهم، لأنه شرع له الجمعة والغسل فعجز عن أحدهما فينبغي أن يفعل الآخر. الثالث: لا يسن إلا لمن لزمه حضورها، حكاه الشاشي وآخرون. الرابع: يسن لكل أحد سواء من حضرها وغيره لأنه كيوم العيد وهو مشهود ممن حكاه المتولي وغيره.

والضابط لذلك بالنسبة إلى المجتهد أن الدليلين المتعارضين إذا كان أحدهما يدل على التحريم أو الكراهة، والآخر يدل على الجواز فالورع الترك، وإن كان أحدهما يدل على الوجوب أو الندب، والآخر يدل على الإباحة. فالورع الفعل، وأما إذا كان أحدهما يدل على التحريم أو الكراهية، والآخر يدل على الوجوب أو الندب فهذا هو المقام الضنك، والموطن الصعب. ومثاله ما ورد من النهي عن الصلاة في أوقات الكراهة (¬1) وما ورد من الأمر بصلاة التحية (¬2)، والنهي عن تركها. فإن الظاهر النهي عن الصلاة يعم صلاة التحية وغيرها، وظاهر الأمر بها يعم، والنهي عن تركها عند دخول المسجد يعم الأوقات المكروهة وغيرها. فبين الدليلين عموم وخصوص من وجه، وليس أحدهما [9] بالتخصيص أولى من الآخر في مادة الاجتماع، لأن كل واحد منهما صحيح مشتمل على النهي، ولم يبق إلا الترجيح بدليل خارج عنهما، ولم يوجد فيما أعلم دليل خارج عنهما يستفاد منه ترجيح أحدهما على الآخر. وقد قال قائل: إن الترك أرجح، لأنه وقع الأمر بالصلاة، والأوامر مقيدة ¬

(¬1) منها ما أخرجه مسلم رقم (831) وأبو داود رقم (3192) والترمذي رقم (1030) والنسائي (1/ 275) وابن ماجه رقم (1519) من حديث عقبة بن عامر الجهني أنه قال: "ثلاث ساعات كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهانا أن نصلي فيها، وأن نقبر فيها موتانا: حتى تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل، وحين تضيف الشمس للغروب". ومنها ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (588) ومسلم رقم (825) وأحمد (2/ 462) من حديث أبي هريرة عنه: "أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس". (¬2) منها ما أخرجه البخاري رقم (444) ومسلم رقم (69، 70/ 714) وأبو داود رقم (467) والترمذي رقم (316) والنسائي (2/ 53) وابن ماجه رقم (1013) وأحمد (5/ 295). من حديث أبي قتادة قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا جاء أحدكم المسجد فليركع ركعتين".

بالاستطاعة: {فاتقوا الله ما استطعتم} (¬1)، "وإذا أمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬2) وأقول: إنما يتم هذا لو كان الوارد في صلاة التحية ليس إلا مجرد الأمر بها عند دخول المسجد فقط، وليس الأمر كذلك، بل قد ورد النهي عن الترك في الصحيح بلفظ: "فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" إذا عرفت هذا فظاهر حديث الأمر بصلاة التحية أنها واجبة، وظاهر حديث النهي عن تركها أن الترك حرام، وظاهر حديث النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة كبعد صلاة العصر، وبعد صلاة الفجر أن فعلها حرام، فقد تعارض عند العالم العارف بكيفية الاستدلال دليلان: أحدهما يدل على تحريم الفعل، والآخر يدل على تحريم الترك، فلا يكون الورع والوقوف عند المشتبه إلا بترك دخول المسجد في تلك الأوقات، فإن ألجت الحاجة إلى الدخول فلا يقعد، وهذا على فرض أنه لا يوجد عند العالم ما يدل على عدم وجوب صلاة التحية (¬3)، وعلى أن الأمر فيها للندب، والنهي عن الترك للكراهة، أما إذا وجد عنده دليل ................... ¬

(¬1) [التغابن: 16]. (¬2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (6858) ومسلم رقم (1337) من حديث أبي هريرة قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "دعوني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". (¬3) قال النووي في "المجموع" (4/ 80 - 81): فإذا دخل المسجد في بعض هذه الأوقات فقد ذكرنا أن مذهبنا أنه يستحب أن يصلي تحية المسجد للحديث فيها، والجواب عن أحاديث النهي أنها مخصوصة .. فإن قيل: حديث النهي عام في الصلوات خاص في بعض الأوقات، وحديثه التحية عام في الأوقات خاص في بعض الصلوات فلم رجحتم التخصيص بالأحاديث التي ذكرناها في صلاة العصر وصلاة الصبح، وبالإجماع الذي نقلناه في صلاة الجنازة، وأما حديث تحية المسجد فهو على عمومه لم يأت له مخصص، ولهذا أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الداخل يوم الجمعة في حال الخطبة بالتحية بعد أن قعد، ولو كانت التحية تترك في وقت لكان هذا الوقت، لأنه يمنع في حال الخطبة من الصلاة إلا التحية، ولأنه تكلم في الخطبة وبعد أن قعد الداخل وكل هذا مبالغة في تعميم التحية.

كحديث ضمام بن ثعلبة (¬1) حيث قال له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لما قال: هل علي غيرها؟ قال: "لا إلا أن تطوع" ونحوه، فلا يصلح ما ذكرناه للمثال. وقد حررت في ذلك رسالة مستقلة، وأبحاثا مطولة في شرحي [10] للمنتقى (¬2)، وفي "طيب النشر في جوابي على المسائل العشر" (¬3)، وغير ذلك، وليس المقصود هاهنا إلا مجرد المثال لما نحن بصدده. وكما أن الورع للعالم في تعارض الأدلة على صفة التي قدمنا هو ما ذكرناه، كذلك الورع للمقلد إذا اختلف عالمان فقال أحدهما: هذا الشيء يحرم تركه، وقال الآخر: يحرم فعله، أو قال أحدهما يكره فعله، وقال الآخر: يكره تركه، فالورع له أن يفعل مثل ما ذكرناه في صلاة التحية. وإذا قد فرغنا من بيان كون التفسير الأول والثاني - أعني ما تعارضت أدلته، وما اختلف فيه العلماء - كلاهما من المشتبهات، وإن اختلف الحال فإن الأول منهما مشتبه باعتبار المجتهد. والثاني: مشتبه باعتبار المقلد، فلنبين: هل التفسير الثالث والرابع - أعني المباح والمكروه - من المشتبهات أم لا؟. اعلم أنا قد قررنا أن الحلال البين هو ما وقع النص على تحليله، والحرام البين هو ما ¬

(¬1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (46) ومسلم رقم (8 - 11) وأبو داود رقم (391) والنسائي (1/ 226 - 227) وأحمد (1/ 162) من حديث طلحة بن عبيد الله يقول: "جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أهل نجد، ثائر الرأس، يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول، حتى دنا، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خمس صلوات في اليوم والليلة". فقال: هل علي غيرها؟ قال: "لا إلا أن تطوع". قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "وصيام رمضان". فقال: هل علي غيره؟ قال: "لا إلا أن تطوع". قال: وذكر له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الزكاة، قال: هل علي غيرها؟ قال: "لا إلا أن تطوع". قال: "فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص" قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفلح إن صدق". (¬2) "نيل الأوطار" (3/ 84 - 85). (¬3) سيأتي تحقيق هذه الرسالة ضمن مجلد الفتح الرباني. رقم (97).

وقع النص على تحريمه، ولا ريب أن المباح إن وقع النص من الشارع على كونه مباحا أو حلالا فهو من الحلال البين، وهكذا إن سكت عنه ولم يخالف دليل العقل، ولا شرع (¬1) من قبلنا فهو أيضًا من الحلال البين، لأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قد أخبرنا أن ما سكت عنه فهو (¬2) عفو، فمثل ما ذكرناه من المباح إذا لم يكن فعله ذريعة للوقوع في الحرام لا شك أنه لا يصح إدراجه في المشتبهات، ولا تفسيرها به بل من المباح قسم يصح أن يكون من جملة ما تفسر به الشبهات المذكورة في الحديث، وهو ما كانت العادة تقتضي أن الاستكثار منه يكون [11] ذريعة إلى الحرام ولو نادرا، وذلك كالاستمتاع من الزوجة بما عدا القبل والدبر، فإن الشارع قد أباحه، ولكنه ربما تدرج به بعض من لا يملك نفسه إلى الحرام، وهو الوقوع في القبل والدبر. ولهذا تقول أم المؤمنين عائشة: وأيكم (¬3) يملك إربه كما كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يملك إربه! فإن هذا النوع المباح وما شابهه وإن كان حكمه معلوما من الشريعة وأنه من الحلال البين، ولكنه يدخل تحت قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في الحديث المذكور: "والمعاصي حمى الله من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه" (¬4)، وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال، من فعل استبرأ لعرضه ودينه". ¬

(¬1) انظر "البحر المحيط" (6/ 41 - 48). "الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي (4/ 145 - 154). (¬2) أخرجه الترمذي رقم (1726) عن سلمان، قال: سئل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن السمن والجبن والفراء فقال: "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه". وهو حديث حسن بمجموع طرقه. (¬3) أخرجه البخاري رقم (302) ومسلم رقم (293) وأبو داود رقم (268) والترمذي رقم (132) وابن ماجه رقم (635) وأحمد (6/ 174). (¬4) تقدم في بداية الرسالة.

فهذا الدليل يدل على أن ما كان من المباحات ذريعة إلى الحرام ولو نادرا فالورع الوقوف عنده وتركه. ولهذا قال بعض السلف (¬1): إن الورع ترك ما لا بأس به حذرا مما به البأس. وقد كان السلف الصالح يأخذون من ذلك بأوفر نصيب حتى كان كثير منهم تمر عليه السنون الكثيرة فلا يرى مبتسما. ومن هذا الجنس ما حكاه صاحب (¬2) النبلاء (¬3) عن محمد بن سيرين - رحمه الله - أنه اشترى زيتا ليتجر بأربعين ألف درهم، فوجد في زق منه فأرة فظن أنها وقعت في المعصرة فأراق الزيت كله، ولم ينتفع بشيء منه. وروي عنه أيضًا أنه اشترى شيئا فأشرف فيه على ربح ثمانين ألف درهم فعرض في قلبه شيء فتركه. قال هشام ما هو والله بربا. ومثله ما يروى عن بعض الأئمة من أهل البيت - رضي الله عنهم - أنه كان له دجاج فمر بهن حب لبيت المال فانتشر منه شيء يسير فتسابقت إليه الدجاج فأكلت منه حبات فأخرجها [12]- رضي الله عنه - عن ملكه وجعلها لبيت المال، وهذا الإمام هو المؤيد بالله (¬4) أحمد بن الحسين بن هارون - رحمه الله تعالى - ويروى عنه أيضًا أنه كان ينظر في بعض الأمور المتعلقة ببيت المال في ضوء الشمعة، فجاءت امرأته في تلك الحال فأطفأ الشمعة فظنت المرأة أنه كره النظر إليها فأخبرها أن الشمعة لبيت المال، وأنه ينظر بضوئها ما كان من الأشغال يختص ببيت المال، ولا يجوز له أن ينظر بها إلى وجه امرأته. وكذلك روي عنه أنه كان يكتب الأمور المتعلقة ببيت المال في دروج ويغرم لبيت المال ما تبقى من البياض بين السطور يقدره ويسلم قيمته. ¬

(¬1) انظر "الزهد والورع والعبادة" لابن تيمية (ص 50). (¬2) أي الذهبي في "سير أعلام النبلاء". (¬3) (4/ 609). (¬4) وانظر الأعلام (1/ 116).

ويحكى عن النووي (¬1) - رحمه الله تعالى - أنه كان لا يأكل من ثمرات دمشق، فقيل له في ذلك فقال: إنها كانت في الأيام القديمة بأيدي جماعة من الظلمة، ولا يدري كيف كان دخولها إليهم وخروجها عنهم، أو نحو هذه العبارة. وبالجملة فالسلف قد كان لهم في الورع مسالك يعجز عن سلوكها الخلف. وقد أرشد الشارع إلى ذلك فقال: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك". أخرجه الترمذي (¬2)، والحاكم (¬3)، وابن حبان (¬4)، من حديث الحسن السبط - رضي الله عنهم -، وصححوه جميعا. وحديث: "استفت قلبك وإن أفتاك المفتون" أخرجه أحمد (¬5)، وأبو يعلى (¬6)، والطبراني (¬7)، وأبو نعيم (¬8) من حديث وابصة مرفوعا. ¬

(¬1) انظر "طبقات الشافعية" للسبكي (5/ 165). (¬2) في "السنن" رقم (2518). (¬3) في المستدرك (2/ 13) و (4/ 99) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. (¬4) في صحيحه رقم (722). قلت: وأخرجه أبو داود رقم (1178) عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة". وأخرج أحمد (3/ 112) والدارمي (2/ 245) والبيهقي (5/ 335) من حديث أنس. وأورده الهيثمي في "المجمع" (10/ 152). وقال: رواه أحمد، وأبو عبد الله الأسدي لم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح. والخلاصة: أن الحديث صحيح بشواهده. (¬5) في "المسند" (4/ 227 - 228). (¬6) في مسنده رقم (1586، 1587). (¬7) في "الكبير" (22 رقم 403). (¬8) في "الحلية" (2/ 24) (9/ 44). قلت: وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 145) والدارمي (2/ 245 - 246) من طريق الزبير عن أيوب ولم يسمعه منه قال حدثني جلساؤه وقد رأيته، قال الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (2/ 94 رقم 27): ففي إسناد هذا الحديث أمران يوجب كل منهما ضعف: أحدهما: الانقطاع بين أيوب والزبير فإنه رواه عن قوم لم يسمعه منهم. الثاني: ضعف الزبير هذا، قال الدارقطني "روى أحاديث مناكير"، وضعفه ابن حبان أيضًا لكن سماه أيوب بن عبد السلام، وأخطأ في اسمه". وله شواهد عند أحمد (4/ 194). وله شواهد منها في الصحيح ولذا حسنه النووي. وحسنه الألباني بمجموع طرقه.

وفي الباب عن واثلة (¬1)، والنواس وغيرهما .. وحديث: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد عما عند الناس يحبك الناس" أخرجه ابن ماجه (¬2)، والحاكم (¬3) وصححه من حديث سهل بن سعد مرفوعا، وأخرجه أبو (¬4) نعيم من حديث أنس، ورجاله ثقات. ومن ذلك حديث: "الإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس" (¬5) وهو معروف، ولو لم يرد إلا حديث الشبهات المسئول عنه فإنه قد شمل ما لا يحتاج معه إلى ¬

(¬1) ذكره الهيثمي في "المجمع" (1/ 175 - 176). (¬2) في "السنن" رقم (4102). (¬3) في المستدرك (4/ 313). وهو حديث ضعيف لأن مداره على خالد بن عمر. وهو ضعيف جدا، ولذلك أخرجه العقيلي في "الضعفاء" (2/ 11) وقال عقبه: وليس له من حديث الثوري أصل وقد تابعه محمد بن كثير الصنعاني، ولعله أخذ عنه، ودله، لأن المشهور به خالد هذا. وقال الحافظ في "التقريب" (1/ 216): رماه ابن معين بالكذب ونسبه صالح جزرة وغيره إلى الوضع. (¬4) في "الحلية" (8/ 41). (¬5) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2553) وأحمد (4/ 182) والدارمي (2/ 322) والبخاري في "الأدب المفرد" (1/ 110 - 113) والحاكم (2/ 14). من حديث النواس بن سمعان قال: سألت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن البر والإثم، فقال: "البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس".

غيره في هذا الباب .. ولهذا عظم العلماء (¬1) [13] أمر هذا الحديث فعدوه رابع أربعة تدور عليها الأحكام كما نقل عن أبي داود (¬2) وغيره. وقد جمعها من قال (¬3) شعرا: ¬

(¬1) قال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم (11/ 27 - 30): "أجمع العلماء على عظم وقع هذا الحديث وكثرة فوائده وأنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، قال جماعة: هو ثلث الإسلام وأن الإسلام يدور عليه وعلى حديث "إنما الأعمال بالنية" وحديث "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه". وقال أبو داود: يدور على أربعة أحاديث، هذه الثلاثة وحديث "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وقيل: حديث: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد ما في أيدي الناس يحبك الناس". وإنما نبه أهل العلم على عظم هذا الحديث، لأن الإنسان إنما يعتبر بطهارة قلبه وجسده، فأكثر الذم والمحظورات إنما تنبعث من القلب، فأشار - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لإصلاحه على أن صلاحه هو صلاح الجسد، وأنه الأصل وهذا صحيح، يؤمن به حتى من لا يؤمن بالشرع، وقد نص عليه الفلاسفة والأطباء. والأحكام والعبادات التي ينصرف الإنسان عليها بقلبه وجسمه، تقع فيها مشكلات وأمور ملتبسات التساهل فيها وتعويد النفس الجرأة عليها يكسب فساد الدين والعرض أعظم قبولا، فأخبر - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الملوك لهم حمية، لا سيما وهكذا كانت العرب تعرف في الجاهلية أن العزيز فيهم يحمي مروجا وأبنية، فلا تجاسر عليها، ولا يدنى منها، مهابة من سطوته، وخوفا من الوقوع في حوزته، وهكذا محارم الله - سبحانه - من ترك منها ما قرب فهو من متوسطها أبعد ومن تحامى طرف الشيء أمن عليه أن يتوسط، ومن طرف توسط، وهذا كله صحيح. وانظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (5/ 285). (¬2) وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم" (ص 6): "وعن أبي داود قال: نظرت في الحديث المسند، فإذا هو أربعة آلاف حديث، ثم نظرت فإذا مدار الأربعة آلاف حديث على أربعة أحاديث: حديث النعمان بن بشير "الحلال بين والحرام بين" وحديث عمر "إنما الأعمال بالنيات" وحديث أبي هريرة: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين" وحديث: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" قال: فكل حديث من هذه الأربعة ربع العلم". (¬3) الحافظ أبي الحسن طاهر بن مفوز المعافري الأندلسي، تلميذ أبي عمر بن عبد البر وخصيصه. كما ذكره الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم" (1/ 63).

عمدة الدين عندنا كلمات ... مسندات من قول خير البرية اترك الشبهات وازهد ودع ... ما ليس يعنيك واعملن بنيه والإشارة بقوله "ازهد" إلى الحديث المذكور قريبا. وكذلك قوله "ودع ما ليس يعنيك". أراد به الحديث المشهور بلفظ: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" (¬1)، وأشار بقوله: "واعملن بنية" إلى حديث: "إنما الأعمال بالنيات" (¬2). والمشهور عن أبي داود أنه عد حديث "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه" (¬3) مكان حديث "ازهد" المذكور. وعد حديث الشبهات بعضهم ثالث ثلاثة وحذف الثاني. وأشار ابن العربي إلى أنه يمكن أن ينتزع من الحديث الذي نحن بصدد الكلام عليه جميع الأحكام. قال القرطبي (¬4) لأنه اشتمل على التفصيل بين الحلال وغيره، وعلى تعلق جميع الأعمال بالقلب، فمن هنا يمكن أن ترد جميع الأحكام إليه. فعرفت بما أسلفنا أن الورع الذي يعد الوقوف عنده زهدا واتقاء للشبهة ليس هو ترك جميع المباحات، لأنها من الحلال المطلق، بل ترك ما كان منها مدخلا للحرام، ¬

(¬1) أخرجه أحمد (1/ 201) والترمذي رقم (2318) وقال: وهكذا روى غير واحد من أصحاب الزهري، عن الزهري، عن علي بن حسين، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، نحو حديث مالك مرسلا ... إلى أن قال: وعلي بن الحسين لم يدرك علي بن أبي طالب ورواه مالك في الموطأ رقم (1629) والحديث ضعيف لإرساله. وأخرجه الترمذي رقم (2317) وابن ماجه رقم (3976) من حديث أبي هريرة. وقال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا من هذا الوجه. الخلاصة: أن الحديث حسن بمجموع طرقه. (¬2) أخرجه البخاري رقم (1) ومسلم رقم (1907) وأبو داود رقم (2201) والترمذي رقم (1647) والنسائي رقم (75 - 3437، 3794) وابن ماجه رقم (4227)، وأحمد (1/ 25، 43). (¬3) تقدم آنفا. (¬4) انظر المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (4/ 488 - 490).

ومدرجا للآثام كالصور التي قدمناها، وما يشابهها، لا ما كان، ليس كذلك فلا وجه لجعله شبهة، وأما المكروه فجميعه شبهة، لأنه لم يأت عن الشارع أنه الحلال البين، ولا أنه الحرام البين بل هو واسطة بينهما وهو أحق شيء بإجراء اسم الشبهات عليه. والمجتهد يعرفه بالأدلة كالنهي الذي ورد ما يصرفه عن معناه الحقيقي إلى معناه المجازي، وكذلك ما تركه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وأظهر تركه، ولم يبين أنه حلال ولا حرام. ويدخل تحت هذا [14] كثير من الأقسام. ومن جملة ما يصلح لتفسير الشبهات، ما لم يتبين أنه مباح بل حصل الشك فيه، لا لتعارض الأدلة، ولا لاختلاف أقوال العلماء، بل لمجرد التردد، هل سكت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أو بينه؟. ومن جملة ما يصلح لتفسير الشبهات، ما ورد في النهي عنه حديث ضعيف (¬1) لم يبلغ إلى درجة الاعتبار، ولا ظهر فيه الوضع (¬2)، وإنما كان من جملة الشبهات، لأن العلة التي ¬

(¬1) الحديث الضعيف: هو ما لم يبلغ مرتبة الحسن ولا مرتبة الصحة المفهومة بالأولى. وذلك بفقد شرط من شروط القبول الشامل للصحيح والحسن، وهي: اتصال السند، والعدالة والضبط وفقد الشذوذ وفقد العلة القادحة والعاضد عند الاحتياج إليه. حكم العمل بالحديث الضعيف: قال ابن حبان في كتاب المجروحين (1/ 25): ولسنا نستجيز أن نحتج بخبر لا يصح من جهة النقل في شيء من كتبنا، ولأن فيما يصح من الأخبار بحمد الله ومنه يغني عنا عن الاحتجاج في الدين بما لا يصح منها وانظر: منهاج السنة لابن تيمية (2/ 191)، أعلام الموقعين (1/ 31). (¬2) الحديث الموضوع: الخبر الموضوع الكذب المختلق المصنوع. أي الخبر المكذوب على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي لا ينسب إليه أصلا - والمصنوع - من واصفه. فتح الباقي (ص 215). حكم العمل به: تحرم روايته مع العلم بوصفه في أي معنى كان، سواء في الأحكام والقصص والترغيب والترهيب وغير ذلك إلا أن يقرنه ببيان وضعه لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من روى عني حديثا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين". أخرجه أحمد (1/ 178 - الفتح الرباني) ومسلم (1/ 62 - نووي) وابن ماجه رقم (39) من حديث سمرة بن جندب. وأخرجه أحمد (1/ 178 - الفتح الرباني) ومسلم (1/ 62 - نووي) وابن ماجه رقم (41) من حديث المغيرة بن شعبة. وأخرجه ابن ماجه رقم (40) من حديث المغيرة بن شعبة.

ضعف بها لا توجب الحكم عليه أنه ليس من الشريعة، فإن العلة إن كانت مثلا ضعف الحفظ، أو الإرسال، أو الإعضال، أو نحو ذلك من العلل الخفية، فضعيف الحفظ لا يمتنع أن يحفظ في بعض الأحوال (¬1) ................................... ¬

(¬1) بل قد ذكر الشوكاني في "وبل الغمام على شفاء الأوام" (1/ 53 - 56): وقد سوغ بعض أهل العلم العمل بالضعيف في ذلك مطلقا، وبعضهم منع من العمل بما لم تقم به الحجة مطلقا وهو الحق، لأن الأحكام الشرعية متساوية الأقدام، فلا يحل أن ينسب إلى الشرع ما لم يثبت كونه شرعا، لأن ذلك من التقول على الله بما لم يقل، وما كان في فضائل الأعمال إذا جعل ذلك العمل منسوبا إليه نسبة المدلول إلى الدليل، فلا ريب أن العمل به وإن كان لم يفعل إلا الخير من صلاة أو صيام أو ذكر، لكنه مبتدع في ذلك الفعل، من حديث يجوز اعتقاد مشروعية ما ليس بشرع، وأجر ذلك العمل لا يوازي وزر الابتداع، فلم يكن فعل، ما لم تثبت له مصلحة خالصة، بل معارضة بمفسدة، هي إثم البدعة ودفع المفاسد أهم من جلب المصالح، ثم مثل هذا مما يندرج تحت عموم حديث "كل بدعة ضلالة". وقيل: إن كان ذلك العمل الفاضل الذي دل عليه الحديث الضعيف داخلا تحت عموم صحيح يدل على فضله ساغ العمل بالحديث الضعيف في ذلك، وإلا فلا، مثلا: لو ورد حديث ضعيف يدل على فضيلة صلاة ركعتين غير وقت الكراهة، فلا بأس بصلاة تلك الركعتين لأنه قد دل الدليل العام على فضيلة الصلاة مطلقا، إلا ما خص، ويقال: إن كان العمل بذلك العام الصحيح، فلا ثمرة للاعتداد بالخاص الذي لم يثبت إلا مجرد الوقوع في البدعة، وإن كان العمل بالخاص، عاد الكلام الأول، وإن كان العمل بمنهي عنهما، كان فعل الطاعة مشوبا بفعل بدعة، من حيث إثبات عبادة شرعية دون شرع، هذا إذا قيل باستقلال كل واحد من العام والخاص في الاستدلال به على فعل الطاعة، وإن كان كل واحد منهما غير مستقل، بل الدلالة باعتبار المجموع، ولا يصلح أحدهما منفردا، فيقال: فالعام الذي زعم الزاعم أنه يدل على تلك الطاعة، لا دلالة عليها على انفراده، إنما هو جزء دليل، فلا تتم دعوى اندراج الطاعة تحت عام يدل عليها، وعجز الدليل الآخر لا يصلح للدلالة مطلقا، ففاعل الطاعة لم يفعلها بمجرد دلالة العموم عليها، بل بها، ولشيء آخر لم يثبت، فكان مبتدعا في هذا الإثبات فلا خروج عن الإثم الناشئ عن البدعة إلا مع قطع النظر عن الاستدلال بالدليل الذي لم يثبت، ونسبة الدلالة إلى العام استقلالا إن وجد وإن لم يوجد، فلا يحل العمل بما لم يبلغ الحد المعتبر، وتخيل كون مدلوله طاعة باطل. لأن الجزم بأن هذا الفعل معصية لا يثبت إلا بشرع صحيح لوجه من الوجوه ومن زعم أن وصف الفعل يكون طاعة تثبت بما لم يثبت، فليطلب من الدليل على ما زعمه". اهـ وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "منهاج السنة النبوية" (2/ 191): "وأما نحن فقولنا، إن الحديث الضعيف خير من الرأي: ليس المراد به الضعيف المتروك، لكن المراد به الحسن، كحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وحديث إبراهيم الهجري، وأمثالها ممن يحسن الترمذي حديثه أو يصححه وكان الحديث في اصطلاح من قبل الترمذي: إما صحيحا، وإما ضعيفا، والضعيف نوعان: ضعيف متروك، وضعيف ليس بمتروك، فتكلم أئمة الحديث بذلك الاصطلاح فجاء من لا يعرف إلا اصطلاح الترمذي فسمع قول بعض الأئمة: الحديث الضعيف أحب إلي من القياس، فظن أنه يحتج بالحديث الذي يضعفه مثل الترمذي وأخذ يرجح طريقة من يرى أنه أتبع للحديث الصحيح، وهو في ذلك من المتناقضين، الذين يرجحون الشيء على ما هو أولى بالرجحان منه إن لم يكن دونه". اهـ.

والمرسل (¬1) أو المعضل (¬2) قد يكون صحيحا. وكذلك ما كان فيه التدليس (¬3) ونحوه، ¬

(¬1) تقدم تعريفه وبيان الحكم به. (¬2) المعضل: هو ما سقط من إسناده اثنان فصاعدا، بشرط التوالي، كقول مالك، قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقول الشافعي: قال ابن عمر. انظر: شرح منظومة البيقونية (ص 100). (¬3) وهو أن يروي الراوي حديثا عمن لم يسمعه منه. وهو أنواع: 1 - تدليس الإسناد: وهو أن يروي عمن لقيه ما لم يسمعه منه، موهما أنه سمعه، وقد يكون بينهما واحد أو أكثر، ومن شأنه أنه لا يقول في ذلك: أخبرنا فلان، ولا: حدثنا. وإنما يقول: قال فلان، أو عن فلان ونحو ذلك. 2 - تدليس الشيوخ: وهو أن يروي عن شيخ حديثا سمعه منه، فيسميه أو يكنيه، أو ينسبه، أو يصفه بما لا يعرف به كي لا يعرف. 3 - تدليس التسوية: وهو أن يجيء المدلس إلى حديث سمعه من شيخ ثقة وقد سمعه ذلك الشيخ الثقة من شيخ ضعيف، وذلك الشيخ الضعيف يرويه عن شيخ ثقة، فيعمد المدلس الذي سمع الحديث من الثقة الأول، فيسقط منه شيخ شيخه لضعفه، ويجعله من رواية شيخه الثقة عن الثقة الثاني. بلفظ محتمل، كالعنعنة ونحوها. فيصير الإسناد كله ثقات، ويصرح هو بالاتصال بينه وبين شيخه، لأنه قد سمعه منه، فلا يظهر حينئذ في الإسناد ما يقتضي عدم قبوله إلا لأهل النقد والمعرفة بالعلل، ولذلك كان شر أقسام التدليس، ويتلوه الأول ثم الثاني. "الاقتراح في بيان الاصطلاح" (ص 217 - 220) "تدريب الراوي" (1/ 231).

ومثل ذلك أحاديث أهل البدع، فهذا القسم والذي قبله وإن لم أقف على من يقول أنهما من جملة الشبهات فهما عندي من أعظمها، لأن أقل أحوال الحديث الضعيف لعلة من تلك العلل أن يكون مشكوكا فيه، ومثله الشك في الإباحة. وقد ثبت في الحديث الذي نحن بصدد الكلام عليه أنه قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "ومن اجترأ على ما شك فيه من الإثم، أو شك أن يواقع ما استبان" (¬1). فالحاصل أن المشتبهات التي قال فيها - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "والمؤمنون وقافون عند الشبهات" هي أقسام: الأول: ما تعارضت أدلته ولم يظهر الجمع ولا الترجيح، وهذا بالنسبة إلى المجتهد. القسم الثاني: ما اختلف فيه العلماء على وجه يوقع الشك في قلب المقلد، لا ما كان قد اتفق عليه جمهور أهل العلم، وشذ فيه المخالف على وجه لا يكون لخلافه تأثير في اعتقاد المقلد، وهذا القسم إنما يكون في المقلد كما سبق. القسم الثالث: بعض المباح، وهو ما يكون في بعض الأحوال ذريعة إلى الحرام، أو وسيلة إلى [15] ترك الواجب، أو مجاوزا لواحد منهما على وجه يكون الإكثار منه مفضيا إلى فعل الحرام، أو ترك الواجب ولو نادرا. وهذا يكون من الشبهات للمقلد والمجتهد، لكن المجتهد يعرف كونه مباحا، ووسيلة إلى فعل محرم أو ترك واجب بالدليل، والمقلد يعرف ذلك بأقوال العلماء. ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (2051).

القسم الرابع: المكروهات بأسرها؛ فإنها مشتبهات بالنسبة إلى المجتهد، وبالنسبة إلى المقلد بالاعتبارين المذكورين في القسم الثالث. القسم الخامس: ما حصل الشك في كونه مباحا أم لا. القسم السادس: ما ورد في النهي عنه حديث ضعيف. وهذان القسمان كما يكونان شبهة للمجتهد يكونان أيضًا شبهة للمقلد بتنزيل شك إمامه بمنزلة شكه، وبتنزيل الرواية الضعيفة عن إمامه بمنزلة الرواية الضعيفة في الحديث بالنسبة إلى المجتهد. وقد تقدم الوجه لكل واحد من هذه الصور التي فسرنا بها المشتبهات. ومن جملة ما يكون بمنزلة الحديث الضعيف باعتبار المجتهد القياس (¬1) إذا كان بمسلك من المسالك التي لم يقل بها إلا بعض أهل العلم، وكثر النزاع فيها تصحيحا، وإبطالا، واستدلالا، وردا، فإنه إذا اقتضى مثل هذا القياس تحريم شيء مثلا، وكان المجتهد مترددا في وجوب العمل بهذا المسلك فلا ريب أن ذلك التحريم الثابت به من جملة الشبهات وكذلك التحليل الثابت به على التفصيل الذي قدمنا، فإذا كان الاحتياط في الترك فهو الورع، وإن كان الاحتياط في الفعل فكذلك. ومثل ذلك الأحكام المستفادة من التلازم، ومن الاستحسان لضعفهما، والأحكام المستفادة من بعض المفاهيم كاللقب، والأحكام المستفادة من تعميم بعض الصيغ التي وقع النزاع في عمومها، كالمصدر المضاف. وبالجملة، فالعالم المحقق العارف بعلوم [16] الاجتهاد لا يخفى عليه الفرق بين الأحكام المأخوذة من المدارك القوية، والأحكام المأخوذة من المدارك الضعيفة، فهذا الذي ذكرناه يلحق بالقسم السادس، فكانت الأمور المشتبهة منحصرة في هذه الأقسام التي ذكرناها، ومن أمعن النظر وجد ما عداه لا يخرج عن كونه إما من الحلال البين، أو الحرام البين، فاحرص على هذا التحقيق؛ فإنه بالقبول حقيق، وما أظنك تجده في غير ¬

(¬1) انظر "إرشاد الفحول" (ص 736). "تيسير التحرير" (4/ 103). "المسودة" (ص 399).

هذا الموضع، واضمم إليه ما قدمنا في الضابط في كيفية الورع، والوقوف عند الشبهة إن كان أحد الدليلين يدل على التحريم أو الكراهة، والآخر على الجواز، إلى آخر ما تقدم هناك فإنك إذا ضممته إلى هذه الأقسام الستة المذكورة هنا، وتذكرت ما سبق من الاستدلال على كل قسم منها أنه من المشتبه لم يبق معك ريب في معرفة الفرق بين الحلال والحرام والمشتبه. البحث الثالث: من أبحاث الجواب في الكلام على الصور التي ذكرها السائل - دامت فوائده - في سؤاله. قال - عافاه الله تعالى -: هل المراد بالحلال والحرام والشبه فيما يتعلق بأفعال الآدميين، وسائر ما يباشرونه من المأكولات والمشروبات والمنكوحات، وسائر ما يتعلق به [من] (¬1) الإنشاءات والمعاملات؟. أقول: نعم الشبه تكون في جميع هذه الأمور التي ذكرها، وقد تقدم التمثيل للمأكولات والمشروبات بلحم الخيل والضبع، وللمشروبات بالنبيذ والمثلث، ومثاله في المنكوحات للمجتهد إذا تعارض عليه الأدلة في تحريم نكاح الرضيعة التي أخبرت بوقوع الرضاع بينها وبين من أراد نكاحها المرضعة نفسها. فلم يترجح لديه أحد الدليلين، أعني: دليل قبول قولها، ووجوب العمل به لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "كيف وقد قيل" (¬2)، ودليل عدم قبول شهادتها لكونها لتقرير فعلها. وكذلك المقلد إذا اختلف قول من يقلده في العمل بذلك، وعدم العمل به، فلا شك أن الإقدام على النكاح هاهنا ¬

(¬1) زيادة استلزمها السياق. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (88) و (1947 و2497، 2516، 2517، 4816) وأحمد (4/ 7) وأبو داود رقم (3603) و (3604) والترمذي (1151) والنسائي رقم (3330) عن عقبة بن الحارث أنه تزوج ابنة لأبي أهاب بن عزيز، فأتته امرأة فقالت: إني قد أرضعت عقبة والتي تزوج، فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني ولا أخبرتني، فركب إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة فسأله، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كيف وقد قيل؟! " ففارقها عقبة، ونكحت زوجا غيره.

إقدام على أمر مشتبه، والورع الوقوف عند الشبهات. ومثاله في الإنشاءات العقود الفاسدة إذا تعارض على المجتهد أدلة جواز الدخول فيها، وأدلة [17] عدم الجواز، وكذلك المقلد إذا اختلف قول من يقلده فلا شك أن الدخول في العقود الفاسدة من هذه الحيثية إقدام على أمر مشتبه، والورع الوقوف. وكذلك المعاملات: كالمعاملة ببيع النساء إذا تعارضت الأدلة في جوازه على المجتهد، واختلفت على المقلد أقوال من يقلده، فالأمر كذلك. قال - عافاه الله -: وما المراد بالاتقاء للشبهة في ذلك؟ وما تمثيله؟ فهل المراد مثلا ما وقع لبعض العلماء أنه وقع نهب أموال في جهة من جهات الإسلام، بالقرب من بلده، فترك جميع المأكولات من اللحم والحب وسائر ما جلب إلى محله، واقتصر على أكل العشب سنة، وقد مقت عليه كثير من علماء عصره؟ ذكره ابن القيم، أو معناه في الكلم الطيب (¬1) .. انتهى. أقول: لا شك أن ما كان مظنة للاختلاط بمثل تلك الأموال المنهوبة فاجتنابه الشبه الذي هو شأن أهل الورع، والإقدام عليه من الإقدام على الأمور المشتبهة، ولكن مع تجويز الاختلاط، وليس مثل ذلك من الغلو، ولا مما يكون ممقوتا على فاعله، لكن عدول هذا المتورع إلى أكل العشب لا شك أنه من الغلو (¬2) في الدين، ............. ¬

(¬1) (ص 18 - 19). (¬2) الغلو في اللغة: "الارتفاع ومجاوزة قدر، يقال: غلا السعر يغلو غلاء وذلك ارتفاعه، وغلا الرجل في الأمر غلوا إذا جاوز حده". "معجم مقاييس اللغة" مادة (غلوي) (ص 812). قال ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" (1/ 289): "الغلو: مجاوزة الحد، بأن يزاد في الشيء، في حمده أو ذمه على ما يستحق ونحو ذلك". قال الحافظ في "الفتح" (13/ 278) الغلو: المبالغة في الشيء والتشديد فيه بتجاوز الحد. قال ابن القيم في "مدارج السالكين" (2/ 496): "ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين الجبلين والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين فكما أن الجاني عن الأمر مضيع له، فالغالي فيه مضيع له، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد".

والتضييق على النفس (¬1)، لأنه إذا كان في مدينة من المدائن، أو قرية من القرى فلا ريب أن الحلال موجود غير معدوم، يمكن استخراجه بإخفاء السؤال والمبالغة في البحث، ولا بد أن يوجد من هو بمحل من العدالة فيكون قوله مقبولا إذا قال ليس هذا الطعام الذي عندي أو الذي عند فلان من المال المنهوب، ثم لو فرضنا أنه لم يبق في ذلك المحل من يعمل بقوله، وكان المال المنهوب قد دخل منه على كل أحد نصيب، فلا يعدم الإنسان في غير ذلك المحل ما يسد به رمقه مما لم يختلط بالطعام المنهوب، كما كان يفعل النووي - رحمه الله - فإنه كان يتقوت مما يرسل به إليه والده من بلاده التي هي وطنه ومنشؤه، نعم إذا لم يكن لهذا المتورع قدرة [18] على استخراج ما هو خالص عن شائبة الحرام من أهل بلده، ولا يتمكن من استخراجه من غير بلاده، واختلط المعروف بالإنكار، ولم يبق له إلى الحلال المطلق سبيل، وكان ذلك الاشتباه والاختلاط واقعا في نفس الأمر على مقتضى الشرع، ولم يكن ناشئا عن الوسوسة التي هي من مقدمات الجنون، كما نشاهده في وسوسة من ابتلي بالشك في الطهارة فلا بأس بعدوله إلى أكل العشب، بشرط عدم تجويز الضرر والاقتدار على سد الرمق منه، ولا ريب أن هذا هو ورع الورع، وزهد الزاهد. وأما مع تجويز الضرر أو مع الاقتدار على سد الرمق منه فقد ¬

(¬1) أخرج البخاري رقم (5063) ومسلم رقم (1401) عن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يسالون عن عبادة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، وقالوا: أين نحن من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليهم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله تعالى وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".

أباح له الشرع أن يتناول من المال الحرام البحت ما يسد به رمقه (¬1)، فكيف بما لم يكن من الحرام البحت، بل كان حلالا مختلطا بالحرام!. قال - عافاه الله -: ومثلا لو علم أن له في صنعاء محرما، أو رضيعة فنقول: لا يجوز له الإقدام إلى تزوج امرأة على ظاهر الحديث، وإن غلب على الظن كونها غير رحمه. انتهى. أقول: إذا كانت الرضيعة المذكورة في تلك البلدة بيقين، وكذلك المحرم فإن كان من فيها من النساء منحصرات بحيث يضطرب الظن، ويختلج الشك في كون المرأة التي أراد نكاحها قد تكون هي المحرم أو الرضيعة فالتجنب لنكاح نسوة ذلك المحل ليس من اتقاء الشبهة بل من اتقاء الحرام غير المجوز، فلا يجوز الإقدام، وإن كان من في ذلك المحل من النساء غير منحصرات (¬2) بحيث لا يحصل للناكح ظن أن المنكوحة هي المحرم أو الرضيعة ¬

(¬1) لقوله تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) [الأنعام: 119]. وقال تعالى: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد) [البقرة: 173]. (¬2) قال القاضي عياض في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (5/ 286 - 287): " ... وقد يكون هذا الشك له مستند ولكن الشرع عفا عنه لعظم الضرورة، كمن تحقق أن امرأة أرضعت معه والتبست عليه بنساء العالم، فإنا إن قطعنا عليه شهوته وحرمنا عليه نساء العالم جملة كان ذلك إضرارا عظيما وكلهن محلل، فلا يغلب حكم محرمة واحدة على مائتي ألوف محللات، ولو اختلطت هذه الرضيعة بنساء محصورات لنهي عن التزوج منهن، لأن الشك هاهنا له مستند وهو العلم بأن هناك رضيعة وقد شك في عينها وله قدرة على تحصيل غرضه، مع القطع بسلامته من الوقوع في الحرام بأن يتزوج من نساء قوم آخرين، وليس من الحرام في الدين أن يكون له طريقان في تحصيل غرضه: أحدهما: محلل هو أسهل وأكثر، فإن وقع فيه قطع على عين التحليل. ثانيهما: أقل وأندر وإن وقع فيه خاف أن يقع في عين الحرام، فيعدل عن المتحلل بما يجوز أن يكون محرما. وبهذا فارقت هذه المسألة التي قبلها، لأنه متى اختلطت بنساء العالم لم يقدر على تحصيل غرضه بطريق أخرى. فوجب ألا يكون للشك تأثير. وإنما ارتبك بهذه المسألة طريقة تسلكها، وإلا فمسائل هذا النوع لا تحصى كثرة، ولكن أصول جميعها لا تنفك عن الأصول التي مهدت لها، وقد يقل الضرر بالتحريم في بعض المسائل ويعظم في أخرى ويتضح كون الشك له مستند في بعض المسائل وتخفى في أخرى، وقد تكثر أصول بعض المسائل، وقد تتضح مساواة الفرع للأصل وقد تخفى ... ". وانظر: "المفهم" (4/ 490 - 492).

فالاجتناب للنكاح من ذلك المحل هو الورع، وهو نفس اتقاء الشبهة، لأن الحلال البين هو نكاح من عدا الرضيعة أو المحرم من نساء البلد، والحرام البين هو الرضيعة أو المحرم، فمجموع من في البلد من الرضيعة وغيرها والمحرم وغيرها واسطة [19] بين الحلال والحرام، وما كان واسطة فهو المشتبه الذي يقف المؤمنون عنده. فهذا المثال هو من جملتها يصلح للتمثيل به لما نحن بصدده. قال - عافاه الله -: أو يكون تمثيل اتقاء الشبه بأنه لا يقدم على الفعل المباح أو المندوب خوفا من عدم القيام بالواجب، أو فعل المحظور لو ترك التزوج بزائد على الواحدة خوفا من الميل عن أحد الضرتين، لأنه لا يأمن على نفسه تعدي الحمى الوارد في متن الحديث: "ألا وإن حمى الله محارمه". فنقول على هذا ينبغي عدم التزوج بزيادة على الواحدة، لا سيما مع ورود الدليل القرآني بقوله تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء} الآية (¬1) انتهى. أقول: نكاح ما فوق الواحدة من النساء إلى حد الأربع هو من الحلال البين بنص القرآن الكريم (¬2)، وتجويز عدم العدل في الجملة حاصل لكل فرد من أفراد العباد، ولهذا ¬

(¬1) [النساء: 129]. (¬2) قال تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} [النساء: 3]. ونص الحديث النبوي. منها: ما أخرجه الترمذي في صحيحه رقم (1128) وابن ماجه رقم (1953) وأحمد (2/ 13) والحاكم (4/ 192 - 193) وابن حبان في صحيحه رقم (1277) قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لغيلان لما أسلم وتحته عشر نسوة: "أمسك أربعا وفارق سائرهن". وهو حديث صحيح. ومنها: ما أخرجه أبو داود رقم (2241) وابن ماجه رقم (1952) والبيهقي (7/ 183) من حديث الحارث بن قيس، وبعضهم يسميه: قيس بن الحارث، قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة، فأتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك له فقال: "اختر منهن أربعا". وهو حديث حسن بمجموع طرقه.

يقول الله تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء} (¬1). ولكن المحرم هو أن يميل كل الميل (¬2)، وهذا لا يجوزه الإنسان من نفسه قبل الوقوع فيه، لأن أسباب الميل متوقفة على الجمع بين الزوجين فصاعدا، ولو كان مجرد إمكان الميل شبهة من الشبهات التي يتقيها أهل الإيمان لكان نكاح الواحدة أيضًا مما ينبغي اجتنابه لإمكان أن لا يقوم بما يجب لها من حسن العشرة، وكذلك إمكان الافتتان بما يحصل له منها من الأولاد، ولكان أيضًا ملك المال الحلال من هذا القبيل لإمكان أن لا يقوم بما يجب عليه فيه من الزكاة ونحوها، ونحو ذلك من الصور التي لا خلاف في كونها من الحلال الذي لا شبهة فيه. نعم إذا كان الرجل مثلا قد جمع بين الضرائر، وعرف من نفسه أنه يميل كل الميل (¬3)، ثم فارقهن جميعا أو بقيت واحدة تحته، ثم أراد بعد ذلك أن يجمع بين اثنتين ¬

(¬1) [النساء: 129]. (¬2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أحمد (2/ 347) وأبو داود رقم (2133) والترمذي رقم (1141) والنسائي (7/ 63) وابن ماجه رقم (1969) وابن الجارود رقم (722) والحاكم (2/ 186) وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من كانت له امرأتان، فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل". وهو حديث صحيح. (¬3) العدل بين الزوجات واجب للحديث المتقدم ولكن هذا العدل المطلوب هو العدل الظاهر المقدور عليه ... قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اللهم إن هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" من حديث عائشة رضي الله عنها. وهو حديث صحيح، أخرجه أبو داود رقم (2134) والترمذي رقم (1140) وابن ماجه رقم (1969) والنسائي رقم (8/ 64).

فصاعدا فلا ريب أن ذلك من المباح أو المندوب، الذي يكون ذريعة إلى الحرام، فهو مندرج تحت القسم الثالث من الأقسام الستة التي أسلفنا ذكرها. وهذا على فرض أن الواحدة تعفه وتحصن [20] فرجه، فإن كان لا يعفه إلا أكثر من واحدة مع تجويزه للميل الذي قد عرفه من نفسه فعليه أن يفعل ما هو أقل مفسدة لديه في غالب ظنه باعتبار الشرع. وبعد هذا فلا أحب لمن كان لا يحتاج إلى زيادة على الواحدة أن يضم إليها أخرى، إلا إذا كان واثقا من نفسه بعدم الميل، وعدم الاشتغال عما هو أولى به من أفعال الخير، وعدم طموح نفسه إلى التكثر من الاكتساب، واستغراق الأوقات فيه، أو الاحتياج إلى الناس، فلا ريب أن اتساع دائرة الأهل والولد وكثرة العائلة من أعظم أسباب إجهاد النفس في طلب الدنيا، والاحتياج إلى ما في يد أهلها، ولا سيما في هذه الأزمنة التي هي مقدمات القيامة، بل قد ثبت في الأحاديث (¬1) الصحيحة ما يفيد أولوية ¬

(¬1) منها ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2965) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي". ومنها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2786) ومسلم (1888) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رجل: أي الناس أفضل يا رسول الله؟ قال: "مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله" قال: ثم من؟ قال: "ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه". ومنها: ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1889) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من خير معاش الناس لهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو خزعة، طار عليه يبتغي القتل والموت مظانه، أو رجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف، أو في بطن واد من هذه الأودية، يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلا في خير". ومنها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7088) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن".

التعزب والاعتزال في آخر الزمان. وقد جمع السيد الإمام محمد بن إبراهيم الوزير في ذلك مصنفا (¬1) نفيسا وذكر فيه نحو خمسين دليلا، ولا بد من تقييد هذه الأولوية بالأمن من الفتنة (¬2) التي هي أشد من فتنة التعزب كالوقوع في الحرام. قال - عافاه الله تعالى -: أو يكون اتقاء الشبه عاما في الأفعال والاعتقادات والعبادات لعدم تفسير المتشابه مثلا ورده إلى المحكم خوفا من الدخول في شبه من فسر القرآن برأيه الوارد النهي عنه (¬3)، والتوقف عن الخوض في الصفات ونحوها مما يتعلق بأفعال المكلفين من القدر والإرادات والحكم فيها، هل هي مخلوقة للخالق أو محدثة من المخلوق؟ وغيرها من سائر ما ذكره المتكلمون من أهل هذه المقالات؟ انتهى. أقول: اتقاء الشبه هو عام في جميع ما ذكره، أو في الأفعال والعبادات فظاهر، وقد سبق مثاله. وأما في الاعتقادات فكذلك؛ فإن الأدلة إذا تعارضت على المجتهد في شيء من مسائل الاعتقاد ولم يترجح له أحد الطرفين، ولا أمكنه الجمع، كان الاعتقاد شبهة، والمؤمنون وقافون عند الشبهات. ومن هذا القبيل المسائل المدونة في علم الكلام المسمى بأصول الدين؛ فإن غالبها [21] أدلتها متعارضة، ويكفي المتقي المتحري لدينه أن يؤمن بما جاءت به الشريعة إجمالا من دون تكلف لقائل، ولا تعسف لقال وقيل، وقد كان هذا المسلك القويم هو مسلك السلف الصالح من الصحابة والتابعين، فلم يكلف الله أحدا من عباده أن يعتقد أنه - جل جلاله - متصف (¬4) بغير ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. ومن زعم أن الله - سبحانه - تعبد عباده بأن يعتقدوا أن صفاته الشريفة كائنة على الصفة التي تختارها طائفة من طوائف المتكلمين فقد ¬

(¬1) بعنوان: "الأمر بالعزلة في آخر الزمان" تحقيق وتخريج محمد صبحي بن حسن حلاق. (¬2) قال تعالى: (ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين) [الذاريات: 50]. (¬3) تقدم تخريجه وهو حديث ضعيف. (¬4) انظر الرسالة رقم (1)، (2) من الفتح الرباني القسم الأول منه.

أعظم على الله الفرية، بلى كلف عباده أن يعتقدوا أنه {ليس كمثله شيء} (¬1). وأنهم {ولا يحيطون به علما} (¬2)، ولقد تعجرف (¬3) بعض علماء الكلام بما ينكره عليه جميع الأعلام، فأقسم بالله أن الله تعالى لا يعلم من نفسه غير ما يعلمه هذا المتعجرف (¬4). فيا لله هذا الإقدام الفظيع، والتجاري الشنيع! وأنا أقسم بالله أنه قد حنث في قسمه، وباء بإثمه، وخالف قول من أقسم به في محكم كتابه {ولا يحيطون به علما} (¬5)، بل أقسم بالله أن هذا المتعجرف لا يعلم حقيقة نفسه، وماهية ذاته على التحقيق، فكيف يعلم بحقيقة غيره من المخلوقين! فضلا عن حقيقة الخالق تبارك وتعالى. وهكذا سائر المسائل الكلامية، فإنها مبنية في الغالب على دلائل عقلية هي عند التحقيق غير عقلية، ولو كانت معقولة على وجه الصحة لما كانت كل طائفة تزعم أن العقل يقضي بما دبت عليه ودرجت، واعتقدته حتى ترى هذا يعتقد كذا، وهذا يعتقد نقيضه، وكل واحد منهما يزعم أن العقل يقتضي ما يعتقده. وحاشا العقل الصحيح السالم عن تغيير ما فطره الله عليه أن يتعقل الشيء ونقيضه، فإن اجتماع النقيضين محال عند جميع العقلاء، فكيف تقتضي عقول بعض العقلاء أحد النقيضين! وعقول البعض الآخر النقيض الآخر بعد ذلك الاجتماع! وهل هذا إلا من الغلط البحت الناشئ عن العصبية ومحبة ما نشأ عليه الإنسان. ومن الافتراء البين على دليل العقل ما هو عنه بريء، وأنت إن كنت تشك في هذا فراجع كتب الكلام وانظر المسائل التي قد صارت ¬

(¬1) [الشورى: 11]. (¬2) [طه: 110]. (¬3) انظر رسالة التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف رقم (3) المتعجرف هو أبو علي الجبائي من أئمة المعتزلة. (¬4) انظر رسالة التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف رقم (3) المتعجرف هو أبو علي الجبائي من أئمة المعتزلة. (¬5) [طه: 110].

عند أهله معدودة في المراكز كمسألة التحسين والتقبيح [22]، وخلق الأفعال وتكليف ما لا يطاق، ومسألة خلق القرآن، ونحو ذلك؛ فإنك تجد ما حكيته لك بعينه إن لم تقلد طائفة من الطوائف، بل تنظر كلام كل طائفة من كتبها التي دونتها، فاجمع مثلا بين مؤلفات المعتزلة (¬1) والأشعرية (¬2) والماتريدية (¬3)، وانظر ماذا ترى. ومن أعظم الأدلة الدالة على خطر النظر في كثير من مسائل الكلام أنك لا ترى رجلا أفرغ فيه وسعه، وطول في تحقيقه باعه إلا رأيته عند بلوغ النهاية، والوصول إلى ما هو منه الغاية يقرع على ما أنفق في تحصيله سن الندامة، ويرجع على نفسه في غالب الأحوال بالملامة، ويتمنى دين العجائز، ويفر من تلك الهزاهز كما وقع من الجويني، والرازي، وابن أبي الحديد، والشهرزوري (¬4)، والغزالي، وأمثالهم ممن لا يأتي عليه الحصر؛ فإن كلماتهم نظما ونثرا في الندامة على ما جنوا به على أنفسهم مدونة في مؤلفات الثقات. هذا وقد خضع لهم في هذا الفن الموالف والمخالف، واعترف لهم بمعرفته القريب والبعيد. نعم أصول الدين الذي هو عمدة المتقين ما في كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل ¬

(¬1) تقدم التعريف بها. (¬2) تقدم التعريف بها (ص 151). (¬3) تقدم التعريف بها (ص 722). (¬4) كذا في المخطوط ولعله (السهروردي). هو عبد القاهر بن عبد الله بن محمد البكري الصديقي، أبو النجيب السهروردي ففيه شافعي واعظ (490 هـ - 563 هـ). من أئمة المتصوفين ولد بسهرورد، وسكن بغداد توفي ببغداد سنة 563 هـ. له "آداب المريدين"، شرح الأسماء الحسنى، "غريب المصابيح". الأعلام (4/ 48)، بغية الوعاة (310).

من بين يديه ولا من خلفه، وما في السنة المطهرة، فإن وجدت فيهما ما يكون مختلفا في الظاهر فليسعك ما وسع خير القرون (¬1)، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وهو الإيمان بما ورد كما ورد، ورد علم المتشابه إلى علام الغيوب، ومن لم يسعه ما وسعهم فلا وسع الله عليه. ولتعلم - أرشدني الله وإياك - أني لم أقل هذا عن تقليد لبعض من أرشد إلى ترك الاشتغال بدقائق هذا الفن كما وقع لجماعة من محققي العلماء، بل قلت هذا بعد تضييع برهة من العمر في الاشتغال به، وإحفاء السؤال لمن يعرفه، والأخذ عن المشهورين به، والإكباب على مطالعة كثير من مختصراته ومطولاته، حتى قلت (¬2) عند الوقوف على حقيقته من أبيات منها: وغاية ما حصلت من مباحثي ... ومن نظري من بعد طول التدبر هو الوقف ما بين الطريقين حيرة ... فما علم من لم يلق غير التحير وأقل أحوال النظر في ذلك أن يكون من المشتبهات التي أمرنا بالوقوف عندها [23]، ومن جملة المشتبهات النظر في المتشابه من كتاب الله - سبحانه -، وسنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتكلف علمه، والوقوف على حقيقته، على أنه لا يبعد أن يقال: قد بين الله في كتابه وعلى لسان رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه مما لا يحل الإقدام عليه، وأنه مما استأثر بعلمه. وقد كان السلف الصالح يتحرجون من ذلك، وينعون على من اشتغل به فعله، وخير الهدي هدي محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. وللصحابة الذين هم خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم من الكلام المشتمل على التنفير من ذلك ما لو جمع لكان مؤلفا حافلا. قال - كثر الله فوائده - وكعدم سجود التلاوة في الصلاة حيث يقول مثلا الشافعي: سجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - للتلاوة في صلاة الفجر (¬3)، فيقول المخالف له: ¬

(¬1) تقدم تخريجه (ص 255، 840). (¬2) أي الشوكاني. انظر ديوانه (ص 189). (¬3) تقدم في بداية الرسالة.

[هذه] (¬1) زيادة على القطعي، وهي لا تقبل إلا بدليل قطعي كحكم النقصان من المقطوع به، فإنه لم ينقص عنه إلا بدليل قطعي كقوله تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} (¬2) فهل هذا الذي يقول بعدمه ممن اتقى الشبهات أم لا؟ وهل يدخل في ذلك المقلد بتقليد إمامه أنه مثلا قد اتقى الشبهة بسنية السجود أو عدمه؟ أم هو باق في من لم يتق هذه الشبهة؟ انتهى. أقول: قدمنا في ذكر الأقسام التي فسرنا بها المتشابه أن اختلاف أقوال أهل العلم لا يكون شبهة إلا في حق المقلد، لا في حق المجتهد. فالشبهة عنده تعارض الأدلة على وجه لا يمكنه الجمع ولا الترجيح، فهذه المسألة المذكورة إن تعارضت أدلتها على المجتهد على وجه لا يمكنه ترجيح أدلة فعل السجود، وأدلة الترك، وتعذر عليه الجمع فلا ريب أنه يقف عند ذلك، ويترك السجود، لأنه لا يكون مسنونا في حقه إلا بعد انتهاض دليله الخالص عن شوب المعارض المساوي، فلا يكون تاركا لمسنون. ولو فعل لم يأمن أن يكون مبتدعا، والمبتدع آثم. فالورع الترك. وأما إذا كان مقلدا فإن كان لاختلاف العلماء [24] تأثير في اشتباه الأمر عليه كما هو شأن أهل التمييز من المقلدين فلا شك أن الورع الترك، لأن ترك سنة مجوزة أحب من ارتكاب بدعة، وإن كان هذا المقلد لا تخالجه الشكوك عند الاختلاف، بل يعتقد صحة قول إمامه، وفساد قول من يخالفه كائنا من كان، كما هو شأن من قل تمييزه من المقلدين، فهذا لا يتأثر معه الاشتباه، بل قول إمامه في معتقده بمنزلة الدليل الخالي عن المعارض في اعتقاد المقلد، فلا يكون الأمر مشتبها في حقه. قال - عافاه الله -: وهل يجوز مثلا مع تضييق الحادثة كتركة رجل لا تكفي إلا دينه أو تكفينه فماذا يصنع مثلا من يرجح تقديم الكفن على الدين؟ كونه كالمستثنى له من ¬

(¬1) زيادة يستلزمها السياق. (¬2) [النساء: 101].

حال حياته، أو يقدم قضاء الدين على الكفن بتقديم الدين على الكفن بتقديم الدليل العقلي على قول من يقول به، لأنه لا تضرر من الميت في تلك الحال بخلاف صاحب الدين، فالتضرر معه حاصل، فكيف يجوز اتقاء الشبهة مع تضيق الحادثة! والاتقاء يؤدي إلى حرمان الميت وأهل الدين جميعا!؟. انتهى. أقول: إن كان التردد الناشئ عن تعارض الأدلة حاصلا للمجتهد فالمقام شبهة بلا شك، وعليه أن يقف عند ذلك، ولم يكلفه الله أن يفتي بلا علم، إنما تعبد الله بالفتيا والحكم من كان يعلم الحق، وهذا المتردد لا يعلم الحق ولا يظنه لتعارض الأدلة، فلم يحصل له مناط الاجتهاد، وليست هذه الحادثة بمتضيقة عليه، لأنه في الحكم من لا يعلم، هذا إذا كان يرى في اجتهاده عدم جواز التقليد لمثله، وإن كان يرى جواز التقليد إذا عرض مثل ذلك عمل باجتهاده في جواز التقليد له، وقلد من يراه أولى بالتقليد من المختلفين في المسألة من العلماء، فإنه لا يخفى على مثله من هو أولى بالتقليد، وإن كان لا يرى جواز التقليد لمثله فلا يجوز له الإقدام على مثل ذلك الأمر، لأنه إن أقدم أقدم بلا علم، ولم يكلف الله من لا علم عنده [25] أن يقدم على ما لا يعلم بل نهاه عن ذلك في كتابه العزيز (¬1)، وعلى لسان رسوله - (¬2) - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وليست تلك الحادثة بمتضيقة عليه، إنما تتضيق على من يجد منها فرجا ومخرجا. وأما من لا فرج له عنده ولا مخرج فوجوده بالنسبة إليها كعدمه. وهذا الكلام لا بد ¬

(¬1) قال تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) [الإسراء: 36]. وقال سبحانه تعالى: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) [النحل: 116]. (¬2) منها: ما أخرجه أبو داود رقم (3657) وابن ماجه رقم (53) والدارمي (1/ 57) والحاكم (1/ 126) من حديث أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أفتى بفتيا من غير ثبت، فإنما إثمه على من أفتاه". وهو حديث حسن.

من اعتباره في الحوادث المتضيقة فليحفظ، وأما إذا كان من تضيقت عليه الحادثة مقلدا فإن كان لا يرى الحق إلا ما يقول إمامه ولا يعتد بمن خالفه فعليه أن يفتي أو يقضي بمذهب إمامه، ولا يضره من يخالفه، وإن كان يتبع أقوال العلماء ويحجم عند اختلافهم فالإقدام شبهة، بل من التقول على الشريعة بما ليس منها، ولم يكلفه الله تعالى بذلك، ولا تضيقت عليه الحادثة، فيدع حبل هذه الحادثة على غاربها، ويترك الإقدام على ما ليس من شأنه، ويرفعها إلى من هو أعلم بها منه، إن كان موجودا وإن لم يوجد فلا يجني على نفسه بجهله، وفي الناس بقية يعملون بعقولهم، وهو عن إثمهم بريء. على أن تقديم الكفن على الدين قد صار معلوما من هذه الشريعة في حياته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وبعد موته فلم يسمع سامع أن رجلا مديونا سلب أهل الدين كفنه، وقد مات في زمن النبوة جماعة من المديونين، ولم يأمر (¬1) النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بأخذ أكفانهم في قضاء الدين. وما زال ذلك معلوما بين المسلمين قرنا بعد قرن، وعصرا بعد عصر. قال - كثر الله فوائده -: وكلو خشي فوت الجماعة، وحصل له مدافعة الأخبثين أو الريح .. انتهى. أقول: ليس هذا من المشتبهات، فإنه قد صح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - النهي عن الدخول في الصلاة حال مدافعة .................. ¬

(¬1) منها ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2289) و (2295) عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: كنا جلوسا عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ أتي بجنازة قالوا: صل عليها فقال: "هل عليه دين" قالوا: لا. قال: "فهل ترك شيئا؟ " قالوا: لا، فصلى عليه، ثم أتي بجنازة أخرى، فقالوا: يا رسول الله صل عليها، قال: "هل عليه دين" قيل: نعم. قال: "فهل ترك شيئا؟ " قالوا: ثلاثة دنانير، قال: "فقال بأصابعه ثلاث كيات" فصلى عليها، ثم أتي بالثالثة، فقالوا: صل عليها. قال: "هل ترك شيئا؟ " قالوا: لا. "هل عليه دين" قالوا: ثلاثة دنانير. قال: "صلوا على صاحبكم" فقال رجل من الأنصار يقال له أبو قتادة صل عليه يا رسول الله وعلي دينه.

الأخبثين (¬1)، فدخول المدافع في صلاة الجماعة ليس بمشروع، والجماعة إذا فاتته وهو على تلك الحال فلا نقص عليه في فوتها، لأنه تركها في حال قد نهاه الشارع عن قربانها، فهو بامتثاله النهي أسعد منه بالحرص على طلب فضيلة [26] الجماعة. قال - كثر الله فوائده - وكاستعمال الماء مع خروج الوقت أو التيمم وإدراك الصلاة في الوقت، فنقول: لا يبرأ عن الشبهة إلا من صلى صلاتين: واحدة بالتيمم، والأخرى بعد خروج الوقت بالوضوء، كقول المرتضى أو الناصر (¬2) .. انتهى. أقول: إن كان من اتفق له ذلك مجتهدا فالاعتبار بما يترجح له، فإن كان يرى في اجتهاده وجوب التيمم لخشية خروج الوقت، كان فرضه التيمم، وإن كان يرى وجوب الوضوء وإن خرج الوقت كان فرضه ذلك، وإن تردد لتعارض الأدلة كان المقام بالنسبة إليه من المشتبهات يفعل ما يراه أحوط، لكن لا يفعل الصلاة مرتين، فإنه قد صح النهي عن أن تصلى صلاة في يوم مرتين (¬3). وإذا كان من اتفق له ذلك مقلدا فغرضه العمل بقول من يقلده، إذا كان لا يحصل معه التردد بسبب خلاف من يخالف إمامه، وإلا كان المقام شبهة في حقه على التفصيل المتقدم. قال - عافاه الله تعالى - وكامرأة خطبها معيب بما يفسخ به عالم ورع، وصحيح ¬

(¬1) أخرج مسلم رقم (560) وأحمد (6/ 43، 54، 73) وأبو دواد رقم (89) وابن أبي شيبة (2/ 100) والحاكم (1/ 168) والبيهقي (3/ 71) عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافع الأخبثين". وهو حديث صحيح. (¬2) انظر البحر الزخار (1/ 121 - 122). (¬3) أخرج أبو داود رقم (579) والنسائي (2/ 114) والبيهقي (2/ 303) وابن خزيمة (3/ 69) وابن حبان رقم (432) وأحمد (2/ 19) عن سليمان بن يسار - يعني: مولى ميمونة - قال: أتيت ابن عمر على البلاط وهم يصلون، فقلت: ألا تصلي؟ قال: قد صليت إني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا تصلوا صلاة في يوم مرتين". وهو حديث صحيح بمجموع طرقه.

جاهل فاسق، فنقول بترك الكل أم يكون الخروج من الشبهة بتزويج المعيب أو الصحيح الموصوفين بما ذكر ... انتهى. أقول: الصحيح الفاسق ليس ممن ترضى المرأة دينه وخلقه فلا يجب عليها قبول خطبته، بل لا يجوز لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أمرنا بقبول خطبة من نرضى دينه وخلقه (¬1). وأما المؤمن المعيب فإجابته متوقفة على اغتفار المخطوبة لعيبه، فإن لم تغتفر ذلك كان لها الامتناع ولا تجب عليها الإجابة فليس المقام من المشتبهات التي ينبغي الوقوف عندها، لأن المانع في الخاطب الأول أعني الفاسق راجع إلى الشرع فلا يحل الإجابة له شرعا، والمانع في الخاطب الثاني [27] أعني المؤمن المعيب راجع إلى المخطوبة فيجوز لها إجابته مع الرضا بعيبه. قال - كثر الله فوائده -: فهذه أطراف ذكرتها لكم على جهة التنبيه، وكيف يكون الحكم فيما هذا حاله؟ وما هو المشتبه منها؟ وما لا؟. ومثل المسألة التي نحن بصددها في الحدود المحدودة بين القبائل وشجار الزكوات والحرفة والمعاش هل يكون الإجمال في ذلك والوصف للواقع من دون جزم بأن هذا الوجه الشرعي اتقاء للحرام أو الشبهة؟ أم يكون الإجمال في ذلك ليس اتقاء؟ .. انتهى. أقول: قد قدمنا في البحث الثاني من أبحاث هذا الجواب في تحقيق الشبهة، وما هو الذي ينبغي لمن اشتبه عليه أمر من الأمور ما لا يحتاج إلى إعادته هنا فليرجع إليه، ومسألة الحدود وما ذكر بعدها إن كان المجتهد يرى عدم ثبوتها وبطلانها. فلينظر لنفسه المخرج ¬

(¬1) أخرج الترمذي في "السنن" رقم (1085) وقال: حديث حسن غريب من حديث أبي حاتم المزني قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير، قالوا: يا رسول الله وإن كان فيه؟ قال: إذا جاءكم من ترضون دينه، وخلقه، فأنكحوه ثلاث مرات". وهو حديث حسن. انظر: "الإرواء" (6/ 266).

إذا ابتلي بشيء منها، وألجئ إلى الفتيا فيها، أو الحكم بشيء ولم يجد بدا من ذلك، وأقل الأحوال إذا لم يمكنه الصدع بالحق والقضاء بأمر الشرع أن يتخلص عن ذلك بالإحالة على غيره، فإن لم يتمكن من ذلك كأن يفوت بترك الخوض في مثل هذه الأمور مصالح دينية، أو ينشأ عن هذا الترك مفاسد في أمور أخرى فعليه أن يحكي ما جرت به الأعراف، واستمرت عليه العادات، ويحيل الأمر على ذلك، ولا يحيله على الشرع المطهر فيكون قد أعظم الفرية على الدين الحنيف، وخلط أحكام العادة بأحكام الوضع والتكليف، وإذا كان قد تقدمه من يجوز تقرير ما فعله من الأئمة والحكام الأعلام فليقل في مثل هذه الأمور التي لا تجري على مناهج الشرع، قال [28] بهذا فلان، وفعله فلان، وحكم به فلان، وأفتى به فلان. وينبه على أن مسلك الشرع معروف، ومنار الدين مكشوف، ومنهج الحق مألوف مثلا إذا اضطر إلى فصل بعض الخصومات المتعلقة بالحدود التي بين أهل البوادي، ووجد بأيديهم ما يفيد بأن الواضع لذلك بينهم أحد المرجوع إليهم في العلم والدين، وأنه لا سبيل إلى الحكم بالشركة (¬1) الذي هو المنهج ¬

(¬1) أخرج أبو داود رقم (3477) وأحمد (5/ 364) والبيهقي (6/ 150) عن أبي خداش، عن رجل من المهاجرين من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: غزوت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثا، أسمعه يقول: "المسلمون شركاء في ثلاث: في الكلأ، والماء، والنار". وهو حديث صحيح. فوائد لا بد من الوقوف عليها في هذا الحديث: 1 - سلامة الدين باتقاء الشبهات: "فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه": فمن ترك ما يشتبه عليه سلم دينه مما يفسده، أو ينقصه، وعرضه مما يشينه، ويعيبه فيسلم من عقاب الله وذمه، ويدخل في زمرة المتقين الفائزين بثناء الله تعالى وثوابه. 2 - من وقع في الشبهات وقع في الحرام، وذلك بوجهين: أ - أن من لم يتق الله تعالى، وتجرأ على الشبهات، أفضت به إلى المحرمات بطريق اعتياد الجرأة، والتساهل في أمرها، فيحمله ذلك على الجرأة على الحرام المحض ولهذا قال بعض المتقين: الصغيرة تجر إلى الكبيرة، والكبيرة تجر إلى ... قال تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) [المطففين: 14]. ب - أن من أكثر من مواقعة الشبهات أظلم عليه قلبه، لفقدان نور العلم ونور الورع، فيقع في الحرام ولا يشعر به، وإلى هذا النور الإشارة إلى قوله تعالى: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه) [الزمر: 22]. وإلى ذلك الإظلام والإشارة بقوله: (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) [الزمر: 22]. 3 - قوله: "كالراعي حول الحمى يوشك أن يرتع فيه" هذا مثل ضربه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمحارم الله تعالى، وأصله: أن ملوك العرب كانت تحمي مراعي لمواشيها الخاصة بها، وتحرج بالتوعد بالعقوبة على من قربها، فالخائف من عقوبة السلطان يبعد بماشيته من ذلك الحمى، لأنه إن قرب فالغالب الوقوع وإن كثر الحذر، إذ قد تنفرد الفاذة، وتشذ الشاذة ولا تنضبط، فالحذر أن يجعل بينه وبين ذلك الحمى مسافة بحيث يأمن فيها من وقوع الشاذة والفاذة، وهكذا محارم الله تعالى، لا ينبغي أن يحوم حولها مخافة الوقوع فيها. 4 - قوله: "ألا وهي القلب" هذا اللفظ في الأصل مصدر: قلبت الشيء أقلبه قلبا: إذا رددته على بدأته. وقلبت الإناء: إذا رددته على وجهه، وقلبت الرجل عن رأيه، إذا صرفته عنه، وعن طريقه كذلك. ثم نقل هذا اللفظ، فسمي به هذا العضو الذي هو أشرف أعضاء الحيوان، لسرعة الخواطر فيه، ولترددها عليه، وقد نظم بعض الفضلاء هذا المعنى فقال: ما سمي القلب إلا من تقلبه ... فاحذر على القلب من قلب وتحويل ثم لما نقلت العرب هذا المصدر لهذا العضو التزمت فيه تضخيم قافه، تفريقا بينه وبين أصله، وليحذر اللبيب من سرعة انقلاب قلبه، إذ ليس بين القلب والقلب إلا التفخيم. وما يعقلها إلا كل ذي فهم مستقيم. 5 - واعلم أن هذا القلب لم يشرف من حيث صورته الشكلية، فإنها موجودة لغيره من الحيوانات البهيمية، بل من حيث هو مقر لتلك الخاصية الإلهية، علمت أنه أشرف الأعضاء، وأعز الأجزاء، إذ ليس ذلك المعنى الموجود في شيء منها، ثم إن الجوارح مسخرة له، ومطيعة فما استقر فيه ظهر عليها، وعملت على مقتضاه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وعند هذا انكشف لك معنى قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله" ولما ظهر ذلك وجبت العناية بالأمور التي يصح بها القلب، ليتصف بها، وبالأمور التي تفسد القلب ليتجنبها ومجموع ذلك علوم وأعمال وأحوال. العلوم وهي ثلاثة: 1 - العلم بالله تعالى، وصفاته، وأسمائه، وتصديق رسله فيما جاءوا به. 2 - العلم بأحكامه عليهم ومراده منها. 3 - العلم بمساعي القلوب من خواطرها، وهمومها، ومحمود أوصافها، ومذمومها. الأعمال: - وأما أعمال القلوب، فالتحلي بالمحمود من الأوصاف. - والتخلي عن المذموم منها. - منازلة المقامات والترقي عن مفضول المنازلات إلى سني الحالات. الأحوال: - مراقبة الله تعالى في السر والعلن. - التمكن من الاستقامة على السنن. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (4/ 490 - 497)، و"إكمال المعلم بفوائد مسلم" (5/ 284 - 286).

الشرعي فليقل في مرقومه: قال فلان كذا، ومنهج الشرع الاشتراك في الماء والكلأ، ولكنه قد حكم بما رآه صوابا. ولا سبيل إلى نقض حكمه أو نحو ذلك من المعاريض التي فيها لمن وقع في مثل هذه الأمور مندوحة. وهكذا سائر ما ذكره السائل - دامت فوائده - ... وإلى هنا انتهى الجواب. قال في الأم التي بخط مؤلفه حفظه الله وكثر فوائده ما لفظه: وكان الفراغ من تحريره في نهار الجمعة لعله تاسع عشر شهر محرم الحرام سنة 1215 هـ. انتهى والحمد لله أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم، وكان الفراغ من نقله صبح يوم الخميس 8 شهر صفر سنة 1217 بقلم إبراهيم

ابن عبد الله الحوثي لطف الله به. بلغ قراءة ومقابلة على نسخة منقولة من خط المؤلف عافاه الله شهر صفر سنة 1343 حرره الحقير محمد بن أحمد الشاطبي [29]. تم القسم الثالث - الحديث وعلومه - من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني ولله الحمد والمنة ويليه القسم الرابع - الفقه وأصوله - إن شاء الله * * * تم ولله الحمد والمنة المجلد الثاني من كتاب الفتح الرباني ويليه المجلد الثالث إن شاء الله

الفقه وأصوله

رابعاً: الفقه وأصوله

رسائل القسم الرابع: الفقه وأصوله 59 - التشكيك على التفكيك لعقود التشكيك (17/ 1). 60 - القول المفيد في حكم التقليد (22/ 3). 61 - بغية المستفيد في الرد على من أنكر العمل بالاجتهاد من أهل التقليد (3/ 5). 62 - بحث في نقض الحكم إذا لم يوافق الحق (41/ 2). 63 - رفع الخصام في الحكم بعلم الحكام (40/ 2). 64 - بحث في العمل بقول المفتي صح عندي (26/ 4). 65 - بحث في الكلام على أمناء الشريعة (16/ 4). 66 - بحث في كون الأمر بالشيء نهي عن ضده (32/ 3). 67 - رفع الجناح عن نافي المباح (34/ 1). 68 - جواب سؤالات من الفقيه قاسم لطف الله (5/ 4). 69 - بحث في كون أعظم أسباب التفرق في الدين هو على الرأي (29/ 4). 70 - الدرر البهية في المسائل الفقهية (52/ 2). 71 - بحث في دم الخيل (25/ 5). 72 - جواب يؤال في نجاسة الميتة (14/ 4). 73 - جواب في حكم احتلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (22/ 1). 74 - القول الواضح في صلاة المستحاضة ونحوها من أهل العلل والجرائح (20/ 4). 75 - بحث في دفع من قال أنه يستحب الرفع في السجود (16 - 5). 76 - بحث في أن السجود بمجرد من غير انضمامه إلى صلاة عبادة مستقلة بأجر الله (7/ 5) (¬1). ¬

(¬1) الرقم إلى يمين الخط يشير إلى رقم الرسالة في المجلد. والرقم إلى شمال الخط يشير إلى رقم المجلد من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

77 - كشف الرين في حديث ذي اليدين (8/ 2). 78 - بحث في الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم (35/ 4). 79 - جواب سؤالات وردت من بعض العلماء (9/ 4). 80 - جواب سؤالات وردت من كوكبان (6/ 4). 81 - بحث في جواب سؤالات تتعلق بالصلاة (39/ 4) 82 - رفع الأساس لفوائد حديث ابن عباس (2/ 2). 83 - تحريم الدلايل على مقدار ما يجوز بين الإمام والمؤتم من الارتفاع والانخفاض والبعد والحايل (3/ 2). 84 - بحث في كثرة الجماعات في مسجد واحد (21/ 5). 85 - جواب عن الذكر في المسجد (22/ 4). 86 - سؤال في هل يجوز قراءة كتب الحديث كالأمهات في المساجد مع استماع العوام الذين لا فطنة لهم وجواب الشوكاني عليه (10/ 1). 87 - إشراق الطلعة في عدم الاعتداد بإدراك ركعة من الجمعة (4/ 2). 88 - اللمعة في الاعتداد بإدراك من الجمعة (5/ 2). 89 - ضرب القرعة في شرطية خطبة الجمعة (6/ 2). 90 - الدفعة في وجه ضرب القرعة (7/ 2). 91 - بحث في الكسوف (29/ 1). 92 - جواب على سؤال ورد من بعض أهل العلم يتضمن ثلاث أبحاث: (11، 12، 13/ 2). 1 - بحث في المحاريب. 2 - بحث في الاستبراء. 3 - بحث في العمل بالرقمومات. 93 - الصلاة على من عليه دين (33/ 3).

94 - شرح الصدور في تحريم رفع لقبور (4/ 4). 95 - جواب سؤالات وردت من تهامة (8/ 4). 96 - سؤال عن لحوق ثواب القراءة المهداة من الأحياء إلى الأموات (31/ 1). 97 - إفادة السائل في العشر المسائل (38/ 4).

التشكيك على التفكيك لعقود التفكيك

التشكيك على التفكيك لعقود التفكيك تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه

1 - عنوان الرسالة: (التشكيك على التفكيك لعقود التشكيك). 2 - موضوع الرسالة: أصول الفقه. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم أحمد من أعاننا على تشكيك التفكيك لعقود التشكيك، وأشكر من سهل لنا الطريق إلى رد الاعتساف .. 4 - آخر الرسالة: .. كما من خط محصلة ومؤلفه القاضي بدر الدين وحاكم المسلمين محمد بن علي الشوكاني حفظه الله في ذي الحجة سنة (1203) وجهلع قوة عين المسلمين وأبقى حكمه في جميع الأنام، وسدد إلى ما فيه رضاه آمين آمين آمين. 5 - نوع الخط: نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: (23) صفحة. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: (28) سطرًا ما عدا الصفحة الأولى. 8 - عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة تقريبًا. 9 - الرسالة من المجلد الأول من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

بسم الله الرحمن الرحيم أحمد من أعاننا على تشكيك التفكيك لعقود التشكيك، وأشكر من سهل لنا الطريق إلى رد الاعتساف، ويسر لنا السبيل إلى سلوك جادة الإنصاف، وأصلي وأسلم على القائل: «تركتكم على الواضحة، [1] ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا جاحد» (¬1) وعلى آله وصحبه والسابقين إلى كل فضيلة، الفائزين بكل المحامد، القارعين بسيوف هديهم ضلال كل زائغ معاند، وبعد: فإنه سأل الحقير محمد بن علي الشوكاني- غفر الله لهما- بعض سادتي الأعلام، من آل الإمام النظر في رسالة سيدي العلامة إسحاق بن يوسف بن المتوكل (¬2) ¬

(¬1) وهو جزء من حديث أخرجه أبو داود رقم (4607) والترمذي رقم (2676) وابن ماجه رقم (43، 44) وأحمد (4/ 126 - 127) والحاكم في: «المستدرك» (1/ 95 - 96) قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح ليس له علة، ووالقه الذهبي وهو كما قالا، عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله، إن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ قال::"تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، ومن يعش فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بما البيضاء ليها كنهارها، لا يزيغ عنها غلا هالك، ومن يعش فسيرى اختلافا كثيرًا، فعليكم بما عرفتم سنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، وعليكم بالطاعة وإن كان عبدًا حبشيًا عضوا عليها بالنواجذ فإنما المؤمن كالجمل الآنف، كلما قيد انقاد». (¬2) هو السيد إسحاق بن يوسف بن المتوكل على الله إسماعيل ابن الإمام القاسم بن محمد ولد حسبما وجد بخطه في سنة 1111هـ سكن (سرية) وهي نزهة قرب ذمار وقرأ علم الحديث على السيد محمد بن إسماعيل الأمير. له مصنفات منها: «تفريج الكروب في مناقب علي رضي الله عنه» وله رسائل منها: وله رسائل منها: رسالة: «الوجه الحسن المذهب للحزن» له أشعار رائقة جمعها السيد الأديب محمد بن هاشم بن يحيى الشامي. مات سنة 1173هـ. انظر: «البدر الطالع» رقم (84)، و «نشر العرف» (1/ 324 - 341).

المسماة بالتفكيك لعقود التشكيك (¬1) فوجدتها (¬2). مع حسنها في بابها قد اشتملت على أطراف خارجة عن الإنصاف، فأشرت إلى ذلك بحسب الإمكان، ومن الله أستمد الإعانة، وعليه التكلان. قوله (¬3) رحمه الله: فلا حرج عليه في أي قول أخذ به. أقول: هذا تصريح من المؤلف- رحمه الله- بجواز التقليد، وعلى ذلك بني رسالته هذه، والمانع باق على قبح التقليد (¬4) المعلوم الأصلي عقلا وشرعا، ولم يأت المجوز بحجة صالحة ¬

(¬1) في هامش المخطوط ما نصه: «هذا جواب حررته في أيام الطلب، وقد ألفت بعده رسالة سميتها: القول المفيد في حكم التقليد» نقلت فيها نصوص الأمثلة الأربعة على المنع من التقليد، ونصوص جماعة من أئمة الآل. وألفت أيضًا «أدب الطلب ومنتهى الأرب»، وأطلت المقال والاستدالال، وهذا بالذي ذكرته ها هنا إنما هو مجرد دفع لدعوى صاحب الرسالة التي أجبت عليها، فليعلم ذلك. (¬2) قال الإمام الشوكاني في «البدر الطالع» (ص153):» .. وجمع رسالة سماها: التكفيك لعقود التشكيك» فلما وقفت عليها لم أستحسنها، بل كتبت عليها جوابا سميته «التشكيك على التفكيك» ولعل الذي ح مله على ذلك الجواب تعويل جماعة عليه ممن علم أنه السائل والظاهر أنه قصد بالسؤال ترغيب الناس إلى الأدلة، وتنفيرهم عن التقليد كما يدل على ذلك قصيدته التي أوردها القاضي العلامة أحمد بن محمد قاطن في كتابه الذي سماه «تحفة الإخوان بسند سيد ولد عدنان» وأولها: تأمل وفكر في المقالات وأنصت ... وعد عن ضلالات التعصب وألفت وقد ذيلت أنا- الشوكاني- هذه القصيدة بقصدية أطول منها وأولها: مسامع من ناديت يا عمرو سدت ... وصمت لذي صفو من النصح صمت وهي موجودة في مجموع شعري وقد أوردت كثيرًا منها في الجواب على التفكيك المشار إليه"أهـ (¬3) في هامش المخطوط: من رام أن ينتفع بهذا الجواب فليطع على الرسالة التي هي جواب عليها لأبي لم أنقل من ألفاظها هنا إلا حروفا بسيرة كما ستعرف ذلك (¬4) التقليد لغة: وضع الشيء في النق حال كونه محيطا به أي بالعنق وذلك الشيء يسمى قلادة، وجمعها قلائد. انظر: «أساس البلاغة» (ص785)، «مختار الصحاح» (ص548). وقال ابن فارس في «معجم مقاييس اللغة» (ص829): قلد: القاف واللام والال أصلان صحيحان، يدل أحدهما على تعليق شيء على شيء وليه به والآخر والآخر على حظ ونصيب التقليد فلي اصطلاح الأصولين: أخذ مذهب الغير من غير معرفة دليله. وقيل: التقليد أن تقول بقوله وأنت لا تعرف وجه القول ولا معناه انظر: «الرد على من أخلد إلى الأرض» (ص120)، «الكوكب المنير» (4/ 350). «التعريفات للجرجاني (ص34)، «البحر المحيط» (6/ 270).

للاستدلال بها على هذا الأصل العظيم، وأشف شيء جاء به دعوى الإجماع، وليتها صحت، ولكنها مبنية على شفا جرف هار، فنقول: يا هذا، إن أردت إجماع الصحابة والتابعين فهم أكرم على اله من أن توقعهم في الخسيسة، أو تهين قدورهم الشريفة بالتلبس لهذه النقيصة، ولهذا لم تحدث إلا بعد انقراض عصورهم، ولم يسمع به إلا بعد إظلام الكون بأفول بدورهم، فكيف يدعى على قوم القول بشيء لم يسمعوا به‍أو الإجماع على أمر لم يزنوا به‍وهذا معلوم لا يشك فيه منصف، ولا متعصب، ولا يحوم حول ادعائه مقصر ولا كاهل. وإن أدرت إجماع أهل تلك العصور التي حدثت فيها هذه المذاهب، وظهرت في خلالها تلك البدع والمصائب، بالخالف لم يزل موجودا منذ تلك الأعصار، متطهرا على رؤوس الأشهاد بالإنكار، مستمرا وجوده إلى الآن. وقد صرح بالمنع جمع جم منهم معتزلة بغداد، والجعفران (¬1) ¬

(¬1) هما جعفر بن حرب الهمداني أبو الفضل، وجعفر بن مبشر بن أحمد بن محمد أبو محمد. " طبقات المعتزلة» (ص71،73،85).

والغزالي، والرازي أنه ليس بإجماع، ولا حجة، وهذا هو المذهب الحق إن أمعنت النظر، لكثرة الاحتمالات الحاملة على السكوت من عدم قول لهم في ذلك، أو كان لهم ولم ينقل، أو عدم تمام النظر، أو الوقف لتعارض الأدلة، أو للتوقير أو التعظيم، أو للهيبة أو للفتنة، أو نحو ذلكك، والقول بأن هذه الاحتمالات خلاف الظاهر. وذهب أبو هاشم، أبو الحسن الكرخي، والآمدي، وابن الحاجب، ومن الأئمة أحمد بن سليمان، والمؤيد بالله أحمد بن الحسين إلى أنه حجة ظنية، ولم يذهب إلى أنه حجة قطعية إلا أحمد بن حنبل، وبعض الحنفية، والشافعية، وهو مذهب مرجوح، ومع هذا فالظاهر عدم حجية مطلق الإجماع (¬1) وليس هذا محل إييراد ما يرد على أ دلته مع هذا ضعفها من المنع والنقض والمعارضة، ولا موضع إبراز الأدلة القوية على امتناع نقل الحكم إلى أهل الإجماع، وامتناع العلم به، ونقله إلى من تحتج به. والعجب من الرواية السابقة على أحمد بن حنبل، وجعله من القائلين بأن الإجماع السكوتي (¬2) حجة قطعية، وقد صح عنه القول بامتناع العلم (¬3).بمطلق الإجماع عادة. ¬

(¬1) انظر: «المنخول» (ص303) تيسير التحرير» (3/ 227ن). «إرشاد الفحول» (ص269). (¬2) الإجماع السكوتي: هو أن ينقل عن أهل الإجماع قول أو فعل، مع نقل رضاء الساكتين حتى أنهم لو أفتوا لما أفتوا إلا به، ولو حكموا لم يحكموا إلا به ويعرف رضاؤهم: بعدم الإنكار مع الاشتهار، وعدم ظهور حامل لهمعلى السكوت، وكونه من المسائل الاجتهادية. ولا سيما أن الظن بالمجتهدين أنهم لا يحجمون عن إبدائهم إظهارًا للحق، وإن لقا من جراء ذلك العنت والضيق. وأما إذا لم نتمكن من معرفة دلالة السكوت على الرضا ولا من انتفاء موانع التصريح فلا يعتبر ما حصل الإجماع والضيق. وأما إذا لم نتمكن من معرفة دلاالة السكوت على الرضا ولا من انتفاء موانع التصريح فلا يعتبر ما حصل الإجماع المراد. انظر: «حجية الإجماع» الفرغلي (ص168 - 173)، «إرشاد الفحول» (ص271). (¬3) قال ابن تيمية في «المسود» (ص315 - 316): الذي أنكره أحمد دعوى إجماع المخالفين بعد الصحابة أو بعدهم وبعد التابعين، أو بعد القرون الثلاثة المحمودة، ولا يكاد يوجد في كلامه احتجاج بإجماع بعد عصر التابعين أو بعد القرون الثلاثة، مع أن صغار التابعين أدركوا القرن الثالث، وكلامه في إجماع كل عصر إنما هو من التابعين، ثم هذا نهي عن دعوى الإجماع العام النطقي وهو كالإجماع السكوتي، أو إجماع الجمهور من غير علم بالمخالف، فإنه قال في القراءة خلف الإمام: ادعى الإجماع في نزل الآية وفي عدم الوجوب في صلاة الجهر، وإنما فقهاء المتكلمين كالمريسي والأصم يدعون الإجماع ولا يعرفون إلا قول أبري حنفية ومالك، ونحوهما، ولا يعملون أقوال الصحابة والتابعين، وقد ادعى الإجماع في مسائل الفقه غير واحد مثل مالك ومحمد بن الحسن والشافعي وأبي عبيد في مسائل وفيها خلاف لم يطلعوا عليه

وروي عنه أنه قال: من ادعى وجود الإجماع فهو كاذب (¬1). ومن أدلة القائلين بجواز التقليد قول الله تعالى: {فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (¬2) والاستدلال بهذه الآية على هذه الدعوى باطل، إذا المراد السؤال (¬3) ¬

(¬1) وقد حمل أصحاب أحمد هذه العبارة الموهمة لإنكاره الإجماع على أمور منها: 1 - حمل ما روي عنه من الإنكار على الورع، وممن حمله على الورع القاضي أبو يعلى وأبو الخطاب. ومن تابعهما من الحنابلة وغيرهم وقد استندوا في حملهم هذا إلى ما ورد في رواية أبي طالب، وقو أحمد فيها: لا أعلم فيه اختلافا فهو أحسن من قوله: إجماع. 2 - حمل ما روي عنه من الإنكار على من ليس له معرفة بخلاف السلف وهذا أيضًا من المحامل التي ذكرها القاضي وأبو الخطاب، وحاصل هذا أن من لم يعلم الخلاف لا يجوز له أن يدعي الإجماع لأنه قد يكون هناك خلاف لم يعرفه ووجود الخلاف يناقض الإجماع. 3 - أن الأصوليين من الحنابلة لم ينقل عن أحد منهم إنكار الإجماع وأنه لا يحتج به ولا يصار إليه كما هو موجود في كتبهم. 4 - أن كتب الفروع لدى الحنابلة فيا الاحتجاج على كثير من المسائل بإجماع الأمة وغالبا ما يقال: هذه المسألة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع ويبنون ذلك. انظر: «أصول مذهب الإمام أحمد» (ص360) «البحر المحيط» (4/ 439)، الكوكب المنير» (2/ 213). (¬2) [النحل: 43]، [الأنبياء:7]. (¬3) قال ابن الجوزي في «زاد المسير» (4/ 449): نزلت الآية في مشركي مكة حيث أنكروا نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا، فهلا بعث إلينا ملكا، فرد الله تعالى عليهم بقوله: {وما أرسلنا من قبلك} إلى الأمم الماضية يا محمد {إلا رجالا} آدمين {فسئلوا أهل الذكر}. أي العلماء بالتوراة والإنجيل وأخبار من سلف يخبرونكم أن جميع الأنبياء كانوا بشرا {إن كنتم إلا تعلمون} أن الله بعث محمدًا رسولًا من البشر. قلت: إن الآية ورادة في سؤال خاص خارج عن محل النزاع كما يفيد السياق وإن قيل الغيرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، قلنا أن المأمور بسؤالهم هم أهل الذكر، والذكر هو القرآن والسنة كما ذكره الله في قوله مخاطبا نساء رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة [الأحزاب: 34]. وآياته: القرآن، والحكمة، والسنة، فالأمر في الآية للجاهل أن يسال أهل القرآن والحديث عنهما ليخبروه فإذا أخبروه به. فالآية حجة على المقلدة، وليست بحجة لهم، لأن المراد أنهم يسألون أهل الذكر ليخبروهم به، فالجواب من المسؤولين أن يقولوا قال الله كذا، وقال رسوله كذا، فيعمل السائلون بذلك. انظر::مجموع الفتاوى» (20/ 15،203)، «أعلام الموقعين» (2/ 168).

عن نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو عن كون الأنبياء قبل رجالا، وليس هذا من العموم حتى يرد أنه لا يقصر على ذلك، بل من باب الإطلاق، ولو سلم لكان الظاهر المتبادر منالسؤال غير محل النزاع أعني التقليد الذي هو قبول قول الغير دون حجته، بل المراد استرووهم النصوص، واستفسروهم عن معانيها، بدلالة أرخ الآية، على أن الآية متناولة للعمليات كتناولها للعمليات، والختم لا يجيز التقليد في غير العملي فهي حجة عليه من هذه الحيثية. ومن أدلتهم أيضًا سكوت الصحابة عن المفتين والمستفتين، وهو وهم، لأن سكوتهم عن الرواية (¬1) بالمعنى لا عن الرأي الذي هو محل النزاع، وكيف يكون سكوتهم تقريرا لشيء لا يعرفونه!. ومن أدلتهم على ذلك قولهم: العامي إذا وقعت له واقعة كان مأمورا بشيء فيها إجماعا، وليس هو التمسك بالبراءة الأصلية إجماعا، ولا الاستدلال بأدلة سمعية، إذا الصحابة لم ..................... ¬

(¬1) اعلم أن قبول الرواية ليس بتقليد، فإن قبولها هو قبول للحجة والتقليد هو قبول الرأي.

يلزموهم تحصيلها (¬1)، ولأنه يمنعهم من الاشتغال بمعاشهم مع الاحتياج إلى العلم بعلوم كثيرة، سيما [3] في زماننا يضيق عنها وقت الواقعة، فلم يبق إلا التقليد. قلنا: الواجب عليه عند حدوث الواقعة الرجوع إلى أهل الذكر، وسؤالهم عن حكم الله فيها على طريق الرواية، من دون تقليد ولا اجتهاد، وهذا هو الهدى القويم الذي درج عليه عوام الصحابة أجمع، ومن بعدهم من التابعين، على أن هذا التقرير منتقض درج عليه عوام الصحابة أجمع، ومن بعدهم من التابعين، على أن هذا التقرير منتقض بإلزامكم لهم معرفة أدلة العقليات (¬2) وتحريم التقليد عليهم فيها، وهي محتاجة إلى مثل ما احتاجت إليه المسائل العلمية، فالإلزام مشترك، والدفع بأن العقليات تكفي فيها المعرفة الإجمالية (¬3) ممنوع، هذا جملة ما استدل به من قال بجواز التقليد، وقد عرفت ما فيه. وعلى الجملة فالتقليد من التقول على الله بغير علم .. وقد نهى الله من ذلك بقوله: ¬

(¬1) قال الشوكاني في «إرشاد الفحول» (ص864):» ..... وقد كفى غالب الصحابة الذين لمي بلغوا درجة الاجتهاد ولا قاربوها الأيمان الجملي، ولم يكلفهم رسول الله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو بين أظهرهم بمعرفة ذلك ولا أخرجهم عن الإيمان بتقصيرهم عن البلوغ إلى العلم بذلك بأدلته. (¬2) قال أبو منصور كما): في «البحر المحيط» (6/ 278): « . بل مذهب سابقهم ولا حقهم الاكتفاء بالإيمان الجملي، وهو الذي كان عليه خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم بل حرم كثير منهم النظر في ذلك وجعله من الضلالة والجهالة. ولم يخف هذا من مذهبهم حتى على أهل الأصول والفقه. (¬3) جاء في «فواتح الرحموت» فيما يتسفتي به وهو: المسائل الشرعية والعقلية على المذهب الصحيح لصحة إيمان المقلد عند الأئمة الأربعة ... وكثير من المتكلمين .. خلافا للأشعري، ,إن كان آثما في ترك النظر والاستدلال. وهذا ما أيده الشوكاني مبينا صحة إيمان العوام مطلقا. ققد قال الشوكاني في «إرشاد الفحول» (ص 864): ومن أمعن النظر في أحوال العوام وجد هذا صحيحا فإن كثير منهم تجد الإيمان في صدره كالجبال الرواسي، نجد بعض المتعلقين بعلم الكلام المشتغلين به الخائضين في معقولاته التي يتخبط فيها أهلها لا يزال ينقص إيمانه وتنتقص منه عروة عروة فإن أدركته الألطاف الربانية نجا وإلا نجا ,إلا هلك، ولهذا تمنى كثير من الخائضين في هذه العلوم المتبحرين في أنواعها في آخر أمره أن ويكون على دين العجائز. انظر: «المسودة» (ص457)، و «تيسير التحرير» (4/ 243) اللمع (ص70).

{ولا تتعبوا خطوت الشيطان إنه لكم عدو مبين، إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لاتعلمون، (¬1) ثم قال: {وإذا قيل لهم اتعبوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه أباءنا أولو كان ءابآؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} (¬2) وحرمة تعالى بقوله: {إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق} إلى قوله {وأن تقولوا على الله ما لا تعملون} (¬3) فصرحن- جل جلاله- بحصر التحريم في هذه الأشياء التي من جملتها التقول على الله بغير علم، والقول بأن ذلك مختص بالعقليات كما صرح بذلك المحقق ابن الإمام في شرح الغاية وغيره تقييد لا دليل عليه، وأيضا التقليد يوجب اتباع الخطأ، لأنه جائز الوقوع من المجتهد، وعلى تقدير وقوعه يجب إتباعه، والدفع بأن الخطأ جائز مع إبداء المستند مسلم، ولكنه عفوا بالنسبة إليه، لورود الدليل الصحيح المصرح أن للمخطئ من المجتهدين أجرا. قوله: ولم يكلفه الله أن يطلب الأحكام إلخ .. أقول: الأمر بالطلب عام، ولا مخصص لبعض منن تعلق الأمر به بالطب، والقول بأن تحصيل ذلك ليس في وسع المقلد، أو أنه من تكليف مالا يطاق- كما ذكر المؤلف- ممنوع، والسند أن طلب الاجتهاد، وتحصيل شروطه فرض واجب على الأمة بالإجماع، ولكنه من فروض الكفايات التي تسقط بوجود من هو قائم بها، وتصير من فروض الأعيان عند عدم من يقوم بها. وغذ ثبت أنه من فراض الدين ثبت عدم تعسره لقول الله جل جلاله: {وما جعل عليكم في الدين من .................................... ¬

(¬1) [البقرة: 168 - 169] (¬2) [البقرة: 170] (¬3) [الأعراف: 33]

حرج} (¬1) وقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العشر} (¬2) وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بعثت بالحنيفية السمحة» (¬3). والمؤلف- رحمه الله- لا ينكر أن الله تعالى يريد منا اليسر، ولا يريد منا العسر [4]، ويقر أن الله سبحانه يريد منا الاجتهاد، فإذا كان الاجتهاد ليس في وسع المقلد، ولا مما يطيقه، فهو عسر بلا شك، فاستلزم أن الله سبحانه يريد منا التعسر أو التعذر. فإن قال: إنما أردت المشقة والمشقة تلازم التكاليف غالبًا. قلنا: فما بالك خصصت هذه الفريضة بالسقوط عند حصول المشقة‍مع أن المشقة لا تنفك عن غالب الأمور الواجبة، على أن إرادة المشقة لا يساعد عليها كلامك، لأن الأمور التي تصاحبها المشقة داخلة تحت الوسع والطاقة، وأنت قد جزمت بأن الاجتهاد خارج عنهما، فلزمك خروج ما ساواه في المشقة كالجهاد والحج والهجرة وتحوها، أو زاد عليه فيا كالورع الشحيح، وعبادة الله كأنك (¬4) تراه ونحوهما. قال الإمام العلامة محمد بن إبراهيم الوزير (¬5) رضوان الله عليه-: فإن قيل: فإذا ¬

(¬1) [الحج: 168 - 169] (¬2) [البقرة: 185] (¬3) أحرج أحمد في مسنده (6/ 116، 233) بسند قوي من حديث عائشة معروفًا: .. إني أرسلت بحنيفية سمحة (¬4) يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه (1/ 36 - 38) رقم (1/ 8) عن عمر بن الخطاب (¬5) انظر: «العواصم والقواصم» (1/ 250 - 253).

كانت الشريعة سهلة، فما معنى: حفت الجنة بالمكاره (¬1)؟ ولأي شيء مدح الله الصابرين، ووصى عباده بالصبر؟! قلنا: لأن النفوس الخيبيثة تستعسر السهل من الخير لنفرتها عنه، وعدم رياضتها، لا لصعوبته في نفسه، ولهاذ تجد أهل الصلاح يستسهول كثيرا مما يستعسره غيرهم، فلو كان العسر في نفس الأمر المشروع لكان عسرا على كل أحد، وفي كل حال، وقد نص الله تعالى على هذا المعنى فقال في الصلاة: {وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} (¬2) فدل على أن العسر والحرج لا يكونان في أفعال الخير، وإنما يكونان في نفوس السوء. قال الله تعالى: {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء} (¬3) فمدار المشقة في الطاعات على الدواعي والصوارف، ولهذا نجد قاطع الصلاة يقوم نشيطا إلى أعمال كثيرة أشق من الصلاة، وقد يكون العسر الموهوم في أعمال الخير من فساد القلب وكثرة الذنوب، وعدم الرياضة، وملازمة البطالة، ألا ترى ما فلي قيام الليل وإحيائه بالعبادة من المشقة على النفوس! وهو تسهل عليها سهره في كثير من الأحوال في العرسات والأسمار والسروات في الأسفار، فإذا عرفت هذا فاعلم أن من الناس من يحصل له من شدة الرغبة في العلم، وسائر الفضائل ما يسهل عليه ¬

(¬1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود في «السنن» رقم (4744) والترمذي رقم (2560) والنسائي (7/ 3 - 4) والحاكم (1/ 26 - 27) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وابن حبان رقم (7394) من حديث أبي هريرة وهو حديث حسن. (¬2) [البقرة: 45] (¬3) [الأنعام: 125]. قال ابن الويز في «العواصم» (1/ 253): فنص الله تعالى هذا المعنى الذي ذكرت لك هو أن الشيء المعين يكون عسيرًا على هذا سهلاً على هذا، فلو كان عسيرًا في نفسه، لكان عسيرا عليهما، ولكنه يسير في نفسه، وإنما يتعسر بحرج الصدر، والكسل، وقلة الدواعي ويستهل بنقيض ذلك

عزيزها، ويقرب إليه بعيدها، فلا معنى لتعسير الأمر الشرعي في نفسه، لأن ذلك يخالف كلام الله تعالى: وكلام رسوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-[5]. واعلم أن من العقوق لوم الخلي للمشوق في هذا يقول أبي الطيب (¬1): لا تعدل المشتاق في أشواقه ... حتى تكون حشاك في أحشائه أما عرفت أن حب المعالي يرخص العالي ويقوي ضعف الصدور على الصبر للعوالي وربما بدلت الأرواح لما هو أنفس منها من الأرباح. قال ابن الفارض (¬2): بذلت له روحي لراحة قربه ... وغير بعيد (¬3) بذلب الغال للغالي. وفي المقالات للزمخشري (¬4): عزة النفس، وبعد الهمة الموت الأحمر، والخطوب المدلهمة، ولكن من عرف منهل الذل فعافه استعذب نقيع العز وزعافه، وقد أجاد وأبدع من قال في هذا المعنى: صحب الله راكبين إلى العز ... طريقا من المخافة وعسرا شربوا الموت في الكريهة حلوا ... خوف أن يشربوا من الضيم مرا انتهى. هذا وقت وقد عرفت أنا لم نطلب من المتصف التي ذكرت الاجتهاد، ولا كلفناه قطع المهامة الفيح، وصعود تلك العقبة الكؤود، وانحطاط هاتيك الوهاد، بل سهلنا له الطريق، وكفلنا له السلامة من كل تعويق، وقلنا له: سل أئمة القرآن والسنة إذا أصبت ¬

(¬1) المتنبي: انظر ديوانه (ص 343). (¬2) انظر ديوانه (ص 174 - 176). (¬3) في الديوان (عجب) - وفي شعر ابن الفارض مؤاخذات عقدية نبه عليها العلماء الثقات، وقد تقدم ذكر ذلك في القسم الأول- العقيدة- بذلي الغال للغالي (¬4) في «أطواق الذهب» (ص22)

من حادثة بمحنة واستروهم نصوص الدين، وارم من عنقك ربقة المقلدين، واستفسرهم عن معاني المشكلات، وخذ عنهم ما صح لديهم من الرواية، ودع عنك الروايات، وأنشدناه تنشطا له قولنا في (¬1) هذا المعنى: وبادر (¬2) بإلقاء القلادة مسرعًا ... فإن الرضى بالأسر أعظم خزية فما (¬3) فاض من فضل الإله على الألي ... مضوا فهو فياض عليك بحكمة فما جاءنا نقل بقصر ولا أتى ... بذلك حكم للعقول الصحيحة (¬4) ولا تك مطواعا ذلولا لرائض ... نصير بهذا مشبها للبهيمة فهذا هو الداء العضال الذي سرى ... بهذا الورى بل أصل كل بلية ونحن مع مع هذا نقرب له هذه المسافة التي صار عن الظفر بها في أشد الياس، وترغبه في تحصيل هذه المعارف النفسية وفاء بحق النصيحة الواجبة على جميع الناس، ولكن الراغب في هذه البضاعة قليل، والساعي في تحصيلها والتحلي بها كليل كما قلت (¬5): لعمرك ما في الركب ذو لوعة ولا ... بذا الحي من [تزجي إليه مطيتي (¬6)] [6] فياطال ما قد صحت: هل من مساعد؟ ... ويا طال ما قد درت بينه البرية فلم أر إلا شارقا ببلاهة ... يطيش بها أو مصمتا بتقية فهذا يرى طرق الصواب أمامه ... فيدأب في تصحيح ذات سقمة وهذا (¬7) عليم بالجلية عارف ... ولكنه لا يشتريا ببيسه (¬8) ¬

(¬1) انظر ديوان الشوكاني (ص105) (¬2) كذا في المخطوط وفي الديوان (فبادر) (¬3) كذا في المخطوط وفي الديوان (وما) (¬4) في الديوان هذا البيت متقدم على الذي قبله (¬5) أي الشوكاني في ديوانه (ص102) (¬6) في المخطوط (من يضيق لمحض النصحية) وما أثبتناه من الديوان (¬7) في المخطوط [وهل] وما أثبتناه من الديوان (¬8) وحدة نقدية كانت في اليمن. حاشية الديوان

والزهد عن معالي الأمور، القنوع عنها بالهين المنزور، قد صار شعارًا لأهل زمانك، وخاصة لازمة لأبناء أوانك، فمن لك بالتجرد للمعالي، المنفق في تحصيلها كل غالي، كما قلت (¬1) فمن لك بالملاك مقود نفسه ... يحل بها حيث الحقيقة حلت يهاجر في حب الملحة إلفه ... ويقطع فيهات حبل كل وصيلة ويبد إن رام القريب فراقها ... ويقرب إن ما ألسن العدل لجت ويلبس للتعنيف درعا حصينة ... وينزع عن أعطافه ثوب شهرة ويطرح الآمال غير معرج ... على ما به عن رتبة المجد ألهت يجوس ديار الحي [غير مقصر] (¬2) ... وينزل في أرجائها بالسوية يحط بدار الباهلية رحله ... صباحا ويأتي دارها بالعشية يصمم عزا كالحسام وهمة ... مدى الدهر لا يرضى له بمذلة إلى أن يرى المبيض من طرق الهدى ... وتجاب من داعي الهوى كل ظلمة فيبقى عصا الترحال عن كاهل الصبا ... ويحمد ما لاقى به من مشقة ويلتذ ما قد ناله من أذى الهوى ... ويشكر مسراه على الأبدية فكل أذى في جانب العز هين ... وكل عنا في شأنه غير حسرة فلست ابن حر إن تهيبت في العلا ... متالف حالت دون عز ورفعة ولست من العرب الصميم نجاره ... إذا لم تنل في المجد أربح صفقة أيرضى بإعطاء الدنية ماجد ... ويجعلها يوما مكان العلية ويقنع من ورد الصباء بشربة ... [على الضيم] (¬3) شيبت بالقذى والكدورة ¬

(¬1) أي الشوكاني في ديوانه (ص103 - 104) (¬2) في الديوان [في كل ساعة] (¬3) في المخطوط على الرغم

ويرضى بتقليد الرجال مصرحا ... بسد طريق سهلت للبرية وما سد باب الحق عن طالب الهدى ... ولكن عين الأرمد القدم سدت رجال كأمثال الخفافيش بضؤها ... يلوح لدى الظلما وتعمى بصحوة تجول به ما دام في كل وجهة ... فإن طلعت شمس النهار خفت [7] وهل ينقص الحسناء فقدان (¬1) رغبة ... إلى حسنها ممن [أضر] بعنة (¬2) وهل حط قدر البدر عند طلوعه ... إذا ما كلاب أنكرته فهرت وما إن يضر البحر إن قام أحمق ... على شطه يرمي إليه بصخرة وشتان بين من يدعو إلى العمى، ومن يرشد إلى الإبصار، وليس المؤمن إلا من يحب لأخيه ما يحب لنفسه من معالي الأمور، وبلوغ الأوطار، وهذا المفصل الصالح، والمتجر الشريف الرابح، لا يتم للعالم إلا بشطر من التنفير، ولا يؤثر في النفوس بدونه الإعلان بطرف من التكسير كما قلت (¬3) فإن كنت سهما نافذا متبصرا ... فدع ما به عين من العمى قرت تصيخ إلى داعي التعصب رغبة ... وإن تدعها يوما إلى النصف فرت إذ رجل أنى إليها بربقة ... ألمالت إلى التقليد جيدا ولبت وإن رمت فك الأسر عنها تمنعت ... وقالت دعوني في الإسار ونسعتي فعيني عن طرق الصواب عمية ... وأذن عن داعي النصيحة سدت قلت (¬4): ¬

(¬1) في الديوان نقصان (¬2) في الديوان أصيب (¬3) الشوكاني في ديوانه (ص104) و (ص105). (¬4) الشوكاني في ديوانه (ص 104 - 105).

وهات (¬1) كلام الشيخ لست بسامع ... سواه ودعني من كتاب وسنة فأشياخنا السباق في كل غاية ... وأسلافنا أرباب كل فضيلة فلا قول إلا ما تقول غزية ... ولا رأي إلا ما ليلوح لعزة ودع عنك علما لا تهز قناته ... كما قيل إلا [باغض العلوية] (¬2) فهذا جواب البكم يا عمرو وإن دعا ... إلى طرق الإرشاد داعي المبرة وكما قلت (¬3) عند أن قطعت عن عنقي رباق التقليد، ويبدأ الحمد على وصبه ونصبه الشديد: لعمرك ما جانبت في الحق لي رهاطا ... ولا خفت من قومي لجاجد أو لغطا ولا عطفت عطفي أقاويل حاسد ... ولا جذبت ضعلي (¬4) أضاليله قطا إذ ما ثنتني ألسن العذل عن هدى ... فلا حملت كفي رواقمي الرقطا وثبت على اسم اله وثبة قادر ... سواء لديه ما بدانا وما شطا وألقيت من عنقي القلادة مسرعا ... إذا ما أمرؤ قد أوثق الشد والربطا وحررت رقي واجتدت ولم أقل ... بقول فلان إن أصاب وإن أخطا وما خفت في ذا الصنع لومة لائم ... تلهب غيظا واشتاط له سخطا ولست أهاب الجمع ما لم يصح لا ... إذا شط عن تلك الطريقة أو شطا [8] وقد أطلنا البحث ههنا، ولكنا لما أوردنا ذلك الطرف من كلام العلامة (¬5) ابن الوزير جمح القلم بطرف من هذا الجنس، والحديث ذو شجون. قوله:- رحمه الله-: فلا بد أن يقلده في ذلك إلخ. ¬

(¬1) في المخطوط (تأتي) وما أثبتناه من الديوان (¬2) في الديوان إلا فرقة الحشوية (¬3) قال الشوكاني هذه الأبيات عند الاشتغال بطلب علوم الاجتهاد انظر الديوان (ص226). (¬4) في الديوان (طبعي) (¬5) في «العواصم والقواصم» (1/ 251 - 256).

أقول: هذا ممنوع، لأن تعليم الطالب ههنا لا يكون بالرأين حتى يندرج في التقليد، بل التعليم المطلوب ههنا هو تفسير الآي القرآنية، وتبيين معاني الأحاديث النبوية، وذكر صحيحها وسقيمها، وليس من التقليد في شيء. قوله: ذا هم لم يصنعوا هذا الصنع. أقول: لا يلتبس على عاقل فرضا عن عالم التفرقة بين كتب التفسير وشروح السنة، وبين كتب الفقه التي هي مجاميع الأداء غالبا، فهذه الدعوى متعسفة. قوله: والذي أراده السائل عين ما وضعه الشافعي ..... الخ. أقول: إن الذي وضعه الشافعي مشتمل على أحكام، بعضها راجع إلى الدليل، وبعضها راجع إلى الرأي، وبعضها حق، وبعضها باطل، وهو غير ما حررنا سابقا. قوله: والذي أراده السائل عين ما وضعه الشافعي إلخ. أولاً: هذا مما لا نزاع فيه، ولا شك أن مطلوب الكل الوصول إلى الحق بأي ممكن، ولهذا استحق المصيب أجرين (¬1)، والمخطئ أجرًا، وحسن المقصد لا يستلزم الإصابة، ولو كان الأمر كذلك لما اختلف الناس في المسألة الواحدة على أقوال متعددة، وستسمع لهذا البحث مزيد تحقيق عن قريب إن شاء الله تعالى. قوله: أنه مراد الله منه. أولاً: مراد الله من المجتهد إصابة الحق، وليس مراد الله من كل مجتهد ما صح عنده، لاسلتزامه دوران مراد الله بين المرادات، وهو باطل، ولا يستلزم ثبوت الأجر للمخطئ إصابة الحق، ولو كان الأمر كذلك لما فضل عليه المصيب بمثل أجره، لأن اشتراكهما في ¬

(¬1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (7352) ومسلم رقم (171) وأحمد (4/ 198، 204) من حديث عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يقول: «:إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ثم أخطأ فله أجر)). أنظر تخريج الحديث بطرقه في «إرشاد الفحول» (ص 850 - 851) بتحقيقنا.

الإصابة يوجب التساوي في الأجر، والحديث، والحديث الصحيح قد صرح بخلاف هذا، وصرح بالخطأ، فأي دليل على إصابة المخطئ! وعلى الجملة فإن خطأ المخطئ في باب الاجتهاد عفو، واستحقاق الأجر لإبلاغ الجهد في طلب الحق، وذلك لا ينفك عن مشقة، والله جلال جلاله- لا يضيع عمل عامل، وعلى هذا فالقول بأن كل مجتهد مصيب (¬1) إن أريد من الصواب الذي لا ينافي الخطا فحسن , وإن أريد من الإصابة المنافية كما هو الظاهر من أرباب هذه المقالة فمردود بنص الحديث، سيأتي الكلام على المسألة، واستثنى الأدلة التصريح بالراجح منها عند تعرض المنصف لذلك، وأعني التصريح منه بأن كل مجتهد مصيب. قوله: والمقلد لو ذهب كل مذهب إلخ [9]. أقول: إن أراد بهذا الذهاب ذهاب المقلد من تقليد إلى تقليد، فعدم خروجه عنه مسلم، وهو خارج عن محل النزاع، وإن أراد بهاذ الذهاب أعم من أن يكون ذهابا عن كل تقليد إلى غيره، أو عن بعضه إلى بعضه فهذا باطل للقطع بأن الذهاب عن التقليد إلى الاجتهاد خروج عن التقليد بالمرة. اللهم إلا أن يكون هذا من المؤلف تشكيكا في عدم تسيير الاجتهاد ومنع من انفكاك كل أحد عن التقليد، فهذا مع كونه عائدا على غرضه من هذا التأليف بالنقض، لأن الحامل له على وضعه جواز التقليد المجتهدين أقل وأحقر من أني يعتني بتزييفه، وكلامه كالصريح بالمراد الأول، فإن المؤلف- رحمه الله- أجل من أن يقع في مثل ذلك. ¬

(¬1) من قال كل مجتهد مصيب وجعل الحق متعددا بتعددا بتعدد المجتهدين فقد أخطأ خطا بينا وخلاف الصواب مخالفة ظاهرة فإن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- جعل المجتهدين قسمين قسما مصيبا وقسما مخطئا ولو كان كل واحد منهم مصيبا لم يكن لهذا التقسيم منى وهكذا من قال إن الحق واحد ومخالفة آثم فإن هذا الحديث الذي تقدم يرد عليه ردات ويدفعه دفعا ظاهرا لأن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- سمي من لم يوافق الحق في اجتهاد مخطئا ورتب على ذلك استحقاقه للأجر، انظر: «المعتمد» (2/ 949)» الفقيه والمتفقه» (2/ 60 وما بعدها).

قوله: فإن قلت: إلخ ... الجواب. أقول: لا يخفى عليك أن المراد من السؤال إلزام المتأهل من المتسمين بالتقليد النظر في الجواب صحة هذا العمل، وحكى عن الأئمة تحسينه، وصحة الخلوص به عن التقليد، ثم حكى عن البعض القطع بأن هذا اجتهاد، والتردد عن آخرين، ثم استثمر من هذا الكلام الذي لا يكاد يخفى على أحد ما لم يكد يقع في ذهن أحد. فقال: ولم يبق حينئذ غير العمل على أقوال المجتهدين، ثم عقب ذلك بأن على هذا الذي حكم له سابقا بأهلية النظر أن يتحرى لنفسه فيمن يقلده، وهذا تهافت وموناقضة وخبط، فإن صح أن نسخة المؤلف كهذه النسخة التي وقفنا عليها بايصال قوله: ولم يبق حينئذ لقوله وتردد بعض ن فكأني بمحبة التقليد قد استول على قلبه استيلاء تاما، فلهذا لم يدر ما يقول: وأعجب من هذه قوله: وهذه مسئلة عقلية، ثم تفسيره كونها عقلية باطمئنان المقلد إلى الأعلم، فبينما هو بصدد النظر في الأدلة من المتأهل إذ رج إلى النظر إلى ذوات المجتهدين. قوله: ثم أعل أن لنا أصلا أصيلا إلخ. أقول: لهذا البحث بأسره ليس فيه إلا التأييد بكثرة القائلين بجواز التقليد، وليس الكثرة بمجردها موجبة لمصاحبة الحق لها، وإن كانت وجه ترجيح في غير هذا الباب بشروط معروفة مدونة، وأنت خبير بأن الله سبحانه قد ذم الكثرة في مواضع من كتابه العزيز (¬1) ومدح القلة مرات (¬2) وصرح في الحديث الصحيح (¬3) بأن الثابت على الحق ¬

(¬1) كقوله: تعالى: {ولكن أكثرهم لا يعملون} [الأنعام: 37] {وأكثرهم للحق كراهون} [المؤمنون: 70] (¬2) كقوله تعالى: {وقليل من عبادي الشكور} [سبأ: 13] (¬3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3641) ومسلم في صحيحه رقم (174/ 1037) من حديث معاوية قال سمت رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يقولك «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس»

طائفة من الناس، لا يضرهم من خالفهم [10]، والرجال تعرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال، كما صرح بذلك أمير المؤمنين- عليه السلام-. وأيضا خير (¬1) القرون قرني، ثم الذين يلونهم، لم يسمع منهم في جواز هذه المسئلة حرفا واحدا، وهذه الطائفة التي رميتها بالقلة لم تدع الناس إلى شيء سوى هدى الصحابة الذين هم المرجع بعد الكتاب والسنة، ولو كانت الكثرة بمجردها موجبة للترجيح لخرج الحق عن يد أهل البيت، المشهود لهم بعدم مفارقة الحق، لقطع بأنهم بالنسبة إلى سائر علماء الإسلام أقل من القليل، وقد وقع الخلاف فيهم وبينهم في مسائل متعددة، وينسحب الخوض في الخطأ في خروجهم على الظلمة، وهذا باطل. فإن قلت: بين الكلامين فرق لقيام الادلة على حقية ما ذهب إليه أهل البيت. قلنا: وهذه الطائفة القليلة قد قام الدليل على حقية ما ذهبت إليه كما سمعته في أول هذه الرسالة، ودع عنك الاحتجاج بالرجال، والاعتزاء إلى الآراء والأقوال، وجرد نفسك للحق، واغسل قلبك عن درن العصبية، فنك إذا فعلت ذلك نظرت إلى الحق من وراء ستر رقيق. قوله: وهذه التشكيكات ليست بدعوى عاطلة عن البرهان إلخ. أقول: قد رأيت ما حررناه سالفا، فأعجب لإطلاق اسم التشكيك عليه، وهذا اللفظ قد اشتهر إطلاقه لعدم الإنصاف على أدلة الخصوم، حتى صار شفعة حب التعصب بكثرة استعماله كالمرسوم. قول: من قوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «من شذ شذ إلى النار» (¬2) إلخ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه مرارًا. (¬2) أخرجه الترمذي في «السنن» رقم (2167) من حديث ابن عمر أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال «إن الله لا يجمع أمتي أو قال أمة محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- على ضلالة ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار» قال الترمذي: هذا حديث غريب. قلت: فيه سليمان بن سفيان ضعيف، ولكن له شاهد عند الترمذي رقم (2166) والحاكم (1/ 116) بسند صحيح من حديث ابن عباس: «لا يجمع الله أمتي على ضلالة». والخلاصة أن الحديث صحيح دون قوله «ومن شذ شذ إلى النار». قال الترمذي: هذا الحديث غريب. قلت: فيه سليمان بن سفيان ضعيف، ولكن له شاهد عند الترمذي رقم (2166) والحاكم (1/ 116) بسند صحيح من حديث ابن عباس: «لا يجمع الله أمتي على ضلالة». والخلاصة أن الحديث صحيح دون قوله «ومن شذ شذ إلى النار».

أقول: المراد بالشاذ هاهنا المنفرد بدين لا يشاركه فيه غيره، وهو المراد بقوله: إن الله يكره الواحداني كما فسره صاحب النهاية (¬1) بالمتوحد بدينه، المنفرد عن الجماعة، وليس المراد به أئمة الاجتهاد المكثورين بالنسبة إلى المخالفين كما في مسألتنا، فإن هذا مما لا يستجيز إطلاقه عليهم بهذا المعنى متدين. وإني لعجب منك كيف تعجبت من رمي من مى جمهور هذه الأمة الآية والحخديث والسابقين، ووقعت فلي مثل ذلك قبل جفاف القلم، مع تصريحك بأن المجتهد إنما عمل بما هو مفروض من العلم، بما أدى إليه اجتهادهن حتى قلت: فعمله بذلك هو الواجب عليك قطعا، وصرحت سابقا ولاحقا بن كل مجتهد مصيب، وأنت مسلم أن هؤلاء، لم يخالفوا الإجماع، وهل هذه إلا مناقضة ظاهرة!. قوله: المقلد دينه وشريعته قول أي عالم إلخ. أقول: دين المقلد دين الله، وشريعته، شريعة الله، وما شرعه الله [11] من الدين ليس بخاص بالأئمة المجتهدين، بل عام للقاصر والكامل، والمتحلي بمعارف العلوم والعاطل، إلا أن فرض المقصر الذي لا يعقل الحجة إذا جاءته أن يسأل أولي العلم عن المراد بها، لا عن أقوالهم الاجتهادية، وقد صرح- الله جلال جلاله- بهذا فقال: {فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (¬2) فأوجب عليه السؤال عن نص الشريعة، لا عن الآراء المخترعة، ويالله العجب من تخصيص العمومات من الكتاب والسنة والقاضية ¬

(¬1) ابن الأثير (3/ 426). (¬2) [النحل: 43]، [الأنبياء: 7]

بوجوب طلبهما على كل فرد العباد بهذه التخيلات الفاسدة!. قوله: وجدت الأمر يدور أخره إلى أوله إلخ. أفول: قد عرفنا فساد هذه الدعوى غيرة مرة، وأن السائل عن مدلول الكتاب والسنة ليس بمقلد. قوله: أعني في مسألة اجتناب التقليد، فلم أجد ما يشفى الغليل إلخ. أقول: لو تأملت- غفر الله لك- أحوال الصحابة والتابعين وتابعيهم لشفيت بذلك غليلك، وبيان ذلك أن هذه الثلاث الطبقات التي خير هذهه الأمة المرحومة قد اشتملت على العالم والعامي، فكان صنع العالم فيها الاجتهاد، وصنع العامي السؤال عن الكتاب والسنة، واستفسار الأئمة، والعمل بما بلغ إليه، وليس هذا من التقليد في شيء، لما تقرر في الأصول من أن التقليد قبول قول الغير من دون حجته (¬1) هؤلاء لم يقبلوا قول الغير بل قبلوا حجته بواسطة روايته، وقبول الرواية ليس بتقليد، فهؤلاء الأعلام الذين نسبتهم إلى التضييق على الناس بسبب منعهم التقليد لم يطلبوا من العوام إلا التشبه بعوام الصحابة، فمن بعدهم، واطراح التقليد المبتدع، وإذا كان الأمر الذي ندبوا الناس إليه هو الهدى الذي درج عليه خير القرون، فأي وصمة- لله درك- عليهم في هذا! وهاك طريقة ينزاح عنك بها الإشكال. سنوردها عليك على طريق السؤال فنقول: عوام الصحابة والتابعين لا يخرجون عن الأتصاف بأحد ثلاثة أشياء، أما التقليد، أو الاجتهاد، أو الواسطة، فالأول باطل لما بيناه من أنهم لم يقبلوا القول بل قبلوا حجته، ولهذا لم ينسب أحد منهم إلى أحد من أولئك الأعلام، كما نسب هؤلاء المقلدة إلى أئمتهم، بل اكتفوا بالانتساب إلى مطلق الشريعة، ونعمت النسبة، ولم يسمع عن أحد منهم أنه انتسب في مذهبه مثلا إلى ابن عباس، قبيل له عباسي كما يقال شافعي مثلًا. ¬

(¬1) أنظر الرسالة الآتية برقم (60)، وعنوانها (القول المفيد في حكم التقليد) من القسم الرابع- الفقه.

والثاني باطل أيضًا لفقدانهم الأهلية التي لا بد منها، فلم يبق إلى الثالث أعني الواسطة كما عرفناك، فإذا عرفت هذا حق معرفته شفيت به غليلك. قوله: ولم يظهر لي إلى الآن إلا أن ما قالاه فرض المجتهد إلخ [12]. أقول: صرح العلامة المقبلي في أبحاثه (¬1) في المثال الحادي والعشرين من أواخرها بمامعناه: أن غير المجتهد يجب على جوازه دليل، ثم قال: لأنه يعني أن المقلد مكلف بحسب الاستطاعة، وقد انحصرت حالته في الحالة الراهنة في الرجوع إلى العالم، لأنه أمارة على الحق لم يستطع الجاهل تحصيل غيرها، فلو لم يقلد الجاهل في ذلك الأمر الضروري في كل حادثة حادثة لترك ما علم وجوبه كالصلاة مثلا، ولا يجوز التقليد الكلي انتهى، وها الكلام مع كوننا لا نساعده عله فقد عرفك أن المقبلي بريء مما نسبه إليه المؤلف، من أنه أوجب عليه ما هو فرض على المجتهد لا غير، وضيق على الناس، وهكذا الحقق الجلال شرح في شرح قصيدته المسماة بفيض الشعاع يمنع تقليد الأموات (¬2) لا الأحياء، ¬

(¬1) وهي الأبحاث المسددة في فنون متعددة (ص506). (¬2) قال في البحر المحيط (297 - 300): فإن قلد ميتا ففيه مذاهب: أحدها: وهو الأصح وعليه أكثر أصحابنا كما قاله الريواني الجواز، وقد قال الشافعي: المذاهب لا تموت بموت أربابها، ولا بفقد أصحابها، وربما حكى فيه الإجماع، وأيده الرافعي بموت الشاهد بعدما يؤدي شهادته عند الحاكم، وفإن شهادته لا تبطل ..... الثاني المنع المطلق، إما لنه ليس من أهل الاجتهاد، كمن تجدد فسقه بعد عدالته لا يبقى حكم عدالته، وأما لأن قوله وصف له وبقاء الوصف مع زوال الأصل محال، وإما لنه لو كان حيا لوجب عليه تجديد الاجتهاد وعلى تقدير تجديده، لا يتحقق بقاؤه على القول الأول فتقليده بناء على وهم أو تردد والقول بذلك غير جائز. وهذا الوجه نقله ابن حزم عن القاضي، وحكى الغزالي في «المنخول» فيه إجماع الأصوليين. الثالث: الجواز بشرط فقد الحي، وجزم به إلكيا وابن برهان. الرابع: التفصيل بين أن يكون الناقل له أهلا للمناظرة، مجتهدا في ذلك المجتهد الذي يحكى عنه، ولم نكلف المقصر تكليف المجتهد كما قاله المؤلف قوله: فيجوز وإلا فلا. قاله الآمدي والهندي، وانظر: تفصيل ذلك في «البحر المحيط» (6/ 300).

ولم نكلف المقصر تكليف المجتهد كما قاله المؤلف. قوله: وهذا متفق عليه بين المسلمين إلخ أقول: هذه دعوى باطلة، بل كل من قال بالمنع من التقليد كمعتزلة بغداد، كما حكى ذلك عنهم المحقق ابن الإمام في شرح الغاية، وكذا حكاه غيره (¬1) عنهم، وقد قال به الجعفران كما رواه جماعة عنهما، قائل بوجوب اتباع الدليل على المقلد، لكنه لما كان مسلوب الأهلية وجب عليه أن يستروي من حصلت له، فكيف يتم للمؤلف دعوى الاتفاق! اللهم إلا أن يريد بقوله: وترك أقوال الناس أعم مما نحن بصدده أعني أقوالهم الشاملة للرواية، والرأي، والتفسير، والتصحيح، فمثل هذا لا يستغنى عنه المجتهد في جمعي الأعصار، فما هذه المساهلة في حكاية إجماع المسلمين، الذي هو حجة على العباد! وما هذه الترويج- على المقصرين- الشاط عن سبيل الرشاد والسداد! لا جرم لهوى النفس سريرة لا تعلم. قوله: لم أجده إلا تحرجا عظيما إلخ. أقول: إن كان هؤلاء العامة من أهل زماننا لا يسعهم ما وسع عوام الصحابة فمن بعدهم، وكان هدي أولئك الأفاضل تحرجا على هؤلاء، فلا فرج الله عنهم هذا التحريج، ولا وسع لهم هذا المضيق. وهنا مظنة سؤال لعلك تتفطن له وتقول: فرق بين عوام الصحابة وغيرهم، فإنهم غير محتاجين إلى ما يحتاج إليه هؤلاء، لأن أولئك أهل اللسان العربية والأذهان والسيالة، والفطر القويمة، فنقول: نحن لا نعني بعوام الصحابة من أحاط بالقرآن حفظا، واستكثر من حفظ السنة النبوية، فإنه مجتهد، لأن جميع المعارف حاصلة كما ذكرت، وإنما نعني ¬

(¬1) ذكره الزركشي في «البحر المحيط» (6/ 284)

من لم يحفظ [13] شيئا من ذلك، أو حفظ مقدار يسيرًا، فإنه- وإن فهم ما وصل إليه، لا يقدر على الاجتهاد لتوقفه على معرفة فقد المعارض، والناسخ، والمخصص والمقيد، ونحو ذلك؛ فلا بد له من السؤال عما جهل، والرجوع إلى من هو أعلم منه، وعلى أن المقصرين من الصحابة والتابعين كانوا لا يجرؤون على تفسير القرآن والسنة بدون الرجوع إلى علمائهم، واستعلامهم عنهما، وهذا متواتر عنهم، وهو عين ما ذكرنا له، قوله: كالتكليف بما لا يطاق إلخ. أقول: قد صرح المؤلف- رحمه الله- في أول هذه الرسالة بأنه ذلك من تكلي مالا يطاق، وقارب هاهنا فجعله مشبها به، والكل خبط، وخلط وغفلة عن مفهوم مالا يطاق، وق حررناه فيما سبق ما فيه كفاية، وسنتقصر ها هنا في الجواب على المؤلف (¬1) على قوله في قصيدته التائية (¬2). ومن [قال] أن الأمر ليس بممكن ... وأن ليس إلا اتباع لفرقة فأحباره أربابه دون ربه ... وقبلته ليست إليه بوجهة وهاهي ما بني الأنام شهيرة ... جلية معنى اللفظ غير خفية وسنة خير المرسلين علومها ... مسهلة للأخذ في كل بلدة (¬3) وهي أبيات طويلة نحو الثلاثين، وكلها في التنفير عن التقليد ومن جملتها هذه. ودع عنك تقليد الرجال ولا تقل ... هم فطنا ما لم أنله بفطنة ¬

(¬1) أي إسحاق بن يوسف بن المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم بن محمد (¬2) أولها: تأمل وفكر في المقالات وأنصت ... وعد من ضلالات التعصب والفت انظرها كاملة في (نشر العرف) (1/ 332 - 333) (¬3) في «نشر العرف» [العظيم]

فقد بلغوا مقدار ما جهدوا له ... وكل عليه جهده في الشريعة فإن أخطؤوا شيئا فربك عالم ... بما أضمروه من صحيح العقيدة وأنت فقد أخطأت حين جعلتهم ... سبيل هدى في رخصة أو عزيمة وليته اقتصر على هذه الأبيات التي صرح فيها بالمذهب الحق وسلم من هذا التهافت الذي جمعه في هذه الورقات، ولقد كنت أستحسن هذه القصيدة لاشتمالها على أطراف من النصح الصحيح، حتى حداني ذلك إلى تذييلها بقريب من مثليها، وقد ذكرت في أول هذه الرسالة جملة من ذلك. قوله فإن يكن عند أحد من علمائنا نص إلى قوله فليظهره. أقول: لا يشك من له أدنى تمييز أن النصوص القرآنية والحديثية الدالة على وجوب اتباع الكتاب والسنة على كل فرد من أفراد العباد قد بلغت مبلغا تقصر عنه العبارة، والعلم بها قدر مشترك بين العاصي والعالم، هؤلاء المقلدة الذين تبرعت [14] بالمفاضلة عنهم داخلون تحت تلك العمومات دخولا لا ينكره من له أنسة بمدلولات الألفاظ فإن ادعيت خروجهم عنها، وأو اختصاصها بالمجتهدين، فأبرز لنا دليل التخصيص، أو الاختصاص، وما أراك تجده. قوله: وليس الاختلاف المذموم هو ما عليه الناس إلخ. أقول: بل هو هو، لأن الخلاف المنهي عنه منسوب إلى الدين فحصول أي خلاف لفيه داخل تحت عموم الأدلة القاضية بالنهي نحو قوله تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} (¬1) وقوله: {أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} (¬2) إلى غير ذلك من الأدلة، وسنوردها إن شاء الله في هذه الرسالة، وعلى الجملة أنا نعلم أن الخلاف بين هذه الأمة قد يفضي في كثير من المسائل إلى التفاؤل بين العالمين ¬

(¬1) الأنعام:159]. (¬2) الشورى:13.

في تحليل عين وتحريمها، وإيجاب حكم وتحريمه، ونحو ذلك، وهذا من الاختلاف في الدين بلا ريب. قوله: منها أنه قد علم أن تكليف الله للمجتهدين إلخ. أقول: لم يكلف الله تعالى المجتهد إلا بطلب الحق لا سواه، فإن ظفر به ضاعف له الأجر، وأن أخطأه فخطؤه عفوا وله أجر كما صرح بذلك الحديث الصحيح. قوله: وهي الحجة في إصابة المجتهدين. أقول: قد أشار- رحمه الله- إلى قول الله تعالى: {ما قطعتم من لينة أو تكرتموها قائمة على أصولها فبإذن الله} (¬1) وسنملي عليك ما إن تأملته حق تأمله عرفت عدم دلالة هذه الآية المطلوب. أما أولا فقد وقع الاخلاف بين المفسرين في سبب النزول في هذه الآية، فمنهم من يقول: جزم بأن السبب أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أمر بالقطع قيل له: كيف نفعل وقد نهينا عن الفساد! فنزلت، وهي على هذا خارجة عن محل النزاع. ومنهم من (¬2) قال: إنها نزلت في شأن الصحابيين الذين اختلفا، فأخذهما أفسد بالقطع، والآخر أصلح واجتهد في التقويم، وعلى هذا التفسير قيل: إنها من أدلة التصويب المدعى، وقد ذكر الأئمة في سبب نزول الآية أسبابا منها ما ذكره االواحدي في أسباب النزول (¬3) قال بعد أن ذكر الآية ما لفظه: ولك أن رسول الله- صلى الله عليه آله وسلم- لما نزل بيني النضير، وتحصنوا في حصونهم أمر بقطع نخيلهم وإحراقها، فجزع أعداء الله عند ذلك، وقالوا: زعمت يا محمد أنك تريد الصلاح، أفمن الصلاح عقر الشجرة المثمرة، وقطع النخيل؟ وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في ¬

(¬1) [الحشر: 5]. (¬2) أخرجه بن جرير في «جامع البيان» (14/جـ 28/ 34). (¬3) (ص: 417).

الأرض؟ فشق ذلك على النبي- صلى الله عليه آله وسلم-، ووجد المسلمون في أنفسهم من قولهم، وخشوا أن يكون ذلك فسادًا، واختلفوا في ذلك [15] فقال بعضهم: لا تقطعوا، فإنه مما أفاء الله علينا، وقال بعضهم بل نغيظهم بقطعها، فأنزل الله: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها} الآية تصديقا لمن نهى قطعه، وتحليلا لمن قطعه، وأخبر أن تركه وقطعه بإذن الله. ومنها ما ذكره الواحدي (¬1) قال أخبرنا محمد بن إسحاق الثقفي حدثنا قتيبة، حدثنا الليث بن سعد عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حرق نخل النضير، وقطع البويرة فأنزل الله: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين} قال: رواه البخاري (¬2) ومسلم (¬3) عن قتيبة، قلت: وقد عزا ه في جامع الأصول (¬4) وإلى الترمذي (¬5) وأبي داود (¬6). وقال الترمذي: حسن صحيح، وذكره الواحدي (¬7) أيضًا من طريق أخرى، فقلل: حدثنا أبو بكر بن الحارث أن عبد الله بن محمد بن جعفر، حدثنا أبو يحيى الرازي، حدثنا سهل بن عثمان، حدثنا عبد الله بن المبارك عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قطع نخل بني النضير وحرق، وهي البويرة، ¬

(¬1) في «أسباب النزول» (ص418). (¬2) في صحيحه رقم (4884). (¬3) في صحيحه رقم (1746). (¬4) (2/ 380 رقم 837). (¬5) في السنن رقم (3302)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬6) في السنن (2615) وهو حديث صحيح. (¬7) في أسباب النزول ص (418). وأخرجه مسلم رقم (30/ 1746).

ولها يقول حسان: وهان على سرة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير وفيها نزلت الآية، ومنها ما أخرج الترمذي (¬1) عن أبن عباس بلفظ قال: استنزلهم من حصونهم قال: وأمروا بقطع النخل قال قال: فحك ذلك في صدورهم، فقال المسلمون: قد قطعنا بعضا وتركنا بعضا، قلنا، يا رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركناه من وز؟ فأنزل الله الآية، وقال: حسن غريب. ومنها ما ذكره الواحدي (¬2) أيضا: قال أخبرنا أبو بكر، أخبرنا عبد الله، أخبرناسلم بن عصام حدثنا رستة، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا محمد بن ميمون التمار، ثمنا جرمون عن حاتم النجار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قام يهودي إلى النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: أنا أقوم فأصلي، قال: قدر الله لك أن تصلي قال: أنا أقعد، قال: قدر الله لك أن تقعد، قال: أنا أقوم إلى هذه الشجرة فأقطعها، قال قدر الله لك أن تقعطها، قال: فجاء جبريل عليه السلام فقال: يا محمد: لقنت حجتك، كما لقنها إبراهيم على قومه، وأنزل الله تعالى: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين} (¬3) يعني اليهود. وفي الكشاف (¬4) ما لفظه: وذلك أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حين أمر، تقطع نخلهم، وتحرق، قالوا: يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد [16] في الأرض، ¬

(¬1) في السنة رقم (3303) بإسناد صحيح وقال: هذا حديث حسن غريب. (¬2) في: أسباب النزول (ص 418 - 419). (¬3) الحشر:5. (¬4) (6/ 76).

فما بال قطع النخل أو تحريقها؟ فكان في أنفس المؤمنين من ذلك شيء، فنزلت يعني أن الله أذن لهم في قطعها ليزيدكم غيظا، ويضاعف لكم حسرة إذا رأيتموهم يتحكمون في أموالكم كيف أحبوا، ويتصرفون فيها كيف شاؤا، وقد صدر هذا ثم ذكر بعد ذلك ما لفظه (¬1): وروي أن رجلين كانا يقطعان أحدهما العجوة، والآخر اللون، فسألهما رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال هذا: تركتها لرسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وقال هذا: قطعتها غيظا للكفار، وقد استدل به على جواز الاجتهاد، وعلى جوازه بحضرة الرسول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لأنهما بالاجتهاد فعلا ذلك. واحتج به (¬2) م يقول: كل مجتهد مصيب انتهى. وقد طولنا الكلام في السبب لتعلم أن الأحاديث الصحيحة قاضية بأن السبب غير المدعى، وأن الآية خارجة عن محل النزاع، وعندي أنها خارجة عن ذلك على كل وجه، لن الآية كشفت عن أصل الأمر المشكوك فيه وهو الإباحة، فليست على هذا دليلا على محل النزاع، بل هي بمثابة قولك لرجلين قال: أحدهما نمت، وقال الآخر استيقظت، فقلت: لا حرج على كل واحد منكما رجوعا منك إلى استواء فعل النوم وتركه، وأيضا إباحة أموال الكفار الخارجين عن الطاعة معلومة لكل واحد من المختلفين ولغيرهم من الصاحبة قبل هذه الواقعة، فالقطع ليس بالاجتهاد، ويشهد لصحة هذا قوله ¬

(¬1) أي الزمخشري في الكشاف (6/ 76 - 77) (¬2) قال القرطبي في «الجامع لأحاك القرآن» (18/ 8): قال الماواردي: إن في هذه الآية دليلا على أن كل مجتهد مصيب. وقاله الكيا الطبري في وإن كان الاجتهاد يبعد في مثله مع وجود النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بين أظهرهم، ولا شك أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- رأى ذلك وسكت، فتلقوا الحكم من تقرير فقط. قال ابن العربي: وهذا باطل، لأن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كان معهم، ولا اجتهاد مع حضور رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وإنما يدل على اجتهاد النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فيما لم ينزل عليه أخذ بعموم الأذية للكفار، ودخولا في الإذن للكل بما يقضي عليهم بالاجتياح والبوار، وذلك قوله تعالى {وليخزي الفاسقين}

تعالى {فبإذن اله} أي الإذن السابق قبل هذه الواقعة، وأنت لا تشك لو قال القائل لعبده وقد نازعه منازع في شيء من التصرفات، فعل ذلك بإذن أن ذلك الإذن سابق على الصرف ولو لم ين سابقا لكنا اليد كاذبا في إخباره وهذه الآية التي عرفناك أنها لا تصلح للاستدلال قد اعترف القائل بإصابة كل مجتهد أنها أنهض الأدلة على قوله. قال الإمام المهدي: إنها أقوى ما يستدل به من السمع على هذه المسألة حكى ذلك عنه صاحب التلخيص على المقدمة. قوله: مصوب كل واحد منها إلخ. أقول: التصويب منه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- باعتبار أن كل واحد منهما قدانحرف من الحروف التي أنزل القرآن عليها كما ثبت في حديث عمر عند البخاري (¬1)، ومسلم (¬2) والموطأ (¬3) والترمذي (¬4) والنسائي (¬5) بلفظ: قال سمعت هشام ابن حزام، يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، فاستمعت لقرآنه فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقلت: كذبت فإن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قد أقرأينها على غير ما قرأت فانطلقت به أقوده على رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أرسله، ¬

(¬1) في صحيحه رقم (2419) (¬2) في صحيحه رقم (818). (¬3) (1/ 206) (¬4) في «السنن» رقم (2943). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح (¬5) في السنن رقم (1475)

أقرأ يا هشام: فقرأ عليه السورة التي سمعته يقرؤها، فقال رسول الله صلى الله عليه آله وسلم: هكذا أنزلت، إن هذا القرآن أنزل علي سبعة أحرف، فأقرؤوا ما تيسر منه". ومثل هذا ما وقع بين أبي بن كعب ورجل من الصحابة، ثم حسن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- شأنهما، ثم قال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- معللا لذلك التحسين بمثل ما قاله لعمر، وهو ثابت في صحيح مسلم (¬1) والترمذي (¬2) وأبي داود (¬3) والنسائي (¬4). بروايات متعددة. ولا يشك أن الكل صواب لهذا الاعتبار. قوله: ونهاهما (¬5) عن الاختلاف أقول: هذا حجة على المؤلف لأن هذا الاختلاف في فرد من أفراد ا لشرعية، لا فرق بنيه وبين غيره. قوله: فيعود الكلام على منكري الاختلاف والتمذهب. أقول: هذ تسليم من المؤلف- رحمه الله-باندراج الخلاف المتنازع فيه في النهي ¬

(¬1) في صحيحه رقم (273/ 820) (¬2) في السننن رقم (2944) (¬3) في السنن رقم (1477) (¬4) في السنن (2/ 151) وهو حديث صحيح (¬5) وقد ذم النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الاختلاف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه آله وسلم: «إن الله يرضى لكم ثلاثا، ويكره لكم ثلاثا، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئان وأن تعصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال» أخرجه مسلم رقم (1715) وأحمد (2/ 327، 360)، ومالك في الموطأ (2/ 990) والبخاري في الأدب المفرد رقم (442) وهو حديث صحيح

المذكور، وهو المطلوب وادعاء عودة على منكري الاختلاف ممنوع، والسند أن اختلاف المختلفين في الدين مني عنه، وكل منهي عنه منكر، فاختلاف المختلفين في الدين منكر. وإذا ثبت أن هذا الاختلاف منكر فكل منكر يجب إنكاره، فهذا الاختلاف يجب إنكاره وهو المطلوب، فما وقع من العلماء من تقبيح الاختلاف من باب المنكر، لا من باب الاختلاف المنهي عنه، ولو كان من باب الاختلاف المنهي عنه لانسد باب إنكاره المنكر وهو باطل. قوله: ومنها أن الأمة من عهد الصحابة إلى الآن، إلى قوله فيبعد أن يكون المراد. أقول: أراد المؤلف بهذا ابحث الاحتجاج بالإجماع من الصحابة فمن بعدهم، على تجويز الاختلاف (¬1) بين الأمة المعلوم بالضرروة، وعلى التصويب المدعى، وهذه الحجة أنهض حجة جاء بها أهل هذه المقالة، وهي دعوى لا تتفق عند من له أدنى تمييز للقطع بصدور الإنكار للخلاف من الصحابة فمن بعدهم إلى عصرنا هذا والتصريح بتخطئة بعضهم بعضا حتى جزم جماعة بأن ذلك أعنى التخطية إجماع الصحابة، وممن جزم بذلك المحقق ابن إمامة في الغاية. ¬

(¬1) قيل: إن الصحابة رضي الله عنهم قد اختلفوا وهم أفاضل النسا أفيلحقهم الذم المذكور؟؟. قال ابن حزم في «الإحكام في أصول الأحكام» (5/ 67 - 68): كلا ما ليلحق أولئك شيء من هذا، لأن كل أمرئ منهم تحرى سبيل الله، ووجهه الحق فالمخطئ منهم مأجور أجرا واحدا لنيته والجملية في إدراة الخير، وقد رفع عنهم الإثم في خطئهم لأنهم لم يتعمدوه ولا قصدوه، ولا استهانوا بطلبه والمصيب منهم مأجور أجرين، وهكذا كل مسلم إلى يوم القيامة فيما خفي عليه من الدين ولم يبلغه، وإنما الذم المذكور والوعيد الموصوف، لمن ترك التعلق بحبل الله تعالى الذي هو القرآن وكلام النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بعد بلوغ النص إليه، وقيام الحجة به عليه، وتعلق بفلان وفلان مقلدا عامدًا للاختلاف داعيا إلى عصبية وحمية الجاهلية قاصد للفرقة متحريا في دعواه برد القرآن والسنة إليها، فإن وافقها النص أخذ بها وإن خالفها تعلق بجاهليته وترك القرآن وكلام النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فهؤلاء المختلفون المذمومون».

وسنملي عليك طرفا ما وقع بينن الصحابة من التصريح بالتخطية لبعضهم بعضا [18] ولأنفسهم، فأخرج البيهقي (¬1) عن علي- عليه السلام- أن عمر أرسل إلى أمرة بلغة عنها شيء ففزعت، وكانت حبلى فألقت ولدها، فصاح صيحتين ومات، فاستشار عمر الصحابة، فأشار عليه بضعهم أن ليس عليك شيء، إنما أ، ت وال ومؤدب، فقال عمر: ما يقول علي؟ فقال علي عليه السلام: إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطؤوا، وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوا لك، إن ديته عليك، لأنك أفزعتها فألقت ولدها من سببك، وأخرج عبد الرزاق (¬2) عنابن عباس أنه قال: لا يتقي الله يد بن ثابت جعل ابن الابن ابنا، ولم يجعل أب الأب أبا، وهكذا قوله في العول: لو قدم عمر من قدم الله، أخر من أخر الله ما عالت فريضة. ذكره الأسيوطي في شرح جمع الجوامع. وروي عن علي- عليه السلام- وزيد بن ثابت وغيرهما تخطئة ابن عباس في عدم القول بالعول. وروي الأسيوطي عن أبي بكر في الكلالة أنه قال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله وحده ولا شريك له، وإن كان خطأ فمن ومن الشيطان، والله عنه بريء. رواه الدارمي (¬3) والبيهقي (¬4) وابن أبي شيبة (¬5) وغيرهم (¬6). وروى المؤيد بالله في التجريد (¬7) عن ابن مسعود أنه قال امرأة مات زوجها ولم ¬

(¬1) في «السنن الكبرى» (8/ 115 - 118) (¬2) لم أعثر عليه في المصنف ولا في التفسير والله أعلم (¬3) في المسند رقم (3015). (¬4) في السنن الكبرى (6/ 224) (¬5) في المصنف (11/ 415) رقم (11646). (¬6) كسعيد بن مصنور في سننه (3/ 1185رقم 591 بسند صحيح منقطع (¬7) تقدم التعريف به

يفرض لها صداقا: أقول فيها برأيي: فإن كان صواب فمن الله، وإن ككانخطأ فمن ومن الشيطان. رووى البيهقي (¬1) أن كاتبا لعمر بن الخطاب كتب: هذا ما أرى الله عمر، فقال عمر: أمحه، وكتب: هذا ما رأى عمر، فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمن عمر. ومن ذلك تخطئتهم لابن عباس في إفتائه بالمتعة (¬2) وتخطئتهم له أيضًا في جواز بيع الدرهم بالدرهمين استنادا منه إلى إنما الربا في النسيئة (¬3). ومنه اختلاف أهل الجمل وصفن، والنهروان، وتخطئة بعضهم بضعًا، ثم الختلاف في قتل عثمان، وكم نملي عليك من هذا القبيل. وفي نهج (¬4) البلاغة عن علي- عليه السلام- أنه قال: أترد على أحدكم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب أراءهم جميعا، وإلههم واحد ونبيهم واحد، وكتابهم واحد! أفأمرهم الله سبحانه بخلاف ما أطاعوه! أم نهاهم عنه فعموه! أم أنزل الله دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامة! أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى! أم أنزل الله دينا تاما فقصر الرسول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عن تبليغه وأدائه، وألله سبحانه يقول: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} (¬5) وقال: {تبينانا لكل شيء} (¬6) ¬

(¬1) لم أعثر عليه في السنن الكبرى (¬2) سيأتي الكلام على ذلك في الرسالة رقم (103) (¬3) سيأتي الكلام على ذلك في الرسالة رقم (114) (¬4) (ص62 - 63) (¬5) الأنعام: 38 (¬6) [النحل: 89]

وذكر أن الكتاب يصدق بضعه بعضها، وأنه لا ختلاف فيه، فقال سبحانه: {ولو كان [19] من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرًا} (¬1) وأن القرآن ظاهره أنيق، وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف الظلمات إلا بن وقال عليه السلام في بعض خطبه: فواعجباه، ومالي لا أعجب ممن خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها، وكفى دليلا على المطلوب تصريحه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بالتخطية في عدة أحاديث منها: ما أخرج البخاري (¬2) ومسلم (¬3) وأبو داود (¬4) والنسائي (¬5) والموطأ (¬6) عن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه آله وسلم: إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر». وأخرج البخاري (¬7) ومسلم (¬8) والترمذي (¬9) والنسائي (¬10) وأبو داود (¬11) والموطأ (¬12) عن أبي هريرة نحوه. ¬

(¬1) النساء: 82 (¬2) في صحيحه رقم (7352) (¬3) في صحيحه رقم (15/ 1716)) (¬4) في السنن رقم (3574) (¬5) في السنن (8/ 223 - 224) (¬6) لم يخرجه مالك (¬7) في صحيح رقم (7352) (¬8) في صحيحه رقم (000/ 1761) (¬9) في السنن رقم (1326) (¬10) في السنن (8/ 223 - 224) (¬11) في السنن رقم (3574) (¬12) لم يخرجه مالك وهو حديث صحيح

قال الترمذي (¬1) وفي الباب عن عمرو بن العاص وعقبة بن عامر. وفي رواية للحاكم (¬2) إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجران، وإن أصاب فله عشرة أجور، ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد (¬3) وعن عقبة بن عامر أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال له في قضاء أمره به: اجتهد، فإن أصبت فلك عشرة حسنات، ون أخطأت فلك حسنةن وروي نحوه أحمد بن حنبل في مسنده (¬4) فالعجب كل العجب من القائل: كل مجتهد (¬5) مصيب، مع هذا التصريح النبوي الذي جاءت به الأحاديث المتعددة الصحيحة، بأن مخالف الحق مخطئ (¬6) ولو صح إصابة كل مجتهد ما وقع من الله العتاب لرسوله، وللمؤمنين في كثير من الاجتهادات، كقوله: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} (¬7) وقوله: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى ¬

(¬1) في السنن (3/ 651) (¬2) في المستدرك (4/ 88) (¬3) وروده الذهبي بقوله: فرج ضعفوه» قلت: وفي سنده اضطراب (¬4) (4/ 427) بإسناد ضعيف (¬5) تقدم التعليق على هذا القول (¬6) قال الحافظ في الفتح (13/ 318 - 319): باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ بشير إلى أنه لا يلزم من رد كمه أو فتواه إذا اجتهد فأخطأ أن يأثم بذلك بل إذا بذل وسعه أجر، فإن أصاب ضوعف أجره، لكن لو أقدم محكم أو أفتى بغير علم لقحه الإثم. قال ابن المنذر: وإنما يؤجر الحاكم إذا أخطأ، إذا كان عالما بالاجتهاد فاجتهد وأما إذا لم يكن عالما فلا. وقال الخطابي في معالم السنن: إنما يؤجر العامل لن اجتهاده في طلب الحق عبادة، هذا إذا أصاب، وأما إذا أخطأ فلا يؤجر عل الخطأ بل يوضع عنه الإثم فقط كذا قال: وكأنه قال: و: أنه يرى أن قول: وله أجر واحد مجاز عن وضع الإثم. (¬7) التوبة: 43

يثخن في الأرض} (¬1) وقوله {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما آخذتم عذاب أليم} (¬2) وقوله: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا} (¬3). وهكذا نهيه رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عن الاستغفار للمشركين (¬4) وغيره ذلك من الآي، ويدل على ذلك أيضًا حدي أبي سيعد قال: خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيديا طيبا، فوجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة الوضوء ولم يعده الآخر، ثم أتيا رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: أصبت السنة وأجزتك صلاتك، وقال للذي توضأ ,أعاد لك من الأجر مرتين أخرجه أبو داود (¬5) والنسائي (¬6) والدارمي (¬7) والحاكم (¬8) وابن السكن (¬9) والدارقطني (¬10) وهو في كثير من المؤلفات أهل البيت- عليهم السلام- ففي هذا ا لحديث دليل على عدم التصويب للتنصيص على أن المصيب للسنة أحدهما فقط والآخر لم يصبها ولو كانت الشريعة أحدا دائرًا بين مرادات ¬

(¬1) [الأنفال: 67] (¬2) الأنفال: 67 (¬3) التوبة:84 (¬4) قال تعالى {استغفر لهم أو لا تستغفر هم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين [التوبة:80] (¬5) في السنن رقم (338) (¬6) في السنن (1/ 213 رقم 433). (¬7) في السنن (1/ 576 رقم 771) (¬8) في المستدرك (1/ 178 - 179) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين (¬9) ذكره الحافظ في التخليص (1/ 156) (¬10) في السنن (1/ 188 - 189 رقم 1، وه حديث حسن

المجتهدين لأصباهم كل واحد منهم، وفيه أيضًا تصريح بالعفون فإن المخالف للسنة [20] لم يأثم مخالفة بل استحق زيادة الأجر بالصلاة والأخرى، لأنها عبارة يستحق عليها ا لثواب، لأنه سبحانه لا يضيع عمل عامل. ومثله حديث جابر قال: خرج رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عام الفتح إلى مكة في رمضان، وصام حتى بلغ كراع العميم، وصام الناس، ثمدعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض النس قد صام فقال: أولئك العصاة أخرجه مسلم (¬1) والترمذي (¬2) وفي هذا تصريح بالخطأ والإثم، ولا يشك منصف أن صوم أولئك إنما كان باجتهاد، فإن قلت: استحقاق الأجر ينافي الخطأ، وقد صرحت الأدلة بأنه مأجور. قلت: استحقاق الأجر لي في مقابل الخطأ بل في تعب التحصيل، ومشقة البحث، قال ابن لإمام في شرح الغاية ما لفظه: تنبينه: أجر المخطئ على بذل الموسع لا على نفس الخطأ لعدم مناسبته، ولأنه ليس من فعله، والمصب بتعدد الأجر في حقه فله أجر على بذل الوسع كالمخطئ، وأجران أو أجور إما على الإصابة لكونا من آثار صنعه، ,إما لكونه سن سنة حسنة يقتدي بها من يتبعه من المقلد لاهتدائهم به لمصادقتهم الهدى، ومقلد مخطئ لم يحصل على شيء انتهى. ومن أدلة ما نحن بصدده براءته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من فعل خالد (¬3) في قتله بني ¬

(¬1) في صحيحه رقم (90/ 1114) (¬2) في السنن رقم (710) وقال حديث حسن صحيح (¬3) يشير إلى الحدي الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4339) عن سالم عن بأبيه قال: بعث النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- خالد بن الوليد إلى بين جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون صبأنا، صبأنا، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره، فقلت: والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره، حتى قدمنا على النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يديه فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين

جذيمة وقد بين وجه اجتهاده بالبقاء على الأصل، وكذلك تخطيته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لأسامة بن زيد (¬1) في قتل من قال: لا إله إلا الله، وقد بين وجه اجتهاده بأنه إنما قالهاتقية، وحديث خالد وأسامة (¬2) في الأمهات وغيرها، فهذه الأدلة قد دلت على مطلق الخطأ، مصحوبا بالإثابة أو الإثم أو العفو بحسب اختلاف الأفعال، وعلى الجملة أن تسمية المخطئ بالمصيب من الإصابة التي هي منافية للخطأ، لا من الصواب الذي لا ينافيه مستلزمه لإبهام الشريعة وبيانها بالاجتهادات، وهذا لعمرك الغلو الظاهر، وأي غلو أبلغ من جعل الشريعة محرمة إن حرم المجتهد محلله إن حلل موجبة، وإن أوجب مسقطه إن أسقط. نعم وأما استدلال القائل بأن كل مجتهد مصيب بقوله تعالى: {ففهمنها سليمان وكلا ءاتينا حكما وعلما} (¬3) فهي من الدلالة على التصويب بمراحل، وأي فائدة ¬

(¬1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه (4269) ومسلم في صحيحه رقم (96) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما يقول: بعثنا رسول الله إلى الحرقة، فصحبنا القوم فهزمناهم ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله الله، فكف الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال: يا أسامة، أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟ قلت: كان متعوذا، فما زال يكررها، حتى تمنيت أن لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم ". (¬2) تقدم تخريجهما في التعليقتين السابقتين. (¬3) [الأنبياء: 79]. قال الشاطبي في الموفقات (4/ 1656 - 166) بعد ذكر الآية: تقرير لإصابته عليه السلام في ذلك الحكم، وإيماء إلى خلاف ذلك في داود عليه السلام، لكن لما كان المجتهد معذورا مأجورا بعد بذله الوسع، قال: {وكلا ءاتينا حكما وعلما}. قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: (11/ 309): قال الحسن لولا هذه الآية لرأيت القضاة هلكوا، ولكنه تعالى أثنى على سليمان بصوابه وعذر داود اجتهاده

جاء بها التخصيص بالتفهيم مع الاستواء في الإصابة، وتبعية مراد الشارع لمراد يما؟ فالقائل بأنها دالة على التصويب مطرح بمعنى التفهيم الذي من شأنه إصابة المتصف به وخطأ مقابلة. نعم فيها دالالة على العفو بعدية باعتبار قوله: {وكلا ءاتينا حكما وعلما} وقيل إنماكان كذلك الدفع توم إن داود- عليه السلام- ليس بذي علم وحكم، وكيف [21] يتفقان في الإصابة (¬1) وقد رجع داود- عليه السلام- إلى حكم سليمان!. وأما الاستدلال بحديث: خلاف أمتي رحمة» (¬2) فهو لا يدل على التصويب، وعلى ¬

(¬1) قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (11/ 311) إنما يكون الأجر للحاكم المخطئ إذا كان عالما بالاجتهاد والسنن والقياس وقضاء من مضى، لأن اجتهاده عبادة ولا يؤجر على الخطأ بل يوضع عنه الإثم فقط، فأما من لم يكن محلا للاجتهاد فهو متكلف لا يعذر بالخطأ في الحكم، بل يخاف عليه أعظم الوزر يدل على ذلك حديث صلى الله عليه آله وسلم- القضاة ثلاثة». قال ابن المنذر: إنما يؤجر على اجتهاده في طلب الصواب لا على المخطأ وما يؤيد هذا قوله تعالى {ففهمنها سليمان} قال الحسن أثنى على سليمان ولم يذم داود. والخلاصة أن الحق في طرف واحد ولم ينصب الله تعالى عليه دلائل بل وكل الأمر إلى نظر المجتهدين فمن أصاب أصاب ومن أخطأ فهو معذور مأجور ولم يتعبد بإصابته العين بل تعبدنا بالاجتهاد فقط. (¬2) هذا الحديث لا أصل له. - نقل المناوي عن السبكي أنه قال: وليس بمعروف عند المحدثين، ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع. - فيض القدير شرح الجامع الصغير (1/ 212) وقال ابن حزم في «الإحكام في أصول الأحكام» (5/ 64): وهذا من أفسد قوله يكون، لأنه لو أن الاختلاف رحمة لكان الاتفاق سخطا، وهذا مالا يقوله مسلم لأنه ليس إلا اتفاقا أو اختلاف، ولي إلا رحمة أو سخط» وانظر كلام المحدث الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (1/ 76 رقم 57) كشف الخفاء (1/ 66رقم 153)، تذكرة الموضوعات للفتى (2ص 90)

فرض دلالته عليه بالالتزام، فهو أيضًا مما لا أصل له ما قال المحدثون، وهم الناس في هذا ا لباب، واستشهاد مالك به في محفل من النسا لا يدل على صحته، وعلى فرض صحته له فهو ليس بحجة إن لم يسند، وأيضا فإن القطعيات بدفعه كقول الله تعالى {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} (¬1) وقوله {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} (¬2) وقوله: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} (¬3) وقال: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو م تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض} (¬4) وقد استعاذ النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وآله وسلم ن الأولتين، وقال في الأخرتين: هاتان أهون» أخرجه البخاري (¬5) فجعل اختلاف الأمة عذابا ولم يجعله رحمة. وقد قال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- «الجماعة رحمة، الفرقة عذاب. أخرجه. ¬

(¬1) آل عمران: 105 (¬2) [آل عمران: 103] (¬3) [الأنعام: 159] (¬4) الشورى: 13 (¬5) في صحيحه رقم (4628) عن جابر رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم} قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أعوذ بوجهك قال: أو من تحت أرجلكم، قال أعوذ بوجهك، {أو م تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض} قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- هذا أهون، أو هذا أيسر

الطبراني (¬1) من حديث النعمان بشير. وعنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «لا يقتتل مسلمان، ولا يختلف عالمان. «إذا عرفت هذا عملت عدم الإجماع الذي ادعاه المؤلف على الاختلاف والتصويب، بل وقوع الإجماع على التخطية، وهذا باعتبار المسائل الظنية ن وأما العقليات والقطعيات فقد حكى أئمة الأصول الإجماع على أن الحق فيها مع واحد، والمخالف في الضروريات منها- إن كانت دينا- كافر، وفي النظريات إثم، والبحث مستوفى في الأصول، فليرجع إليه. وكذلك الخلاف في الظني، وحكم المخالف للحق فيه. وقد سقنا إليك من الأدله ما يطمئن به خاطم، يرشدك إلى بطلان قول المغترين الجاعلين مراد الله أحدا دائرا بين مرادات المجتهدين، وعلى أن هذه المقالة قريبة الميلاد، أول من قال بها المهدي لدين الله محمد بن الحسن الداعي، كما حكى ذلك عنه الإمام الهدي أحمد رأيت بن يحيي في مقدمة البحر (¬2) وشرحها، وهكذا قال أبو طالب في الإفادة. وقد رأيت هذه الرواية في كثير من كتب أصحابنا التاريخية. والعجب كل العجب ممن يدعي أن ذلك إجماع القدماء من أهل البيت، وعي لم تحدث على هذا إلا بعد إنقراض القدماء اصطلاحا بأكثر من أربعين عاما. فإذا لم ينفعك في هدم هذه المقالة المحدثة كتاب الله، وسنة رسوله، فقد استحكم في قلبك داء العصبية العضال، وسمها الضار القتال فابك على دينك. قوله: وبالجملة، فالنهى عن الاختلاف إلخ. أقول: قد أنصف المؤلف- رحمة الله- بإقراره بقبطعية [22] النهي عن الاختلاف، ¬

(¬1) عزاه إليه الهيثمي في «مجمع الزوائد «(8/ 182) وقال: رواه عبد الله وأبو عبد الرحمن راويه عن الشعبيي لم أعرفه وبقية رجاله ثقات. عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله والتحدث بنعمة الله وشكر وتركها كفر والجماعة رحمة والفرقة عذاب. (¬2) (1/ 3 - 6).

ولكنه تعقبه بما يضحك منه فقال: وقع الاختلاف في المذاهب أمر قطعي ظاهر، قد وقع عليه الإجماع، ووجب عليه العمل، وأنت قد عرفت بطلان دعوى الإجماع الذي ادعاه، فإن كانت معارضة ذلك الأمر القطعي بإقراره مستنده إلى هذا الإجماع ففيه ما قد سمعته، وأن كانت المعارضة بمجرد وقوع الخلاف بالضرورة فهذا شيء لا يقول به عالم، لأن الزنا، والربا، وشرب الخمر، وقتل النفس، ونحو ذلك معلوم وقوعه في هذه الأمة بالضرورة، فهل يقول عاقل بأن هذا الوقوع يعارض تلك الأدلة القاضية بتحريمه. قوله: ولن يصوب الله أمرا نهى عنه. أقول: لم يتم له هذا التلفيق إلا بالبناء على التصويب قد أبطلناه، فإذا عرفت بطلانه عرفت بطلان هذا الدليل الذي لا يتم إلا به. قوله: فما بقي إلا تفسير الاختلاف بتخطيه بعض المجتهدين إلخ. أقول: إذا كانت التخطية داخلة في مسمى الخلاف بأى دليل دل على قصره عليها، على أنك قد عرفت ما سردناه عن الصحابة من ذلك. نعم لما ألجب المؤلف النصوص القرآنية، ولم يجد طريقا إلى ردها داعيته الحيل في تأويلها، وقع فيما وقع، وهكذا فلتكن التعسفات والتموية على المقصرين، وترويج خواطرهم بما لا طائل تحته. قوله: وما ذكرتم في شأن التقريرات إلى آخر الرسالة. أقول: المؤلف لما فرغ من تأصيل هذه المسائل التي مرت له وتقريرها، سلك الآن في تقرير فرعها، وقد عرفت ما هدمنا به الأصل الذي عليه أنبنت، وانهدام الفرع تابع له، والكلام على جميع الرسالة على الاستيفاء يستدعي كتابا حافلا، وقد تبين لك بما أسلفناه بقية الكلام على هذه الرسالة، فإن لم تنتفع بهذا المقدار فلست بمنتفع بالتطويل والإكثار، وطرق مذهب أهل البيت- سلام الله عليهم- مسهلة لا حاجة لطالبها إلى هذه

التعسفات، ولا ضرورة تلجيه إلى تلك التقريرات والتذهيبات، المؤسسة على أس لا أصل له عند من له من الفطنة والتوفيق أدنى نصيب، وغلى الجملة فحثية صولة الرعاع قد أمسكت بعنان القلم، ومنعت عن كثير مما يليق بالمقام إيراده ولا جرم في فمي ماء وهل ... ينطق من في فيه ماء كمل من خط ومؤلفه: القاضي بدر الدين، وحاكم المسلمين محمد بن علي الشوكاني- حفظه الله- في ذي الحجة سنة 1203 وجعله قرة عين للمسلمين، وأبقى حكمه في جميع الأنام، وسدده إلى ما فيه رضاه آمين آمين آمين.

القول المفيد في حكم التقليد

القول المفيد في حكم التقليد تأليف محمد بن علي الشوكاني حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه محفوظة بنت على شف الدين أم الحسن

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: القول المفيد في حكم التقليد. 2 - موضوع الرسالة: أصول الفقه. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، وبعد حمد لله وصلاته وسلامه على رسول وآله. فإنه طلب بعض المحققين من أهل العلم أن أجمع له بحثا يشمل على تحقيق الحق في التقليد .... 4 - آخر الرسالة: .... فإن ألجأته الضرورة، لم يتمكن من تصريح بالصواب، فعليه أن يصرح تصريحا لا يبقى فيه شك لمن يقف عليه أن هذا مذهب فلان أو لاأي فلان الذي سأل عنه السائل عن غيره. انتهى ما أدت تحيره بقلم مؤلف محمد بن علي الشوكاني. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - عدد الأوراق: 32 ورقة أي 64 صفحة. 7 - المسطرة: 24 - 26 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: (10 - 12) كلمة. 9 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني 10 - الرسالة من المجلد الثالث من (الفتح الرباني من فتاى الشوكاني).

[تمهيد] بسم الله الرحمن الرحيم، وبعد حمد لله وصلاته وسلامه على رسول وآله. فإنه طلب بعض المحققين من أهل العلم أن أجمع له بحثا يشمل على تحقيق الحق في التقليد (¬1)، أجائز هو أم لا على وجه لا يبقى بعده شك ولا يقبل عنده تشكيل. ولما كان هذا السائل من العلماء المبزين كان جوابه على نمط علم المناظرة. فنقول وبالله التوفيق: لما كان القائل بعدم جواز التقليد قائما في مقام المنع وكان القائل بالجواز مدعيا كان الدليل على مدعي الجواز وقد جاء المجوزون بأدلة: ¬

(¬1) تقدم التعريف به في الرسالة السابقة رقم (59).

[أدلة القائلين بجوار التقليد والرد عليها] [1]: منها قوله تعالى {فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (¬1) قالوا فأمر الله سبحانه من لا علم له أن يسأل من هو أعلم. (الجواب) أن هذه الآية الشريفة واردة في سؤال خاص خارج عن محل النزاع كما يفيد ذلك السياق المذكور قبل هذا اللفظ الذي استدلوا به وبعده. يفيد ابن جرير (¬2) والبغوي (¬3) وأكثر المفسرين إنها نزلت ردا على المشركين لما أنكروا كون الرسول بشرا، وقد استوفى ذلك السيوطي في الدر المنثور (¬4) وهذا هو المعنى الذي يفيده السياق (¬5). قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا إليهم نوحي فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (¬6) وقال [تعالى]: {أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم} (¬7) وقال [تعالى]: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا ¬

(¬1) [النحل:43] (¬2) في «جامع البيان عن تأويل آى القرآن «(8/جـ 14/ 108). (¬3) في «معالم التنزيل» (3/ 70) (¬4) (5/ 132 - 133) (¬5) قال ابن جرير في «جامع البيان «(8/جـ14/ 108): وتقول تعالى ذكره لنبيه محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلى أمة من الأمم، للدعاء إلى توحيدنا، والانتهاء إلى أمرنا ونهينا، إلا رجالا من بني آدم نوحى إليهم وحينا لملائكة، ويقول: فلم نرسل إلى قومك إلا مثل الذي كنا نرسل إلى من قبلهم من الأمم من جنسهم، وعلى منهاجهم {فسئلوا أهل الذكر} يقول لمشركي قريش: وإن كنتم لا تعلمون أن الذين كنا يرسل إلى من قبلكم من الأمم رجال من نبي آدم مثل محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وقلتم: هم ملائكة: أى ظننتم أن كلمهم قبلا- فأسلوا أهل الذكر، وهو الذين قد قرءوا الكتب من قبلهم: التوراة والانجيل، وغير ذلك من كتب الله التى أأنزلها على عباده. (¬6) [النحل:43]. (¬7) (يونس: 2)

نوحى إليهم من أهل القرى} (¬1) وعلى فلاض أن المراد السؤال العام فالمأمور بسؤالهم هم أهل الذكر وهو كتاب الله وسنة رسوله لا غيرهما، ولا أظن مخالف في هذا لأن هذه الشريعة المطهرة هى إما من الله عز وجل وذلك هو القرآن الكريم، أو من رسوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وذلك هو السنة المطهرة ولا ثالث لذلك. وإذا كان المأمور بسؤالهم هم أهل القرآن والسنة فالآية المذكورة حجة على المقلدة وليست بحجة لهم لهم لأن المراد أنهم يسألون أهل الذكر ليخبروهم به، فالجواب من المسؤولين أن يقولوا قال الله كذا قال رسوله كذا فيعمل السائلون بذلك وهذا هو غير ما يريده المقلد المستدل بالآية الكريمة فإنه إنما استدل بها على جواز ما هو فيه من الأخذ بأقوال الرجال من دون سؤال فإن سؤال عن الدليل فإن هذا هو التقليد، ولهذا رسموه بأنه قبول قول الغير من دون مطالبته بحجة (¬2). فحاصل التقليد أن لا يسأل عن كتاب الله لا عن سنو رسوله بل يسأل عن مذهب إمامه، فإذا جاوز ذلك إلى [1] الشؤال عن الكتاب والسنة فليس بمقلد، وهذا يسلمه كل مقلد ولا ينكره. وإذا تقرر بهذا أن المقلد إذا سأل أهل الذكر عن كتاب الله وسنة رسوله لم يكن مقلد علمت أن هذه الآية الشريفة- على تسليم أن السؤال ليس عن الشيء الخاص الذي يليه السياق بل عن كل شيء من الشريعة كما يزعمه المقلد- تدفع في وجهه وترغم أنفه وتكسر ظهره كما قررناه. [2]: ومن جملة ما استدلوا به ما ثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال في حديث صاحب الشجة (ألا سالوا إذا لم يعلموا إنما شفاء العي .......... ¬

(¬1) [يوسف: 109] (¬2) انظر: «أساس ابلاغة» (ص 785)، «معجم اللغة «(5/ 19). وانظر: «الكوكب المنير» (4/ 530)

السؤال) (¬1) وكذلك حديث العسيف الذي زنى بامرأة مستأجرة فقال أبوه أني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وأن على امرأة هذا الرجم، وهو حديث ثبت في الصحيح (¬2) قالوا فلم ينكر عليه تقليد من هو أعلم منه. (الجواب): أنه لم يرشدهم- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في حديث صاحب الشحة إلى السؤال عن آراء الرجال بل أرشدهم إلى السؤال عن الحكم الشرعي الثابت عن الله ورسوله، ولهذا دعا عليهم لما أفتوا بغير علم فقال [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-]: «قتلوه قتلهم الله» مع أنهم قد أفتوا بآرائهم فكان الحديث حجة عليهم لا لهم، فإنه اشتمل على أمرين. أحدهما: الإرشاد لهم إلى السؤال عن الحكم الثابت بالدليل. والآخر الذم لهم على اعتماد الرأي والإفتاء به، وهذا معلوم لكل عالم فإن المرشد إلى السؤال هو رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وهو باق بين أظهرهم فالإرشاد منه إلى السؤال وأن كان مطلقا ليس المراد به إلا سؤاله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أو سؤال من يسأله أو سؤال من قد علم هذا الحكم منه. والمقلد كما عرفت سابقا لا يكون مقلدا إلا إذا لم يسأل عن الدليل أما سأل عنه فليس بمقلد فكيبف يتم الاحتجاج بذلك على جواز التقليد [2] وهل يحتج عاقل على ثبوت شيء بما ينفيه وعلى صحة أمر بما يفيد فساده فأنا لا نطلب منكم معشر المقلدة إلا ¬

(¬1) وهو حديث حسن بشواهده. أخرجه أبو داود رقم (336) والبيهقى (1/ 228) والدارقطنى (1/ 189 - 190) وله شاهدان عن ابن عباس الأول: أخرجه أبو داود رقم (337) وابن ماجه رقم (572). وهو حديث حسن. الثاني: أخرجه الحاكم (1/ 178) والدرقظني (1/ 190). (¬2) أخرجه البخاري رقم (6859) ومسلم رقم (1697،1698) ومالك في «الموطأ «(2/ 822 رقم 6) والترمذي رقم (1433) وقال: حديث حسن صحيح، وأبو داود رقم (4445). والنسائي (8/ 240رقم 5410) والشافعي في (الرسالة «(ص 248 فقرة رقم 691).

ما دل عليه ما جئتم به فنقول لكم اسألوا أهل الذكر وه كتاب الله وسنة رسوله واعملوا عليه وارتكوا آراء الرجال والقيل والقال. ونقول لكم كما قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ألا تسألون فإنما شفاء العيى السؤال عن كتاب الله وسنة رسوله لا عن رأى فلان ومذهب فلان فإنكم إذا سألتم عن محض الرأي فقد قتلكم من رسوله به كما قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-. في حديث صاحب الشجة (¬1) «قتلوه قتلهم الله». وأما السؤال الواقع من والد العسيف (¬2) فهو إنما سأل علماء الصحابة عن حكم مسألته من كتاب الله وسنه ريوله ولم يسألهم عن آرائهم ومذهبهم، وهذا يعلمه كل عالم، ونحن لا نطلب من المقلد إلا أن يسأل كما سأل والد العسيف ويعمل على ما قام عليه الدليل الذي رواه العالم المسؤول ولكنه قد أقر على نفسه أنهلا يسأل إلا عن رأي إمامه لا عن روايته، فكان استدلاله، بما استدل به هاهنا حجة عليه لا له والله المستعان. [3]: ومن جملة ما استدلوا به ما ثبت أن أبا بكر قال في الكلالة (¬3): أقضي فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يمكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله أن أخالف أبا بكر وصح عنه أنه قال لأبي بكر رأينا تبع لرأيك. وصح (¬4) قال كان ستة من أصحاب رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يفتون الناس: ابن مسعود، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وأبو موسى [رضي الله عنهم] وكان ثلاثة منهم يدعون قولهم ¬

(¬1) تقدم تخريجه (ص 2165) (¬2) تقدم تخريجه (ص 2165) (¬3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10/ 304 رقم 19191) والدارمي (2/ 365 - 366) والبيهقي (6/ 224) ورجاله ثقات لكن الشعبي من أبي بكر، فالحديث منقطع. (¬4) ذكره ابن القيم في «إعلام الموقعين «(2/ 202)

لقول ثلاثة كان عبد الله يدع قوله لقول عمر وكان أبو موسى يدع قوله لقول علي وكان زيد يدع قوله لقول أبي بن كعب. (الجواب): عن قول عمر أنه قد قيل إنه يستحي عمر من مخالفة أبي بكر [3] في اعترافه بجواز الخطأ عليه وأن كلامه ليس كله صوابا مأمونا عليه الخطأ، وهذا وإن لم يكن ظاهرا لكنه يدل عليه ما وقع من مخالفة عمر لأبي بكر مسألة، كمخالفته له في سبي أهل الردة (¬1) وفي الأرض المغنومة (¬2) فقسمها أبو بكر ووقفها عمر. وفي العطاء (¬3) فقد كان أبو بكر يرى التسوية وعمر يرى المفاضلة. وفي الاستخلاف فقد استخلف أبو بكر ولم يستخلف عمر (¬4)، بل جعل الأمر شورى وقال إن أستخلف فقد استخلف أبو بكر، وإن لم أستخلف فإن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لم يستخلف. قال ابن عمر فوالله ما هو إلا ان ذكر رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فعلمت أنه لا يعدل برسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أحدا وأنه غير مستخلف. مخالفه أيضًا في الجلد والإخوة (¬5) فلو كان المراد بقوله إن يستحي من مخالفة أبي بكر في مسألة الكلالة (¬6) وهو ما قالوه لكان منقوضًا عليهم بهذه المخالفات فإن صح خلافة له، ولم يستح منه فما أجابوا به في هذه المخالفات فهو جوابنا عليهم في تلك الموافقة. ¬

(¬1) انظر «المغني «(12/ 264 - 265) (¬2) انظر: «موسوعة فقه عمر بن الخطاب» (ص 79 - 81). و» الأموال «لأبي عبيد (ص59) (¬3) انظر (موسوعة فقه عمر بن الخطاب «(ص 697) (¬4) قال عمر رضي الله عنه: «قد رأيت من أصحابي حرصا سيئا، وإني جاعل هذا الأمر الأمر إلى هؤلاء لنفر الستة الذين مات رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وهو عنهم راض ... » انظر: «البداية والنهاية» (7/ 137). «موسوعة فقه عمر بن الخطاب» (ص 131). (¬5) انظر: «المحلى «(9/ 288) وموسوعة فقه عمر بن الخطاب «(ص 45 - 57). (¬6) انظر تفصيل ذلك في «موسوعة فقه عمر بن الخطاب» (ص 747 - 748) و «المغني» (6/ 168).

وبيانه أنهم إذا قالوا خالفه في هذه المسائل لآن اجتهاده، كان على خلاف اجتهاد أبي بكر. قلنا ووافقه في تلك المسألة لأن اجتهاده كان موافقا لاجتهاده وليس من التقليد في شيء. وأيضا قد ثبت أن عمر بن الخطاب أقر عند موته (¬1) بأنه لم يقض في الكلالة بشيء واعترف أنه لم يفهمها فلو كان قد قال بما به أبو بكر تقليدا له لما أقر بأنه لم بقض فيها بشيء ولا قال إنه لم يفهمها. ولو سلمنا «أن عمر أبا بكر في هذه المسألة لم تقم بذلك حجة، لما تقرر من عدم حجة أقوال الصحابة (¬2) وأيضا غاية ما في ذلك تقليد علماء الصحابة في مسألة من المسائل التي يخفى فيها الصواب على المجتهد مع تسويغ ¬

(¬1) أخراج أحمد في مسنده (1/ 20) عن عمر بن الخطاب قال: اعلموا أني لم أقل في الكلالة شيئا. (¬2) وهذا ليبس على إطلاقه بل فيه تفصيل: 1 - قول الصحابي فيما لا يدرك بالرأي والاجتهاد حجة عند العلماء، لانه محمول على السماع من النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، فيكون من قبيل السنة، والسنة مصدر للتشريع. 2 - قول الصحابي الذي حصل عليه الاتفاق يعتبر حجة شرعية، لأنه يكون إجماعا، وكذلك قول الصحابي الذي لا يعرف له مخالف بعد اشتهاره يكون من قبيل الإجماع السكوني، وهو أيضًا حجة شرعية. 3 - قول الصحابي الصادر عن رأي واجتهاد، لا يكون حجة ملزمة على صحابي مثله، ولا على من جاء بعدهم ولكن يستأنس به في حال انعدام الدليل من الكتاب والسنة والإجماع. 4 - قول الصحابي إذا خالف المرفوع الصحيح لا يكون حجة، بل يكون مردودا. 5 - قول الصحابي إذا خالفه الصحابة لا يكون حجة. انظر «البحر المحيط «(6/ 53 - 56). وقال الشافعي: إذا اجتمعوا أخذنا باجتماعهم وإن قال واحدهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله، وإن اختلفوا أخذنا بقول بعضهم ولم تخرج عن أقاويلهم كلهم. " الرسالة» (ص 597 - 598). انظر «المسودة «(ص (276 - 336)، التبصرة (395) «تيسير التحرير» (3/ 132).

المخالفة فيما عدا تلك المسألة، وأين هذا مما يفعله المقلدون من تقليد العالم في جميع أمور الشريعة من غير التفات إلى دليل ولا تعريج على تصحيح أو تعديل. وبالجملة فلو سلمنا [4] أن ذلك تقليد من عمر كان دليلا للمجتهد إذا لم يمكنه الاجتهاد في مسألة، وأمكن غيره من المجتهدين فيها إذا أنه يجوز لذلك المجتهد أن يقلد المجتهد الآخر ما دام غير متكمن من الاجتهاد فيها إذا تضيقت عليه الحادثة. وهذه مسألة أخرى غير المسألة التى يريدها المقلد، وهى تقليد عالم من العلماء في جميع المسائل الدين وقبول رأيه دون روايته وعدم مطالبته بدليل، وترك النظر في الكتاب والسنة، والتعويل على ما يراه من هو أحقر الآخذين بهما، فإن هو عين اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا كما سيأتيك بيانه. وأيضا لو فرض ما زعمه من الدلالة لكان ذلك خاصا بتقلي علماء الصحابة في مسألة من المسائل فلا يصح إلحاق غيرهم لهم لما تقرر من المزايا التي للصحابة البالغة إلى حد بقصر عنه الوصف حتى صار مثل جبل أحد من متأهري الصحابة لا يعدل المد من متقدميهم ونصيفه (¬1) وصح أنهم خير القرون (¬2) فكيف يلحق بهم غيرهم! وبعد اللتيا والتي (¬3) فما أوجدتمونا نصا في كتاب الله ولا في سنة رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ¬

(¬1) يشير إلى الحديث الذي أخرجة البخاري رقم (3673) وأبو داود رقم (4658) والترمذي رقم (3861). من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «لا تسبوا أحدا من أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا، ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه» (¬2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (2652) ومسلم رقم) ومسلم رقم (2533) وقد تقدم مرارا. (¬3) وتصغير التي واللآتي واللآت اللتيا واللتيا، بالفتح والتشديد قال العجاج: دافع عني بنقير قوتي. بعد اللتيا واللتيا والتي. إذا علتها نفس تردت. قيل: أراد العجاج باللتيا تصغير التي، وهي الداهية الصغيرة، والتي الداهية الكبيرة، وتصغير اللواتي اللتيات واللويات. ويقال: وقع فلان في اللتيا والتي، وهما اسمان من أسماء الداهية.» لسان العرب «(12/ 234)

وليست الحجة إلا فيها، ومن ليس بمعصوم لاحجة لنا لكم في قوله ولا في فعله فما جعل الله الحجة إلا في كتابه وعلى لسانه نبيه، عرف هذا من عرف وجهله من جهله والسلام. وأما ما استدلوا به من قول عمر لأبي بكر رآينا لرأيك تبع فما هذه أول قضية جاءوا بها على غير وجهها فإنها لو نظروا في القصة بكمالها لكانت حجة عليهم لا لهم، وسياقها في صحيح البخاري (¬1) هكذا: عن طارق بن شهاب قال جاء [بزاخة] (¬2) وفد من أسد وطفان إلى أبي كر يسألونه الصلح فخيرهم بين الحرب المجلية والسلم المخزية، فقالوا هذه عرفناها فما المخزية. قال: ننزع منكم الحلقة والكراع ونغنم ما أصبنا منكم [5] وتردون علينا ما أصبتم منا، وتدون لنا قتلانا ويكون قتلاكم في النار، وتتركون أقواما يتبعون أذناب الإبل حتى يري الله خليفة رسوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- والمهاجرين أمرا يعذرونكم به فعرض أبو بكر ما قال على القوم فقام عمر بن الخطاب فقال: قد رأيت رأيا وسنشير عليك، أما ما ذكرت من الحرب المحلية والسم المخزية فنغمم ما ذكرت وأما ذكرت أن نغنم ما أصبنا منكم وتردون ما أصبتم منا فنعم ما ذكرت، وأما ذكرى تدون قتلانا ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (13/ 206) رقم 7221) مختصرا. وانظر «فتح الباري» (13/ 210 - 211): قال الحافظ ابن حجر: أخرجه بطوله البرقاني بالإسناد الذي أخرج البخاري ذلك القدر منه- وهو- حدثنا مسدد حدثنا يحيي عن سفيان حدثني قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب. (¬2) زيادة من «فتح الباري «(13/ 210)

ويكون قتلاكم في النار فإن قتلانا قاتلت فقلت على أمر الله، أجورها على الله ليس لها ديات فتتابع القوم على ما قال عمر. ففي هذا الحديث ما يرد عليهم فإنه قرر ما رآه أبو بكر رضي الله عنه ورد بعضه، وفي بعض ألفاظ هذا الحديث: قد رأيت رأيا ورأينا لرأيك تبع فلا شك أن المتابعة في بعض ما رآه أو في كله ليست من التقليد في شيء، بل من استصواب ما جاء به في الآراء والحروب وليس ذلك بتقليد، وأيضا قد يكون السكوت عن اعتراض بعض ما فيه مخالفة من آراء الأمراء لقصد إخلاص الطاعة للأمراء التي ثبت الأمر بها وكراهة الخلاف الذي أرشد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إلى تركه. ثم هذه الآراء هي في تدبير الحروب وليست في مسائل الدين وإن تعليق بعضها بشيء من ذلك فإنما هوة على طريق الاستتباع. وبالجملة فاستدلال من استدل بمثل هذا على جواز التقليد تسلية لهؤلاء المساكين من المقلدة بما لا يسمن ولا يغني من جوع، وعلى كل حال فهذه الحجة التي استدلوا بها عليهم لا لهم لأن عمررضي الله عنه قرر من قول أبي بكر ما وافق اجتهاده ورد ما خالفه. وأما ما ذكروه من موافقة ابن مسعود لعمر وأخذه بقوله، وذلك رجوع بعض الستة المذكورين من الصحابة إلى بعض فليس هذا إلا من باب موافقة العالم المجتهد للعالم المجتهد، وليس هذا ببدع ولا مستنكر فالعالم يوافق العالم في أكثر مما يخالفه فيه من المسائل، ولا سيما إذا كانا قد بلغا إلى أعلى مراتب الاجتهاد فإن المخالفة قليلة جدا، وأيضا قد ذكر أهل العلم أن ابن مسعود خالف عمر في نحو مائة مسألة، وما وافقه إلا في نحو أربع مسائل فأين التقليد من هذا ويكف صلح مثل ما ذكر [6] للاستدلال به على جواز التقليد؟ وهكذا رجوع الستة المذكورين إلى أقوال بعض فإن هذا موافقة لا تقليد، وقد كانوا جميعا هم وسائر الصحابة إذا ظهرت لهم السنة لم يتركوها لقول أحد كائنا من كان بل كانوا يعضون عليها ...........

بالنواجذ (¬1) ويرمون بآرائهم وراء الحائط فأين هذا من صنع المقلدين الذين لا يعدلون بقول من قلد كتابا ولا سنة ولا يخالفونه قط، وإن تواتر لهم ما يخلفه من السنة. ومع هذا فإن الرجوع (¬2) الذي كان يقع من بعض الصحابة إلى قول بعض إنما هو في الغالب رجوع إلى روايته لا إلى رأيه، لكونه أخص بمعرفة ذلك المروي منه بوجه من الوجوه كما يعرف هذا من عرف أحوال الصحابة. وأما مجرد الآراء المحضة فقد ثبت عن أكابرهم النهي عنها والتنفير منها كما سيأتي بيان طرف من ذلك إن شاء الله وإنما كانوا يرجعون إلى الرأي إذا أعوزهم الدليل وضاقت عليهم الحادثة، ثم لا يبرمون أمرا إلا بعد التراود والمفاوضة، ومع ذلك فهم على وجل، ولهذا كانوا يكرهون تفرد بعضهم برأي يخالف جماعتهم حتى قال أبو عبيدة السلماني لعلي ابن أبي طالب: لرأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك. [4]: واحتجوا أيضًا بقوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي «(¬3) وهو طرف من حديث العرباض بن سارية وهو حديث صحيح وقوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:"اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» (¬4) ¬

(¬1) تقدم تخريجه مرارا. (¬2) سيأتي توضيح ذلك. (¬3) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح. (¬4) أخرجه الترمذي رقم (3662) وقال: حديث حسن. وأحمد (5/ 382، 385،402) واين ماجه رقم (97) والحاكم في «المستدرك) (3/ 75) والطحاوي في «مشكل الآثار «(2/ 83 - 84) والحميدي في مسنده (1/ 214 رقم 449) وابن سعد في «الطبقات «(2/ 334) وأبو نعيم في الحلية (9/ 109) والخطيب في تاريخه (12/ 20) والبغوي في «شرح السنة «(14/ 101) رقم 3894، 3895) كلهم من طرق عن عبد المال بن عمير. وهو حديث صحيح. وأخرجه الترمذي رقم (3663) وأحمد (5/ 399) من حديث حذيفة لكن من طريق سالم أبي العلاء ......

وهو حديث معروف مشهور ثابت في السنن وغيرها. (والجواب): أن ما سنه الخلفاء الراشدون من بعده فالأخذ به ليس إلا لأمره- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بالأخذ به فالعمل بما سنوه والاقتداء بما فعلوه هو لأمره- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لنا بالعمل بسنة الخلفاء الراشدين والاقتداء بأبي بكر وعمر ولم بأمرنا بالاستنان بسنة عالم من علماء الأمة ولا أرشدنا إلى الاقتداء بما يراه مجتهد من المجتهدين. فالحاصل أنا لم نأخذ بسنة الخلفاء ولا اقتدينا بأبي بكر وعمر إلا امتقالا لقوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:» عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» (¬1) وبقوله «اقتدوا بالذين من بعد أبي بكر وعمر» (¬2) فكيف ساغ لكم أن تستدلوا بهذا الذي ورد فيه النص على ما لم يرد فيه! فهل تزعمون أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال عليكم بسنة أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل [7] حتى يتم لكم ما تريدون. فإذا قلتم نحن نقيس أئمة المذاهب (¬3) على هؤلاء الخلفاء الراشدين فيا عجبا لكم كيف ترتقون إلى هذا المرتقى الصعب وتقدمون هذا الإقدام في مقام الإحجام فإن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إنما خص الخلفاء الراشدين وججعل سنتهم كسنته في اتباعها لأمر يختث بهم ويتعداهم إلى غيرهم ولو كان الإلحاق بالخفاء الراشدين سائغا لكان إلحاق المشاركين لهم في الصحبة والعلم مقدما على من لم يشاركهم في مزية من المزايا، بل المسبة بينه وبينهم كالنسبة بين الثرى والثريا، فلولا أن هذه المزية خاصة بهم مقصورة عليهم لم يخصهم بها رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- دون سائر الصحابة فدعونا من هذه التمحلات التي يأباها الإنصاف. ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخرجه. (¬3) انظر:» إعلام الموقعين «(2/ 230 - 238).

وليتكم قلدتم الخلفاء الراشدين لهذا الدليل أو قلدتم ما صح عنهم على ما يقوله أئمتكم، ولكنكم لم تفعلوا بل رميتم بما جاء عنهم وراء الخائط إذا خالف ما قاله من أنتم أتباع له، وهذا لا ينكره إلا مكابر معاند بل رميتم بصريح الكتاب ومتواتر السنة إذا جاء بما يخالف من أنتم متبعون لهم، فإن أنكرتم هذا فهذه كتبكم أيها المقلدة على ظهر البسيطة عرفونا من تتبعون من العلماء حتى نعرفكم بما ذكرناه. [5]: ومن جملة ما استدلوا به حديث: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» (¬1). (الجواب): أن هذا لا حديث قد روي من طريق عن جابر (¬2) وابن عمر وصرح أئمة الجرح والتعديل بأنه لا يصح منها شيء، وأن هذا الحديث لم يثبت عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وقد تكلم عليه الحفاظ بما يشفي ويكفي، فمن رام البحث عن طرقه وعهن تضعيفها فهو ممكن بالنظر في كتاب من كتب هذا الشأن (¬3) وبالجملة فالحديث لا تقوم به حجة به قم لو كان مما تقوم به الحجة فما لكم أيها المقلدون وله، فإنه تضمن منقبة للصحابة ومزية لا توجد [8] لغيرهم فماذا تريدون منه؟ فإن كان ما تقلدونه منهم احتجا إلى الكلام معكم، وإن كان من تقلدونه من غيرهم فاتركوا ما ليس لكم لهم ودعوا الكلام على مناقب خير القرون، وهاتوا ما أنتم بصدد الاتسدلال عليه فإن هذا الحديث لو صح لكان الأخذ بأقوال الصحابة ليس إلا لكونه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أرشدنا إلى أن الاقتداء بأحدهم اهتداء فنحن إنما امتثلنا إرشاد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ¬

(¬1) وهو حديث موضوع. وقد ورد حديث جابر، وأبي هريرة وابن عباس، وعمر ابن الخطاب، وابن عمر. وقد تقدم تخريج ذلك كله في القيم الأول- العقيدة- من الفتح الرباني. (¬2) تقدم تخريجه (¬3) انظر "الضعيفة" للألباني رقم (61 - 60 - 58). "كشف الخلفاء" (1/ 68).

وآله وسلم] وعملنا على قوله وتبعنا سنته، فإن ما جعاه محلا للاقتداء يكون ثبوت ذلك له بالنسبة وهى قول رسول الله الله عليه وآله وسلم فلم نخرج عن العمل بسنة رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-] ولا قلدنا غيره بل سمعنا الله يقول: {وما إتكم الرسول فخذوه وما نهكم عنه فانتهوا} (¬1) [آل عمران:31] وكان هذا القول من جملة ما أتانا به فأخذناه واتبعناه فيه، ولم نتبع غيره ولا عولنا سواه. فإن كنتم تثبتون لأئمتكم هذه المزية قياسافلا أعجب مما افتريتموه وتقولتموه، وقد سبق الجواب عنكم فى البحث الذي قبل هذا. وبمثل هذا الجواب يجاب عن اتجاجهم بقوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- «إن معاذا قد سن لكم سنة» (¬2) وذلك فى شأن الصلاة حيث أخر قضاء ما فانه مع اٌمام ولا يخفى عليك أن فعل معاذ هذا إنما صار سنة بقول رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لا بمجرد فعله، فهو إنما كان السبب لثبوت السنة ولم تكن تلك السنة (¬3) سنة إلا بقول رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وهذا واضح لايخفى. وبمثل هذا الجواب على حديث «أصحابي كالنجوم» (¬4) يجاب عن قول ابن (¬5) مسعود في وصف الصحابة فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا يهديهم فإنهم كانوا علي الهدى المستقيم. ¬

(¬1) [الحشر:7] وسمعناه يقول: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى}. (¬2) أخرجه أحمد فى «المسند «(5/ 246).وأبو داود فى «السنن"رقم (506/ 507) وابن خريمة في صحيحه رقم (381/ 383) من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى به. (¬3) انظر:"إعلام الموقعين» (2/ 202). (¬4) وهو حديث موضوع. وقد تقدم. (¬5) ذكره ابن القيم في"إعلام الموقعين" (2/ 302 - 303) ......

[خلاصة ما تقدم] ثم هاهنا جواب يشمل ما تقدم من حديث «عليم بسنتي وسنة الخلفاء» وحديث «اقتدوا بالذين من بعدي» (¬1) وحديث «أصحابي والنجوم» (¬2) وقول ابن مسعود وهو أن المراد بالاستنان بهم والاقتداء هو أن يأتي المستن والمقتدي بمثل ما أتوا به [9] ويفعل كما فعلوا، وهم لا يفعلون فعلا ولا يقولون إلا على وفق فعل رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-. وقوله فالاقتداء بهم هواقتداء برسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- والاستنان بسنتهم هو استنان بسنة رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وإنما أرشد الناس إلى ذلك لأنهم المبلغون عنه الناقلون شريعته إلى من بعده من أمته فالفعل وإن كان لهم فهو على طريق الحكاية لفعل رسول الله عليه وآله وسلم، كأفعال الطهارة والصلاة والحج ونحو ذلك فهم رواة له وإنما كان منسوبا اليهم لكونه قائما بهم: وفي التحقيق هو راجع إلى ما سنه رسول بسنة رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، فالاقتداء بهم اقتداء به، والاستنان بسنتهم استنان بسنة رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وإذا خفي عليك هذا فانظر ما كان يفعله الخلفاء الراشدون وأكابر الصحابة في عباداتهم فإنك تجده حكاية لما كان يفعله رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وإذغ اختلفوا في شئ من ذلك فهو لاختلافهم في الرواية لا في الرأي، وقل أن جاء فعل من تلك الأفعال صادر عن أحد منهم لمحض رأي رآه، بل قد تجد ذلك لا سيما في أفعال العبادات وهذا يعرفه كل من له خبرة بأحوالهم. وعلى هذا فمعنى الحديث أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- خاطب أصحابه أن يقتدوا بما يشاهدونه يفعله من سنته، وبما يشاهدون من أفعال الخلفاء الراشدين فإنهم ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) وهو حديث موضوع. وقد تقدم.

المبلغون عنه العارفون بسنته المقتدون بها، فكل ما يصدر عنهم في ذلك صادر عنه ولهذا صح عن جماعة من أكابر الصحابة ذم الرأي وأهله وكانوا لا يرشدون أحدا إلا إلى سنة رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لا إلى شيء من آرائهم وهذا معلوم لا يخفى على عارف [10] وما نسب إليهم من الاجتهادات وجعله أهل العلم رأيا لهم لا يخرج عن الكتاب والسنة وإما بتصريح أو بتلويح، وقد يظن خروج شيء من ذلك وهو ظن مدفوع لمن تأمل حق التأمل، وإذا وجد نادرا رأيت الصحابي بتحرج أبلغ تحرج ويصرح بأنه رأيه وأن الله بريء من خطئه وينسب الخطأ إلى نفسه وإلى الشيطان، والصواب إلى الله كما تقدم (¬1) عن الصديق فى تفسير الكلالة وكما روى عنه (¬2) وعن غيره (¬3) فى فرائض الجد , وكما كان يقول عمر (¬4) فى تفسير قوله تعالي {وفكهة وأبا} (¬5) وهذا البحث ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10/ 304 رقم 19191) والدارمي (2/ 365 - 366) والبيهقي (6/ 224) ورجاله ثقات لكن الشعبي لم يسمع من أبي بكر، فالحديث منقطع. - أن أبا بكر قال في الكلالة: أقضي فيها برأي يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله بريء منه وهو دون الولد والوالد ... "وقد تقدم. (¬2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (3658) عن عبد الله إبي مليكة قال: كتب أهل الكوفة إلى ابن الزبير في الجد فقال: أما الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وآله سلم «لو كنت كتخذا من هذه الأمة خليلا لاتخذته» أنزله أبا- يعنى أبا بكر». (¬3) أخرج أبو داود رقم (2897) وابن ماجه رقم (2723) عن الحسن البصري أن عمر قال: أيكم يعلم ما ورث رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الجد؟ فقال معقل بن يسار: أنا، ورثه رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- السدس، قال: مع من؟ قال: لا أدري. قال: لا دريت، فما تغني إذا؟ وإسناده منقطع. (¬4) أخرجه البخاري فى صحيحه رقم (7293) عن أنس قال: كنا عند عمر فقال: «نهينا عن التكلف».وأورده ابن ابن كثير فى تفسيره (8/ 325):عن أنس قال: قرأ عمر بن الخطاب: {عبس وتولى} فلما أتى على هذه الآية: {وفكهة وأبا} قال: عرفنا ما الفاكهة، فما الأب؟ فقال: لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا لهو التكلف. (¬5) [عبس:31] .......

نفيس فتأمله حق التأمل تنتفع به. [6]: ومن جملة ما استدلوا به قول الله تعالى: {أطيعو الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم} (¬1) قالوا أولي الأمر هم العلماء وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به. (الجواب) أن للمفسرين (¬2) في تفسير أولي الأمر قولين: أحدهما أنهم الأمراء والثاني العلماء. ولا تمتنع إرادة الطائفتين من الآية الكريمة، ولكن أين هذا من الدلالة على مراد المقلدين فإنه لا طاعة للعلماء ولا للأمراء إلا إذا أمروا بطاعة الله على وفق شريعته وإلا فقد ثبت عنه صلى الله علية وآله وسلم: «أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (¬3)، وأيضا العلماء إنما أرشدوا غيرهم إلى ترك تقليدهم عن ذلك كما سيأتي بيان طرف منه عن الأئمة الأربعة وغيرهم فطاعتهم ترك تقليدهم. ولو فرضنا أن في العلماء من يرشد الناس إلى التقليد ويرغبهم فيه لكان مرشدا إلى معصية الله، ولا طاعة له بنص حديث رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- (¬4) وإنما قلنا إنه مرشد إلى معصية الله لأنه من أرشد هؤلاء العامة الذين لا يعقلون الحجج ولا يعرفون الصواب من الخطأ إلى التمسك بالتقليد كان هذا الإرشاد منه مستلزما لإرشادهم إلى ترك [11] العمل بالكتاب والسنة إلا بواسطة أراء بواسطة أراء العلماء الذين يقلدونهم فما عملوا به عملوا وما لم يعملوا به لم يعملوا به، ولا يلتفتون إلى كتاب ولا سنة، بل من شرط ¬

(¬1) [النساء:59] (¬2) انظر «الجامع لأحكام القرآن «(5/ 259 - 260). (¬3) أخرجه البغوي ى «شرح السنة» رقم (2455) من حديث النواس بن سمعان بإسناد ضعيف. ولكن يشهد له حديث الحكم بن عمرو الغفاري: وعمران بن الحصين رضي الله عند أحمد (5/ 66) والطيالسي (856) بإسناد صحيح. وأخرجه الحاكم (2/ 443) وصححه ووافقه الذهبي. (¬4) يشير إلى الحديث النبوي: «لا طاعة لمخلوق بمعصية الخالق» وقد تقدم .......

التقليد الذين أصيبوا به أن يقبل من إمامه رأيه ولا يعول على روايته، ولا يسأله عن كتاب ولا سنة، فإن سأله عنهما خرج عن التقليد لآنه قد صار مطالبا بالحجة. ومن حملة ما تجب فيه طاعة أولي الأمر تدبير الحروب التي تدهم الناس والانتفاع بآرائهم فيها وقي غيرها من تدبير أمر المعاش وجلب المصالح ودفع المفاسد الدنيوية، ولا يبعد أن تكون هذه الطاعة في هذه الأمور التي ليست من الشريعة هي المرادة بالأمر بطاعتهم، لأنه لو كان المراد طاعتهم في الأمور التي شرعها الله ورسوله لكان ذلك داخلا تحت طاعة الله وطاعة الرسول، ولا يبعد أيضًا أن تكون الطاعة لهم في الأمور الشرعية في مثل الواجبات المخيرة وواجبات الكفاية، فإذا أمروا بواجب من الواجبات المخيرة أو ألزموا بعض الأشخاص بالدخول في واجبات الكفاية لزم ذلك فهذا أمر شرعي وجبت فيه الطاعة، وبالجملة فهذه الطاعة لأولي الأمر المذكورة في الآية هذه هيالطاعة التي ثبتت في الأحاديث المتواترة (¬1) في طاعة الأمراء ما لم يأمروا بمعصية الله أو يرى المأمور كفرا بواحا، فهذه الأحاديث مفسرة لما في الكتاب العزيز وليس ذلك من التقليد في شيء بل هو في طاعة الأمراء الذين غالبهم الجهل والبعد في تدبير الحروب وسياسة الأجناد وجلب مصالح العباد وأما الأمور الشرعية المحضة فقد أغنى عنها كتاب الله وسنة رسوله [12] ¬

(¬1) منها ما أخرج البخاري في صحيحه رقم (7142) من حديث أنس مرفوعا: «اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي، رأسه زبيبة، ما أقام فيكم كتاب الله». (ومنها):ما أخرج البخاري في صحيحه رقم (2957) ومسلم في صحيحه رقم (33/ 1835) من حديث أبي هريرة عنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:» من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني ... ». (ومنها):ما أخرج البخاري في صحيحه رقم (7144) ومسلم رقم (38/ 1839) من حديث ابن عمر عنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» .......

[7]: واعلم أن هذا الذي سقناه هو عمدة أدلة المجوزين للتقليد، وقد أبطلنا ذلك كله كما عرفت. ولهم شبهة غير ما سقناه (¬1) وهي ما حررناه كقولهم إن الصحابة قلدوا عمر في المنع من بيع (¬2) أمهات الأولاد، في أن الطلاق يتبع الطلاق، وهذه فرية ليس فيها مرية، فإن الصحابة مختلفون في كلا المسألتين فمنهم من وافق عمر اجتهادا لا تقليدا ومنهم من خالفه (¬3)، وقد كان الموافقون له يسألونه عن الدليل ويستروونه النصوص، وشأن المقلد أن لا يبحث عن دليل بل يقبل الرأي ويترك الرواية، ومن لم يكن هكذا فليس بمقلد. [8]: ومن جملة ما تمسكوا به أن الصحابة كانوا يفتون ورسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حتى بين أظهرهم وهذا تقليد لهم. ويجاب عن ذلك (¬4) بأنهم كانوا يفتون بالنصوص من الكتاب والسنة وذلك رواية ¬

(¬1) انظر» إعلام الموقعين «(2/ 206 - 230). (¬2) بل ورد في ذلك حديث عن أبي أبوب الأنصاري، قال: سمعت رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يقول «من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة».وهو حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 413) والترمذي رقم (1283) وقال: حديث حسن غريب. والدارمي (2/ 227 - 228) والدارقطني (3/ 67رقم 256) والحاكم (2/ 55) وصححه على شرط مسلم. والقضاعي في مسند الشهاب (1/ 280 رقم 456). (¬3) انظر تفصيل ذلك في «زاد الميعاد" (5/ 276 - 284) (¬4) قال ابن القيم في"إعلام الموقعين» (2/ 251): أن فتواهم إنما كانت تبليغا عن الله ورسوله، وكانوا بمنزلة المخبرين فقط، لم تكن فتواهم، ولا يفتون بغير النصوص، ولم يكن المستفتون لهم يعتمدون إلا على ما يبلغونهم إياه عن نبيهم فيقولون: أمر بكذا وفعل كذا ونهى عن كذا هكذا كانت فتواهم، فهي حجة على المستفتين كما هي حجة عليهم، ولا فرق بينهم وبين المستفتين لهم في ذلك إلا في الواسطة بينهم وبين الرسول وعدهما، والله ورسوله وسائر أهل العلم أنهم وأن مستفتيهم لم يعلموا إلا بما عملوه عن نبيهم وشاهدوه وسمعوه منه وهؤلاء بغير واسطة، ولم يكن فيهم من يأخذ قول واحد من الأمة يحلل ما حلله ويحرم ويستبيح ما أباحه. وقد أنكر النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من أفتى بغير السنة منهم، كما أنكر على أبي السنابل وكذبه، وأنكر على من أفتي برجم الزاني البكر، وأنكر على من أفتى باغتسال الجريح حتى مات، وأنكر على من أفتى بغير علم كمن يفتي بما لا يعلم صحته، وأخبر إن إثم المستفتى عليه، فإفتاء الصحابة في حياته نوعان: أحدهما: كان يبلغه ويقرهم عليه، فهو حجة بإقراره لا بمجرد إفتائهم. الثاني: ما كانوا يفتون به مبلغين له عن نبيهم، فهم فيه رواة لا مقلدون ولا مقلدون .......

منهم، ولا يشك من يفهم أن قبول الرواية ليس بتقليد فإن قبول الرواية هو قبول للحجة، والتقليد إنما هو قبول للرأي، وفرق بين قبول الرواية وقبول الرأي، فإن قبول الرواية ليس من التقليد في شيء بل هو عكس رسم المقلد فاحفظ هذا فإن مجوزة التقليد يغالطون بمثل ذلك كثير فيقولون مثلا إن المجتهد هو مقلد لمن روى له السنة ويقولون إن من التقليد قبول قول المرأة أنها قد طهرت وقبول قول المؤذن أن الوقت قد دخل، وقبول الأعمى لقول من أخبره بالقبلة. بل وجعلوا من التقليد قبول شهادة الشاهد وتعديل المعدل وحرج الجارح. ولا يخفى عليك أن هذا ليس من التقليد في شيء (¬1) بل هو من قبول الرواية لا من قبول الرأي، إذ قبول الرواي للدليل والمخبر بدخول الوقت وبالطهارة وبالقبلة [13] والشاهد والجارح والمزكي هو من قبول الرواية إذا الرواية إذا الراوي إنما أخبر المروي له بالدليل الذي ¬

(¬1) قال ابن القيم في» إعلام الموقعين» (2/ 254 - 255): قولهم «وقد جاءت الشريعة بقبول قول القائف والخارص والقاسم والمقوم والحاكمين بالمثل في جزاء الصيد وذلك تقليد محض». أتعنون بع أنه تقليد لبعض العلماء في قبول أقوالهم أو تقليد لهم فيما يخبرون؟ فإن عنيتم الأول فهو باطل، وإن عنيتم الثاني فليس فيه ما تستروحون إليه من التقليد الذى قام الدليل على بطلانه، وقبول قول هؤلاء من باب قبول خبر المخبر والشاهد لا من باب قبول الفتيا فى الدين من غير قيام دليل على صحتها، بل لمجرد إحسان الظن بقائلها مع تجويز الخطأ عليه، فأين قبول الإخبار والشهادات والأقارير إلأى التقليد فى الفتوى؟ والمخبر بهذه الأمور بخير عن أمر حسي طريق العلم به إدراكه بالحواس والمشاعر ونظيره قبول خبر المخبر عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بأنه قال أو فعل، وقبول خبر المخبر عمن أخبر عنه بذلك وهلم جرا. فهذا حق لا ينازع فيه أحد .......

رواه ولم يخبره بما يراه من الرأي، وكذلك المخبر بدخول الوقت ' إنما أخبر بأنه شاهد علامة من علامات الوقت، ولم يخبر لأنه قد دخل الوقت برأيه وكذلك المخبر بالطهارة فإن المرأة مثلا أخبرت أنها شاهدت علامات الطهر من القصة البيضاء ونحوها، ولم تخبر بأن ذلك رأي رأته، وهكذا المخبر بالقلبلة أخبر أن جهتها أو عينها هاهنا حسبما تقتضيه المشاهدة بالحاسة ولم يخبر عن رأيه، وهكذا أوضح من أن يخفى، والفرق بين الرواية وال {أي أبين من الشمس، ومن التبس عليه الفرق بينهما فلا يشغل نفسه بالمعارف العليمة فإنه بهيمي الفهم وإن كان فى مسلاخ إنسان. قال ابن خويز منداد البصر (¬1) الملكي: (التقليد): معناه في الشرع الرجوع إلى قوله لا حجة لقائله عليه، وذلك منوع منه في الشريعة، (والاتباع): ما ثبتت عليه الحجة .. إلى أن قال والاتباع في الدين متبوع والتقليد ممنوع، وسيأتي مثل الكلام لابن عبد البر وغيره. [9]: وقد أورد بعض أسراء التقليد كلاما يؤيد به دعواه الجواز فقال ما معناه- لو كان التقليد غير جائز لكان الاجتهاد واجبا على كل فرد من أفراد العباد، وهو تكليف مالا يطاق، فإن الطباع، وعلى فرض أنها قابلة له جميعها فوجوب تحصيله على كل فرد يؤدي إلى تبطيل المعايش التي لا يتم بقاء النوع بدونها، فإنه لا يظفر برتية الاجتهاد إلا من جرد نفسخ للعلم في جميع أوقاته على وجه لا يستغل بغيره، فحينئذ يشتغل الحراث والزراع والنساج والعمار ونحوهم بالعلم، وتبقى هذه الأعمال شاغرة معطلة [14] فتبطل المايش بأسرها ويفضي ذلك إلى انخزام نظام الحياة وذهاب نوع الإنسان، وفي هذا من الضرر والمشقة ومخالفة مقصود الشاعر مالا يخفى على أحد. ¬

(¬1) ذكره ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله" (2/ 117) .......

ويجاب عن هذا التشكيك الفاسد (¬1) بأنا لا نطلب من كل فرد من أفراد العباد أن يبلغ رتبة الاجتهاد بل المطلوب هو أمر دون التقليد وذلك بأن يكون القايمون بهذه المعايش والقاصرون إدراكا وفهما كما كان عليه أمثالهم في أيام الصحابة والتابعين وتابعيهم وهم خير القرون (¬2) ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، وقد علم كل عالم أنهم لم يكونوا مقلدين ولا منتسبين إلى فرد من أفراد العلماء بل كان الجاهل يسأل العالم عن ¬

(¬1) قال ابن القيم في إعلام الموقعين (2/ 256 - 257): فجوابه من وجوه: أحدهما: أن من رحمة الله سبحانه بنا ورأفته أنه لم يكلفنا بالتقليد، فلو كلفنا به لضاعت أمورنا، وفسدت مصالحنا، لأنا لم نكن ندري من نقد من المفتين والفقهاء، وهم عدد فوق المئتين، ولا يدري عددهم في الحقيقة إلا الله. فلو كلفنا بالتقليد لوقعنا في أعظم العنت والفساد، ولكلفنا بتحليل الشيء وتحريمه وإيجاب الشيء وإسقاطه معا وإن كلفنا بتلقيد كل عالم. وإن كلفنا بتلقيد الأعلم فمعرفة ما دل عليه القرآن والسنن من الأحكام أسهل بكثير من معرفة الأعلم الذي اجتمعت فيه شريط التقليد. ومعرفة ذلك مشقة على العالم الراسخ واختيارنا وشهواتنا، وهو عين المحال فلا بد أن يكون ذلك راجعا إلى من أمر الله باتباع قوله وتلقي الدين من بين شفتيه وذلك محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-. الثاني: أن بالنظر والاستدلال صلاح الأمور لا ضياعها، وبإهماله وتقليد من يخطئ ويصيب إضاعتها وفسادها كما الواقع شاهد به. الثالث: أن كل واحد منا مأمور بأن يصدق الرسول فيما أخبر به ويطيعه فيما أمر وذلك لا يكون إلا بعد معرفة أمره وهبره ولم يوجب الله سبحانه من ذلك على الأمة إلا ما فيه حفظ دينها ودنياها وصلاحها في معاشها وبإهمال ذلك تضييع مصالحها وتفسد أمورها. الرابع: أن الواجب على كل عبد أن يعرف ما يخصه من الأحكام ولا يجب عليه أن يعرف مالا تدعوه الحاجة إلى معرفته، وليس في ذلك إضاعة لمصالح الخلق ولا تعطيل لمعاشهم، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم قائمين بمصالحهم ومعاشهم وعمارة حروثهم. الخامس: أن العلم النافع هو الذي جاء به الرسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- دون مقدرات الأذان ومسائل الخرص والألغاز، وذلك بحمد الله تعالى أيسر شيء على النفوس تحصيله وحفظه وفهمه. (¬2) تقدم تخريجه مرارًا ......

الحكم الشرعي الثابت فى كتاب الله أو سنة رسوله فيفتيه به ويرويه له لفظا أو معنى فيعمل بذلك من باب العمل بالرواية لا بالرأي، وهذا أسهل من التقليد فإن تفهم دقائق علم الرأي أصعب من تفهم الرواية بمراحل كثيرة. فما طلبنا من هؤلاء العوام إلا ما هو أخف عليهم مما طلبه منهم الملزمون لهم بالتقليد، وهذا هو الهدى الذي درج عليه خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم حتى استدرج الشيطان بذريعة التقليد من استدرج ولم يكتف بذلك حتى سول لهم الاقتصار على تقليد فرد من أفراد العلماء وعدم جواز تقليد غيره ثم توسع في ذلك فخيل لكل طائفة أن الحق مقصور على ما قاله إمامها وما عداه باطل، ثم أوقع في قلوبهم العداوة [15] والبغضاء حتة أنك تجد من العداوة بين أهل المذاهب المختلفة مالا تجده بين أهل الملل المختلفة وهذا يعرفه كل من عرف أحوالهم. فانظر إلى هذه البدعة الشيطانية التي فرقت أهل الملة الشريفة وصيرتهم على ما تراه من التباين والتقاطع والتخالف، فلو لم يكن من شؤم هذه التقليدات والذاهب المبتدعات إلا مجرد هذه الفرقة بين أهل الإسلام مع كونهم أهل مله واحدة ونبي [واحد] (¬1) وكتاب واحد لكان ذلك كافيا كونها غير جائزة فإن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كان ينهى عن الفرقة ويرشد إلى الاجتماع ويذم المتفرقين في الدين حتى إنه قال في تلاوة القرآن وهو من أعظم الطاعات أنهم إذا اختلفوا تركوا التلاوة وأنهم يتلون ما دامت قلوبهم مؤتلفة (¬2). وثبت ذم التفرق والاختلاف في مواضع من الكتاب ............................. ¬

(¬1) في المخطوط: واحدة ولعل الصواب ما أثبتناه. (¬2) يشير المؤلف إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (5060) ومسلم رقم (3/ 2667) عن جندب ابن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فيه فقوموا» .......

العزيز (¬1) معروفة فكيف يحل لعالم أن يقول بجواز التقليد الذي كان سبب فرقة أهل الإسلام وانتشار ما كان عليه من النظام والتقاطع بين أهله وإن كانوا ذوي أرحام. [10]: وقد احتج بعض أسراء التقليد ومن لم يخرج عن أهله وإن كان عند نفسه قد خرج منه- بالإجماع- على جوازه، وهذه دعوى لا تصدر من عارف بأقوال أهل العلم بل لا تصدر من عارف بأقوال أئمة المذاهب الأربعة فإنه قد صح عنهم المنع من التقليد. ¬

(¬1) مثل قوله تعالى {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} [آل عمران: 103] وقوله تعالى {وأن هذا صراطي مستقيما فأتبعوه ولا تتبعوا لسبل فتفرق بكم عن سبيله ذالك وصكم به لعلكم تتقون} [الانعام: 153] وقوله تعالى: {ولا تنزاعو فتفشلوا وتذهب ريحكم} [الأنفال:46] ......

[أقوال العلماء في النهي عن التقليد] قال ابن (¬1) عبد البر: إنه لا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد وأوراد فصلا طويلا في محاجة من قال بالتقليد وإلزامه بطلان ما يزعمه من جوازه فقال: يقال لمن قال بالتقليد لما قلت به وخالفت السلف في ذلك فإنهم لم يقلدوا فإن قال قلدت لأن كتاب الله تعالى لا علم لي بتأويله، وسنة رسوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لم أحصها والذي [6 1] قلدته قد علم ذلك فقلدت من هو أعلم مني قيل له أما العلماء إذا أجمعوا على شيء من تأويل الكتاب أو حكاية سنة رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحق لا شك فيه ولكن قد اختلفوا فيما قلدت فيه بعضهم دون بعض فما حجتك في تقليد بعض دون بعض وكلهم عالم ولعل الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه. فإن قال قلدته لأني علمت أنه صواب قيل له وطولب بما ادعاه من الدليل، وإن قال قلدته لأنه أعلم مني قيل له فقلد كا من أعلم منك فإنك من ذلك خلقا كثيرا ولاتخص من قلدته، إذ علتك فيه أنه أعلم منك. فإن قال قلدته لأنه أعلم الناس قيل له فهو إذا أعلم من الصحابة وكفى بقول مثل هذا قبحا ... انتهى (¬2) ما أردت نقله من كلامه وهو طويل وقد حكى في أدلة افجماع على فساد التقليد فدخل فيه الأئمة الأربعة دخولا أوليا. وحكى ابن القيم (¬3) عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنهما قالا: لا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه انتهى. وهذا هو تصريح يمنع التقليد التقليد لأن من علم بالدليل فهو مجتهد مطالب بالحجة لا مقلد والمقلد فإنه الذى يقبل القول ولا يطالب بحجة. ¬

(¬1) في كتابه «جامع بيان العلم «(2/ 994 - 995) (¬2) أى كلام ابن عبد البر. (¬3) في إعلام الموقعين (2/ 211) ......

وحكى ابن عبد البر (¬1) أيضًا عن معين بن عيسى بإسناد متصل به قال سمعت مالكا يقول إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه. انتهى. ولا يخفى عليك أن هذا تصريح منه بالمنع من تقليده لأن العمل بما وافق الكتاب والسنة من كلامه هو عل بالمكتاب والسنة وليس بنمسوب إليه، وقد أمر أتباعه بترك ما كان من رأيه غير موافق للكتاب والسنة. وقال سند بن عنان الملكي في شرحه على مدونة سحنون المعورفة بالأم ما لفظة: أما مجرد الاقتصار على محض التقليد فلا يرضى به رجل رشيد وقال أيضا: نفس المقلد ليست على بصيرة ولا يتصف من العلم بحقيقة، إذ ليس التقليد بطريق إلى العلم بوفاق أهل الآفاق، وإن نوزعنا في ذلك أبدينا برهانه فنقول قال تعالى: {فاحكم بين الناس بالحق} (¬2) وقال: {بما أرك الله} (¬3) وقال: {ولا تقف ما ليس لك به علم} (¬4) وقال: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} (¬5) ومعلوم أن العلم هو معرفة المعلوم على ما هو به، فنقول للمقلد [17] إذا اختلفت الأقوال وتشعبت من أين تعلم صحة قول من قلدته دون غيره أو صحة قولة له أخرى، ولا يبدى كلاما في ذلك إلانعكس عليه في نقيضه. سيما إذا عرض له قولة لإمام مذهبه الذي قلده ¬

(¬1) في «جامع بيان العلم «(1/ 775 رقم 1435) بإسناد حسن. (¬2) وتمام الآية:: {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} [سورة ص:26]. (¬3) [النساء:105] قال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله}. (¬4) [الإسراء:36]. (¬5) [الأعراف:33] .......

وقولة تخالفها لبعض أئمة الصحابة إلى أن قال أما التقليد فهو قول الغير من غير خحة فمن أين يحصل به علم وليس له مستند إلى قطع، وهو أيضًا في نفسه بدعة محدثة لأنا نعلم بالقطع أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكن في زمانهم وعصرهم مذهب لرجل معين يدرس ويقلد، وإنما كانوا يرجعون في النوازل إلى الكتاب والسنة أو إلى ما يتخض بينهم من النظر من النظر عند فقد الدليل وكذلك تابعوهم أيضًا يرجعون إلى الكتاب والسنة فإن لم يجدوا نظروا إلى ما أجمع عليه الصحابة فإن لم يجدوا اجتهدوا واختار بعضهم قول صحابي فرآه الأقوى في دين الله تعالى. ثم كان القرن الثالث وفيه كان أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل فإن مالكا توفي سنة تسع ومائة وتوفي أبو حنيفة سنة خمسين ومائة، وفي هذه السنة ولد الإمام الشافعي وولدا ابن حنبل سنة أربع وستين ومائة وكانوا على منهاج من مضى لم يكن في عصرهم مذهب رجل معين يتدارسونه وعلى قريب منهم كان أتباعهم فكم من قولة لمالك ونظرائه خالفه فيها أصحابه، ولو نقلنا ذلك لخرجنا عن مقصود هذا الكتاب، ما ذاك إلا لجمعهم آلات الاجتهاد وقدرتهم على ضروب الاستنباطات، ولقد صدق الله نبيه في قوله: {خير الناس قرني ثم الذين يولنهم ثم الذين يلونهم} ذكر بعد قرنه قرنين والحديث في صحيح البخاري (¬1). فالعجب لأهل التقليد كيف يقولون هذا هو الأمر القديم وعليه أدركنا الشيوخ، وهو إنما حدث بعد مائتى سنة من الهجرة (¬2) وبعد فناء القرون الذين أثنى عليهم الرسول ..... انتهى. ¬

(¬1) في صحيحه رقم (2652). قلت: وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (2533) والترمذي رقم (3859) كلهم من حديث عبد الله ابن مسعود. (¬2) انظر الرد على من أخلد إلى الأرض (ص133) ......

[تاريخ التقليد] وقد عرفت بهذا الإسم أن التنفيذ لم إلا بعد انقراض خير القرون تم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم , وأن حدوث التمذهب بمذاهب الأئمة الأربعةإنما كان بعد انقراض الأئمة الأربعة وإنهم كانوا على نمط من تقدمهم من السلف فى هجر التقليد وعدم الإعتداد به < > وان هذه المذاهب إنما أحذثها عوام المقلدة لأنفسهم من دون أن يأذن بها إمام من الأئمة المجتهدين , وقد تواترت الرواية عن الإمام مالك أنه قال له الرشيد (¬1) أنه يريد أن يحمل الناس على مذهبه , فنهاه عن ذلك وهذا موجود فى كل كتاب فيه ترجمة ال'مام مالك ولا يخلو ذلك إلا النادر. وإذا تقرر أن المحدث لهذه المذاهب والمبتدع لهذه التقليدات هم جهلة المقلدة فقط، فقد عرفت مما تقرر في الأصول أنه لا اعتداد بهم في الإجماع وأن المعتبر في الإجماع إنما هم المجتهدون، وحينئذ لم يقل بهذه التقليدات عالم من العلماء المجتهدين أما قبل حدوثها فظاهر، وأما بعد حدوثها فما سمعنا عن مجتهدات أنه يسوغ صنيع هؤلاء المقلدة الذين فرقوا دين الله وخالفوا بين المسلمين بل أكابر العلماء بين منكر لها وساكت عنها سكوت تقية لمخافة ضرر أو لمخافة فوات نفع كما يكون مثل ذلك كثيراً لا سيما من علماء السوء. وكل عاقل يعلم أنه لو صرخ عالم من علماء الإسلام المجتهدين في مدينة من مدائن الإسلام في أي محل كان بأن التقليد بدعة محدثة لا يجوز الاستمرار عليه ولا الاعتداد به لقام عليه أكثر أهلها إن لم يقم عليه كلهم وأنزلوا به من الإهانة والإضرار بماله وبدنه وعرضه مالا يليق بمن هو دونه، هذا إذا سلم من القتل على يد أول جاهل من هؤلاء المقلدة ومن يعضدهم من جهلة الملوك والأجناد فإن طبائع الجاهلين بعلم الشريعة متقاربة وهم لكلام من يجانسهم في الجههل أقبل من علام من يخالفهم في ذلك من أهل العلم. ¬

(¬1) أنظر «حلية الأولياء" ......

ولهذا طبقت هذه البدعة جميع البلاد الإسلامية، وصارت شاملة لكل فرد من أفراد المسلمين فالجاهل يعتقد أن الدين ما زال هكذا ولن يزال إلبى المحشر، ولا يعرف معروفا وال ينكر منكراً وهكذا من كان من المشتغلين بعلم التقليد فإنه كالجاهل [19] بل أقبح منه لأنه يضم إلى جهله وإصراره على بدعته وتحسينها في عيون أهل الجهل والازدراء بالعلماء المحققين العارفين بكتاب الله وسنة رسوله ويصول عليهم ويحول وينسبهم إلى الابتداع ومخالفة الأئمة والتنقص بشأنهم فيسمع ذلك منهم الملوك ومن يتصرف بالنيابة عنهم من أعوانهم فيصدقونه ويذعنون لقوله إذ هو مجانس لهم في كونه جاهلاً وإن كان يعرف مسائل قد قلد فيها غيره لا يدري أهي حق أم باطل ولا سيما إذا كان قاضيا ً أو مفتيا فإن العامي لا ينظر إلى أهل العلم بعين مميزة بين من هو عالم على الحقيقة ومن هو جاهل وبين من هو مقصر ومن هو كامل لأنه لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهله. وأما الجاهل فإنما يستدل على العلم بالمناصب والقرب من الملوك واجتماع المتدرسين من المقلدين وتحرير الفتاوي للمتخاصمين وهذه الأمور إنما يقوم بها رؤوس هؤلاء المقلدة في الغالب كما يعلم ذلك كل عالم بأحوال الناس في قديم الزمن وحديثه، وهذا يعرفه الإنسان بالمشاهدة لأهل عصره وبمطالعة كتب التاريخ الحاكية لما كان عليه من قبله. وأما العلماء المحققون المجتهدون فالغالب على أكثرهم الخمول لأنه لما كثر التفاوت بينهم وبين أهل الجهل كانوا متباعدين لا يرغب هذا في هذا ولا هذا في هذا. ومنزلة الفقية من السفيه ... كمنزلة السفيه من الفقيه فهذا زاهد في حق هذا ... وهذا فيه أزهد منه فيه ومما يدعو العامة إلى مهاجرة أكابر العلماء وقاطعتهم أنهم يجدونهم غير راغبين في علم التقليد الذي هو رأس مال فقهائهم وقضاتهم والمفتين منهم بل يجدونهم مشتغلين بعلوم الاجتهاد وهي عند هؤلاء المقلدة ليست من العلوم النافعة عندهم [20] هي التي يتعجلون نفعها بقبض جرابات التدريس وأجرة الفتاوي ومقررات القضاء ومع هذا فمن كان من هؤلاء المقلدة متمكنا من تدريسهم في علم التقليد إذا درسهم في ......

مسجد من المساجد أو في مدرسة من المدارس اجتمع عليه منهم جمع جم يقارب المائة أو يجاوزها من قوم قد ترشحوا للقضاء والفتيا وطمعوا في نيل الرياسة الدنيوية أو أرادوا حفظ ما قد ناله سلفهم من الرياسة وبقاء مناصبهم والمحافظة على التمسك بها كما كان عليه أسلافهم فهم لهذا المقصد يلبسون الثياب الرفيعة ويديرون على رؤوسهم عمائم كالروابي فإذا نظر العامي أو السلطان أو بعض أعوانه إلى تلك الحلقة البهية المشتملة على العدد الكثير والملبوس الشهير والدفاتر الضخمة لم يبق عنده شك أن شيخ تلك الحلقة ومدرسها أعلم الناس فيقبل قوله في كل أمر يتعلق بالدين ويؤهله لكل مشكلة ويرجو منه القيام بالشريعة مالا يرجوه من العالم على الحقيقة المبرز في علم الكتاب والسنة وسائر العلوم التي يتوقف فهم المعلمين عليها ولا سيما وغالب المبرزين من العلماء تحت ذيل الخمول إذا درسوا في علم من علوم الاجتهاد فا يجتمع عليهم في الغالب إلا الرجل والرجلان والثلاثة لن البالغين من الطلبة إلى هذه الرتبة المتعدين لعلم الاجتهاد هم أقل قليل لأنه لا يرغب في علم الاجتهاد إلا من أخلص النية وطلب العلم لله عز وجل ورغب عن المناصب الدنيوية وربط ننسه برباط الزهد وألجم نفسه بلجام القنوع. فلينظر العاقل أين يكون محل هذا العالم على التحقيق عند أهل الدنيا إذا شاهدوه في زاوية من زوايا المسجد وقد قعد بين يديه رجلٌ أو رجلان من محل ذلك المقلد الذي اجتمع عليه [21] المقلدون فإنهم ربما يعتقدون أنه كواحد من تلاميذه هذا المقلد أو يقصر عنه لما يشاهدونه من الأوصاف التي قدمنا ذكرها. ومع هذا فإنهم لا يقفون على فتوى من الفتاوى أو سجل من الأسجال إلا وهو بخط أهل التقليد ومنسوب إليهم فيزدادون لهم بذلك تعظيما ويقدمونهم على علماء الاجتهاد في كل إصدار وإيراد، فإذا تكلم عالم من علماء الاجتهاد والحال هذه بشئ من يخالف ما يعتقده المقلده فاموا عليه قومة جاهلية ووافقهم على ذلك أهل الدنيا وأرباب السلطان فإذا قدروا على الإضرار به في بدنه وماله فعلوا ذلك وهم بفعلهم مشكورون عند أبناء ......

جنسهم من العامة والمقلدة لنهم قاموا بنصرة الدين بزعمهم وذبوا عن الأئمة المتبوعين وعن مذاهبهم التي قد اعتقدها أتباعهم فيكون لهم بقذه الأفعال التي هي عين الجهل والضلالة من الجاه والرفعة عند أبناء جنسهم ما لم يكن في حساب. وأما ذلك العالم الممحق المتكلم بالصواب فبالحري أن ينجو من شرهم ويسلم من ضرهم، وأما عرضه فيصير عرضه للشتم والتبديع والتجهيل والتضليل فمن ذذا تراه ينصب نفسه للإنكار على هذه البدعة ويقوم في الناس بتبطيل هذه الشعنة مع كون الدنيا مؤثرة وحب الشرف والمال يميل بالقلوب على كل حال. فانظر أيها المنصف بعين الإنصاف هل يعد سكوت علماء الاجتهاد عن إنكار بدعة التقليد مع هذه الأمور موافقة لهلاه على جوازها؟ كلا والله فإنه سكوت تقتتية لا سكوت موافقة مرضية ولكنهم مع سكوتهم عن التظاهر بذلك لا يتركون بيان ما أخذ الله عليهم بيانه (¬1)، فتارة يصرحون بذلك في مؤلفاتهم وتارة يلوحون به، وكثير منهم يكتم ما يصرح به من تحريم التقليد إلى بعد موته كما روى الأدفوي عن شيخه الإمام ابن دقيق العيد أنه طلب منه ورقا وكتبها ي مرض موته، وجعلها تحت فراشه فلما مات أخرجوها فإذا هي في تحريم التقليد مطلقا. ومنهم من يوضح ذلك لمن يثق به من أهل العلم ولا يزالون متوازثين بينهم طبقة بعد طبقة [22] يوصحه السلف للخلف وويبينه الكامل للمقصر، وإن انحجب ذلك عن أهل التقليد فهو غير منحجب عن غيرهم وقد رأينا في زماننا مشايخنا المشتغلين بعلوم الاجتهاد فلم نجد عند واحد منهم أن التقليد صواب، ومنهم من صرح بإنكار كثير من المسائل التي يعتقدها المقلدون فوقع بينه وبين أهل عصره قلاقل وزلازل ونالهم من الامتحان ما فيه توفير أجورهم وهكذا حال أهل سائر الديار في جميع الأعصار. ¬

(¬1) قال تعالى: {وإذا أخذ الله ميثق الذين أوتوا الكتتب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنتا قليلا فبئس ما يشترون} [آل عمران: 187] ......

وبالجملة فهذا أمر يشاهده كل واحد في زمنه فإنا لم نسمع بأن أهل مدينة من المدائن الإسلامية أجمعوا أمرهم على ترك التقليد واتباع الكتاب والسنة لا في هذا العصر ولا فيما تقدمه من العصور بعد ظهور المذاهب بل أهل البلاد الإسلامية أجمع أكتع لا مطبقون على التقليد. ومن كان منهم منتسبا إلى العلم فهو إما أن يكون مبلغ علمه معرفة ما هو مقلد فيه وهذا هو عند التحقيق ليس من أهل العلم، وإما أن يكون قد اشتغل ببعض علوم الاجتهاد ولم يتأهل للنظر فوقف تحت ربقة التقليد ضرورة لا اختياراً وإما أن يكون عالماً مبرزاً جامعاً لعلوم الاجتهاد فهذا هو الذي يجب عليه أن يتكلم بالحق ولا يخاف في الله لومة لائم إلا لمسوغ شرعي. وأما من لم يكن منتسبا إلى العلم فهو إما عامي صرف لا يعرف التقليد ولا غيره، وإنما هو ينتمي إلى الإسلام جملةً ويفعل كما يفعله أهل بلده في صلاته وسائر عبادته ومعاملته فهذا قد أراح نفسه من محنة التعصب التي يقع فيه المقلدون وكفى الله أهل العلم شره، فهو لا وازع له من نفسه يحمله على التعصب عليهم بل ربما نفخ فيه بعض شياطين المقلدة وسعى إليه بعلماء الاجتهاد فحمله على أن يجهل عليهم بما يوبقه في حياته وبعد مماته [23] وإما أن يكون مرتفعا عن هذه الطبقة قليلا فيكون غير مشتغل بطلب العلم لكنه يسأل أهل العلم عن أمر عبادته ومعاملته وله بعض تمييز فهذا هو تبع لمن يسأله من أهل العلم إن كان يسأل المقلدين فهو لا يرى الحق إلا في التقليد وإن كان يسأل المجتهدين فهو يعتقد أن الحق ما يرشدونه إليه فهو مع من غلب عليه من الطائفتين، وإما أن يكون ممن له اشتغال بطلب علم المقلدين وإكباب على حفظه وفهمه وال يرفع رأسه إلى سواه ولا يلتفت إلى غيره فالغالب على هؤلاء التعصب المفرط على علماء الاجتهاد ورميهم بكل حجر ومدر وإيهام العامة بأنهم مخالفون لإمام المذهب الذي قد ضاقت أذهانهم عن تصور عظيم قدره، وامتلأت قلوبهم من هيبته حتى تقرر عندهم أنه في درجة لم يبلغها الصحابة فضلا عمن بعدهم، وهذا وإن لم يصرحوا به فهو مما تكنه صدورهم، ولا.

تنطلق به ألسنتهم، فمع ما قد صار عندهم من هذا الاعتقاد في ذلك الإمام إذا بلغهم أن أحد علماء الاجتهاد الموجودين يخالفه في مسألة كان هذا المخالف قد ارتكب أمراً شنيعاً وخالف عندهم شيئا قطعياً وأخطأ خطأ لا يكفره شئٌ وأن استدل على ما ذهب إليه بالآيات القرآنية والأحاديث المتواترة لم يقبل منه ذلك ولا يرفع لما جاء به رأساً كائنا من كان ولا يزالون منتقصين له بهذه المخالفة [24] انتقاصا شديدا على وجه لا يستحلونه من الفسقة ولا من أهل البدع المشهورة كالخوارج (¬1) والروافض (¬2) ويبغضونه بغضا شديداً فوق ما يبغضون أهل الذمة من اليهود والنصارى، ومن أنكر هذا فهو غير محقق لأحوال هؤلاء. وبالجملة فهو عندهم ضال ممضل ولا ذنب له إلا أنه عمل بكتاب الله وسنة رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- واقتدى بعلماء الإسلام في أن الواجب على كل مسلم تقديم كتاب الله وسنة رسوله على قول كل عالم كائنا من كان. ¬

(¬1) تقدم التعريف بها ص 153 (¬2) تقدم التعريف بها ص 148

[أقوال الأئمة الأربعة في النهي عن التقليد] ومن المصرحين بهذا الأئمة الأربعة فإنه قد صح عن كل واحد منهم هذا المعنى من طرق متعددة. [1 - أبو حنيفة]: قال صاحب الهداية (¬1): وفي روضة العلماء أنه قيل لأبي حنيفة إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالفه قال اتركوا قولي بكتاب الله فقيل إذذا كان خخبر الرسول يخالفه قال اتركوا قولي بخير الرسول فقيل إذا كان قول الصحابي يخالفه قال اتركوا قولي بقول الصحابي ..... انتهى. وقد روى عنه هذه المقالة جماعة من أصحابه وغيرهم. [2 - مالك]: وقد ذكر نور الدين السنهوري (¬2) نحو ذلك قال، قال ابن مسدي في منسكه: روينا عن معن بن عيسى قال سمعت مالكا يقول: إنما أنا بشرٌ أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي كل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه. انتهى. قال ابن مسدي فقد علم أن كلما خالف الكتاب والسنة من أراء مالك فليس بمذهب له بل مذهبه ما وافق الكتاب والسنة انتهى. ونقل الأجهوري والخرشي هذا الكالم وأقراه في شرحيهما على مختصر خليل (¬3) وقد روي ذلك عن مالك جماعة من أهل مذهبه وغيرهم. [3 - والشافعي]:وأما الإمام الشافعي [25] فقد تواتر ذلك عنه تواترا لا يخفي على مقصر فضلا عن كامل، فإنه نقل ذلك عنه غالب أتباعه ونقله عنه أيضًا جميع المترجمين له إلا من شذ. ¬

(¬1) انظر إعلام الموقعين (1/ 282) وانظر البحر المحيط (4/ 54) (¬2) انظر: جامع بيان العلم وفضله «(1/ 775) والإحكام «لابن حزم (6/ 149 - 150) و"إعلام الموقعين «(1/ 75). (¬3) (1/ 40 - 43)

ومن جملة من روى عنه ذلك البيهقي (¬1) فإنه ساق إسناداً إلى الربيع لاقال: سمعت الشافعي وسأله رجل عن مسألة فقال: يروي عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال كذا وكذا فقال له السائل: يا أبا عبد الله أتقول بهذا، فارتعد الشافعي واصفر وحال لونه وقال: ويحك وأي سماء تظلني إذا رويت عن الرسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- شيئاً ولم أقل به نعم على الرأس والعين نعم على الرأس والعين. وروي البيهقي (¬2) أيضًا عن الشافعي أنه قال: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رلسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقولوا بسنة رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ودعوا ما قلت: وروى البيهقي (¬3) عنه أيضًا قال: إذا حدث الثقة عن الثقة حتى ينتهي إلى رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ولا يترك لرسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حديث أبداً إلى إلا حديث وجد عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حديث يخالفه. وروى البيهقي: (¬4) أيضًا عنه أنه قال له رجل وقد روى حديثا أتأخذ بهذا فقال متى رويت عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حديثا صحيحا فلم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب. وحكى ابن القيم في إعلام الموقعين (¬5) أن الربيع قال سمعت الشافعي يقول: كل مسألة يصح فيه الخبر عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد مماتي. وقال حرملة بن يحيى قال الشافعي: ما قلت وكان ¬

(¬1) في المناقب (1/ 475) قلت: وابن القيم في إعلام الموقعين «(2/ 286) وأبو نعيم في الحلية (9/ 106) (¬2) في المناقب (1/ 4723 - 473) (¬3) ذكره ابن القيم في «إعلام الموقعين «(2/ 282) وابو نعيم في «الحلية (9/ 106) (¬4) في المناقب (1/ 474) (¬5) (2/ 285).

النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قد قال بخلاف قولي فما صح من حديث النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أولى ولا تقلدوني. وقال (¬1) الحميدي سأل رجل الشافعي عن مسألة فأفقتاه وقال قال النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كذا وكذا فقال الرجل أتقول هذا يا أبا عبد الله فقال الشافعي [26] أرأيت في وسطي زناراً؟ أتراني خرجت من الكنيسة؟ أقول قال النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وتقول لي أتقول بهذا. أأروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أقول به. انتهى ونقل إمام الحرمين في نهايته (¬2) عن الشافعي أنه قال: إذا صح خبر يخالف مذهبي فاتبعوه، واعلموا أنه مذهب. انتهى. وقد روى نحو ذلك الخطيب وكذلك الذهبي في تاريخه الإسلام والنبلاء (¬3) وغير هؤلاء ممن لا يأتي عليه الحصر. وقال الحافظ ابن حجر في توالي التأسيس (¬4) قد اشتهر عن الشافعي إذا صح الحديث فهو مذهب وحكى عن السبكي أن له مصنفا في هذه المسألة. [4 - أحمد بن حنبل]: وأما الإمام أحمد بن حنبل فهو أشد الأئمة الأربعة تنفيراً ن الرأي وأبعدهم عنه وألزمهم للسنة، وقد نقل عنه ابن القيم في مؤلفاته كإعلام الموقعين (¬5) ما فيه التصريح بأنه لا عمل على الرأي أصلا وهكذا نقل عنه ابن الجوزي وغيره من أصحابه وإذا كان من المانعين للرأي المنفرين عنه فهو قائل بما قاله الأئمة الثلاثة المنقولة ¬

(¬1) انظر: «إعلام الموقعين «(2/ 285 - 286). (¬2) أنظر المصدر السابق. (¬3) قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (10/ 35): قال أبو ثور: سمعت الشافعي يقول: «كل حديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو قولي، وإن لم تسمعوه مني ". (¬4) لابن حجر (ص 109). والصواب أن اسم الكتاب (توالي التأنيس بمعالي ابن إدريس) انظر كتاب «توثيق النصوص وضبطها عند المحدثين «تأليف الدكتور موفق بن عبد الله بن عدب القادر (ص108 - 113) (¬5) (2/ 31)

نصوصم على أن الحديث مذهبهم ويزيد عليه بأنهم سرغوا الرأي فيما لا يخالف النص وهو منعه من الأصل وسيأتي قريبا النقل علن الإمام أحمد بما فيه التصريح بمنع التقليد. وقد حكى الشعراني في الميزان (¬1) أن الأئمة الأربعة كلهم قالوا إذا صح الحديث فهو مذهبنا وليس لأحد قياس ولا حجة. انتهى ¬

(¬1) (1/ 55)

[إجماع الأئمة الاربعة على تقديم النص] وإذا تقرر لك إجماع أئمة المذاهب الأربعة على تقديم النص على آرائهم عرفت أن العالم الذي عمل بالنص وترك قول أهل المذاهب هو الموافق لما قاله أئمة المذاهب، والمقلد الذي قدم أقواله أهل المذاهب على النص هو المخالف لله ولرسوله ولإلمام مذهبه ولغيره من سائر علماء الإسلام. ولعمري إن القلم جرى بهذه [27] النقور على وجل وحياء من رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فيا لله العجب أيحتاج المسلم في تقديم قول الله أو قول رسوله على قول أحد من علماء أمته إلى أن يعتضد بهذه النقول يالله العجب، أي مسلم يلتبس عليه مثل هذا حتى يحتاج إلى نقل أقوال هؤلاء العلماء رحمهم الله في أن أقوال الله وأقوال رسوله مقدمة على أقوالهم فإن الترجيح فرع التعارض ومن ذاك الذي يعارض قوله قول الله أو قول رسوله- حتى نرجع إلى الترجيح والتقديم ‍‍‍‍‍‍‍! سبحانك هذا بهتان عظيم. فا حيا الله هؤلاء المقلدة هم الذين ألجأوا الأئمة إلى التصريح بتقديم أقوال الله. ورسوله على أقوالهم لما شاهدوهم عليه من الغلو المشابه لغلو اليهود والنصارى في أحبارهم (¬1) ورهبانهم وهم الذين ألجأونا إلى نقل هذه الكلمات وإلا فالأمر واضح لا يلتبس على أكمه. ولو فرضنا والعياذ بالله أن عالما من علماء الإسلام يجعل قوله كقول الله أو قول رسوله لكان كافراً مرتدا فرضا عن أن يجعل قوله أقدم من قول الله ورسوله. ¬

(¬1) يشير إلى قوله تعالى: {أتخذوا أحبارهم ورهبنهم أرباب من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها وحدا لآإله إلا هو سبحنه عما يشركون} [التوبة 31]. وأخرج ابن جرير في «جامع البيان» (6/جـ 10/ 114 - 115): والقرطبي في تفسيره (8/ 120) عن حذيفة أنه سئل عن قوله: {اتخذوا أحبارهم ورهبنهم أرباب من دون الله} كانوا يعبدونهم، قال: لا كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه.

فإنا لله وإنا إليه راجعون ما صنعت هذه المذاهب بأهلها وإلى أي موضع أخر أخرجتهم، وليت هؤلاء المقلدة الجفاة الأجلاف نظروا بعين العقل إذا حرموا النظر بعين العلم ووازنوا بين رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وبين أئمة مذاهبهم وتصوروا وقوفهم بين يدي رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فهل يخطر [28] ببال من بقيت فيه بقية من عقل هؤلاء المقلدين أن هؤلاء الأئمة المتبوعين عند وقوفهم المفروض بين يدي رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كانوا يردون عليه قوله أو يخالفونه بأقوالهم‍‍! كلا والله بل هم أتقى لله وأخشى له، فقد كان أكابر الصحابة يتركون سؤاله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في كثير من الحوادث هيبة له وتعظيما، وكان يعجبهم الرجل العاقل من أهل البادية إذا وصل يسأل رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ليستفيدوا بسؤاله كما ثبت في الصحيح (¬1) وكانوا يقفون بين يديه كأن على رؤوسهم الطجير يرمون بأبصارهم إلى بين أيديهم ولا يرفعونها (¬2) إلى رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- احتشاماً وتكريما وكانوا أحقر وأقل عند أنفسهم من أن يعارضوا رسول الله صلى عليه وآله وسلم بآرائهم وكان التابعون يتأديون مع الصحابة بقريب من هذا الأددب، وكذلك تابعو التابعين كانوا يتأدبون مع التابعين بقريب من أدب التابعين مع الصحابة فما ظنك أيها المقلد لو حضر إمامك بين يدي رسول الله- صلى عليه وآله وسلم- فإتك يا مسكين الاهتداء بهدى العلم فلا يفوتنك الاهتداء بهدى العقل، فإنك إذا استضأت بنوره خرجت من ظلمات جهلك إلى نور الحق. وإذا عرفت ما قدمنا لك أيضًا حكاية الإجماع على منعهم من التقليد وحكينا لك ما قاله الإمام أبو ¬

(¬1) يسير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحة (10/ 12) عن أنس رضى الله عنه قال: نهينا أن نسأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن شئ فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية، العاقل، فيسأله ونحن نسمع ..... " (¬2) انظر الحديث بطوله في صحيحه البخاري رقم (2731، 2732) من حديث المسور بن مخرمة ومروان

حنيفة وما قاله إمام دار الهجرة مالك بن أنس من ذلك ولاح لك ما نقلناه قريبا ما يقول الإمام محمد بن إدريس الشافعي من منع التقليد. وقد قال المزني في أول مختصره (¬1) ما نصه [29]: اختصرت هذا من علم الشافعي ومن معنى قوله لأقرأه على من أرداده مع إعلانه بنهيه عن تقيلده وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ويحاط فيه لننفسه انتهى. فانظر ما نقله هذا الإمام الذي هو من أعلم الناس بمذهب الشافعي- رحمه الله- من تصريحه بمنع تقليده وتقليد غيره. وأما الإمام أحمد بن حنبل فالنصوص عنه في منع التقليد كثيرة قال أبو دواد سمعته- يعني أحمد بن حنبل- يقول: الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه ثم من هو بعده من التابعين خير. انتهى فانظر كيف فرق بين التقليد والابتاع. وقال أبو دواد (¬2) قلت لأحمد الأوزاعي هو اتبع أم مالك؟ فقال: لا تقلد دينك أحداً من هؤلاء ما جاء عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه فخذ به وقال أبو داود (¬3) سعمته يعني أحمد بن حنبل- يقول: الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه ثم من هو بعده من التابعين مخير. انتهى فانظر كيف فرق بين التقليد والاتباع. وقال أبو داود (¬4) قال لي أحمد لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا. وقال من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال. قال ابن القيم (¬5): ولأجل هذا لم يؤلف الإمام أحمد كتابا في الفقه وإنما دون أصحابه مذهبه من أقواله وأفعاله وأجوبته وغير ذلك. وقال ابن الجوزي في «تلبيس إبليس «(¬6): ¬

(¬1) المطبوع مع كتاب «الأم «للشافعي (8/ 93) ط. دار الفكر (¬2) في «مسائل الإمام أحمد (ص276 - 277) (¬3) في «مسائل الإمام أحمد (ص276 - 277) (¬4) "مسائل الإمام أحمد «(ص 276 - 277) وانظر «إعلام الموقعين «(2/ 200) و» إيقاظ الهمم «(ص 113) للفلاني (¬5) في «إعلام الموقعين «(2/ 282) " (¬6) (ص94 - 95) وتمام قووله:» .... لأنه إنما خلق للتأمل والتدبر، وقبيح ممن أعطى شمعة يستضئ بها أن ثطفئها ويمشي في الظلمة، واعلم أن عموم أصحاب المذهب يعظم في قلوبهم الشخص فيتبعون قوله من غير تدبر لما قال، وهو عين الضلالة، لأن النظر ينبغي أن يكون إلى القول لا إلى القائل». أهـ

اعلم أن المقلد على غير نقة فيما قلد، وفي التقليد إبطال منفعة العقل ثم أطال الكلام في ذلك. وبالجملة فنصوص أئمة المذاهب الأربعة في المنع من التقليد وفي تقديم النص على آرائهم وآراء غيرهم لا يخفي على عار من أتباعهم وغيرهم.

[أقوال الأئمة المتبوعين من أهل البيت] وأما نصوص سائر الأئمة المتبوعين على ذلك كالأئمة من أهل البيت عليهم السلام فهي موجودة في كتبهم معروفة قد نقلها العارفون بمذاهبهم عنهم ومن أحب [30] النظر في ذذلك فليطالع مؤلفاتهم، وقد جمع منها السيد العلامة الإمام محمد بن إبراهيم الوزير في مؤلفاته ما يسفي يكفي لا سيما في كتابه المعروف بالقواعد (¬1) فإنه نقل الإجماع عنهم وعن سائر علماء الإسلام على تحريم تقليد الأموات وأطال في ذلك وأطاب وناهيك بالإمام الهادي يحي بن (¬2) الحسين- رحمه الله- فإنه الإمام الذي صار أهل الديار اليمنية مقلدين له متبعين لمذهبه من عنصره وهو آخر المائة الثالثة إلى الآن مع أ، وقد اشتهر عند أتباعه والمطلعين على مذهبه أنه صرح تصريحا لا يبقى عنده شك ولا شهبه بمنع التقليد له وهذه مقاله مشهورة في الديار اليمنية يعلمها مقلدوه وإن كان لا يجوز ذلك عملا بما قاله بعض المتأخرين إنه يجوز تقليد الإمام الهادي وإن منع من التقليد، وهذا من أغرب ما يطرق سمعك إن كنت ممن ينصف. وبهذا تعرف أن مؤلفات الإمام الهادي في الأصول والفروع وإن صرحوا في بعضها بجواز التقليد فهو على غير مذهب إمامهم وهذا كما وقع لغيرهم من أهل المذاهب، وقد كان أتباع هذا الإمام في العصور السابقة وكذلك أتباع الإمام الأعظم زيد ابن على- رحمه الله- فيهم إنصاف لا سيما في فتح باب الاجتهاد وتوسيع دائرة التقليد وعدم ¬

(¬1)» القواعد في الاجتهاد «- خ- رقم 96 (مجاميع ق 62 - 100) أخرى بمكتبة الحبشي، ثالثة بمكتبة التيمورية، أخرى ضمن مجموع الكبسي (ص 131 - 309) رابعة بدار الكتب المصرية. أنظر: أعلام المؤلفين الزيدية «(ص 829) (¬2) تقدمت ترجمته. انظر: «أعلام المؤلفين الزيدية «(ص1103)

قصر الجواز على إمام معين كما يعرف ذلك من مؤلفاتهم بخلاف غيرهم من المقلدة فإنهم أوجبوا على أنفسهم تقليد المعين واستروحوا إلى أن باب الاجتهاد قد انسد وانقطع التفضل به من الله على عباده ولقنوا العوام الذين هم مشاركون لهم في الجهل بالمعارف العملية ودونهم في معرفة مسائل التقليد بأنه لا اجتهاد بعد استقرار المذاهب وانقراض أئمتها فضموا إلى بدعتهم بدعة وشنعوا شنعتهم وسجلوا على أنفسهم بالجهل فإن من تجارأ على مثل هذه المقالة وحكم على الله سبحانه بمثل هذا الحكم المتضمن لتعجيزه عن التفضل على عباده بما أرشدهم إليه من تعلم العلم وتعليمه لا يعجز عن التجاري على أن يحكم على عباده بالأحكام الباطلة ويجازف في إصداره وإيراده.

[القول بانسداد باب الاجتهاد بدعة شنيعة] ويا لله العجب فاقنع هؤلاء الجهلة النوكي (¬1) بما هم فيه من بدعة التقليد التي هي أم البدع ورأس الشنع حتى سدوا على أمة محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- باب معرفة الشريعة من كتاب الله وسنة رسوله وإنه لا سبيل إلى ذلك ولا طريق حتى كأن الأفهام البشرية قد تغيرت والعقول الإنسانية قد ذهبت وكل هذا حرصا منهم على أن تعم بدعة التقليد كل الأمة وأن لا يرتفع عن طبقتهم السافلة أحد من عباد الله كأن هذه الشريعة التي بين أظهرنا من كتاب الله ورسوله قد صارت منسوخة والناسخ لها ا ابتدعوه من التقليد في دين الله فلا يعمل الناس بشئ مما في كتاب الله والسسنة بل لا شريعة لهم إلا ما قد تقرر في المذاهب لا على ما وافقها منهما وإن يخالفها أحدهما أو كلاهما فلا عمل عليه ولا يحل التمسك به [32]. هذا حاصل قولهم ومفاده وبيت قصيدهم ومحل نشيدهم ولكنهم رأوا التصريح بمثل هذا تستنكره قلوب العوام فضلا عن الخواص وتقشعر منه جلودهم وترجف له أفئدتهم فعدلوا عن هذه العبارة الكفرية والمقالة الجاهلية إلى ما يلاقيها في المعنى ويوافقها في المفاد ولكنه ينفق على العوام بعض نفاق فقالوا قد انسد باب الاجتهاد. ومعنى هذا الانسداد المفتري والكذب البحت أنه لم يبق في أهل هذه الملة الإسلامية من يفهم الكتاب والسنة وإذا لم يبق من هو كذلك لم يبق سبيل إليهما، وإذا انقطع السبيل إليهما فكل حخكم فيهما لا عمل عليه ولا التفات إليه سواء وافق اتلمذاهب أو خالفها لأنه لم يبق من يفهمه ويعرف معناه إلى آخر الدهر، فكذبوا على الله وادعوا عليه سبحانه أنه لا يتمكن من أن ¬

(¬1) نوك نوكا: حمق، وهو أنوك والجمع نوكي. قال سيبوية أجرى مجرى هلكي لأنه شئ أصيبوا به عقولهم. والنوك عند العرب العجز والجهل، وقال الأصمعي: الأنوك العيي في كلامه. «لسان العرب (14/ 335)

يخلق خلقا يهمون ما شرعه لهم وتعبدهم به حتى كأن ما شرعه لهم في كتابه وعلى لسان رسوله ليس بشرع مطلق بل شرع مقيد مؤقت إلى غاية هي قيام هذه المذاهب، وبعد ظهورها لا كتاب ولا سنة بل قد حدث من يشرع لهذه الأمة شريعة جديدة ويحدث لها دينا آخر وينسخ بما رآه من رأي وما ظنه من الطن ما تقدمه من الكتاب والسنة وهذا وإن أنكروه بألسنتهم فهو لازم لهم لا محيد لهم عنه ولامهرب، وإلا فأي معنى لقولهم قد انسد باب الاجتهاد ولم يبق إلا مجرد التقليد فإنهم إن أقروا بأنهم قائلون بهذا لزمهم الإقرار بما ذكرناه وعند ذلك نتلو عليهم {اتخذوا أحبارهم ورهبنهم أربابا من دون الله} [التوبة 31] وإن أنكروا القول بذلك وقالوا باب الاجتهاد مفتوح والتمسك بالتقليد غير حتم فقل لهم فما بالكم يانوكي ترمون كل من عمل بالكتاب والسنة وأخذ دينه منهما بكل حجر وقدر وتستحلون [33] عرضه وعقوبته وتجلبون عليه بخيلكم ورجلكم! وقد علموا وعلم كل من يعرف ما هب عليه أنهم مصممون على تغليق باب الاجتهاد وانقطاع السبيل إلى معرفة الكتاب والسنة فلزمهم ما ذكرناه بلا تردد فأنظر أيها المنصف ما حدث بسبب بدعة التقليد من البلايا الدينية والرزايا الشيطانية، فإن هذه المقالة بخصوصها- أعني انسداد باب الاجتهاد- لو لم يحدث من مفاسد التقيد إلا هي لكان فيها كفاية ونهاية فإنها حادثة رفعت الشريعة بأسرها واستلزمت نسخ كلام الله ورسوله وتقديم غيرهما عليهما واستبدال غيرهما بهما: ياناعي الإسلام قم وانعه ... قد زال عرف وبدا منكر وما ذكرناه فيما سبق من أنه كان في الزيدية والهادوية بالديار اليمنية إنصاف في هذه المسألة بفتح باب الاجتهاد فذك إنما هو في الأزمنة السابقة كما قيدنا فيما سلف. وأما في هذه الأزمنة فقد أدركنا منهم من هو أشد تعصبا من غيرهم فإنهم إذا سمعوا برجل يدعي الاجتهاد ويأخذ دينه من كتاب الله وسنة رسوله قاموا عليه قياما تبكي فه عيون

الإسلام واستحلووا منه مالا يستحلونه من أهخل الذذمة بالطعن واللعن والتفسيق والتكفير والهجم عليه إلى دياره ورجمه بالأحجار والاستظهار بهتك حرمته، ونعمل يقينا أنه لولا خبطهم بسوط هيبة الخلافة أعز الله أركانها وشيد سلطانها لا ستحلوا إراقة دماسء العلماء المنتمين إلى الكتاب والسنة وفعلوا بهم مالا يفعلونه بأهل الذمة وقد شاهدنا من هذا مالا يتسع المقام لبسطه. والسبب في بلوغهم إلى هذا المبلغ الذي يلغه ما غيرهم أن جماعة من شياطين [34] المقلدين الطالبين لفوائد الدنيا بعلوم الدين يوهمون العوام الذين لا يفهمون من الأجناد والسوقة ونحوهم بأن المخالف لما قد تقرر بينهم ن المسائل التي قلدوا فيها هو من المنحرفين عغن أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضى الله عنه وأنه من جملة المبغضين له الدافعين لفضله وفضائله المعادين له وللأئمة من أولاده فإذا سمع منهم العامي هذا مع قد ارتكز في ذهنه من كون هؤلاء المقلدة هم العلماء المبرزون لما يبهره من زيهم والاجتماع عليهم وتصدرهم للفتيا والقضاء حسبما ذكرناه سابقا فلا يشك أن هذه المقالة صحيحة وإن ذلك العالم العامل بالكتاب والسنة من أعداء القرابة فيقوم بحمية جاهلية صادرة عن واهمة دينية قد ألقاها إليه من قدمنا ذكرهم ترويجا لبدعتهم وتنفيقا لجهلهم وقصورهم عل من هو أجهل منهم وإنما موهوا على العوام بهذه الدققيقة الإبليسية لما يعلمونه من أن طبائعهم مجبولة على التشيع إلى حد يقصر عنه الوصف حتى إن أحدهم لو سمع التنقص تصريحا بالجناب الإلهي أو الجناب النبوي لم يغضب له عشر معشار ما يغضبه إذا سمع التنقيص بالجناب العلوي بمجرد الوهم والإيهام الذي لا حقيقة له. فبهذه الذريعة الشيطانية والدسيسة الإبليسية صار علماء الاجتهاد في القطر اليمني في محنة شديدة بالعامة والذنب كل الذنب على شياطين المقلدة فإنهم هم الداء العضال والسم القتال، ولو كان للعامة عقول لم يخف عليهم بطلان تلبيس شياطين المقلدة عليهم فإن من عمل في شئ من عباداته أو معاملاته بنص الكتاب أو السنة لا يخطر ببال من له عقل أن ذلك يستلزم الانحراف عن على رضى الله عنه، وأين هذا من ذاك، ولكن العامة قد [35] ضموا

إلى فقدان العلم فقدان العقل لاسيما في أبواب الدين وعند تلبيس الشياطين، فإنا لله وإنا إليه راجعون ما للعامة الذين قد أظلمت قلوبهم لفقدان نور العلم وللاعتراض على العلماء والتحكم عليهم وما بال هذه الأزمة جاءت بما لم يكن في حساب، فإن المعروف من خلق العامة في جميع الأزمنة أنهم يبلغون في تعظيم العلماء إلى حد يقصر عنه الوص وربما يزدحمون عليهم للتبرك بتقبيل أطرافهم ويستجلبون منهم الدعاء ويقرون بأنهم حجج الله على عباده في بلاده ويطيعونهم في كل ما يأمرونهم به ويبذلون أنفسهم وأموالهم بين أيديهم لا جرم حملهم على هذه الأفاعيل الشيطانية والأخلاق الجاهلية أباليس المقلدة بالذريعة التي أسلفنا بيانها. فانظر هل هذه الأفعال الصادرة من مقلدة اليمن هي أفعال من يعترف بأن باب الاجتهاد مفتوح إلى قيام الساعة وأن تقليد المجتهدين لا يجوز لم بلغ رتبه الاجتهاد وأن رجوع العالم إلى اجتهاد نفسه بعد إحرازه للاجتهاد ولو ي فن واحد ومسأله واحدة كما صرح له بذلك المؤلفون لفقه الأئمة وحرروه في الكتب الأصولية والفروعية كلا والله بل صنع من يعادي كتاب الله وسنة رسوله الطالب لهما والراغب فيهما ويمنع الاجتهاد ويوجب التقليد ويحول بين المتشرعين والشريعة ويحيلها عليهم فهما وإدراكا كما صنعه غيرهم من مقلدة سائر المذاهب بل زادوا عليهم في الغلو والتعصب بما تقدم ذكره. ومع هذا فالأئمة قد صرحوا في كتبتهم الفروعية والأصولية بتعداد علم الاجتهاد وأنها خمسة (¬1) وأنه يكفي المجتهد في كل فن مختصر من المختصرات، وهؤلاء المقلدة يعلمون أن ¬

(¬1) 1 - أن يكون عالما بنصوص الكتاب والسنة، فإذا قصر في أحدهما لم يكن مجتهداً ولا يجوز له الاجتهاد ولا يشترط معرفته بجميع الكتاب والسنة بل بما يتعلق منهما بالأحكام قال الغزالي وابن العثربي: والذي في الكتاب العزيز من ذلك قدر خمسمائة آية ودعوى الانحصار في هذا المقدار إنما هي باعتبار الطاهر، للقطع بأن في الكتاب العزيز من الآيات التي تستخرج منها الأحكام الشرعية أضعاف أضعاف ذلك .... .... . أنظر: «البحر المحيط «(6/ 199) و» المستصفى «(4/ 6). 2 - أن يكون عارفا بمسائل الإجماع ححتى لا يفتي بخلاف ما وقع الإجماع عليه إن كان ممن يقول بحجية ويرى أنه دليل شرعي 3 - أن يكون عالما بسان العرب بحيث يمكنه تفسير ما ورد في الكتاب والسنة من الغريب ونحوه وال يشترك أن يكون حافظا لها عن ظهر قلب بل المعتبر أن يكون متمكنا من استخراجها من مؤلفات الأثمة المشتغلين بذلك. 4 - أن يكون عالما بعلم أصول الفقه لاشتماله على ما تمس الحاجة إليه ووعليه أن يطول الباع فيه ويطلع على مختصارته ومطولاته بما تبلغ إليه طاقته، فإن هذذا العلم هو عماد فسطاط الاجتهاد وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه، وعليه أيضًا أن ينظر في كل مسألة من مسائله نظراً يوصله إلى ما هو الحق فيها فإنه إذا فعل ذاك تمكن من رد الفروع إلى أصولها بأيسر عمل وإذا قصر في هذا الفن صعب عليه الرد وخبط في وخلط. وقال الغزالي في «المستصفى» (4/ 10): إن أعظم علوم الاجتهاد يشتمل على ثلاثة فنون: الحديث، واللغة، وأصول الفقه. 5 - أن يكن عارفا بالناسخ والمنسوخ بحيث لا يحفى عليه شئ من ذلك مخافة أن يقع في الحكم بالمنسوخ. واختلفوا في اشتراط علم الفروع فذهب جماعة منهم الأستاذذذ أبو إسحاق والأستاذذ أبو منصور إلى اشتراطه. وذهب آخرون إلى عدم اشتراطه وقد جعل قوم من جملة علوم الاجتهاد علم الجرح والتعديل وهو كذلك ولكنه مندرج تحت العلم بالسنة .... .. وجعل قوم من جملة علوم الاجتهاد معرفة القياس بشروطه وأركانه قالوا: لأنه مناط الاجتهاد وأصل الرأي، ومنه يتشعب الفقه وهو مندرج تحت علم أصول الفقه فإنه باب من أبوابه. «أنظر الإحكام «للآمدي (4/ 171) والبحر المحيط (6/ 205) «المستصفي (4/ 10 - 15)

كثيراً من العلماء [36] العاملين بالكتاب والسنة المعاصرين لهم يعرفون من كل فن من الفنون الخمسة أضعاف أضعاف القدر المعتبر ويعرفون علوما غير هذه العلوم. وهم وإن كانوا جهالا لا يعرفون شيئا من المعارف لكنهم يسألون أهل العلم عن مقادير العلماء فيفدونهم ذلك.

وبهذا تعرف أنه لا حامل لهم على ذلك إلا مجرد التعصب لمن قلدوه وتجاوزوا الحد في تعظيمه وامتثال رأيه على حد لا يوجد عندهم للصحابة بل لا يوجد عندهم لكلام الله ورسوله.

[إبطال التقيد] أخرج البيهقي (¬1) وابن عبد البر (¬2) عن حذيفة بين اليمان أنه قيل له في قوله تعالى: {أتخهذوا أحبارهم ورهبنهم أربابا من دون الله} [التوبة] أكانو يعبدونهم فقلل: لا ولكن يحلون لهم الحرام فيحلونه ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه فصاروا بذلك أرباباً. وقد روى نحو ذلك مرفوعاً من حديث عدي بن حاتم كما قال البيهقي (¬3) وأخرج نحو هذا التفسير ابن عبد البر (¬4) عن بعض الصحابة بإسناد متصل به قال: أما إنهم لو أمروهم أن يعبدوهم ما أطاعوهم ولكنهم أمروهم فجعلوا حلال الله حرامها وحرامه حلالا فأطاعوهم فكانت تلك الربوبية. ومن ذلك قوله تعالى: {وكذلك مآ أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا ءاباءنا على أمة وإنا على ءاثرهم مقتدون قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه ءاباءكم} فآثرها الاقتداء بآبائهم حتى قالوا: {إنا بما أرسلتم به كفرون} [الزخرف 23 - 24] وقال عز وجل: {إذا تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كمما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعملهم ¬

(¬1) في السنن الكبرى (10/ 116) (¬2) في جامع بيان العلم وفضله (2/ 975) وقد تقدم وهو حديث حسن (¬3) في السنن الكبرى (10/ 116) (¬4) في جامع بيان العلم وفضله (2/ 976 - 977)

حسرات عليهم} [البقرة 166 - 167] وقال الله عز وجل: {ما هذذه التماثيل التي أنتم لها عكفون قالوا وجدنا ءابانا لها عبدين} فهذه الآيات وغيرها مما ورد في معناه ناعية على المقلدين ما هم فيه وهي وإن كان تنززيلها في الكفار لكنها قد صح تأويلها في المقلدين لا تحاد العلة، وقد تقرر في الأصول [37] أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأن الحكم يدور مع العلة وجوداً وعدما (¬1) وقد احتج أهل العلم بهذه الآيات على إبطال التقليد ولم يمنعهم من ذلك كونها نازلة في الكفار. وأخرج ابن عبد البر (¬2) بإسناد متصل بمعاذ رضى الله عنه قال: إن وراءكم فتنا يكثر فيها المال وويفتح فيها القرآن حتى يقرأه المؤمن والمنافق والمرأة والصبي والأسود والأحمر فيوشك أحدهم أن يقول قد قرأت القرآن فما أطن أن يتبعوني حتى أبتدع لهم غيره فإياكم وما ابتدع فإن كل بدعة ضلالة .... ». وأخرج (¬3) أيضًا عن ابن عباس أنه قال وويل للأبتاع من عثرات العالم قيل كيف ذلك؟ قال يقول العالم شيئا برأيه ثم يجد من هو أعلم برسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- منه فيترك قوله، ثم يمضي الأتباع. وأخرج (¬4) أيضًا عن علي بن أبي طالب ................................. ¬

(¬1) أنظر «إرشاد الفحول ص 699" (¬2) في جامع بيان العلم وفضله (12/ 981رق 1871) (¬3) ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله (2/ 984 رقم 1877) (¬4) ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله (2/ 984 رقم 1878) بسند ضعيف جداً

رضي الله عنه (¬1) أنه قال: يا كميل إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير، والناس ثلاثة: فعالم رباني ومتعلم على سبيل نجاةٍ وهمج رعاع أتباع كل ناعق لم يستضيؤا بنور العمل ولم يلجأوا إلى ركن وثيق. وأخرج (¬2) عنه أيضًا أنه قال: إياكم والاستنان بالرجال فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه بعمل أهل النار فيموت وهو من أهل النار. وأخرج (¬3) عن ابن مسعود أنه قال: ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلًا إن آمن آمن وإن كفر كفر فإنه لا أسوة في الشر. وروى ابن عبد البر (¬4) بإسناده إلى عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم يحرمون ما أحل الله ويحلون به ما حرم الله». وأخرجه البيهقي (¬5) أيضًا. قال ابن القيم بعد إخراجه من طرق: وهؤلاء - يعني رجال إسناده - كلهم ثقات حفاظ إلا حريز بن عثمان فإنه كان منحرفًا عن علي، ومع هذا احتج به البخاري في صحيحه (¬6). وقد روي عنه أيضًا أنه تبرّأ مما نسب إليه من الانحراف. ¬

(¬1) زيادة من (ب) (¬2) أي ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (2/ 987 رقم 1881) بسند ضعيف (¬3) ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (2/ 988 رقم 1882). (¬4) في «جامع بيان العلم» (2/ 1039 رقم 1997). (¬5) في «المدخل» (ص188 رقم 207). قلت: وأخرجه الحاكم في «المستدرك» (4/ 430) وصححه على شرط الشيخين والخطيب في «الفقيه والمتفقه» رقم (473) وفي «تاريخ بغداد» (3/ 307 - 311) وهو حديث ضعيف. (¬6) في «هدى الساري» (ص 396): قال البخاري: «قال: أبو اليمان كان حريز يتناول من رجل ثم ترك قالت: فهذا أعدل الأقوال فلعله تاب ... »

وروى ابن عبد البر (¬1) بإسناده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:» تعمل هذه الأمة برهة بسنة رسول الله ثم يعملون بالرأي فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا» [38]. وأخرجه (¬2) أيضًا بإسناد آخر فيه جبارة بن المغلس وفيه مقال. وروى (¬3) أيضًا بإسناده إلى عمر بن الخطاب أنه قال وهو على المنبر: يا أيها الناس إن الرأي إنما كان من رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مُصيبًا لأن الله كان يُريه، وإنما هو منا الظن والتكلف. وأخرجه أيضًا البيهقي في المدخل (¬4) وروى ابن عبد البر (¬5) بإسناده إلى عمر أيضًا أنه قال أهل الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يعوها وتفلتت ممنهم أن يرووها فاشتقوا الرأي». وروى (¬6) ابن عبد البر بإسناده إليه أيضًا قال: اتقوا الرأي في دينكم. وروى (¬7) عنه أيضًا قال إن أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا حين يسألون أن يقولوا لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم. وأخرج ابن عبد البر (¬8) بإسناده إلى ابن مسعود قال: ليس عام إلا الذي بعده شر منه، لا أقول عامٌ أمطر من عام ولا عام أخصب من عام ولا أمير خير من أمير ولكن ذهاب. ¬

(¬1) في «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 1039 رقم 1998) (¬2) أي ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (2/ 1040 رقم 1999) وهو حديث ضعيف. (¬3) ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (2/ 1041 رقم 2000) وهو أثر صحيح. (¬4) (ص189 رقم 210). قلت: وأخرجه في «السنن الكبرى» (10/ 117). (¬5) في «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 1041 رقم 2002) وهو أثر صحيح. (¬6) في «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 1041 رقم 2002). (¬7) في «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 1042 رقم 2003). (¬8) «في جامع بيان العلم وفضله» (2/ 1043 رقم 2008).

خياركم وعلمائكم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فيهدم الإسلام ويثلم. وأخرجه البيهقي (¬1) بإسناده ورجاله ثقات. وأخرج أيضًا ابن عبد البر (¬2) عن ابن عباس قال: إنما هو كتاب الله وسنة رسوله فمن قال بعد ذلك برأيه فما أدري أفي حسناته أم في سيئاته. وأخرج (¬3) أيضًا عن ابن عباس أنه قال: تمتع رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال عروة: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة فقال ابن عباس: أرااهم سيهلكون أقول قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ويقول قال أبو بكر وعمر. وأخرج (¬4) أيضًا عن أبي الدرداء أنه قال: من يعذرني من معاوية أحدثه عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ويخبرني برأيه ومثله عن عباده. وأخرج (¬5) أيضًا عن عمر رضي الله عنه (¬6) قال: السنة ما سنة رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة. وأخرج (¬7) أيضًا عن عروة بن الزبير أنه قال: لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيمًا حتى أدركت فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم فأخذوا فيهم بالرأي فأضلوا بني إسرائيل. وأخرج (¬8) أيضًا عن الشعبي أنه قال: إياكم والمقايسة فو الذي نفسي بيده لئن أخذتم بالمقايسة لتحلن الحرام ولتحرمن الحلال، ولكن ما بلغكم ممن حفظ عن أصحاب رسول ¬

(¬1) في «المدخل» (ص 186 رقم 205). (¬2) «في جامع بيان العلم» (2/ 1046 رقم 2013) بإسناد ضعيف. (¬3) في «جامع بيان العلم» (2/ 210 رقم 2381). (¬4) في «جامع بيان العلم» (2/ 1210 رقم 2379). (¬5) في «جامع بيان العلم» (2/ 1047 رقم 2014). (¬6) زيادة من (ب). (¬7) في «جامع بيان العلم» (2/ 1047 رقم 2015) بإسناد صحيح. (¬8) في «جامع بيان العلم» (2/ 1047 رقم 2016) بإسناد ضعيف جدًا.

الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فاحفظوه. وروى ابن عبد البر أيضًا ذم الرأي والتبرؤ منه والتنفير عنه بكلمات تقارب هذه الكلمات عن مسروق (¬1) وابن سيرين (¬2)، وعبد الله ابن المبارك (¬3)، وسفيان (¬4)، وشريح (¬5)، والحسن البصري (¬6)، وابن شهاب (¬7). وذكر الطبري [39] في كتاب تهذيب الآثار له بإسناد إلى مالك (¬8) قال: قال مالك: قبض رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وقد تم هذا الأمر واستكمل فإنما ينبغي أن تتبع آثار رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ولا تتبع الرأي فإنه من أتبع الرأي جاء رجل آخر أقوى في الرأي منك فاتبعته فأنت كلما جاء رجل غلبك اتبعته. أرى هذا لا يتم. وروى ابن عبد البر (¬9) عن مالك بن دينارٍ أنه قال لقتادة: اتدري أي علمٍ رفعت، ¬

(¬1) رقم (2018) بإسناد ضعيف. عن الشعبي عن مسروق قال: لا أقيس شيئًا بشيء، قلت لمه؟ قال: أخاف أن تزل قدميث. (¬2) رقم (2019، 2020). كلاهما بإسناد صحيح. (¬3) رقم (2021) بإسناد صحيح عن عبد الله بن المبارك قال لرجل:» إن ابتليت بالقضاء فعليك بالأثر» (¬4) رقم (2022) بإسناد صحيح، عن سفيان قال: «إنما الدين بالآثار»» إنما الدين بالآثار» (¬5) رقم (2022) بإسناد صحيح عن شريح أنه قال: «إن السنة سبقت قياسكم، فاتبعوا ولا تبتدعوا، فإنكم لن تضلوا ما أخذتم بالأثر» (¬6) رقم (2026) عن الحسن قال: «إنما هلك من كان قبلكم حين تشعبت بهم السبل وحادوا عن الطريق، فتركوا الآثار وقالوا في الدين برأيهم فضلّوا وأضلّوا». (¬7) رقم (2028) بإسناد ضعيف. عن ابن عشاب قال: وهو يذكر ما وقع فيه الناس من هذا الرأي وتركهم السنن فقال: «إنّ اليهود والنصارى إنما انسلخوا من العلم الذي كان بأيديهم حين استبقوا الرأي وأخذوا فيه». (¬8) عزاه إليه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» رقم (2072). (¬9) في «جامع بيان العلم» رقم (2074).

قمت بين الله وبين عباده، فقلت هذا لا يصلح وهذا يصلح. وروى ابن عبد البر (¬1) أيضًا عن الأوزاعي أنه قال: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوا لك القول. وروى (¬2) أيضًا عن مالك أنه قال: ما علمته فقل به ودل عليه وما لم تعلم فاسكت وإياك أن تقلد الناس قلادة سوء. وروى (¬3) أيضًا عن القعنبي أنه دخل على مالك فوجده يبكي فقال: ما الذي يبكيك؟ فقال: يا ابن قعنب إنا لله على ما فرط مني، ليتني جلدت بكل كلمةٍ تكلمت بها في هذا الأمر سوطًا ولم يكن فرط مني ما فرط من هذا الرأي وهذه المسائل وقد كانت لي سعة فيما سبقت إليه. وروى (¬4) أيضًا عن سحنون أنه قال: ما أدري ما هذا الرأي سفكت به الدماء واستحلت به الفروج واستحقت به الحقوق. وروى (¬5) أيضًا عن أيوب أنه قيل له مالك لا تنظر في الرأي؟ فقال أيوب قيل للحمار مالك لا تجتر؟ قال أكره مضغ الباطل!. وروى (¬6) عن الشعبي أيضًا أنه قال: «والله لقد بغّض إلى هؤلاء القومن المسجد حتى لهو أبغض من كناسة داري، قيل له من هم. قال هؤلاء الآرائيون وكان في ذلك المسجد الحكم وحماد وأصحابهم». ¬

(¬1) في «جامع بيان العلم» رقم (2077) بإسناد حسن. (¬2) في «جامع بيان العلم» رقم (2080) بإسناد صحيح. (¬3) في «جامع بيان العلم» رقم (2081) وهو أثر صحيح. (¬4) في «جامع بيان العلم» رقم (2082) وهو أثر صحيح. (¬5) في «جامع بيان العلم» رقم (2085) بإسناد صحيح. (¬6) في «جامع بيان العلم» رقم (2089) بإسناد ضعيف.

وذكر ابن (¬1) وهب أنه سمع مالكًا يقول: «لم يكن من أمر الناس [40] ولا من مضى من سلفنا ولا أدركت أحدًا أقتدى به يقول في شيء هذا حلال وهذا حرام ما كانوا يجترئون على ذلك وإنما كانوا يقولون نكرة هذا ونرى هذا حسنًا ويبقى هذا ولا نرى هذا». وزاد بعض أصحاب مالك عنه في هذا الكلام أنه قال: «ولا يقولون حلال ولا حرام. أما سمعت قول الله عز وجل: {قل أرءيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالا قل ءالله أذن لكم أم على الله تفترون} (¬2)». الحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرّمه الله ورسوله. وروى ابن عبد البر (¬3) أيضًا عن أحمد بن حنبل أنه قال: رأى الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي وهو عندي سواء إنما الحجة في الآثار. وروى (¬4) أيضًا عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال: ما أحدث أحد في العلم شيئًا إلا سئل عنه يوم القيامة فإن وافق السنة سلم وإلا فهو العطب. وقال الشافعي في تفسير البدعة المذكورة في الحديث الثابت في الصحيح (¬5) من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعةٍ ضلالة»: إن المحدثات من الأمور ضربان: أحدهما: ما أحدث يخالف كتابًا أو سنة أو أثرًا أو إجماعًا فهذه البدعة الضلالة. والثانية: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذه الامة وهذه محدثة غير مذمومة، وقد قال عمر في قيام شهر رمضان نعمت (¬6) البدعة هذه. ¬

(¬1) أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» رقم (2091) بإسناد ضعيف. (¬2) [يونس: 59]. (¬3) في «جامع بيان العلم» رقم (2107) بإسناد صحيح. (¬4) أي ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» رقم (2116). (¬5) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (592/ 867). (¬6) أخرج الأثر مالك في «الموطأ» (1/ 114) والبخاري في صحيحه رقم (2010).

وأخرج البيهقي في المدخل (¬1) عن ابن مسعود أنه قال: اتّبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم. وأخرج (¬2) عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يقول: «يكون بعدي رجالٌ يعرفونكم ما تنكرون وينكرون عليكم ما تعرفون فلا طاعة لمن عصى الله، ولا تعملوا برأيكم». وأخرج (¬3) عن عمر أنه قال: اتقوا الرأي في دينكم. ¬

(¬1) (ص 186 رقم 204) بإسناد صحيح. قلت: وأخرجه الطبراني في «الكبير» (9/ 198 رقم 8771) وأورده الهيثمي في «المجمع» (1/ 181) وقال رجاله رجال الصحيح. (¬2) أي البيهقي في «المدخل» (ص 187 رقم 206). قلت: ورواه أحمد (5/ 325) بنحوه من طريق الحكم بن نافع، عن أبي اليمان، عن إسماعيل بن عياش، عن عبد الله بن خيثم به وإسناده ضعيف لضعف إسماعيل بن عياش في روايته عن غير أهل بلده، وهذا منها. وأخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في «زوائد المسند» (5/ 329) من طريق سويد بن سعيد، عن يحيى بن سليم، عن ابن خيثم عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن أبيه عبيد، عن عبادة بن الصامت، وأخرجه الحاكم في «المستدرك» (3/ 356) من طريق عبد الله بن واقد، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن أبي الزبير، عن جابر، عن عبادة. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي: تفرّد به عبد الله بن واقد وهو ضعيف. وله شاهد من حديث ابن مسعود عند أحمد (1/ 399 - 400) وابن ماجه (2/ 956 رقم 2865) ولفظه: «يلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها»، فقلت: يا رسول الله، إن أدركتهم كيف أفعل؟ قال: «تسألني يا عبد الله كيف تفعل؟ لا طاعة لمن عصى الله». قلت: حديث عبادة بن الصامت صحيح وكذلك حديث ابن مسعود أيضًا صحيح. وانظر: «الصحيحة» رقم (590). (¬3) أي البيهقي في «المدخل» (ص 190 رقم 210).

وأخرج (¬1) عنه أيضًا بسند رجاله ثقات أنه قال: يا أيها الناس أتهموا [41] الرأي على الدين. وأخرج (¬2) أيضًا عن عليّ ابن علي بن أبي طالب أنه قال: لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أحقَّ بالمسح من ظاهرهما ولكن رأيت رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يمسح على ظاهرهما. وهو أثر مشهور أخرجه غير (¬3) البيهقي أيضًا. وأخرج البيهقي أيضًا ما يفيد الإرشاد إلى ا تباع الأثر والتنفيرعن اتباع الرأي عن ابن عمر (¬4) وابن سيرين (¬5) والحسن (¬6) والشعبي (¬7) وابن عون (¬8) والأوزاعي (¬9) وسفيان ¬

(¬1) أي البيهقي في «المدخل» (ص 192 - 193) رقم (217، 218). (¬2) البيهقي في «المدخل» (ص 193 رقم 219). (¬3) كأبي داود رقم (162)، والدارقطني (1/ 199 رقم 23) والبيهقي (1/ 292) والدارمي (1/ 181) وابن أبي شيبة (1/ 181). من رواية عبد خير عن علي رضي الله عنه. وهو حديث حسن. (¬4) قال ابن عمر: «لا يزال الناس على الطريق ما اتبعوا الأثر». أخرجه البيهقي في «المدخل» رقم (220). (¬5) وأخرج البيهقي في «المدخل» رقم (223) عن ابن سيرين قال: أول من قاس إبليس، وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس. (¬6) أخرج البيهقي في «المدخل» رقم (224) عن الحسن أنه كان يقول: اتهموا أهواءكم ورأيكم على دين الله، وانتصحوا كتاب الله على أنفسكم ودينكم. وانتصحوا: قال شيخنا: أي تقبلوا النصيحة- كما في الهامش. (¬7) أخرج البيهقي في «المدخل» رقم (225): عن الشعبي قال: «أما والله لئن اتخذتم بالمقايسة لتحرمن الحلال، ولتحلن الحرام». (¬8) أخرج البيهقي في «المدخل» رقم (231) عن ابن عون عن محمد، عن شريح قال: إنما اقتفى الأثر يعني آثار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (¬9) أخرج البيهقي في «المدخل» رقم (233) عن الأوزاعي قال: عليك بآثار من سلف، وإن رفضك الناس، وإياك ورأي الرجال، وإن زخرفوه بالقول، فإن الأمر ينجلي، وأنت منه على طريق مستقيم.

الثوري (¬1) والشافعي (¬2) وابن المبارك (¬3) وعبد العزيز (¬4) بن أبي سلمة وأبي حنيفة (¬5) ويحي بن آدم (¬6) ومجاهد (¬7). وأخرج أبو داود (¬8) وابن ماجه (¬9) والحاكم (¬10) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ¬

(¬1) أخرج البيهقي في «المدخل» رقم (235): عن سفيان الثوري قال: «إنما العلم كله العلم بالآثار». (¬2) أخرج البيهقي في «المدخل» رقم (249). قال الشافعي: «إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقولوا بسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعوا ما قلت». (¬3) أخرج البيهفي في «المدخل» رقم (240): عن ابن المبارك قال: «ليكن الذي تعتمد عليه الأثر، وخذ من الرأي ما يفسر لك الحديث». (¬4) أخرج البيهقي في «المدخل» رقم (242): عن عبد العزيز بن أبي سلمة، قال: لما جئت العراق، جاءني أهل العراق، فقالوا: حدثنا عن ربيعة الرأي، قال: فقلت: يا أهل العراق! تقولون ربيعة الرأي لا والله، ما رأيت أحدًا أحفظ لسنه منه. (¬5) أخرجه البيهقي في «المدخل» رقم (245) عن يحي بن ضريس قال: شهدت سفيان، فأتاه رجل، فقال له: ما تنقم على أبي حنيفة؟ قال: وما له؟ قال: سمعته يقول: آخذ بكتاب الله فما لم أجد فبسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن لم أجد في كتاب الله ولا في سنة أخذت بقول أصحابه، آخذ بقول من شئت منهم، وأدع قول من شئت منهم، ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم ... ». (¬6) أخرج البيهفي في «المدخل» رقم (29) عن يحيى ابن آدم قال: لا يحتاج مع قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى قول أحد». (¬7) أخرج البيهقي في «المدخل» رقم (30) عن مجاهد قال: ليس أحدٌ إلا يؤخذ من قوله، ويترك من قوله إلا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. عزا هذه الآثار الحافظ في «الفتح» (3/ 289): للبيهقي في «المدخل» وابن عبد البر وحكم على أسانيدها بأنها جيادٌ. وانظر: «إعلام الموقعين» (1/ 73 - 79). (¬8) في «السنن» رقم (2885). (¬9) في «السنن» رقم (54). (¬10) في «المستدرك» (4/ 332). وهو حديث ضعيف.

أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: «العلم ثلاثة فما سوى ذلك فضلٌ: آية محكمة وسنة قائمة وفريضة عادلة». وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد الأفريقي وعبد الرحمن بن رافع وفيهما مقال. قال ابن عبد البر (¬1): السنة القائمة الثابتة الدائمة المحافظ عليها معمولًا بها لقيام إسنادها. والفريضة العادلة المساوية للقرآن في وجوب العمل بها وفي كونها صدقًا وصوابًا وأخرج الديلمي في مسند الفردوس (¬2) وأبو نعيم (¬3) والطبراني في الأوسط (¬4) والخطيب (¬5) والدارقطني (¬6) وابن عبد البر (¬7) عن ابن عمر بن الخطاب موقوفًا: «العلم ثلاثة أشياء: كتابٌ ناطقٌ، وسنة ماضية، ولا أدري» وإسناده حسن. وأخرج ابن عبد البر (¬8) عن ابن عباس أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: «إنما الأمور ثلاثة: أمر تبيّن لك رشده فاتبعه، وأمرٌ تبين لك زيغة فاجتنبه وأمر اختلف فيه فكله إلى عالمه». والحاصل أن كون الرأي ليس من العلم لا خلاف فيه بين الصحابة والتابعين وتابعيهم ¬

(¬1) انظر: «جامع بيان العلم وفضله» (1/ 752). (¬2) رقم (4197). (¬3) عزاه إليه العراقي في «تخريج الإحياء» (1/ 204). (¬4) (1/ 299 رقم 1001). وأورده الهيثمي في «المجمع» (1/ 172) وقال: فيه حصين غير منسوب رواه عن مالك بن أنس، وروى عنه إبراهيم بن المنذر، ولم أر من ترجمه». (¬5) في أسماء من روى عن مالك من رواية عمر بن عصام عن مالك عن نافع عن ابن عمر موقوفًا عليه» تخريج الإحياء» (1/ 203 رقم 184). (¬6) في «السنن» (4/ 68). (¬7) في «جامع بيان العلم وفضله» رقم (1387). (¬8) في «جامع بيان العلم» رقم (1388) بإسناد ضعيف جدًا.

[42] قال ابن عبد البر (¬1): ولا أعلم بين متقدَّمي علماء هذه الأمة وسلفها خلافًا أن الرأي ليس بعلم حقيقة، وأما أصول العلم فالكتاب والسنة ... انتهى. وقال ابن عبد البر (¬2): حد العلم عند العلماء والمتكلمين في هذا المعنى هو ما استيقنته وتبيَّنته، وكل من استيقن شيئًا وتبينَّه فقد علمه. وعلى هذا من لم يستيقن الشيء وقال به تقليدًا فلم يعلم. والتقليد عند جماعة العلماء غير الأتباع لأن الأتباع هو أن تتبع القائل على ما بان لك من فضل قوله وصحة مذهبه. والتقليد أن تقول بقوله وأنت لا تعرفه ولا وجه القول ولا معناه، وتأبى من سواه. أو أن يتبين لك خطؤه فتتبعه مهابة خلافه، وأنت قد بان لك فساد قوله وهذا يحرم القول به في دين الله سبحانه انتهى. ومما يدل على ما أجمع عليه السلف من أن الرأي بعلم قول الله عز وجل: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} (¬3) قال عطاء بن أبي رباح (¬4) وميمون بن مهران (¬5) وغيرهما: الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى رسول الله هو الرد إلى سنته بعد موته. وعن عطاء (¬6) في قوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} (¬7) قال طاعة الله ورسوله اتباع الكتاب والسنة «وأولي الأمر منكم» قال أولي العلم والفقه وكذا قال مجاهدٌ (¬8). ¬

(¬1) (2/ 765). (¬2) (2/ 765). (¬3) [النساء: 59]. (¬4) أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» رقم (1413). (¬5) أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم». رقم (1414) بإسناد حسن. (¬6) أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» رقم (1417) بإسناد حسن. (¬7) [النساء: 59]. (¬8) أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» رقم (1418). بسند ضعيف.

ويدل على ذلك من السنة حديث العرباض بن سارية وهو ثابت (¬1) ورجاله رجال الصحيح قال وعظنا رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقلنا يا رسول الله إن هذه لموعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: «تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، وعليكم بالطاعة وإن كان عبدًا حبشيًا عضّوا عليها [43] بالنواجذ فإنما المؤمن كالجمل الآنف كلما قيد انقاد». وأخرجه أيضًا ابن عبد البر (¬2) بإسناد صحيح وزاد: «وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة» ... وفي رواية (¬3): «إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة». والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدًا ويكفي في دفع الرأي وأنه ليس من الدين قوله الله عز وجل: {أكملت لكم دينكم وأتتمت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا} (¬4). فإذا كان الله قد أكمل دينه قبل أن يقبض إليه نبيه [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ] (¬5) فما هذا الرأي الذي أحدثه أهله بعد أن أكمل الله دينه؟ إن كان من الدين في اعتقادهم فهو لم يكمل عندهم إلا برأيهم وهذا فيه رد للقرآن، وإن لم يكن من الدين فأي فائدة في الاشتغال بما ليس من الدين. ¬

(¬1) تقدم مرارًا وهو حديث صحيح. (¬2) في «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 1164 رقم 2305) بسند صحيح. (¬3) انظر: «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 1164). (¬4) [المائدة: 3]. (¬5) زيادة من (ب).

وهذه حجة قاهرة ودليل عظيم لا يمكن صاحب الرأي أن يدفعه بدافع أبدًا فاجعل هذه الآية الشريفة أول ما تصك به وجوه أهل الرأي وترغم به آنافهم، وتدحض به حججهم فقد أخبرنا الله في محكم كتابه أنه أكمل دينه ولم يمت رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إلا بعد أن أخبرنا بهذا الخبر عن الله عز وجل. فمن جاءنا بشيء من عند نفسه وزعم أنه من ديننا قلنا له الله أصدق منك فاذهب فلا حاجة لنا في رأيك. وليت المقلدة فهموا هذا الآية حق الفهم حتى يستريحوا ويُريحوا. ومع هذا فقد أخبرنا في كتابه أنه أحاط بكل شيء فقال: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} (¬1) وقال: [تعالى] (¬2): {ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء وهدى ورحمة} (¬3) ثم أمر عباده بالحكم بكتابه فقال: {وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} (¬4) وقال: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا} (¬5) وقال: {إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خيبر الفاصلين} (¬6) وقال: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} (¬7) وقال: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} (¬8) وقال: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} (¬9) وأمر ¬

(¬1) الأنعام: 38 (¬2) زيادة من (ب) (¬3) [النحل: 89] (¬4) [المائدة: 49] (¬5) [النساء: 105] (¬6) [الأنعام: 57] (¬7) [المائدة: 44] (¬8) [المائدة: 45] (¬9) [المائدة: 47]

عباده أيضًا في محكم كتابه باتباع ما جاء به رسوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال سبحانه: {وما آتاكم الرسول فخذوه [44] وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله أن الله شديد العقاب} (¬1) وقال: {قل إن كنتم تحبونالله فاتبعوني يحببكم الله} (¬2) وقال: {وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون} (¬3) وقال: {أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين} (¬4) وقال: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا} (¬5) وقال: {من يطع الرسول فقط أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظًا} (¬6) وقال: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلا} (¬7) وقال: {ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارًا خالدًا فيها وله عذاب مهين} (¬8) وقال: {وأطيعوا الله وأطيعوا ¬

(¬1) [الحشر:7] (¬2) [آل عمران: 31] (¬3) [آل عمران: 132] (¬4) [آل عمران: 32] (¬5) [النساء: 69] (¬6) [النساء: 80] (¬7) [النساء: 59] (¬8) [النساء: 13 - 14]

الرسول وأحذروا فإن توليتم فاعملوا أنما على رسولنا البلاغ المبين} (¬1) وقال: {وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين} (¬2). وقال: {وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين} (¬3) وقال: {قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين} (¬4) وقال: {وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون} (¬5) وقال: {ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا} (¬6) وقال: {يأ أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم} (¬7) وقال: {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون} (¬8) وقال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (¬9). والاستكثار من الاستدلال على وجوب طاعة الله ورسوله لا يأتي بفائدة زائدة فليس أحدٌ من المسلمين يخالف في ذلك، ومن أنكره فهو كافرٌ خارج عن حزب المسلمين. إنما ¬

(¬1) [المائدة: 92] (¬2) [الأنفال: 1] (¬3) [الأنفال: 46] (¬4) [النور: 54] (¬5) [النور: 56] (¬6) [الأحزاب: 71] (¬7) [سورة محمد: 33] (¬8) [النور: 51] (¬9) [الأحزاب: 21]

أوردنا هذه الآيات الشريفة لقصد تليين قلب المقلد الذي قد جمد وصار كالجلمد فإنه إذا سمع [45] مثل هذه الأوامر القرآنية ربما امتثلها وأخذ دينه عن كتاب الله وسنة رسوله طاعة لأوامر الله تعالى. فإن هذه الطاعة وإن كانت معلومة لكل مسلم كما تقدم لكن الإنسان قد يذهل عن القوارع القرآنية والزواجر النبوية فإذا ذكر بها ذكر ولا سيما من نشأ على التقليد وأدرك سلفه ثابتين على غير متزحزحين عنه، فإنه يقع في قلبه أن دين الإسلام هو هذا الذي هو عليه وما كان مخالفًا له فليس من الإسلام في شيء فإذا راجع نفسه رجع. ولهذا تجد الرجل إذا نشأ على مذهب من هذه المذاهب ثم سمع قبل أن يتمرن بالعلم ويعرف ما قاله الناس خلافًا يخالف ذلك المألوف استنكره وأباه قلبه ونفر عنه طبعه، وقد رأينا وسمعنا من هذا الجنس من لا يأتي عليه الحصر، ولكن إذا وازن العاقل بعقله بين من أتّبع أحد أئمة المذاهب في مسألة من مسائله التي رواها عنه المقلد ولا مستند لذلك العالم فيها بل قالها بمحض الرأي لعدم وقوفه على الدليل، وبين من تمسك في تلك المسألة بخصوصها بالدليل الثابت في القرآن أو السنة أفاده العقل أن بينهما مسافات تنقطع فيها أعناق الإبل بل لا جامع بينهما لأن من تمسك بالدليل أخذ بما أوجب الله عليه الأخذ به واتبع ما شرعه الشارع لجميع الأمة أولها وآخرها وحيِّها وميتها، وأحدهم هذا العالم الذي تمسك المقلد له بمحض رأيه وهذا العالم هو محكوم عليه بالشريعة لا أنه حاكم فيها وهو تابعٌ لها لا متبوعٌ فيها فهو كمن تبعه في أن كل واحدٍ منهما فرضه الأخذ بما جاء عن الشارع لا فرق بينهما إلا في كون المتبوع عالمًا والتابع جاهلاً. فالعالم يمكنه الوقوف على الدليل من دون [46] أن يرجع إلى غيره لأنه قد استعد لذلك بما اشتغل به من الطلب والوقوف بين يدي أهل العلم والتخرج بهم في معارف الاجتهاد، والجاهل يمكنه الوقوف على الدليل بسؤال علماء الشريعة على طريقة طلب الدليل واسترواء النص وكيف حكم الله في محكم كتابه أو على لسان رسوله في تلك المسألة فيفيدونه النص إن كان ممن يعقل الحجة إذا دل عليها أو يفيدونه مضمون النص بالتعبير عنه بعبارة يفهمها فهم رواة وهو مسترو وهذا عاملٌ بالرواية لا بالرأي،

والمقلد عامل بالراي لا بالرواية لأنه يقبل قول الغير من دون أن يطالبه بحجة. وذلك هو في سؤاله مطالب بالحجة لا بالرأي فهو قبل رواية الغير لا رأيه وهما من هذه الحيثية متقابلان. فانظر كم الفرق بين المنزلتين. فإن العالم الذي قلده غيره إذا كان قد أجهد نفسه في طلب الدليل ولم يجده ثم اجتهد رأيه فهو معذور. وهكذا إذا أخطأ في اجتهاده فإنه معذورٌ بل مأجورٌ للحديث المتفق عليه (¬1): «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر». فإذا وقف بين يدي الله وتبين خطأه كان بيده هذه الحجة الصحيحة بخلاف المقلد له فإنه لا يجد حجدة يدلي بها عند السؤال في موقف الحساب لأنه قلد في دين الله من هو مخطي، وعدم مؤاخذه المجتهد على خطئه لا يستلزم عدم مؤاخذة من قلده في ذلك الخطأ لا عقلاً ولا شرعًا ولا عادةً، فإن استروح المقلد إلى مسألة تصويب المجتهد فالقائل بها إنما قال إن المجتهد مصيب بمعنى أنه لا يأثم بالخطأ بل يؤجر على الخطأ بعد توفية الاجتهاد حقه ولم يقل [47] أنه مصيبٌ للحق الذي هو حكم الله في المسألة، فإن هذا خلاف ما نطق به رسول الله [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ] (¬2) فيه هذا الحديث حيث قال: «إن أجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجرٌ» فانظر هذه العبارة النبوية في هذا الحديث الصحيح المتفق عليه عند أهل الصحيح والمتلقي بالقبول بين جميع الفرق فإنه قال «وإن اجتهد فأخطأ .. » فقسم ما يصدر عن المجتهد في مسائل الدين إلى قسمين: أحدهما هو فيه (¬3) مصيب والآخر هو فيه مخطئ فكيف يقول قائلٌ إنه مصيبٌ للحق سواءً أصاب أو أخطأ وقد سماه رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مخطئًا فمن زعم أن مراد ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (7352) ومسلم رقم (1716) وقد تقدم. (¬2) زيادة من (ب). (¬3) تقدم توضيح ذلك

القائل بتصويب المجتهدين الإصابة للحق مطبقًا فقد غلط عليهم غلطًا بينًا، ونسب إليهم ما هم عنه براء. ولهذا أوضح جماعة من المحققين مراد القائلين بتصويب المجتهدين بأن مقصودهم أنهم مُصيبون من الصواب الذي لا ينافي الخطأ لا من الإصابة التي هي مقابلة للخطأ فإن تسمية المخطئ مصيبًا هي باعتبار قيام النص على أنه مأجور في (¬1) خطئه لا باعتبار أنه لم يخطئ فهذا لا يقول به عالم، ومن لم يفهم هذا المعنى فعليه أن يتهم نفسه ويحيل الذنب على قصوره ويقب ما أوضحه له من هو أعرف منه بفهم كلام العلماء. وإن استروح المقلد إلى الاستدلال بقوله تعالى: {فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (¬2). فهو يقتصر على سؤال أهل العلم عن الحكم الثابت في كتاب الله وسنة رسوله حتى يبينوه له كما أخذ الله عليهم من بيان أحكامه لعباده فإن معنى هذا السؤال الذي شرعه الله هو السؤال عن الحجة الشرعية وطلبها من العالم [48] فيكون روايًا وهذا السائل مسترويًا، والمقلد يقر على نفسه بأنه يقبل قول العالم ولا يطالبه بالحجة، فالآية هي دليل الأتباع لا دليل التقليد وقد أوضحنا الفرق (¬3) بينهما فيما سلف هذا على فرض أن المراد ¬

(¬1) تقدم ذلك في بداية الرسالة. (¬2) [الأنبياء: 7] (¬3) الفرق بين الأتباع والتقليد: أن الاتباع هو اتباع الدليل والعمل بالوحي، فقد سمي الله العمل بالوحي اتباعًا في مواضع كثيرة منها: قوله تعالى: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم} [الأعراف:3] وقوله تعالى: {اتبع ما أوحي إليك من ربك} [الأنعام: 106]. فحمل الاتباع إذن هو كل حكم ظهر دليله من الكتاب والسنة والإجماع، أما محل التقليد فهو محل الاجتهاد فلا اجتهاد ولا تقليد في نصوص الوحي الصحيحة الواضحة الدلالة، السالمة من المعارض. ولا يشترط في الاتباع والعمل بالوحي سوى العلم بما يعمل، ولا يتوقف ذلك على تحصيل شروط الاجتهاد. انظر: «إعلام الموقعين» (2/ 190 - 201)، و «إرشاد الفحول» (ص881).

بها السؤال العام، وقد قدّمنا أن السياق يفيد أن المراد بها السؤال الخاص لأن الله يقول: {وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (¬1) وقد قدّمنا طرفًا من تفسير أهل العلم لهذه الآية (¬2) وبهذا يظهر لك أن هذه الحجة التي احتج بها المقلد هي حجة داحضةٌ على فرض أن المراد المعنى الخاص وهي عليه لا له على فرض أن المراد المعنى العام. ¬

(¬1) [الأنبياء: 7]. (¬2) تقدم في بداية الرسالة.

[أسئلة للمقلدين] ثم نقول للمقلد أيضًا أنت في تقليدك للعالم في مسائل العبادات والمعاملات إما أن تكون في أصل مسألة جواز التقليد مقلدًا أو مجتهدًا: إن كنت مقلدًا فقد قلدت في مسألة لا يجيز إمامك التقليد فيها لأنها مسألة أصوليةٌ والتقليدُ إنما هو في مسائل الفروع فمذا صنعت في نفسك يا مسكين؟. وكيف وقعت في هذه الهوة المظلمة وأنت تجد عنها فرجًا ومخرجًا. وإن كنت في أصل هذه المسألة مجتهدًا فلا يجوز لك التقليد لأنك لا تقدر على الاجتهاد في مثل هذه المسألة الأصولية المتشعبة المشكلة إلا وأنت ممن علّمه الله علمًا نافعًا تخرج به من الظلمات إلى النور. فما بلك توقع نفسك فيما لا يجوز لها وتقلّد الرجال في دين الله بعد أن أراحك الاله منه واقدرك على الخروج منه. هذا على ما هو الحق من أن الاجتهاد (¬1) لا يتبعّض، وأنه لا يقدر على الاجتهد في بعض المسائل إلا من قدر على الاجتهاد في جميعها لأن الاجتهاد [49] هو ملكة تحصل لنفس عند الإحاطة بمعارفه المعتبرة ولا ملكة لمن لم يعرف إلا البعض من ذلك. فإن استروحت إلى أن الاجتهاد يتبعّض أعدنا عليك السؤال فنقول. هل عرفت أن الاجتهاد يتبعض بالاجتهاد أم بالتقليد؟. فإن كنت عرفت ذلك بالتقليد فالمسألة أصولية لا يجوز التقليد فيها باعترافك واعتراف إمامك. وإن كنت عرفت ذلك بالاجتهاد فهذه ¬

(¬1) أنظر تفصيل ذلك مفصلًا في «الكوكب المنير» (4/ 473 - 475)، «تيسير التحرير» (4/ 183). * القول بتجزأ الاجتهاد هو لأكثر المتكلمين والمعتزلة وأكثر الفقهاء، وقال به الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وأيده الآمدي وابن الحاجب وابن دقيق العبد وابن السبكي. انظر إعلام الموقعين (4/ 275) الإحكام الآمدي (2/ 386). * وقيل لا يتجزأ وقيل يتجزأ في باب لا في مسألةٍ وقيل في الفرائض لا في غيرها. انظر: إعلام الموقعين (4/ 275).

أيضًا مسألة أخرى من مسائل الأصول أقدرك الله على الاجتهاد فيها فهلا صنعت هذا الصنع في مسائل الفروع فإنك على الاجتهاد فيها أقدر منك على الاجتهاد في مسائل الأصول. فاصنع من مسائل الفروع هكذا واستكثر من علوم الاجتهاد حتى تصير من أهله ويفرج الله عنك هذه الغمة ويكشف عنك بما علّمك هذه الظلمة فإنك إذا رفعت نفسك إلى الاجتهاد الأكبر فالمسافة قريبة، ومن قدر على بعض قدر على الكل. ومن عرف الحق في المعارك الأصولية عرفه في المسائل الفروعية وستعرف بعد أن تعرف علوم الاجتهاد كما ينبغي بطلان ما تظنه الآن من جواز التقليد ومن تبعض الاجتهاد، بل لو طرحت عنك العصبية وجردت نفسك لفهم ما حررته لك في هذه الورقات من أوله إلى آخره لقادك عقلك وفهمك إلى أنه الصواب قبل أن تجمع معارف الاجتهاد، فالفهم قد تفضل الله به على غالب عباده والحق لا يحتجب عن أهل التوفيق والإنصاف شاهد صدق على وجدان الحق، ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:» أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس» [50] وهو حديث أخرجه الحاكم في مستدركه (¬1) وصححه وأخرجه أيضًا (¬2) غيره. فإن طال بك اللجاج وسلكت من جهالتك في فجاج، وتوقحت غير محتشم، وأقدمت غير محجم، فقلت إن مسألة جواز التقليد هي وإن كانت مسألة أصولية وقد أطبق الناس على أنه لا يجوز التقليد في مسائل الأصول وصار هذا معروفًا عند أبناء جنسي من المقلّدين لكني أقول بأن التقليد فيها وفي سائر مسائل الأصول جائز. فنقول ومن أين عرفت جواز التقليد في مسائل الأصول هل كان هذا منك تقليدًا أم ¬

(¬1) (2/ 480) من حديث ابن مسعود وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي فقال: ليس بصحيح فإن الصعق وإن كان وثق فإن شيخه منكر الحديث. قاله البخاري. (¬2) كالعقيلي في الضعفاء (3/ 408) في ترجمة عقيل الجعدي من طريق الصعق به.

اجتهادًا؟ فإن قلت تقليدًا فنقول ومن ذاك الذي قلدته فإن قد حكينا لك فيما سبق أن أئمة المذاهب يمنعون التقليد كما يمنعه غيرهم في مسائل الفروع فرضًا عن مسائل الأصول، فإن قلت قلدتهم أو قلدت واحدًا منهم وهو الذي التزمت مذهبه في جميع ما قاله من دون أن تطالبه بحجة فقد كذبت عليه وعللت نفسك بالأباطيل، فإن غيرك ممن هو أعلم منك بمذهبه وأعرف بنصوصه قد نقل عنه أنه يمنع التقليد وإن قلت قلدت غيره فمن هو؟ ثم كيف سمحت نفسك في هذه المسألة بخصوصها بالخروج عن مذهبه وتقليد غيره. وبالجملة فمن تلاعب بنفسه وبدينه إلى هذا الحد فهو بالبهيمة أشبه، وليت أن هؤلاء المقلدة قلّدوا أئمتهم في جميع ما يقولونه، فإنهم لو فعلوا كذلك لزمهم أن يقلدوهم في مسألة التقليد، وهم يقولون بعدم جوازه كما عرفت سابقًا، وحينئذ يقتدون بهم في هذه المسألة ولا يتم لهم ذلك إلا بترك التقليد في جميع المسائل فيريحون أنفسهم [51] ويخلصون من هذه الشبكة بالوقوع في حبل من حبالها. ثم نقول لهذا المقلد أيضًا من أين عرفت إن إمامك الذي قلدته مجتهد فإن قال عرفت أنه جامع لعلوم الاجتهاد، فنقول له ومن أين لك هذه المعرفة يا مسكين فأنت تقر على نفسك بالجهل وتكذبها في هذه الدعوى ولولا جهلك لم تقلد غيرك، وإن قال عرفتها بإخبار أهل العلم أن إمامي قد جمع علوم الاجتهاد فنقول هذا الذي أخبرك هل هو مقلد أم مجتهد؟ إن قلت هو مقلد فمن أين للمقلد هذه المعرفة وهو مقر على نفسه بما أقررت به على نفسك من الجهل وإن قلت أخبرك بذلك رجل مجتهد فنقول من أين عرفت أنه مجتهدٌ وأنت مقر على نفسك بالجهل ثم نعود عليك بالسؤال الأول إلى ما لا نهاية له. ثم نقول للمقلد من أين عرفت أن احلق بيد هذا الإمام (¬1) الذي قلدته وأنت تعلم أن غيره من العلماء قد خالفه في كل مسألة من مسائل الخلاف إن قلت عرفت ذلك تقليدًا ¬

(¬1) انظر: إعلام الموقعين (2/ 208 - 211)

فمن أين للمقلد معرفة الحق والمحقين وهو مقر على نفسه بأنه لا يطالب بالحجة ولا يعقلها إذا جاءته فمالك يا مسكين وللكذب على نفسك بما يشهد عليك ببطلانه لسانك، بل يشهد عليك كل مجتهدٍ ومقلد بخلاف دعواك، وإن قلت عرفت ذلك بالاجتهاد فلست حينئذ مقلدًا ولا من أهل التقليد بل التقليد عليك حرام فمالك تغمط نعمة الله عليك وتنكرها والله يقول: {وأما بنعمة ربك فحدث} (¬1) ورسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يقول: «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» (¬2) وأثر نعمة العلم أن يعمل العالم بعلمه ويأخذ ما تعبده الله به من الجهة التي أمره الله بالأخذ منها في محكم كتابه وعلى لسان رسوله تلك الجهة هي الكتاب والسنة وكما تقدم سرد أدلة ذلك، وهو أمرٌ متفقٌ عليه لا خلاف فيه [52]. وعلى كل حال فإنت بتقليدك مع كونك قاصرًا ممن عمل في دين الله بغير بصيرة وترك ما لا شك فيه إلى ما فيه شك واستبدل بالحق شيئًا لا يدري ما هو، وإن كنت مجتهدًا فأنت مما أضله الله على علم وختم على سمعه وبصره فلم ينفعه علمه وصار ما علمه حجة عليه ورجع من النور إلى الظلمات ومن اليقين إلى الشك ومن الثريا إلى الثرى فلالعًا لك بل لليدين وللفم. ¬

(¬1) [الضحى: 11]. (¬2) أخرجه الترمذي رقم (2819) بهذا اللفظ من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وقال: حديث حسن. وهو كما قال. وأخرجه النسائي (8/ 196 رقم 5294) وأبو داود رقم (4063) والحاكم (4/ 181) وأحمد (3/ 473) وابن سعد (6/ 28) والبيهقي (10/ 10) من طرق عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص، عن أبيه قال: أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ثوب دون، فقال: «ألك مال»؟ قال: نعم، قال: «من أي المال»؟ قال: قد أتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق. قال: «فإذا آتاك الله مالاً فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته». وهو حديث صحيح.

هذا إن كان ذلك المقلد يدعي إن إمامه على حق في جميع ما قاله وإن كان يقر بأن في قوله الحق والبالط وأنه بشرٌ يخطئ ويصيب لا سيما في محض الرأي الذي هو على شفا جرف هار فنقول له إن كنت قائلًا بهذا فقد أصبت وهو الذي يقوله إمامك لو سأله سائل عن مذهبه وجميع ما دونه من مسائله، ولكن أخبرنا ما حملك أن تجعل ما هو مشتمل على الحق والباطل قلادة في عنقك وتلتزمه وتدين به غير تارك لشيء منه فإن الخطأ من إمامك قد عذره الله فيه بل جعل له أجرًا في مقابلته كما تقدم تقريره لأنه مجتهد وللمجتهد إن أخطأ أجرٌ كما صرح بذلك رسول (¬1) الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فأنت من أخبرك بأنك معذور في اتباع الخطأ؟ وأي حجة قامت لك على ذلك، فإن قلت إنك لو تركت التقليد وسألت أهل العلم عن النصوص لكنت غير قاطع بالصواب بل يجتمل أن الذي أخذت به وسألت عنه هو حق ويحتمل أنه باطل فنقول ليس الأمر كذلك فإن التمسك بالدليل الصحيح كله حق وليس شيء منه بباطل، والمفروض أنك ستسأل عن دينك في عباداتك ومعاملاتك علماء الكتاب والسنة وهم أتقى الله من [53] إن يفتوك بغير ما سألت عنه فإنك إنما سألتهم عن كتاب الله أو سنة رسوله في ذلك الحكم الذي أردت العمل به، وهم بل جميع المسلمين يعلمون أن كتاب الله وسنة رسوله حق لا باطل وهدى لا ضلالة، ولو فرضنا أن المسؤول قصّر في البحث فأفتاك مثلا بحديث ضعيفٍ وترك الصحيح أو بالآية المنسوخة وترك المحكمة لم يكن ع ليك في ذلك بأس فإنك قد فعلت ما هو فرضك واسترويت أهل العلم عن الشريعة المطهرة لا عن آراء الرجال، وليس للمقلد أن يقول كمقالك هذا فيزعم أن إمامة أتقى الله من أن يقول بقول باطل لأنا نقول هو معترف أن بعض رأيه خطأ ولم يأمرك بأن تتبعه في خطئه بل نهاك عن تقليده ومنعك من ذلك كما تقدم تحريره عن أئمة المذاهب وعن سائر المسلمين، بخلاف من سألته عن الكتاب والسنة فأفتاك بذلك فإنه يعلم أن جميع ما في الكتاب والسنة حق ¬

(¬1) تقدم تخريجه.

وصد وهدى ونور وأنت لم تسأله إلا عن ذلك. ثم نقول لك أيها المقلد ما بالك تعترف في كل مسألة من مسائل الفروع (¬1) التي أنت مقلد فيها بأنك لا تدري ما هو احلق فيها ثم لما أرشدناك إلى ما أنت عليه من التقليد غير جائم في دين الله أقمت نفسك مقامًا لا تستحقه ونصبت نفسك في منصب لم تتأهل له فأخذت في المخاصمة والاستدلال لجواز التقليد وجئت بالشبهة الساقطة التي قد قدمنا دفعها في هذا المؤلف فهلا نزلت نفسك في هذه المسألة الأصولية العظيمة المتشعبة [54] تلك المنزلة التي كنت تنزلها في مسائل الفروع فمالك وللنزول في منازل الفحول والسلوك في مسالك أهل الأيدي المتبالغة في الطول، فما هلك امرؤ عرف قدر نفسه فقل هاهنا لا أدري إنما سمعت الناس يقولون شيئا فقلته فنقول هكذا سيكون جوابك لنكير ومنكر بعد أن تقبر ويقال لك لا دريت ولا تليت كما ثبت بذلك النص الصحيح (¬2) وإذا كنت معترفًا بأنك لا تدري فشفاء (¬3) العي السؤال فاسأل من تثق بدينه وعلمه وإنصافه في ¬

(¬1) انظر: «المسودة» (458 - 460)، «تنقيح الفصول» (ص442)، «الكواكب المنير» (4/ 539). (¬2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (4751) عن أنس بن مالك، قال: إن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل نخلا لبني النجار، فسمع صوتا ففزع، فقال: «من أصحاب هذه القبور؟» قالوا: يا رسول الله ناس ماتوا في الجاهلية، فقال: «تعوذوا باله من عذاب النار، ومن فتنة الدجال» قالوا ومم ذلك يا رسول الله؟ قال: «إن المؤمن إذا وضع في قبره أتاه ملك فيقول له: ما كنت تعبد؟ فإن الله هداه قال: كنت أعبد الله، فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: هو عبد الله ورسوله، فما يسأل عن شيء غيرها، فينطلق به إلى بيت كان له في النار فيقال له، هذا بيتك كان لك في النار ولكن الله عصمك ورحمك فأبدلك به بيتا في الجنة، فيقول: دعوني حتى أذهب فأبشرأهلي، فيقال له: اسكن، وإن الكافر إذا وضع في قبره أتاه ملك فينتهره فيقول له: ما كنت تعبد؟ فيقول: لا أدري فيقال له: لا دريت ولا تليت، فيقال له: فما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: كنت أقول ما يقول الناس، فيضربه بمطراق من حديد بين أذنيه، فيصبح صيحة يسمعها الخلق غير الثقلين». وهو حديث صحيح. (¬3) تقدم تخريجه.

مسألة التقليد حتى تكون على بصيرة ولو كان إمامك الذي تقلّده حيًا لأرشدناك إليه وأمرناك بالتعويل عليه فإنه أول ناه لك عن التقليد كما عرَّفناك فيما سبق ولكنه قد صار رهين البلى وتحت أطباق الثرى فاسأل غيره من العلماء الموجودين وهم بحمد الله في كل صقع من بلاد الإسلام فالله سبحانه حافظ دينه بهم وحجته قائمة على عباده بوجودهم، وإن كتموا الحق في بعض الأحوال إما لتقيةٍ مسوغة كما قال تعالى: {إلا أن تتقوا منهم تقاه} (¬1) أو لمداهنة أو طمع في جاه أو مال، ولكنهم على كل حال إذا عرفوا من هو طالب للحق راغب فيه سائل عن دينه سالكٌ مسالك الصحابة والتابعين وتابعيهم لم يكتموا عليه الحق ولا زاغوا عنه فإن كنت لا تثق بأحد من العلماء وثوقك بإمامك الذي نشأت على مذهبه فأرجع إلى نصوصه التي قدّمنا لك الإشارة إلى بعضها وفيها ما ينقع الغلة ويشفي العلة. ¬

(¬1) [آل عمران: 28].

[نصحية نافعة لمن يتصدر للفتيا والقضاء من المقلّدين] واعلم أرشدك الله أيها المقلد أنك إن أنصفت من نفسك وخليت بين عقلك وفهمك وبين ما حرَّرناه في هذا المؤلف لم يبق معك شك في أنك على خطر عظيم هذا إن كنت مقتصرًا في التقليد على ما تدعو إليه حاجتك مما يتعلّق به أمر عبادتك ومعاملتك، أما إذا كنت مع كونك في هذه الرتبة [55] الساقطة مرشحًا نفسك لفتيا السائلين وللقضاء على المتخاصمين فاعلم أنك ممتحن وممتحن بك، ومبتلى ومبتلى بك، لأنك تريق الدماء بأحكامك وتنقل الأملاك والحقوق من أهلها وتحلل الحرام لهم وتحرم الحلال وتقول على الله ما لم يقل غير مستد إلى كتاب الله وسنة رسوله بل بشيء لا تدري أحق هو أم باطل باعترافك على نفسك بأنك كذلك، فماذا يكون جوابك بين يدي الله فإن الله إنما أمر حكام العباد أن يحموا بينهم بما أنز الله وأ، ت لا تعرف ما أنزل الله على الوجه الذي يراد به وأمرهم أن يحكموا بالحق وأنت لا تدري بالحق وإنما سمعت الناس يقولون شيئا فقلته وأمرهم أن يحكموا بينهم بالعدل وأ، ت لا تدري بالعدل من الجور، لأن العدل هو ما وافق ما شرعه الله والجور ما خالفه، فهذه الأوامر لم تتناول مثلك بل المأمور بها غيرك فيكف قمت بشي لم تؤمر به ولا ندبت إليه وكيف أقدمت على الدخول في الحكم بغير ما أنزل الله حتى تكون مما ممن قال فيه: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} (¬1)، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} (¬2)، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} (¬3). ¬

(¬1) [المائدة: 45] (¬2) [المائدة: 47] (¬3) [المائدة: 44]

فهذه الآيات الكريمة متناولة لكل من لم يحكم بما أنزل الله، وأنت لا تدّعي أنك حكمت بما أنزل الله. بل تقر أنك حكمت بقول العالم الفلاني ولا تدري هل ذلك الحكم الذي حكم به هو من محض رأيه أم من المسائل التي استدل عليها بالدليل ثم لا يدري أهو أصاب في الاستدلال أم أخطأ وهل أخذ بالدليل القوي أم الضعيف فانظر يا مسكين ما صنعت بنفسك فإنك لم يكن جهلك مقصورًا عليك بل جهلت على عباد الله فأرقت الدماء وأقمت الحدود وهتكت الحرم بما لا تدري فقبح الله الجهل ولا سيما إذا جعله صاحبه شرعًا ودينًا له وللمسلمين فإنه طاغوت عند التحقيق [56] وإن ستر من التلبيس بستر رقيق فيا أيها القاضي المقلد أخبرنا أي القضاة الثلاثة أنت الذين قال فيهم رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- القضاء ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة» (¬1) والذي في الجنة قاض قضى بالحق وهو يعمل أنه الحق فبالله عليك هل قضيت بالحق وأنت تعلم أنه الحق؟ إن قلت نعم فأنت وسائر أهل العلم تشهدون بأنك كاذب لأنك معترفٌ بأنك لا تعلم بالحق وكذلك سائر الناس يحكمون عليك بهذا من غير فرقٍ بين مجتهدٍ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود رقم (3573) والترمذي رقم (1322) وابن ماجه رقم (2315). والنسائي في «السنن الكبرى» (3/ 461 رقم 5922/ 1) والحاكم في «المستدرك» (4/ 90) وقال: «صحيح الإسناد» ورده الذهبي بقوله: «ابن كثير الغنوي منكر الحديث». قال الألباني في الإرواء (8/ 236): «وشيخه حكيم بن جبير مثله أو شر منه فقال فيه الدارقطني: متروك، ولم يوثقه أحد بخلاف البغوي فقد قال الساجي: «من أهل الصدق، وليس بالقوي وذكر له ابن عدي مناكير وهذا كل ما جرح به، وذكره ابن حبان في الثقات». فقول الذهبي: منكر الحديث لا يخلو من مبالغة، وقد قال في «الضعفاء»: «ضعفوه ولم يترك». وهو حديث صحيح. عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «القضاة ثلاثة: أثنان في النار، وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في النار، ورجلٌ لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار».

ومقلد وإن قتل بل قضيت بما قاله إمامك ولا تدري أحق هو أم باطل كما هو شأن كل مقدل على وجه الأرض فأنت بإقرارك هذا أحد رجلين: إما قضيت بالحق ولا تعلم بأنه الحق أو قضيت بغير الحق لأن ذلك الحكم الذي حكمت به هو لا يخلو عن أحد الأمرين: إما أن يكون حقصا وإما أن يكون غير حق وعلى كلا التقديرين فأنت من قضاة النار بنص المختار، وهذا ما أظن يتردد فيه أحدٌ من أهل الفهم لأمرين: أحدهما: أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قد جعل القضاة ثلاثة وبين صفة كل واحد منهم ببيان يفهمه المقصر والكامل والعالم والجاهل الثاني: أن المقلد لا يدّعي أنه يعلم بما هو حق من لام إمامه ولا بما هو باطل بل يقر على نفسه أنه يقبل قول الغير ولا يطالبه بحجة ويقر على نفسه أنه لا يعقل الحجة إذا جاءته فأفاد هذا أنه حكم بشيء لا يدري ما هو فإن وافق الحق فهو قضى بالحق ولا يدري أنه الحق وإن لم يوافق الحق فهو قضى بغير الحق وهذان هما القاضيان اللذان في النار فالقاضي المقلد على كلا حالتيه يتقلب في نار جهنم فهو كما قال الشاعر: خذا بطن هرشي (¬1) أو قفاها فإنه ... كلا جانبي هرشي لهن طريق (¬2) وكما تقول العرب في الشر خيارٌ ولقد خاب وخسر من لا ينجو [57] على كل حال من النار، فيا أيها القاضي المقلد ما الذي أوقعك في هذه الورطة وألجأك إلى هذه العهدة التي صرت فيها على كل حال من أهل النار؟ إذا دمت على قضائك، ولم تتب فإن أهل المعاصي والبطالة على اختلاف أنواعهم هم أرجى لله منك وأخوف له لأنهم يقدمون على المعاصي وهم على عزم التوبة والإقلاع والرجوع وكل واحدٍ منهم يسأله الله المغفرة والتوبة ويلوم نفسه على ما فرط منه ويحب أن لا يأتيه الموت إلا بعد أن يطهر نفسه من ¬

(¬1) قال الجوهري: في الصحاح (3/ 1027): هرشي ثنية في طريق مكة قريبة من الجحفة يُرى منها البحر، ولها طريقان فكل من سلكهما كان مصيبًا. (¬2) ذكره صاحب اللسان (15/ 76).

أدران كل معصية، ولو دعا بأن الله يبقيه على ما هو متلبس به من البطالة والمعصية إلى الموت ليعلم هو وكل سامع إنه يدعو عليه لا له. ولو علم أنه يبقى على ما هو عليه إلى الموت ويلقى الله وهو متلبس به لضاقت عليه الأرض بما رحبت لأنه يعلم أن هذا البقاء هو من موجبات النار بخلاف هذا القاضي المسكين فإنه ربما دعا الله في خلواته وبعد صلواته أن يديم عليه تلك النعمة ويحرسها عن الزوال ويصرف عنه كيد الكائدين وحسد الحاسدين حتى لا يقدروا على عزله ولا يتمكنوا من فصله وقد يبذل المخذول في استمراره على ذلك نفائس الأموال ويدفع الرشا والبراطيل والرغائب لمن كان له في أمره مدخلا فيجمع بين خسراني الدنيا والآخرة وتسمح نفسه بها جميعًا في حصول ذلك فيشتري بهما النار، والعلة الغائبة والمقصد الأسنى والمطلب الأبعد لهذا المغبون ليس إلا اجتماع العامة عليه وصراخهم بين يديه ولو عقل لعلم أنه لم يكن في رياسة عالية ولا في مكان رفيع ولا في مرتبة جليلة فإنه يشاركه في اجتماع هؤلاء العوام وتطاولهم إليه وتزاحمهم عليه كل من يراد إهانته إما بإقامة حد عليه أو قصاص أو تعزير فإنه يجتمع على واحد من هؤلاء مالا يجتمع على القاضي عشر معشاره بل يجتمع على أهل اللعب والمجون والسخرية وأهل الزمر والرقص والضرب بالطبل أضعاف أضعاف [58] من يجتمع على ذلك القاضي، وهو إذا زهى بركوب دابة أو مشى خادم أو خادمين في ركابه فليعلم أن العبد المملوك والجندي الجاهل والمولد من أبناء اليهود والنصارى يركب دواب أفره من دابته ويمشي معه من الخدم أكثر ممن يمشي معه، وإذا كان وقوعه في هذا العمل الذي هو من أسباب النار على كل حال طلب المعاش واستدرار ما يدفع إليه من الجراية من السحت فليعلم أن أهل المهن الدنيوية كالحائك والحجّام والجّزار والإسكافي أنعم منه فهم يتلذذون بدنياهم ويتمتعون بنفوسهم ويتقلّبون في تنعّمهم هذا باعتبار الحياة الدنيا وأما باعتبار الآخرة فخواطرهم مطمئنة لأنهم لا يخشون العقوبة بسبب من الأسباب التي هي قوام المعاش ونظام الحياة لأن مكسبهم

حلال وأيديهم مكفوفة عن الظلم فلا يخافون السؤال عن دم أو مال بل قلوبهم متعلقة بالرجاء كل واحد منهم يرجو الانتقال من دار شقوة وكدر إلى دار نعمةٍ وتفضل، وأما ذلك القاضي المقلد فهو منغَّص العيش منكد النعمة مكدَّرة اللذة لانه - لما يرد عليه من خصومة الخصوم ومعارضة المعارضين ومصادرة المتمنّعين من قبول أحكامه وامتثال حله وإبرامه - في هموم وغموم ومكابدة ومناهدة، ومجاهدة ومع هذا فهو متوقعٌ لتحول الحال والاستبدال به وغروب شمسه وركود ربحه وذهاب سعده عن نفسه وشماته أعدائه ومساءة أوليائه فلا تصفو له راحة ولا تخلص له نعمة، بل هو ما دام في الحية في أشد الغم وأعظم النكد كما قال المتنبي (¬1): أشد الغم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا ولا سيما إذا كان محسودًا معارضًا من أمثاله فإنه لا يطرق سمعه إلا ما يكمده، فحينًا يقال له: الناس يتحدثون أنك غلطت وجهلت وحينًا يقال له قد خالفك القاضي الفلاني أو المفتي الفلاني فنقض حكمك وهدم علمك [59] وغض من قدرك وحط من رتبتك وقد يأتيه المحكوم له منه فيقول له جهاراً وكفاحًا فلان قال لا عمل على حكمك ونحو ذلك من العبارات الخشنة فإن قام وناضل عن حكمه ودافع فهي قومة جاهلية ومدافعة شيطانية طاغوتية قد تكون لحراسة المنصب وحفظ المرتبة والفرار من انحطاط القدر وسقوط الجاه ومع ذلك فهو لا يدري هل الحق بيده أم بيد من نقض عليه حكمه لأن المسكين لا يدري بالحق بإقراره وجميع المتخاصمين إليه بين متسرع إلى ذمه والتشكي منه وهو المحكوم عليه يدّعي أنه حكم عليه بالباطل أو ارتشى من خصمه أو داهنه ويتقرر هذا عنده بما يُلقيه إليه من ينافس هذا المقلد من أبناء جنسه من المقلدة الطامعين في منصبه أو ¬

(¬1) انظر ديوانه (3/ 224) بشرح أبي البقاء العكبري. ط: دار المعرفة. أشد الغم: هو السرور الذي تيقن صاحبه الانتقال عنه، لأنه يراعي وقت زواله، ولا يطيب له السرور، وهذا من أبلغ الكلام وأوعظه فهو يحث على الزهد في الدنيا لمن رزق فيها سرورًا ومكانة لعلمه أنه زائل عنها.

الراجين لرفده أو النيابة عنه في بعض ما يتصرف فيه فإنه يذهب يستفتيهم ويشكو عليهم فيطلبون غرائب الوجوه ونوادر الخلاف ويكتبون له خطوطهم بمخالفة ما حكم به القاضي وقد يعبِّرون في مكاتبهم بعبارات تؤلم القاضي وتوحشه فيزداد لذلك ألمه ويكثر عنده همه وغمه. هذا يفعله أبناء جنسه من المقلدين، وأما العلماء المجتهدون فهم يعتقدون أنه مبطل في جميع ما يأتي به لأنه من قضاة النار فلا يرفعون لما يصدر عنه من الأحكام رأسًا ولا يعتقدون أنه قاضٍ لأنه قد قام الدليل عندهم على أن القاضي (¬1) لا يكون إلا مجتهدًا وأن المقلد وإن بلغ في الورع والعفاف والتقوى إلى مبالغ الأولياء فهو عندهم بنفس استمراره على القضاء مصر على المعصية وينزلون جميع ما يصدر عنه منزلة ما يصدر عنه العامة الذين ليسوا بقضاة ولا مفتين فجميع سجلاته التي يكتب عليها اسمه ويحلل فيها الحرام ويحرم الحلال باطلة لا تعد شيئًا بل لو كانت موافقة للصواب لم تعد عندهم شيئًا لأنها صادرة من قاض حكم بالحق وهو لا يعلم به فهو من أهل النار في الآخرة وممن لا يستحق اسم القضاء في الدنيا ولا يحل تنزيله منزلة القضاة المجتهدين في شيء [60]. وبعد هذا كله فهذا القاضي المشؤوم يحتاج إلى مداهنة السلطان وأعوانه المقبولين لديه ويهين نفسه لهم ويخضع لهم ويتردد إلى أبوابهم ويتمرغ على عتباتهم، وإذا لم يفعل ذلك على الدوام والاستمرار ناكدوه مناكدة تجرح صدره وتوهن قدره، ومع هذا فأعوانه الذين هم مستدرون لفوائده والمقتنصون للأموال على يده وإن عظّموه وفخّموه وقاموا بقيامه وقعدوا بقعوده فهم أضّر عليه من أعدائه، لأنهم يتكالبون على أموال الناس ويتم ¬

(¬1) قال الشيرازي في «المهذب» (20/ 128 - التكملة الثانية للمجموع): «فصل: ولا يجوز أن يعقد تقلد القضاء على أن يحكم بمذهب بعينه لقومه عز وجل: {فاحكم بين الناس بالحق} [ص: 26] والحق ما دل عليه دليل، وذلك لا يتعين في مذهب بعينه، فإن قلد عن هذا الشرط بطلت التولية، لأنه علقها على شرط، وقد بطل الشرط فبطلت التولية».

لهم ذلك بقوة يده ولا سيما إذا كان مغفلاً غير حازم ولا متطلع للأمور فتعظم القالة على الاقضي وينسب ذنبهم إليه ويحمل جورهم عليه فتارة ينسب إلى التقصير في البحث وتارة إلى التغفيل وعدم التيقظ وتارة إلى أن ما أخذه الأعوان فله فيه منفعة تعود إليه لولا ذلك لم يطلق لهم الرشا ولا خلى بينهم وبين الناس وأيضًا أعظم من يذمه ويستحل عرضه هؤلاء الأعوان فإن كل واحد منهم يطمع في أن تكون كل الفوائد له فإذا عرضت فائدة فيها نفع لهم من قسمة تركة أو نظر مكان مشتجر فيه فالقاضي المسكين لابد أن يصيره إلى أحدهم فيوغر بذلك صدور جميعهم ويخرجون وصدورهم قد ملئت غيظًا فينطقون بذمه في المحافل ولا سيما بين أعدائه والمنافسين له وينعون عليه ما قضى فيه من الخصومات الواقعة لديه بمحضرهم ويحرفون الكلام وينسبونه إلى الغلط تارة والجهل أخزى، والتكالبُ على المال حينًا والمداهنة حينًا. وبالجملة فإنه لا يقدر على إرضاء الجميع بل لابد لهم من ثلبه على كل حالٍ وهو لا يستغنى عنهم فيناله منهم محنٌ وبلايا. هذا وهم أهل مودته وبطانته والمستفيدون بأمره ونهيه والمنتفعون بقضائه وما أحقهم بما كان يقوله بعض القضاة المتقدمين فإنه كان لا يسمّيهم الأمناء بل يسمّيهم الكمناء، ولا يخرج عن هذه الأوصاف إلا القليل النادر منهم فإن الزمن قد يتنفس في بعض الأحوال بمن لا يتِّصف بهذه الصفة [61]. فهذا حال القاضي المقلد في دنياه وأما حاله في أخراه فقد عرفت أنه أحد القاضيين اللذين في النار ولا مخرج له عن ذلك بحال من الأحوال كما سبق تحقيقه وتقريره فهو في الدنيا مع ما ذكرناه سابقًا من القلاقل والزلازل في نعمه باعتبار ما يخافه من الآخرة من أحكامه في دماء العباد وأموالهم بلا برهان ولا قرآن ولا سنةٍ بل بمجرد جهل وتقليدٍ وعدم بصيرة في جميع ما يأتي ويذر ويصدر ويورد مع ورود القرآن الصحيح الصريح بالنهي عن العمل بما ليس بعلم كقوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به

علم} (¬1) والآيات في هذا المعنى وفي النهي عن اتباع الظن كثيرة جدًا والمقلد لا علم له ولا ظن صحيح ولو لم يكن من الزواجر عن هذا إلا ما قدّمنا من الآيات القرآنية في قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} (¬2)، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} (¬3)، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} (¬4) مع ما في الآيات الأخرى من الأمر بالحكم بما أنزل الله وبالحق وبالعدل ومع ما ثبت من أن من حكم بغير الحق أو بالحق وهو لا يعلم أنه الحق أنه من قضاة النار. فإن قلت إذا كان المقلد لا يصلح للقضاء ولا يلح له أن يتولى ذلك ولا لغيره أن يوليه فما تقول في المفتي (¬5) المقلد؟. أقول: إن كنت تسأل عن القيل والقال ومذاهب الرجال فالكلام في شروط المفتي وما يُعتبر فيه مبسوط في كتب الأصول (¬6) والفقه، وإن كنت تسأل عن الذي أعتقده وأراه صوابًا فعندي أن المفتي المقلد لا يحل له أن يفتي من سأله عن حكم الله أو حكم رسوله أو عن الحق أو عن الثابت في الشريعة أو عما يحل له أو يُحرم له أو يُحرم عليه لأن ¬

(¬1) [الإسراء: 36] (¬2) [المائدة: 44] (¬3) [المائدة: 47] (¬4) [المائدة: 45] (¬5) قال ابن القيم في إعلام الموقعين (4/ 195): لا يجوز للمقلد أن يفتي في دين الله بما هو مقلد فيه وليس على بصيرة فيه سوى أنه قول من قلده دينه، هذا إجماع من السلف كلهم، وصرح بهم الإمام أحمد والشافعي رضي الله عنهما وغيرهما. وانظر: بقية الآراء في الكوكب المنير (4/ 557) (¬6) انظر: «الكوكب المنير» (4/ 550 - 553) «المسودة» (ص545) «إعلام الموقعين» (4/ 254) وما بعدها.

المقّلد لا يدري بواحد من هذه الأمور على التحقيق بل لا يعرفها إلا المجتهد، وهكذا إذا سأله السائل سؤالاً مطلقًا من غير أن يقيِّده [62] بأحد الأمور المتقدّمة فلا يحلّ للمقلد أن يفتيه بشيء من ذلك لأن السؤال المطلق ينصرف إلى الشريعة المطهّرة لا إلى قول قائل أو رأي صاحب رأي. وأما إذا سأله سائل عن قول فلان أو رأي فلان (¬1) أو ما ذكره فلان فلا بأس بأن ينقل له المقلد ذلك ويرويه له إن كان عارفًا بمذهب (¬2) العالم الذيب وقع السؤال عن قوله أو رأيه أو مذهبه، لأنه سئل عن أمر يمكنه نقله وليس ذلك من التقول على الله بما لم يقل ولا من التعريف بالكتاب والسنة، وهذا التفصيل هو الصواب الذي لا ينكره منصف. فإن قلت هل يجوز (¬3) للمجتهد أن يفتي من سأله عن مذهب رجل معيِّن وينقله له. قلت يجوز ذلك بشرط أن يقول بعد نقل ذلك الرأي أو المذهب إذا كانا على غير الصواب مقالاً يُصرح به أو يلوح أن الحق خلاف ذلك فإن الله أخذ على العلماء البيان للناس وهذا منه لا سيما إذا كان يعرف أن السائل سيعتقد ذلك الرأي المخالف للصواب وأيضًا في نقل هذا العالم لذلك المذهب المخالف للصواب وسكوته عن اعتراضه إيهام للمقصرين بأنهه حق وفي هذا مفسدة عظيمة فإن كان يخشى على نفسه من بيان فساد ذلك المذهب فليدع الجواب ويحيل على غيره، فإنه لم يسأل عن شيء يجب عليه بيانه فإن ألجأته الضرورة ولم يتمكن من التصريح بالصواب فعليه أن يصرح تصريحًا لا يبقى فيه شك لمن يقف عليه أن هذا مذهب فلان أو رأي فلان الذي سأل عنه السائل ولم يسأل عن غيره. انتهى ما أردت تحريره بقلم مؤلفه محمد بن علي الشوكاني غفر الله له [63]. ¬

(¬1) انظر: «إعلام الموقعين» (4/ 253 - 273) (¬2) انظر: «إعلام الموقعين» (4/ 261 - 266). (¬3) انظر: «إعلام الموقعين» (4/ 261 - 266)

بغية المستفيد في الرد على من أنكر العمل بالاجتهاد من أهل التقليد

بغية المستفيد في الرد على من أنكر العمل بالاجتهاد من أهل التقليد تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقته وعلَّقت عليه وخرَّجت أحاديثه محفوظة بنت علي شرف الدين أم الحسن

وصف المخطوط: 1 - موضوع الرسالة: أصول فقه. 2 - عنوان الرسالة: «بغية المستفيد في الرد على من أنكر العمل بالاجتهاد من أهل التقليد». 3 - المؤلف: الإمام: محمد بن علي الشوكاني. 4 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والتسليم على الرسول الأمين، وعلى آله الطيبين المطهرين، وصحبه الأكرمين. وبعد. فإن جماعة من المشتغلين بالفروع في عصرنا هذا، صاروا ... 5 - آخر الرسالة: حرر من خط مؤلفه حماه وأبقاه، وفسح له في مدته، وأفاض على العباد من كثير فوائده، ونفع به آمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. 6 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 7 - عدد الأوراق: /6/ أوراق. ? الورقة الأولى: عنوان الرسالة، واسم المؤلف، وأبيات من الشعر. ? الورقة الثانية: (أ): (21) سطرًا. ? الورقة الثالثة: (ب): (24) سطرًا. ? الورقة الثالثة: (أ): (25) سطرًا. ? الورقة الثالثة (ب): (24) سطرًا. ? الورقة الرابعة (أ): 27) سطرًا. ? الورقة الرابعة: (ب): (26) سطرًا. ? الورقة الخامسة: (أ): (26) سطرًا.

الورقة الخامسة: (ب): (23) سطرًا. ? الورقة السادسة (أ): (20) سطرًا. ? الورقة السادسة (ب): (21) سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: (9 - 11) كلمة. 9 - تاريخ نسخ الرسالة: في شهر ربيع الآخر سنة /1344هـ/. ملاحظة: وجد على صفحة العنوان ما يلي: [بسم الله الرحمن الرحيم هذه الرسالة المسمَّاة: «بغية المستفيد في الرد من أنكر العمل بالاجتهاد من أهل التقليد». من أنظار شيخنا وإمامنا البدر العلامة الرباني محمد بن علي الشوكاني أطال الله بقاءه وحماه وتولاه، ومن كل سوء وشر وقاه .. آمين اللهم آمين آمين آمين.- وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليمًا-. وله (¬1) حماه الله: العلم ما أوصل أربابه ... إلى انكشاف الحق رأيا لعين وما عدا هذا فمحصوله ... ظنٌّ وكل العلم للمرء زين فهب لي العلمين ياوا ... هب الجزل ويا كشاف غين وزين (¬2)] (¬3) ¬

(¬1) أي للإمام الشوكاني- رحمه الله-. (¬2) انظر ديوان الشوكاني (ص 336 - 337). (¬3) ما بين المعقوفتين على صفحة عنوان المخطوط.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والتسليم على الرسول الأمين، وعلى آله الطيبين المطهرين، وصحبه الأكرمين. وبعد: فإنّ جماعة من المشتغلين بالفروع في عصرنا هذا صاروا يشتغلون بأمور يزجرهم عنها نفس ما هم مشتغلون به من هذا العلم، فأردت تنبيههم على ذلك من باب المعاونة على البر والتقوى، والإرشاد إلى ما هو الأولى بهم، ليستعملوا من الأئمة، ويصفوا لهم مشرب الطلب، ويعملوا بالعلم الذي عرفوه، وقطعوا فيه أعمارهم. فثمرة العلم العمل، أرشدنا الله وإياهم إلى منهج الحق الذي يرضيه بحوله وجلاله آمين. فالأمر الأول من تلك الأمور أنَّ أول ما يقرع أسماعهم من المختصر النفيس الذي هو مدرسهم ومحفوظهم، وهو مختصر الأزهار (¬1) هو قول مؤلفه (¬2) -رحمه الله-. ¬

(¬1) الأزهار: الأزهار في فقه الأئمة الأطهار، تأليف: الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى الحسني. وهو مختصر من كتاب «التذكرة الفاخرة في فقه العترة الطاهرة» للفقيه الحسن بن محمد المذحجي، ونقل عن ابن مفتاح أن مسائل الأزهار منطوقها ومفهومها تسعة وعشرون ألف مسألة، وقد تهافت عليه علماء الزيدية بالدراسة والشرح والحاشية والتعليق. نقل في مطلع البدور في ترجمة السيدة دهماء (2/ 101) قصة في كيفية تأليفه هذا الكتاب ملخصها: أن المهدي ألفه في السجن لخوفه نسيان ما حفظه من الفقه، وهو العمدة في المذهب «الزيدي الهادوي» لذا قام بشرحه الجلال في كتاب (ضوء النهار) والشوكاني في كتابه «السيل الجرار». ومن المآخذ على هذا المختصر (الأزهار) أن جماعة من المتعصبة نظروا إليه على أنه المرجع الذي لا تجوز مخالفة ما فيه. انظر: «مؤلفات الزيدية» (1/ 112 - 113)، «البدر الطالع» (1/ 122 - 126). (¬2) هو أحمد بن يحيى بن المرتضى بن مفضل بن منصور بن مفضل بن حجاج بن علي بن يحيى بن القاسم ينتهي نسبة إلى علي بن أبي طالب. ولد بمدينة ذمار يوم الاثنين لعله سابع شهر رجب سنة 764هـ توفي سنة 840هـ له مؤلفات منها: «الأزهار» و «البحر الزخار» و «طبقات المعتزلة» و «منهاج الوصول إلى شرح معيار العقول». انظر: «البدر الطالع» (1/ 122 - 126).

فصل: «التقليد جائز لغير المجتهد لا له، ولو وقف على نصِّ أعلم منه» (¬1) اهـ وهذا قد دل دلالة أوضح من شمس النهار على أن التقليد لا يجوز لرجل قد بلغ رتبة (¬2) ¬

(¬1) انظر: شرح الأزهار لابن مفتاح (1/ 6). (¬2) محل النزاع أمور ثلاثة: أولًا: أنه المجتهد إذا فرغ من الاجتهاد في مسألة معينة، وغلب على ظنه حكم فإنه لا يجوز له أن يقلد غيره من المخالفين له في الرأي، ويترك نظر نفسه، ويعمل بنظر غيره، هذا بالاتفاق. ثانيًا: إذا لم يجتهد بعد، ولم ينظر في المسألة، فإن كان عاجزًا عن الاجتهاد فإنه كالعامي يجوز له تقليد غيره، وهذا ليس مجتهدًا. ثالثًا: إذا لم يجتهد بعد، ولم ينظر في المسألة لكنه ليس بعاجز عن الاجتهاد الجزئي، أي: هو متمكن من الاجتهاد في بعض الأمور، وعاجز عن الاجتهاد في البعض الآخر، ولا يقدر على هذا البعض إلا بتحصيل علم على سبيل الابتداء كعلم النحو -مثلًا- في مسألة نحوية وعلم صفات الرجال وأحوالهم في مسألة خبرية وقع النظر فيها في صحة الإسناد. فهذا من حيث حصوله على بعض العلوم واستقلاله بها يشبه المجتهد. ومن حيث أنه لم يصحل هذا العلم فيشبه العامي. فهل يلحق بالمجتهد أو بالعامي؟ فقد اختلف في ذلك على مذهبين: أصح المذهبين: أنه يشبه العامي، لأنه كما أن المجتهد يتمكن من تحصيل العلم الذي لم يحصله، كذلك يمكن للعامي أن يحصِّل العلم مع المشقة فلا فرق هنا. رابعًا: إذا كان هناك مجتهد صارت عند العلوم حاصلة بالقوة القريبة من الفعل، دون أن يحتاج في تحصيله إلى تعب كثير لو بحث في مسألة معينة، ونظر في الأدلة استقل بها، ولا يفتقر إلى تعلم علم من غيره، فهل يجب على هذا الاجتهاد، أم يجوز له أن يقلد غيره؟ اختلفوا في ذلك على مذاهب. المذهب الأول: ليس له تقليد مجتهد آخر مع ضيق الوقت، ولا سعته، لا فيما يخصه، ولا فيما يفتي به، لكن يجوز له أن ينقل للمستفتي مذهب الأئمة كأحمد والشافعي ولا يفتي من عند نفسه بتقليد غيره. وهو مذهب الأئمة الأربعة وذهب إليه الجمهور العلماء من فقهاء وأصوليين. المذهب الثاني: يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهدًا آخر مطلقًا سواء كان أعلم منه أو مثله، وسواء كان م الصحة أو من غيره، مع ضيق الوقت أو سعته. حكى هذا المذهب عن سفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه وهو رواية عن الإمام أحمد. المذهب الثالث: يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهدًا آخر أعلم منه إذا تعذر عليه الاجتهاد. ذهب إلى ذلك ابن سريج ونقله القاضي في التقريب عن محمد بن الحسن. المذهب الرابع: يجوز للمجتهد أن يقلد الواحد من الصحابة إذا كان قد ترجح في نظره على غيره ممن خالفه، وإن استووا في نظره يخير في تقليد من شاء منهم ولا يجوز له تقليد من عداهم. نقل هذا عن الشافعي في القديم. المذهب الخامس: أنه يجوز للمجتهد أن يقلد الواحد من الصحابة والواحد من التابعين دون من عداهم. المذهب السادس: أنه يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهدًا آخر فيما يخصه دون ما يفتي به. المذهب السابع: أنه يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهدًا آخر مطلقًا إذا خشي أن يفوت الوقت ولو اشتغل بالاجتهاد. ولكل واحد من تلك المذاهب أدلة وتعليلات ولكن الراجح هو المذهب الاول وهو: أنه لا يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهدًا آخر مطلقًا. انظر: «البحر المحيط» (6/ 285 - 288)، «المستصفى» (2/ 384) «جمع الجوامع» (2/ 393) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (20/ 204) «البرهان» للجويني (2/ 1339).

الاجتهاد (¬1) لمجتهد مثله، وأعلم منه. وقد عرفوا ما وقع في شرح هذا المختصر الذي هو ¬

(¬1) الاجتهاد لغة: بذل الوسع والطاقة، ولا يستعمل إلا فيما فيه جهد ومشقة. يقال: اجتهد في حمل الرحى، ولا يقال: اجتهد في حمل النواة. «المصباح المنير» (1/ 112)، «الكوكب المنير» (4/ 458). الاجتهاد في الاصطلاح: «بذل الوسع في النظر في الأدلة الشرعية لاستنباط الأحكام الشرعية» «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (11/ 264). ضوابط اشتمل عليها هذا التعريف: 1 - أن الاجتهاد هو بذل الوسع في النظر في الأدلة، فهو بذلك أعم من القياس إذ القياس هو إلحاق الفرع بالأصل، أما الاجتهاد فإنه يشمل القياس وغيره. 2 - أن الاجتهاد لا يجوز إلا من فقيه، عالم بالأدلة وكيفية الاستنباط منها إذ النظر في الأدلة لا يتأتى إلا ممن كان أهلًا لذلك. 3 - أن الاجتهاد قد ينتج عنه القطع بالحكم أو الظن به، وذلك ما تضمنه قيد «الاستنباط». 4 - وقد تضمن قيد «لاستنباط» أيضًا بيان أن الاجتهاد إنما هو رأي المجتهد واجتهاده، وذلك محاولة منه لكشف حكم الله، ولا يسمى ذلك تشريعًا، فإن التشريع هو الكتاب والسنة، أما الاجتهاد فهو رأي الفقيه أو حكم الحاكم. انظر: «الكوكب المنير» (4/ 458) «الفقيه والمتفقه» (1/ 178) «إعلام الموقعين» (4/ 212 - 214).

مدرسهم، وهو شرح ابن مفتاح (¬1) - رحمه الله- أن علوم الاجتهاد خمسة، من عرفها على الصفة التي بينها ذلك الشارح (¬2)، وأوضحها أهل الحواشي عليها صار مجتهدًا، ¬

(¬1) هو عبد الله بن أبي القاسم بن مفتاح أبو الحسن الزيدي من موالي بني الحجّي. وهو شارح الأزهار الشرح الذي عليه اعتماد الطلبة وله مؤلفات:» شرح الأزهار المسمى بالمنتزع المختار من الغيث المدرار» وهو مختصر من الشرح الكبير للإمام المهدي المسمِّى بالغيث. توفي سنة 877هـ. وقبره يماني صنعاء.» البدر الطالع» رقم (266). (¬2) ابن مفتاح في «شرح الأزهار» (1/ 7 - 10): وإنما يتمكن من ذلك من جمع علومًا خمسة: أولها: علم العربية من نحو وتصريف ولغة ليتمكن من معرفة معاني الكتاب والسنة. ثانيهما: علم الآيات المتضمنة للأحكام الشرعية وقد قدرت خمسمائة آية. قال عليه السلام: أعني التي هي واردة في محض الأحكام وتؤخذ من ظواهرها وصرائحها. فأما ما يستنبط من معاني سائر القرآن من الأحكام فإنها كثيرة وسيعة كما فعل الحاكم إلا أنها غير مشروطة في كمال الاجتهاد بالاتفاق، ولا يجب في الخمسمائة أن تحفظ غيبًا بل يكفي أن يكون عارفًا بمواضعها من السور بحيث يتمكن من وجدانها عند الطلب من دون ان يمضي على القرآن جميعًا. ثالثها: أن يكون عارفًا بسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يلزم الإحاطة بل يكفيه كتاب فيه أكثر ما ورد من الحديث في الأحكام. رابعها: المسائل اليت وقع الإجماع عليها من الصحابة والتابعين وغيرهم التي تواتر إجماع مجتهدي هذه الأمة عليها. قال عليه السلام: إلا أنها قليلة جدًا: أعني التي نقل الإجماع فيها بالتواتر، قال: وقد تصفحناها فوجدنا أكثرها مستندًا إلى آية صرية أو خبر متواتر صريح فيستغني عن كثير منها أي من الإجماعات بمعرفة ذلك المستند وهو يكون موجودًا في الآيات والأحاديث التي اعتبر معرفتها فلا يخرج عن ذلك إلا القليل فحفظها يسير غير عسير بعد هذا التنبيه الذي أوضحناه لكن ينبغي حفظ ذلك القليل أبلغ مما مرَّ حذرًا من الخطر في مخالفة الإجماع. خامسها: علم أصول الفقه لأنه يشتمل على معرفة حكم العموم والخصوص والمجمل والمبين، وشروط النسخ، وما يصح نسخه ومالا يصح، وما يقتضيه الأمر والنهي من الوجوب وغيرها وأحكام الإجماع وشروط القياس» اهـ.

فكيف بمن عرفها وعرف زيادة عليها كما نعرفه من جماعة من عملاء العصر! ويعرفه من يعرف هذه العلوم - كما ينبغي! فإن الله - وله الحمد والمنة - قد أود في عصرنا هذا كثيرًا من العلماء القائمين بعلوم [1أ] الاجتهاد على الوجه المعتبر، بل عرفت فيمن أدركته من شيوخي والمعاصرين لهم من لديه من كل علم من العلوم الخمسة التي ذكرها ذلك الشارح أضعاف أضعاف ما اعتبره من كل واحدٍ منها، بل وفيهم من يعرف علومًا آخرة غير تلك العلوم، كثيرة العدد، ثم في أهل عصرنا - أبقاهم الله- من لا يقصر عن أولئك، وكل من له معرفة بهذه العلوم يقر بهذا ولا ينكره، ويعترف به ولا يجحده، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل أولو الفضل. وإذا كان الأمر هكذا فمعلوم أنه لا يجوز (¬1) لواحد من هؤلاء أن يقلد غيره من المجتهدين (¬2) كائنًا من كان، سواءً من الأموات ¬

(¬1) لا يجوز لمجتهد تقليد مجتهدٍ آخر، لا ليعمل ولا ليقضي ولا ليفتي به، سواء خاف الفوت لضيق الوقت أو لا». أنظر:» مختصر ابن الحاجب والعضد عليه» (2/ 300).» الإحكام» للآمدي (4/ 204 - 222) (¬2) ينقسم الاجتهاد بالنظر إلى أهله إلى اجتهاد مطلق واجتهاد مقيد، وفي هذين القسمين تجتمع أقسام

(¬1) ¬

(¬1) المجتهدين الأربعة التي ذكرها ابن القيم في «إعلام الموقعين» (4/ 212 - 214) وهي: 1 - مجتهد مطلق: وهو العالم بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقوال الصحابة، يجتهد في أحكام النوازل يقصد فيها موافقة الأدلة الشرعية حيث كانت. فهذا النوع هم الذين يسوغ لهم الإفتاء والاستفتاء، وهم المجددون لهذا الدين القائمون بحجة الله في أرضه. 2 - مجتهد مقيد في مذهب من أئتم به، فهو مجتهد في معرفة فتاويه وأقواله ومأخذه وأصوله، عارف بها، متمكن من التخريج عليها، من غير أن يكون مقلدًا لإمامه لا في الحكم ولا في الدليل، لكن سلك طريقه في الاجتهد والفتيا، ودعا إلى مذهبه ورتِّبه وقرره، فهو موافق له في مقصده وطريقه معًا. 3 - مجتهد مقيد في مذهب من انتسب إليه، مقرر له بالدليل، متقن لفتاويه عالم بها، لا يتعدى أقواله وفتاويه، ولا يخالفها، وإذا وجد نصَّ إمامه لم يعدل عنه إلى غيره البتة. بل نصوص إمامه عنده كنصوص الشارع، قد اكتفى بها من كلفة التعب والمشقة، وقد كفاه إمامه استنباط الأحكام ومئونة استخراجها من النصوص. وشأن هؤلاء عجيب، إذ كيف أوصلهم اجتهادهم إلى كون إمامهم أعلم من غيره، وأن مذهبه هو الراجح، والصواب دائر معه، وقعد بهم اجتهادهم عن النظر في كلام الله وكلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستنباط الأحكام منه وترجيح ما يشهد له النص. 4 - مجتهد في مذهب من انتسب إليه، فحفظ فتاوى إمامه، واقَّر على نفسه بالتقليد المحض له، من جميع الوجوه، وذكر الكتاب والسنة عند يكون على وجه التبرك والفضيلة لا على وجه الاحتجاج به والعمل بل إذا رأى حديثًا صحيحًا مخالفًا لقول من انتسب إليه أخذ بقوله وترك الحديث، فليس هند هؤلاء سوى التقليد المذموم. وينقسم الاجتهاد بالنظر إلى المجتهد من حيث استيعابه للمسائل أو اقتصاره على بعضها إلى مجتهد مطلق ومجتهد جزئي. فالمجتهد المطلق: هو الذي بلغ رتبة الاجتهاد بحيث يمكنه النظر في جميع المسائل. والمجتهد الجزئي: هو الذي لم يبلغ رتبة الاجتهاد في جميع المسائل وإنما بلغ هذه الرتبة في مسالة معينة أو باب معين أو فن معين وهو لم يخط بما عدا ذلك. وقد اختلف العلماء في جواز تجربة الاجتهاد، والذي عليه المحققون من أهل العلم جوازه وصحته. انظر: «إعلام الموقعين» (4/ 216) و «مجموع الفتاوى» (20/ 204 - 212) «روضة الناظر» (2/ 406، 407).

أو الأحياء، بل الواجب على كل واحد منهم أن يجتهد في جميع عباداته ومعاملاته، بحسب ما يترجح له بعد إعطاء النظر حقه، فما بال المشتغلين بالفروع -عافاهم الله- إذا سمعوا عن واحد من هؤلاء المجتهدين أنه قال أو فعل خلاف ما في الأزهار ينكرون ذلك عليه أشد إنكار! وهم يعلمون أنه ما فعل إلا ما هو واجبٌ عليه بنص الأزهار، وما ترك إلا ما لا يجوز له بنص الأزهار، فكيف وقعوا في هذه الورطة التي هي من الأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف! وما هو الذي حملهم على هذا وأوقعهم في مخالفة ما يدعون الناس إليه، مع إكبابه عليه، ومعرفتهم له، وقطع أعمارهم في درسه وتدريسه؟ فهل سمعت بأعجب من هذا أو أغرب منه!؟ وهو أول درس يدرسه التلميذ عن شيخه، وأول بحث تقع عينه عليه من هذا الكتاب، فكيف غفلوا عنه ولم يعلموا ما يقتضيه! وصاروا ينكرون على من عمل به مع كونهم يقرون على أنفسهم بأنهم مقلدون! وقد عرفوا في هذا الكتاب الذي هو مدرسهم أن التقليد قبول قول الغير من دون حجة، وأن المقلّد هو الذي يقبل قلو الغير ولا يطالبه بحجة، فما بالهم (¬1) [1ب] لم يقبلوا قول هذا الإمام الذي صرح به في أول كتابه، وخالفوه في أول بحث ذكره في كتابه هذا وما أظنه ينكر هذا فرد من أفرادهم، ولا يأباه من قد عرف أول بحث من أبحاث هذا الكتاب منهم. فما يقول علماء الفروع -كثر الله فوائدهم- هل هذا الذي تعرض للاعتراض على المجتهدين آمر بالمنكر وناه عن المعروف أم لا؟ وهل يستحق العقوبة الشرعية إذا لم يتب أم لا؟ وهل يجوز السكوت عنه. مع استمراره على هذه المعصية أم لا؟ ولا يطلب منهم إلا لجواب مقتضى ما في الأزهار. الأمر الثاني: أنهم يتعرّضون في مسائل الخلاف، وقد عرفوا أنَّ في الأزهار التصريح ¬

(¬1) في الأصل مكرر.

بأن كل مجتهد مصيب (¬1) فإن قالوا هذا الإنكار منهم واقع على ما يقتضيه المذهب فهو باطل، فالمذهب هو المصرح به في الأزهار. وإن قالوا إنه لا على مقتضى المذهب فما هو الذي استندوا إليهن وعلموا أنه مع اعترافهم بانهم مقلدون، وأن غاية علمهم هو ما في هذا المختصر كما يعلمون ذلك، ويعلمه كل من يعرفهم على أنهم يعترفون بأن عهدتهم قبول قو من يقلدونه من دون أن يطالبوا بحجة؟ فما بالهم ها هنا خرجوا عن علمهم، وخالفوا ما قد التزموه! وهل يعترفون بأن وقوع هذا منهم منكر أم لا؟ فإن كانوا يعترفون فكيف يرضون لأنفسهم بفعل المنكر! وهم يعلمون أن فاعل المنكر يحب الإنكار عليه ودفعه عن ذلك ولو بالقلب (¬2)، وإن كاننوا لا يعترفون بذلك فما هو الذي استندوا إلى غير فما بالهم تركوا مذهبهم الذي التزموه ونشؤوا عليه! ثم يقول لهم: اخبرونا ما هو ا لذي استندتم إليه إن كان على طريق التقليد؟ فكيف جاز لكم ترك مذهبكم وتقليد غيره؟! وهل ها مما يجوز عندكم أم لا؟ وإن قالوا ليس ذلك على طريق التقليد قلنا لهم أنتم تعترفون على أنفسكم بأنكم مقلدون، ولو تنزَّلنا معكم وقلنا إن الله قد فتح عليكم بعلوم الاجتهاد فهو القادر على كل شيء، فأخبروا ما هو الذي دلكم على [2أ] الوقوع في هذا الأمر حتى نتكلم معكم بالأدلة، ونوضح لكم الأمر على حقيقته بعد اعترافكم بأنكم تركتم التقليد بعد وجود المسوغ؟ الأمرالثالث: من تلك الأمور: أنه قد تقرر أن التقليد إنما هو في المسائل الفرعية (¬3) ¬

(¬1) تقدم مرارًا. (¬2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه رقم (49) وأبو داود رقم (1140، 4340) والترمذي رقم (2173) والنسائي (8/ 111) وابن ماجه رقم (4013) عن ابي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:» من رآى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان». وهو حديث صحيح. (¬3) لا خلاف بين أهل العلم في أن المجتهد - الذي توفرت الشروط في اجتهاده- إذا أصاب الحق له أجران، للحديث المتقدم، لكن المسألة التي وقع فيها نزاع بين العلماء هي: هل المجتهد - الذي توفرت الشروط في اجتهاده- المخطئ للحق، المخالف للصواب، معذور أو لا؟ وهل يأثم أولا يأثم؟. مذهب السلف من الصحابة رضي الله عنه والتابعين لهم بإحسان: أنهم لا يكفرون، ولا يفسقون، ولا يؤثمون أحدًا من المجتهدين المخطئين لا في مسألة فرعية ولا عملية، ولا في الأصول ولا في الفروع ولا في القطعيات ولا في الظنيات. انظر:» مجموع الفتاوى» (19/ 207، 123، 142، 213، 216) وذلك له ضوابط منمها: 1 - أن يكون مع هذا المجتهد المخطئ مقدار ما من الإيمان بالله وبرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أما من لم يؤمن أصلًا فهو كافر، لا يقبل منه الاعتذار بالاجتهاد، لظهور أدلة الرسالة وأعلام النبوة. ولأن العذر بالخطأ حكم شرعي خاص بهذه الأمة. 2 - أن يكون ذا نية صادقة في إرادة الحق والوصول إلى الصواب، أما أهل الجدل والمراء، وأصحاب الأغراض السيئة والمقاصد الخبيثة فلكل منهم ما نوى، والحكم في ذلك للظاهر والله يتولى السرائر. 3 - أن يبذل المجتهد وسعه ويستفرغ طاقته، ويتقى الله ما استطاع ثم إن أخطأ لعدم بلوغ الحجة، أو لوجود شبهة، أو لأجل تأويل سائغ، فهو معذور ما لم يفرط. أما إن فرّط في شيء من ذلك فلم تبلغه الحجة بسبب تقصيره أو بلغته لكنه أعرض عنها لشبهة يعلم فسادها، أو تأوّل الدليل تأويلًا لا يسوغ فإنه والحالة كذلك لا يعذر، وعليه من الإثم بقدر تفريطه. انظر: «مجموع الفتاوى» (19/ 207 - 212) و (6/ 56 - 61). «منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد» (1/ 246 - 249).

العملية، فهل هذا الذي وقعتم فيه من الاعتراض على أن اجتهادات المجتهدين مما يشرع في المذهب أم لا؟ إن قلتم لا يسوغ فما هو الحامل لكم مع كونكم من أهل التقليد على ترك ما أنتم فيه من التقليد في المسائل الفرعية، والرجوع إلى مثل هذا الإنكار الذي هو فرع كون المجتهد قد فعل باجتهاده منكرًا؟ وأنتم تعلمون، ويعلم كل من يعرف العلم أنّ هذا ليس من المسائل الفرعية العلمية، بل يعلمون أن بعض العملي لا يجوز التقليد فيه، وهو المترتب على علمي كما هو مصرّح به في الأزهار (¬1). فأخبرونا من هو الفاعل ¬

(¬1) قال ابن مفتاح في «شرح الأزهار» (1/ 6 - 7): «ثم لما كان في العمليات مالا يجوز التقليد فيه أخرجناه بقولنا: (ولا في عملي يترتب) العمل به في الواجب والجائز (على) أمر (علمي) أي لا يكفي فيه إلا العلم. وهذا الذي يترتب على العلمي هو (كالموالاة) للمؤمن وحقيقتها أن تحسب له كل ما تحب لنفسك، وتكره له كل ما تكره لنفسك ومن ذلك تعظيمه واحترام عرضه وذلك وإن كان عملًا فلا يجوز فيه التقليد ولا العمل بالظن لأن ذلك لا يجوز إلا لمن علم يقينًا أنه من المؤمنين، والأصل فيمن ظاهره الإسلام والإيمان ما لم يعلم بيقين أنه قد خرج عنه. (والمعاداة) وهي نقيض المولاة أيضًا لا يجوز التقليد فيها ولا يكفي في العمل بها إلا العلم لأنها ترتب على الكفر أو الفسق وهما مما لا يجوز التقليد فيه فكذا ما يترتب عليهما» اهـ.

للمنكر الذي لا خلاف فيه، هل المجتهد الذي أنكرتم عليه اجتهاده مع كونه لم يخالف الأزهار، أم الفاعل المنكر هو أنتم مع كونكم مخالفين لما في الأزهار بلا شك ولا شبهة؟ ثم أخبرونا هل إنكاركم هذا هو من فعل المنكر، وانتم مرتكبون للمنكر، وأنه يجب الإنكار عليكم من كل قادر أم لا؟ إن قلتم: نعم نعم فما هو الذي حملكم على الدخول في هذا المنكر العظيم، والمحرم الوخيم؟ وإن قلتم: لا فأخبرونا بما تمسكتم؟ وما هو الذي تستندون إليه مع مخالفته لمذهبكم؟ إن قلتم: قلتم اجتهدتم في تخطئه المجتهدين فأوضحوا لنا ما هو الذي أوجب عليكم الانتقال من التقليد إلى الاجتهاد؟ فإن الأدلة قاضية بان اجتهاد المجتهد متردد بين الخطأ والصواب (¬1)، وله مع الإصابة أجران كما ثبت في الحديث (¬2) الذي تلقته الأئمة بالقبول، ولم يختلفوا في صحته، بل له عشرة أجور (¬3) كما ثبت في أحاديث تنتهض [2ب] بمجموعها. وله مع الخطأ أجرٌ كما أفاده ذلك الحديث الصحيح. فلو فرضنا أن المجتهد قد أخطأ في اجتهاده (¬4)، وأنكم تعرفون الخطأ في الاجتهاد، فكيف ¬

(¬1) تقدم التعليق عليه. (¬2) تقدم تخريجه في الرسالة السابقة. (¬3) تقدم تخريجه في ارسالة السابقة (¬4) قد بوّب ابن عبد البر لذلك فقال: «باب ذكر الدليل من أقاويل السلف على أن الاختلاف خطأ وصواب ... » وبعد أن ذكر آثارا في ذلك قال- رحمه الله-» في جامع بيان العلم وفضله» (2/ 913): هذا كثير في كتب العلماء وكذلك اختلاف أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتابعين ومن بعدهم من المخالفين وما ردّ فيه بعضهم على بعض لا يكاد أن يحيط به كتاب فضلًا أن يجمع في باب، وفيما ذكرنا مه دليل على ما عنه سكتنا. وفي رجوع أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعضهم إلى بعض ورد بعضهم على بعض دليل واضح على أن اختلافهم عندهم خطأ وصواب ولولا ذلك كان يقول كل واحد منهم: جائز ما قلت أنت، وجائز ما قلت أنا، وكلانا نجم يهتدي به، فلا علينا شيء من اختلافنا. (قال أبو عمر): والصواب مما اختلف فيه وتدافع وجه واحد، ولو كان الصواب في وجهين متدافعين ما خطأ السلف بعضهم بعضًا في اجتهادهم وقضاياهم وفتواهم والنظر يأبى أن يكون الشيء وضده صوابًا كله. ولقد أحسن القائل: إثبات ضدين معًا في حالٍ ... أقبح ما يأتي من المحال «جامع بيان العلم وفضله»

يجوز لكم أن تخالفوا حكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فإنه أثبت له أجرًا، وأنتم جعلتم ذلك منكرًا، ومزقتم عرضه، ووقعتم في إنكار المعروف الذي جاءنا به الشرع الصحيح، بل وأجمع عليه المسلمون أجمعون. ولا يخفاكم ما هو الحكم المقرر في الفروع في من خالف الإجماع، وخالف المقطوع به من الشرع، فما بالكم وقعتم في هذا البلاء العظيم، والخطب الجسيم! ومالكم ولهذا! وما حملكم عليه وأنتم في سعة وفي راحة عنه! فإنكم أولًا خالفتم مذهبكم مخالفة أوضح من شمس النهار، ثم خالفتم ما حكم به الشارع- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ثم خالفتم الإجماع، ووقعتم في إثم الغيبة، بل البهت الصراح، والكذب البواح، فاجرعوا عن هذه الغربة، وتوبوا إلى ربكم من هذه الجناية، وواجب على أهل العقول منكم أن يردوا أهل التلبيس إلى ما يحمل بأهل العلم، ويليق بمنصبه، وإلا كنتم كما قال القائل: ومن جهلت نفسه قدره ... رأى غيره منه مالا يرى وكما قال آخر:

ومن رام ما يعجز عنه طوقه ... تقاصرت عنه فسيحات الخطى الأمر الرابع تلك الأمور: أنكم تعلمون أن في الأزهار أنه لا إنكار في مختلف فيه على من هو مذهبه، فما بالكم أنكرتم على من اجتهد رأيه وعمل بما هو الصواب لديه ممن اجتهاداته في المسائل (¬1) الخلافية!. ¬

(¬1) قال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (14/ 159): «والنزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يُفض إلبى شرع عظيم م خفاء الحكم، ولهذا صنّف رجل كتابًا سماه كتاب الاختلاف فقال أحمد: سمه كتاب السعة وأن الحق في نفس الأمر الواحد، وقد يكون من رحمة الله ببعض الناس خفاؤه لما في ظهوره من الشدة عليه، ويكون من باب قوله تعالى: {لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}» [المائدة: 101]. ومن الأحكام المترتبة على المسائل الاجتهادية: 1 - أنه لا يجوز الإنكار على المخالف، فضلًأ عن تفسيقه أو تأثيمه أو تكفيره. 2 - أن سبيل الإنكار إنما يكون ببيان الحجة وإيضاح المحجة. 3 - أن المجتهد ليس له إلزام الناس باتباع قوله. 4 - أن غير المجتهد يجوز له اتباع أحد القولين إذا تبينت له صحته، ثم يجوز له تركه إلى القول الآخر اتباعًا للدليل. 5 - لا يصح للمجتهد أن يقطع بصواب قوله وخطأ من خالفه فيما إذا كانت المسألة محتملة. 6 - أن الخلاف في المسائل الاجتهادية لا يخرج المختلفين من دائرة الإيمان إذا ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 7 - أن المجتهد يجب عليه اتباع ما أداه إليه اجتهاده، ولا يجوز له ترك ذلك إلا إذا تبين له خطأ ما ذهب إليه أولًا، فيصح أن يرد عن المجتهد قولهان متناقضان في وقتين مختلفين لا في وقت واحد. 8 - أن المجتهد في مسائل الاجتهاد بين الأجر والأجرين، وذلك إذا اتقى الله في اجتهاده. 9 - أن المسائل الاجتهادية ظنية في الغالب، بمعنى أنه لا يقطع فيها بصحة هذا القول أو خطئة، لكن قد توجد مسائل يسوغ فيها الاجتهاد وهي قطعية يقنية، يجزم فيها بالصواب، وذلك أن المجتهد قد يخالف الصواب دون تعمد إما لتعارض الأدلة أو خفائها، فلا طعن على من خالف في مثل ذلك. 10 - إذا علم أن للمسائل الاجتهادية احكامًا تخصها، لزم التفريق بين المسائل الاجتهادية والمسائل الخلافية. إذ يجب الإنكار على المخالف في المسائل الخلافية غير الاجتهادية، كمن خالف في قول يخالف سنة ثابتة أو إجماعًا شائعًا. وكذلك يجب الإنكار على العمل المخالف للسنة أو الإجماع بحسب درجات إنكار المنكر. انظر: «مجموع الفتاوى» (20/ 207) (30/ 79، 80) (35/ 232، 233)، «إعلام الموقعين» (1/ 49) (3/ 288)، «شرح الكوكب المنير» (4/ 492).

وأمَّا المسائل الإجماعية فقد رفع الإجماع كل اجتهاد يخالفه ولا يقع في مخالفته الإجماع الصحيح الثابت أحدٌ من مجتهدي هذه الأمة، كما ذلك معلوم لكل عارف، فأخبرونا هل صدور هذا الإنكار منكم على المجتهد في مسائل الخلاف موافق لما في الأزهار؟ فأخبرونا ما هو الذي حملكم على القيام مقام من يأمر بالمنكر، وينكر المعروف، مع اعتقاده أن قيامه ذلك خلاف الحق الذي يعتمده، ومباين للصواب الذي لا صواب عنده سواه؟ ولا شك ولا ريب أنّ من قام مقام الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وهو يعلم بطلان قوله وفساد ما فعله فهو من أعظم الفاعلين للمنكر، لأنه مبطل [3!]، مع أن ذلك من الغيبة المحرَّمة، والبهت الشديد. فإن قالوا: إنهم أنكروا اجتهاد ذلك المجتهد لا باعتبار المذهب، بل باعتبار أمر آخر قلنا لهم: كيف تركتم المذهب! وليس بأيديكم سواه، ولا تعرفون غيره، فإن كانت هذه المخالفة ساغئة لكم فكيف أنكرتم على ذلك المجتهد مخالفته للمذهب باجتهاده، وسوغتم بأنفسكم مخالفة المذهب مع كونكم مقلدين ملتزمين لما في ذلك المختصر! فهل يصنع مثل صنيعكم هذا عاقل فضلاً عن عالم؟ فإنكم أنكرتم ما هو جائز، بل واجب بنص الأزهار حسب ما قدمنا من قوله: التقليد جائز لغير المجتهد (¬1) لا له. ولو وقف على نصِّ أعلم منه، ومن قوله: وكل مجتهد مصيب، وسوغتم ما هو حرام عندكم، وهو انتقال المقلد من مذهبه مع كونه مقلدًا (¬2)، وأنتم تعلمون أن في الأزهار وبعد الالتزام يحرم الانتقال إلا إلى ترجيح نفسه (¬3)، وأنتم تعرفون أنكم مقلدون لا ترجيح لكم، ¬

(¬1) تقديم في بداية الرسالة. (¬2) قال ابن مفتاح في «شرح الأزهار» (1/ 19): (وبعد الالتزام) لقول إمام معين في حكم واحد أو في أحكام أو في جملة المذهب فإنه (يحرم الانتقال) عن ذلك المذهب في عين ذلك الحكم أو الأحكام المعينة قال ابن الحاجب بالاتفاق. فأما في الصورة الثالثة وهي التقليد في جملة المذهب كمن التزم مذهب (الشافعي) مثلًا هل له أن يرجع حنفيًا فيه خلاف، والصحيح التحريم (إلا إلى ترجيح نفسه) أي بعد الالتزام يحرم الانتقال عما التزمه إلا إلى ترجيح نفسه اهـ. فائدة مهمة للرد على ما تقدم: قال ابن القيم في «إعلام الموقعين» (4/ 238): «والصواب أنه إذا ترجح عنده قول غير إمامه بدليل راجح فلابد أن يخرج على أصول إمامه وقواعده، فإن الأئمة متفقة على أصول الأحكام، ومتى قال بعضهم قولًا مرجوحًا فأصوله ترده وتقتضي القول الراجح، فكل قول صحيح فهو يخرج على قواعد الأئمة بلا ريب، فإذا تبين لهذا المجتهد المقيد رجحان هذا القول وصحة مأخذه خرج على قواعد إمامه فله أن يفتي به». وانظر: «أدب المفتي والمستفتي» (ص 121 - 122). (¬3) قال ابن مفتاح في «شرح الأزهار» (1/ 19): (وبعد الالتزام) لقول إمام معين في حكم واحد أو في أحكام أو في جملة المذهب فإنه (يحرم الانتقال) عن ذلك المذهب في عين ذلك الحكم أو الأحكام المعينة قال ابن الحاجب بالاتفاق. فأما في الصورة الثالثة وهي التقليد في جملة المذهب كمن التزم مذهب (الشافعي) مثلًا هل له أن يرجع حنفيًا فيه خلاف، والصحيح التحريم (إلا إلى ترجيح نفسه) أي بعد الالتزام يحرم الانتقال عما التزمه إلا إلى ترجيح نفسه اهـ. فائدة مهمة للرد على ما تقدم: قال ابن القيم في «إعلام الموقعين» (4/ 238): «والصواب أنه إذا ترجح عنده قول غير إمامه بدليل راجح فلابد أن يخرج على أصول إمامه وقواعده، فإن الأئمة متفقة على أصول الأحكام، ومتى قال بعضهم قولًا مرجوحًا فأصوله ترده وتقتضي القول الراجح، فكل قول صحيح فهو يخرج على قواعد الأئمة بلا ريب، فإذا تبين لهذا المجتهد المقيد رجحان هذا القول وصحة مأخذه خرج على قواعد إمامه فله أن يفتي به». وانظر: «أدب المفتي والمستفتي» (ص 121 - 122).

وأنكم لا تطالبون بحجة فضلًا عن أن تعقلوا الحجج، وتعرفوا الموازنة بينها عند تعارضها. فارجعوا -يرحمكم الله- إلى الصوا فقد وضح الصبح لذي عينين. وإن قلتم لا نرجع بل نستمر على ما نحن فيه من الباطل فحسبكم ما تستلزمه هذه المقالة الشنعاء من غضب الله شعرًا: لا تنته الأنفس عن غيِّها ... ما لم يكن منها لها زاجر فإن قلتم: تركنا الأزهار المشتمل على تصويب المجتهدين، وعدم جواز التقليد منهم لغيرهم بما هو راجحٌ منه. قلنا لهم: ومتى كنتم من أهل الطبقة الشريفة، والمنقبة المنيفة! فإنّ هذا إنما هو مقام المجتهدين الذين قمتم على الإنكار عليهم بسبب مخالفة المذهب شعرًا: يقولون أقوالاً ولا يعرفونها ... ولو قيل هاتوا حققوا لم يحققوا وكان عليكم أن تكفوا شركم عن المجتهدين، وتسوغِّوا لهم ما سوغتم لأنفسكم من المخالفة. فالاجتهاد كما فعلتم بمجرد التقليد، ولا أظن أن تدعوا ذلك قط، فإنكم تعرفون أنفسكم ومقدار ما لكم من العلم، ولا يدعون الخروج عن التقليد قيد شبر، ولا ¬

وزن خردلة. وكما قال الشاعر (¬1): وما أنا إلا من غزية إلا غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد وكان [3ب] الأليق لكم، والأجمل لحالكم أن تسألوا المتورعين من علماء الفروع، وتستفتوهم: هل هذا الإنكار على المجتهدين مما يسوغه أهل الفروع الذي أنتم بصدد الاشتغال به درسًا وتدريسًا، وإفتاءً وقضاءً، فإنهم لا محالة ينكرون عليكم، ويعرفونكم بأنكم على جهل عظيم، وإثم وبيل، وحرام دخيل، وهتك يقول: هذا الليل صبح ... أيعمى المبصرون عن الضياء وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظلم الأمر الخامس: من تلك الأمور قد عرفتم أن الاجتهاد معتبرٌ في القاضي، وأنه لا يصلح للقضاء (¬2) إلا من كان مجتهدًا كما صرح في الأزهار في باب القضاء حيث قال: والاجتهاد «في الأصح» فما بالكم تنكرون على القاضي الذي يقضي بالاجتهاد، وهو من اهل الاجتهاد! مع أنكم تعترفون بأنه القاضي على شرط المذهب، وأن من ليس بمجتهد ليس يقاضي على شرط المذهب، ومع أنك لا تنكرون أنه لو قضى المجتهد بغير اجتهاده، ورجع إلى التقليد الذي أنتم عليه لكان فاعلًا لغير ما هو جائزٌ عندكم، فكيف طلبتم منه أن يخالف ما تذهبون إليه وتقررونه وتدرسونه (¬3)! فأخبروني ما بالكم تخالفون المذهب في إنكاركم على من هو على شرطه، وأن من هو دونه لا يصلح للقضاء إن قلتم أن عليه سائغًا لكم في المذهب! فالمذهب يرد عليكم في مواضع متعددةٍ قد قدمنا ذكرها. (¬1) هو دريد بن الصمة عزاه إليه صاحب «اللسان» (10/ 68). وقال غزية: قبيلة من قبائل العرب. (¬2) تقدم التعليق على ذلك في الرسالة السابقة. وانظر: «إرشاد السائل إلى دليل المسائل» للإمام الشوكاني (ص 23 - 33). (¬3) مكررة في المخطوط.

ومنها هذا الموضع المذكور في القضاء، وإن قلتم إنكم أنكرتم عليه لشيء آخر فما هو؟ فإنكم مقلدون. وإن أبيتم وصممتم على الباطل، ولم ترجعوا إلى الحق وقلتم هذا عندم غير جائز مجازفة وجرأة ومخالفة، فالأمر كما قال الشاعر: يقولون هذا عندنا غير جائز ... من أنتم حتى يكون لكم عنده وقد صان الله - سبحانه- الراسخين في علم الفروع عن الوقوع في هذه المنكرات، فهم أتقى لله من أن يجري منهم مثل هذا، ولكن عليهم أن يفكوا عن تكدر هذا المورد العذب من الجهلة والتهور والعصبية على خلاف ما يفيده المذهب، ولا يقتضيه الدليل. الأمر السادس [4أ] من تلك الأمور أن في الأزهار، وبعد الالتزام بحرمة الانتقال وأنتم ملتزمون لما في الأزهار عاملون به، ثم تهافت كثير منكم على تولي القضاء وهو يعلم أنه مقلَّد، وأنه لابد أن يكون القاضي مجتهدًا على مقتضى المذهب، فما بالهم وقعوا في مخالفة المذهب، وباشروا ما يباشر القضاة من قطع الأقوال بين أهل الخصومات، وسسفك الدماء، وتحليل الفروج! فإن كان الأزهار حقًا فقضاءهم باطل قد عصوا الله بالدخول فيه، ثم عقبوهن بالمباشرة لما يباشره القضاة، وصار ذلك في أعناقهم، يسألهم الله عنه ويعاقبهم عليه، ولم يقعوا في ذلك إلا لتأثير الدنيا، والتهافت على حطامها، ومن ترك مذهبه لمحبة الدنيا فكيف ينكر من هو صحيح القضاء على الكتاب والسنة، وعلى المذهب! وهل هذا الأمر قلب للأمورن ودفع للحقائق، ومن علامات القيامة. يا ناعي الإسلام قم فانعه ... قد زال عرف وبدا منكر ومعلوم لكل عارف أن أهل البيت إنما اشترطوا أن يكون القاضي مجتهدًا، لأن المجتهد هو الذي يعرف الحق ويعرف الباطل بالدليل من الكتاب والسنة، فهو الذي يقضي بالحق، وهو يعلم به، وهو القاضي الذي في الجنة، كما في حديث: «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة، فالقاضي الذي في الجنة هو الذي قضى بالحق، وهو يعلم، والقاضيان الذين هما في النار هو القاضي الذي قضى بالباطل، والقاضي الذي يقضي بالحق وهو لا يعلم أنه الحق» (¬1). فالمقلد - أصلحه الله- هو الذي لا يعرف الأقوال العامة من دون أن يطالبه بحجة ت دل على قوله، فهو لا يدري هل هو حق أو باطل، فإن قضى بقول إمامه فعلى فرض أنه حق في نفس الأمر فالمقلد لا يدري أنه حق، فقد قضى [4ب] بالحق ولا يدري أنه حق، فهو أحد قاضيي النار. وعلى فرض أن ذلك القول غير حق فقد قضى بالباطل وهو القاضي الآخر من قضاة النار. خذا بطن هرشي أو قفاها فإنه ... كلا جانبي هرشي لهن طريق أمَّا القاضي المجتهد فهو متردد بين أمرين حسنين، وتجارة رابحة، وفوز معلوم لما صح عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر» (¬2) وقد عرفنا فيما سبق أنها وردت أحاديث من طرق فتنتهض بمجموعها أن للمصيب في حكمة عشرة (¬3). أجور. فيالها من غنيمة باردة، وخير كثير، وأجر جليل! والعجب كل العجب أن ينكر قاضي النار على قاضي الجنة، ويطلب منه أن يرجع من الاجتهاد إلى التقليد فيكون مثله من قضاة النار -نسأل الله الستر والسلامة-. وإذا تقرر لك ما ذكرناه من كون السبب لاشتراط أهل المذهب الاجتهاد في القاضي هو أن المقلد في قضائه على كلا حالتيه، وفي جميع وصفيّة من قضاة النار بحكم النبي المختار صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وأيضًا القرآنية مشتملة على الأخذ على القضاة بأن يقضوا بالحق (¬4)، ¬

(¬1) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح. (¬2) تقدم شرحه. (¬3) تقدم تخريجه مراراً (¬4) قال تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فأحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد. بما نسوا يوم الحساب} [ص: 26]

وبالعدل (¬1)، وبما أمر الله، وبما أنزل الله (¬2)، والمقلد لا يعرف إلا أقوال إمامه، ولا يدري هل هو حق [5أ] أو باطل، أو من العدل أو الجور، أو مما أمر الله به، أو مما نهى عنه، أو مما أنزل على عباده أو مما لم ينزل، وهو معلوم لا ينكره من يفهم الخطاب من المقلدين. والحاصل: إنَّ مقصودنا في هذه الرسالة هو الإرشاد لأهل المذهب بالمذهب، والاقتصار على ما في المختصر الذي هو الآن المعتمد عليه، وهو الازهار. وقد أوضحنا ذلك أبلغ إيضاح بحيث يستوي في فهمه كل من له عقل. والمقصد بذلك كما يعلم ا لله هو إرشاد من يبلغنا عنه أنه مشتغل بما ذكرناه. والله الهادي إلى الصواب، وبيده الخير كله، ولا حول ولا قوة إلا به، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. حرر من خط مؤلفه -حرسه الله، وأبقاه، وفسح له في مدته، وأفاض على العباد من كثير فوائده، ونفع به -آمين. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم كما نقله صبح الثلاثاء لعله 26 شهر ربيع آخر سنة 1244 بقلم الحقير -غفر له- الملك القدير، ووالديه والمسلمين آمين، وجزاه عن مؤلفَّه خيرًا بحق محمد وآله. ¬

(¬1) قال تعالى: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [النساء: 58]. (¬2) قال تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق} [المائدة: 48]. وقال تعالى: {وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرًا من الناس لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} [المائدة: 49 - 50].

بحث في نقص الحكم إذا لم يوافق الحق

بحث في نقص الحكم إذا لم يوافق الحق تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: (بحث في نقص الحكم إذا لم يوافق الحق). 2 - موضوع الرسالة: أصول الفقه. 3 - أول الرسالة: (وبعد حمد الله حق حمده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله، فإنها لما وقعت المذاكرة من جماعة من الحكام الأعلام .. 4 - آخر الرسالة: فأهل المذهب الشريف لا يجعلون حكمه حكمًا، ولا يمنعون من نقضه إذا خالف الحق، ونصوصهم على هذه مدونة في كتبهم المباركة، وفي هذا المقدار كفاية في مسألة السؤال. انتهى. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - الناسخ: المؤلف رحمه الله. محمد بن علي الشوكاني. 7 - عدد الصفحات: (7) صفحة. 8 - عدد الأسطر في الصفحة: (20 - 21) سطرًا. 9 - عدد الكلمات في السطر: (9 - 10) كلمة. 10 - الرسالة من المجلد الثانيب من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

[بسم الله الرحمن الرحيم] وبعد حمد الله حق حمده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله. فإنها لما وقعت المذاكرة من جماعة من الحكام الأعلام، في كلام أهل المذهب الشريف أنه: لا ينقض حكم الحاكم إلا بدليل علمي. فقلت: إن المراد بهذا الحكم (¬1) الذي لا يحل نقضه إلا ................................ ¬

(¬1) الحكم في اللغة: القضاء والفصل لمنع العدوان ومنه قوله تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء: 105]. وقوله تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق} [ص: 26]. ويطلق الحكم ويراد به العلم والفقه ومنه قوله تعالى: {وآتيناه الحكم صبيًا} [مريم: 12]. قال ابن الأثير في «النهاية» (1/ 419): «الحكم: العلم والفقه والقضاء بالعدل». وقال صاحب «المصباح المنير» (ص56): الحكم: القضاء وأصله المنع يقال حككمت عليه بكذا إذا منعه من خلافه فلم يقدر على الخروج من ذلك. ومنه اشتقاق الحكمة؛ لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل. ومعنى ذلك في الحكم الشرعي: أنه إذا قيل: «حكم الله في المسألة الوجوب» فإن المراد من ذلك أنه سبحانه قضى فيها بالوجوب ومنع المكلف من مخالفته. - الحكم في اصطلاح الأصوليين: الحكم الشرعي: خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء، أو التخيير أو الوضع. أنواع الحكم الشرعي: 1 - الحكم التكليفي: وهو خطاب الله تعالى المتعلق بفعل المكلف بالاقتضاء أو التخيير. - وله خمسة أقسام: واجب، ومندوب، ومباح، ومكروه، ومحظور. 2 - الحكم الوضعي: هو خطاب الله المتعلق بجعل الشيء سببًا لشيء آخر، أوشرطًا له، أو مانعًا منه، أو كون الفعل صحيحًا، أو فاسدًا، أو رخصة، أو عزيمة، أو أداء، أو إعادة، أو قضاءً. وله أقسام عشرة: السبب، والشرط، والمانع، والصحة، والبطلان، والعزيمة، والرخصة، والاداء، والقضاء والإعادة. الفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي: 1 - الحكم الوضعي الخطاب فيه هو: خطاب إخبار وإعلام جعله الشارع علامة على حكمه، وربط فيه بين أمرين بحيث يكون أحدهما سببًا للآخر أو شرطًا أو مانعًا منه. أما الحكم التكليفي فالخطاب فيه خطاب طلب الفعل، أو طلب الترك: أو التخيير بينهما، فخطاب التكليف هو طلب أداء ما تقرر بالأسباب والشرط والموانع. 2 - الحكم التكليفي يشترط له أن يستطيع المكلف فعله أي: يقدر على فعله، أما الحكم الوضعي فلا يشترط فيه قدرة المكلف عليه: فقد يكون مقدورًا للمكلف، وقد يكون غير مقدور للمكلف. مثال: ما لا يقدر المكلف عليه: دلوك الشمس الذي هو سبب لوجوب الصلاة. مثال: ما يقدر المكلف عليه: السرقة التي هي سبب في قطع اليد. 1 - أن الحكم التكليفي لا يتعلق إلا بفعل المكلف وهو من توفرت فيه شروط المكلف وهو كونه عاقلًا يفهم الخطاب. أما الحكم الوضعي فإنه يتعلق بفعل المكلف وغير المكلف كالصبي والمجنون والنائم والناسي. 1 - أن الحكم التكليفي لا يتعلق إلا بالكسب والمباشرة للفعل من الشخص نفسه بمعنى: أن المكلف فيه إذا عمل عملًا موافقًا لأمر فإنه يؤجر عليه، وإذا عمل عملًا مخالفًا لذلك فإنه يعاقب عليه. أما الحكم الوضعي فلا ينطبق عليه ذلك فقد يعاقب أناسًا بفعل غيرهم ولهذا وجبت الدية على العاقلة. 2 - أن الحكم التكليفي يشترط فيه: أن يكون معلومًا للمكلف، وأن يعلم أن التكليف به صادر من الله عز وجل. أما الحكم الوضعي فلا يشرط فيه علم المكلف فلذلك يرث الإنسان بدون علمه، وتحل بعقد وليها عليها. 3 - أن خطاب التكليف هو الأصل، وخطاب الوضع على خلافه فالأصل أن يقول الشارع: «أوجبت عغليكم أو حرمت» وأما جعله الزنا والسرقة علماًا على الرجم والطقع فبخلاف الأصل ولذلك يقدم الحكم التكليفي على الحكم الوضعي عند التعارض، لأنه الأصل. ومن العلماء من يقدم الوضعي، لانه لا يتوقف على فهم وتمكن. انظر «البحر المحيط» (1/ 128 - 130)، «الكوكب المنير» (1/ 333 - 336).

بدليل علمي (¬1) هو ما كان حكمًا ناجزًا مستندًا إلى العلم، لا ما كان حكمًا مشروطًا، أو مستندًا إلى الظنِّ؛ فإنه يجوز نقضه بحجة أقوى منه. فطلب بعض الحكام - أبقاهم الله - النقل عن أهل المذهب الشريف في ذلك. فأقول: قال الإمام المهدي - عليه السلام- في (البحر الزخار) (¬2) ما لفظه: «فصل: ولا ينقض حكم إلا أن يخالف قاطعًا؛ إذ لا يبطل العلم بالظن» انتهى فهذا التعليل يدل على أن الحكم مستنده أمرٌ يفيد العلم؛ إذ لا يكون الحكم معلوماً، ¬

(¬1) إذا كان الحكم معتمدًا على دليل قطعي من نص أو إجماع أو قياس جلي فلا ينقض، لأن نقضه إهمال للدليل القطعي، وهو غير جائز أصلًا. وإما إذا خالف الحكم دليلًا قطعيًا، فينقض بالاتفاق بين العلماء، سواء من قبل القاضي نفسه، أو من قاض آخر، لمخالفته الدليل. فإن كان الحكم في غير الأمور القطعية، وإنما في مجال الاجتهادات أو الأدلة الظنية فلا ينقض. حتى لا تضطرب الأحكام الشرعية أو تنعدم الثقة بأحكام القضاء وتبقى الخصومات وتبقى الخصومات على حالها بدون فصل زمانًا طويلًا. قال ابن قدامة في «المغنى» (14/ 34 مسألة رقم 1868): وجملة ذلك أن الحاكم إذا رفعت إليه قضية قد قضى بها حاكم سواه، فبان له خطؤه أن بان له خطأ نفسه، نظرت؛ فإن كان الخطأ لمخالفة نصِّ كتاب أو سنةٍ أو إجماع نقض حكمه، وبهذا قال الشافعي وزاد: إذا خالف قياسًا جليًا نقضه. وقد كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى - كتااب القضاء المشهور - وقد بين فيه عمر آداب القضاء، وصفة الحكم وكيفية الاجتهاد واستنباط القياس:» .. ولا يمنعك قضاءً قضيت فيه اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديمٌ ومراجعة الحقِّ خير من التمادي في الباطل .. ». أخرجه الدار قطني في «السنن» (4/ 206، 207 رقم 15) والبيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 115). (¬2) (5/ 135 - 136)

ومستنده مظنونًا، لأن الظنِّ لا يحصل عنه الإ الظنُّ، ولا يخفى على عارف أنه لا يستفاد من شهادة العدلين، إلا مجرد الظن، وكذلك لا يستفاد من يمين المدِّعّى عليه ونكوله إلا مجرَّد الظنِّ. فالحكم المستند إلى هذه الأمور ليس بمعلوم، حتى يقال فيه إنه لا يبطل العلم بالظنِّ. وإذ لم يكن معلومًا، بل مظنونًا جاز نقضه [1أ] بما يفيد العلم، بل وبما يفيد ظنًّا أقوى من الظنِّ الذي استند الحكم إليه فهذا حاصل ما يستفاد من كلام (البحر). ومن زعم أن الحكم المستند إلى الأشياء المظنونة يكون معلومًا، فقد أخطأ؛ لأن الأشياء المستفادة حكمها حكم أسبابها، ولا يمكن أن تكون المسببات معلومة، وأسبابها مظنونة (¬1). ومما يؤيد هذا أنه قد تقرر لأهل المذهب الشريف أنه يجوز للحاكم أن يحكم بشهادة الشهود، وإن لم يظن صدقهم، بل يكفي مجرد ألا يظن الكذب، فهذا الحاكم الذي حكم مع عدم حصول ظنِّ الصدق لا يقول عاقل أن يكون حكمه معلومًا، بل لا يقول إنه يكون حكمه مظنونًا ظنًا صحيحًا، ولكنه لما وجد المستند الشرعي وهو الشهادة جاز له الحكم مع أنه لو قال له قائل: هل صار هذا الحكم الذي صدر عنك بمجرد شهادة لم تظن صدقها مظنونًا لديك؟ لقال: لا؛ لعدم حصول الظن بصدق السبب، فإذا قيل له: فكيف حكمت حكمًا لا تظن صحته؟ قال: وجد السبب الشرعي، وهو الشهادة، ولم يوجد المانع، وهو ظن الكذب ففعلت ما يجوز لي [1ب]. ومثل كلام (البحر الزخار) كلام (شرح الأثمار) (¬2)؛ فإنه قال فيه (في شرح قول صاحب ................. ¬

(¬1) انظر: «المغني» (14/ 34)، «تبصرة الحكام» (1/ 82 - 85). (¬2) وله شروح منها: شرح محمد بن يحيى بهران، ويحيى المقرابي.

الأثمار (¬1): فصل: (ولا ينقض حكم إلا بنحو مخالفته لقاطعٍ) ما لفظُه: «أي لا يجوز نقض حكم حاكم لا للذي حكم به، ولا لحاكم (¬2) غيره، إلا إذا كان مخالفًا لدليل قاطعٍ من قرآن صرحي لا يحتمل التأويل، أو خبر نبوي متواتر صحيح، إن إجماع قطعي، فهذا يجب نقضه على الحاكم الذي حكم به، ويجوز ذلك لغيره، وقد يجب أيضًا. وما لم يكن كذلك لم يجز نقضه، إذا القطعي لا ينقض بالظن» انتهى. فانظر كيف جعل العلة المانعة من النقض هي كون الحكم قطعيًا، وقطعيته إنما يكون باعتبار قطعية سببه! إذ لا يكون الشيء قطعيًا، وسببه ظنيًا وهذا معلومٌ بالعقل. وقال في «الغيث» (¬3) ما لفظه: «تنبيه» أما إذا عرضت دعوى في شيء قد حكم به حاكمٌ، فأما أن يكون ذلك الحكم مضافًا إلى سببٍ أو لا. إن كان غير مضافٍ بل حكم لزيدٍ بالملك المطلق، ثم ¬

(¬1) وهو الإمام يحيى شرف الدين بن شمس الدين الحسني اليمني ولد بحصن حضور الشيخ من أعمال كوكبان شبام. سنة 877هـ، توفي سنة 965هـ دفن بحصن الضفير. من مؤلفاته: «الأحكام في أصول المذهب»، «شرح خطبة الآثار»، «الأثمار في فقه الأئمة الأطهار» (مختصر «الأزهار») للإمام المهدي وهو أشهر كتب فقه الزيدية باليمن. انظر: «مؤلفات الزيدية» (1/ 44)، «أعلام المؤلفين الزيدية» (ص1134). (¬2) قال في «شرح فتح القدير» (7/ 282): وإذا رفع القاضي حكم حاكم أمضاه إلا أن يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع بأن يكون قولًا لا دليل عليه. (¬3) الغيث المدرار المفتح لكمائم الأزهار». تأليف الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضي الحسني. وهو شرح على كتاب المؤلف «الأزهار في فقه الأئمة الأطهار» في أربع مجلدات قيل بدأ به المؤف في السجن سنة 796هـ وقد تحدث فيه عن كل مسألة وردت في الأصل مع ذكر الأدلة والأقوال. انظر: «أعلام المؤلفين الزيدية» (ص 206). «مؤلفات الزيدية» (2/ 297).

أدعى آخر أنه شراءه من مالكه، أو نحو ذلك، فها هنا لا ينقض الحكم، ولو قامت البينة بذلك. ذكره المؤيد بالله في (الزيادات)، لأن الحكم يقابل تلك البينة، إلا أن يدعي الانتقال بعد حكم الحاكم من المحكوم له [2أ]، وأما إن أضاف حكمه إلى سبب نحو أن يحكم لزيدٍ بملك هذه الدار بحق الشراء من عمرو، ثم قامت شهادة بخلاف ذلك نظر في البينتين، فإن كانت لا حكم معها متقدمة على بينة الحكم نقض، ومثاله أن يشهد الشهود أن بائعها زيد أقر بها لآخر قبل بيعه، أو وهبها أو نحو ذلك، فإن كانت بينة الحكم لا تبطل نحو أن يدَّعى أحدهم شراءها من مالكها، وهو زيد، وحكم له، والآخر من مالكها وهو عمرو، ولا تاريخ لأيهما، فإن الحكم لا ينقض، لأن مع كل واحد منهما بينة؛ لكن رجحنا البينة التي معها الحكم. وكذا إذا كانت المسألة خلافية كبينة الداخل والخارج، فإن الحكم لا ينقض ... ». انتهى كلام الغيث للإمام (¬1) -عليه السلام-. وقد استفدنا منه أن الحكم الذي لا يجوز نقضه إنما هو المطلق، لأنه ناجزٌ غير مضاف إلى سبب يقتضي أن يكون الحكم مشروطًا بصحة كون ذلك السبب سببًا. وأما إذا كان مضافًا إلى سبب فإنه يجوز نقضه بما يوجب بطلان سببية ذلك السبب من الأصل كما تقدم في شهادة إقرار البائع بخروج المبيع من ملكه قبل صدور البيع منه إلى المشتري الذي أقام البينة على الشراء. وهكذا يجوز نقض الحكم المضاف [2ب] إلى سبب بمستندٍ أرجح من سند الحكم كما يفيد كلام (الغيث) (¬2) المذكور. ومثل الصورة التي مثل بها صاحب الغيث في الشهادة المتقدمة الصورة التي عرضت المذاكرة فيها، وهي استناد الحكم إلى شهادة الإقرار بأن الدين على فلان لفلان، ثم قيام ¬

(¬1) الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى الحسني تقدمت ترجمته. (¬2) تقدم ذكره.

شهادة أخرى محققه أن ذلك الإقرار صدر عن تواطؤ بين المقر والمقر له أن الإقرار ليس على حقيقته، بل المال للمقر، وإنما كان الإقرار لغرض. فإن الشهادة على التواطؤ تقضي ببطلان السبب الذي استند إليه الحكم، وهو الإقرار. ولكن هذا إذا صحت الشهادة على التواطؤ، وسلمت عن القادح. ومن النصوص المقتضية لما ذكرناه في (شرح الأزهار) (¬1) ولفظه: «وكذا لو قامت بينة أخرى تنقض بينة الحكم فإنه يحكم بها. نحو أن تقوم بينة بأن هذه الدار لزيد، اشتراها من عمرو، ثم تقوم بينة أن عمرو أقر بها للمبين الآخر قبل ذلك الشراء؛ فإن هذه البينة الأخيرة تقنض الحكم الأول» انتهى. وقد ذكر صاحب (البيان) (¬2) كلامًا مفصلًا مفيدًا ولفظه: «مسألة: الحكم على وجوه ثلاثة: الأول: ينفذ فيه ظاهرًا لا باطنًا (¬3) وفاقًا، وهو في صور أربع [3أ]. ¬

(¬1) تقدم ذكره. (¬2) انظر: «مؤلفات الزيدية» (1/ 222 - 223) (¬3) قال جمهور العلماء: قضاء القاضي ينفذ ظاهرًا لا باطنًا، لأنا مأمورون باتباع الظاهر، والله يتولى السرائر فلا يحل هذا الحكم حرامًا ولا يحرم حلالاً، فلو حكم بشهادة شاهدين ظاهرهما العدالة لم يحصل بحكمه الحل باطنًا، سواء في المال وغيره لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته، من بعض، فأقضى له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له م حق أخيه بشيء فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار». أخرجه البخاري رقم (2458) و (7181) ومسلم رقم (5، 6/ 1713) من حديث أم سلمة رضي الله عنها. وقال أبو حنيفة: إذا حكم الحاكم بعقد أو فسخ أو طلاق، نفذ حكمه ظاهرًا وباطنًا، لأن مهمته القضاء بالحق، وأما الحديث فهو في قضية لا بينة فيها. وعلى هذا إذا ادعى رجل على امرأة أنه تزوجها، فأنكرت فأقام على زواجها شاهدي زور، فقضى القاضي بالنكاح بينهما، وهما يعلمان أنه لا نكاح بينهما، حل للرجل وطؤها، وحل لها التمكين عند أبي حنيفة خلافًا للجمهور. ومثله لو قضى بالطلاق فرق بينهما عنده، وإن كان الرجل منكرًا، ويقاس عليه البيع ونحو. والخلاصة: إن القاضي في قول أبي حنيفة ينفذ قضاؤه ظاهرًا حيث كان المحل قابلاً لذلك كالعقود والفسوخ، والقاضي غير عالم بزور الشهود، وهذا القول وإن كان هو الأوجه في مذهب أبي حنيفة، إلا أن المفتي به عندهم هو قول الصاحبين الموافق لبقية الأئمة وهو أن قضاء القاضي ينفذ ظاهرًا فقط لا باطنًا أي ليس الحلال عند الله هو ما قضى به القاضي، بل ما وافق الحق. انظر: «البدائع» (7/ 15) «المغني» (14/ 34).

الأولى: فيما يحكم به تقريرًا ليد المدعى عليه، حيث حلف عليه، فإذا قامت الشهادة بعد الحكم قبلت. الثانية: في القصاص إذا حكم بوجوبه، وهو ساقط. الثالثة: ما كان فيه سببًا للتحريم كالحكم بزوجية امرأة لرجل وهي رضيعةٌ له في الباطن، أو كافرةٌ، ونحو ذلك. الرابعة: فيمن حكم له بشيء مطلقًا، وهو في الباطن لغيره .. » والذي يتعلق بمحل السؤال هو ما ذكرناه؛ فإنه صرح في الصورة الأولى أن البينة مقبولة مع أن الحاكم قد حكم بمستند شرعي، وهي يمين المدعي عليه (¬1). وكذلك في الصورة الثانية (¬2)، فإن ظاهره أنه إذا حكم الحاكم بالقصاص بأي مستند كان، ثم ظهر مستندٌ آخر يقتضي سقوط القصاص، أنه يجب الانتقال عن الحكم، ويتوجَّه نقضه؛ لأن شهادة ا لسقوط قد رفعت السبب، الذي كان مستندًا للحكم. وعلى الجملة: إن كتب المذهب الشريف مشحونة بما قدمنا ذكره من أن الحكم الذي لا يجوز نقضه هو ما كان حكمًا قطعيًا لا ظنيًا، ومعلومًا لا مظنونًا، ومطلقًا لا مقيدًا ¬

(¬1) الذي أخرج البخاري رقم (4552) و (2514 و2268) ومسلم رقم (1711) من حديث ابن عباس رضي الله عنه ان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لو يعطى الناس بدعواهم لا دعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدَّعى عليه». (¬2) انظر تفصيل ذلك في «البحر الزخار» (5/ 137).

بسبب من الأسباب، فإذا جمع الحكم هذه القيود، فهو الحكم الذي لا يجوز نقضه وإن اختل [3ب] شيء منها جاز نقضه، فهذا كلام أهل المذهب الشريف في كتبهم المعتبرة كما سمعت، وما لم يذكر من كتبهم فيه مثلما ذكر الحكم. قلت: وأرجح الأقوال ما حكاه الإمام المهدي في (البحر الزخار) (¬1) عن الإمام الأعظم يحيى بن حمزة - سلام الله عليه- أن الحكم إذا كان عن قياس خالف نصًّا صريحًا، ولو آحاديًا جاز نقضه. ووجه ذلك أنه قد صرح أئمة الأصول من أهل البيت - سلام الله عليهم-، ومن غيرهم أن القياس مع النص الصريح فاسد الاعتبار، لا يجوز العمل به، ولا يحل التعويل عليه. وهكذا إذا كان مستندًا لحكم دون المستند الذي يخالفه كائنًا ما كان. وقد ذكرت الأدلة على ما ذهب إليه الإمام يحيى في غير هذا الموضع، ولا يتسع المقام لبسطها، إذ المطلوب هو تبيين كلام أهل المذهب الشريف. ومما ينبغي التنبيه له: أن نصوص المذهب قاضية بأن الحاكم الذي لا يجوز نقض حكمه هو حاكم المجمع عليه، الذي كملت له الشروط المعتبرة، وأما من كان فاقدًا لبعض تلك الشروط أو لغالبها، فأهل المذهب الشريف لا يجعلون حكمه حكمًا، ولا يمنعون من نقضه إذا خالف الحق (¬2). ¬

(¬1) (5/ 135 - 136). (¬2) إذا صدر الحكم القاضي مستوفيًا شروط صحته من حيث صيغته ومن حيث سلامته مما يدعو إلى نقضه كان حكمًا لازمًا واجب التنفيذ، وإذا أعيد النظر فيه، فإن كان مستحقًا للنقص، نقص وإلا أبرم. قواعد وضوابط يسترشد بها القاضي المختص فينقض في ضوئها بعض الأحكام ويبرم البعض الآخر: القاعدة الأولى: الاجتهاد لا ينقض بمثله، ويترتب على ذلك أمران: أ- أن ما حكم به القاضي بناء على اجتهاده السائغ المقبول في المسائل الاجتهادية، ليس له نقضه باجتهاده الجديد في المسألة التي حكم فيها. ب- لا يسوغ لأي قاضٍ أن ينقض باجتهاده حكمًا اجتهاديًا أصدره قاضٍ آخر ما دام هذا الحكم قد صدر عن اجتهاد سائغ مقبول، لأن الاجتهاد السابق لا ينقضه اجتهاد لاحق من قاض آخر، لأنه لا مزية لاجتهاد الثاني على اجتهاد الأول ما دام الأثنان سائغين. وإذا نقض القاضي الثاني باجتهاده حكم القاضي الأول الذي أصدره باجتهاده كان نض الثاني مستحقًا للنقض، لأن القضاء في المسائل الاجتهادية حسب اجتهاد القاضي هو قضاء نافذ بالإجماع فلا يجوز التعرض له بالنقض من قبل قاضٍ آخر يريد نقضه بحجة أنه مخالف لاجتهاده هو. وفائدة هذه القاعدة: تؤدي إلى استقرار الأحكام ووثوق الناس بها وإنهاء الخصومات، وقطع الطريق على حكام السوء الذي قد يتذرعون بالاجتهاد لنقض أحكامهم أو لنقض أحكام غيرهم وهم في الحقيقة يريدون محاباة من يكون النقض لمصلحتهم لذلك نقل عن بعض فقهاء الزيدية في هذا المعنى: «إذا أخطأ الحاكم فحكم بخلاف اجتهاده هو مما يجوز على قول بعض المجتهدين فإنه لا ينسخه، ويحكم بالمستقبل بما يؤدي إليه اجتهاده والوجه في عدم النقض ما يؤدي إليه من التسلسل بنقض النقض من الآخرين فتفوت مصلحة نصب الحاكم من فصل الخصومات لعدم الوثوق بالحكم». - القاعدة الثانية: السوابق القضائية لا تفيد القاضي ولا تلزمه إذا قضى القاضي في مسألة اجتهادية بحكم معين، فإنه لا يتقيد به في القضايا المماثلة للقضية الأولى، فله أن يحكم فيها بحكم جديد إذا تغير اجتهاده في هذه القضايا وبالتالي لا يجوز له أن ينقض حكمه الجديد بحجة حكمه القديم، وكذلك لا يجوز لغيره من القضاة نقض حكمه القديم بحجة اجتهاده الجديد، لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله ثم لا يجوز لغيره من القضاء نقض حكمه القديم بحجة اجتهاده الجديد، لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله ثم لا يجوز لغيره من القضاة نقض حكمه الجديد بحجة مخالفته لحكمه القديم لأن السوابق القضائية لا تقيد القاضي. - القاعدة الثالثة: ينقض الحكم المخالف للنص أو الإجماع، فإذا حكم القاضي بحكم يخالف نص القرآن أو السنة الصحيحة أو الإجماع فإن هذا الحكم يستحق النقض. وقد أضاف القرافي في فروقه (4/ 40): أن من موجبات النقض مخالفة الحكم للقياس الجلي السالم عن المعارضة أو مخالفته لقاعدة من القواعد العامة الشرعية السالمة عن المعارض وبناء على ما تقدم، فإن حكم القاضي إذا رفع القاض آخر لينقضه، فإنَّه ينقضه إذا خالف ما ذكرناه، ويمضيه ويبرمه إذا لم يخالف ذلك. - القاعدة الرابعة: تنقض أحكام قضاة الجور والسوء إذا كانت جائرة، ذهب جمهور المالكية إلى أن القاضي الجائر في أحكامه، إذا كان معروفًا في ذلك وكان غير عدل في سيرته وحاله، وسواء كان ذا علم أو ذا جهل فإن أحكامه ترد وتنقض سواء كانت في حقيقتها صوابًا أو خطأ لأنه لا يؤمن حيفه إلا ما عرفنا من أحكامه أن حكمه صواب، والبينة التي استند إليها حكمه بينة سليمة مستقيمة عادلة، فإن حكمه صواب والبينة التي استند إليها حكمه بينة سليمة مستقيمة عادلة، فإن حكمه هذا يمضي ولا يرد. وقال بعض فقهاء المالكية، في القاضي الجائر ثلاثة أقوال: الأول: تنقض أحكامه مطلقًا وهذا قول ابن القاسم. الثاني: حمل أقضيته على الصحة ما لم يثبت الجور. الثالث: يمضي من أحكامه ما عدل فيه ولم تحصل فيه ريبة ويفسخ ما ثبت فيه الجور والريبة. والأولى: أن القاضي الجائر المعروف بالجور والسوء يستحق العزل حالًا لتخليص الناس من جوره .. ». - القاعدة الخامسة: التهمة تؤثر في حكم القاضي وتعرضه للنقض قال القرافي في «الفروق» (4/ 43): «إن التهمة تقدح في التصرفات إجماعًا مثل: حكم القاضي لنفسه. فإن هذا الحكم ينقض بلا خلاف بين الفقهاء؛ وتعليل هذا المسلك الذي نقول به أي نقض الأحكام للتهمة المعتبرة دون حاجة إلى فحصها، هو لضبط الأحكام، وفإن هذا الحكم ينقض بلا خلاف بين الفقهاء؛ وتعليل هذا المسلك الذي نقول به أي نقض الأحكام للتهمة المعتبرة دون حاجة إلى فحصها، هو لضبط الأحكام، وإبعاد الحكام عن مواطن الشكوك، وجعل الناس يثقون بحكامهم ويطمئنون بأحكامهم. - القاعدة السادسة: تدقق أحكام قليل الفقه ومن لا يشاور فيبرم منها الصحيح وينقض منها ما كان خطأ بينًا. - القاعدة السابعة: إذا كان الحكم المنقوض صحيحًا فإن الحكم الناقض ينقض ويبرم الحكم المنقوض. أنظر تفصيل ذلك في: «أدب القضاء» لابن أبي الدم (ص125). «تبصرة الحكام» لابن فرحون (ص70 - 75). «الفروق» للقرافي (4/ 40 - 45). «الفتاوى الهندية» (3/ 356). - الجهة التي لها حق النقض والإبرام: 1 - ينقض الحكم من أصدره - وقد تقدم. 2 - ينقض الحكم غير من أصدره كما أن للقاضي الذي أصدر الحكم أن ينقض حكم نفسه، فإن لغيره من القضاة أن ينقضوا أحكام غيرهم، إذا رفعت إليهم هذه الأحكام، أو نظروها من تلقاء أنفسهم. 3 - هل تنقض الأحكام وتبرم بطلب أو بدونه: 4 - للقاضي الذي أصدر الحكم أن ينقضه بنفسه إذا ظهر له مخالفته لنص الكتاب أو السنة .. ومعنى ذلك أن هذا النقض يتم بدون طلب من أصحاب الشأن ويجوز من باب أولى أن ينقضه إذا طلب ذلك أصحاب الشأن والعلاقة بالحكم. 5 - لا يجب على القاضي الجديد أن ينظر أحكام القاضي السابق الذي حل هو محله في وظيفته، لأن الظاهر جريان أحكام القاضي السابق على وجه الصحة والصواب إلا إذا تظلم محكوم عليه من حكم أصدره عليه القاضي السابق. 6 - إذا لم يطلب القاضي من أحد من أصحاب الشأن النظر في أحكام من سبقه، وأراد القاضي أن يتعقب أحكام من سبقه ويتفحصها، فله ذلك فما رآه من هذه الأحكام موافقًا للشرع أمضاه وأبرمه وما كان مخالفًا للشرع على وجه لا يسوغ قبوله وكان في حق الله تعالى نقضه، لأن له النظر في حقوق الله تعالى، وإن كان الحكم في حق آدمي لم ينقضه. - ضرورة تنظيم نقض الأحكام وإبرامها إلى جهات متعددة وإلى القاضي الذي أصدر الحكم، وعدم وجود جهة مختصة لها وحده حق نقض الأحكام وإبرامها، أن حالة كهذه تؤدي إلى شيء من المتاعب لأصحاب الحقوق كما تؤدي إلى عدم استقرار الأحكام وإلى اضطراب تنفيذها لذلك نستخلص أنه من الممكن لولي الأمر أن يعين ثلاثة أنواع من القضاة ويجعل اختصاصهم على النحو التالي: النوع الأول: قضاة يصدرون الأحكام في الدعاوي التي ينظرونها ولا يحق لهم إعادة النظر فيها لأي سبب كان ونسميهم اصطلاحًا «قضاة الدرجة الأولى». النوع الثاني: قضاة ينظرون في أحكام قضاة الدرجة الأولى، كلها أو بعضها ويكون من صلاحيتهم إبرام وتأييده هذه الأحكام، ونسمى هذا النوع من القضاة «قضاة الدرجة الثانية». النوع الثالث: قضاة ينظرون في بعض أحكام قضاة الدرجة الأولى وفي جميع أو معظم أحكام قضاة الدرجة الثانية فما رأوه موافقًا للشرع أبرموه وما كان مخالفًا للشرع نقضوه، ونسميهم «قضاة الدرجة الثالثة». انظر: «الفروق» (4/ 41)، «تبصرة الحكام» (1/ 77).

ونصوصهم على هذه مدونة في كتبهم المباركة، وفي هذا المقدار كفاية في مسألة السؤال. انتهى.

رفع الخصام في الحكم بعلم الحكام

رفع الخصام في الحكم بعلم الحكام تأليف الإمام محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط 1 - عنوان الرسالة (رفع الخصام في الحكم بعلم الحكام). 2 - موضوع الرسالة: أصول الفقه. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم أحمدك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وأصلي وأسلم على رسولك وآل رسولك وبعد: فإنه وصل هذا السؤال ... 4 - آخر الرسالة: . حدس قوي بالمشابهة، وفي هذا كفاية لمن له هداية حرره المجيب محمد الشوكاني في الثلث الأخير من ليلة الجمعة لعله ثاني وعشرين شهر رمضان سنة (1215هـ). 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - الناسخ: المؤلف- رحمه الله- محمد بن علي الشوكاني. 7 - عدد الصفحات: صفحة واحدة للسؤال. (14) صفحة للرسالة. 8 - عدد الأسطر في الصفحة: 9 - 24 سطرًا. 9 - عدد الكلمات في السطر: 11 - 12 كلمة. 10 - الرسالة من المجلد الثاني من (الفتح الرباني من فتح الشوكاني).

[السؤال] الحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. سيدنا القاضي العلامة، وبركتنا بقية أهل الفضل والاستقامة، بدر الإسلام: محمد ابن علي الشوكاني- حفظه الله تعالى، وأحله فيما يرضاه أعلا المباني وأتحفه بسلامه، وبجزيل رحمته وبركاته، كل صباح واصيل-. نعم - أبقاكم الله- حصلت مراجعة بيننا وبين سيدنا العلامة الناسك الحسن بن علي حنش (¬1) -عافاه الله- في «حكم الحاكم بعلمه» وأعلمناه بما علمناه منكم في ذلك، وأن ذلك وجه لديك راجحٌ، وأجمع الرأي مناقضته استحالة الفائدة وطلب العائدة من إحسانكم بتبيين الدليل على أرجحية ذلك من باب قوله تعالى: {قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} (¬2) وإلا فما أرى - بل المقطوع به- لا تقررون إلا ما قد تقرر لدينا بالدليل، ولكن أردنا هذا فأحسنوا - أجزل الله مكاناتكم- برقمه بعد هذا- دامت فوائدكم وأمتعنا الله بحياتكم- وسلامه عليكم. وصلى الله على محمد وآله وسلم، وحسبي الله وكفى، ونعم الوكيل [1أ]. ¬

(¬1) الحسن بن علي بن الحسن ... بن أحمد بن حنش ولد بشهارة سنة 1153هـ ورحل من وطنه لطلب العلم إلى مدينة صنعاء فأخذ عن جماعة من أعيانها كالسيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير في الحديث .. توفي سنة 1225هـ بصنعاء. انظر: «البدر الطالع» رقم (130). «نيل الوطر» (1/ 348 - 352). (¬2) [البقرة: 260].

[جواب الإمام الشوكاني] رفعُ الخصام في الحكم بعلم الحكام بسم الله الرحمن الرحيم أحمدك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلَّي وأسلَّم على رسولك، وآل رسولك وبعدُ: فإنه وصل هذا السؤال من سيدي العلامة المفضال، جمال الكلمات عليِّ بن إسماعيل ابن علي (¬1) لا برح في مقام من طلب الحق عليَّ وأقول: ينبغي -أولاً- أن يعلم أن الله - سبحانه- قد صرح في كتابه الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بالمنع من العمل بالظنِّ واتِّباعه، وذمِّ من يتمسك به -في الدين- بأبلغ ذم. فمن ذلك قوله تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وإنَّ الظن لا يغني من الحق شيئا} (¬2). وقوله تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس} (¬3). وقوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرً من الظن إن بعض الظن ............................ ¬

(¬1) السيد علي بن إسماعيل بن علي القام بن محمد ولس سنة 151هـ بشهارة ونشأ بها وقرأ العلوم الأدبية والفقه. وهو حسن المحاضرة لا يمل جليسه لما يورده من الأخبار والأشعار والمباحثات العلمية والاستفادة فيما لم يكن لديه منها وتحرير الأسئلة الحسنة وقد كتب إلي -أي إلى الشوكاني- من ذلك شيئًا كثيرًا، وأجبت عليه برسائل هي في رسائلي- «الفتح الرباني». «البدر الطالع» ترجمة رقم (312)، «التقصار» (ص390)، «نيل الوطر» (2/ 125). (¬2) [النجم: 28] (¬3) [النجم: 23].

إثم} (¬1). وقوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} (¬2). وقوله تعالى: {ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون} (¬3). وقوله تعالى: {إن نظن إلا ظنًا وما نحن بمستيقنين} (¬4). وقوله تعالى: {وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرادكم} (¬5). وقوله تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} (¬6). فهذه الآيات الكريمة - ونحوها - في الكتاب العزيز قاضية بالمنع من العمل بمجرد الظن، وذم فاعله، والنهي عن أتباعه، وأنه لا يغني من الحق شيئًا. فيجب البقاء على هذه النصوص، ولا يجوز العمل بشيء من الظن في الدين كائنًا ما كان، إلا أن يرد [1ب] دليل يبخصه، ويسوغ العمل به. وقد ورد في السنة المطهرة ما لا يتسع المقام لبسطه، مما يتضمَّن النهي عن العمل بالظن وأتباعه، وأنه من أكذب الحديث (¬7). وبالجملة: فلا يشك عالم من علماء الشريعة أن هذه الأدلة تفيد أن الأصل الأصيل ¬

(¬1) [الحجرات: 12] (¬2) [الإسراء: 36] (¬3) [الزخرف: 20] (¬4) [الجاثية: 32] (¬5) [فصلت: 33] (¬6) [الحج: 8] (¬7) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (6064) ومسلم رقم (2563) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث»

العمل بالعلم (¬1)، وأن العمل بالظن لا يجوز إلا بدليل يدل عليه، فإن لم يوجد الدليل الذي يدل عليه كان العمل به غير جائز. الوقوف عند العلم هو الواجب، وهذا مالا يظن بأحد إنكاره، ولا مدافعته. فإذا تقرر [هذا] (¬2) فالقاضي أمره الله -سبحانه- في محكم كتابه أن يحكم بين عباده بالحق، والعدل، والقسط. فلو فرضنا عدم ورود ما يدل على جواز الحكم بشيء مما يفيد الظن؛ لكان الواجب عليه أن لا يقضي إلا بالعلم الحاصل له (¬3) بالأسباب، المفيدة ¬

(¬1) ما المقصود بعلم القاضي؟ هو علمه بوقائع الدعوى وأسباب ثبوتها. (¬2) زيادة يستلزمها السياق. (¬3) العلم الحاصل للقاضي له حالتان: الحالة الأولى: علم القاضي الذي حصل عليه في مجلس القضاء، إذا حصل القاضي على علمه بوقائع الدعوى وأسباب ثبوتها في مجلس القضاء، كما أقر المدعي عليه بالدعوى، أو نكل عن اليمين بعد أن وجهها إليه القاضي، فإن القاضي يحكم بموجب علمه بوقائع الدعوى ودلائل ثبوتها، ولا يشترط أن يشارك القاضي في علمه وسماعه لوقائع الدعوى ودلائل ثبوتها في مجلس القضاء شاهدان أو أكثر، هذا ما نص عليه الإمام أحمد وهو ما قال به الشافعية أيضًا محتجين بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: كما في الحديث: «فإن اعترفت فارجمها» ولم يفيده بأن يكون اعترافها - أي بالزنا- بحضور الناس أو بحضور شاهدين أو أكثر. قال ابن قدامة في «المغني» (14/ 33): ولا خلاف في أن للحاكم أن يحكم بالبينة والإقرار في مجلس حكمه، إذا سمعه معه شاهدان، فإن لم يسمعه معه أحدٌ، أو سمعه شاهد، فنص أحمد على أنه يحكم به، وقال القاضي: لا يحكم به حتى يسمعه معه شاهدان، لأنه حكم بعلمه. وانظر: «فتح الباري» (3/ 139). الحالة الثانية: هي علم القاضي المتحصل عنده خارج مجلس القضاء كما لو سمع القاضي شخصًا يطلق أمرأته ثلاثًا خارج مجلس القضاء، أو رأى القضاء شخصًا أتلف مال شخص خارج مجلس القضاء فهل يجوز أن يحكم بما علمه؟؟ قد اختلف أهل العلم في جواز القضاء من الحاكم بعلمه، وفي ذلك أقوال منها: 1 - القول الأول: أصحابه وهم الشافعية يفرقون بين حقوق الآدميين وحقوق الله تعالى فإذا كانت الدعوى تتعلق بحقوق الآدميين فعند هؤلاء قولان: أ- لا يجوز أن يحكم القاضي بعلمه لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للحضرمي: «شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك» أخرجه البخاري رقم (2669) و (2670) ومسلم رقم (220/ 138) من حديث الأشعث بن قيس. لأنه لو جاز له الحكم بعلمه لكان علمه كشهادة اثنين ومن ثم ينعقد النكاح به وحده، ولا قائل به، ولأن الحكم بعلمه يدعو إلى التهمة، وقد يستغله قضاة السوء فيحكمون على البريء. وانظر تعليق الشوكاني على هذا القول في «نيل الاوطار» (5/ 576) فقد قال: ومن جملة ما استدل به المانعون، حديث: «شاهداك أو يمينه»، وفي لفظ: «وليس لك إلا ذلك» من أن التنصيص على ما ذكر لا ينفي ما عداه، وأمَّا قوله: «وليس لك إلا ذلك» فلم يقله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد علم بالمحق منهما من المبطل، حتى يكون دليلًا على عدم حكم الحاكم بعلمه، بل المراد: أنه ليس للمدعي من المنكر إلا اليمين وإن كان فاجرًا حيث لم يكن للمدعي برهان. والحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن يقال: إن كانت الأمور التي جعلها الشارع أسبابًا للحكم، كالبينة، واليمين، ونحوهما أمورًا تعبدنا الله بها، لا يسوغ لنا الحكم إلا بها، وإن حصل لنا ما هو أقوى منها بيقين، فالواجب علينا: الوقوف عندها، والتقيد بها، وعدم العمل بغيرها في القضاء كائنًا ما كان، وإن كانت أسباباً يتوصل الحاكم بها إلى معرفة المحق من المبطل، والمصيب من المخطئ غير مقصودة لذاتها بل لأمر آخر، وهو حصول ما يحصل للحاكم بها من علم أو ظنَّ، وأنها أقل ما يحصل له ذلك في الواقع، فكان الذكر لها لكونها طرائق لتحصيل ما هو المعتبر فلا شك ولا ريب: أنه يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه ... ». ب- وهو القول الأظهر عند الشافعية وهو اختيار المزني أن القاضي يقضي بعلمه لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما روي عنه: «لا يمنع أحدكم هيبة الناس أن يقول في حق إذا رآه أو علمه أو سمعه». ولأنه إذا جاز أن يحكم بما شهد به الشهود، وهو غير متيقن من صدقهم وضبطهم فلأن يجوز أن يحكم بما سمعه ورآه وهو على علم به أولى بالجواز. - أما إذا كانت الدعوى تتعل بحقوق الله تعالى فعند الشافعية قولان أيضًا: والذي عليه أكثر الشافعية وهو القول الأظهر أنه لا يجوز للقاضي أن يحمكم بعلمه لقول أبي بكر رضي الله عنه: «لو رأيت رجلًا على حد لم أحده، أي لم أعاقبه بعقوبة الحد، حتى تقوم البينة عندي ولأنه مندوب إلى ستره، ولأن الحدود تدرأ بالشبهات. القول الثاني: وظاهر مذهب الحنابلة أن القاضي لا يقضي بعلمه في حدّ ولا غيره وسواء ما علمه قبل توليه القضاء أو بعده، والحجة لظاهر مذهب الحنابلة قول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما أنا بشر وأنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمعه» - تقدم تخريجه- فدل على أنه إنما يقضي بما يسمع لا بما يعلم، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قضية الحضرمي والكندي: «شاهداك ويمينه، ليس لك منه إلا ذلك» -وقد تقدم-. ومعنى الحديث أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للمدعي: قدّم شاهداك لتثبت دعواك، فإن لم يكن عندك شاهدان فلك تحليف خصمك اليمين. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه تدعى عنده رجلان فقال أحدهما: أنت شاهدي. فقال: إن شئتما شهدت ولم أحكم، أو أحكم ولا أشهد. واحتجوا أيضًا بأن القضاء بعلم القاضي يؤدي إلى تهمته كما قد يؤدي إلى الحكم بما يشتهي. وردوا على من أجاز للقاضي القضاء بعلمه محتجًا بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لهند امرأة أبي سفيان: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف». بأن هذا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتيا وليس حكما بدليل أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفتى في حق أبي سفيان بدون حضوره ولو كان حكمًا عليه لم يحكم عليه في غيبته. وقالوا أيضًا أن الاحتجاج بشهادة الشهود مع عدم التيقن بصدقهم يجعل الحك بعدلم القاضي أولى لأنه مبني على اليقين. هذا الاحتجاج غير مقبول عند الحنابلة ويردونه بقولهم أن الحكم بشهادة الشهود العدول لا يفضي إلى التهمة بخلاف حكم القاضي بعلمه. وأما جواز حكم أهل العلم بعلمهم في الجرح والتعديل بالنسبة لرواة الأحاديث فهذا إنما جاز ليقطع التسلسل لأنه إذا لم يعملوا بعلمهم يلزم من ذلك التسلسل لأن كل مزك يحتاج إلى من يزيكيه. القول الثالث: قالت الحنفية: يحكم القاضي بعلمه في حقوق العباد إذا استفاد هذا العلم في أثناء ولايته القضاء، أما في الحدود الخالصة لله تعالى مثل حد الزنا وشرب الخمر فلا يقضي بعلمه استحسانًا، إلا في السرقة فيقضي بالمال دون قطع يد السارق، وفي القصاص وحد القذف يحكم القاضي بعلمه. أما إذا علم القاضي بواقعة قبل تولية القضاء ثم عرضت عليه الواقعة بعد تولية القضاء، فعلى قول أبي حنيفة- رحمه الله- لا يقضي بعلمه، وعلى قول أبي يوسف ومحمد يقضي بعلمه، ولو علم بحادثة في بلد ليس هو قاضٍ فيه ثم رجع إلى بلده الذي هو قاضي فيه ثم رفعت إليه تلك الحادثة، وأراد أن يقضي بعلمه فهو على الخلاف المذكور بين أبي حنيفة وصاحبيه. قال ابن عابدين: وأصل المذهب الجواز بعمل القاضي بعلمه، والفتوى على عدمه في زماننا لفساد القضاة. وفي الأشباه والنظائر لابن نجيم: الفتوى على عدم العمل بعلم القاضي في زماننا. القول الرابع: ذهب الإمام مالك وأكثر أصحابه إلى أن القاضي لا يقضي بعلمه في أي مدعي به سواء علمه قبل توليه القضاء أو بعده. وحجة المالكية قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما أنا بشر مثلكم وأنكم تختصمون إلي .. » - وقد تقدم - فدل ذلك على أن القضاء يكون - كما قال القرافي - بحسب المسموع لا بحسب المعلوم. واحتجوا أيضًا بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك». فحصر الحجة في البينة واليمين دون علم الحاكم. واحتجوا أيضًا بأن القاضي إذا قتل أخاه بحجة علمه بأنه قائل: «كالقتل العمد لا يرث منه شيئًا للتهمة في الميراث فنقيس عليه بقية الصور بجامع التهمة.

لحصوله. لكنه ورد ما يدل على أن الحاكم يحكم بشهادة العدلين (¬1)، مع شهادتهما لا تفيد إلا مجرد الظن، لأن عقل كل عاقل يجوز أن شهادتهما باطلة لوجه من الوجوه. وكذلك ورد الشارع بأنه يجوز للحاكم أن يحكم بإقرار من أقر على نفسه بأمر من الأمور، مع تجوزي أن يكون ذلك المقر كاذبًا في الواقع، فإن ذلك ليس هو إلا مجرد خير واحدٍ، وغايته أن يفيد الظن وكذبه مجوز على كل حال. وكذلك [2أ] ورد الشرع بأنه يجوز للقاضي أن يحكم بيمين المنكر مع عدم النية (¬2) -وكذلك النكول واليمين المردودة (¬3). وهذه الأمور غايتها أن تكون مفيدة للظن. ولا ينكر عالمٌ بل .. .. ¬

(¬1) انظر: «فتح الباري» (13/ 175 - 177). و «المغني» (14/ 34 - 36) (¬2) للحديث الذي أخرجه مسلم رقم (223/ 139) من حديث وائل بن حجر: «أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للكندي: ألك بينة قال: لا. قال: فلك يمينه. فقال: يا رسول الله الرجل فاجر ولا يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورع من شيء فقال: ليس لك منه إلا ذلك». (¬3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه الدارقطني في «السنن» (4/ 213 رقم 24) والحاكم في «المستدرك» (4/ 100) والبيهقي (10/ 184) من حديث ابن عمر: «أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رد اليمين على طالب الحق» وهو حديث ضعيف.

و [لا] (¬1) عاقل إن كذبها مجوز. فلما ورد الشرع بأن هذه الأمور التي لا تفيد إلا مجرد الظن يصح أن تكون أسبابًا لحكم الحاكم سواءًا: كانت مخصصة لعموم تلك الأدلة القاضية بعدم جواز العمل بالظن، فجاز للقاضي أن يقضي على أحد الخصمين بمجرد الظن؛ لوجود السبب الشرعي الذي ورد عن الشارع، وكان حكمه بهذه الامور الظنية معدودًا من الحق، والعدل، والقسط الذي امره الله أن يحكم به، ولولا ورود الأدلة الدالة على أنه يجوز الحكم بها لما جاز للقاضي أن يقضي بشيء منها. بل كان الواجب عليه أن يقضي بعلمه الذي أمره الله بأن يتبعه، ونهاه عن اتباع غيره من الظن وما دونه، لأن كل ظن قد يتخلف. وقد أرشد الشارع إلى هذا إرشادًا لا يخفى على عارف. فقال -فيما صح عنه-: «إنما أقضي بما أسمع فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذنه؛ فإنما أقطع له قطعة من نار» (¬2). فانظر إلى هذا الكلام من صاحب الشريعة - عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام؛ فإنه أرشد المتخاصمين إلى أنه إنما يقضي بأشياء مسموعة لا معلومة (¬3)، وأنها قد تتخلف، وأنه لا يحل للمحكوم له [2ب] أن يجعل الحكم بتلك الأسباب المسموعة لا المعلومة موجبًا لتحليل ما حرمه الله عليه من مال أخيه؛ إذا كان يعلم أن ذلك المستند المسموع ليس بمطابق للواقع. فإن الله - سبحانه- إنما جعل ذلك المستند المسموع سببًا لجواز الحكم للقاضي، ولم يجعله سببًا لتحليل المحكوم به، إذا كان ذلك السبب غير مطابق للواقع. ولهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذنه؛ فإنما أقطع له ¬

(¬1) زيادة يستلزمها السياق. (¬2) وهو حديث صحيح وقد تقدم. (¬3) انظر: «المغني» (14/ 32)، «فتح الباري» (13/ 139).

قطعة من نار» (¬1). ومراده -عليه الصلاة والسلام- أن المحكوم له إذا كان يعلم بطلان السبب المسموع من شهادة، أو يمين، أو إقرار فلا يأخذنه استنادًا إلى الحكم، وهو يعلم بطلان سببه؛ فإنه إذا فعل ذلك فإنما أقطع له قطعة من نار. إذا عرفت هذا علمت أنه: لا يجوز للقاضي أن يقضي بشيء من الأسباب المظنونة كائنًا ما كان، بل يقتصر على الأسباب التي ورد الشرع بتخصيصها، وهي: الشهادة، واليمين، والإقرار، وما عداها لا يجوز له أن يجعله سببًا للحكم وإن أفاد مفادها من الظن. بل لا يجوز له أن يحكم إلا بالعلم الذي أمره الله باتباعه، ونهاه عن اتباع ما دونه؛ لعدم ورود دليل يدل على تخصيص الأدلة الدالة على وجوب العمل بالعلم (¬2)، والمنع من العمل بالظن [3أ]. فتحصل من هذا أن الحاكم لا يحكم إلا بعلمه في كل خصومةٍ تعرض لديه (¬3)، ولا ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: الأقوال في بداية الرسالة. (¬3) عدم جواز حكم القاضي بعلمه المتحصل عنده خارج مجلس القضاء هو القول الراجح لأسباب منها: 1 - الأحاديث التي أحتج بها المانعون أقوى في الدلالة لقولهم من الأحاديث التي أحتج بها المجيزون لقولهم - تقدم ذكرها-. انظر: «فتح الباري» (13/ 139). 2 - الآثار الكثيرة المروية عن الصحابة والدالة على منع الحاكم من الحكم بعلمه، والصحابة أعلم من غيرهم بمقاصد الشريعة والمعاني المرادة بأحاديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقد ثبت عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس المنع من ذلك ولا يعرف لهم في الصحابة مخالف. وقد ذكرنا الخبر المروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه حيث قال: لو وجدت رجلًا على حدِّ حتى تقوم البينة عندي، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لعبد الرحمن بن عوف: أرأيت لو رأيت رجلًا يقتل أو يسرق أو يزني؟ قال: أرى شهادة رجل من المسلمين. قال عمر: أصبت. وعن علي رضي الله عنه مثله، وهذا كله من فقه الصحابة رضي الله عنهم فإنهم أفقه الأمة وأعلمهم بمقاصد الشرع وأحكامه وحكمته. ومن حكمته أن التهمة مؤثرة في الأحكام وهذا هو الدليل الآخر الذي يرجح ما رجّحناه ونذكره فيما يلي. 3 - اعتبار التهمة، فالتهمة ينظر إليها في الشرع ويقام لها وزن واعتبار وتؤثر في ترتيب الأحكام، ولهذا فهي تؤثر في الشهادات والأقضية والأقارير، وفي طلاق المريض، ومن هنا لم تقبل بعض الشهادات مع أن أصحابها عدول لا يقدح في عدالتهم سوى تهمة التأثير بالقرابة أو العداوة بين الشاهد والمشهود. وكذلك لا يقضي القاضي إلى من لا تقبل شهادته له للتهمة، أي خوفًا من إنحيازه في الحكم إلى المفضي له لقرابة بينهما ونحو ذلك، كما لا يقبل حكم القاضي نفسه للتهمة، ولا يصح إقرار المريض مرض الموت للتهمة، ولا يقبل قول المرأة على ضرتها أنها أرضعتها للتهمة. ولقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو سيد الحكام، يعلم من المنافقين ما يبيح دماءهم وأموالهم ولا يحكم بينهم بعلمه مع براءته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند الله ملائكته وعباده من كل تهمة لئلا يقول الناس أن محمدًا يقتل أصحابه. 4 - منع القاضي من الحكم بعلمه، يقطع الطريق على حكام السوء ويمنعهم من الحكم على البريء المستور لعداوة بينهم وبينه أو تنفيذًا لأهوائهم أو طاعة لولي الأمر الظالم فلا يستطيعوا أن يحكموا على بريء بحجة علمهم وما أحسن قول الشافعي- رحمه الله-: لولا قضاة السوء لقلنا أن للحاكم أن يحكم بعلمه». وقال ابن عابدين: «وأصل المذهب - الحنفي- الجواز بعمل القاضي بعمله والفتوى على عدمه في زماننا لفساد القضاة». 5 - ما يقدمه الخصوم لإثبات الدعوى أو دفعها يمكن مناقشته والنظر فيه وتقويمه قبل أن يصدر الحكم، أما إذا جوزنا للقاضي الحكم بعلمه فإن معنى ذلك أنه يصدر الحكم بناء على هذا العمل دون أن يتمكن الخصوم من مناقشة ما استند إليه القاضي أو الطعن فيه وبيان ما يرد عليه أو ينقضه مع احتمال ذلك كله، لأن علم القاضي الذي يحصل عليه خارج مجلس القضاء معرض للخطأ لأنه غير معصوم وما يعلمه عن طريق السمع أو الرؤية قد يتطرق إليه الخطأ إحاطته بالقرائن والظروف والأحوال التي صدر فيها المسموع أو المرئي، أو لعدم انتباه القاضي انتباهاً كافيًا لم سمع أو لما رأى مما قد يفوت عليه بعض ما سمع أو ما رأى فيكون علمه ناقصا وبالتالي حكمه غير صحيح، وهذا كله إذا نزهنا القاضي عن الهوى والابتعاد عن مظان الاتهام، ففي تجويز الحكم للقاضي بعلمه مع هذه الاحتمالات الواردة ظلم للمحكوم عليه وإجحاف بحقه في الدفاع عن نفسه وتفويت لحقه في مناقشة ما استدل به القاضي من الحكم بعلمه المتحصل عنده خارج مجلس القضاء. انظر: «الطرق الحكمية» لابن القيم (ص179 - 180)، «فتح الباري» (3/ 139 - 160)، «الفروق» للقرافي (4/ 44).

يحكم بظنه في شيء من الأشياء إلا في تلك الأمور التي ورد الدليل بتخصيصها من عموم المنع من اتباع الظن؛ لأن الشارع قد جوز له الحكم بها، وإن كان يجوز تخلفها. وبهذا يظهر لك أن حكم القاضي بعلمه هو الحكم الذي يطابق ما أمره الله به من اتباع العلم وهو الحكم الذي يطابق ما أمره الله به من الحكم بالحق والعدل والقسط، وهو الحكم الذي هو الأصل الأصيل، المطابق لما ورد في التنزيل، وهو الحكم الذي يطابق الواقع، ويطمئن به القلب، وتسكن إليه النفس. فمن قال من أهل العلم: إن الحاكم لا يحكم بعلمه، بل يحكم بتلك الأسباب الظنية من الشهادة والإقرار واليمين ويقتصر عليها، ولا يجوز له الحكم بالعلم. فما أظنه تدبر هذه الآيات القرآنية الموجبة للعمل بالعلم، والمانعة من العمل بما دونه. ولا أظنه تأمل ما فيها من العموم المتناول لكل شيء من الأشياء (¬1) ولا أحسبه أمعن النظر فيما اشتملت ¬

(¬1) يتضح من سياق «هذه الرسالة» قول الشوكاني أن الأمر بالعلم وإطراح الظن الذي تضمنته الآيات السابقة حكم عام لا مخصص له يمكن أن يستثنى من أحكامها القضاء أو علم القاضي، ومعنى ذلك أن الشارح حينما قرر للقاضي أن يحكم بالإقرار والشهادة واليمين، وجميعها لا توصل لأكثر من الظن الراجح، ولا تفيد اليقين بأي حال لم يكن ذلك تخصيصًا لسابق أمره باتباع العلم على العموم، وأن الأحاديث النبوية في هذا الباب - وهي كثيرة- لا تفيد التخصيص، ولكن الرسالة لا تقل لنا شيئًا عن الأثر المنسوب إلى أبي بكر الصديق القائل: «لو رأيت رجلًا على حد لم أحده حتى تقوم البينة عليه» وهو أثر واضح الدلالة في أن أبا بكر لم يعتمد على علمه، وإنما يجنح إلى الدليل وإطراح علم القاضي وكان عمر بن الخطاب على نفس المنهج فقد روى أنه تداعى عنده خصمان فقال أحدهما: أنت شاهدي، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إن شئتما شهدت ولم أحكم، أو أحكم ولا أشهد». - وهذه المرويات لا ينازع فيها الشوكاني على مدلول واحد هو إن طريق القضاء فيالحكم، الدليل وإن علم القاضي لا يصح سندًا للحكم بل إن ما روي عن عمر بالغ الدلالة في التمييز بين منصب القضاء ومنصب الشهادة، وأن القاضي لا يملك أن يشهد بما رأى ثم يحكم بما شهد، فهذا خلط مذموم وأقل ذميمته أنه يضر بالعدالة. ولكن الشوكاني - في هذه الرسالة- لا يناقش شيئًا من ذلك وإنَّما يؤكد بتكرار أن من يمنع على القاضي أن يحكم بعلمه لم يدرك ولم يتدبر أسرار الآيات التي استشهد بها ولم يفقه مدلولاتها الواضحة وهذا المنهج أغناه عن عناء الجدل مع هذه الآثار، ناهيك عن الآثار والنصوص التي استندت إليها المذاهب والتي تخالف الشوكاني في مذهبه.

عليه من الذم لمن عمل بالظن، وترك العلم. وإني لأعجب بمن خفي عليه هذا حتى منع الحاكم من الحكم بعلمه، وسوغ له الحكم بظنه، وكأنه لم يتصور أن تلك الأسباب الظنية لم يجز جعلها أسبابًا لكون الظن في نفسه [3ب] حجة شرعية يجب أتباعها، ويجوز العمل بها، بل إنما جاز جعلها كذلك لورود الشرع بكونها أسبابًا للحكم. والحكمة في ذلك أنه لو كان المعتبر في قطع الخصومات بعلم الحاكم، وأنه لا يجوز للحاكم أن يحكم إلا بالعلم (¬1) لكان في ذلك أبلغ الحرج، وأعظم المشقة؛ لأن العلم قليل الحصول، بعيد الوصول. وكان ذلك يفضي إلى ضياع كثير من الحقوق؛ لأن الظالم سيصر على ظلمه، ويدفع في وجه المظلوم، حتى يحصل للقاضي العلم بذلك الظلم، وهو لا يحصل إلا بمشاهدة، أو ما يقوم مقامها، ومن أين للقاضي مشاهدة جميع الحوادث التي يتخاصم فيها المتخاصمون إليه؟ بل من أين له مشاهدة عشر معشارها؟ ثم هب أنه قد يحصل العلم بطريق آخرى غير المشاهدة ونحوها، وذلك الخير المتواتر ¬

(¬1) انظر: الأقوال وأدلتها في بداية الرسالة.

الذي يخلق الله عنده العلم للحاكم. ومن اين للمظلوم أن يأتي إلى الحاكم بجمع يفيد خبرهم العلم؟ وإني له ذلك؟ وبهذا تعرف أن الله - سبحانه وتعالى- إنما سوغ للقضاة أن يحكموا بتلك الأسباب الظنية لما في أسباب العلم من الصعوبة والقلة والضيق، وأيضًا لو لم يشرع لعباده الحكم بتلك الأسباب الظنية لكان إقرار من عليه الحق - الذي هو أعظم الحجج القائمة عليه- خارجًا عن أسباب الحكم بالعلم، لأنه لا يفيد إلا مجرد الظن. فلما كان في أسباب العلم ما ذكرناه من الضيق والقلة، وندرة الحصول [4أ] وسع الله على عباده. وحكام بلاده، بتوسيع دائرة سبب الحكم. فجعل من أسبابه مالاً يستفاد منه إلا مجرد الظن. وهي تلك الأسباب الظنية. ثم عذر الحاكم بها إذا كان ما حكم به غير مطابق للواقع. بل أثبت له الأجر كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» (¬1). فجعل الحاكم بالظن مستحقًا مع الإصابة لأجرين، ومستحقًا مع الخطأ الأجر. بل قد ثبت - خارج الصحيح- أن: «الحاكم إذا أصاب فله عشرة أجور» (¬2). وهذا من فضل الله على العباد، ولطفه بحكام البلاد. فإنه لم يجعل على المخطئ شيئًا من الوزر. بل أثبت له الأجر، وجعل العقوبة على المحكوم له إذا كان يعلم أن الحكم خطأ. فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذنه، فإنما أقطع له قطعة من نار» (¬3). وإذا كان هذا الترديد الشرعي بين الأجر الكثير والأجر القليل لمن حكم بسبب ظني، فما ظنك بمن حكم بسبب .......................... ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه.

علميِّ يقينيِّ (¬1)! فإنه مصيب دائمًا؛ لأن الخطأ لا يتطرَّق إلى حكمه بحال من الأحوال؛ ¬

(¬1) يكرر الإمام الشوكاني التأكيد على أن حكم القاضي بعلمه هو حكم اليقين، وحكمه بالأدلة - غير علمه - كالشهادة والإقرار واليمين هو حكم يغالب الظن، ولأن الشارع قد أكد مرارًا على واجب العمل باليقين واجتناب الظن، فإن معنى ذلك أن الأصل أن يحكم القاضي بعلمه وأن الحكم اعتمادًا على البينات إنما هو رخصة من الشارع. - ومن يدرس قواعد الإثبات في الشريعة بإمعان سيلاحظ أن الشريعة رسمت بدقة ووضوح المبادئ والقواعد والطرق التي تمكن القاضي من تحصيل الواقع والوقوف على حقيقة الخصام وأن ما تحصل له من هذه الطرق والآليات يجب أن يحكم به ويكون حكمه فيه نافذًا واجب الطاعة طالما كان سليمًا من الخطأ والقصور. - وطرق الإثبات في الشريعة كثيرة من أبرزها وما فصل الشارع في بسط أحكامها: الشهادة - الإقرار - اليمين، ولم ينازع أحد من فقهاء الإسلام في أن مؤدى هذه الأدلة هو الظن وأن الظن هو أقصى ما يتحصل منها، ومعنى ذلك أن الحد الأقصى لصلة القاضي بالواقع في فلسفة التشريع الإسلامي هو الظن، وأن هذا كاف للحكم عليه في اعتبار الشارع. - ومن المعروف أن هناك مستويين من الحقيقة في المستوى الأول تقع الحقيقة الواقعية، أي حقيقة ما حدث بين الخصمين فعلًا. وفي المستوى الثاني تقع الحقيقة القضائية أي ما تحصله القاضي بطرق الإثبات المرسومة له من الشريعة عن الحقيقة. ومن البديهي ألا تتفق الحقيقتان في بعض الحالات فتنفك الحقيقة القضائية عن الحقيقة الواقعية ويكون ما تحصل للقاضي من تلك الأدلة غير مطابق للواقع والبداهة هنا ترجع إلى أن القاضي ليس طليق الحرية في بحثه عن الحقيقة فيتحصل على الحقيقة بأي طريق شاء، وإنما هو ملزم أن يتوسل إليها بوسائل حددها لها الشارع وحدد له قيمتها الثبوتية ومن الذي يقدمها إليه، بل حدد له في الغالب الشكل الذي ينبغي أن تصب فيها تلك الطرق. - ولذلك نجد الشارع في حد الزنا يحدد أن الطرق إلى إثبات جرم الزنا هو الشهادة أو الإقرار، فإذا كان الطريق هو الشهادة فإن للشارع في ذلك قواعد وقيودًا وتفصيلات وليس أي شهادة تصلح طريقًا لإثبات الواقع في هذه الجريمة، فيقرر الشارع أن الشهادة المعتبرة يجب أن تكون من أربعة أشخاص وأن يكون هؤلاء ذكورًا فلا تقبل شهادة المرأة، وأن يكونوا أصولًا فلا يقبل الشارع أن يشهد بالزنا شاهد أخبره بالواقعة شاهد غيره وهو ما يسمى في الفقه الإسلامي بالإيماء، بل إن الشارع حدد هنا حتى صيغة الشهادة بحيث يؤديها الأربعة بتلك الصيغة بحيث يؤديها الأربعة بتلك الصيغة لا سواها وإلا فلا تقبل وتفصيلات الشارع هنا لا حصر لها. - وبهذا النهج فإن القاضي لن يتحصل لأكثر من الحقيقة القضائية، وأن لا سبيل له إلى الحقيقة الواقعية وبما أن الشارع هو الذي رسم طريق الاستدلال ووسائل الإثبات، فإن معنى ذلك أن أقصى ما يطلبه من القاضي هو الحقيقة القضائية، وأنه غير مكلف بالبحث عن الحقيقة المطابقة للواقع، ومن ثم فإن الحقيقة الواقعية مستبعدة عند الشارع من عمل القاضي، وإلا لما قبل منه بها بديلًا وحينما قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما أقضي بما أسمع» إنما كان يشير إلى الأساس الذي تبني عليه الأحكام القضائية في التشريع الإسلامي وهو الحقيقة القضائية المتحصلة من الأدلة التي حددها الشارع وأن هذه قد تختلف عن حقيقة الواقع ولذلك قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فمن قضيت له بشيء من مال أخيه ... » تقدم الحديث. والحديث واضح الدلالة في أن هذا الاختلاف لا أثر له. فلا يمنع من الحكم ولا يعيب فيه بعيب. - وعلى ذلك فإن تجويز الحكم بعلم القاضي طلبا لليقين والحصول على الحقيقة الواقعية لا يوافق روح التشريع الإسلامي وهو تكلف لم يطلبه الشارع ويأباه التشريع الإسلامي المتسم باليسر والتيسير. انظر: «المسائل المهمة فيما تعم به البلوى حكام الأمة» وهي ضمن «عون القدير من فتاوى ورسائل ابن الأمير» رقم (114) بتحقيقي. «نيل الوطر» (7/ 109)، «الوسيط في شرح القانون المدني» عبد الرزاق أحمد السنهوري (9/ 15).

لعدم تجويز تخلف ما شاهده الحاكم مثلاً بعيني رأسه، أو تواتر له تواترا يخلق الله له عنده العلم. وبالجملة: فالقائل بأنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه ليس بيده دليلي شرعي ولا عقلي [4ب]. وأما كونه ليس بيده دليل شرعي؛ فلم يأت في هذه الشريعة أن أحدًا من عباد الله يجب عليه أن يرمي بعمله وراء ظهره، ويعمل بظنه، بل كتاب الله، وسنة رسوله بيده من قال: بأن الحاكم يحكم بعلمه كما سبق تقريره.

فإن من قال: المكانع من حكم الحاكم بعلمه: أنها وردت أسباب شرعية توجب على الحاكم الاقتصار عليها كالبينة، واليمين، والإقرار (¬1). قلنا: أخبرنا ما الدليل على أن هذه الأسباب يجب الاقتصار عليها؟ ومن أين علمت ذلك؟ وما الذي أفادك هذا. فإنه لم يرد في شيء من هذه الأسباب أنه يجوز الحكم إلا بها، ولا يجوز الحكم بغيرها مما هو أولى منها. ولم نجد في كتاب الله، ولا في سنة رسوله حرفًا من ذلك، ولا رأينا فيهما صيغة تفيد الحصر، ولا يدعى عالم أنه قد ثبت عن الشارع ما يفيد أن هذه الاسباب الظنية هي طرق الحكم (¬2) ولا طريق له غيرها؟ بل غاية ما هناك أن الشارع أوجب على عباده اتباع العلم، ومنعهم من اتباع الظن، ومقتهم على اتباعه، ثم وسع على عباده بتخصيص الأدلة الموجبة لاتباع العلم بهذه الأدلة الواردة في جواز الحكم بمجرد الظن. فالحكم بالعلم موافق للأدلة من أدلة الكتاب والسنة، أعني الأدلة الموجبة لاتباع العلم، والنهي عن اقتفاء ما ليس بعلم، وموافق للأدلة المخصصة لذلك العموم - أعني الأدلة الدالة [5أ] على جواز الحكم بالإقرار، والبينة، واليمين؛ لأن العلم - لا يشك عاقل - أنه قد أفاد ما أفادته هذه الأسباب من حصول الظن للحاكم، وزاد عليها بزيادة خرج بها عن مجرد التجوزي المحتمل، والراجح والمرجوح إلى الجزم والمطابقة. فكيف يقول من له أدنى فهم، وعنده أيسر علم أنه يجوز للحاكم أن يحكم بمجرد ظنه المحتمل للطبلان، ومخالفة الواقع، ولا يجوز له أن يحكم بعلمه الجازم المطابق الثابت الذي لا يتعقبه بطلان، ولا يتبعه تغير؟! وأين هذا القائل عن قوله -- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فيما صح عنه: «دعا ما يريبك إلى ما لا يريبك؟» (¬3). ¬

(¬1) تقدم مناقشة ذلك (¬2) تقدم الرد على ذلك. (¬3) أخرجه الترمذي رقم (2518) والنسائي (8/ 327 - 328) ابن حبان في صحيحه رقم (720) والبيهقي في «شعب الإيمان» رقم (5747) من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما، وهو حديث حسن.

وأين هو عن قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «استفت قلبك وإن أفتاك المفتون» (¬1)؟ فإنه لا شك ولا ريب: «أن الظن ريبة، والعلم طمأنينة، وأنه لولا ورود الشرع بتلك الأسباب الظنية لكان تركها متحتمًا لكونها محل ريب». ثم من لم يكن معه إلا مجرد ظن لاحظ له عند قلبه إذا رجع إليه واستفتاه، فإنه لا يفتيه بشيء؛ لأنه لم يكن لديه إلا مجرد ظن، والظن لا يغني من الحق شيئًا. بل القلب الذي يستفتيه صاحبه فيفتيه هو من كان عنده علم (¬2). فإنه يكشف له عن الصواب، ولا يتستر دونه من الشك بجلباب [5ب]. ثم يقال لهذا المانع من الحكم بالعلم: أخبرنا: هل الحاكم بالعلم قد حكم بما أمره الله أن يحكم به من الحق والعدل والقسط أم لا؟ فإن قلت: نعم. فما ذاك المطلوب منه غير هذا. بعد أن فعل ما أمر الله به في محكم كتابه. وإن قلت: لا. قلنا: كيف يكون من حكم بحكم لا يدري هو في الواقع كمنا حكم به أولًا أ؛ ق بما أمر الله به من الحكم بالعدل والحق والقسط من حاكم حكم بحكم شاهده بعيني رأسه وعلمه علماً جازمًا! وقطع بمطابقته للواقع؟ وهل هذا إلا صنع من لا يعقل الحجج، ولا يهتدي لمدخلها ولا للمخرج؟ وكيف يكون المتردد في الشيء أعلم به من الجازم!؟ والجاهل للأمر أحق بنسبته ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) سيأتي مناقشة قول الشوكاني هذا.

والجاهل للأمر أحق بنسبته إليه من العالم؟ وهل قال عاقل من العقلاء أن الظن أرجح من العلم؟ وهل يوجد مثل هذا في دفتر من دفاتر العلم؟ وهل قد سبق إليه أحد؟ وهل خفي على هذا القائل ما ذكره أئمة الأصول والفروع، والمعقول والمسموع من الترجيح بين أقسام الظن، وتقديم القوي ممنها على الضعيف حتى كان الظن الغالب أقوى من الظن المطلق؟ والظن المقارب للعلم أقوى من الظن الغالب؟ فإذا كان الظن المقارب للعلم أرجح الظنون باعتبار قرية من العلم، فكيف لا يكون العلم أرجح منها!؟ وكيف يسعد [6أ] بمزية الترجيح الظن المقارب له بسبب قربه منه! ويحرم هذه المزية العلم؟ وهل هذا إلا خروج عن العقل، وبعد من إدراك النوع الإنساني!؟ ثم نقول لهذا المانع: اعرض على عقلك - إن بقي لديك منه شيء - مسالك العلة المدونة في الأصول، وأجعل علة الحكم بالبينة والإقرار واليمين (¬1) في أي مسلك شئت منه. ¬

(¬1) في هذه الرسالة نجد الشوكاني على عقيدة أن علم القاضي يفضي إلى اليقين القاطع بخلاف ما يتحصل له من الأدلة والبينات الأخرى غير علمه فهي إنما تفيد الظن. فهل حقا أن علم القاضي مفاده اليقين القاطع في كل الأحوال؟ لا نظن ذلك، فنقول للشوكاني أن القاضي فيما علم كالشاهد فيما يعلم، أي أن الشاهد حين يروي في أقواله ما شاهده أو سمعه فإن مؤدى روايته بالنسبة له وحده اليقين لأنه قال ما وقف عليه بإ؛ دى حواسه، ولكن هذا اليقين مقصور عليه ولا يتعدى لغيره، إذ مؤدى ما قاله بالنسبة للغير الظن ولا أكثر. وحال علم القاضي لا يخرج عن هذا الإطار فمؤاده القين بالنسبة للقاضي وحده، ولكنه بالنسبة لغيره لا يفيد أكثر من الظن لأنه لا يعد أنه رواية آحاد. وعلى ذلك لا يمكن موافقة إطلاقات الشوكاني وهو يؤكد بتكرار أن مؤدى علم القاضي بالواقع اليقين القاطع وبصورة مطلقة فالتحليل الصحيح للفكرة أن هذا اليقين ليس كذلك بالنسبة لغير القاضي، وأنه يمكن أن يكون يقينًا بالنسبة للقاضي وحده، وعند هذا المستوى لا يتميز علم القاضي بأي راجحية عن علم الشاهد فإن يقنية علم القاضي كانت لا باعتبار صفته أي ليس باعتباره قاضيًا وإنما باعتباره الشخصي، ولذلك رأيناه سابقًا أنه تساوي في ذلك مع الشاهد. وبما أن القاضي ملزم بقضائه قواعد الشريعة الإسلامية، ولا يملك أن يتجاوز في الإثبات ما رسمته له الشريعة من قواعد وتعاليم، ومعلوم أن تلك القواعد رواية الواحد لا تفيد إلا الظن إذا كان معروفًا بالصدق والضبط. وهذا الظن على حظ الحجية ضئيل جدًا بحيث أن هذه الرواية لا يعمل بها في كل حال، ففي بعض المواطن ينبغي إهمالها كما هو معروف. وحيث أن القاضي ملزم بهذه القاعدة فليس أمامه إلا أن يطبقها في قضائه. ولا شك أن روايته للواقع أو لما شاهد حين يحكم هي في نظر الشريعة رواية آحاد مفادها الظن في أحسن الأحوال، وليس أمامه إلا أن يعتبر بما اعتبرها الشرع، وأن يزنها بميزانه فتعتبر ظنية كما يعتبرها الشرع ولا بأس أن تبقى يقينية بالنسبة له كشخص ولكن لا يملكن أن يعتبرها كذلك بالنسبة له كقاض. والقاضي هنا كالشاهد، فلو فرضنا أن شخصا شاهد آخرًا يقتل مسلمًا أمام عينيه، ثم شهد في المحكمة بما رأى ولكن القاضي حكم في المسألة بعلمه، وقضي بقتل شخص آخر غير من شهد به الشاهد استنادًا إلى أنه رأى هذا يقتل المجني عليه. وعند تنفيذ الحكم بالقتل أمر القاضي بالشاهد - وهو بالمصادفة المختص بذلك - بقتل الآخر والشاهد يقتل يقينا أن المحكوم عليه بريء وأن القاتل آخر، ترى ماذا يصنع هذا السجان؟ هل يطيع أمر القاضي وحكمه؟ أم يرفض اعتمادًا على يقينه الشخصي؟ نجد الشوكاني يوافق المذهب الزيدي في هذه المسألة ويرى أن على هذا الشاهد أن يمتنع عن التنفيذ طاعة لأمر القاضي لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ويقول الشوكاني في «السيل الجرار» (4/ 298): «عليه أن يوضح ذلك بغاية ما يقدر عليه، فإن أمكنه الفرار فعل ولا ترد عليه الادلة القاضية بوجوب الامتثال لأنه على يقين بأن الحكم واقع على جهة الغلط». ودلالة ذلك أن حكم القاضي بعلمه ليس بدرجة اليقين القاطع بصورة مطلقة، وأن الحجية فيه نسبية، ولذلك أوجب الشوكاني على من علم يقينًا بخلاف علم القاضي أن يرجح علمه على علم القاضي فلا ينفذ ما أمر به.

فإنك تجد العلم (¬1) أولى بذلك المسلك من تلك الأسباب الظنية. ثم لو فرضنا أنه لم ¬

(¬1) لنسلم بان القاضي لا يجوز له أن يحكم بعلمه، إنما يحكم بما تحصل له من الأدلة المطروحة عليه، ما هو الحكم لو أن القاضي قد اطلع شخصيًا على حقيقة الواقع، وعند الترافع إليه جاءت الأدلة على خلاف ما يعلمه فماذا يصنع؟ هل يحكم بما علمه؟ أم يحكم بما تثبته الأدلة؟ فمن المؤكد أن على القاضي أن يمتنع عن الحكم بخلاف عقيدته، بل إن المطلوب منه أن يحكم حسب عقيدته فقط وفي المثل السابق ليس للقاضي من سبيل غير أن يتنحى عن نظر الموضوع ليولي به قاض آخر، وعلى القاضي المتنحي أداء شهادته أمام زميله، وهذا المخرج ليس بالجديد فهو يرجع إلى عمر رضي الله عنه وقد تقدم ذلك.

يرد من كتاب الله، وسنة رسوله ما يرشد إلى إتباع العلم والعمل به، وأنه القنطرة التي لا يجوز العدول عنها إلا بدليل. فكيف خفي عليك ما اتفق عليه الناس من العمل بفحوى الخطاب (¬1) الذي ورد عليه قول الله سبحانه: {فلا تقل لهما أف} (¬2) وغير ذلك من خطابات الكتاب والسنة، ومحاورة العرب!؟ فهب أنه لم يرد من الحكم بالعلم حرفٌ من الكتاب والسنة. أما أرشدك عقلك وفهمك إلى أن تقول هاهنا: أنه إذا جاز الحكم بالظن جاز الحكم بالعلم بالأولى؛ لأن العلم ظن وزيادة؟ فإن قلت: إنك تقتصر على النص، وهو الحكم بتلك الأسباب دون غيرها وإن كان أولى منها. فنقول لك: لا تخص الاقتصار على النصب بهذا المحل، بل أطرده في كل شيء حتى تخرج عن الشرع والعقل. فقل: لم يرد في هذه الآية إلا تحريم التأفيف. فما كان أولى بذلك منه [6ب] جائز عندك، فيجوز الشتم والضرب!، ولا جرم ثم قل في قول القائل مثلًا: إن الرجل يحمل ¬

(¬1) المفهوم ينقسم إلى مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة، فمفهوم الموافقة حيث يكون المسكوت عنه موافقًا للملفوظ به: فإن كان أولى بالحكم من المنطوق به فيمسى فحوى الخطاب ومثاله: كآية تحريم التأفف على تحريم الضرب، لأنه أشد فتحريم الضرب من قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف}، من باب التنبيه بالادنى - وهو التأفيف- على الأعلى، وهو الضرب. انظر: «الكوكب المنير» (3/ 482)، «أدب القاضي» (1/ 617)، «المستصفى» (3/ 411 - 412)، «البحر المحيط» (4/ 12). (¬2) [الإسراء: 23].

الصخرة، إن العشرة، بل المائة لا يحملونها، ثم قل في قول القائل: إن الرغيف يشبع الرجلين، إنه لا يشبع الرجل! وبالجملة: فترك العمل بفحوى الخطاب (¬1). الذي يقال له: «مفهوم الأولى» وقياس الأولى خروج عن دائرة لغة العرب بأسرها، ومخالفة لجميع العقلاء، وخرق لإجماع المسلمين، فإن النافين للقياس، وللعمل بالمفهوم لم يجسروا على ترك العمل بفحوى الخطاب. فإن قلت: إذا كان الحكم بالعلم أرجح من الحكم بالظن كما قررته في هذا الكلام، فهل يقدم على الحكم السببه مجرد الظن فقط؟ مثلًا: إذا شهد شاهدان عدلان على زيدٍ بأنه قتل عمدًا. أو أقرَّ زيدٌ بأنه القاتل لعمرو، والحاكم الذي وقع التخاصم الديه يعلم علمًا يقينًا أن القاتل لعمرو غير زيد. قلت: نعم يجب عليه وجوبًا مضيفًا أن يعمل بعلمه، ويترك العمل بشهادة الشاهدين، وإقرار المقر، لأنه هاهنا قد بطل الظن بالعلم، بل ثبت العلم ببطلان شهادة الشاهدين (¬2)، وإقرار المقر، و «إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل» (¬3). وليت شعري ما يقول في مثل هذا من يقول: بأن الحاكم لا يحكم بعلمه؟ فإن قال: يحكم الحاكم بالشهادة التي قد علم بطلانها [7أ]، أو الإقرار (¬4) الذي قد تبين كذبه. ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة. (¬2) سيأتي التعليق على ذلك. (¬3) قالوا: «إذا جاء سيل الله بطل نهر معقل». نهر معقل: في البصرة، وقد احتفره ابن يسار في زمن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فنسب إليه. يضرب في الاستغناء عن الأشياء الصغيرة إذا وجد ما هو أكبر منها، وأعظم نفعًا. انظر: «الأمثال اليمانية» (1/ 95). «الأمثال» للميداني (1/ 88). (¬4) سيأتي التعليق على ذلك.

فيقال له: هذا -والله- الحكم المخالف لما أمر الله به من الحق، والعدل، والقسطن بل الحكم الذي هو شعبة من الطاغوت. وكيف يجوز لمسلم أن يحكم على مسلم بقتله، وسفك دمه قصاصًا، وهو يعلم أن القاتل غيره؟ وهل هذا يعد من هذه الشريعة؟ يا هذا! قد رجع رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عن أمور حكم بها باجتهاده، لما علم خلافها؛ فإنه أمر عليًا- عليه السلام - أن يذهب إلى من كان يدخل على بعض أمهات أولاده فيقتله، فلما أراد على رضي الله عنه أن يقتل ذلك الرجل رآه مجبوبًا فرفع السف عنه، وأقره رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وصوبه (¬1). وكذلك رجع عن حكمه (¬2) بحدِّ الرجل الذي ادعته المرأة أنه زنى بها، لما تبين له أن الفاعل غيره. وغير ذلك من القضايا الواقعة في عصر النبوة. وإن قلت: يعمل الحاكم بعلمه في مثل تلك الصورة، ولا يعمل بالشهادة ولا الإقرار. فنقول: ألم يكن هاهنا قد قدمت العلم على الظن المستفاد من الأسباب التي شرعها ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (59/ 2771). والحاكم في «المستدرك» (4/ 39 - 40) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. (¬2) أخرجه الترمذي في «السنن» رقم (1454) وهو حديث حسن دون قوله «ارجموه» من حديث علقمه بن وائل عن أبيه وقد تقدم. قال ابن العربي المالكي في «العارضة» (6/ 237 - 238): «إنما أمر به ليرجم قبل أن يقر بالزنى وأن يثبت عليه ليكون سببًا في إظهار النفسية حين خشى أن يرجم من لم يفعل وهذا من غريب استخراج الحقوق ولا يجوز ذلك لغير رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن غيره لا يعلم من البواطن ما علم هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإعلام الظاهر الباطن له بذلك». اهـ. وقيل «لا يخفى أنه بظاهره مشكل إذ لا يستقيم الأمر بالرجم من غير إقرار ولا بينة، وقول المرأة لا يصلح بينة بل هي التي تستحق أن تحد حد القذف، فعل المراد فلما قارب أن يأمر به ... ». «عون المعبود» (12/ 42 - 43).

الشارع؟ وأوجبت على الحاكم أن يعمل بعلمه، ويترك الظن؟ فكيف لا يجوز له الحكم بعلمه مع عدم معارضة الظن مع إيجابك عليه أن يعمل بعلمه مع معارضة الظن!. فإن قلت: إن العلم قد كشف بطلان السبب الظني الذي شرعه الشارع. فنقول لك: وكيف كان العلم كاشفًا لبطلانه؟ هل لكونه أرجح من الظن؟ أو مساويًا له أو دونه؟ إن قلت: لكونه مساويًا له أو دونه. فالمساوي والدون لا يكون موجبًا لبطلان ما هو مثله، أو ارجح منه. وإن قلت: لكون العلم أرجح من الظن أقررت بما هو مطلوبنا، فإن قلت أنا أعترف بأن العلم أرجح من الظن يبطله، ولكن لا أسلم أنه يجوز الحكم بمجرد العلم. قلنا: الحاكم لما حكم بأن القاتل غير زيد مثلًا قد حكم بالنفي كما اعترفت بذلك [7ب]. وهل يراد بحكم الحاكم - عند اهل الشريعة- إلا مجرد إثبات حكم أو نفيه؟ وأي قائل يقول: إن حكم الحاكم إنما يكون في الإثبات لا في النفي. فإنه لا يكون حكمًا. وإذا تقرر لك أن الحكم يجب عليه العمل بعلمه (¬1)، وترك الحكم بالشهادة والإقرار ¬

(¬1) انظر الأقوال في ذلك وأدلتها. وليس الشوكاني بدعًا في رأيه بجواز أن يحكم القاضي بعلمه فقد كان ذلك مبدءًا مستقرًا في القضاء اليمني في ظل الدولة الزيدية التي تولى فيها الشوكاني منصب قاضي القضاة، ذلك أن المذهب الزيدي مع الرأي الذي يبيح للقاضي أن يحكم بعلمه في قضايا الأموال والحقوق والقصاص، ويمنعه فقط في الحدود، وحتى في الحدود فإنه يجيز القضاء بعلم القاضي في حد القذف، وفي سائر العقوبات التعزيزية، بل إن المؤيد والناصر وهما من كبار علماء المذهب الزيدي، من القائلين بحق القاضي في الحكم بعلمه مطلقًا، أي في الحدود وفي غيرها دون استثناء. وفي «شرح الأزهار» (4/ 320): «وله - أي القاضي - القضاء بما علم إلا في حد غير القذف فلا يجوز له أن يحكم فيه بعلمه فأما في حد القذف والقصاص والأموال فيحكم فيها بعمله سواء علم بذلك قبل توليه القضاء أو بعده». انظر: «البيان الشافي» لابن المظفر (4/ 29)، «ضوء النهار» (4/ 2216)، «المنار» للمقبليل (2/ 369). ونجد أن محمد بن إسماعيل لا يوافقهم على ذلك ويذهب إلى المنع من القضاء بعلم القاضي، وقد ناقش الموضوع في كتابه «منحة الغفار على ضوء النهار» وهو حاشية من الأمير على كتاب «الجلال» المشهور «ضوء النهار». «ضوء النهار» (3/ 2214).

واليمين، إذا كان يعلم خلاف ذلك، فهل يجب عليه استدراك حكمه بأحد هذه الأسباب الظنية إذا كان قد أوقع الحكم وأنجزه؟ قلت: نعم إذا كان الاستدراك ممكنًا، وإن لم يكن الاستدراك ممكنًا، وذلك مثلًا: كان يقتل زيد قصاصًا في تلك الصورة بشهادة الشهود، أو بإقراره، فالحاكم معذور عند الله، وقد أخطأ في حكمه وله أجرٌ. وأما الشهود فتجب عليهم الدية كاملة إن كان القتل بالشهادة (¬1)، وإن كان القتل بالإقرار، فالمقر جنى على نفسه، فهو القاتل لنفسه، والحاكم معذورٌ مأجورٌ. نعم إذا كان الحكم الواقع عن أحد الأسباب الظنية في حد من الحدود المحضة لله، فيمكن أن يكون وقوع السبب الشرعي مسقطًا للحد كما ثبت عنه -- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال في الملاعنة: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» (¬2). ¬

(¬1) انظر: «المغني» (3/ 2214». (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4747). وهو حديث يكاد يكون صريحًا في هذه المسألة وقد قال عمر بن الخطاب لخصمين «إن شئتما شهدت ولم أحكم أو أحكم ولا أشهد» وهذه الرواية صحيحة عند الفقهاء وفيها بيان صريح وقاطع بأن حكم القاضي بعلمه معناه الجمع بين ولايتين، ولاية الشهادة وولاية الحكم والقضاء وهذا مما يأباه الإسلام. ولا نحسب أحد سيوافق الشوكاني حينما علق على واقعة امتناع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيقاع الحد على امرأة العجلاني إلا ببينة، لأن في رواية ابن ماجه لهذا الحديث تكملة لا تؤيد ما ذهب إليه الشوكاني فقد جاء في الحديث: «لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة لرجمت فلانة فقد ظهر منها الريبة في منطقها وهيئتها ومن دخل عليها». قال الشوكاني في «السيل الجرار» (4/ 291): «إن هذا ليس من باب العلم» ولكن الرواية عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال قد ظهر من عدة وقائع ذكرها أنها قارفت جرم الزنا، والرسول حين يقول «ظهر» إنما يعني أنه كان في يقينه وعلمه أيا كانت الوسيلة التي تحصل بها هذا العلم، فهو من باب العلم على عكس ما يرى الشوكاني، لأن العلم ليس ما يتحصل بالمشاهدة وإنما يتحصل بها وبغيرها. ومن جهة ثانية فإن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قال: «بغير بينة» لم يخطر بباله أن علمه بينة، فالبينة عنده كما قال فقهاء الإسلام هي الإقرار والشهادة واليمين وعلى ذلك فإن من الواضح أن قواعد الإثبات في الشريعة الإسلامية تتأسس على قاعدة أن قضاء القاضي إنما يعتمد ما طرح عليه من أدلة في مجلس قضائه. وأنه ليس في وارد الإسلام أن يكون للقاضي سلطة الدليل وسلطة الحكم معًا.

وقد استدل بعض المانعين من حكم الحاكم بعلمه بهذا الحديث فقال: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعمل بعلمه بعد وقوع سبب ظني، وهو الإيمان. وهذا من الفساد بأظهر مكان؛ فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يحصل له العلم بكذب الإيمان، بل ظن ذلك ظنًا بمجرد إتيان تلك المراة الحالفة بولد يشبه من رماها زوجها به، وهذا السبب غاية ما يستفاد به الظن. ولست أظن أن المستدل بهذا الحديث يدعي أن مجرد القافة تفيد العلم، ولو قال بهذا الركب مالاً يقول به غيره، ولا يوافقه عليه أحدٌ. وأما قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» فهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أبهم هذا الشأن، ولم يفسره فيحتمل أنه التوقف في درء الحد عنها بأيمانها، لأنه قد وج ما يعارض ذلك، مع وجود سبب للحد آخر، وهو أيمان الزوج، ولكنها، لما كانت قد جاءت بسبب درًا الحد عنها، وهو الأيمان، كان ذلك موجبًا للعمل بأيمانها؛ لأنها قد فعلت سببًا شرعيًا، والحدود تدرأ بالشبهات (¬1)، ولم يحصل علم يقيني بل مجرد حدس قوي بالمشابهة، وفي هذا كفاية لمن له هدايةٌ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه مرارًا.

حرره المجيب محمد الشوكاني في الثلث الأخير من ليلة الجمعة لعله ثاني وعشرين شهر رمضان سنة 1215هـ[8أ].

بحث في العمل بقول المفتي صح عندي

بحث في العمل بقول المفتي صحّ عندي تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: (بحث في العمل بقول المفتي صح عندي). 2 - الموضوع: في أصول الفقه. 3 - أول الرسالة: الحمد لله، ورد سؤال من سيدي عبد الكريم بن محمد دولة كوكبان الآن عن العمل بقول المفتي: صح عندي، هل على ذلك دليل أم لا؟. فأجبت بما لفظه ... 4 - آخر الرسالة وقول المفتي: إخبار عن السبب بواسطة الشهادة، أو كمال العدة، وهي لا تكون إلا عن السبب الحقيقي، وهو انقضاء العدة من عند الرؤية المتقدمة. فاعرف هذا والعلم لله وحده. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الأوراق: ورقة واحدة. 7 - المسطرة: الصفحة الأولى: 25 سطرًا. الصفحة الثانية: 18 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 8 - 9 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الرابع من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

الحمد لله، ورد سؤال من سيدي عبد الكريم بن محمد دولة كوكبان الآن (¬1) عن العمل بقول المفتي (¬2): صح عندي، هل على ذلك دليل أم لا؟ ¬

(¬1) أي في زمان المؤلف رحمة الله. (¬2) الفتوى لغة: «أفتاه في الأمر أبانه له، وأفتى الرّجل في المسألة واستفتيته فيها فأفتانيب إفتاه. يقال: أفتيت فلانًا رؤيا رآها إذا عبَّرتها له، وأفتيته في مسألة إذ أجبته عنها». يقال: أفتاه في المسألة إذا أجابه، والفتيا والفتوى والفتوى: ما أفتى به الفقيه، الفتح في الفتوى لأهل المدينة. قال ابن سيده: وإنَّما قضينا على ألف أفتى بالياء لكثرة ف ت ي وقلة ف ت و ... «لسان العرب» (15/ 147، 148). وفي تفسير قوله تعالى: {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن} [النساء: 127]. قال ابن عطية «أي يبَّين لكم حكم ما سألتم». «المحرر الوجيز» (4/ 267). وقد عرف العلماء المفتي بتعاريف عدة: قال الشاطبي في «الموافقات» (4/ 244): المفتي هو القائم في الأمة مقام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». «إعلام الموقعين» (4/ 224). وقيل: «هو المتمكن من معرفة أحكام الوقائع شرعًا بالديلل مع حفظه لأكثر الفقه». «صفة الفتوى» (ص44). هل هناك فرق بين المجتهد والمفتي؟ تقدم تعريف المفتي. أما المجتهد: قال في «تاج العروس» (2/ 329، 330): «الجهد بالفتح الطاقة والوسع، ويضم. قال ابن الأثير في «النهاية» (1/ 320): الجهد والجهد ... بالضم الوسع والطاقة وبالفتح: المشقة وقيل المبالغة والغاية وقيل: هما لغتان في الوسع والطاقة. - فالاجتهاد هو استفراغ الوسع في النظر فيما لا يلحقه فيه لوم، مع استفراغ الوسع فيه. «المحصول» (2/ 3). قال الزركشي في «البحر المحيط» (3/ 281) الاجتهاد: بذل الوسع لنيل حكم شرعي بطريق الاستنباط. قال ابن الهمام: «إن المفتي هو المجتهد وهو الفقيه». وقال الشوكاني في «إرشاد الفحول» (ص547) إن المفتي هو المجتهد .. ومثله قول من قال: إن المفتي هو الفقيه لأن المراد به المجتهد في مصطلح الأصول .. - شروط وصفات المفتي: أن يكون مكلفًا مسلمًا، ثقة مأمونًا متنزهًا ممن أسباب الفسق ومسطقات المرؤة، لان من لم يكن كذلك فقوله غير صالح للاعتماد وإن كان من أهل الاجتهاد. ويكون فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر، صحيح التَّصرف والاستنباط مستيقظًا. انظر: «صفة الفتوى» (ص13). «أدب المفتي والمستفتي» (ص 85 - 86). - ثم ينقسم إلى قسمين: المفتي المستقل: وشرطه أن يكون مع ما ذكرنا قيَّما بمعرفة أدلة الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وما التحق بها على التفصيل. أن يكون عالمًا بما يشترط في الأدلة ووجوه دلالتها، وبكيفية اقتباس الأحكام منها، وذلك يستفاد من علم أصول الفقه، عارفًا من علم القرآن الكريم، وعلم الحديث، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلمي النحو، واللغة واختلاف العلماء واتفاقهم بالقدر الذي يتمكّن به من الوفاء بشروط الأدلة والاقتباس منها ذا دربة وارتياض في استعمال ذلك، عالمًا بالفقه، ضابطًا لأمهات مسائلة وتفاريعه المفروع من تمهيدها. فمن جمع هذه الفضائل فهو المفتي المطلق المستقل لذي يتأدى به فرض الكفاية، ولن كيون إلا مجتهدًا مستقلًا. والمجتهد المستقل: هو الذي يستقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية من غير تقليد وتمسك بمذهب واحد. أنظر: «المستصفى» (2/ 315)، «البرهان» للجويني (2/ 1320، 1332)، «إعلام الموقعين» (4/ 212). «اللمع» (ص127). «أدب المفتي والمستفتي» (ص 85 - 90). المفتي الذي ليس بمستقل وله أحوال أربعة: 1 - أن لا يكون مقلدًا لإمامه، لا في المذهب، ولا في دليله لكونه قد جمع الأوصاف والعلوم المشترطة في المستقل، وإنَّما ينتسب إليه لكونه سلك طريقه في الاجتهاد ودعا إلى سبيله. 2 - أن يكون في مذهب إمامه مجتهدًا مقيَّدًا فيستقل بتقرير مذاهبه بالدليل، غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول إمامه وقواعده ومن شأنه أن يكون عالمًا بالفقه، خبيرًا بأصول الفقه عارفًا بأدلّة الأحكام تفصيلًا بمسالك الأقيسة والمعاني». يتخذ نصوص إمامه أصولًا يستنبط منها نحو ما يفعله المستقل بنصوص الشارع وربما مر به الحكم وقد ذكره إمامه بدليله، فيكتفي بذلك فيه، ولا يبحث هل لذلك الدليل من معارض؟ ولا يستوفي النظر في شروطه كما يفعله المستقل. 3 - أن لا يبلغ رتبة أئمة المذهب أصحاب الوجوه والطرق، غير أنه فقيه النفس حافظ لمذهب إمامه عارف بأدلته قائم بتقريرها وبنصرته يصور ويحرر ويرجح ... ولكنه قصر عن درجة أولئك إما لكونه لم يبلغ في حفظ المذهب مبلغهم، وإمَّا لكونه لم يرتض في التخريج والاستنباط كارتياضهم، وإمّا لكونه غير متبحر في علوم أصول الفقه على أنه لا يخلو مثله من ضمن ما يحفظه من الفقه ويعرفه من أدائه على أطراف من قواعد أصول الفقه، وإمَّا لكونه مقصرًا في غير ذلك من العلوم التي هي أدوات الاجتهاد والحاصلف لأصحاب الوجوه والطرق. 4 - أن يقوم بحفظ المذهب ونقله، وفهمه واضحات المسائل ومشكلاتها غير ان عنده ضعفًا في قترير أدلته وتحرير أقيسته فهذا يعتمد نقله وفتواه فيما يحكيه من مسطورات مذهبه من منصوصات إمامه وتفريعات أصحاب المجتهدين في مذهبه وتخريجاتهم. انظر تفصيلات ذلك: «الرد على من أخلد إلى الأرض» (ص97)، «تبصرة الحكام» (ص516) «إعلام الموقعين» (4/ 212 - 213)، «الكوكب المنير» (4/ 551 - 560).

فأجبت بما لفظه: أقول: وجه ذلك أن صدور مثل هذا القول ممن الحاكم أو المفتي الذي يعقل حجج الله - سبحانه -، ويعرف ما تقوم به الحجة على العباد في الصوم والإفطار يدل على أنه قد صح عنده مستندٌ شرعي من المستندات المعتبرة، فكأنه أخبر بوجود ذلك المستند وصحته وكلامه دليلٌ على نفس السبب الشرعي، وإن لم يكن سببًا في نفسه. وبهذا تعرف أنه لا وجه لما وقع من العلامة الجلال- رحمه الله- في ضوء النهار (¬1) أن ذلك من تقليد المعين (¬2)، فليس هذا من التقليد في شيء، لأن القول هو قبول رأي الغير لا قبول روايته، ¬

(¬1) (2/ 415). (¬2) تقدم تعريفه.

وهذا من قبول الرواية الكاشفة عن وجود السبب، وليس للمفتي في هذا رأي (¬1)، لأه استفراغ الوسع في استنباط حكم شرعي. وأين هذا ممن ذاك!؟ فجعله من باب التقليد للمعين (¬2) وهم لا شك فيه، وهكذا اعتراضه - رحمه الله- بأنه لم يقم دليل على هذا بأنه سبب شرعي، فإن ذلك غير وارد، لأنه لم يقل صاحب الأزهار (¬3) بأنه سبب، ولا قال ¬

(¬1) انظر: «أدب المفتي والمستفتي» (ص23). (¬2) قال الأمير الصنعاني في «منحة الغفار على ضوء النهار» (2/ 416): قوله: وإنه تقليد لمعين، أقول: فيه إبانة أن المراد بالمفتي في عبارة المصنف المجتهد، وقد صرح ابن بهران بانهالمراد وهو مقتضى الأصول، ولأنه الذي يصح عنده، وأمَّا المقلد فبمعزل عن أن يصح عغنده إذ لا عند له إذ الذي يصح عنده وله هو التابع للدليل، ولأنه مقتضى قول المصنف في المقدمة ويكفي المغرب انتصابه للفتيا في بلد شوكته لإمام حق فإنه جعل ذلك أي الانتصاب للفتاي كاف في معرفة كونه مجتهدًا فأفاد أنه لا يرد بمقت إلا المجتهد فقوله عرف مذهبه أي ما يذهب إليه في اجتهاده إلا أن ههنا بحثًا وهو أن العامل بقوله صح عندي لا يخلو ما أن يكون مجتهدًا، وهو لا يجوز له التقليد فيتعين أن العامل لا يكون مقلدًا والمقلد لا يلزمه معرفة ما يذهب إليه المجتهد، وهو لا يجوز له التقليد فيتعين أن العامل لا يكون مقلدًا والمقلد لا يلزمه معرفة ما يذهب إليه المجتهد، إنما يكفيه مجتهدًا عدلًا لا غير فالموافقة من طرف المقلد غير ملاحظة لعدم الدليل على اشتراطهما وتمثيل الشارح بخبر الواحد إن أراد أن مذهب المستفتي أي ما يذهب إليه من يقلده من المجتهدين في غير هذه المسألة لا يقبل الواحد في الرؤية والقايل صح عندي يقبل الواحد فذلك لا يصح إلا في حق الملتزم لا المقلد للمجتهدين فقد تقدم في شرح المقدمة أنه لا خلاف في جواز تقليد أئمة مختلفين إلاما استثنى هنالك وإذا عرفت أن اتباع قول المفتي تقليد فإنه يحرم على المجتهد العمل به لما سبق من حرمة التقليد على المجتهد، قال ابن بهران ظاهر المذهب أنه لابد أن يقول المفتي صح لي أو صح عندي فأما لو قال رأيت الهلال فإنه لا يجوز أن يعمل بقوله، وحده قيل وفيه نظر وهو ظاهر اهـ. ثم قال الأمير الصنعاني: واعلم أن في هذه الأزمنة التي عرفناها تقاصرت الهمم فولي القضاء والقتيا مقلدون منادون على أنفسهم أنهم ليسوا من أهل الاجتهاد في ورد ولا صدر وصاروا في مسألة الهلال يقولون صح عندي ويفطر الناس بأقوالهم وينقولن في الشهادة مجاهيل غير معروفي العدالة مع عزة شروطها وكوهم مقررين في أنه لا يقبل المجهول في رواية ولا شهادة لأن الأصل الفسق فلا بد من تحقق خلافه ثم يوجهون سهام الملام إلى من توقف على قاعدة الشريعة فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقياس ما ذكرناه يحرم العمل بقول المقلد صح عندي. (¬3) الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى الحسني وقد تقدمت ترجمته. قال الأمير الصنعاني في «منحة الغفار» (2/): قال المؤيد لو قال رجل كبير من العلماء قد صح عندي رؤية الهلال يجوز العمل على قوله، قال وهكذا الحاكم وهو أولى من قول المفتي فقيل يحمل الجواز على ظاهره وقيل أراد به الوجوب قال المصنف: الأولى أن يقال أراد بالجواز الصحة بمعنى أن يصح الأخذ بقوله في هذه الصورة وإذا صح وجب.

بذلك غيره، بل هو خبرٌ يدل على وجود السبب الحقيقي، وهو ظهور الهلال (¬1)، أو كمال (¬2) العدة، مع أن شهادة الشهود على الرؤية للهلال منهم أو كمال العدة، وتسمية ذلك شهادة في كلام الشارع وكلام الفقهاء إنما هو باعتبار ما يكثر في لسان أهل اللغة (¬3) والشرع مر إطلاق الخبر على الشهادة، والشهادة على الخبر، بل لم يرد دليل يدل على أن في الشهادة أمرًا زائدًا على الخبر [1ب]، بل هي الخبر (¬4) من الشاهدين بكذا، سواء ¬

(¬1) سيأتي تخريج الحديث. (¬2) سيأتي تخريج الحديث. (¬3) قال الجوهري في «الصحاح» (2/ 494): الشهادة خير قاطع والشاهد حامل الشهادة ومؤديها لأنه مشاهد لما غاب عن غيره قيل هي مأخوذة من الإعلام من قوله تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو} [آل عمران: 18]. أي: علم. وانظر: «لسان العرب» (7/ 223). (¬4) عن ابن عمر رضي الله عنه قال: تراءى الناس الهلال، فأخبرت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أني رأيته، فصام، وأمر الناس بصيامه. [أخرجه أبو داود رقم (2342) والحاكم (1/ 423) وابن حبان في صحيحه رقم (3447) وغيرهم وهو حديث صحيح]. قال ابن قدامة في «المغني» (4/ 418): ولأنه خير عن وقت الفريضة فيما طريقة المشاهدة، فقبل من واحد، كالخبر بدخول وقت الصلاة، ولأنه خبر ديني يشترك في المخبر والمخبر، فقبل من واحد عدل، كالرواية. وأخرج النسائي في «السنن» (4/ 132 رقم 2116) عن عبد الرحمن بن زيد أنه قال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غمَّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا، إلا أن يشهد شاهدان». قال ابن قدامة في «المغني» (4/ 419): وجملة ذلك أنه لا يقبل في هلال شوال إلا شهادة اثنين عدلين في قول الفقهاء جميعهم اهـ وقيل لأنه خروج من العبادة.

قالا نشهد أو اقتصروا على مجرد الخبر، فإن الشاهد الذي شاهد الهلال إذا قال: رأيت الهلال لم يبق ما يقتضي إتيانه بلفظ الشهادة (¬1)، لا في هذا الذي ورد السؤال عنه، ولا في غيره. وقد يبعد هذا عن ذهن من لم يشتغل حق الاشتغال بعلوم الاجتهاد. وإذا عرفت هذا، وتقرَّر لك أن السبب الشرعي هو نفس طلوع الهلال، أو كمال العدة كما في قول الصادق المصدوق - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة» (¬2) فظهور الهلال هو سبب إيجاب الصيام (¬3) ¬

(¬1) قال الأمير الصنعاني في «منحة الغفار على ضوء النهار (2/ 417): «قوله: بناء على أنه خبر لا شهدة، أقول: إن كان تعليلاً لقبول العدلتين فالخبر تقبل فيه العدلة ولذا قبلت أخبار أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأحكام فلا وجه لاشتراط الاثنين. وإن كان تعليلاً لقولهم خبر وأنه لم يشترط لفظ الشهادة فلا حاجة إلى اشتراط العدلين لأن الخبر العدل مقبول. وبالجملة أنه جعل الإعلام بالشهادة خبرًا فلا وجه لاشتراط العدد في ذكر ولا أنثى، وقد أشار إليه الشارح آخرًا وإن كان شهادة فلابد من لفظها عند المصنف، وعدم قبول خبر الاثنين في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبر الواحد ما يدل على أنه خبر، وأ/ا حديث النسائي -تقدم-. وفيه فإن غمّ عليكم فأتموا ثلاثين فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا. وحديث أبي داود «عهد إلينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ننسك لرؤيته فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما وهما دليل اشتراط العدلين فلا يعارض مفهومها العمل بخبر الواحد فإنه أصرح من المفهوم ... ». (¬2) أخرجه البخاري رقم (1907) ومسلم رقم (1080) من حديث ابن عمر رضي الله عنه. وأخرج البخاري رقم (1900) من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غمَّ عليكم فاقدروا له». (¬3) السبب: قال الجوهري في «الصحاح» (1/ 145) السبب: ما توصل به إلى غيره، وقال السبب الحبل، وكل شيء يتوصل به إلى أمر من الأمور». وقال الشوكاني في «إرشاد الفحول» (ص61 - 62) السبب: هو جعل وصف ظاهر منضبط مناطًا لوجود حكم أي يستلزم وجوده وبيانه أن الله سبحانه في الزاني مثلًا حكمين أحدهما تكليفي وهو وجود الحد عليه، والثاني وضعي وهو جعل الزاني سببًا لوجوب الحدِّ لأن الزاني لا يوجب الحد بعينه وذاته بل بجعل الشرع. انظر: «الإحكام للآمدي» (1/ 127). قال الزركشي في «البحر المحيط» (1/ 306) السبب ينقسم إلى ما يتكرر الحكم بتكرره كالدلوك للصلاة، ورؤية الهلال في رمضان لوجوب الصوم وكالنصاب للزكاة. وما لا يتكرر بتكرره كوجوب معرفة الله عند تكرر الأدلة الدالة على وجوده ووجوب الحج عند تكرر الاستطاعة عند من يجعلها سببًا. - ولتعلم أن السبب يوجد الحكم عنده لا به وهو الذي يضاف إليه الحكم قال تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} [الأسراء: 78]. أي إن السبب لا يكون سببًا إلا بجعل الشارع له سببًا، لأنه وضعه علامة على الحكم التكليفي، والتكليف من الله تعالى الذي يكلف المرء بالحكم ويضع السبب الذي يرتبط به الحكم، وهذه الأسباب ليست مؤثرة بذاتها في وجود الأحكام، بل هي علامة وأمارة لظهورها ووجودها ومعرفة لها عند جمهور العلماء. انظر: «الكوكب المنير» (1/ 446) و «الموافقات» (1/ 129)، «الإحكام» للآمدي (1/ 128).

ونفس مشاهدته، أو الشهادة عليه، إنما هي خبرٌ عن وجود السبب لا أنها نفس السبب. فقوله المفتي: صح عندي هو إخبار عن وجود السبب بواسطة من شهد له به بالرؤية، فالشهادة إخبار عن السبب بلا واسطة. وقول المفتي: إخبار عن السبب بواسطة الشهادة، أو كمال العدة، وهي لا يكون إلا عن السبب الحقيقي، وهو انقضاء العدة من عند الرؤية المتقدمة. فاعرف هذا. والعلم لله وحده.

بحث في الكلام على أمناء الشريعة

بحث في الكلام على أمناء الشريعة تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط 1 - عنوان الرسالة: (بحث في الكلام على أمناء الشريعة). 2 - موضوع الرسالة: في أصول الفقه. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الأكرمين وبعد فإني رأيت بعض الأعلام كثر الله فوائده ونفع بعلومه قد أنكر أن يكون بعث أمناء الحكام لنظر محل الخصومة. 4 - آخر الرسالة: ... قال الله سبحانه: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} فقد يذهل العالم عن مدرك من مدارك الشرع، فيأتي بما يخالفه حتى يتذكر، فيعود إلى الصواب، وحسبنا الله ونعم الوكيل. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني. 7 - عدد الصفحات: 9 صفحات. 8 - المسطرة: الصفحة الأولى والثانية 26 سطرًا. الصفحة الثالثة: 25 سطرًا. الصفحة الرابعة: 11 سطرًا. الصفحة الخامسة: 23 سطرًا. الصفحة السادسة: 21 سطرًا. الصفحة السابعة: 25 سطرًا. الصفحة الثامنة: 22 سطرًا. الصفحة التاسعة: 23 سطرًا. 9 - عدد الكلمات في السطر: 10 - 12 كلمة. 10 - الرسالة من المجلد الرابع من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الأكرمين، وبعد: فإني قد رأيت بعض الأعلام (¬1) - كثر الله فوائده، ونفع بعلومه-، قد أنكر أن يكون بعثُ أمناء الحكام لنظر محل خصومة (¬2)، أو فصل أمر شجر بين خصوم كائنًا ما كان موافقًا للمنهج الشرعي، مطابقًا للمسلك المرضي. وصرح بأنه خلاف الشرع، وخلاف طريقة العدل. هذا معنى كلامه - متع الله بحياته-، وأسند هذا الكلام الذي هو في قوة المنع بأن ذلك لم يثبت عن الشارع، ولا روي من فعله. وأقول: هو - حفظه الله- لا يذكر أن هذه الشريعة المطهرة، ليست بمقصورة (¬3) ¬

(¬1) في هامش المخطوطة ما ؤنصه: هو سيدي العلامة عبد الله بن محمد الأمير- رحمه الله- وقد أطلعته على هذا البحث. (¬2) سيأتي توضيحه. (¬3) لذلك تجد دواوين السنة أفعال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبثوثة بين أحاديثه القولية، ولم يفردها من المسندين أحد بالرواية- فيما نعلم- كما لم يفرد الأقوال أحد عن الأفعال. وأول من اعتنى بجمع الأفعال وإفرادها عن الأقوال هو- ابن العاقولي ولم يكن هذفه من تجميع الأفعال التهيئة لاستفاد الأحكام الفقهية منها، وإنما كان يريد التعريف بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولذلك أدمج أوصاف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخلقية ونسبه الشريف ونحو ذلك- كتابه «الرصف لما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الفعل والوصف» وجاء بعد ذلك السيوطي، فأفرد الأفعال عن الأقوال، ولم يكن الذي دعاه إلى هذا أمرًا يتعلق بالاحتجاج بها، وإنما كان هدفًا صرفًا. انظر: «مقدمة السيوطي» الجامع الكبير. - ترجع أولية فصل الفعال النبوية عن الأقوال إلى القرن الرابع. والله أعلم. وقيل أن البيان بالفعل أحد أنواع البيان، فيمكن استعماله حيث أفاد المطلوب وواصح عقلًا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كان واسطة لتبيلغ الشريعة وبيانها، فإنه يبين بالطريقة التي يختارها، فإما أن يبين المشكل بأقواله أو بأفعاله، فلما صح البيان بالأقوال لكونها دليلًا على المطلوب فكذلك يصح البيان بالأفعال حيث تدل على المطلوب. فما أفاد فيه البيان بالأقوال والأفعال، أجزأ بكل منهما ويكون ذلك واجبًا مخيرًا، أي الخصلتين فعل فقج أدى ما وجب عليه، وهذا مذهب أكثر العلماء وقد قيده عبد الجبار بأن لا يختص أحدهما في كونه مصلحة بما ليس في الآخر، وهو معنى ما تقدن من اشتراط الفائدة. انظر: «المغني» (17/ 250). قال ابن تيمية في «مجموع فتاوى» (8/ 11 - 12): كل ما قاله بعد النبوة واقر عليه ولم ينسخ فهو تشريع، ثم قال: « ... والمقصود أن جميع أقواله يستفاد منها شرع» وانظر: «الواضح في أصول الفقه»: في المرتبة الثانية من أدلة الأحكام الشرعية وهي السنة: وهي ثلاث مراتب: فالأولى منها: القول، وهو منقسم إلى قسمين: مبتدأ، وخارج على سبب. فالأول: المبتدأ، وهو منقسم قسمين: ص، وظاهر، ومن جملة الظاهر: العموم. فأما النص: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «في الرقة ربع العشر»، «فيما سقت السماء العشر». وحكم ذلك: إيجاب تلقيه باعتقاد وحوبه والعمل به، ولا يترك إلا بنص يعارضه، ونسخ يرفع حكمه. والظاهر: كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأسماء في دم الحيض: «حتيه، ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء»، يحمل على الوجوب، ولا يصرف إلى الاستحباب إلا بدليل. والعموم: كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس في المال حق سوى الزكاة»، «ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامة» فيعم سائر الحقوق إلا ما خصه الدليل من الغرامات والكفارات والديات. القسم الثاني: وهو الخارج على سبب فمنقسم إلى قسمين: مستقل دون السبب: كما روي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لما قيل له: إنك تتوضأ من بئر بضاعة، وهي تطرح فيها المحائض ولحوم الكلاب وما ينجي الناس، قال: «الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه». فحكم هذا في استقلاله بنفسه المبتدأ، وقد سبق بيانه وانقسامه. القسم الثاني: من الخارج على السبب: ما لا يستقل دون السبب مثل ما روي عن السائل عن لطم أمته الراعية، حيث اكل الذئب شاة من غنمه، وأنه أخذه ما يأخذ الرجل على تلف ماله: وما روي أن أعرابيًا قال له: جامعت امرأتي في نهار رمضان فقال لكل واحد منها: «اعتق رقبة» فيصير قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع سؤال السائل كالقول الواحد، فتقديره: اعتق رقبة إذا لطمت أمتك، واعتق رقبة إذا جامعت في نهار رمضان زوجتك. وانظر: «الإحكام» (2/ 347)، «نهاية السول» (2/ 476 - 480).

على مجرد الأفعال، بل هي ثابتة بالأقوال أكثر منها بالأفعال، وبالمعلومات أكثر منها بالخصومات. وهذا أمر لا ينكره أحد، ولا تتخالج عارفًا فيه شبهة. وقد أمر الله- سبحانه- في كتابه العزيز بالحكم بالعدل (¬1)، وبما أنزل الله (¬2)، وبما أراه رسله من الحق (¬3). ثم خاطب رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} (¬4) الآية. ثم كانت الخصومات ترفع إلى الرسول- صلى الله عليه وىله وسلم-، فيقتضي فيها كما قصة المترافعين إليه في المواريث (¬5) بينهما فدرست (¬6)، وكما في قصة خصومة الزبير في السقي (¬7) وكما في كثير من الواقعات في الأموال (¬8) ¬

(¬1) قال تعالى: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعد .. } [النساء: 58]. (¬2) قال تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أعواءهم} [المائدة: 49]. (¬3) قال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله .. } [النساء: 105]. (¬4) [النساء: 65]. (¬5) انظر «فتح الباري» (3/ 56). (¬6) هكذا في المخطوط ولعلها فورثت. (¬7) أخرجه البخاري رقم (2359، 2360، 2361، 2362، 2708، 4585). ومسلم في صحيحه (129/ 2357). (¬8) انظر «كتاب الأموال» لأبي عبيد.

والحدود (¬1)، واللعان (¬2)، والطلاق (¬3)، والعتاق (¬4)، وما لا يأتي عليه الحصر. فالحاصل أم ما شرعه الله- سبحانه- في كتابه العزيز، وما ثبت عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مما يبين به للناس ما نزر إليهم إما هو شريعة ثابتة مستمرة (¬5) ¬

(¬1) انظر: «المغني» (14/ 308) وما بعدها. (¬2) انظر: «فتح الباري» (9/ 361) و (9/ 456). (¬3) انظر: «فتح الباري» (8/ 519). (¬4) انظر: «فتح الباري» (5/ 146). (¬5) إن النصوص في الكتاب الكريم والسنة المطهرة، دلت دلالة قاطعة على وجوب اتباع السنة اتباعًا مطلقًا في كل ما ورد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن من لم يرض بالتحاكم إليها والخضوع لها فليس مؤمنًا، وأنها تدل بعموماتها وإطلاقًا على امرين هامين: أنها تعم كل من بلغته الدعوة إلى يوم القيامة، وذلك صريح في قوله تعالى {وأوحى إلى هذا القرءان لأنذركم به ومن بلغ} [الأنعام: 19]. أي أوحى الله إلى هذا القرآن الذي تلوته عليكم لأجل أن أنذركم به وأنذر به من بلغ إليه: أي كل من بلغ إليه من موجود ومعدوم سيوجد في الأزمنة المستقبلة، وفي هذه الآية من الدلالة على شمول أحكام القرآن لمن سيوجد كشمولها لمن قد كان موجودًا وقت النزول. انظر: «فتح القدير» (2/ 105). وقال تعالى: {وما ارسلنك 'لا كافة للناس بشيرًا ونذيرًا} [سبأ: 28]. أي أن الله تعالى أرسله إلى جميع الخلائق من المكلفين، كقوله تعالى: {قل بأيها الناس إني رسول الله إلأيكم جميعًا} [الأعراف: 158]. وأخرج مسلم في «صحيحه» رقم (154) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به غلا كان من أصحاب النار». وانظر «زاد المسير» (6/ 456). وقال ابن حزم في «الإحكام في أصول الأحكام» (1/ 69 - 99): إن الله جعل محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتم أنبيائه ورسله وجعل شريعته الشريعة الخاتمة وكلف الناس بالإيمان به، واتباع شريعته إلى يوم القيامة ونسخ كل شريعة تخالفها، فمما تقضيه إقامة حجة الله على خلقه، أن يبقى دينه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويحفظ شرعه، إذ من المحال أن يكلف الله عباده بأن يتبعوا معرضة للزوال أو الضياع، ومعلوم أن المرجعين الأساسيين للشريعة الإسلامية هما القرآن والسنة.

لعباده إلى قيام الساعة، أو هو خاص بزمن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، والثاني باطل بإجماع المسلمين واولهم وآخرهم، ومستلزم لما هو باطل بإجماع المسلمين أولهم وآخرهم، إذ الكل متفقون على بقاء هذه الشريعة، وعلى أنها لم ترفع بموت رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وأن السلف [1 أ] والخلف إلى قيام الساعة متعبدون بأحكامها، مكلفون بتكاليفها، ولم يسمع عن فرد من افراد المسلمين بما يخالف هذا بوجه من الوجوه، هذا هو البحث الول من مباحث كلامنا هنا. (البحث الثاني): أنه لم يقل أحد من المسلمين أجمعين منذ البعثة إلى الآن أن هذه الشريعة المطهرة، لا تثبت إلا بالأفعال خاصة دون الأقوال. بل الأكام الثابتة بالأفعال المجردة عن الأقوال (¬1)، هي أقل قليل بالنسبة إلى الأقوال. (البحث الثالث): أن هذه الشريعة المطهرة أكثرها ثابت بالعمومات الشاملة (¬2)، فإن أركان الإسلام لم تثبت إلا بمثل قوله- سبحانه-: {وأقيموا الصلوة وءاتوا الزكوة} (¬3)، {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} (¬4)، {ولله على الناس حج البيت} (¬5) ¬

(¬1) انظر: «بداية الرسالة». (¬2) انظر: تفصيل في «البحر المحيط» (2/ 134)، «المحصول» (2/ 363)، «إرشاد الفحول» (ص 419 - 425). (¬3) [المزمل: 20]. وقوله تعالى: {وأقيموا، وآتوا} من صيغ العموم وهو الأمر بصيغة الجمع (¬4) [البقرة: 185]. أيضًا من من صيغ العموم وانظر تفصيل ذلك «تيسير التحرير» (1/ 224)، «البحر المحيط» (3/ 64 - 65). (¬5) [آل عمران: 97]. فائدة: العموم في اللغة: شمول أمر لمتعدد سواء كان الأمر لفظًا أو غيره، ومنه قولهم عمهم الخير إذا شملهم وأحاط بهم. «لسان العرب» (9/ 483)، «المصباح المنير» (ص 163). والعموم في الإصلاح: «هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد دفعه. كقوله الرجال، فإنه مستغرق لجميع ما يصلح له ولا تدخل عليه النكرات كقولهم رجل لأنه يصلح لكل واحد من رجال الدنيا ولا يستغرقهم، ولا التثنية ولا الجمع لأن لفظ رجل ورجال يصلح لكل اثنين وثلاثة ولا يفغيدان الاستغراق، وى ألفاظ العدد، كقولنا خمسة لأنه يصلح لكل خمسة ولا يستغرقه، وقولنا بحسب وضع واحد احتراز عن اللفظ المشترك والذي له حقيقة ومجاز فإن عمومه لا يقتضي أن يتناول مفهوميه معًا. وذهب الجمهور إلى أن العموم له صيغة موضوعة له حقيقة، وهي أسماء الشرط والاستفهام والموصولات والجموع المعرفة الجنس والمضافة واسن الجنس والنكرة المنفية والمفرد المحلى باللام ولفظ كل وجميع .. ». النظر: «المحصول» (2/ 309)، «المسودة» (89 - 100)، «البحر المحيط» (3/ 7)، «إرشاد الفحول» (ص 391 - 398).

(البحث الرابع): أنه لم يقل قائل من المسلمين أجمعين: أن أقواله وأفعاله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مختصة، بأعيان الأسباب التي وقعت لأجلها (¬1)، لا تتجاوزها غلى أمثالها، ولا يصح الاحتجاج بها على غيرها. ولو قال قائل بذلك ارتفاع أكثر الشريعة، وعدم التعبد بغالب القرآن والسنة، لأنهما في الغالب، وأردان على أسباب خاصة. فلو قبل بقصر ما ورد فيهما عليها لزم أنه لا يحتج بها إلا في تلك المكنة، والأزمنة، وعلى أولئك الأشخاص الذين لهم تلك الأحوال. وهذا باطل من القول بلا خلاف. ¬

(¬1) أفعال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حيث الجملة، حجة على العباد، إذ هي دليل شرعي يدل على أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين. وقالوا: «لا خلاف بين أهل العلم أنه يرجع غلى أفعاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ثبوت الأحخكام للفعال الشرعية، كما يرجع إلى اقواله، وذلك كله عندهم واحد في هذا الباب». انظر: «المتعمد» (1/ 377)، «الإحكام» للآمدي (1/ 265)، «تيسير التحرير» (3/ 120).

(البحث الخامس): أنه قد ثبت عنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بعث أصحابه- رضي الله عنهم- إلى الأقطار لتعليم الشرائع (¬1)، وقبض الزكوات (¬2). وذلك ظاهر مكشوف، لا يخالف فيه من يعرف الشريعة، بل بعث رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من اصحابه من بعثه للإصلاح بين المسلمين. كما ثبت عنه أنه بعث عليًا رضي الله عنه في قصة خالد مه بني جذيمة (¬3)، وفي قصته مع مالك بن نويرة (¬4). بل خرج- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بنفسه الشريفة للإصلاح بين بني عمرو بن عوف (¬5)، بل بعث خادمة أنيسًا (¬6) رضي الله عنه في أمر عظيم فقال: واغد يا أنيس على امرأة ¬

(¬1) انظر: «السيرة النبوية» (2/ 83 - 86) العقبة الأولى ومصعب بن عمير. قال ابن إسحاق: فلما انصرف عنه القوم بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين .. (¬2) أخرجه البخاري في «صحيحه» رقم (1458)، ومسلم رقم (29/ 19) عن ابن عباس أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له: إنك تقدم على اقوام أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم الزكاة في اموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم، فإذا اطاعوك فخذ منهم وتروق كرائمم أموال الناس. وانظر: «القصة كاملة في السير النبوية» (4/ 100 - 104). (¬3) أخرجه البخاري في «صحيحه» رقم (4339، 7189) وقد تقدم. (¬4) مالك بن نويرة التميمي كان شاعرًا فارسًا معدودًا في فرسان بني يربوع في الجاهلة. أسلم هو وأخروه متمم بن نويرة الشاعر كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد استعمله على صدقات قومه. انظر: «الإصابة» (5/ 560) رقم (7711)، «تهذيب الكمال» (3/ 1301)، «الكاشف» (3/ 117). (¬5) انظر التعليقة الآتية. (¬6) في هامش المخطوط: هذا المرسل هو أنيس بن الضحاك الأسلمي رجل من أسلم، كما جاء كما جاء مصرحًا بذلك في بعض الروايات الصحيحة وليس انس بن مالك خادم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكنه لم يكن بعثه ولا غيره بأجرة فما الدليل وإلا فلتكن ... الموضوع للمصالح العامة. وانظر «الإصابة» رقم (290) و «الاستيعاب» رقم (95).

هذا [1 ب] فإن اعترفت بالزنا فارجمها (¬1). وكذلك بعث عليًا رضي الله عنه لقتل الرجل الذي كان يدخل على أمهات المؤمنين، فوجده مجبوبًا (¬2) فتركه. ونحو هذه الوقائع كثير. فإن قال قائل: إنه لا يجوز بعث أمناء الشريعة إلا في هذه الأمور بخصوصها، قلنا له: إن كان هذا لمزيد خصوصية لها الشريعة، فما هذه الخصوصية؟ وإن كان لكونها ثابتة بالشريعة، فكيف لا يجوز بعث الأمناء لكل أمر من الأمور الثايتة في الشبريعة!؟ فإن الشفعة ثابتة في هذه الشريعة (¬3)، وكذلك الإجارو (¬4)، والشركة (¬5)، وسقي الأعلى، فالأعلى، ومقدار ما يحل من السقي للأول حتى يرسله إلى من بعده (¬6). فإن قال: إن هذه الأمور، يمكن للقاضي أن يقضي فيها، وهو في مكان حكمه، وداخل بيته. قلنا: إن كان الأمر هكذا، فنحن نخالفك، ولكن محل النزاع، إذا كان محل الخصومة في بلاد قوم، لا يعرفون المسالك الشرعية ولا يعقلونها، فإن فوض القاضي ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحيه رقم (2695، 2696)، ومسلم رقم (25/ 1697، 1698). (¬2) تقدم في الرسالة السابقة. (¬3) منها حديث جابر الذي أخرجه البخاري رقم (2257): أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا ةقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. (¬4) قال تعالى: {قالت إحداهما يأبت استئجره إن خير من ؤاستئجرت القوي الأمين} [القصص: 26]. وأخرج البخاري في صحيحه رقم (2262) من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما بعث الله نبيًا إلا رعى الغنم فقال أصحابه: وأنت: قال نعم: كنت ارعاها على قراريط لأهل مكة». (¬5) منها الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (2497، 2498)، ومسلم رقم (1589) عن أبي المنهال: «أن زيد بن الأرقم والبراء بن عازب كانا شريكين فاشتريا فضة بنقد ونسيئة فبلغ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فامرهما أن ما كان يدًا بيد فخذوه وما كان نسيئة فردوه». (¬6) تقدم من حديث عبد اله بن الزبير

الأمر إليهم حكموا بالطاغوت، وإن شهادتهم وأخبارهم فهم لا يعرفون المسالك الشرعية، وكيف يعرفون أن هذا أحق بالشفعة من هذا، وهذا قد تعدى على خصمه فيما هو مشترك بينهما من دار، أو أرض. وهذا أقدم بالسقي من هذا، وهذا أمسك الماء زيادة على ما جعله رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في الزبير. وهذا معلوم، لا ينكره أحد. ومثل هذا إذا حضر بين يدي القاضي ورثة، وقالوا ابعث بيننا من يقسم ما تركه مورثنا على الفرائض الشرعية من دور وأراض، فكيف يصنع القاضي في مثل هذا؟! هل يفوض الأمر إلى عريف من عرفاء القرية، فيكون قد قضى بينهم بالطاغوت البحت؟. أن يقول لهم هذه أراضيكم ودوركن، احملوها إلي، وآتوني بها حتى أقسمها بينكم، فيكون قد جاء بما يخالف الشرع والعقل [2 أ]، بل بما شعبة من الجنون؟! وهكذا لو قال للمختصين في شفعة أو شركة: احملوا هذا الذي تخاصمتم فيه إلي، فإنه قد أمرهم بما يحكمون عليه به بالجنون. وإن قال: قد فوضت ذلك إلى العريف الفلاني من عرفاء القرية، كان قد أمرهم بالحكم بالطاغوت المحض. فكيف يصنع هذا القاضي المسكين؟! أيطردهم من عنده؟ أم يقول لهم قد انسد في مثل حادثتكم هذه باب الشرع، ولا أجد لكم فرجًا، ولا مخرجًا في الشريعة السمحة السهلة، فاذهبوا حتى يبعث الله في قريتكم عالمًا فاضلاً يقسم بينكم، ويقضي في أموركم من شفعة وشركة، وإجارة وغير ذلك؟!!. وكيف يسوغ مثل هذا في دين الله؟! وهل يقول به قائل من المسلمين [2 ب]؟ فإن قال: إن البعث للأمناء لمثل هذه الأمور التي ذكرناها جائز (¬1)، وأنها ¬

(¬1) يجوز للقاضي اتخاذ الأعوان مع الحاجة لما ثبت في البخاري رقم (7155) من حديث أنس: «أن قيس بن سعد كان يكون بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمنزلة صاحب الشرطة للأمير». وقد يجب عليه ذلك إذا كان لا يمكنه إنفاذ الحق ودفع الباطل إلا بهم. وعليه أن يوصي الوكلاء والأعوان على بابه بتقوى الله تعالى، والرفق بالخصوم، وقلة لطمع ويجتهد أن لا يكونوا إلا شيخًا أو كهولاً من أهل الدين والصيانة والعفة. انظر المغني (14/ 24) وتبصرة الحكام (1/ 25).

أمور شرعية كتلك الأمور (¬1)، ولكن هؤلاء يطلبون أجرة ................................. ¬

(¬1) يحتاج القاضي في وظيفته القضائية إلى أعان يعينونه على تمشية أعمال القضاء، وهؤلاء هم الموظفون والمستخدمون في دائرة لقاضي كما يحتاج القاضي إلى من يستشيرهم من أهل العلم والفقه في القضايا التي تعرض عليه والأحكام الشرعية المناسبة لها، فمن هؤلاء الأعوان .... أولاً: جماعة من أهل العلم والفضل. يشاورهم فيما يعرض عليه من قضايا وما ينبغي لها من أحكام شرعية مناسبة، وهذه المشاورة مطلوبة من القاضي وإن كان عالمًا. وهذا النهج جرى عليه الخلفاء الراشدون ومن بعدهم من القضاة، فقد كان سعيد بن إبراهيم قاضي المدينة يجلس بين القاسم وسالم، وهما من فقهاء المدينة يشاورهما. ولغرض من المشاورة تنبيه القاضي إلى ما قد عسى أن يكون قد فاته أو نسيه مما له تعلق بالدعوى أو مؤثر في الحكم مع بيان رأيهم في الحكم المناسب، وقد اشترطوا فيهم أن يكونوا من أهل الاجتهاد والعدالة حتى يمكنهم الدلالة على الحكم الشرعي للقضية. ثانيًا: أعوان القاضي منهم: 1) الكاتب: وهو الذي يكتب بين يدي القاضي حسب ما يملي عليه القاضي. وقد قال الفقهاء عن هذا الكاتب أن بكون عدلاً على قدر كاف من الفقه والدراية. 2) الحاجب: وهو الذي يقدم الخصوم إلى القاضي ليقضي في خصومتهم بحسب أسبقيتهم في الحضور . 3) البواب: ومن وظيفته إعلام الناس بوقت جلوس القاضي للحكم وإعلامهم بوقت راحته، ولإخبار القاضي بمن يريد الدخول عليه. 4) المترجم: ويتخذ القاضي مترجمًا عدلاً أو مترجمين اثنين أو أكثر عدولاً على اختلاف بين الفقهاء في العدد المطلوب ... 5) الجلواز: هو الذي يقوم على رأس القاضي ويقيم الخصوم إذا انتهت الخصومة ليخرجوا من مجلس القضاء. 6) الشهود: وهؤلاء يحضرهم القاضي وجوبًا ليشهدوا على الإقرارات التي تصدر من الخصوم ويحفظونها. 7) الآجرياء: ووظيفتهم إحضار الخصوم إلى مجلس القضاء إذا استعدى عليهم أصحاب الحقوق، وينبغي أن يكونوا من ذوي الدين ولأمانة والبعد عن الطمع. 8) المزكون: وهؤلاء رجال عدول يختارهم القاضي دون علم الناس لتزكية الشهود بعد السؤال عنهم. 9) المؤدبون: وهؤلاء نفر من الرجال الأكفاء يكونون في مجلس القضاء ليزجروا من ينبغي زجره من المتخاصمين أو من غيرهم إذا أساءوا الأدب في مجلس القضاء، ولهم الحق في إخراجهم من المجلس إذا لم يكفوا عن إساءتهم. 10) أهل الخبرة: وهؤلاء يختارهم القاضي من أهل العدالة والأمانة والخبرة في الأمور التي تدخل في أعمال القضاء وتحتاج إلى خبرة معينة مثل تقويم الأشياء وإجراء قسمة العقار والمنقول. 11) صاحب السجن: من واجباته أن يرفع إلى القاضي كل يوم أحوال المحبوسين وما يجري في السجن، حتى يزيل الظلم ويطلق من لا يستحق البقاء في السجن. من يختار أعوان القاضي: الصنف الأول: يختارهم القاضي بنفسه، مثل أهل العلم والفقه الذين يستشيرهم القاضي في أمور الدعوى، والمزكون الذين يزكون الشهود لدى القاضي بعد أن يسألوا عنهم، والشهود الذين يشهدون على أقارير الخصوم في مجلس القضاء. والمترجم الذي يترجم له أقوال الخصوم والشهود الذين لا يعرف القاضي لغتهم. الصنف الثاني: تعينهم الدولة عن طريق من له حق التعيين كالوزير ولأمير أو من يقوضه الخليفة أمر تعيينهم، وهؤلاء هم الكاتب، والحاجب والبواب، والجلواز، والآجرياء، وصاحب السجن، والمؤدبون. انظر: «أدب القاضي» للماوردي (1/ 261 - 265)، «تبصرة الحكام» (1/ 37)، «روضة القضاة وطريق النجاة» للسمناني (ص132)، «أدب القاضي» لابن أبي الدم (ص 59 - 65).

عملهم (¬1)،ويأخذونها من ........................................ ¬

(¬1) ورزق أعوان القاضي الذين تعينهم الدولة يكون من بيت المال، أما ما يختارهم القاضي كأهل العلم الذين يستشيرهم في الدعاوى التي ينظرها، وكالمزكين الذين يختارهم لتزكية الشهود بعد السؤال عنهم، وكالشهود الذين يحضره القاضي لسماع أقارير الخصوم في مجلس القضاء. وأرى تخصيص مكافآت أو مرتبات شهرية لهؤلاء من بيت المال على حسب ما يراه ولي الأمر من وجوه المصلحة ... انظر: «تبصرة الحكام» (1/ 37)، «روضة القضاة» (ص 132).

الخصومة (¬1). منها الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2270) من حديث أبي هريرة قال: «قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته، رجل أعطي بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفي منه ولم يعطه أجره».%، والتأكيد من ذلك، والتحذير من التقصير في شأنه. وما الفرق بين هؤلاء، وبين من يؤجر نفسه في حرث الأرض، أو في رفع الأبنية أو إصلاح الطرقات، وحفر الأنهار ونحو ذلك مما لا يحصى؟. وكيف ينكر عل هؤلاء الأمناء، ما كسبوه من أجرهم التي عرقت لأجلها جباههم، وفارقوا أوطانهم، وقطعوا المفاوز، ونزلوا في أرض الجفاء بين البدوان أهل الجفاء والغلظة، والفظاظة، واستعفوا بذلك في أمر معاشهم، وقطعوا فيه غال أوقاتهم، فكيف يحسن من متدين أن يثلب أعراضهم، ويهتك أسترهم، ويقول: إنهم كانوا فقراء فصاروا أغنياء، وهو يعلم أن من عمل كعملهم، بل بعض عملهم من المنبثين في الأسواق القاعدين في دكاكينهم، قد نال من كسبه أضعاف أضعاف ما نالوا، مع أنه لم يتعب كتعبهم، ولا أجهد نفسه كما ¬

(¬1) قال الفقيه السمناني في روضة القضاة (1/ 132) ويتكلم عن بواب القاضي، ورزقه: «ويكون رزقه من بيت مال المسلمين بحسب كفايته، وذلك سائر أعوان القاضي حتى لا يأخذ مالاً يجب أخذه وهم كالقاضي في ذلك لأنهم في مصالح المسلمين، فكما لا يجوز للقاضي أن يأخذ من أحد الخصوم شيئًا فكذلك أعوانه.%. فأقول: إذا أخذوا ما يستحقون من الأجرة، فأي مانع لهم من ذلك؟ وهل قد ضاقت الشريعة عن أجرة مثل هؤلاء؟ أم أوجب الشارع عليهم أن يقطعوا المفاوز، ويستغرقوا أيامهم، ولياليهم بدون أجرة؟ وحاشا الشريعة المطهرة، أن تقضي بهذا أو توجته على أحد من عباد الله، بل الذي في الشريعة المطهرة الأمر بإعطاء الأجير أجره

أجهدوا أنفسهم. فما هو الموجب للرسل على هؤلاء الأمناء، مع كون لهم مزية العلم ونشره [3 أ] والاشتغال به، بل غالب من يباشر هذه الأعمال منهم علماء مبرزون قد جمع الله لهم بين علوم الاجتهاد، وصاروا رؤساء في علم الكتاب والسنة بحيث أنه لا يوجد من يقاربهم فلاً عمن يشابههم، في أمناء الشريعة الذين كانوا مع من قبلنا، فإن غالبهم ملتحقون بالعامة. والنادر منهم، يعرف بعض مسائل الخصومة، خبطًا وجزافًا. وقد نالوا من المكاسب أضعاف ما ناله هؤلاء. وكانوا يأخذون على الأعمال، فوق ما يأخذه هؤلاء بكثير. وهذا يعرفه كل منصف. ومع هذا فما ترسل عليهم أحد من العلماء المعاصرين لهم ولا من العلماء الموجودين الآن الذين أدركوهم. فياليت شعري ما هو المخصص لهؤلاء المساكين، حتى صار تعلقهم بمثل هذه الأعمال الشرعية منكرًا، ولم بكتف بذلك حتى عيرو بما كانوا عليه من الفقر والحاجة التي خلصهم الله منها بمزيد سعيهم، وكثير تعبهم!!!. فإن كانت تلك المزية التي امتازوا بها على غيرهم. وهي كونهم من نبلاء العلم وفحول رجاله، قد صارت عليهم مزرية، وانقلبت مطعنة، فالأمر لله العلي الكبير. فإن قال قائل: إنه لا ينكر جوز دخولهم في مثل هذه المكاسب، ولا مانع لهم عن ذلك من شرع ولا عقل، ولكنهم يأخذون من الأجرة فوق ما يستحقونه [3 ب] فأقول: قد كان ينبغي ترك هذا التطويل والتهويل، وإنكار كون هذا المكسب مما يسوغ في الشرع، ويقال هؤلاء يأخذون فوق ما يستحقونه من الأجرة وحينئذ نقول: هاتوا من يشكو منهم بمثل هذه الشكاية، ويدعي عليهم مثل المظلمة، حتى نجمع بينه وبينهم في موقف الخصومة، ونأخذ الحق منه ونعاقبه بما يردع من يفعل مثل فعله. ولست ممن يذهب إلى ما كان يذهب إليه أبو بكر الصديق- رضي الله عنه-، من أنه لا يقيد

من وزعته، ولا يقبل الطعن في أعوانه، مستدلاً على ذلك، بأنه قد لا يتم المضي في الحق، إلا ببعض الشدة في الأمر، وأن غالب الطباع قد ضربت بالنقم على من يلي أمور المسلمين، وسرى النقم عليهم إلى النقم على أعوانهم، وقد يكون غالب ذلك باطلاً. وبهذا السبب أفضى الأمر إلى ما أفضى إليه في أيام عثما- رضي الله عنه- (¬1) تقدم تخريجه مرارًا.%، قد كانوا يعملون لرسول الله على الصدقات ونحوها، ويجعل لهم عمالة يعيشون بها، ويتصدقون بما فضل منها، كما ثبت ذلك في الصحيح. بل ثبت في الأحاديث الصحيحة (¬2) أخرجه أبو داود في سننه رقم (1588) بسند ضعيف. من حديث جابر بن عتيك مرفوعًا بلفظ: «سيأتيكم ركب مبغضون، فإذا أتوكم فرحبوا بهم وخلا بينهم وبين ما يبتغون، فإن عدلوا فلأنفسهم وإن ظلموا فعليها، وأرضوهم فإن تمام زكاتكم رضاهم».%. ¬

(¬1) انظر السيرة النبوية (1/ 244 - 149).%. فإن قال قائل: في الناس من يعمل مثل عمل هؤلاء بغير مؤنة، ولا تكليف الخصوم الأجرة. فأقول: جزى الله خير الجزاء من أهدى إلينا مثل هؤلاء الرجال، إن وجدوا في هذا العالم الإنساني. وهيهات؛ فإن الصحابة الذين هم خير القرون (¬2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (7052) ومسلم رقم (45/ 1843) من حديث ابن مسعود «أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها، قالوا يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: تودون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم». وأخرج مسلم في صحيحه رقم (1846) والترمذي رقم (2199) من حديث وائل بن حجر قال: «سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورجل يسأله فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعون حقنا ويسألونا حقهم؟ فقال اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم».%، أن أهل الأموال، كانوا يشكون إلى رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من ظلم المصدقين، فيأمرهم رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، بأن يصيروا على ظلمهم. ويقول [4 أ]: أعطوهم الذي لهم، واسألوا الله الذي لكم. وكان يأمرهم أن لا يرجع المصدقون إلا وهم راضون، وأن يكرموهم، إذا نزلوا عليهم

فإن كان هذا الظلم الذي شكوه إلى رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حقًّا، فكيف يطمع الآن في ناس، لا يشكون ممن ولي شيئًا من أمورهم؟. وإن كان هذا الظلم الذي شكوه باطلاً، فكيف لا يجوز صدور مثله، من مثل أهل زماننا، ونحمل المشكو منهم على السلامة، ونقول للشاكي: أنت لا تقبل على خصمك كما ورد بذلك الشرع، فكيف تقبل على من ولي الحكم بينك وبينه؟. وأقل الأحوال، أن لا نبني علي ما يقوله الخصم في الحكم عليه مشيدات القناطر، ونرتب عليه عظيمات الفواقر، بل نبحث عن الحقيقة ونتبين الأمر كما أمرنا الله- سبحانه- بذلك في كتابه العزيز (¬1) أخرجه أبو داود في السنن رقم (1641) والترمذي رقم (1218) والنسائي (7/ 259) من حديث أنس. وهو حديث صحيح. وأخرج البخاري رقم (1470) عن الزبير بن العوام رضي الله عنه. قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لأن يأخذ أحدكم أحبله فيأتي بحزمة من حطب على ظهره، فيبيعها فيكف بها وجهه، خير من أن يسأل الناس أعطوه أم منعوه». وأخرجه البخاري رقم (1470) ومسلم رقم (1042) ومالك في الموطأ (2/ 998) والترمذي رقم (680) والنسائي (5/ 93) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدًا فيعطيه، أو يمنعه».%. بل قد كان الصادق المصدوق- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ¬

(¬1) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].%. ثم اعلم أن الطعن على من سعى في مكسب حلال، يعفه عن الحاجة إلى الناس، ويعود عليه، وعلى من يعول بفائدة لم يقع أحد من سلف هذه الأمة ولا من خلفها، وقد كان الصحابة- رضي الله عنهم- يسعون في المكاسب على اختلاف أنواعها، ما سمع من رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، أنه أنكر على أحد منهم، بل كان يرغبهم في ذلك، حتى أمر من لا كسب له أن يأتي ببعض ملبوسه، واشترى له بذلك فأسًا، وأمره أن يذهب فيحتطب

[4 ب] يذهب قبل البعثة بتجارة خديجة- رضي الله عنها- إلى الأقطار الشامية (¬1) تقدم ذكر ذلك.%. وقد كان في النواب، والشهود جماعة من أكابر العلماء المصنفين، ومن رجال الرواية الحفاظ المتقنين. وهذا يعرفه كل من له خبرة بأحوال الناس. ومن شك في هذا، فليطالع كتاب تاريخ الإسلام (¬2) «سير أعلام النبلاء» للذهبي. مطبوع بـ / 28/ مجلدًا بمؤسسة الرسالة- بيروت.%، بل الكتب التي هو موضوعة لأخص من هؤلاء، كالمصنفات المشتملة على تراجم رواة الأمهات الست (¬3) [الذاريات: 55].% فقد يذهل العالم عن مدرك من ¬

(¬1) انظر السيرة النبوية (1/ 244 - 245).%. ثم الاعتياش بمثل هذا المعاش كائن في جميع الأعصار الإسلامية، مع جميع قضاة الإسلام، فقد كانوا ينتخبون النواب، ويرسلونهم إلى أطراف ولا يتهم، ويستكثرون منهم ويزيدون على اتخاذ النواب أهل منصب آخر يسمونهم الشهود. (¬2) للذهبي (49) مجلدًا.%، أو كتاب النبلاء. (¬3) كتهذيب الكمال للمزي، وتهذيب التهذيب، وتقريب التهذيب لابن حجر العسقلاني والكاشف للذهبي.%، وهذا أمر ظاهر مكشوف. وما سمعنا إلى الآن مترسلا من الناس ترسل على أحد من هؤلاء، أو أنكر تكسبهم بمثل هذا المكسب. فما هو الوجه الذي اقتضى الإنكار على هؤلاء، وتعييرهم بما كانوا عليه من الفقر، واستعظام ما صاروا فيه من ستر الحال، وجعل ذلك مطعنًا بل مدركًا يستفاد منه خيانتهم. وفي هذا المقدار كفاية، فليس المراد منه إلا مجرد التذكير. قال- سبحانه-: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}

مدارك الشرع، فيأتي بما يخافه حتى يتذكره، فيعود إلى الصواب. وحسبنا الله ونعم الوكيل [5 أ].

بحث في كون الأمر بالشيء نهي عن ضده

بَحْثٌ في كون الأمر بالشيء نهي عن ضده تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: (بحث في كون الأمر بالشيء نهي عن ضده). 2 - موضوع الرسالة: أصول الفقه. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم حمدًا لمن نهى عباده بالأوامر، وأمر بنهيه أن يعمل لضده المتسرع القادر. وشكرًا لمن أبدع إتقان المخلوقات ... 4 - آخر الرسالة: فإن تقرر هذا علم السائل أدام الله فوائده أنه لا دلالة في الآيتين على المسألة الأصولية التي هي محل النزاع من تدبر لم يخف عليه ذلك والله أعلم. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. السؤال بخط السائل، والجواب بخط المؤلف. 6 - عدد الصفحات: 7 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: (1) - (19) سطرًا. عدد الأسطر في الصفحة: (2) - (23) سطرًا. عدد الأسطر في الصفحة: (3) - (25) سطرًا. عدد الأسطر في الصفحة: (4) - (22) سطرًا. عدد الأسطر في الصفحة: (5) - (17) سطرًا. عدد الأسطر في الصفحة: (6) - (18) سطرًا. عدد الأسطر في الصفحة: (7) - (5) سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: (11 - 12) كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الثالث من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

[نص السؤال] بسم الله الرحمن الرحيم. حمدًا لمن نهى عباده بالأوامر، وأمر بنهيه أن يعمل بضده المتسرع القادر. وشكرًا لمن أبدع إتقان المخلوقات ونصبها للعقول أدلة تغني عن التدقيقات، وصلاة وسلامًا على كاسر شوكة الجهالة، القامع بنواهيه محكمي البطالة والضلالة، وعلى آله السالكين طريقه، وصحابته الشاربين من معين الحقيقة: وإنه دار بيني وأنا الفقير إلى الله لطف الله بن أحمد بن لطف الله (¬1)، وبين الوارد العلامة نبراس التحقيق، محذم (¬2) المشكلات والتدقيق، شرف الإسلام، أوحد العلماء الأعلام الحسن بن علي بن نعلي حنش (¬3) - وحصلت المناظرة لدى بعض الأعلام دامت فوئداه-، ومدت على الطلاب موائده، مذاكرة بديعة، ومناظرة يهتدي بها في مدارج الشريعة. وذلك فيما قرر لبعض الأصوليين مذهبًا وترجح عند أكثر متأخريهم بالحجة التي لم يجد عنها المنازع مهربًا، وهو قولهم: الأمر بالشيء نهى عن ضده، والنهي عن الشيء أمر بضده. والكلام مبسوط في المطولات من كتب الفن (¬4) فيؤخذ منها. والذي ظهر في حال المراجعة أن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده، وهذا في إفراد الأوامر (¬5)، والنواهي، وهي كل ما له ضد جزئي لا الضد العام كما عرف، وسيأتي في ¬

(¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) حذم والحذم: القطع الوحي وقيل حذمه يحذمه حذمًا: قطعه قطعًا وحيًّا. «لسان العرب» (3/ 96). (¬3) تقدمت ترجمته. (¬4) منها: «الإحكام للآمدي» (2/ 130)، «الكوكب المنير» (3/ 8 وما بعدها). «التبصرة» (ص 17)، «تيسير التحرير» (1/ 333 وما بعدها). «اللمع» (ص 7)، «المستصفى» (1/ 411). (¬5) ولأهمية الأمر والنهي في الشريعة نقول: 1 - فهي من الأبواب المهمة في أصول الفقه لأنها أساس التكليف في توجيه الخطاب إلى المكلفين. 2 - أن معرفتهما تؤدي إلى معرفة الأحكام الشرعية بتفاصيلها وبها يتميز الحلال من الحرام. ولذلك نجد كثيرًا من الأصوليين جعلهما في مقدمة كتب الأصول واهتموا بهما بالتوضيح والبيان لتمحيص الأحكام الشرعية. «أصول السرخسي» (1/ 11).

أثناء هذا التحرير ذكر أنه يستلزمه بناء على أحد المذاهب. وقد أحلنا هذا على نظر العلامة المعلق على عاتق التحقيق فوائده وأحكامه. قبلة الطلاب، طراز كم المعارف والآداب، والواسع الصدر، الجليل القدر، مورق الحسب، غض المفاكهة في الآداب: إمام هدى أعيت محاسنه الوصفا ... حري عليه مشكل البحث لا يخفا العلم الرباني المترجم عن السر الصمداني محمد بن علي الشوكاني جمل الله الأوقات بأفعاله، وحرس مقام الشريعة بهندواني مقاله. ولنشرع في أصل م دار فأقول: لما حصلت المذاكرة في ذلك قيل لي أولاً: قد ذاكرت بعض المشايخ فقرر ما إليه استدل القائلون بأن الأمر (¬1) بالشيء .......................... ¬

(¬1) الأمر: هنا استدعاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء. صيغ الأمر: وهو مذهب الجمهور من السلف والخلف الصيغ الدالة على الأمر أربع: 1 - فعلا الأمر «إفعل» نحو قوله تعالى {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل} [الإسراء: 78]. 2 - المضارع المجزوم بلام الأمر «ليفعل» نحو قوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} [النور: 63]. 3 - اسم فعل الأمر مثل قوله تعالى: {عليكم أنفسكم} [المائدة: 105]. 4 - المصدر النائب عن فعله: {فضرب الرقاب} [محمد: 4]. وإنما خص العلماء صيغة «إفعل» بالذكر، نظرًا لكثرة دورانه في الكلام. انظر: «المسودة» (ص 8 - 9)، «التبصرة» (ص 18)، «اللمع» (ص 8). وترد صيغة أفعل لمعان كثيرة: أحدها: الوجوب: نحو قوله تعالى: {أقم الصلاة لدلك الشمس إلى غسق الليل} [الإسراء: 78]. الثاني: الندب: نحو قوله تعالى: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا} [النور: 33]. الثالث: الإباحة: نحو قوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} [المائدة: 2]. الرابع: بمعنى (إرشاد): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. الخامس: كونها بمعنى (إذن): نحو قول من بداخل مكان للمستأذن عليه: ادخل. السادس: التأديب نحو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر بن أبي سلمة في حال صغره: «يا غلام سم الله، وكل بيمينك». السابع: كونها بمعنى (امتنان) نحو قوله تعالى: {وكلوا مما رزقكم} [المائدة: 88]. الثامن: كونها بمعنى (الإكرام) نحو قوله تعالى: {ادخلوها بسلام آمنين} [الحجر: 46]. التاسع: كونها بمعنى (الجزاء) نحو قوله تعالى: {ادخلوا الجنة بما كنتم تعلمون} [النحل: 32]. العاشر: كونها بمعنى (وعد) نحو قوله تعالى: {وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} [فصلت: 30]. الحادي عشر: كونها بمعنى (تهديد) نحو قوله تعالى: {اعملوا ماشئتم} [فصلت: 40]. الثاني عشر: كونها بمعنى (إنذار) نحو قوله تعالى: {قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار} [إبراهيم: 30]. الثالث عشر: كونها بمعنى (تحسير) نحو قوله تعالى: {قل موتوا بغيظكم} [آل عمران: 119]. الرابع عشر: كونها بمعنى (تسخير) نحو قوله تعالى: {كونوا قردة خاسئين} [البقرة: 65]. الخامس عشر: كونها بمعنى (تعجيز) نحو قوله تعالى: {فأتوا بسورة مثله} [يونس: 38]. السادس عشر: كونها بمعنى (إهانة) نحو قوله تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} [الدخان: 49]. السابع عشر: كونها بمعنى (احتقار) نحو قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام، يخاطب السحرة {ألقوا ما أنتم ملقون} [الشعراء: 43]. الثامن عشر: كونها بمعنى (تسوية) نحو قوله تعالى: {فاصبروا أو لا تصبروا} [الطور: 16]. التاسع عشر: كونها بمعنى (الدعاء) نحو قوله تعالى: {ربنا اغفر لي ولوالدي} [إبراهيم: 41]. العشرون: كونها بمعنى (تمن) كقول امرئ القيس: «ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي». الحادي والعشرون: كونها بمعنى (كمال القدرة) نحو قوله تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [النحل: 40]. الثاني والعشرون: كونها بمعنى (خبر) نحو قوله تعالى: {فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيرًا} [التوبة: 82]. الثالث والعشرون: كونها بمعنى (تفويض) نحو قوله تعالى: {فاقض ما أنت قاض} [طه: 82]. الرابع والعشرون: كونها بمعنى (تكذيب) نحو قوله تعالى: {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} [آل عمران: 93]. الخامس والعشرون: كونها بمعنى (مشورة) نحو قوله تعالى: {فانظر ماذا ترى} [الصافات: 102]. السادس والعشرون: كونها بمعنى (اعتبار) نحو قوله تعالى: {انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه} [الأنعام: 99]. السابع والعشرون: كونها بمعنى (تعجب) نحو قوله تعالى: {انظر كيف ضربوا لك الأمثال} [الإسراء: 48]. الثامن والعشرون: كونها بمعنى (إرادة امتثال لأمر آخر) نحو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل». فإن المقصود الاستسلام والكف عن الفتن. التاسع والعشرون: كونها بمعنى (التخيير) نحو قوله تعالى: {فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} [المائدة: 42]. الثلاثون: (الاختيار) نحو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فلا يغمسن يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا فإنه لا يدري أين باتت يده». الحادي والثلاثون: الوعيد نحو قوله تعالى: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29]. الثاني والثلاثون: الالتماس كقولك لنظيرك: إفعل. الثالث والثلاثون: التصبر نحو قوله تعالى: {لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40]. الرابع والثلاثون: قرب المنزلة نحو قوله تعالى: {ادخلوا الجنة} [الأعراف: 49]. الخامس والثلاثون: التحذير والإخبار عما يئول الأمر إليه نحو قوله تعالى: {تمتعوا في داركم ثلاثة أيام} [هود: 65]. انظر: «الكوكب المنير» (3/ 17 - 18)، «تيسير التحرير» (1/ 337 - 338)، «جمع الجوامع» (1/ 374).

نهي (¬1) عن ضده والعكس (¬2). فقلت بعد التأمل: أئمة الأصول قد استدل بعضهم على أن الأمر بالشيء نهي عن ضده بحجج عقلية (¬3) كقولهم: إن المفهوم أو المتبادر من قولهم: اسكن أنه نهي ¬

(¬1) النهي: هو استدعاء ترك الفعل بالقول على وجه الاستعلاء وللنهي صيغة موضوعة في اللغة تدل بمجردها عليه هي «لا تفعل». انظر: «الكوكب المنير» (3/ 77)، «تيسير التحرير» (1/ 274)، «اللمع» (ص 14)، «المسودة» (ص 80). (¬2) الأمر بالشيء نهي عن ضده، وكذلك النهي عن شيء يكون أمرًا بضده. انظر: «الكوكب المنير» (3/ 51)، «البرهان» (1/ 350)، «اللمع» (ص 14). (¬3) انظر: «البحر المحيط» (2/ 416 - 430)، «إرشاد الفحول» (ص 363)، «جمع الجوامع» (1/ 386)، «المسودة» (ص 49). - ذهب الجمهور من أهل الأصول ومن الحنفية والشافعية والمحدثين إلى أن الشيء المعين إذا أمر به كان الأمر به نهيًا عن الشيء المعين الضاد له سواء كان الضد واحدًا، كما إذا أمره بالإيمان فإنه يكون نهيًا عن الكفر، وإذا أمره بالحركة فإنه يكون نهيًا عن السكون، أو كان الضد متعددًا كما إذا أمره بالقيام فإنه يكون نهيًا عن القعود الاضطجاع والسجود وغير ذلك. - وقيل ليس نهيًا عن الضد ولا يقتضيه عقلاً واختاره الجويني في «البرهان» (1/ 250) والغزالي في «المنخول» (ص 109) وابن الحاجب، وقيل: إنه نهي عن واحد من الأضداد غير معين، وبه قال جماعة من الحنفية والشافعية والمحدثين، ومن هؤلاء القائلين بأنه نهي عن الضد من عمم، فقال إنه نهي عن الضد في الأمر الإيجابي والأمر الندبي، ففي الأول نهي تحريم وفي الثاني نهي كراهة ومنهم من خصص ذلك بالأمر الإيجابي دون الندبي، ومنهم أيضًا من جعل النهي عن الشيء أمرًا بضده، كما جعل الأمر بالشيء نهيًا عن ضده، ومنهم من اقتصر على كون الأمر بالشيء نهيًا عن ضده وسكت عن النهي وهذا معزو إلى الأشعري ومتابعيه. واتفق المعتزلة على أن الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضده والنهي عن الشيء ليس أمرًا بضده، وذلك لنفيهم الكلام النفسي ... وانظر مزيد تفصيل في «البحر المحيط» (2/ 416 وما بعدها)، «تيسير التحرير» (1/ 363 - 364).

عن التحرك، وأنه بمنزلة قولك: لا تتحرك، وأنه المفهوم أم المتبادر. وكذلك قولهم: قم فإنهم قضوا بأنه في قوة لا تقعد، وصم اليوم في معنى لا تفطر، ونحو ذلك من العبارات. والذي ظهر لي بعد التأمل أن الحجج العقلية مقبولة، ولكنه ورد في الكتاب العزيز آيتان مبينتان عن تسمية الأمر نهيًا. (أما الأولى): فقول الله- عز وجل- في سياق مخاطبة يوسف- عليه السلام- لصاحبي السجن: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاه} (¬1). ¬

(¬1) [يوسف: 39 - 40].

(والآية الثانية): قول الله- عز وجل- في مجادلة قوم شعيب له، واستهزائهم به: {أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا} (¬1) [يوسف: 40].% فجعل مسمى هذا الأمر هو النهي الذي تعلق به، وهو قوله: «ألا تعبدوا» إلخ. فلو قال قائل عند سماع «أمر» ما الذي أمر به في الآية؟ لما كان الجواب عليه إلا بأن الأمر هو: {ألا تعبدوا إلا إياه} ولا شك أن قوله: {ألا تعبدوا} نهي صريح عن عبادة غير الله. قيل في الاعتراض: هل هذا الكلام الذي يريده الأصوليون هو اللفظ الإنشائي الطلبي كما قال السيد لعلامة الحسين بن قاسم- رحمه الله- في حده لفظ: الأمر حقيقة (¬2) قال صاحب «الكوكب المنير» (3/ 5): فالأمر لا يعنى به مسماه، كما هو المتعارف في الأخبار عن الألفاظ: أن يلفظ بها، والمراد مسمياتها بل لفظة الأمر هي: (أ م ر) كما يقال: زيد مبتدأ وضرب: فعل ماض وفي حرف جر، ولهذا قلنا: إنه حقيقة في القول المخصوص وهذا بالاتفاق. انظر: «تيسير التحرير» (1/ 336)، «نهاية السول» (2/ 6).% «أ م ر» هو اللفظ الطلبي من اضرب واقتل وادخل واخرج ونحوه. وأين ما جاء لنا من أمر الشارع فليس المراد سوى ذلك، فإذا قيل أمر رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بأمر لم نفهم إلا ذلك الأمر الطلبي، أو قيل: ¬

(¬1) [هود: 87].%. فقيل لي: ما المراد من ذلك؟ قلت: لما قال «أمر» علمنا أن ثمة هناك أمرًا لا بد أن يصرح به، ويشير إليه إذ هو مقام حجاجهم الباطل، ودعواهم أن الآلهة تعبد فنبههم على الصواب فقال: {أمر ألا تعبدوا إلا إياه}. (¬2) تقدم ذكره.% في القول الإنشائي الدال على طلب الفعل: الاستعلاء، وأجبت: بأنه لا محيص من ما ذكرت، وتقرير الكلام هو أن الله تعالى قد صدر منه أمر بمقتضى الآية، والأمر لديكم هو ما ذكرتم، وأن مسمى

أمر الله بشيء لم نفهم إلا ذلك قطعًا يعلمه كل أحد، وفي تصور ذلك الأمر بمدعانا نهي عن الضد. والشارع- سبحانه- قد أمر [2]، والأمر منه- سبحانه- في مقام العبادات هو الطلب منا فقال: {ألا تعبدوا}. وهذا أمره- سبحانه وتعالى- ورد بلفظ النهي. قالوا: الأمر لفظ مشترك بين أفراد متعددة. وهو أيضًا هنا تفسير للحكم الذي ساقه- تعالى- فقال: {إن الحكم إلا لله} وفسر بأنه أمر. والجواب أن أحكام الله- تعالى- لا تخلو إما أن تكون أوامر أو نواهي. والحكم هاهنا قد فسر بأنه أمر لا نهي، وإلا لقال: {إن الحكم إلا لله} نهي {ألا تعبدوا إلا إياه} وأيضًا يحمل المشترك على جميع معانيه إن احتملها وإلا حمل على ما قامت القرينة عليه. ولا يصح أن يحمل هنا على جميعها، فتوجه المصير إلى ما قامت القرينة عليه (¬1) [النحل: 90].% {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} (¬2) [طه: 132]. وقال صاحب «الكوكب» (3/ 66 - 67) تعليقًا على هذه الآية وأمر من الشارع (بأمر) لآخر لشيء ليس أمرًا به قال تعالى: {وأمر أهلك بالصلاة} لأنه مبلغ لا آمر ولأنه لو كان آمرًا لكل قول القائل؛ مر عبدك بكذا ... وقال القرافي في «تنقيح الفصول» (ص 149): «لأن الأمر بالأمر لا يكون أمرًا، لكن علم من الشريعة أن كل من أمره الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يأمر غيره، فإنما هو على سبيل التبليغ، ومتى كان على سبيل التبليغ صار الثالث مأمورًا إجماعًا».% ¬

(¬1) انظر: «تيسير التحرير» (1/ 336)، «نهاية السول» (2/ 6).%، والقرينة الشائعة في السان المتشرعة هي أن الأمر حقيقة في الطلب من الله- سبحانه- قالوا: هو هنا لفظ خبري، وذلك أن يوسف- عليه السلام- أخبر أن الله أمر. قلنا: لا شك هو لفظ خبري، لكن المراد به الإخبار عن ما أنشأه من الطلب، والذي أنشأه هنا هو قوله: {ألا تعبدوا إلا إياه} وهو نهي صريح، وكلما جاءنا من هذه الآيات كقوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} (¬2) [البقرة: 67].% {وأمر أهلك بالصلاة}

{وأمر بالمعروف} (¬1) أي الزمخشري في «الكشاف» (3/ 500).%- قدس الله روحه- فإنه قال في قوله تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها} (¬2) أي الزمخشري في «الكشاف» (3/ 500)، وتمام كلامه» ... وذلك أن المأمور به إنما حذف لأن فسقوا يدل عليه، وهو كلام مستفيض، ويقال أمرته فقام، وأمرته، فقرأ لا يفهم منها إلا أن المأمور به قيام أو قراءة ولو ذهبت تقدر غيره فقد رمت من مخاطبك علم الغيب، ولا يلزم على هذا قولهم: أمرته فعصاني، أو فلم يتمثل أمري؛ لأن ذلك مناف للأمر مناقض له، ولا يكون ما يناقض الأمر مأمورًا به، فكان محالاً أن يقصد أصلاً حتى يجعل دالاً على المأمور به فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه ولا منوي؛ لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوي لأمره مأمورًا، وكأنه يقول، كان مني أمر فلم تكن منه طاعة، كما أن من يقول فلان يعطي ويمنع ويأمر وينهي، غير قاصد إلى مفعول به.% كلامًا يدل على عدم التقدير في الآية التي أوردنا كلامه ¬

(¬1) [لقمان: 17].% ليس المراد منه هذا الإخبار، إلا أنه قد حصل الطلب للعدل والذبح والصلاة والمعروف، لا شك في هذا. وقد نبه على ذلك إمام اللغة والمقدم فيها جار الله. (¬2) [الإسراء: 16].% ما لفظه: «والأمر مجاز؛ لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم: افسقوا، وهذا لا يكون» ا هـ. فعرفت من كلامه أن اللفظ الخبري الوارد بلفظ: {أمرنا مترفيها} حقيقة في اللفظ الطلبي؛ أي قولنا لهم: افسقوا، ولكنه منع مانع في هذه الآية التي تكلم عليها، وهو أن الله- سبحانه- لا يأمر بالفسق. فاحتيج إلى المجاز لتنزيه الباري- سبحانه- على أنها لم تعم هنا إلا الدلالة العقلية الصارفة للأمر بالفسق عن الحقيقة. قالوا: الآية المتنازع فيها المعنى فيها ظاهر؛ لأن المراد من قوله: {أمر ألا تعبدوا} أنه أمر بالعبادة، والأمر بالعبادة هو قوله اعبدوني، فهو مصدر، والجواب أنه قد ذكر العلامة في كشافه

فيها، فقال في قوله تعالى: {أمرنا مترفيها ففسقوا فيها} (¬1) تقدم التعليق عليه.% فنقل آخره له (¬2) [هود: 87].% مسلك عجيب، وتقريره أن الأمر كما عرفناك فيما سلف حقيقة في اللفظ الطلبي، وإن ورد بلفظ خبري فهو- سبحانه- قد نبه على أنهم استنكروا على شعيب مستهزئين به حيث جاءهم بشيء يأمرهم بترك العبادة للأصنام، والنهي في اصطلاح القوم هو القول الإنشائي الدال على طلب ترك ¬

(¬1) [الإسراء: 16].% ما لفظه: فإن قلت: هلَّا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا. قلت: لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز، فكيف بحذف ما الدليل قائم على نقيضه، وسار كلامًا بديعًا. (¬2) في المخطوط (وفنقلة آخره لها) والصواب ما أثبتناه.% إلمام بما نحن فيه، وذكر أن الله يأمر بالقسط فكيف يقال [3] أنه أمر بالفسق! ورد على من قدر لقيام الآيات، وانتصر بأن ذلك هو الظاهر من مساق لغة العرب، مع أن الآيات كانت في كلامه صالحة لصرف المعنى عن الأمر بالفسق، فلذا عدل إلى المجاز، ولم يصر إلى تلك الآيات الصريحة. وكلامنا هنا مثله، فإن الأمر هنا علق به {ألا تعبدوا} كما أنه علق ففسقوا بالأمر، والقصد التنبيه على دفع التقدير، وإنما أوردنا كلام العلامة هنا لدفع التقدير، لا لأن الآيتين من قبيل واحد في متعلقهما؛ لأن هذا الأمر متعلقه النهي القائم مقام الأمر، والدال عليه. والآية التي ساقها العلامة متعلقها ما دل عليه قوله: {ففسقوا} فقد أرشد إلى أن (أمر) هو الأمر الطلبي. وبالله التوفيق. ثم لنا في الاحتجاج بالآية الآخرة التي فتح بها، وهي قول الله- عز وجل-: {أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا}

الفعل استعلاء. والصلاة هنا قد أمرت شعيبًا مجازيًّا كما هو الظاهر بأن قومه يتركوا العبادة ومعنى أمرها له بأن يتركوا العبادة هو قولها على طريق المجاز: لا تعبدوا ما يعبد آباؤكم، وهذا ظاهر متبادر لي، ولا أعده إلا من فتح القدير على العبد الحقير. ولذا قيل لعلي- رضوان الله عليه-: هل عهد إليكم رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عهدًا لم يعهده إلى الناس؟ فقال: والله ما عندنا إلا كتاب الله، وما في جراب هذه الصحيفة، أو رجل آتاه الله فهمًا في كتابه. ولله الحمد (¬1) أي لا دلالة في الآيتين على المسألة الأصولية «كون الأمر بالشيء نهيًا عن ضده».%، وأظهر أن الأمر تورية ليس كما لمح إليه السائل وقاله. فلذا وقع التعويل على العلامة الحبر النبيل، حجة الله القائمة، وآيته العاقبة الدائمة، إنسان عين الإفادة، صماخ أذن النقادة، البر الولي محمد بن علي- بلغه الله سؤله- وصلى الله على محمد وآله [4]. ¬

(¬1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6915) عن أبي جحيفة قال: «سألت عليًّا رضي الله عنه: هل عندكم شيء مما ليس في القرآن؟ وقال ابن عيينة مرة: «ما ليس عند الناس، فقال: والذي خلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن، إلا فهمًا يعطى رجل في كتابه وما في الصحيفة قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر». وانظره في تحقيقنا للرسالة برقم (21) من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.%. والسؤال قد عرض على بعض الأعلام، ومال إلى عدم الدلالة

[نص الجواب] أحمدك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على حبيبك ورسولك وآله. وقف الحقير على هذا البحث النفيس، فرأيت حاصل ما اشتمل عليه السؤال عن صحة الاستدلال بقوله تعالى: {أمر ألا تعبدوا إلا إياه} (¬1)، وبقوله تعالى: {أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا} (¬2) على ما ذكره أهل الأصول في المسألة المشهورة من كون الأمر بالشيء نهيًا عن ضده، أو يستلزمه، أو ليس كذلك. وأقول: لا ريب أن محل النزاع هو كون أفعل الدال على الطلب (¬3) بالفعل نهيًا عن ضده الذي هو عدم الفعل، أو مستلزمًا للنهي عن ذلك، أو ليس كذلك، مثلاً إذا قال زيد لعمرو: اضرب. هل يكون لفظ اضرب نهيًا عن ترك الضرب الذي هو ضد الضرب، أو مستلزمًا للنهي عن ذلك، أو ليس كذلك؟ فإذا قلت مثلاً: أمر زيد عمرًا بأن يضرب، فالمراد به أنه قال له: اضرب. وإذا قلت: أمر زيد عمرًا بأن لا يضرب، فالمراد أنه قال له: لا تضرب. وإذا قلت: أمر زيد عمرًا أن لا يضرب فالمراد أنه قال له: لا تضرب. وصيغته لا تضرب هي صيغة نهي بلا شبهة، وقد جعلها في هذا المثال تفسيرًا لما أخبر به من الأمر [5]. فإذا كان المتكلم بذلك من هو من العرب الذين يحتد بكلامهم فلا ريب أن تفسير الأمر بما هو صريح النهي يدل على أنه يطلق الأمر على النهي، وأن المتكلم بصريح النهي يقال له آمر. ¬

(¬1) [يوسف: 40]. (¬2) [هود: 87]. (¬3) انظر «البحر المحيط» للزركشي (3/ 416 - 420). قال صاحب «الكوكب المنير» (3/ 55): أن الأمر الإيجاب طلب فعل يذم تاركه إجماعًا، ولا ذم إلا على فعل، وهو الكف عن المأمور به أو الضد، فيستلزم النهي عن ضده أو النهي عن الكف عنه.

وهذا الإطلاق لا يصح أن يكون إطلاقًا حقيقيًّا لما تقرر من أن الأمر هو طلب الفعل، لا طلب الكف، فلم يبق إلا أن ذلك الإطلاق مجازي، والعلاقة الضدية، وهي إحدى العلاقات المشورة المسوغة للتجوز، فما وقع في القرآن الكريم من قوله تعالى: {أمر ألا تعبدوا إلا إياه} (¬1) فيه التجوز بإطلاق الأمر الذي تضمنه الإخبار عن النهي المذكور لتلك العلاقة، وليس هذا هو محل النزاع بين أهل الأصول في مسألة كون الأمر بالشيء نهيًا عن ضده، أو يستلزمه، بل محل النزاع عندهم هو ما قدمناه من كون لفظ افعل الدال على الطلب هل يكون نهيًا عن فعل الضد أو مستلزمًا له كما كان طلبًا للفعل نفسه، أو ليس كذلك؟ وليس نزاعهم في صحة إطلاق لفظ الأمر على النهي مجازًا، أو في عدم الصحة، فإنهم لا يختلفون في جواز ذلك الإطلاق على طريق المجاز في كل ضدين، لوجود العلاقة المسوغة، وهي الضدية مع نصب القرينة المانعة عن إرادة المعنى الحقيقي، ومثل هذا قوله تعالى: {أصلاتك [6] تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا} (¬2) فإنه ليس فيه إلا جواز إطلاق لفظ الأمر الذي تضمنه الإخبار على الترك الذي هو مدلول النهي. فإذا تقرر هذا علم السائل- أدام الله فوائده- أنه لا دلالة في الآيتين في المسألة الأصولية التي هي محل النزاع (¬3). ومن تدبر لم يخف عليه ذلك. والله أعلم [7]. ¬

(¬1) [يوسف: 40]. (¬2) [هود: 87]. (¬3) على أن «كون الأمر بالشيء نهي عن ضده».

رفع الجناح عن نافي المباح

رفع الجناح عن نافي المباح تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط (أ): 1 - عنوان الرسالة: (رفع الجناح عن نافي المباح). 2 - موضوع الرسالة: في الأصول. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. حمدًا لمن أنعم علينا بالإثابة في التروك والأفعال وشكرًا لمن لم يجعل شيئًا من الحركات والسكنات في جانب الإلغاء والإهمال ... 4 - آخر الرسالة: وكافاه بالحسنى، بحق محمد (¬1) وآله وصحبه، وكان تاريخ التأليف وتحريره حفظه الله من شهر رجب سنة 1206 هـ ست ومائتين وألف. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - عدد الصفحات: 7 صفحات + صفحة العنوان. 7 - المسطرة: الصفحة الأولى حتى الصفحة السادسة: 26 سطرًا. الصفحة السابعة: 15 سطرًا. صفحة العنوان مع اسم المؤلف. 8 - عدد الكلمات في السطر 12 - 14 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الأول من «الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني». ¬

(¬1) تم التعليق على هذه العبارة وغيرها فيما تقدم.

وصف المخطوط (ب): 1 - عنوان الرسالة: الرد على من استبعد قول العلامة أبو القاسم البلخي وهو الكعبي من أن المباح مأمور به. 2 - موضوع الرسالة: في أصول الفقه. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. حمدًا لمن أنعم علينا بالإثابة في التروك والأفعال وشكرًا لمن لم يجعل شيئًا ... 4 - آخر الرسالة: وإلى هنا انتهى الكلام على هذه المسألة، حرره بقلمه وقاله بفمه القاضي العلامة محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما. في شهر رجب سنة (1204 هـ) فكان الفراغ من نقلها في شهر ربيع الآخر سنة (1208 هـ). 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - عدد الصفحات: 6 صفحات. 7 - المسطرة: الأولى: 33 سطرًا. الثانية: 36 سطرًا. الثالثة: 37 سطرًا. الرابعة: 34 سطرًا. الخامسة: 36 سطرًا. السادسة: 12 سطرأ. 8 - عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الأول من «الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني».

بسم الله الرحمن الرحيم. حمدًا لمن أنعم علينا بالإثابة في التروك والأفعال وشكرًا لمن لم يجعل شيئًا من الحركات والسكنات في جانب الإلغاء والإهمال، والصلاة والسلام على من جعل الإمساك عن الشر صدقة (¬1)، وعلى آله وصحبه الناقلين إلينا من الحديث أوثقه وأصدقه، وبعد: فإنه لما كثر من جماعة من طلبة علم الأصول استبعاد ما ذهب إليه أبو القاسم البلخي وهو الكعبي (¬2) من أن المباح (¬3) ................... ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1445)، ومسلم رقم (1008) من حديث أبي موسى رضي الله عنه. (¬2) هو عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي البلخي أبو القاسم وهو رأس طائفة من المعتزلة تسمى الكعبية له أراء خاصة في علم الكلام والأصول وله مؤلفات في علم الكلام كانت وفاته سنة 319 هـ. انظر: «شذرات الذهب» (2/ 281) «البداية والنهاية» (11/ 284). (¬3) عزاه إليه: الزركشي في البحر (1/ 279) وصاحب الكوكب المنير (1/ 424). - المباح: لغة: المعلن، المأذون. واسم المفعول مشتق من الإباحة، ويطلق على الإظهار والإعلان: «باح بسره» أي أظهره وأعلنه. ويطلق- أيضًا- ويراد به: الإطلاق والإذن. يقال: أباح الأكل من بستانه أي: أذن بالأكل منه. «لسان العرب» (3/ 234) «تاج العروس» (2/ 126 - 127). - المباح في الاصطلاح: فعل مأذون فيه من الشارع خلا من مدح وذم مخرج الواجب والمندوب والحرام والمكروه؛ لأن كلاً من الأربعة لا يخلو من مدح أو ذم، إما في العقل، وإما في الترك. وقال الغزالي في المستصفى (1/ 66): إن المباح هو الذي ورد الإذن من الله تعالى بفعله وتركه غير مقرون بذم فاعله أو مدحه، ولا يذم تاركه. وانظر الكوكب المنير (1/ 422) تيسير التحرير (2/ 225). صيغ الإباحة: الصيغة الأولى: «لا حرج» قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61]. الصيغة الثانية: «لا جناح» ومثاله قال تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 236]. الصيغة الثالثة: «أحل» قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]. الصيغة الرابعة: صيغة الأمر التي اقترنت بها قرينة صرفتها من الوجوب والندب إلى الإباحة قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10]. فهنا أمر الله بالانتشار في الأرض وهذا الأمر للإباحة، والقرينة التي صرفت الأمر عن الوجوب إلى الإباحة هي: منع الفعل قبل ذلك في قوله سبحانه: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] حيث كان الانتشار لطلب الرزق ممنوعًا قبل الصلاة ثم أباحه بعد الصلاة. انظر: «البحر المحيط» (1/ 277). - الإباحة حكم شرعي: خلافًا لبعض المعتزلة، الخلاف لفظي يلتفت إلى تفسير المباح إن عرفه بنفي الحرج، وهو اصطلاح الأقدمين، فنفي الحرج ثابت قبل الشرع، فلا يكون من الشرع، ومن فسره بالإعلام بنفي الحرج فالإعلام به إنما يعلم من الشرع فيكون شرعيًّا. «البحر المحيط» (1/ 177 - 178). «الكوكب المنير» (1/ 422 - 423).

مأمور به (¬1) حتى ظن بعضهم أن هذه المقالة من الخرافات التي لا مستند لها من عقل، ولا ¬

(¬1) المباح غير المأمور به: اختلف في المباح هل هو مأمور به أو لا؟ على مذهبين: - المذهب الأول: أن المباح غير مأمور به من حيث هو مباح، وهو مذهب جماهير العلماء من فقهاء وأصوليين وهو الصحيح. - والدليل على ذلك «أن المباح غير مأمور به» هو أن حد الأمر «استدعاء وطلب الفعل بالقول على وجه الاستعلاء. وحد المباح هو ما أذن الله تعالى في فعله وتركه. فالفرق واضح بين أن يأذن لعبده في الفعل وبين أن يأمره به ويقتضيه منه وأنه إن أذن له فليس بمقتص له. فالأمر: اقتضاء الفعل من المأمور به والمطالبة به والنهي عن تركه على وجه ما هو أمر به، ومعنى الإباحة: تعليق الفعل المباح بمشيئة المأذون له في الفعل وإطلاق ذلك له. وإن ورد واستعمل الأمر في الإذن فهذا تجوز؛ لأن إطلاق لفظ الأمر على المباح ليس على سبيل الحقيقة؛ لأن الاسم الحقيقي للمباح: المأذون فيه، ويجوز إطلاق اسم الأمر عليه مجازًا من إطلاق اللازم على الملزوم؛ لأنه يلزم من خطاب الله تعالى بالتخيير فيه كونه مأمورًا باعتبار أصل الخطاب. مما تقدم يلزم أن المباح غير مأمور به. وهو الصحيح؟ المذهب الثاني: أن المباح مأمور به، وهو ما نسب إلى الكعبي وأبي الفرج المالكي وأبي بكر الدقاق. [سيأتي توضيحه وبيان أدلته لأنه محور الرسالة].

نقل، ولا جرم هيبة الجمهور تفعل أكثر من هذا، ومعرفة الحق بالرجال لا الرجال بالحق لا يأتي إلا بمثل هذا فاسمع ما نملي عليك من مرجحات مذهب هذا العالم المتفرد بهذه المقالة؛ لتأخذ حذرك من جعل الكثرة بمجردها من موجبات الرجحان، ودلائل الإصابة وتجعلها عبرة في أمثال هذا المقام، وليقدم تقرير مذهب الكعبي ليكون الناظر على بصيرة. فنقول: حكى عنه ابن الحاجب في مختصر المنتهى (¬1) القول بأن المباح مأمور به، وتأويله للإجماع على أن المباح غير مأمور به بأنه باعتبار ذات الفعل، لا بالنظر إلى ما يستلزمه، جمعًا بين الأدلة. وصرح السبكي في جمع الجوامع (¬2) أن الخلاف لفظي (¬3)، ¬

(¬1) (1/ 6). (¬2) (1/ 173). (¬3) نعم الخلاف بين الجمهور والكعبي في اللفظ والعبارة فقط ولا خلاف بينهما في المعنى. أن الكعبي نظر إلى المباح من حيث ما يعرض له من عوارض تخرجه عن كونه مباحًا وتجعله مأمورًا به، فهذا النظر هو سبب قوله في استدلاله على أن المباح يكون مأمورًا به باعتبار ما يعرض له من ترك حزم وغيره لا أنه مأمور به من حيث ذاته. ومعلوم أن الطرفين قد اتفقا على أن المباح مأمور به لعارض يعرض له. كما ذكرنا في أقسام المباح بحسب الكلية والجزئية. - خلاصة: أن الكعبي نظر إلى المباح من حيث ما يعرض له من عورض تخرجه عن كونه مباحًا تجعله مأمورًا به. والأولى ما ذهب إليه الجمهور وهو أن المباح غير مأمور به، ونظرتهم لأنهم نظروا إلى ذات الفعل المباح، والكعبي إنما نظر إلى ما يستلزمه الفعل المباح. والأصل في ضبط الحدود وبناء الأحكام إنما هو بالنظر إلى ذات الشيء، لا إلى ما يستلزمه وما يعرض له من عوارض. وإذا ثبت أن النزاع لفظي في المسألة، لعدم ورود المذهبين على محل واحد: يتبين أن المباح من حيث ذاته لا يمكن أن يكون مأمورًا به بالاتفاق. أما المباح من حيث ما يعرض له وما يستلزمه يمكن أن يكون مأمورًا به حسب العوارض. انظر: «الكوكب المنير» (1/ 425)، «نهاية السول» (1/ 63)، «البحر المحيط» (1/ 279)، «المستصفى» (1/ 74)، «الإحكام» للآمدي (1/ 125).

لأن الكعبي لا يخالف الجمهور بالنزر إلى ذات الفعل في أنه غير مأمور به. والجمهور لا يخالفونه بالنظر إلى ما عرض للفعل من تحقق ترك الحرام في أنه مأمور به. قال المحلي في شرح الجمع (¬1): قد صرح الكعبي بما يؤخذ من دليله من أنه غير مأمور ¬

(¬1) (1/ 173). - أقسام المباح بحسب الكلية والجزئية: 1 - المباح بالجزء والمطلوب على جهة الوجوب: قسم الشاطبي المباح إلى أربعة أقسام بحسب الكلية والجزئية: مثاله: الأكل والشرب ومعاشرة الزوجة، حيث أن لكل فرد الحق في أن يأكل ويشرب ويخالط زوجته أو لا يعمل هذا فهو مباح له الأمرين الفعل والترك، لكن يجب الفعل من جهة الكل أي امتناع الشخص عن هذه الأشياء جملة واحدة بشكل دائم حرام؛ لأنه يفضي إلى الهلاك والضرر، وترك الحرام واجب. 2 - المباح بالجزء والمطلوب بالكل على جهة الندب: مثاله: التمتع الزائد على الحاجة في المأكل والمشرب، والملبس وغيرها، فإن ذلك مباح بالجزء أي أن لكل شخص الحق في أن يتمتع في المأكل والمشرب الزائد، ولكنه مندوب إليه لما ورد الندب إليه في عموم الأدلة الغالية لها والمرغبة فيها مثل قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32]. 3 - المباح بالجزء والمحرم بالكل: مثاله: المباحات التي تقدح المداومة عليها بالعدالة، فبالمداومة عليها يخرج صاحبها إلى ما يخالف هيئات أهل العدالة، ويشبه الفساق وإن لم يكن كذلك. 4 - المباح بالجزء والمكروه بالكل: مثاله: التنزه في البساتين، وسمع تغريد الحمام فإن هذه مباحة بالجزء أي أن الشخص يباح له أن يفعل ذلك مرة أو مرتين، أما إذا فعلها دائمًا فتكون مكروهة لما فيه من ضياع الوقت من غير فائدة. «الموافقات» (1/ 206 - 209).

به من حيث ذاته، مأمور به من حيث ما عرض له من تحقق ترك الحرام (¬1). تقدمت ترجمته.%: المحكي عن الكعبي أن المباح به، لكنه دون المندوب، كما أن المندوب مأمور به، لكنه دون الواجب. قال في شرح الغاية: وقد نقل عنه العلامة في شرحه على المختصر مثل ما نقل عنه الإمام يحيى انتهى، وهكذا نقل البرماوي عن القاضي، ثم قال: وقال إنه وإن أطلق الأمر على المباح فلا يسمى المباح واجبًا، ولا الإباحة إيجابًا (¬2) (1/ 66).%، وابن القشيري (¬3) نقله الزركشي في «البحر المحيط» (1/ 280): عن الأبياري. قال ابن تيمية في «مجموع فتاوى» (10/ 530 - 531): ومن هذا أنكر الكعبي «المباح» في الشريعة؛ لأن كل مباح فهو يشتغل به عن محرم، وترك المحرم واجب، ولا يمكنه تركه إلا أن يشتغل بضده، وهذا المباح ضده، والأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عنه أمر بضده إن لم يكن له إلا ضد واحد، وإلا فهو أمر بأحد أضداده، فأي ضد تلبس به كان واجبصا من باب الواجب المخير. ثم قال: «وتحقيق الأمر» أن قولنا: الأمر بالشيء نهي عن ضده وأضداده والنهي عنه أمر بضده أو بأحد أضداده، من جنس قولنا: الأمر بالشيء أمر بلوازمه، وما لا يتم الواجب به إلا به، فهو واجب والنهي عن الشيء نهي عما لا يتم اجتنابه إلا به، فإن وجود المأمور يستلزم وجود لوازمه وانتفاء أضداده، بل وجود كل شيء هو كذلك يستلزم وجوده وانتفاء أضداده، وعدم النهي عنه، بل وعدم كل شيء يستلزم عدم ملزوماته، و: إذا كان لا يعدم إلا بضد يخلقه كالأكوان فلا بد عند عدمه من وجود بعض أضداده فهذا حق في نفسه لكن هذه اللوازم جاءت من ضرورة الوجود وأن لم يكن مقصوده الأمر، والفرق ثابت بين ما يؤمر به قصدًا، وما يلزمه في الوجود. فالأول: هو الذي يذم ويعقب على تركه بخلاف. الثاني: فإن من أمر بالحج أو الجمعة وكان مكانه بعيدًا فعليه أن يسعى من المكان البعيد، والقريب يسعى من المكان القريب، فقطع تلك المسافات من لوازم المأمور به، ومع هذا فإذا ترك هذان الجمعة والحج لم تكن عقوبة البعيد أعظم من عقوبة القريب، بل ذلك بالعكس أولى مع أن ثواب البعيد أعظم فلو كانت اللوازم مقصودة للأمر لكان يعاقب بتركها، فكأن يكون عقوبة البعيد أعظم وهذا باطل قطعًا. وهكذا إذا فعل المأمور به فإنه لا بد من ترك أضداده، لكن ترك الأضداد هو من لوازم فعل المأمور به ليس مقصودًا للأمر، بحيث إنه إذا ترك المأمور به عوقب على تركه لا على فعل الأضداد التي اشتغل بها، وكذلك المنهي عنه مقصود الناهي عدمه، ليس مقصوده فعل شيء من أضداده، وإذا تركه متلبسًا بضد له كان ذلك من ضرورة الترك. وعلى هذا إذا ترك حرامًا بحرام آخر فإنه يعاقب على الثاني، ولا يقال فعل واجبًا وهو ترك الأول؛ لأن المقصود عدم الأول، فالمباح الذي اشتغل به عن محرم لم يؤمر به ولا بامتثاله أمرًا مقصودًا، لكن نهى عن الحرام ومن ضرورة ترك المنهي عنه الاشتغال بضد من أضداده، فذاك يقع لازمًا لترك المنهي عنه، فليس هو الواجب المحدود بقولنا «الواجب ما يذم تاركة، ويعاقب تاركه» أو «يكون تركه سببًا للذم والعقاب».% من أنه لا مباح في الشرع، بل كل ما يفرض مباحًا فهو واجب، ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة.%. قال ابن أبي شريف في حاشيته أن الآمدي وغيره حكى عن الكعبي التصريح بذلك. قال الإمام يحيى بن حمزة (¬2) انظر «البحر المحيط» (1/ 28). «الموافقات» للشاطبي (1/ 194 - 200).%. قال: وتبعه على ذلك الغزالي في المستصفى (¬3) انظر «البحر المحيط» (1/ 83).% في أصوله، وفيه أن دليله الآتي مصرح بأن المباح واجب. وأما ما روي عنه

مأمور به، فقال [1] الإمام يحيى: إنها رواية حكاها عنه الرازي وغيره، وهي مغمورة لا تعرف مذهبًا له، ولا لأحد من أصحابه (¬1) (2/ 6).%، بأن فيه تسليم أن الواجب واجد، فما فعله فهو واجب قطعًا. قال العضد بعد أن صرح بضعف ذلك الجواب: ووافق ابن الحاجب (¬2) في «الإحكام» (1/ 126).% اعترف بعدم صحة هذا ¬

(¬1) انظر «الكوكب المنير» (1/ 430). «نهاية السول» (1/ 138).%. وإذا تقرر بلك هذا فاعلم أن الخلاف إن كان لفظيًّا فقد استرحنا من تلك المجاولات والمصاولات التي ذكرها أئمة الأصول بينه وبين الجمهور، ولم يبق ما يوجب التشنيع عليه، ورميه لمخالفة الإجماع، والحط من قوله، ووصفه بالبطلان، وإن كان الخلاف معنويًّا كما هو الظاهر من كلام أكثر الأصوليين فاسمع ما في المقام من المحاججة والخصام وتدبره مستعملاً للإنصاف؛ ليلوح لك أن الكعبي قد وفق لما هو الحق في المسألة. قال الكعبي مستدلاً على مطلوبه: كل مباح ترك حرام، وترك الحرام واجب فالمباح واجب. ثم لما كان المقام مظنة سؤال يرد عليه، وهو أن يقال: ليس ترك الحرام نفس المباح غايته أنه لا يحصل إلا به. أجاب بأن ذلك لا يضرنا؛ فإن ما لا يتم الواجب إلا به واجب، وبه ويتم الدليل ويثبت المطلوب. وأجاب الجمهور عن دليل الكعبي بجوابين: الأول: المنع من أنه لا يتم الواجب أعني: ترك الحرام إلا بالمباح، قائلين: المباح غير متعين لذلك؛ لإمكان الترك بغيره، ورده ابن الحاجب في مختصر المنتهى. (¬2) (2/ 6).% على رده ما لفظه: وهكذا غاية ما في الباب أنه واجب مخير لا معين، وهو لم يدع أصل الوجوب انتهى. وهكذا الآمدي

الجواب على دليل الكعبي. الجواب الثاني: إلزامه أن الصلاة حرام إذا ترك بها واجب، ورده أيضًا ابن الحاجب وشراح كلمة، أن الكعبي يلتزمه باعتبار. وصرح أيضًا بضعفه، ثم قال ابن الحاجب: فلا مخلص إلا بأن ما لا يتم الواجب إلا به من عقلي، أو عادي فليس بواجب. وارتضى هذا المخلص بعض شراح كلامه. وأنت تعلم أن مذهب الجمهور كم حكاه ابن الحاجب في مختصره، والسبكي في جمع الجومع (¬1) انظر «البحر المحيط» (2/ 281).%، ولكنه قد شهد هو وشراح كتابه على الجمهور القائلين بوجوب العقلي والعادي بعدم إمكان تخلصهم عن قول الكعبي بعد اعترافهم بسقوط ذينك الجوابين الذين من جهد الجمهور [2]. ولهذا ألزم الجمهور في مسألة مقدمة الواجب؛ لصحة قول الكعبي في نفي المباح، واعترف جماعة من محققهم بأن ما قاله الكعبي حق. قال السبكي في شرح المختصر: والحق عندنا أن ما لا يتم الواجب المطلق المقدور إلا به واجب مطلقًا. وأن ما قاله الكعبي حق باعتبار الجهتين انتهى. وقال بعض المحققين بعد اعترافه بصحة قول الكعبي، وجعله متفقًا عليه ما لفظه: وأما عند توجهنا واشتياقنا إلى الحرام، وكنا نجد من أنفسنا أنا نفعل الحرام لو لم نشتغل بضده، فلا شك حينئذ أنه يجب علينا فعل المباح أو غيره، تحصيلاً لعلة الكف عن الزنا. والجمهور لا ينكرون وجوب المباح مثلاً في هذه الصورة، بل يصرحون بذلك كما تشهد به كتب الفروع، مثلاً إذا كان شخص مع امرأة جميلة في بيت، وكان يجد من نفسه أنه لو لم يشتغل بضد الزنا لصدر منه الزنا، فلا شك أن الاشتغال بضد الزنا واجب ¬

(¬1) (1/ 1749.%، وغيرهما أن ما لا يتم الواجب إلا به،- من عقل، أو عادي- واجب، وهو الحق. فابن الحاجب وإن أمكنه التخلص على زعمه بهذا الواجب، لكونه قائلاً بوجوب الشرط الشرعي فقط، تبعًا لإمام الحرمين

عليه في تلك الصورة، ثم قال: وأنت تعلم أن ما استدل به الكعبي من أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (¬1)، إنما هو في هذه الصورة؛ إذ في الأولى أعني- تقدير عدم القصد والإرادة- والداعي إلى فعل الحرام لا يصدق أن فعل المباح دائمًا واجب، للكف عن الحرام، فالدليل لا يدل عليه فتأمل. ومن الذاهبين إلى مذهب الجمهور من لم يعترف بحقية قول الكعبي، وتكلف للجواب عليه بما لا يرضيه المنصفون، فقال ابن الإمام في شرح الغاية في مسألة مقدمة الواجب ما لفظه: وأما الرابع: فقول أبي القاسم البلخي: إنما يصح لو توقف ترك الحرام على فعل المباح، وليس كذلك لجواز أن لا يتوقف على فعل، أو على فعل غير مباح. وقد عرفت أن هذا الجواب لا يوجب خروج المباح عن كونه واجبًا مطلقًا، إنما ¬

(¬1) قال ابن تيمية في «مجموع فتاوى» (10/ 532): «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب «أو» يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب» يتضمن إيجاب اللوازم، والفرق ثابت بين الواجب «الأول» و «الثاني» فإن الأول يذم تاركه ويعاقب، والثاني واجب وقوعًا، أي لا يحصل إلا به ويؤمر به امرأ بالوسائل، ويثاب عليه، لكن العقوبة ليست على تركه. ثم قال ابن تيمية: « ... وبهذا تنحل «شبهة الكعبي» فإن المحرم تركه مقصود، وأما الاشتغال بضد من أضداده فهو وسيلة، فإذا قيل المباح واجب بمعنى وجوب الوسائل، أي قد يتوسل به إلى فعل واجب وترك محرم فهذا حق. هم إن هذا يعبر فيه القصد، فإن كان الإنسان يقصد أن يشتغل بالمباح ليترك المحرم. وقد يقال المباح يصير واجبًا بهذا الاعتبار، وإن تعين طريقًا صار واجبًا معينًا، وإلا كان واجبًا مخبرًا، لكن مع هذا القصد، أما مع الذهول عن ذلك فلا يكون واجبًا أصلاً، إلا وجوب الوسائل إلى الترك وترك المحرم لا يشترط فيه القصد، فكذلك ما يتوسل به إليه، فإذا قيل هو مباح من جهة نفسه وإنه قد يجب وجوب المخيرات من جهة الوسيلة لم يمنع ذلك، فالنزاع في هذا الباب نزاع لفظي اعتباري، وإلا فالمعاني الصحيحة لا ينازع فيها من فهمها. وانظر «البحر المحيط» (1/ 281).

يخرجه عن كونه واجبًا معينًا إلى كونه واجبًا مخيرًا (¬1) انظر «البحر المحيط» (4/ 174). «الكوكب المنير» (1/ 383).% مما لم يعتبره أئمة الأصول، بل غاية ما اشترطوه في الواجب المخير مطلق التعيين، لا مقيده. والتخيير بين الواجب والمندوب والمباح والمكروه تخيير بين أمور معينة، على أن انتهاض اعتبار المقيد ¬

(¬1) انظر «البحر المحيط» (1/ 275). «مجموع فتاوى» (10/ 541 - 545).%، إذ حاصله أن المباح أحب الأمور التي لا يتحقق ترك الحرام إلا بأحدها، وأحد الأمور التي لا يتم الواجب إلا بها واجب مخير، فالمباح واجب مخير، وأنه غير مناف لمطلوب الكعبي، وقد اعترف ابن الإمام أيضًا في مسألة المباح بأن هذا الجواب وإن خلص عن الواجب المعين لا يخلص عن الواجب المخير، إلا أنه اعتمد هنالك على ما ذكره السعد في حاشية شرح المختصر فقال: إن التخيير إنما يكون في أمور معينة بالاتفاق، ثم قال: قيل التعيين النوعي حاصل، وهو كونه واجبًا، أو مندوبًا، أو مكروهًا [3]، أو مباحًا، وأجيب بأنه لا يكفي تعيين النوع، بل لا بد من تعيين حقيقة الفعل، كالصوم والاعتكاف مثلاً. ولا يحصل ذلك بمجرد اعتبار شيء من الأغراض العامة، إلا أنه غير كلام السعد إلى ما لا يخلو عن إشكال؛ لأن قوله: لا يكفي تعيين النوع يشعر باعترافه بحصول التعيين النوعي في محل النزاع، فلا يصح الجواب، فإنه لا بد من تعيين حقيقة الفعل؛ لأن التعيين النوعي لا يتم إلا بتعيين حقيقة الفعل، كما يشعر به كلام السعد في حاشيته، ولفظه: فإن قيل يكفي التعيين النوعي، وهو حاصل بكونه واجبًا، أو مندوبًا، أو مباحًا. قلنا: لا بد في التعيين النوعي من تعيين حقيقة الفعل، كالصوم، والاعتكاف مثلاً ولا يحصل ذلك لمجرد اعتبار شيء من الأعراض العامة. انتهى. فكلامه هذا يدل على أن التعيين النوعي لا بد فيه من تعيين حقيقة الفعل، وإلا لم يكن نوعيًّا. وأنت تعلم أن اشتراط تعيين حقيقة الفعل في التعيين النوعي

على الكعبي لا يتم إلا بعد ثبوت الاتفاق عليه، وإلا كان من الرد بالمذهب. ومن جملة الوجوه التي ذكرها المحقق ابن الإمام في رد مذهب الكعبي قوله: على أن التخيير في الوجوب بين الواجب والمندوب والمكروه والمباح، بين كل واحد منها ضد للحرام برفع حقيقة كل واحد منها، والجواب عنه، أما أولاً فبالنقض بالواجب المخير، وهو الجمهور من القائلين بعدم ارتفاع الوجوب عن جميع الأمور المخير فيها، بلك جعلوا الوجوب متعلق بالجميع، أو بالأحد المبهم، أو ما يفعله المكلف، أو معينًا عند الله، وعلى الجميع لم يرتفع الوجوب، والجواب الجواز. أما ثانيًا فبالحل، وهو أن الذي وجب، وهو المبهم لم يختر فيه، وهو كل من المتعينات؛ لأنه لم يوجب معينًا، وإن كان يتأدى به الواجب. وتعدد ما صدق عليه أحدها إذا تعلق به الواجب، والتخيير يأبى كون الواجب والتخيير واحدًا، كما حرم واحدًا من الأمرين وأوجب واحدًا فإن معناه أيهما فعلت حرم الآخر، وأيها تركت وجب الآخر. والتخيير بين واجب بهذا المعنى جائز. إنما الممتنع التخيير بين واجب بعينه، وغير واجب بعينه. والحاصل أن التخيير بين واجب هو أحد المعينات من حيث هو [4] أحدهما مبهمًا، وبين غير واجب هو أحدهما على التعيين من حيث التعيين لا يستلزم ارتفاع حقيقة الوجوب؛ لن هذا لا يوجب جواز ترك كل من المعينات على الإطلاق، بل جواز ترك كل معين من حيث التعيين بطريق الإتيان بمعين آخر، وأيضًا الحقيقة باقية بالنظر إلى ذات الفعل، والواجب أعني: ترك الحرام إنما هو باعتبار ما يستلزمه الفعل، ولو سلم ارتفاع حقيقة كل وحد لكانت حقيقة المباح مرتفعة، وهو مطلوب الكعبي. أما الملازمة فلأن المباح أحدها، وقد ارتفعت حقيقة كل واحد، وأما حصول مطلوب الكعبي فبانتفاء حقيقة المباح، وما هو جوابكم فهو جوابه. وقد استحسن جماعة من المتأخرين ما أجاب به البرماوي في شرح ألفيته، وأشار إليه ابن الهمام في تحريره، وذكره ابن أبي شريف في حاشيته على جمع الجوامع، وهو قولهم: لا نسلم أن كل مباح يتحقق به ترك

الحرام (¬1) الذي هو واجب؛ لأن ترك الحرام الذي يوصف بالوجوب هو الكف المكلف ¬

(¬1) قال الزركشي في «البحر المحيط» (1/ 282): قوله إن الحرام إذا ترك به حرام آخر يكون واجبًا من جهة أخرى يقال عليه: إن التفصيل بالجهتين إنما هو في العقل دون الخارج، فليس لنا في الخرج فعل وحد يكون واجبًا حرامًا؛ لاستحالة تقويم الماهية بفصلين متنافيين، وهما فصل الوجوب وفصل الحرمة، وكذلك أيضًا يقال على قوله: إن المباح واجب الاستحالة اجتماع الوجوب والإباحة في الشيء الواحد، وقد علم بالبديهة امتناع تقويم الماهية بفصلين أو فصول متعاندة. ومن ثم امتنع أن يكون للشيء مميزان ذاتيان بخلاف المميزين العرضيين الخاصتين واللازمين .. «وقوله فعل المباح» قلنا: تركه له بخصوصه أو ترك له مع غيره والأول يلزم منه كون الفعل واجبًا، وأما الثاني فلا نسلم، وسند المنع أن التلبس بالفعل المعين ترك لجميع الأفعال الواجبة والمندوبة والمحرمة والمكروهة والمباحة غير الفعل المتلبس به، وترك الجمع المذكور لا يتعين به ضد معين عملاً بترك الصلاة على الكافر، فإنه لم يتعين من مفهومه وجوب الصلاة على المسلم، ثم نقول: ما ذكرتم وإن دل على وجوبه. قلنا: ما يدل على إباحته من وجوه: 1 - أن فعل المباح مستلزم لترك الواجب الذي ليس بمضيق، ولترك الحرام وإذا تعارضت اللوازم تساقطت فيبقى المباح على إباحته. 2 - أن فعل المباح مستلزم لتعارض اللزوم الذي استلزمه لوازم الأحكام الخمسة، ومتى تعارضت اللوازم تساقطت. 3 - لو فرضنا جميع الأفعال دائرة أخذت الأفعال المباحة خمسها فإذا حصل الفعل المتلبس به فهو مركز الدائرة وإذا كان مثلاً مباحًا بالذات الذي أقر الكعبي به حصل للفعل المذكور نسبة إلى كل خمس من أجزاء الدائرة, والغرض أنه مباح فتساقطت النسب الخمس، وتبقى الإباحة الذاتية. الثاني: من أدلة الدائرة: إذا تلبس المتلبس حصلت له الإباحة بالذات وبالنسبة حصل منه الوجوب ناشئًا عن النسبة، وكل ما كان فيه أمران يقتضيان حكمين عارضهما أمر مساوِ لأحدهما يقتضي نفي ذلك الحكم فإنه مرجح وقوع نقيض الأمرين، فيرجح القول بإباحة الفعل المذكور. الثالث: أن تقول: هذا الفعل فيه إباحة ذاتية وإباحة نسبية وفيه وجوب نسبي معارض للإباحة فيتساقطان، وتبقى الإباحة الذاتية. (4): أن تقول: الإباحة النسبية ترجح بانفرادها على الوجوب النسبي لأن الإباحة النسبية متوقفة على النسبة المذكورة والوجوب يتوقف على ترك الحرام، والحرام متوقف على النسبة المذكورة فترجح الإباحة. وانظر «مجموع فتاوى» (10/ 530 - 534).

به في النهي، كما هو الراجح، وهو فعل مغاير لسائر الأفعال الوجودية التي هي أضداد الحرام، ولا خفاء في توقف الكف على القصد له، ولا في أن الكف عن الشيء فرع خطوره بالبال، وداعية النفس له، فمن سكنت جوارحه عن الحرام أو غيره أو حركها في مباح أو غيره، من غير أن يخطر بباله الحرام، ولا دعته النفس إليه لم يوجد منه كف، فلا يكون آتيًا بالترك الواجب، وإن كان غير إثم اكتفى بالانتقال الأصلي في حقه، فقد ظهر أن اجتماع الترك الواجب أعني: الكف، وما يعرض عن فعل مباح أو غيره مما ذكره اجتماع اتفاقي لا لزومي، فإذا اجتمعا فالموصوف فيه بالوجوب هو الكف، لا ما يقارنه من الفعل المباح أو غيره انتهى. قال ابن أبي شريف: وهذا أحسن ما يتخلص به عن دليل الكعبي. ولا يخفى عليك أن هذا الكلام مع ما فيه من التكلف لا يتم إلا بعد تسليم أن المكلف به في النهي هو الكف المذكور، وأنه خلاف، فإن القائلين بأن النهي عن الشيء أمر بضده صرحوا بأن النهي طلب ترك فعل، والترك فعل للضد، فالمكلف به فعل الضد والمباح ضد فيكون واجبًا لا من حيث كونه كفَّا عن قصد، بل من حيث كونه تركًا للحرام. وأهل هذا المقالة أعني: كون النهي عن الشيء أمرًا (¬1) بضده هم القائلون بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده. ¬

(¬1) انظر الرسالة السابقة. قال ابن برهان في «الأوسط» كما في «البحر المحيط» (1/ 281): بنى الكعبي مذهبه على أصل إذا سلم له فالحق ما قاله، وهو أن الأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عن الشيء أمر بضده، ولا مخلص من مذهبه إلا بإنكار هذا الأصل.

وأما ما حكاه ابن الحاجب (¬1) (1/ 175 - 176).% انتهى. وقد ألزم القائلون بأن النهي أمر بالضد بمذهب الكعبي. قال العضد: إنه يستلزم نفي المباح إذ ما من مباح (¬2) انظر كلام ابن تيمية وقد تقدم.%، وما لا يتم الواجب إلا به لا يلزم أن يكون واجبًا على ما مر انتهى. وقد عرفت مما سلف عدم انتهاض هذا التخلص، وأيضًا قد اعترف العلامة في شرح المختصر أن الإلزام بمذهب الكعبي لا يختص بمذهب القائلين بأن النهي أمر بالضد، بل هو وارد على مذهب القائلين بكون الأمر بالشيء نهيًا عن الضد. وتكلف السعد في الجواب عليه. ¬

(¬1) انظر «البحر المحيط» (1/ 281).% أن من [5] الناس من اقتصر على القول بأن الأمر عين النهي عن الضد، أو يستلزمه دون النهي، فلا يكون أمرًا بضده المعين، أو أضداده على التخيير، ولا يستلزمه، فقد قال السبكي في منع الموانع أنه لم يجد له في هذه الطريقة مستندًا من معقول ولا منقول. قال: ولا رأيتهما فيما رأيت من كتب الأصول، ولا أدري من أين أخذها، قال: ولعله أخذها من قول بعض الأصوليين في الاستدلال على أن الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضده كما أن النهي ليس أمرًا بضده فكأنه متعين عليه للقطع فيه بذلك لكن ليس فيه صراحة لاحتمال أن يراد ذكر المسألتين معًا، واختيار النفي فيهما لا كون أحدهما أصلاً للأخرى. قال: ولهذا حذفتها في جمع الجوامع (¬2) انظر «مجموع فتاوى» (10/ 542).% إلا وهو ترك حرام، كما هو مذهب الكعبي، وقد بطل انتهى. قال السعد: فإن قيل هذا بعينه دليل الكعبي، على أن المباح مأمور به لا تعلق له بما ذكرنا من الدليل على أن النهي عن الشيء أمر بضده. قلنا: قد سبق أنه لا مخلص عن دليل الكعبي إلا بأن ترك الحرام ليس نفس فعل المباح، غايته أنه لا يتم الواجب إلا به

وعلى الجملة فقد صار مذهب الكعبي شجًّا في حلوق القائلين أن الأمر بالشيء نهي عن ضده وبالعكس، وقذًا في أعين الذاهبين إلى وجوب ما لا يتم الواجب إلا به، وهم الجمهور (¬1) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.% من حديث [6] أبي موسى قال: قال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «على كل مسلم صدقة. قيل: أرأيت إن لم يجد، قال: يعمل بيديه فينفع نفسه، ويتصدق. قال: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يأمر بالمعروف أو الخير. قال: أرأيت أن لم يفعل؟ قال: يمسك عن الشر، فإنها صدقة» فجعل- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مجرد الإمساك صدقة، فلا شيء من الإمساك بمباح وهو المطلوب. واعتبار القصد والخطور لا دليل عليه إن كان ذلك أمرًا زائدًا على مجرد النية التي تتوقف الإثابة على الأفعال والتروك عليها. ومن الأدلة الدالة على مذهب الكعبي أيضًا حديث أبي ذر قال: «قالوا يا رسول الله، أحدنا يقضي شهوته ويكون له صدقة؟ قال: أرأيت لو وضعها في غير حلها، ألم يكن يأثم» أخرجه أبو داود (¬2) كمسلم في صحيحه رقم (53/ 1006) وأحمد (5/ 167 - 168). وهو حديث صحيح.%، فجعل- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وضع ¬

(¬1) انظر بداية الرسالة.% أيضًا، ولا مخلص لهم عنه كما اعترف بذلك جماعة من محققيهم، فإذا ترتب صحة القول في هاتين المسألتين اللتين هما من أمهات مسائل الأصول، ومهماتها على قول الكعبي، ولم يقع النقص عنه إلا بتكلفات قد عرفناك سقوطها، فلا معذرة للجمهور عن القول به، والاعتراف بصحته. وقد عرفت ما أسلفناه في تقرير مذهب الكعبي، وأنه مجمع عليه من تلك الحيثية فلا نعيده. ومن الأدلة على صحة مذهب الكعبي ما أخرجه الشيخان (¬2) في «السنن» رقم (5243) و (5244).% وغيره

الشهوة في الحلال مثابًا عليه، لما فيه من الإمساك عن الحرام. ومن الأدلة أيضًا حديث (¬1) قال ابن تيمية في «مجموع فتاوى» (10/ 534): فإن كان الإنسان يقصد أن يشتغل بالمباح ليترك المحرم مثل من يشتغل بالنظر إلى امرأته ووطئها ليدع بذلك النظر إلى الأجنبية ووطئها، أو يأكل طعامًا حلالاً ليشتغل به عن الطعام الحرام فهذا يثاب على هذه النية والفعل وقد يقال المباح يصير واجبًا بهذا الاعتبار، وإن تعين طريقًا صار واجبًا معينًا، وإلا كان واجبًا مخيرًا، لكن مع هذا القصد، أما مع الذهول عن ذلك فلا يكون واجبًا أصلاً، إلى وجوب الوسائل إلى الترك وترك المحرم لا يشترط فيه القصد، فكذلك ما يتوسل به إليه. فإذا قيل هو مباح من جهة نفسه وإنه قد يجب وجوب المخيرات من جهة الوسيلة لم يمنع ذلك، فالنزاع في هذا الباب نزاع لفظي لا اعتباري، وإلا فالمعاني الصحيحة لا ينازع فيها من فهمها. والمقصود هنا: أن الأبرار وأصحاب اليمين قد يشتغلون بمباح من مباح آخر فيكون كل من المباحين يستوي وجوده وعدمه في حقهم. أما السابقون المقربون فهم إنما يستعملون المباحات إذا كانت طاعة لحسن القصد فيها، والاستعانة على طاعة الله، وحينئذ فمباحاتهم طاعات وإذا كان كذلك لم تكن الأفعال في حقهم إلا ما يترجح وجوده فيؤمرون به شرعًا أمر استجاب، أو ما يترجح عدمه فالأفضل لهم أن لا يفعلوه وإن لم يكن فيه إثم. والشريعة قد بينت أحكام الأفعال كلها. قال الزركشي في «البحر المحيط» (1/ 280): والحق: أن مقصود الشارع بخطاب الإباحة إنما هو ذاته من غير اعتبار آخر فأما من جهة أنه شاغل عن المعاصي فليس هذا بمقصود الشرع، ولا هو المطلوب من المكلف، وما صوره الكعبي من كون ذلك ذريعة ووسيلة فلا ننكره، ولكن المنكر قصد الشارع إليه، ولإجماع المسلمين على أن الإباحة حكم شرعي، وأنه نقيض الواجب، وكونها وصلة لا يغلب حكمها المقصود المنصوص عليه شرعًا.% على جميع ¬

(¬1) لا أصل في المرفوع هكذا. بل ورد «نوم الصائم عبادة، وصمته تسبيح، وعمله مضاعف، ودعاؤه مستجاب، وذنبه مغفور». رواه البيهقي بسند ضعيف عن عبد الله بن أبي أوفى، وضعفه الألباني في «ضعيف الجامع» رقم (5984). وقال المناوي في «فيض القدير» (6/ 291) معروف بن حسان- أي أحد رجاله- ضعيف، وسليمان بن عمر النخعي أضعف منه. وقال الحافظ العراقي فيه سليمان النخعي أحد الكاذبين وأقول: «أي المناوي» في أيضًا عبد الملك ابن عمير أورده الذهبي في الضعفاء وقال أحمد: مضطرب الحديث. وقال ابن معين: مختلط، وقال أبو حاتم ليس بحافظ. وأورد أبو نعيم في «الحلية» عن سليمان: «نوم على علم خير من صلاة على جهل». وقد ضعفه الألباني في «ضعيف الجامع» رقم (5985). وقال علي القاري في «الأسرار المرفوعة» (ص 359): ففي الجملة: من كان عالمًا فنومه عبادة؛ لأنه ينوي به النشاط على الطاعة، ومن هنا قيل: «نوم الظالم عبادة»؛ لأن تلك السنة عبادة بالنسبة إليه في ترك ظلمه.% «نوم العالم عبادة» إن صح ونحو ذلك كثير لمن تتبع. وهذا من السنن الإلهية. وأي نعمة أجل وكرامة أنيل من استثمار الأجور

الحركات والسكنات التي لم تتصف بوصف الحرمة والكراهة. وإلى هنا انتهى الكلام على هذه المسألة. كمل من تحرير المؤلف بقلمه القاضي عز الدين محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما، وكافاه بالحسنى، بحق محمد وآله وصحبة. وكان تاريخ التأليف وتحريره- حفظه الله- في شهر رجب سنة 1206 هـ سنة ست ومائتين وألف. [وكان الفراغ من نقلها في شهر ربيع الآخر سنة 1208 هـ] (¬1). ¬

(¬1) زيادة من (ب). فائدة: الإباحة حكم شرعي خلافًا لبعض المعتزلة، والخلاف لفظي يلتفت إلى تفسير المباح، إن عرفه بنفسي الحرج، وهو اصطلاح الأقدمين، فنفي الحرج ثابت قبل الشرع، فلا يكون من الشرع، ومن فسره بالإعلام بنفي الحرج فالإعلام به إنما يعلم من الشرع فيكون شرعيًّا. «البحر المحيط» (1/ 278).

جواب سؤالات من الفقيه قاسم لطف الله

جواب سؤالات من الفقيه قاسم لطف الله تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب على صورة الغلاف ما نصه: «سؤالات من طلبة العلم من مدينة جبلة، السائل هو الإمام العلامة قاسم لطف الله وقد أجبت بالكراسة التي بعد هذه الكراسة والجواب بخطه كالسؤال».

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: (جواب سؤالات من الفقيه قاسم لطف الله). 2 - موضوع الرسالة: في الأصول. 3 - أول الرسالة بسم الله الرحمن الرحيم. ما يقول علامة العصر، وزينة الدهر، أقضى القضاة على الاعتدام شيخ الإسلام، وناصر سنة خير الأنام سيدنا القاضي محمد بن علي الشوكاني، أعلى الله علاه، وحقق في الدارين رجاءه ومناه ... 4 - أخر الرسالة: أن نطيل في شأنه أو نستدل على بطلانه. وفي هذا المقدار كفاية. وإن كان المقام متحملاً لبسط والله ولي الإعانة، وهو حسبي، ونعم الوكيل. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني. 7 - عدد الورقات: (5) ورقات. 8 - عدد الأسطر في الصفحة: 18 - 21 سطرًا. 9 - عدد الكلمات في السطر: 8 كلمة. 10 - الرسالة من المجلد الرابع من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني). بسم الله الرحمن الرحيم. ما يقول علامة العصر، وزينة الدهر، أقضى القضاة على الاعتدام شيخ الإسلام، وناصر سنة خير الأنام سيدنا القاضي محمد بن علي الشوكاني- أعلى الله علاه، وحقق في الدارين رجاءه ومناه-. في مسألتنا المسطرة؟ وطلبتنا التي هي على معارفكم غير منكرة، فلا زلت مرجعًا في فتح كل مغلق، ومحققًا كل مخصص ومقيد يجبان لعام ومطلق، ومبينًا معاني الأدلة الإجمالية، مستنبطًا لنا منها الفروع التفصيلية، فترد ورود الطلبة إلى غدير وردك، فلا يصدرون عنه إلا صدور نبلاء ليس إلا ببركات قصدك، فاشف عليل أوامنا يا عذيقها المرحب، وجديلها المحكك، فلك الألمعية التي لا يمر بها معقد إلا صار محلولاً مفككًا. أفد لا زالت علومك في تخوم التحقيق راسخة، وأحيا بك في سماء التدقيق بازخة. قال العلامة ابن الحاجب في مختصره (¬1) لمنتهى سيف الدين الآمدي (¬2) في تعريف المطلق: المطلق ما دل على شائع في جنسه (¬3). قال المحقق العضد: ومعنى كونه خصه ¬

(¬1) (2/ 155) (¬2) في «الإحكام» (3/ 5) قال: المطلق في سياق الإثبات. (¬3) وهو تعريف ابن الحاجب للمطلق. - المطلق لغة الانفكاك من أي قيد: حسيًّا كان، أو معنويًّا. فمثال الحسي: يقال: هذا الفرس مطلق. ومثال المعنوي: الأدلة الشرعية المطلقة، كقوله تعالى: {فتحرير رقبة} [النساء: 92]. المطلق في الاصطلاح: هو المتناول لواحد لا بعينه باعتبار حقيقة شاملة لجنسه. وهو قول أكثر العلماء. انظر: «الكوكب المنير» (3/ 392)، «مقاييس اللغة» (3/ 420)، «المسودة» (ص 147)، «البرهان» (1/ 356). - يكون المطلق في أمور منها: 1 - قد يكون في معرض الأمر، كقولك: «اعتق رقبة». 2 - قد يكون في مصدر الأمر، كقوله تعالى: {فتحرير رقبة} [النساء: 92]. 3 - قد يكون في الخبر عن المستقبل كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا نكاح إلا بولي». وكقولك: «سأعتق رقبة». فكل واحد من لفظ «الرقبة، الولي» قد تناول واحدًا غير معين من جنس الرقاب، الأولياء. - لا يمكن أن يكون الإطلاق في معرض الخبر المتعلق بالماضي كقولك: «رأيت رجلاً» أو «عتق رقبة» أو أعطيت طالبًا لأن هؤلاء [الرجل، الرقبة، الطالب] قد تعينوا بالضرورة وهي ضرورة إسناد الرؤية إلى الرجل والعتق للرقبة والإعطاء للطالب. انظر: «الإحكام» للآمدي (3/ 7)، «روضة الناظر» (ص 260).

محتملة لحصص كثيرة مما تندرج تحت أمر مشترك من غير تعيين، فتخرج المعارف كلها لما فيها من التعيين شخصًا نحو زيد، وهذا وحقيقة نحو: الرجل، وأسامة [1 أ]، أو خصه نحو: {فعصى فرعون الرسول} (¬1) في المخطوط (وكذا) والتصويب من «شرح العضد».% كل عام ولو نكرة، نحو: كل رجل ولا رجل؛ لأنه بما انضم إليه من كل، والنفي صار للاستغراق، وأنه ينافي الشيوع بما ذكرناه من التفسير. فانظر كيف ذكر التعرض للنكرة المجردة عن كل والنفي! وما ذاك إلا لصدق تعريف ابن الحاجب (¬2) انظر «البحر المحيط» (3/ 414).% بينه وشرحه حيث قال: والمختار أن المطلق ويسمى اسم جنس ما؛ أي: لفظ دل على الماهية بلا قيد من وحدة وغيرها، فهو كلي. وقيل ما دل على شائع في جنسه وقائله توهمه النكرة العامة. واحتج له بأن الأمر بالماهية كالضرب من غير قيد أمر جزئ من جزئياتها كالضرب بالسوط، أو عصا أو غير ذلك؛ لأن الأحكام الشرعية إنما تبنى غالبًا ¬

(¬1) [المزمل: 16].% أو استغراقًا نحو: الرجال [وكذلك] (¬2) في مختصره (2/ 155).% عليها. وقد أوضح شمول هذا التعريف لها شيخ الإسلام المحقق العلامة القاضي زكريا محمد بن محمد الأنصاري

على الجزئيات لا على الماهيات المعقولة لاستحالة وجودها في الخارج. ويرد بأنها إنما يستحيل وجودها كذلك مجردة لا مطلقًا؛ لأنها توجد بوجود جزئي لها. انتهى. فانظر كيف جعل الأمر بالماهية جزئيًّا على أن المراد بوجودها بالخارج وجودها في ضمن مفرداتها المشخصة. وعلى تعريف القاضي زكريا يكون الأمر بها كليًّا. وقد صرحوا بما يؤيد الأول، وقالوا: {أقيموا الصلاة} [1 ب] أمر جزئي من جزئيات الأمر المطلق الذي هو للوجوب حقيقة (¬1) قال الزركشي في «البحر المحيط» (3/ 414 - 415): قال ابن الخشاب النحوي: النكرة: كل اسم دل على مسماه على جهة البدل؛ أي فإنه صالح لهذا ولهذا. انتهى. ولا ينبغي ذلك يعني موافقة ابن الحاجب للنحاة، فإن النحاة إنما دعاهم إلى ذلك أنه لا غرض لهم في الفرق؛ لاشترك المطلق والنكرة في صياغة الألفاظ من حيث قبول «أل» وغير ذلك من الأحكام، فلم يحتاجوا إلى الفرق، أما الأصوليون والفقهاء فإنهما عندهم حقيقتان مختلفتان. أما الأصولي فعليه أن يذكر وجه المميز فيهما، فإنا قطعًا نفرق بين الدال على الماهية من حيث هي هي. والدال عليها بقيد الوحدة غير معينة، كما نفرق بين الدال عليها بوحدة غير معينة، وهو النكرة، ومعينة وهي المعرفة، فهي حقائق ثلاث لا بد من بيانها. وأما الفقيه، فلأن الأحكام تختلف عنده بالنسبة إليها، ألا ترى أنه لما استشعر بعضهم التنكير في بعض الألفاظ، اشترط الوحدة، فقال الغزالي فيمن قال: إن كان حملها غلامًا فأعطوه كذا، فكان غلامين، لا شيء لهما؛ لأن التنكير يشغر بالتوحيد، ويصدق أنهما غلامان لا غلام، وكذا لو قال لامرأته: إن كان حملك ذاكرًا فأنت طالق طلقتين، فكانا ذكرين، فقيل: لا تطلق، لهذا المعنى، وقيل تطلق، حملاً على الجنس من حيث هو، فانظر كيف فرق الفقهاء بين المطلق والنكرة. قال الزركشي (3/ 415): التحقيق أن المطلق قسمان: أحدهما: أن يقع في الإنشاء، فهذا يدل على نفس الحقيقة من غير تعرض لأمر زائد، وهو معنى قولهم المطلق هو التعرض للذات دون الصفات لا بالنفي ولا بالإثبات، كقوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} [البقرة: 67]. الثاني: أن يقع في الأخبار، مثل رأيت رجلاً، فهو لإثبات واحد مبهم من ذلك التعيين عند السامع، وجعل مقابلاً للمطلق باعتبار اشتماله على قيد الوحدة. وعلى القسم الأول ينزل كلام «المحصول» (3/ 143). وعلى الثاني ينزل كلام ابن الحاجب (2/ 155) وهو قطعي في الماهية، هذا عند الحنفية وظاهر عند الشافعية كنظير الخلاف في العموم، ولاسترساله على جميع الأفراد يشبه العموم، ولهذا قيل: إنه عام عموم بدل، والإطلاق والتقييد من عوارض الألفاظ باعتبار معانيها اصطلاحًا، وإن أطلق على المعاني فلا مشاحة في الاصطلاح، وهما أمران نسيان باعتبار الطرفين، ويرتقي إلى مطلق لا إطلاق بعده كالمعدوم، وإلى مقيد لا تقيد بعده كزيد، وبينهما وسائط. قال الهندي: المطلق الحقيقي: ما دل على الماهية فقط، والإضافي: يختلف نحو: رجل، ورقبة، فإنه مطلق بالإضافة إلى رجل عالم، ورقبة مؤمنة، ومقيد بالإضافة إلى الحقيقي؛ لأنه يدل على واحد شائع، وهما قيدان زائدان على الماهية.% المعبر عنها في الأصول بالمطلق فهو ما وضع للماهية مطلقًا، ¬

(¬1) في هامش المخطوط: «وللمحقق شارح المختصر على قول المختصر: إذا أمر الآمر بفعل مطلق نحو: اضرب من غير تعيين ضرب [معين] فالمطلوب الفعل الجزئي ... إلخ. واعلم أنك إذا وقفت على الماهية بشرط شيء، وبشرط لا شيء، ولا بشرط شيء علمت أن المطلوب الماهية من حيث هي هي لا بقيد الجزئية، ولا بقيد الكلية. ولا يلزم من عدم اعتبار أحدهما اعتبار الآخر، وأن ذلك غير مستحيل، بل موجود في ضمن الجزئيات. قال السعد: قوله: واعلم. يشير إلى أن مبنى كلام الفريقين على عدم تحقيق معنى الماهية الكلية، وعدم التفرقة بين الماهية المطلقة بمعنى عدم اشتراط قيد ما، والمطلقة بمعنى اشتراط الإطلاق وعدم التقييد، وحقق بها في الماهية بعد ذلك.%. وقال شارح مقدمة ابن هشام النحوي عند قوله: وأما اسم الجنس النكرة

أي بلا تعيين؛ كأسد: اسم لماهية السبع، فقال: أسد أجرأ من ثعلب، كما يقال أسامة أجرأ من ثعالة. ويعبر عنه بالنكرة، والفرق بينهما بالاعتبار إن اعتبر باللفظ دلالته على الماهية بلا قيد سمي اسم جنس ومطلق، وإن اعتبر دلالته على الماهية مع قيد الوحدة الشائعة سمي نكرة. قال العلامة الجزري شارح شرح المقدمة المذكورة: وعبارة العلامة التفتازاني (¬1) في شرح الشرح العضدي يدل على أنه لا يجوز أن يراد بالمطلق الماهية من حيث هي، حيث ¬

(¬1) (2/ 155).

قال (¬1) (2/ 155).% وشرحه وشرح شرحه ¬

(¬1) (2/ 155).%: وإنما فسر الشائع بالحصة نفيًا لما توهم من ظاهر عبارة القوم أن المطلق ما يراد به الحقيقة من حيث هي هي؛ وذلك لأن الأحكام إنما تتعلق بالأفراد دون المفهومات. ولا يخفى عليك أن المطلق في الكتاب والسنة بمعنى الماهية من حيث هي هي كثير، وكون الحكم على الإفراد لا يستلزم إخراج الماهية من حيث هي بمعنى المطلق على ما حقق الحكم في عنوان القضايا على الماهية من حيث هي هي بلا شرط؛ إذ هي الموجودة في الأذهان لا على الأفراد [2 أ]. وأما الأفراد إنما تجري الأحكام عليها بالسراية لاتحادها مع هذه الحقيقة التي هي المحكوم عليها أولاً وبالذات وذكروا أن تلك الأفراد غير مشعور بها، فكيف يكون محكومًا عليها! وقد نقل هذا التحقيق عن المحقق جلال الدين الدواني، والكامل صدر الدين الشيرازي. انتهى كلام شارح شرح المقدمة. ولعل منكر وجود الطبيعي في الخارج ناظر إلى ما عرف به الموجود الخارجي في كتب الحكمة من أن كل موجود خارجي هو في حد ذاته متميز عن غيره، بحيث إذا لا حظ العقل خصوصيته الممتازة لم يكن له أن يفرض اشتراكها، فلو وجدت الطبيعة في الخارج كانت كذلك، ومنبت وجود الطبيعي في الخارج يكتفى بوجوده في ضمن أفراده المتشخصة في الخارج، كما قال السعد في التهذيب: والحق وجود الطبيعي بمعنى وجود أشخاصه ... إلخ. فأوضحوا لنا هل هذا الخلاف لفظي؟ ولا فرق بين أن يتعلق الحكم بالماهية أولاً وبالذات، ويتعلق بعد ذلك بأفرادها ثانيًا، وبالفرض بطريق السراية كما قرره شارح شرح مقدمة ابن هشام المؤيد بتعريف القاضي زكريا- رحمه الله- السابق، وقبل أن يتعلق الحكم بالماهية ملحوظًا [2 ب] معها الأفراد الخارجية كما هو في تعريف المختصر

للتفتازاني (¬1) - رحمه الله- أم الخلاف معنوي، فهو المطلوب تحقيقه؛ لأن من قال باستحالة وجوده الطبيعي في الخارج لا بد أن يكون هو في حد ذاته متميزًا عن غيره بحيث لا يفرض العقل اشتراكه مع أنه مشترك بين أفراد متمكنة في أماكن مختلفة، ومتصفة بصفات متضادة، فيلزم الخلف، ونقول: ومع كون كل وحد من الجزئيات عين الآخر في الخارج فق أسهبنا في الكلام لتعلق المطلوب بلفظ التعريفات غير المتفقة لفظًا ومعنى، فأوضحوا لنا التحقيق في هذا المقام.- أمتع الله المسلمين بطول حياتكم، وأدام النفع بكم-. وبحيث إن وجدت مباحثة بين التاج السبكي ووالده (¬2) الشيخ الإمام التقي في الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس ملخصة من الأشباه والنظائر لفظها: مسألة معروفة بالإشكال، مذكورة لمعالم الرجال، مشهور بين الفرسان، محررة لتصحيح الأذهان: اسم الجنس موضوع للماهية من حيث هي باعتبار وقوعها على الإفراد، وعلم الجنس الموضوع لها مقصودًا به تمييز الجنس عن غيره، من غير نظر إلى الإفراد هو الذي كان أبي يختاره في الفرق بن اسم الجنس وعلم الجنس (¬3)، وأنا قائل بما قاله أبي غير أن لي ¬

(¬1) (2/ 155 - 156). (¬2) انظر ذلك في «الغيث الهامع شرح جمع الجوامع» (1/ 153 - 154). (¬3) العلم: هو اسم يعين مسماه. فقولنا «اسم» جنس مخرج لما سواه من الأفعال والحروف، وقولنا «بعين مسماه» فصل مخرج للنكرات، وقولنا «مطلقًا» مخرج لما سوى العلم من المعارف، فإنه لا يعينه إلا بقرينة، إما لفظية مثل (أل) أو معنوية كالحضور والغيبة في أنت وهو. وهذا الحد لابن مالك. وهو قسمان: قسم شخصي: وهو الموضوع للحقيقة بقيد الشخص الخارجي، وهو المراد بقوله «فإن كان التعيين خارجيًّا فعلم شخص، كجعفر، علم رجل، وخرنق، علم امرأة. وأشير إلى القسم الثاني: بقوله (وإلا) أي وإن لم يكن التعيين خارجيًّا بأن لم يوضع على شخص موجودة في الخارج، وإنما وضعه للماهية بقيد الشخص الذهني (فـ) علم (جنس) كأسامة، فإنه علم على الأسد بقيد بشخص ماهيته في ذهن الواضع، وكذا ثعالة على الثعلب، فإن كلاً منهما لم يوضع على واحد من جنسه بعينه، فتشمل الماهية كل أفراد الجنس، ولا يختص ذلك بما لا يؤلف من الوحوش، بل يكون أيضًا لبعض المألوفات، كأبي المضاء لجنس الفرس. والاسم (الموضوع للماهية من حيث هي)؛ أي: لا بقيد تشخصها في الذهن ولا عدم تشخصها- كأسد- فهو (اسم جنس). إذا تقرر هذا، فعلم الجنس يساوي علم الشخص في أحكامه اللفظية من كونه لا يضاف، ولا يدخل عليه حرف التعريف، ولا ينعت بنكرة، ولا بقبح مجيئه مبتدأ، ولا انتصاب النكرة بعده على الحال، ولا يصرف منه ما فيه سبب زائد على العلمية. ويفارقه من جهة المعنى لعمومه، إذ هو خاص شائع في حالة واحدة مخصوصة باعتبار تعيينه الحقيقة في الذهي، وشياعه باعتبار أن لكل شخص من أشخاص نوعه قسطًا من تلك الحقيقة في الخارج. - وأما الفرق بين علم الجنس واسم الجنس، فقال بعضهم، إن اسم الجنس الذي هو أسد، موضوع لفرد من أفراد النوع لا بعينه، فالتعدد فيه من أصل الوضع، وإن علم الجنس الذي هو أسامة، موضوع للحقيقة المتحدة في الذهن، فإذا أطلقت أسدًا على واحد، أطلقته على أصل وضعه، وإذا أطلقت أسامة على الواحد، فإنما أردت الحقيقة، ويلزم من ذلك التعدد في الخارج، فالتعدد فيه ضمنًا لا قصدًا بالوضع. ويتساويان في صدقهما على صورة الأسد، إلا أن علم الجنس وضع لها من حيث خصوصها باستحضارها في الذهن، واسم الجنس وضع لها من حيث عمومها. انظر: «الكوكب المنير» (1/ 146 - 147). «تنقيح الفصول» (ص 33). «تسهيل الفوائد» (ص 30).

زيادة [3 أ] ونقصًا في بعض مباحثه. أما الزيادة لا أشترط فيه اعتبار وقوعه على الأفراد، وإنما أكتفي بملاحظة الواضع عند الوضع للأفراد، فأقول: اسم الجنس موضوع للقدر المشترك بين الصور الذهنية والخارجية، ملاحظًا في الصور الخارجية وسط الكلام بعد هذا في الفرق المذكور (¬1) انتهى. ¬

(¬1) الفرق بن علم الجنس كأسامة، واسم الجنس كأسد، فإنهما في المعنى سواء لصدق كل منهما على كل فرد من هذا الجنس، وفي الأحكام اللفظية مختلفان فإن لأسامة حكم الأعلام من منع الصرف لاجتماع فرعية الأنوثة والعلمية، وغير ذلك من الأحكام، وأسد نكرة محضة ... وتقرير الفرق بينهما أن الواضع إذا استحضر صورة الأسد ليضع لها فتلك الصورة المتشخصة في ذهنه جزئية باعتبار تشخصها في ذهنه، ومطلق الصورة كلي، فإن وضع اللفظ للصورة التي في ذهنه فهو علم الجنس، وإن وضعه لمطلق الصورة فهو اسم الجنس، وحينئذ فلا يعرف الفرق بينهما إلا باعتبار وضع الواضع. واختار والد السبكي أن علم الجنس ما قصد به تمييز الجنس عن غيره مع قطع النظر عن أفراده، واسم الجنس ما قصد به مسمى الجنس باعتبار وقوعه على الأفراد، حتى إذا أدخلت عليه الألف واللام الجنسية صار مساويًا لعلم الجنس؛ لأن الألف واللام الجنسية لتعريف الماهية، وفرع على ذلك أن علم الجنس لا يثني ولا يجمع؛ لأن الحقيقة من حيث هي لا تقبل جمعًا ولت تثنية؛ لأن التثنية والجمع إنما هو للأفراد. «الغيث الهامع شرح جمع الجوامع» (1/ 153 - 154).

ومما أشكل أيضًا قول التاج السبكي في الأشباه المذكورة في كتب الجرح والتعديل قال فيه: قال العلامة ابن دقيق العيد (¬1) - رحمه الله-: أعراض الناس حفرة من حفر النار، وقف على شفيرها طائفتان من الناس: المحدثون والحكام. وظاهر أنه أراد المحدثين مشتغلون بالبحث عن أحوال الرواة لتمييز العدل الضابط من المتوسط الضبط وحده، ومن الضعيف فيهما. والحكام مشتغلون بمثل ذلك ليميزوا بين العدل وغيره عند أداء الشهادات، فالمقصدان مرضيان، كيف وبمقصد المحدثين حفظت السنة الغراء من تحريف الغالين، وافتراء الوضاعين! حتى أوصلوها إلى من بعدهم ¬

(¬1) في «الاقتراح» (ص 302). قال الحافظ أبو عمرو بن الصلاح في «علوم الحديث» (ص 389 - 390): الكلام في الرجال جرحًا وتعديلاً جوز صونًا للشريعة ونفيًا للخطأ والكذب عنها، وكما جاز الجرح في الشهود جاز في الرواة ... ثم إن على الآخذ في ذلك أن يتقي الله تبارك وتعالى، ويتثبت ويتوقى التساهل، كيلا يجرح سليمًا، ويسم بريئًا بسمة سوء يبقى عليه الدهر عارها، وأحسب أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم ... من مثل ما ذكرناه خاف، فيما رويناه أو بلغناه أن يوسف بن الحسين الرازي- وهو الصوفي- دخل عليه وهو يقرأ كتابه في الجرح والتعديل، فقال له: كم من هؤلاء القوم قد حطوا رواحلهم في الجنة منذ مائة سنة ومائتي سنة، وأنت تذكرهم وتغتابهم؟ فبكى عبد الرحمن «اهـ. انظر: «الرفع والتكميل» (ص 47)، «شرح ألفية العراقي» (3/ 262).

واضحة جلية كما تلقيت [3 ب] غضة طرية فانتفع بها الأواخر والأوائل محفوظة من كل حال حائل، محصية عن أن يتفوه بأدنى دخل فيها لسان ملحد، فإن فعل أحرقته بسوارق كل منجد، وأعدمته طوارق كل مصعد، فكيف لا يرجوا أن يكونوا من الذين لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون. فحققوا لنا مراد العلامة ابن دقيق العيد في هذه العبارة المنقولة- جزيتم خيري الدنيا والآخرة-. ومما أشكل علينا صحة بيع العينة (¬1) عند إمامنا الشافعي رضي الله عنه مع أنه قد يتوصل به إلى ربا الفضل، قال النووي- رحمه الله- في شرح مسلم (¬2) في باب الربا في حديث (¬3) «من قدم بتمر جنيب من خيبر فقال له رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: أكل تمر خيبر كذا؟» قال النووي (¬4) - في أثناء شرحه على الحديث المذكور-: واحتج في هذا الحديث أصحابنا- رحمهم الله- وموافقوهم في أن مسألة العينة ليس بحرام، وفسرها بأنها الحيلة التي يفعلها بعض الناس [4 أ] توصلاً إلى مقصود الربا، بأن يريد أن يعطيه مائة درهم بثمانين فيبيعه ثوبًا بثمانين، ثم يشتريه منه بمائة، ويوضح الدلالة من هذا الحديث أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: «بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا». ولم يفرق بين أن يشتري من المشتري أو من غيره، فدل على أنه لا فرق في هذا كله، ليس بحرام عند الشافعي (¬5) وآخرين، وقال مالك وأحمد: هو ¬

(¬1) بيع العينة هو أن يبيع سلعة بثمن معلوم إلى أجل ثم يشتريها من المشتري بأقل ليبقى الكثير في ذمته، وسميت عينة لحصول العين أي النقد فيها. ولأنه يعود إلى البائع عين ماله. (¬2) (11/ 20 - 21). (¬3) رقم (94/ 1593). وهو حديث صحيح. (¬4) في شرحه لصحيح مسلم (11/ 21). (¬5) انظر «المغني» (4/ 278). «رحمة الأمة في اختلاف الأئمة» لأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن الشافعي ت: 780 هـ (ص 287).

حرام (¬1) انتهى. فجعل هذا البيع حيلة إلى التوصل إلى محرم، وقد قلتم: أن للوسائل حكم المقاصد، فهل تحريم من حرمه لكونه وصلة إلى محرم، وحيلة إلى تناول الربا؟ فإن الشافعي لا يحرم الحيلة إلا إذا توصل بها إلى إبطال حق الغير، أو لما أورده السبكي، وقال: رواه الدارقطني (¬2) وأحمد (¬3)، وهو أن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها- أنكرته على زيد ابن أرقم رضي الله عنه بأبلغ إنكار، وقالت: إنه أبطل جهاده مع رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.وقال السبكي بعد هذا: واعلم أن القوم لم ينتهض لهم حجة بهذا الحديث، ولو سلم لهم الاحتجاج بقول الصحابي، فإن الشافعي ذكر أنه لا يثبت مثله عن عائشة- رضي الله عنها-. قال: قلت وفيه ما ينبه على عدم ثبوته وهو قولها: «إنه أبطل جهاده» ولم يقل أحد أن من يعمل بالعينة يحبط عمله. انتهى. ¬

(¬1) انظر «المغني» (4/ 278). فقد نقل عن الشافعي أنه قال بجوازه أخذًا من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث أبي سعيد وأبي هريرة- قد تقدم عند مسلم رقم (94/ 1593) - «بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا» فإنه دل على جواز بيع العينة، فيصح أن يشتري ذلك البائع له، ويعود له عين ماله لأنه لما لم يفصل ذلك في مقام الاحتمال دل على صحة البيع مطلقًا، سواء كان من البائع أو غيره؛ وذلك لأن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال يجري مجرى العموم في المقال (¬2) في «السنن» (3/ 52 رقم 212)، وفي إسناده العالية بنت أيفع. (¬3) ليس للعالية بنت أيفع مسند عند الإمام أحمد. قال الزيلعي في «نصب الراية» (4/ 16) ردًّا على ابن الجوزي حين قال عن العالية هذه بأنها امرأة مجهولة لا يقبل خبرها. «قلنا: بل هي امرأة معروفة جليلة القدر، ذكرها ابن سعد في «الطبقات» (8/ 487)، فقال: العالية بنت أيفع بن شراحيل امرأة أبي إسحاق السبيعي سمعت من عائشة» اهـ. وقال ابن التركماني في «الجوهر النقي» (5/ 330): «العالية: معروفة روى عنها زوجها وابنها وهما إمامان وذكرها ابن حيان في الثقات من التابعين.

وفي جامع الأصول (¬1) [البقرة: 275].% فلم ينكر أحد على عائشة، والصحبة متوافرون. ذكره رزين (¬2) كلمة غير واضحة في المخطوط.% الشافعي الوارد عن عائشة [ .... ] (¬3) قال ابن الطلاع في أحكامه كما في «التلخيص» (4/ 54): «لم يثبت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه رجم في اللواط ولا أنه حكم فيه وثبت عنه أنه قال: «اقتلوا الفاعل والمفعول به» - أخرجه أحمد (1/ 300)، وأبو داود رقم (4462)، وابن ماجه رقم (2516)، والترمذي رقم (1456)، والحاكم (4/ 355)، وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي- من حديث ابن عباس. وهو حديث صحيح.%، ولا يشترط الحصان (¬4) انظر «الدر المنثور» «2/ 457 - 458).% قوله: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ ¬

(¬1) (1/ 572 رقك 405).% أن عائشة قالت: «إن لم يتب منه» قالت أم ولد زيد: «فما تصنع» فتلت عائشة: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬2) عزاه إليه صاحب «جامع الأصول» (1/ 572)، قال: ذكره رزين ولم أجده في «الأصول».% انتهى. فلتبينوا أيضًا لنا معنى قول الشافعي: لا يثبت مثله عن عائشة، وإن كان قد قالوا قد يرد الحديث بقرائن من حال الراوي أو المروي عنه يدركها من له في الحديث ملكة واطلاع تام فإذا هذا هو بسبب الذي [ .. ]. (¬3) كلمة غير واضحة في المخطوط.% ليكون منسوخًا [4 ب]. ومما دعت الحاجة إليه ترجيح ما هو الراجح من هذين الاحتمالين وهو أن الذي عليه الشافعي رضي الله عنه في أن اللائط مقيس على الزاني المحصن في الرجم. (¬4) أخرج ابن ماجه رقم (2562)، والحاكم في «المستدرك» (4/ 355) من حديث أبي هريرة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أو لم يحصنا». وهو حديث حسن لغيره.% في اللواط، إلا أن المفعول به يجلد ويعزر. هذا هو المذهب الذي عليه أهله ومقلدوه. وقال الإمام السيوطي- رحمه الله- في تفسير

فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (¬1) وهذا منسوخ بالحد إن أريد بها الزنا، وكذلك إن أريد بها اللواط عند الشافعي. وحكى المذهب السابق عنه، قال: وإرادة اللواط أظهر بدليل تثنية الضمير. والأول قال [ .. ] (¬2) المذهب أراد الزاني والزانية، ويرده تبيينهما بمن المتصلة بضمير الرجال وإشراكهما في الأذى والتوبة والإعراض، وهو مخصوص بالرجال لما تقدم في النساء من الحبس. انتهى. فانظروا فإن الذي استظهره السيوطي- رحمه الله- ظاهر الدلالة على ما ذكره، وإن خالف رأي الشافعي، فإن جعله آية الجلد ناسخة لهذه الآية سواء أريد بها الزنا أو اللواط خفي، ولكن قد وافقه كثيرون، وفعل الصحابة كما لا يخفاك، فوجهوا لنا الأوجه، فإن الجمود على التقليد إذا كان الدليل على خلافه يذم ويقبح ولا يليق بالمنصف العصبية لمقلده، فالحق غير منحصر في رأيه، ولا هو بالمعصوم من الخطأ، فالحق أحق أن يتبع- كثر الله فوائدكم، وأدام النفع بكم، ولولي مكافأتكم- آمين. ومما لم يدر أهو مقرر صحيح عندكم أم لا؟ وقد تطلبناه فما وجدنا عليه نصًّا على قلة الكتب والعلماء في جهتنا، وهو ما أورده السيد البطليوسي في شرح ديوان المعري في تهنئة بعصر [ .. ] (¬3) في عرس بقصيدة مطلعها: سالم أعدائك مستسلم وادعى في هذه القصيدة أن النثار صعد إلى الجو سلمًا، وانتثر منه زهر السماء أو أن السماء دنت عند نثر النثار فالتقطت باقتها من الزهر [5 أ] وقال بعد هذا الادعاء: وكيف لا تطمع في مغنم ... من الثريا يعض ما يغنم ‍ وقال الشرح المذكور: ومن قوله من الثريا راجع إلى السماء، وهي موضوعة إلى ¬

(¬1) [النساء: 16]. (¬2) كلمة غير مقروءة في المخطوط. (¬3) كلمة غير مقروءة في المخطوط.

ما وضعت له، لأن السماء حيوان يعقل له عقل ونفس، وهكذا الأجرام العلوية كالشمس والقمر والكواكب، وعلل بأن السماء محل الفيض والفيض إلى العالم السفلي بواسطتها، ولا يقع الفيض إلا بواسطة ما يعقل، وما تكلفه المفسرون وغيرهم من تأويل إطلاق ما عليها، وأنها مما لا يعقل، وتأويل ما أشبهها مثل قوله- جل وعلا- حكاية لقول يوسف- على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام-: {والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين} (¬1) كون هذا الجمع مختصًّا بمن يعقل لا أصل له (¬2)، فإنهم لم يرزقوا توفيقًا يدركون به حقائق الأشياء كما هي عليه. هذا مضمون ما أورده [ .... ] (¬3) لأحد بما سبق عبر على ذهن بعضنا ¬

(¬1) [يوسف: 4]. (¬2) قال الرازي في تفسيره (18/ 86 - 87): «قوله: {رأيتهم لي ساجدين} فقوله: {ساجدين} لا يليق إلا بالعقلاء، والكواكب جمادات، فكيف جازت اللفظة المخصوصة بالعقلاء في حق الجمادات. قلنا: إن جماعة من الفلاسفة الذين يزعمون أن الكواكب أحياء ناطقة احتجوا بهذه الآية وكذلك احتجوا بقوله: {وكل في فلك يسبحون} والجمع بالواو والنون مختص بالعقلاء، وقال الواحدي: إنه تعالى لما وصفها بالسجود صارت كأنها تعقل فأخبر عنها كما يخبر عمن يعقل كما قال في صفة الأصنام: {وتراهم ينظرون إليك وهو لا يبصرون} وكما في قوله تعالى: {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم}». وانظر: «روح المعاني» للآلوسي (12/ 179 - 180). قال محيي الدين الدرويش في «إعراب القرآن الكريم» (4/ 451): «في قوله تعالى: {ساجدين} أجرى الكواكب الأحد عشر والشمس والقمر مجرى العقلاء وهو الذي يسميه النحاة تغليبًا وهذا الوصف صناعي، أما السر البياني فأمر كامن وراء هذا الوصف؛ ذلك لأنه وصف الكواكب والشمس والقمر بما هو خاص بالعقلاء وهو السجود أجرى عليها حكمهم كأنها عاقلة وهذا كثير شائع في كلامهم». (¬3) ثلاث كلمات غير مقروءة في المخطوط.

أن الإمام السيوطي ذكر في الحبائك (¬1) فيما يتعلق بالملائكة أن اللوح ملك من الملائكة فهذا فيه تأييد لهذا. فحققوا لنا صحة هذا القول أو عدم صحته. ¬

(¬1) (ص 33 - 34).

بسم الله الرحمن الرحيم (¬1) الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين، وصحبه الراشدين. الجواب عن السؤال الأول- وعلى الله في إصابة الحق- المبين إن الماهية المحررة قد وقع الاتفاق على عدم وجودها في الخارج، وأنها لا توجد إلا في ضمن أفرادها، ولهذا حصل على عدم وجود الكلي العقلي، والكلي المنطقي، في الخارج الكلي الطبيعي، فالاتفاق أيضًا كائن على عدم وجوده في الخارج، ومن قال إنه موجود بوجود إقراره فهو قائل: لا وجود له في الخارج؛ لأن وجود أفراده غير وجوده. إذا عرفت هذا فاعلم أن الأوامر الشرعية (¬2) كلمة غير مقروءة في المخطوط.% بما لا وجود له في الخارج أصلاً؛ لأنها مجردة مستحيلة الوجود خارجًا، والتعلق بالمحال محال؛ لأن التعلق به عارض من عوارضه، والعارض لا يوجد بدون معروض المعروض مستحيل الوجود؛ لأنه ماهية ما إذا وجدت [ .. ] (¬3) كلمة غير مقروءة في المخطوط.% في ضمن فرد من أفرادها، أو مع ملاحظة فرد من أفراده من حيث هي هي، والحاصل أن الماهية المجزأة تتعلق بشيء من الأوامر بها؛ لأنها قد جردت عن كل شيء والماهية المطلقة يصح تعلق الأوامر بها لأنها متحققة الوجود في ضمن جزئياتها، فالأمر بها مقيد بقيد الحيثية، وهو التحقق في ضمن أو أفرادها أو الملاحظة لفرد أو أفرد [6 أ]. وأما الفرق المسئول عنه بين قول من قال إنه يتعلق الأمر بالماهية أولاً، وبأفرادها ثانيًا، ¬

(¬1) في هامش المخطوط ما يلي: (هذا الجواب أجبت به عن السؤالات التي وردت إلي من العلامة قاسم لطف الله). (¬2) انظر «البحر المحيط» (2/ 407 - 408).% لا تتعلق [ .. ] (¬3) كلمة غير مقروءة في المخطوط.% موضوع، فالأوامر الشرعية هي أمر بالماهية [ .. ]

وبدخول قول من قال إنه يتعلق بالماهية ملحوظًا معها الأفراد الخارجية هو أن متعلق الأمر عند الأوليين الماهية التي ينتقل الذهن منها إلى أفراده، ومتعلقه عند الآخرين هو الماهية مع الإفراد؛ لأن ملاحظة الشيء مع الشيء يستلزم أن يكونا جميعًا متعلق ما وقع عليهما، أو عرضا له، فوجب بهذا أن الأولين يجعلون المتعلق بنفس الماهية المطلقة المستلزمة لإفرادها ثانيًا، والآخرين يجعلون المتعلق مجموع الماهية وأفرادها، وهذا خلاف معقول لا خلاف لفظي (¬1). وأما ما استطرده السائل- كثر الله فوائده- من كلام التاج السبكي (¬2) ووالده التقي- رحمهما الله- فالأقرب ما قاله الوالد لا الولد، والبحث طويل الذيل، كثير الشعب. وقد جمعت فيه رسالة مستقلة استوفينا فيها ما قاله أهل العلم في هذا البحث، وما هو الصواب، ومع العود إلى الوطن- إن شاء الله- نرسلها إلى السائل. وأما ما سأل عنه السائل- عافاه الله- من مقالة العلامة ابن دقيق العيد (¬3) - رحمه الله- أن أعراض الناس حفرة من حفر النار وقف على شفيرها طائفتان من الناس: المحدثون والحكام. فلعله يريد المتساهلين في البحث والفحص عن أسباب الجرح من الطائفتين، وأما من قام في مقام التحري، وبالغ في الكشف والفحص، ووقف في موقف الإنصاف فهو حقيق بأن يقال فيه: إنه وقف بهتكه لأستار الكذابين، وتمزيقه لأعراض الوضاعين [6 ب] وإشهار فضائحهم وقبائحهم على رءوس الأشهاد، وعلى عرصات الجنة، وفي روضات الفردوس، وكيف لا يكون كذلك وقد ذبوا عن سنة رسول لله، وذادوا عها الكذابين، وصفوها عن شوب كدر الكذب، وقذر الوضع، وجالوا بينها وبين الزنادقة ¬

(¬1) انظر: بداية الرسالة. (¬2) تقدم ذكره. (¬3) في «الاقتراح» (ص 302).

والمبتدعة، وسار المتلاعبين بالدين! فأعظم الله أجرهم، وأحسن جزاءهم، وأثابهم عن السنة المطهرة أجزل ثواب. فلولا أن الله- سبحانه- حفظها بهم لاختلط المعروف بالمنكر، والخير بالشر، وقال من شاء ما شاء، وتلاعب بالسنة طوائف الملاحدة على ما طوقوا به أعناق المتشرعين من المنن الجزيلة فهو إما جاهل لا يدري ما يقول، أو منغمس في بحر التعصب والابتداع، وما هو بأول كلب ينبح القمر، ولا بأول من رمى شط الفرات العذر بالقذر، ومن هذا القبيل الشاعر الجاهل أو المتجاهل. ولابن معين في الرجال مقالة سيسأل عنها والملائك شهيد، فإن كان حقًّا فالمقالة عيبه، وإن كان كذبًا فالعقاب شديد، وهذا من أعظم الجهل وأقبح الغلط، فإن هؤلاء أعني - الأئمة- لم يقوموا مقام الغيبة مرة قعدوا مقاعد البهت للناس، بل قالوا لأهل الإسلام: إن فلانًا يكذب على رسول الله، أو يجازف ولا يتحرى الصواب، أو خفيف الحفظ لا يضبط ما يسمعه، أو مبتدع يستجيز الكذب على رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ببدعته، كما هو مذهب طائفة من الروافض، أو مبتدع لا يستجيز الكذب ببدعته، ولكنه يتعمد الكذب ليدعوا الناس إلى بدعته، وكل هؤلاء غير مأمون على سنة رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كما أن من كان غير ثقة، غير مأمون على الشهادة يقتطع أموال الناس بمجرد رشوة [7 أ] يعطاها، أو غير ذلك من الأسباب الحاملة لمن لا دين له، ولا أمانة على الشهادة عند الحكام في الدماء والأموال، فإن من كان متساهلاً بدينه الذي تعبده الله به يغلب الظن بتساهله في الشهادة وغيرها. وأما سؤال السائل- عافاه الله- عن بيع العينة. فالحق الذي لا ينبغي العدول عنه، ولا الالتفات إلى ما سواه أن كل وصلة توصل بها إلى نوع من أنواع الربا، وكل ذريعة يتذرع بها إلى شائبة من شوائبه باطلة حرام لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع فيها، أو يفتي بحلها، أو رخص لعبد من عباد الله

في شأنها. وأما حديث التمر الجنيب فهو حديث صحيح (¬1)، ولطف لطف الله به وبعباده بسببه، فإنه خلصهم به من كثير من شوائب الربا، وفرق بين ما شرع للخلوص من الحرام، وبين التوصل إلى الحرام، بل هما متقابلان، فكيف يدل الحديث على الأمرين! فالاستدلال بحديث التمر الجنيب على جواز بيع العينة غلط أو مغالطة. وبالجملة فالدليل على منع ذرائع الربا ووسائله هو الأدلة في القرآن والسنة الدالة على تحريم الربا، ولا يحتاج معها إلى الاستدلال بقول صحابي على فرض أنه قاله اجتهادًا منه. وأما ما سأل عنه السائل- عافاه الله- من قول الإمام الشافعي- رحمه الله- لا يثبت مثله عن عائشة (¬2) - رضي الله عنها-. فهذا الإمام الكبير لا يقول هذه المقالة إلا بعد أن يطلع من الأسباب القادحة في الثبوت على ما يوجب الجزم بعدم الثبوت، وهو أجل وأعلا وأنبل من أن يقول شيئًا عن غير بصيرة، أو بدون تنقيب، ولكن هو [7 ب] قد قضى ما عليه، وواجب علينا أن نبحث كبحثه، وننظر كنظره، ونعمل بما يظهر بعد التحري والفحص ومراجعة دواوين الرجال المستوفية للكلام في أحوالهم، تجريحًا، وتعديلاً، وإجمالاً وتفصيلاً، كالتهذيب للمزي، والنبلاء، وتاريخ الإسلام للذهبي، ونحو هذا. وأما ما سأل عنه السائل من كلام أهل العلم في شأن اللوطي. فالذي أقول به، وأعمل عليه أن الفاعل والمفعول به المكلفين يستحقان القتل لحديث: «اقتلوا الفاعل والمفعول به» (¬3) وهو حديث صالح للاحتجاج به. وقد قرت في مؤلفاتي وأطلت البحث في شانه، ولا وجه للقول بالرجم والإلحاق بالمحصن، بل هذه ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) أخرجه أحمد (1/ 300) وأبو داود رقم (4462) وابن ماجه رقم (2561) والترمذي رقم (1456). من حديث ابن عباس وهو صحيح.

المعصية أوجب الشارع على فاعلها والمفعول به القتل، من غير فرق بين بكر (¬1) هذا المثل لإحدى ضرائر رهم بنت الخزرج امرأة سعد بن زياد مناة رمتها رهم بعيب كان فيها، فقالت الضرة: رمتني بدائها المثل، يضرب لمن يعير صاحبه بعيب هو فيه. «مجمع الأمثال» (1/ 178) و (2/ 23).% وانسلت، فهو المتكلف المتعسف بلا شك ولا شبهة ولا فائدة لإطالة منا، وتزييف هذا الكلام الباطل، والتكثير من دفعه فهو أظهر بطلانًا، وأبين فسادًا من أن نطيل في شانه أو نستدل على بطلانه. وفي هذا المقدر كفاية , وإن كان المقام متحملاً للبسط. والله ولي الإعانة، وهو حسبي، ونعم الوكيل [8 أ]. ¬

(¬1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه ابن ماجه رقم (2562)، والحاكم في «المستدرك» (4/ 355) من حديث أبي هريرة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أو لم يحصنا». وهو حديث حسن لغيره.% وثيب، ومحصن وغير محصن. وأما ما سأل عنه السائل من قول البطليوسي في شأن الشمس والقمر والسماء والكواكب، وأنها حيوانات تعقل. فهذا قول باطل فاسد غاية الفساد، لا ينبغي أن يلتفت إليه مسلم، ولا يعتقد صحته موحد. العجب منه حيث قال: وما تكلفه المفسرون وغيرهم ... إلى آخر كلامه، وما أحقه بأن يقال له: رمتني بدائها

بحث في كون أعظم أسباب التفرق في الدين هو علم الرأي

بحث في كون أعظم أسباب التفرق في الدين هو علم الرأي تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: (بحث في كون أعظم أسباب التفرق في الدين هو علم الرأي). 2 - موضوع الرسالة في الأصول. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الأكرمين. وبعد: فاعلم أن داعية التفرق الكبرى، وسبب الاختلاف الأعظم هو دخول الرأي في هذه الشريعة المطهرة ... 4 - آخر الرسالة: فالحاصل أن الرأي هو الذي غير الشرائع بعد أن كانت صحيحة مستقيمة لا عوج بها. والمهدي من هداه الله عز وجل. وفي هذا المقدار كفاية. قاله كاتبه- غفر الله له-. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: (5) صفحات. 7 - المسطرة: الأولى: 7 أسطر. الثانية والثالثة: 30 سطرًا. الرابعة: 3سطرًا. الخامسة: 29 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الرابع من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الأكرمين. وبعد: فاعلم أن داعية التفرق الكبرى، وسبب الاختلاف الأعظم هو دخول الرأي في هذه الشريعة المطهرة، فإن كل عارف يعلم أن الناس ما زلوا متفقين في الجملة قبل ظهور علم الرأي (¬1) قال ابن تيمية في «الغيث المسجم» (1/ 79): «ما أظن أن اله يغفل عن المأمون، ولا بد أن يقابله على ما اعتمده مع هذه الأمة من إدخال هذه العلوم الفلسفية بين أهلها».%بعد الصحابة والتابعين تفرقوا فرقًا، وصاروا منتسبين إلى أهل المذاهب إلا من عصمه الله، وقليل ما هم. وقد أوضحت هذا في كثير من مؤلفاتي كالكتاب الذي سميته «أدي الطلب في منتهى الأرب» (¬2) تم بحمد الله تحقيقها وطبعها.% والكتاب الذي سميته «قطر الولي على حديث الولي» (¬3) تم تحقيقها ضمن الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني هذا.% وأنا هاهنا أوضح لك أن هذا الداء قديم، وأنه كان في الشرائع المتقدمة كما وقع في هذه الشريعة، حتى يكون ذلك موعظة لك، فإنه الداء الذي هلكت به الأمم، ¬

(¬1) تقدم التعريف به في المجلد الأول.%؛ وذلك لأنهم عاملون بنصوص الكتاب والسنة كما كان في زمن الصحابة والتابعين، فإنها كانت الكلمة [1 أ] واحدة، والدين متفق، والنسبة إلى مطلق الإيمان والإيمان إلى الشريعة المطهرة، لا إلى فرد من أفراد العباد الذين هم من جملة المحكوم عليهم بالشريعة الإسلامية التي هي كتاب الله- سبحانه-، وسنة رسوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-. فلما ظهر علم الرأي. (¬2) تم بحمد الله تحقيقها وطبعها في مكتبة ابن تيمية- القاهرة.% والرسالة التي سميتها «القول المفيد في حكم التقليد». (¬3) تم تحقيقه ولله الحمد.% والكتاب الذي سميته «نثر الجواهر على حديث أبي ذر».

واضطربت فيه الشرائع، وصارت الشرائع بين أهل الرأي كالكرة يتلاعب بها أهل الرأي بينهم كما يتلاعب بها الصبيان. فاسمع ما أمليه عليك من أخبار الملة اليهودية، والملة النصرانية حتى يتضح لك الأمر إيضاح الشمس، ويتبين الصواب تبين النهار. لما أرسل الله- سبحانه- رسوله موسى- عليه السلام- إلى بني إسرائيل، وإلى القبط الذين هم جند فرعون أنزل عليه التوراة، فجعل لها شرحًا سماه «المشنا» (¬1) التوراة كلمة عبرية معناها الشريعة، وتسمى الناموس أي القانون، كما تسمى أيضًا (البانتاتيك)، وهي كلمة يونانية تعني الأسفار الخمسة وهي: سفر التكوين، سفر الخروج، سفر اللاويين، سفر العدد، سفر التثنية. النظر شرحها في القسم الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني (العقيدة).% التي هي كتاب الله- عز وجل- ¬

(¬1) يوشع بن نون عليه السلام: كان اسمه في الأصل، (هوشع، يهوشوع) ثم دعه موسى يوشع معناه (يهود خلاص) وهو خليفة موسى الذي قاد بني إسرائيل لدخول الأرض المقدسة ومحاربة أهلها وأن أمر الشمس بالوقوف والتأخير في المغيب ليتم له فتح الأرض والنصر على أعدائه. انظر «الكتاب المقدس سفر يوشع». «تلخيص البيان في ذكر فرق أهل الأديان» (ص 202). - أما في القرآن الكريم لم يصرح باسمه في قصة الخضر {وإذ قال موسى لفتاه} [الكهف: 60]، وقد ورد النص على نبوته وأنه خليفة موسى في بني إسرائيل فيما رواه مسلم في صحيحه رقم (3/ 1366) وأحمد (3/ 318) والبخاري مختصرًا في «الفتح» (9/ 223) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولم يبن، ولا آخر قد بنى بنيانًا ولم يرفع سقفها، ولا آخر قد اشترى غنمًا أو خلفات وهو ينتظر أولادها. قال: فغزا فدنا من القرية حين صلى العصر أو قريبًا من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علي شيئًا فحبست عليه حتى فتح الله عليه ... ». ويتبين لنا اسم هذا النبي الذي حبست له الشمس من الحديث الذي أخرجه أحمد (2/ 325) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الشمس لم تحبس على بشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس». وهو حديث صحيح. انظر: «تفسير ابن كثير» (3/ 97 - 101)، «سلسلة الأحاديث الصحيحة» (1/ 347 - 351 رقم 202).% بفتح الميم وسكون الشين المعجمة، وبعدها نون، فكانت التوراة

وكلامه نفسره بتفسير نبي الله موسى- عليه السلام-، ومعنى المشنا باللسان العبرانية استخراج الأحكام من النص الإلهي، فاستمر على هذا أهل الشريعة اليهودية بلا خلاف بينهم في حياة موسى- عليه السلام-، وأيام من قام بالنبوة بعده، وهو يوشع بن نون (¬1) [البقرة: 79].% ووضعوا لكتابهم هذا- الذي حرفوا فيه وبدلو وخلطوا ما في التوراة بالرأي، وأخفوا منها ما أخفوه، وحرفوا ما حرفوا- اسمًا فسموه التلموذ بفتح المثناة من فوق، وسكون اللام، وضم الميم، وسكون الواو بعده ذال معجمة. فعند ذلك ظهر اختلافهم في الدين، وتفرقهم في تلك الشريعة، ¬

(¬1) يشوشع بن نون: من أنبياء بني إسرائيل بعثه الله نبيًّا فدعا بني إسرائيل وأخبرهم أنه نبي وأن الله قد أمره أن يقاتل الجبارين فبايعوه وصدقوه وخرج في الناس يقاتل الجبارين وهزمهم تاريخ الطبري (1/ 117).%، ومازالوا كذلك بعد يوشع، وكلهم يتمسك بما في التوراة وما فسرها به موسى في ذلك الكتاب، ولم يظهر بينهم خلاف قط في الجملة كما كان عليه المسلمون في أيام الصحابة والتابعين، مع تمسكهم بالكتاب والسنة [1 ب]. ثم بعد ذلك كان رجلان من اليهود يقال لأحدهما هلال، وللآخر شماي، فكتبا المشنا الموسوي، وخلطاه بكثير من آرائهم وآراء أمثالهم من أكابر اليهود، فجاء من بعدهم فكتبوا ما كتبوه من المشنا المختلط بالرأي، وضموا إلى ذلك كثيرًا من الرأي، وأخفوا كثيرًا مما كان في المشنا الموسوي، ونسبوا الجميع إلى الله- عز وجل-. وكذا قال الله- عز وجل- ناعيًا لصنعهم عليهم: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}

فتملك كثير منهم بهذا الكتاب، وتمسك آخرون بالمشنا المنقول من المشنا الموسوي، وكانت الطائفة الأولى لا تعمل بما في التوراة، وما في المشنا إلا إذا وافق ما في التلموذ، وما خالف ذلك منه ردوه أو تأولوه. وتفرقوا أربع فرق: الفرقة الأولى: الربانيون (¬1) العنانية (القراءون): نسبة إلى عنان بن داود أحد كبار الأحبار في القرن الثامن الميلادي (كان موجودًا سنة 136 هـ في عهد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، وحيث أنه هذه الطائفة تتمسك بأسفار العهد القديم وحده- التي كانت تسمى عند اليهود (المقرا) أي المقروء- وتكفر بالتلموذ، فقد سمي اتباع هذه الطائفة (بالقرائين) في القرن التاسع الميلادي ويرى بعض المؤرخين القرائين بـ (مينيم) أي الزنادقة و (أبيقوريم) أي الأبيقوريين نسبة إلى المدرسة الفلسفية اليونانية الوثنية، العداء مستحكم بين الطائفتين إلى حد أن كلاً منها تكفر الأخرى وتنجسها وتحرم التعامل والزواج من أتباعها، ومن أبرز مبادئهم ما يأتي: 1 - تأثروا بالصدوقيين والعيسوية في التمسك بأسفار العهد القديم فقط وإنكار التلموذ. 2 - تأثروا بالإسلام فقالوا بأن عيسى عليه السلام ليس زنديقًا وإنما كان رجلاً من بني إسرائيل تقيًّا صالحًا ومصلحًا. وبان محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبي حق إلا أنهم زعموا بأن عيسى لم يكن نبيًّا وبأن محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم ينسخ شريعة التوراة، وقالوا: بنفي التجسيم والتشبيه عن الله عز وجل. 3 - يخالفون سائر اليهود في أحكام السبت والأعياد، وينهون عن أكل الطيور والظباء والسمك والجراد، ويذبحون الحيوان على القفا. 4 - يعتبرون مؤسس فرقتهم عنان قديسًا ويجعلون له دعاءً خاصًّا في صلواتهم. 5 - يعادون الحركة الصهيونية وينفرون منها؛ لأنهم يرون أن استيلاء الكفرة الربانيين على مقدسات إسرائيل خطر يهددهم. وقد كان أكثر القرائين يقيمون في مصر والشام وتركيا والعراق وإيران وبعض أجزاء من روسيا وأوربا الشرقية والأندلس، وعددهم بالنسبة إلى اليهود عمومًا، حاليًا يوجد منهم حوالي عشرة آلاف يتركزون حول الرملة وعددهم معابدهم تسعة. انظر: «اليهودية» (ص 231) أحمد شلبي، «الملل والنحل» (2/ 215)، «الفصل» (1/ 178).%، والفرقة الرابعة ¬

(¬1) ويقال لهم: بنو مشتو ومعنى مشتو (الثاني) لأنهم يعتبرون أمر البيت الذي بني ثانيًا بعد عودهم من الجلاية وخربة طيطش، وينزلونه في الاحترام والإكرام والتعظيم منزلة البيت الأول الذي ابتدأ عمارته داود وأتمه ابنه سليمان عليهما السلام وخربه بختنصر فصار كأنه يقول لهم أصحاب الدعوة الثانية، وهذه الفرقة بعيدة عن العمل بالنصوص الإلهية ومن مذهبهم القول بما في التوراة على معنى ما فسره الحكماء من أسلافهم. انظر: «الخطط» للمقريزي (4/ 368).%، والفرقة الثانية: القراءون، والفرقة الثالثة: العانانية

: السمرة (¬1) انظر: «الفكر الديني» د. حسن ظاظا (ص 207).% ¬

(¬1) السامريون: نسبة إلى مدينة السامرة القديمة التي يعيشون حولها قرب مدينة نابلس، وعرفوا أيضًا باسم (الشكمين) نسبة إلى مدينة شكيم (نابلس) ويسميهم أعداؤهم من الطوائف اليهودية الأخرى باسم (الكوتيين) أي المرتدين، ويزعم السامريون أنهم البقية على الدين الصحيح وينتسبون إلى هارون عليه السلام، ويسمون أنفسهم بـ (بني إسرائيل أو بني يوسف)، وأبرز مبادئهم الدينية: 1 - الإيمان بإله واحد روماني، وأن موسى خاتم الرسل، وأن جبل جريزيم هو القبلة الصحيحة الوحيدة لبني إسرائيل. 2 - يؤمنون بالتوراة وسفر يوشع- لأن التوراة نصت على أنه خليفة موسى من بعده- وسفر القضاة باعتباره سفرًا تاريخيًّا، وينكرون ما عدا ذلك من أسفار العهد القديم والتلمود. ونسخة التوراة التي يؤمنون بها تخالف النسخة التي بأيدي سائر اليهود، وتسمى توراتهم (بالتوراة السامرية). 3 - ينكرون كل الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى ويوشع عليهما السلام، إلا أنهم ينتظرون المسيح المخلص لهم الذي يعلن مولده ظهور نجم يستمر طوال الوقت في سماء جريزيم. وقد تقلص عدد أفراد هذه الطائفة فأصبحوا لا يزيدون عن بضع مئات فقط يعيشون جوار مدينة نابلس ولا يستحلون الخروج منها. - وذكر الشهرستاني أن السامرة افترقوا إلى فرقتين: الأولى: الدوستانية ومعناه (الفرقة المتفرقة الكاذبة) وهو الألفانية أتباع رجل يقال له الألفان. ادعى النبوة وبأنه المسيح المنتظر، هذه الفرقة تنكر البعث وتزعم بأن الثواب والعقاب في الدنيا. الثانية: الكوستانية، ومعناه (الجماعة الصادقة) وهم يقرون بالآخرة والثواب والعقاب فيها. «الملل والنحل» (1/ 218، 219). «الفصل» (1/ 177، 178). - وتذكر بعض المصادر الإسلامية طائفة السامرية باسم (الإمساسية) نسبة إلى أنهم يرون تحريم أكل ما مسه غيرهم. وقيل: نسبة إلى السامري الذي صنع العجل لبني إسرائيل وزين لهم عبادته في زمن موسى فعاقبه الله عز وجل: {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ} [طه: 97]. «الخطط» للمقريزي (3/ 508). «صبح الأعشى» للقلقشندي (13/ 268). ويزعم اليهود أن السامريين جاءوا من بابل، وأسكنهم ملك آشور مكان الأسباط العشرة من بني إسرائيل (في المملكة الشمالية) الذين أخذهم آشور سبيًا إلى بابل، فامتلك القادمون الجدد السامرة واستوطنوا بها ويعتمد أصحاب هذا الرأي على ما ورد في سفر الملوك الثاني الإصحاح (17) أما المعتدلون من اليهود فيرون أن أصل السامريين يرجع إلى من بقي من اليهود الضعفاء في فلسطين بعد السبي البابلي.

ثم تفرقوا بعد ذلك تفرقًا آخر بعد أن كانوا أربع فرق في فروع دينهم، فتفرقوا في مسائل الاعتقاد إلى ثلاث فرق: فرقة يقال لهم: الفروشيم (¬1) قال ابن حزم في «الفصل» (1/ 178): الصدوقية: ونسبوا إلى رجل يقال له (صدوق)، وهم يقولون: من أثر اليهود أن العزير هو ابن الله- تعالى الله عن ذلك- وكانوا بجهة اليمن. وقال المقريزي في «الخطط» (3/ 511): وأما يهود فلسطين فزعموا أن العزير ابن الله تعالى. وأنكر اليهود هذا القول. قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ 30 اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 30 - 31].%، وهو الواقفون على نصوص التوراة. ¬

(¬1) سيأتي التعريف بها قريبًا.%، وهم الذين يعملون بما قاله الحكماء منهم المحكمون للعقل، إن خالف ما في التوراة. والفرقة الثانية يقال لها: الصدوقية

والفرقة الثالثة: سلكوا مسلك الزهد والعبادة والأخذ بالأسلم والأفضل في مسائل الاعتقاد، واستمروا على ذلك إلى أن ظهر فيهم موسى بن ميمون القرطبي (¬1) بعد الخمس مائة من سني الهجرة النبوية فردهم إلى التعطيل، فصاروا في أصول دينهم أبعد الطوائف من الحق. وكان هذا اليهودي موسى بن ميمون متزندقًا كما صرح بذلك جماعة من أحبار اليهود وغيرهم، وقد كانوا تفرقوا قبل وجود موسى بن ميمون تفرقًا آخر بعد ذلك التفرق الأول إلى: شمعونية (¬2)، وجالوتية (¬3)، وفيومية (¬4)، وسامرية (¬5)، وعكبرية (¬6)، وأصبهانية (¬7) ¬

(¬1) موسى بن ميمون بن يوسف بن إسحاق، أبو عمران القرطبي يهودي، ولد وتعلم في قرطبة وتنقل مع أبيه في مدن الأندلس، وتظاهر بالإسلام. وقيل: أكره عليه. «الأعلام» للزركلي (7/ 329 - 330). وقد تقدمت ترجمته في القسم الأول من «الفتح الرباني» (العقيدة) (ص 496). (¬2) الشمعونية: نسبة إلى شمعون الصديق (ت 135 ق. م) من بقايا رجال الكنيس الكبرى والمؤسس للدولة الأسمونية أو الحشمتية في أيام المكابيين، واشتهر إطلاق اسم (الفريسيون) بالعبرية (فروشيم) على هذه الطائفة، ومعنى هذا الاسم أنهم المفروزون أو المنعزلون الذين امتازوا عن العامة، وهم طائفة علماء الشريعة من الربانيين قديمًا، ويطلقون على أنفسهم اسم (حسيديم) أي الأتقياء و (حبيريم) أي الزملاء. انظر: «الفصل» (1/ 178). «الملل والنحل» (1/ 212). «الخطط» (2/ 510) للمقريزي. (¬3) قال المقريزي في «الخطط» (2/ 478): الجالوتية تبالغ في التشبيه. (¬4) قال المقريزي في «الخطط» (2/ 478): الفيومية- بالفاء- فإنها تنسب إلى أبي سعيد الفيومي، وهم يفسرون التوراة على الحروف المقطعة. (¬5) تقدم ذكرها. (¬6) قال المقريزي في «الخطط» (2/ 478) العكبرية أصحاب أبي موسى البغدادي العكبري وإسماعيل العكبري، وهم يخالفون أشياء من السبت وتفسير التوراة. (¬7) الأصبهانية (العيسوية) أتباع إسحاق بن يعقوب (عويديا) المعروف بأبي عيسى الأصفهاني، من مواليد أصفهان ببلاد فارس، الذي ادعى النبوة وبأنه رسول المسيح المنتظر، ثم زعم بأنه هو المسيح المنتظر لليهود، وزعم بأن الله كلمه وأرسله ليخلص بني إسرائيل من السبي، فلذلك جمع جيشًا قوامه عشرة آلاف رجل لتحقيق أهدافه، إلا أنه انهزم في معركة الري وقتل فيها. ويذكر الحبر القرائي القرقشاني أن أبا عيسى ظهر في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (685 - 705 م) ولكن الشهرستاني يقول: بأنه كان في زمن المنصور (750 - 754 م) وابتدأ دعوته في زمن آخر ملوك بني أمية مروان بن محمد (744 - 750 م) وقد رجحت دائرة المعارف اليهودية قول الشهرستاني على القرقشاني. من أهم مبادئهم: 1 - ادعى أتباع أبي عيسى له المعجزات، واعتقدوا بأنه حي لم يمت، وأنه اختفى في كهف وسيظهر ليتم رسالته بإنقاذ اليهود. 2 - أنكر أبو عيسى التلمود، وأدخل تعديلات كثيرة على الأحكام اليهودية ضمنها كتابه (سفر همصغوت) أي كتاب الوصايا، ومنها: أنه حرم الذبائح كلها ونهى عن أكل كل ذي روح على الإطلاق، وأوجب عشر صلوات على أتباعه وألغى الطلاق وغير ذلك من التشريعات التي خالف بها أحكام التوراة. 3 - يعترفون بنبوة عيسى عليه السلام ونبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غير أنهم يقولون: بأنهما لم يؤمرا بنسخ شريعة موسى عليه السلام وبأن محمدًا لم يرسل إلا إلى العرب. انظر: «الخطط» (3/ 510)، «الفصل» (1/ 179)، «الملل والنحل» (1/ 215 - 216).

وعراقية (¬1) (المقاربة) البنيامينية: فرقة متشعبة من طائفة العنانية (القرائين) وهم أتباع بنيامين بن موسى النهاوندي الفارسي (830 - 860 م) الذي نادى بتعاليمه في أوائل القرن التاسع الميلادي، وهي في جملتها مستمدة من تعاليم (عنان) مع بعض المسائل التي خالفه بها متأثرًا بالمعتزلة والفلاسفة فقد قرر لأتباعه أن النصوص المتشابهات في التوراة كلها مؤولة، فجعل الله روحانيًّا، ومن النقص في حقه أن يتصل بالماديات إلى حد أنه أنكر أن يكون الله قد تولى عملية الخلق في صورة مباشرة، وبأن الله خلق الملائكة- وهم كائنات روحية- ليتولوا خلق هذا العالم المادي، كما قرر بنيامين بأن الله لا يوصف بأوصاف، ولا يشبه شيئًا من المخلوقات ولا يشيبه شيء منها، وبأن كل ما في التوراة وسائر الكتب من وصف الله تعالى بالكلام والاستواء ونحوه فإن المراد بذلك الوصف ملك عظيم خلقه الله وقدمه على جميع الخلائق واستخلفه عليهم. ويبدو لنا أن بنيامين كان متأثرًا أيضًا بعقائد فرقة (المقاربة) أو أصحاب المغار وقد انضم إلى نحلة بنيامين عدد كبير من القرائين، وعظمت مكانته بين أتباعه حتى رفعوه إلى مرتبة عنان، وقد عرف أتباعه باسم (المقاربة أو المقاربت). - أما أصحاب المغار أو الكهوف (المقاربة) هذه الطائفة قد انقرضت في القرن الأول الميلادي- نقلاً عن العالم القرائي القرقشاني- وبأنهم كانوا يحفظون كتبهم في كهوف التلال المحيطة بفلسطين، ومن أبرز الاختلافات العقائدية بينهم وبين بقية المجتمع اليهودي هو اعتقادهم بتنزيه الإله وعدم اختلاطه بالمادة، ورفضوا القول بأن العالم خلق مباشرة بواسطة الله، ولكنه خلق بواسطة وسيطة (وهو الملك) مسئول عن الخلق، وحل محله الإله في العالم المخلوق، ونسبوا الشريعة والاتصال الإلهي إلى الملك وليس إلى الله عز وجل ويرى بعض المؤرخين بأن هذه الطائفة هي الفرقة المعروفة باسم (الأسينيين) نظرًا لتشابه عقائدها وتاريخ انقراضها. انظر: «الملل والنحل» (1/ 17 - 18)، «دائرة المعارف اليهودية» (14/ 1088).%، ¬

(¬1) العراقية: تعمل رءوس الشهور بالأهلة وآخرون يعملون بالحساب. «الخطط» للمقريزي (2/ 479).%، ومقاربة

وسرشتانية (¬1)، وفلسطينية (¬2)، ومالكية (¬3) ............................... ¬

(¬1) قال المقريزي في «الخطط» (2/ 479): أصحاب شرشتان زعم أنه ذهب من التوراة ثمانون سوقة أي آية وادعى أن للتوراة تأويلاً مخالفًا للظاهر. (¬2) وقال المقريزي في «الخطط» (2/ 479): أما يهود فلسطين فزعموا أن العزير ابن الله تعالى وأنكر أكثر اليهود هذا القول. (¬3) الملكية (الملكي الرملي): من الطرق المتشعبة عن طائفة القرائين (مالك الرملي) الذي كان منتصف القرن التاسع الميلادي، وكان متأثرًا في آرائه بالسامريين، إذ كان مالك يعتقد- مثل السامريين- بأن يد الحصاد أو عيد الأسابيع ويسمى عندهم بـ (شبوعوت) لا تكون بدايته إلا في يوم الأحد، وقد اندثرت طائفة الملكية في نهاية القرن التاسع، وذابت ضمن الفرق الكبيرة من طائفة القرائين. قال المقريزي في «الخطط» (3/ 511) أن الملكية يزعمون أن الله تعالى لا يحيي يوم القيامة الموتى إلا من احتج عليه بالرسل والكتب. وانظر: «دائرة المعارف اليهودية» (10/ 766) (11/ 826).

وربانية [2 أ] (¬1) انظر: «تخجيل من حروف التوراة والإنجيل» (1/ 244 - 146).% من يقول: الابن يعني المسيح من الأب- تعال الله عن ذلك علوًّا كبيرًا- بمنزلة شعلة نار تعلقت من شعلة أخرى فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية منها (¬2) انظر: «تخجيل من حروف التوراة والإنجيل» (1/ 493 - 498). «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح» (3/ 316).%، وهو الكلمة في الأزل كما خلق الملائكة ¬

(¬1) الربانيون: هم امتداد للفريسيين في أفكارهم، ويمثلون جمهور اليهود قديمًا وحديثًا، وأطلق عليهم هذا اللقب لإيمانهم بأسفار التلمود التي ألفها الربانيون وهم الحاخاحيم أو الفقهاء لهذه الطائفة، ومن أبرز مبادئ هذه الطائفة: 1 - أنها تعترف بجميع أسفار العهد القديم، وتذهب إلى تأويل النصوص. 2 - تؤمن بأسفار التلمود. 3 - تؤمن بالبعث، وتعتقد أن الصالحين من الأموات سينشرون في هذه الأرض ليشتركوا في ملك المسيح المنتظر، الذي يزعمون أنه سيأتي لينقذ الناس ويدخلهم في اليهودية. 4 - أشد الطوائف اليهودية عداوة لغيرهم من الأمم، وينتظرون إلى من عدم بعين النقص والازدراء وبأنهم حيوانات خلقوا في صورة البشر لخدمة اليهود. ومن هذه الطائفة نشأت الحركة الصهيونية والحركات الهدامة الأخرى التي تهدف إلى إخضاع العالم لليهود. «الملل والنحل» (1/ 212)، «الفصل» (1/ 178)، «دائرة المعارف الإسرائيلية» (13/ 363).% هذا حاصل ما وقع من اختلافات ليهود واضطراب مذاهبهم. وأما الملة النصرانية فكانت في أيام المسيح- عليه السلام- وأيام الحواريين واحدة مؤتلفة غير مختلفة، واشتغل الحواريون بدعاء الناس إلى ملة المسيح، وذهبوا في الأرض يدعون الناس إلى ذلك، ولا خلافي بينهم. فلما انقرضوا وقع الاختلاف الطويل العريض. فمنهم (¬2) انظر: «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح» لابن تيمية (3/ 165 - 168).%. ومنهم من قال: المسيح وأمه إلهين من دون الله تعالى. ومنهم من قال: بل الله خلق الابن

روحًا طاهرة مقدسة بسيطة مجردة عن المادة، ثم خلق المسيح في آخر الزمان من أحشاء مريم البتول الطاهرة، فاتحد الابن المخلوق في الأزل بإنسان المسيح فصار واحدًا. ومنهم من قال: إن مريم لم تحمل (¬1) بالمسيح تسعة أشهر بل مر بأحشائها كمرور الماء في الميزاب. ومنهم من قال: المسيح بشر خلق، وأن ابتداء الابن من مريم ثم إنه اصطفي فصحبته النعمة الإلهية بالمحبة والمشيئة. ¬

(¬1) قال ابن تيمية في «الجواب الصحيح» (3/ 316 - 317): والمسيح- عليه السلام- لم يخلق من ماء رجل، بل لما نفخ روح القدس في أمه حبلت به، وقال الله كن فيكون، ولهذا شبهه الله بآدم في قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]. فإن آدم- عليه السلام- خلق من تراب وماء، فصار طينًا، ثم يبس الطين، ثم قال له: كن فكان، وهو حين نفخ الروح فيه صار بشرًا تامًّا، لم يحتج بعد ذلك إلى ما احتاج إليه أولاده بعد نفخ الروح، فإن الجنين بعد نفخ الروح يكمل خلق جسده في بطن أمه، فيبقى في بطنها نحو خمسة أشهر، ثم يخرج طفلاً يرتضع، ثم يكبر شيئًا بعد شيء. وآدم- عليه السلام- حين خلق، خلق جسده، قيل له كن بشرًا تامًّّا بنفخ الروح فيه، ولكن ولم يسم كلمة الله؛ لأن جسده خلق من التراب والماء، وبقي مدة طويلة- يقال: أربعين سنة، فلم يكن خلق جسده إبداعيًّا في وقت واحد، بل خلق شيئًا فشيئًا، وخلق الحيوان من الطين معتاد في الجملة. وأما المسيح- عليه السلام- فخلق جسده خلقًا إبداعيًّا بنفس روح القدس في أمه، قيل له: فيكون، فكان له من الاختصاص بكون خلق بكلمة الله ما لم يكن لغيره من البشر، ومن الأمر المعتاد في لغة العرب وغيرهم أن الاسم العام إذا كان له نوعان خصت أحد النوعيين باسم وأبقت الاسم العام مختصًّا بالنوع، كلفظ الدابة والحيوان فإنه عام في كل ما يدب، وكل حيوان، ثم لما كان للآدمي اسم يخصه بقي لفظ الحيوان يختص به البهيم، ولفظ الدابة يختص به الخيل أو هي والبغال والحمير ونحو ذلك، وكذلك لفظ الجائز والممكن وذوي الأرحام، وأمثال ذلك، فلما كان لغير المسيح ما يختص به أبقي اسم الكلمة العامة مختصًّا بالمسيح.

ومنهم (¬1) من قال: الآلهة ثلاثة: فصالح، وطالح، وعدل بينهما. ومنهم (¬2) من قال: الابن مولود من الأب قبل كل الدهور، غير مخلوق، وهو من جوهره ونوره، وأن الابن اتخذ بالإنسان المأخوذ من مريم فصارا واحدًا وهو المسيح. إلى ذلك من الاختلافات المنسوب كل واحد منها إلى طائفة منهم. ثم كان يحدث في كل عصر قول يقوله بعض أساقفتهم أو بطاركتهم، فيشبع ذلك فيهم، ثم يجتمعون لأجله من جميع الأمكنة التي بها النصارى، فيبعثون من فيهم من الأساقفة والبطاركة فعند الاجتماع يختلفون ويضلل بعضهم بعضًا. وقل أن يجتمعوا مجمعًا إلا ويتفرقون على خلاف بينهم من دون اتفاق. وإذا نظر من يفهم إلى أقوالهم المتحددة ومذاهبهم المختلفة وجد ذلك مستندًا إلى قضايا عقلية تختلف فيها العقول غاية الاختلاف، ولم يكن ذلك [2 ب] مستندًا إلى ما في الإنجيل، ولا إلى ما قاله المسيح- عليه السلام-، فما زالوا في تباين واختلاف يقتل بعضهم بعضًا، ويعادي بعضهم بعضًا. وكان من يتقرب منهم إلى ملوك النصارى يحسن له ما يذهب إليه فيحل بمن خالفه السيف، وينزل به الهلاك. ولا يخلو من ذلك عصر من العصور منذ وقع الخلاف بعد انقراض عصر الحواريين، وهكذا ما زالوا بعد ظهور الملة الإسلامية- كثر الله عدادها، ونصرها على من خالفها- وجملة مذاهبهم التي استقرت خمسة: مذهب الملكانية (¬3) وهم يقولون: إن معبودهم ثلاثة أقانيم، وهي إقنيم الأب، ¬

(¬1) ذكره أبو زهرة في محاضرات في النصرانية (ص 152). (¬2) انظر المصدر السابق. (¬3) قال الشهرستاني في «الملل والنحل» (1/ 266): هم أصحاب ملكا الذي ظهر بأرض الروم واستولى عليها. وقيل أن ذلك خطأ ... وإنما هي الملكية نسبة إلى المذهب الذي اعتنقه ملوك الرومان النصارى وهو: أن للمسيح طبيعتين ومشيئتين في أقنوم واحد. وقد مر هذا المذهب بعدة مراحل، حيث بدأ إقراره في مجمع نيقية سنة 325 م بتأييد الملك قسطنطين لمذهب تعدد الآلهة واعتبار المسيح ابنًا وإلهًا مستقلاً، ثم في مجمع القسطنطينية الأول سنة 381 م، تحددت هوية الثالوث النصراني بالأب والابن في المسيح طبيعتين- خلافًا لليعقوبية- وحيث إن الذي دعا إلى هذا المجمع هو الملك (الإمبراطور) الروماني وتأييده لمذهب ازدواج الطبيعتين فقد أطلق عليه المذهب الملكي أو الملكاني. ثم أضيف إلى هذا المذهب القول بأن المسيح له طبيعتان ومشيئتان في مجمع القسطنطينية الثالث سنة 680 م خلافًا للمارونية القائلين بأن المسيح له طبيعتان ومشيئة واحدة. وظلت الطوائف القائلة بمذهب الملكية (بالطبيعتين والمشيئتين) متفقة في آرائها إلى أن دب الخلاف بينها بشأن انبثاق روح القدس، أكان من الأب وحده؟ أم من الأب والابن معًا؟ ولأجل ذلك عقد مجمع القسطنطينية الرابع سنة 869 م ونتج عنه انفصال الكنيسة الشرقية رئاسة ومذهبًا واسمًا عن الكنيسة الغربية (مذهب الملكية) حيث أصبحت الكنيسة الشرقية تسمى بكنيسة الروم الأرثوذكسية أو اليونانية، وأتباعها يعتقدون بأن روح القدس منبثق عن الأب وحده، وأكثرهم في الشرق باليونان وتركيا وروسيا، وغيرها، ولهم بطاركة أربعة: 1 - بطريرك القسطنطينية وهو كبيرهم. 2 - بطريرك الإسكندرية للروم الأرثوذكس. 3 - بطريرك أنطاكية. 4 - بطريرك أورشليم- القدس-، كما تميزوا باعتقادهم أن الإله الأب أفضل من الإله الابن، وتحريم الدم والمنخنقة وإيجاب استخدام الخبز في العشاء الرباني وغير ذلك. أما الكنيسة الغربية اللاتينية فتسمى بالكنيسة البطرسية- نسبة إلى بطرس رئيس الحواريين- الكاثوليكية (نسبة إلى كاثوليك وهي كلمة يونانية ومعناها العالمي أو العام، وهو اصطلاح استخدمته الكنيسة في القرن الثاني الميلادي) ويرأسها البابا بالفاتيكان في روما، ويعتقد أتباعها أن الروح القدس منبثق عن الأب معًا، وبالمساواة الكاملة بين الأب والابن، وإباحة الدم والمنخنقة واستخدام الفطير بدلاً من الخبز في العشاء الرباني، وتتميز الكنيسة الكاثوليكية بعدة سمات بارزة منها: استعمال اللغة اللاتينية، والبخور، واتخاذ الأيقونات والمصورات البارزة التقويم الخاص وغير ذلك، وينتشر أتباعها في معظم بلاد العالم لما لها من النفوذ والمال. ثم حدث انشقاق آخر بداخل الكنيسة الكاثوليكية عندما ظهر دعاة الإصلاح الكنسي في أوائل القرن (16 م) بتخليص الكنيسة من مظاهر الفساد، ومن أبز هؤلاء الدعاة: مارتن لوثر الألماني سنة 1546 م، وزونجلي السويسري سنة 1531 م، وكلفن الفرنسي سنة 1564 م، الذين احتجوا على فساد الكنيسة، فسمي مذهبهم (بالبروتستانتية) أي المحتجين، وقد سموا أنفسهم (بالإنجليين) وعلى كنيستهم (الكنيسة الإنجيلية) لدعواهم أنهم يتبعون الإنجيل ويفهمونه بأنفسهم دون الحاجة إلى البابوات، ومن أبرز مبادئهم: إبطال الرئاسة في الدين، وصكوك الغفران والرهبنة، وتحريم التماثيل والصور في الكنيسة، وأن الخبز والخمر في العشاء الربان لا يتحولان إلى لحم المسيح ودمه، وإنما هو وسيلة رمزية وينتشر أتباعهم في ألمانيا وإنجلترا وأمريكا الشمالية وغيرها. وعندما ظهرت الحاجة إلى توحيد صف النصارى وجمع كلمتهم عقد في سنة 1563 م، مجمع (مؤتمر) عالمي في الفاتيكان بدعوة من البابا يوحنا الثالث والعشرين لأجل تحقيق الوحدة الدينية بين المذاهب النصرانية المختلفة , فتساهلت بذلك الكنائس والمذاهب النصرانية المختلفة في الاعتراف للكنيسة الكاثوليكية بالتقدم عليها في الرئاسة لا بالسلطان. ويزعم أتباع هذا المذهب أن الآلهة ثلاثة متميزون ومنفصلون: الأب، والابن، والروح القدس، ومع ذلك فهم شيء واحد في الطبيعة والذات، ويزعمون أن الكلمة (وهي أقنوم العلم وهي الابن) قد اتحدت بجسد المسيح، وأن مريم قد ولدت الإله والإنسان وأنهما شيء واحد، وأن الموت والصلب وقع على اللاهوت والناسوت معًا، وإليهم أشار القرآن بقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة: 73]. انظر مزيد تفصيل: «الملل والنحل» (1/ 222 - 224)، «النصرانية» (ص 130 - 134) الطهطاوي.

وإقنيم الابن، وإقنيم روح القدس، وهذه الأقانيم الثلاثة وهو جوهر قديم. والفرقة الثانية النسطورية (¬1)، وهم يوافقون الملكانية في الجملة، وإن اختلفوا في بعض ¬

(¬1) النسطورية: نسبة إلى نسطوريوس الذي ولد بسوريا (380 م- ت451 م) - وقد أخطأ الشهرستاني في قوله: إن نسطور الملقب بالحكيم ظهر في زمان المأمون- وقد أصبح نسطور بطريكًا على القسطنطينية سنة 428 م، لمدة أربع سنين إلى أن أعلن مذهبه- الذي تأثر فيه بأستاذه ثيودور المبسوستيائي ت 428 م- بأن مريم العذراء أم المسيح الإنسان وليت والدة الإله، ولذلك كان إثبات أحدهما الإنسان الذي هو مولود من مريم، وأن هذا الإنسان الذي يقول إنه المسيح بالمحبة متوحد مع ابن الإله، ويقال له: الإله وابن الإله، ليس على الحقيقة ولكن على المجاز. ولما قال نسطور مقالته تلك كاتبه كيرس بطريرك الإسكندرية ويوحنا بطرير أنطاكية ليعدل عن رأيه ولكنه لم يستجب، فانعقد لذلك مجمع أفسدس وتقرر فيه: وضع مقدمة قانون الإيمان، وأن مريم العذراء والدة الله، وأن للمسيح طبيعتان لاهوتية وناسوتية في أقنوم واحد، وتقرر أيضًا خلع نسطور من الكنيسة ولعنه ونفيه إلى مصر. ويذكر المؤرخ ابن البطريق في التاريخ (ص 152)، وأن مقالة نسطور قد اندثرت فأحياها من بعده بزمان طويل برصوما (ت 490 م) مطران نصيبين في عهد قباذ بن فيروز ملك فارس، وثبتها في الشرق وخاصة أهل فارس، فلذلك كثرت النسطورية بالمشرق وخاصة أرض أهل فارس بالعراق والموصل ونصيبين والفرات والجزيرة. وهذا يفسر لنا سبب انحراف النسطوريين عن مقالة نسطور الأصلية فقد مالوا إلى القول بامتزاج اللاهوت (ابن الإله) في الناسوت، وبأن المسيح أقنومان وطبيعتان لهما مشيئة واحدة، وإليهم أشار القرآن الكريم بقوله: قال تعالى: {وقالت النصارى المسيح ابن الله} [التوبة: 30 - 31]. ولا تزال توجد منهم جماعات متفرقة في آسيا وخاصة في العراق وإيران والهند والصين ومع أن الكنيسة الكاثوليكية أدخلتهم في حظيرتها إلا أنهم لا يزالون ينكرون عبادة مريم. - وكان لأتباع النسطورية تأثير بالغ في ظهور الفرق المنتسبة إلى الإسلام وخصوصًا الغلاة منها التي ظهرت في المشرق، فقد تأثر الشيعة بعقائدهم وخاصة حلول اللاهوت في الإمام أو أن الإمام له طبيعة إلهية. وكان لهم شأن خطير في ترجمة كتب اليونان وخاصة كتب الفلسفة التي أفسدت عقائد المسلمين وسربت إليهم الأفكار المنحرفة التي تأثرت بها فرقة المعتزلة تأثرًا كبيرًا وخاصة في تحكيم العقل والقول بنفي القدر .... انظر: «الفصل» (1/ 111)، «الملل والنحل» (1/ 244، 245)، «محاضرات في النصرانية» (ص 157 - 159) لأبي زهرة.

التفاصيل. والفرقة الثالثة اليعقوبية (¬1)، وهم يوافقون الملكانية فيما تقدم، ويخالفونهم في بعض ¬

(¬1) اليعقوبية: أتباع المذهب القائل بأن المسيح طبيعة واحدة- من طبيعتين لاهوتية وناسوتية- ومشيئة واحدة. المونوفيزتية. وأول من قال به أوطاخي (أوتكيس) وهو رئيس دير بالقرب من القسطنطينية، وقد أنكر هذا القول (فلافيان) بطريرك القسطنطينية وعقد مجمعًا محليًّا لإنكار هذه المقالة وحرمان قائلها أوتيكس من الكنيسة، إلا أن الراهب لجأ إلى بطريق الإسكنرية ديسقورس، الذي أقنع الإمبراطور ثودوسيوس الصغير بعقد مجمع أقسس الثاني سنة 449 م برئاسة ديسقورس، وصدر قرار المجمع بإعلان مذهب الطبيعة الواحدة ولعن من يخالفه، إلا أن هذا الأمر أغضب البابا (ليو الأول) الذي أطلق على المجمع السابق اسم (مجمع اللصوص) وعقد مجمعًا آخر من خلقيدونية سنة 451 م، قرر فيه تأييد ازدواج طبيعة المسيح وإبطال قرار المجمع السابق، ولعن ديسقورس ومن شايعه ونفيه إلى فلسطين، ومن هذا المجمع افترق النصارى إلى ملكية ممن تبعوا مذهب مرقيانوس- إمبراطور الروم الذي أمر بانعقاد المجمع- ويعقوبية على مذهب ديسقورس المنفي. وقد اشتهر تسمية أتباع المذهب باليعقوبيين إلى يعقوب البرادعي الذي ظهر في القرن 6 م، فكان داعية لهذا المذهب بليغ الأثر، جزئيًّا في الجهر. وقيل: نسبة إلى ديسقورس الذي كان اسمه قبل بطريكيته (يعقوب) فكان يكتب- وهو في منفاه- إلى أصحابه أن يثبتوا على أمانة المسكين المنفي يعقوب. وقد أخذت بهذا المذهب ثلاث كنائس من الكنائس التي سمت نفسها (الأرثوذكسية) وهي كلمة يونانية معناه (الرأي الصحيح أو المستقيم) وقد استخدم القساوسة اليونانيون هذا الاصطلاح في القرن الرابع الميلادي- وهذه الكنائس الثلاث هي: 1 - الكنيسة الأرثوذكسية في مصر والحبشة. 2 - الكنيسة الأرثوذكسية السريانية ويتبعها كثير من مسيحي آسيا. 3 - الكنيسة الأرثوذكسية والأرمنية موطنها أرمنيا. (من بلاد روسيا). وأصحاب هذا المذهب يزعمون أن مريم ولدت الله- تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا- وأنه صلب متجسدًا وسمر ومات ودفن ثم صعد إلى السماء، وإليهم أشار القرآن الكريم: قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17، 72]. «الخطط» للمقريزي (2/ 488)، «قصة الإيمان» لنديم الجسر (ص 12، 96، 102، 103، 233).

المعتقدات، وهذه الثلاث الفرق يتفقون أن المسيح نزل من السماء فتذرع حسدًا وظهر

للناس يحيى ويبرئ، ويزعمون أن صلب وقتل، وخرج من القبر لثلاث، وظهر تقدم من أصحابه فعرفوه حق المعرفة، ثم صعد إلى السماء. وعباراتهم مختلفة عن هذا المعنى الذي اتفقوا عليه اختلافًا كثيرًا. والفرقة الرابعة البوذعانية، وافقوا الثلاث الفرق المتقدمة في بعض، وخالفوهم في بعض. والفرقة الخامسة المرقولية (¬1) الثنوية: هؤلاء أصحاب الاثنين أزليين، يزعمون أن النور والظلمة أزليان قديمان بخلاف المجوس فإنهم قالوا بحدوث الظلام وذكروا سبب حدوثه. وهؤلاء قالوا بتساويهما في القدم، واختلافهما في الجوهر والطبع والفعل والحيز والمكان والأجناس والأبدان والأرواح. ومن فوقهم: المانوية، المزدكية، الديصانية، المرقيونية، الكينوية، الصيامية، التناسخية. * المرقيونية: قال ابن النديم في الفهرست (ص 474): هم أصحاب مرقيون وهم قبل الديصانية، طائفة من النصارى- ولعلها التي ذكرها الشوكاني-. المرقيونية: أثبتوا اصلين قديمين متضادين: أحدهما: النور، والثاني: الظلمة. وأثبتوا أصلاً ثالثًا هو المعدل الجامع، وهو سبب المزاج، فإن المتنافرين المتضادين لا يمتزجان إلى بجامع، وقالوا: إن جامع دون النور في المرتبة، وفوق الظلمة، وحصل من الاجتماع والامتزاج هذا العالم ومنهم من يقول: الامتزاج إنما حصل بين الظلمة والمعدل؛ إذ هو أقرب منها. فامتزجت به لتطيب به، وتلتذ بملاذه، فبعث النور إلى العالم الممتزج روحًا ومسيحية وهو روح الله وابنه، تحننًا على المعدل الجامع السليم الواقع في شبكة الظلام الرجيم، حتى يخلصه من حبائل الشياطين، فمن اتبعه فلم يلامس النساء، ولم يقرب الزهومات أفلت ونجا. ومن خالفه خسر وهلك. «الملل والنحل» (1/ 298).% القائلين بالنور والظلمة، ومنهم من ذهب إلى مذهب الحكماء، ومنهم ¬

(¬1) قال الشهرستاني في «الملل والنحل» (1/ 265 - 266): «افترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقة وكبار فرقهم ثلاثة: الملكانية، والنسطورية، واليعقوبية، وانشعبت منها: الإلبانية، والبليارسية، المقدانوسية، والسبالية، والبوطينوسية، والبولية. وانظر: «محاضرات في النصرانية» (ص 152 - 153) لأبي زهرة. «تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب» (ص 121 - 126) لأبي محمد عبد الله الترجماني الميورقي. (ت سنة 832 هـ).%، وهم زهادهم، وقد تلاعب بهم الشيطان، فمنهم من صار من الثنوية

من وافق الصابئة مع اعترافهم بنبوة المسيح- عليه السلام-. فانظر كيف كان أمر الملة اليهودية والنصرانية قبل حدوث الرأي، وما صاروا إليه من الضلال البين، والتلاعب بدينهم بعد أن علموا بالرأي، وقلدوا في دين الله. وفي هذا معتبر لك عاقل، وموعظة لكل ذي فهم. فالحاصل أن الرأي هو الذي غير الشرائع بعد أن كانت صحيحة مستقيمة لا عوج بها. والمهدي من هداه الله- عز وجل- وفي هذا المقدار كفاية. قاله كاتبه- غفر الله له [3 ا]-.

الدرر البهية في المسائل الفقهية

الدرر البهية في المسائل الفقهية تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقته وعلَّقت عليه وشرحت غريبه محفوظة بنت علي شرف الدين أم الحسن

[مقدمة المؤلف] بسم الله الرحمن الرحيم اللهم بك الاستعانة، وعليك التوكل، نحمدك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، ونصلي ونسلم على رسولك وآل رسولك. [الكتاب الأول] [كتاب الطهارة] [الباب الأول] باب [أقسام المياه] الماء طاهر مطهر (¬1)، لا يخرجه عن الوصفين (¬2)، ألا ما غير ريحه أو لونه أو طعمه من النجاسات (¬3)، وعن الثاني (¬4) ما أخرجه عن اسم الماء المطلق من المغيرات (¬5) الطاهرة، ولا فرق بين قليل وكثير، وما فوق القلتين (¬6) وما دونهما، ومستعمل وغير مستعمل، ¬

(¬1) وذلك بلا خلاف. ولقوله تعالى: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به} [الأنفال: 11] (¬2) أي عن وصف كونه طاهرًا وعن وصف كونه مطهرًا (¬3) قال ابن المنذر في كتابه «الإجماع» (ص33) رقم (10): «وأجمعوا على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة، فغيرت الماء طعمًا، أو لونًا، أو ريحًا، إنه نجس ما دام كذلك. (¬4) أي كونه طاهرًا. (¬5) كالصابون، والعجين، والزعفران، أو غير ذلك من الأشياء الطاهرة التي يسغني عنها عادة، فيصبح الماء طاهرًا في نفسه غير مطهر لغيره. انظر «المجموع» (1/ 150). (¬6) القلة: الجرة العظيمة، وسميت بذلك لأن الرجل العظيم يقلها بيديه أي: يرفعها. وتقديرها: وقد اختلف فيها، ومن أشهر ما قيل: أنها ... ومساحتها ذراع وربع طولًا وعرضًا وعمقًا «المجموع» (1/ 168). قال ابن قدامة في «المغني» (1/ 36): وإذا كان الماء قلتين وهو خمس قرب. فوقعت في نجاسة فلم يوجد لها طعم ولا لون ولا رائحة؛ فهو طاهر. والقلة: هي الجرة، وسميت قلة لأنها بقل بالأيدي؛ أي: تحمل، ومنه قوله تعالى: {حتى إذا أقلت سحابًا ثقالُا} [الأعراف: 57]. ويقع هذا الاسم على الكبيرة والصغيرة، والمراد بها هاهنا قلتان من قلال هجر وهما خمس قرب، وكل قربة مائة رطل بالعراقي، فتكون القلتان خمسمائة رطل بالعراقي. قال ابن التركماني في «الجوهر النقي»، وهو «بذيل» «السنن الكبرى» للبيهقي (1/ 265): «قد اختلف في تفسير القلتين اختلافًا شديدًا، ففسرت بخمس قرب وبالجرتين بقيد الكبير، وبالخابيتين، والخابية الجب فظهر بهذا جهالة مقدار القلتين فتعذر العمل بها».

ومتحرك وساكن (¬1). [الباب الثاني: النجاسات] [الـ] فصل [الأول: أحكام النجاسات] والنجاسات (¬2) هي: غائط الإنسان مطلقًا، وبوله إلا الذكر الرضيع (¬3)، ولعاب كلب، وروث، ودم حيض، ولحم خنزير، وفيما عدا ذلك (¬4) خلاف. ¬

(¬1) لا دليل على الفرق بين الماء الساكم والمتحرك في التطهير. (¬2) النجاسة: هي كل عين حرم تناولها على الإطلاق لعينها مع إمكانه، لا لحرمتها ولا لاستقذارها أو ضررها في بدن أو عقل. وقال ابن تيمية: النجس ما حرم ملابسته ومباشرته وحمله في الصلاة. انظر: «مجموع فتاوى» (21/ 541). (¬3) واعلم أن التخفيف في التطهير- من بول الذكر الرضيع- لا يستلزم خروجه من الاستثناء من النجاسة. وغاية الأمر أن الاختلاف في كيفية التطهير وذلك غير موجب لاستثنائه من العموم. قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام» عن أبي السمح أخرجه أبو داود رقم (376) وابن ماجه رقم (526) والنسائي رقم (304). وهو حديث صحيح. (¬4) مثل: المني، الدم المسفوح، الخمر، المذي، الودي، المشرك.

والأصل الطهارة فيا ينقل عنها إلا ناقل صحيح لم يعارضه ما يساويه أو يقدم عليه. [الـ] فصل [الثاني: تطهير النجاسات] ويطهر ما يتنجس بغسله حتى لا يبقى لها عين ولا لون ولا ريح ولا طعم. والنعل بالمسح. والاستحالة (¬1) مطهرة لعدم وجود الوصف المحكوم عليه، وما لا يمكن غسله فبالصب عليه أو النزح منه حتى لا يبقى للنجاسة أثر. والماء هو الأصل في التطهير ولا يقوم غيره مقامه إلا بإذن من الشارع. [الباب الثالث] باب قضاء الحاجة على المتخلي الاستتار حتى يدنو، والبعد، أو دخول الكنيف (¬2)، وترك الكلام (¬3)، والملابسة لما له حرمة (¬4) وتجنب الأمكنة التي منع عن التخلي فيها شرع- أو عرف- ¬

(¬1) الاستحالة: استفعال من «حال الشيء عما كان عليه» أي: انتقل وتحول من حال إلى حال أخرى، مثل أن تصير العين النجسة رمادًا أو غير ذلك. انظر: «المصباح» (1/ 157). وقال الشوكاني في «السيل الجرار» (1/ 170): «إذا استحال ما هو محكوم بنجاستة إلى شيء غير الشيء الذي كان محكومًا عليه بالنجاسة كالعذرة تستحيل ترابًا، أو الخمر يستحيل خلًّا فقد ذهب ما كان محكومًا بنجاسته ولم يبق الاسم الذي كان محكومًا عليه بالنجاسة، والصفة التي وقع الحكم لأجلها وصار كأنه شيء آخر وله حكم آخر ... ». (¬2) الكنيف: الخلاء. وقيل هو المرحاض الذي تقضى فيه حاجة الإنسان وسمي (كنيفً)؛ لأنه يكنف قاضي الحاجة أي يستره. «لسان العرب» (12/ 171)، و «تاج العروس» (6/ 293). (¬3) يشير إلى الحديث الضعيف الذي أخرجه أبو داود رقم (15) وابن ماجه رقم (342) من حديث جابر: «لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عورتهما يتحدثان فإن الله يمقت على ذلك». والضعيف لا تقوم به حجة. (¬4) يشير إلى الحديث الضعيف الذي أخرجه أبو داود رقم (19) وقال: هذا حديث منكر. والترمذي رقم (1746) وقال: هذا حديث حسن غريب، وابن ماجه رقم (303) والنسائي (8/ 178). من حديث أنس: «كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دخل الخلاء نزع خاتمه».

وعدم الاستقبال والاستدبار للقبلة، وعليه الاستجمار بثلاثة أحجار طاهرة، أو ما يقوم مقامها، وتندب الاستعاذة عند الشروع. والحمد بعد (¬1) الفراغ. [الباب الرابع] باب الوضوء [الفصل الأول: فرائض الوضوء] يجب على كل مكلف أن يسمي، إذا ذكر، ويتمضمض ويستنشق، ثم يغسل جميع وجهه، ثم يديه مع مرفقيه ثم يمسح رأسه مع أذنيه ويجزئ مسح بعضه والمسح على العمامة، ثم يغسل رجليه مع الكعبين، وله المسح على الخفين ولا يكون وضوءًا شرعيًّا إلا بالنية. [الـ] فصل [الثاني: مستحبات الوضوء] ويستحب التثليث في غير الرأس، وإطالة الغرة والتحجيل، وتقديم السواك، وغسل اليدين إلى الرسغين ثلاثًا قبل الشروع في الأعضاء المتقدمة. [الـ] فصل [الثالث: نواقض الوضوء] وينتقض الوضوء بما خرج من الفرجين من عين أو ريح، وبما يوجب الغسل، ونوم المضطجع وأكل لحم الإبل والقيء ومس الذكر. [الباب الخامس] باب الغسل [الفصل الأول: متى يجب الغسل] ¬

(¬1) يشير إلى الحديث الضعيف الذي أخرجه ابن ماجه رقم (301) من حديث أنس قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا خرج إلى الخلاء قال: «الحمد لله الذي أذهب عني الأذي وعافاني». ولكن يقوم مقام الحمد الاستغفار للحديث الصحيح الذي أخرجه أبو داود رقم (30) والترمذي رقم (7) وقال: حديث حسن غريب. وابن ماجه رقم (300) من حديث عائشة قالت: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا خرج من الخلاء قال: «غفرانك».

يجب بخروج المني بشهوة ولو بتفكر، وبالتقاء الختانين، وبالحيض والنفاس وبالاحتلام مع وجود بلل، وبالموت (¬1) وبالإسلام. [الـ] فصل: [الثاني: أركان الغسل وسننه] والغسل الواجب هو أن يفيض الماء على جميع بدنه، أو ينغمس فيه، مع المضمضة والاستنشاق والدلك لما يمكن دلكه، ولا يكون شرعيًّا إلا بالنية لرفع موجبه، وندب تقديم غسل أعضاء الوضوء إلا القدمين ثم التيامن. [الـ] فصل: [الثالث: متى يسن الغسل] ويشرع لصلاة الجمعة (¬2) وللعيدين ولمن غسل ميتاً وللإحرام ولدخول مكة. [الباب السادس] باب التيمم يستباح به ما يستباح بالوضوء والغسل، ولمن لا يجد الماء أو خشي الضرر من استعماله، وأعضاؤه الوجه: ثم الكفان (¬3) يمسحها مرة بضربة واحدة، ناوياً مسميًا، ¬

(¬1) أي وجوب ذلك على الأحياء أن يغسلوا من مات. عن أم عطية الأنصارية- رضي الله عنها- قالت: دخل علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين توفيت ابنته فقال: «أغسلنها ثلاثًا، أو خمسًا، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر واجعلن في الآخرة كافورًا، أو شيئًا من كافور، فإذا فرغتن فآذنني» فلما فرغنا آذناه فأعطانا حقوة، فقال: «أشعرنها إياه» تعني إزاره. أخرجه البخاري رقم (1253) ومسلم رقم (939). (¬2) أوجب الشوكاني غسل الجمعة في «الدراري» (1/ 149) و «النيل» (1/ 274) ورجع عن ذلك إلى الندب كما في «السيل» (1/ 296 - 297). (¬3) قال الشوكاني في «الدراري» (1/ 159): وقد أشار بالعطف بثم إلى الترتيب بين الوجه والكفين. انظر: «أضواء البيان» (2/ 48)، «نصب الراية» (1/ 151). وقد جاء في حديث عمار بن ياسر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: «إنما يكفيك هكذا» وضرب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه. أخرجه البخاري رقم (338) ومسلم رقم (368). وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الترتيب في التيمم غير مشترط. انظر: «مجموع فتاوى» (21/ 422) و «الأحكام» لابن دقيق العيد (1/ 435) و «فتح الباري» (1/ 457).

ونواقضه نواقض الوضوء. [الباب السابع: الحيض] [الفصل الأول]: الحيض لم يأت في تقدير أقله أو أكثره ما تقوم به الحجة، كذلك الطهر، فذات العادة المتقررة تمل عليها. وغيرها ترجع إلى القرائن، فدم الحيض يتميز عن غيره، فتكون حائضاً إذا رأت دم الحيض، ومستحاضة إذا رأت غيره، وهي كالطاهرة، وتغسل أثر الدم وتتوضأ لكل صلاة (¬1). والحائض لا تصلي ولا تصوم، ولا توطأ حق تغتسل بعد الطهر، وتقضي الصيام. [الـ] فصل: [الثاني: النفاس] والنفاس أكثره أربعون يوماً، ولا حد لأقله، وهو كالحيض. ¬

(¬1) وهذا ما اختاره الشوكاني أيضاً في «الدراري» (1/ 165) و «النيل» (1/ 322) ولكنه قال في «السيل» (1/ 351): «وكما أنه ليس في إيجاب الغسل عليها لكل صلاة وللصلاتين ما تقوم به الحجة».

[الكتاب الثاني] كتاب الصلاة [الباب الأول: مواقيت الصلاة] أول وقت الظهر الزوال وأخره مصير ظل الشيء مثله سوى فيء الزوال، وهو أول وقت العصر وآخره ما دامت الشمس بيضاء نقية، وأول وقت المغرب غروب الشمس، وآخره ذهاب الشفق الأحمر وهو أول العشاء، وآخره نصف الليل. وأول وقت الفجر إذا انشق الفجر وآخره طلوع الشمس، ومن نام عن صلاته، أو سها عنها فوقتها حين يذكرها، ومن كان معذوراً وأدرك ركعة فقد أدرك. والتوقيت واجب، والجمع لعذر جائز والمتيمم وناقص الصلاة أو الطهارة يصلون كغيرهم من غير تأخير، وأوقات الكراهة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس، وعند الزوال، وبعد العصر حتى المغرب. [الباب الثاني] باب الأذان [والإقامة] يشرع لأهل كل بلد أن يتخذوا مؤذناً أو أكثر، ينادي بألفاظ الأذان المشروعة، عند دخول وقت الصلوات، ويشرع لكل سامع للآذان أن يتابع المؤذن، ثم تشرع الإقامة على الصفة الواردة. [الباب الثالث] باب [شروط الصلاة] ويجب على المصلي تطهير ثوبه وبدنه ومكانه من النجاسة وستر عورته، ولا يشتمل الصماء (¬1) ................................ ¬

(¬1) قال الحافظ في «الفتح» (1/ 477): اشتمال الصماء: هو بالصاد المهملة والمد قال أهل اللغة: هو أن يخلل جسده بالثوب لا يرفع منه جانباً ولا يبقى ما يخرج منه يده. قال ابن قتيبة: سميت صماء لأنه يسدد المنافذ كلها فتصير كالصخرة التي ليس فيها خرق. وقال الفقهاء: هو أن يلتحف بالثوب ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبيه فيصير فرجه بادياً، قال النووي: فعلى تفسير أهل اللغة يكون مكروهاً لئلا يعرض له حاجة فيتعسر عليه إخراج يده فليحقه الضرر. وعلى تفسير الفقهاء يحرم لأجل انكشاف العورة، قلت: طاهر سياق- البخاري- من رواية يونس في اللباس أن التفسير المذكور فيها مرفوع، وهو موافق لما قال الفقهاء، ولفظه: والصماء أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبد أحد شقيه. وعلى تقدير أن يكون موقوفاً فهو حجة على الصحيح، لأنه تفسير من الراوي لا يخالف ظاهر الخبر.

ولا يسدل (¬1) ولا يسبل ولا يكفت (¬2) ولا يصلي في ثوب حرير، ولا ثوب شهرة ولا مغصوب، وعليه استقبال الكعبة إن كان مشاهداً لها أو في حكم المشاهد، وغير المشاهد يستقل الجهة بعد التحري. [الباب الرابع] باب كيفية الصلاة لا تكون شرعية إلا بالنية، وأركانها كلها مفترضة إلا قعود التشهد الأوسط، ولا يجب من أذكارها إلا التكبير والفاتحة في كل ركعة، والتشهد الأخير والتسليم، وما عدا ذلك فسنن، وهو الرفع في المواضع الأربعة والضم والتوجه بعد التكبيرة والتعوذ والتأمين، وقراءة غير الفاتحة معها، والتشهد الأوسط والاستراحة والأذكار الواردة في كل ركن والاستكثار من الدعاء بخيري الدنيا والآخرة بما ورد وبما يرد. [الباب الخامس: متى تبطل الصلاة. وعمن تسقط] [الـ] فصل [الأول: مبطلات الصلاة] وتبطل الصلاة بالكلام، وبالاشتغال بما ليس منها، وبترك شرط أو ركن عمداً. ¬

(¬1) السدل: «أن يلقي طرف الرداء من الجانبين، ولا يرد أحد طرفيه على الكتف الأخرى، ولا يضم الطرفين بيده». «المغني» (1/ 584). وقال صاحب «المصباح» (1/ 271): «سدلت الثوب من باب «قتل»: «أرخيته وأرسلته من غير ضم جانبيه. فإن ضممتها فهو قريب من التلفف» (¬2) الكفت: الضم والجمع. وهو جمع الثوب عند الركوع والسجود. «النهاية» (4/ 184).

[الـ] فصل: [الثاني: على من تجب الصلوات الخمس: وعمن تسقط] ولا تجب على غير مكلف، وتسقط على من عجز عن الإشارة، أو أغمي عليه حتى خروج وقتها، ويصلي المريض قائماً ثم قاعداً ثم على جنب. [الباب السادس]: باب صلاة التطوع هي أربع قبل الظهر، وأربع بعده، وأربع قبل العصر، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل صلاة الفجر وصلاة الضحى وصلاة الليل، وأكثرها ثلاث عشرة ركعة، يوتر في آخرها، وتحية المسجد، والاستخارة، وركعتان بين كل آذان وإقامة. [الباب السابع]: باب صلاة الجماعة هي من أكد السنن (¬1) وتنعقد باثنين، وإذا كثر الجمع كان الثواب أكثر، وتصح بعد المفضول، والأولى أن يكون الإمام من الخيار، ويؤم الرجل النساء لا العكس والمفترض بالمنتفل والعكس، وتجب المتابعة في غير مبطل، ولا يؤم الرجل قوماً وهم له كارهون، ويصلي بهم صلاة أخفهم، ويقدم السلطان ورب المنزل، والأقرأ ثم الأعلم ثم الأسن، وإذا اختلت صلاة الإمام كان ذلك عليه لا على المؤتمين به. وموقفهم خلفه إلا الواحد فعن يمينه، ويقدم صفوف الرجال ثم الصبيان ثم النساء والأحق الصف الأول أولو الأحلام والنهى، وعلى الجماعة أن يسووا صفوفهم، وأن يسدوا الخلل، ويتموا الصف الأول ثم الذي يليه، ثم كذلك. [الباب الثامن] باب سجود السهو هو سجدتان قبل التسليم أو بعده (¬2) بإحرام وتشهد وتحليل، ويشرع لترك مسنون ¬

(¬1) انظر: «كتاب الصلاة» لابن القيم. «المغني» (2/ 176)، «مجموع فتاوى» لابن تيمية (23/ 222). (¬2) قال الشوكاني في «الدراري» (1/ 247): فهذه الأحاديث المصرحة بالسجود تارة قبل التسليم، وتارة بعده، تدل على أنه يجوز جميع ذلك، ولكنه ينبغي في موارد النصوص أن يفعل كما أرشد إليه، فيسجد قبل التسليم فيما أرشد إلى السجود فيه قبل التسليم ويسجد بعد التسليم فيما أرشد إلى السجود فيه بعد التسليم وما عدا ذلك فهو بالخيار والكل سنة. انظر بسطه للمسألة في «نيل الأوطار» (3/ 110 - 112).

وللزيادة ولو ركعة سهواً، وللشك في العدد، وإذا سجد الإمام تابعه. [الباب التاسع] باب القضاء للفوائت إذا كان الترك عمدًا لا لعذر؛ فدين الله أحق أن يقضى (¬1) وإن كان لعذر فليس بقضاء بل أداء في وقت زوال العذر، إلا صلاة العيد ففي ثانيه. [الباب العاشر] باب صلاة الجمعة تجب على كل مكلف، إلا المرأة والعبد والمسافر والمريض، وهي كسائر الصلوات لا تخالفها إلا في مشروعية الخطبتين قبله ووقتها وقت الظهر، وعلى من حضرها أن لا يتخطى رقاب الناس، وأن ينصت حال الخطبتين، وندب له التبكير، والتطيب والتجمل، والدنو من الإمام، ومن أدرك ركعة منها فقد أدركها، وهي في يوم العيد رخصة. ¬

(¬1) قال الشوكاني في «السيل الجرار» (1/ 588 - 589): « ... لم يرد في قضاء لصلاة المتروكة عمدًا دليل على وجوب القضاء على الخصوص ولكنه وقع في حديث الخثعمية الثابت في الصحيح- عند البخاري رقم (1845) ومسلم رقم (1335) - أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لها: «دين الله أحق أن يقضى». والتارك للصلاة عمدًا قد تعلق به بسبب هذا الترك دين الله وهو أحق بأن يقضيه هذا الترك. وأما قول من قال: إن دليل القضاء هو دليل الأداء فليس ذلك إلا مجرد دعوى ادعاها بعض أهل الأصول. وانظر: «مجموع الفتاوى» (2/ 285). وقال ابن حزم في «المحلى» (2/ 235 مسألة 279)» «وأما من تعمد ترك الصلاة حتى خرج وقتها فهذا لا يقدر على قضائها أبدًا من فعل الخيرات، وصلاة التطوع، ليثقل ميزانه يوم القيامة وليتب وليستغفر الله- عز وجل-».

[الباب الحادي عشر] باب صلاة العيدين هي ركعتان، في الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الثانية خمس كذلك، ويخطب بعدها، ويستحب التجمل، والخروج إلى خارج البلد، ومخالفة الطريق، والأكل قبل الخروج في الفطر دون الأضحى ووقتها بعد ارتفاع الشمس قدر رمح إلى الزوال، ولا أذان فيها ولا إقامة. [الباب الثاني عشر] باب صلاة الخوف قد صلاها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على صفات مختلفة وكلها مجزئة، وإذا اشتد الخوف والتحم القتال، صلاها الراجل والراكب ولو إلى غير القبلة ولو بالإيماء (¬1). [الباب الثالث عشر] باب صلاة السفر يجب القصر على من خرج من بلده قاصدًا وإن كان دون بريد (¬2) وإذا أقام ¬

(¬1) الإيماء: الإشارة يقال: أومأت إليه إيماء: أشرت إليه بحاجب أو يد أو غير ذلك. انظر: «تحرير ألفظ التنبيه» (ص81). (¬2) البريد: قال ابن الأثير في «جامع الأصول» (5/ 24 - 25): البريد: أربعة فراسخ، وقيل: فرسخان، وأصل الكلمة فارسية، وهو بريدة دم؛ أي حذف الذنب؛ يعني البغل؛ لن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب فعربت الكلمة، وخففت ثم سمي الرسول الذي يركبه بريدًا. والمسافة التي بين السكتين بريدًا، والسكة: هي: الموضع الذي يسكنه الفيوج المرتبون من رباط أو قبة أو بيت، أو نحو ذلك، وبعد ما بين السكتين: فرسخان. وقيل: اثنا عشر ميلًا، كل ثلاثة أميال فرسخ، فيكون كما سبق أربعة فراسخ. وبما أن الميل في عصرنا 1.855 كم تقريبًا فإن البريد: 22.260 كم تقريبًا. انظر: «القاموس الجغرافي الحديث» للأيوبي (ص494). وقال الشوكاني في «السيل» (1/ 632) معقبًا على قوله «إن كان دون بريد» ولكنه لا ينبغي ثبوت القصر فيما دون البريد إلا أن يثبت عند أهل اللغة أو في لسان أهل الشرع أن من قصد دون البريد لا يقال له مسافر. والنظر: «مجموع الفتاوى» (19/ 244).

ببلد مترددًا إلى عشرين يومًا إذا عزم على إقامة أربع أتم بعدها، وله الجمع تقديمًا وتأخيرًا. [الباب الرابع عشر] باب صلاة الكسوفين (¬1) هي سنة، وأصح ما ورد في صفتها ركعتان، فيكل ركعة ركوعان، وورد ثلاثة، وأربعة، وخمسة، يقرأ بين كل ركوعين ما تيسر وورد في كل ركعة ركوع وندب الدعاء والتكبير والتصدق والاستغفار. [الباب الخامس عشر] باب صلاة الاستسقاء يسن عند الجدب ركعتان، بعدهما خطبة (¬2)، تتضمن الذكر والترغيب في الطاعة والزجر عن المعصية، ويستكثر الإمام ومن معه الاستغفار والدعاء برفع الجدب ويحولون جميعًا أرديتهم. ¬

(¬1) الكسوفان: كسوف الشمس والقمر، وهو ذهاب ضوئهما أو بعضه ويطلق الكسوف على كليهما إلا أن الأشهر أن يقال في القمر، وفي الشمس: كسفت. انظر: «النهاية» (4/ 174). «تاج العروس» (6/ 233). (¬2) انظر: «المجموع» للنووي (5/ 82): قال الشوكاني في «السيل» (1/ 652): وثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه خطب بعد صلاته للركعتين. - ويشير إلى الحديث الذي أخرجه أحمد (2/ 362) وابن ماجه رقم (268) من حديث أبي هريرة قال: «خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومًا يستسقي، فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة ثم خطبنا ودعا الله وحول وجهه نحو القبلة رافعًا يديه، ثم قلب رداءه فجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن». وهو حديث ضعيف. ثم قال الشوكاني: وثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه خطب قبل صلاة الركعتين والكل سنة. - وهو يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (1022). قلت: قد ثبت تقديم الخطبة على الصلاة ثبوتًا قويًّا فتقديم ذلك في العمل والذكر أولى من تقديم عكسه. انظر: «المغني» (2/ 433). «الفتح» (2/ 499).

[الكتاب الثالث] كتاب الجنائز [الفصل الأول: أحكام المحتضر] من السنة عيادة المريض، وتلقين المحتضر الشهادتين، وتوجيهه، وتغمضه إذا مات، وقراءة ياسين عليه (¬1)، والمبادرة بتجهيزه إلا لتجويز حياته والقضاء لدينه، وتسجيته، ويجوز تقبيله، وعلى المريض أن يحسن الظن بربه ويتوب إليه. ويتخلص من كل ما عليه. [الـ] فصل: [الثاني: غسل الميت] ويجب غسل الميت المسلم على الأحياء والقريب أولى بالقريب إذا كان من جنسه، وأحد الزوجين بالآخر، ويكون الغسل ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر بماء وسدر، وفي أخيرة كافور، وتقدم الميامن، ولا يغسل الشهيد. [الـ] فصل: [الثالث: تكفين الميت] ويجب تكفينه بما بستره، ولو لم يملك غيره، ولا بأس بالزيادة مع التمكن من غير مغالاة، ويكفن الشهيد في ثيابه التي قتل فيها، وندب تطييب بدن الميت وكفنه. [الـ] فصل: [الرابع: صلاة الجنازة] وتجب الصلاة على الميت، ويقوم الإمام حذاء راس الرجل ووسط المرأة ويكبر أربعًا أو خمسًا (¬2)، ويقرأ بعد التكبيرة الأولى الفاتحة وسورة، ويدعو بين التكبيرات بالأدعية ¬

(¬1) قلت: حديث قراءة سورة ياسين عليه: ضعيف لا تقوم به حجة. (¬2) قال ابن عبد البر في «التمهيد» (6/ 334): إنه انعقد الإجماع بعد الاختلاف على أربع وأجمع الفقهاء وأهل الفتوى بالأمصار على أربع على ما جاء في الأحاديث الصحاح وما سوى ذلك عندهم فشذوذ لا يلتفت إليه قال ولا نعلم أحدًا من أهل الأمصار يخمس إلا ابن أبي ليلى. وانظر: «المغني» (2/ 515).

المأثورة ولا يصلي على الغال، وقاتل نفسه والكافر والشهيد، ويصلى عرى القبر، وعلى الغائب. [الـ] فصل: [الخامس: المشي بالجنازة] ويكون المشي بالجنازة سريعًا، والمشي معها، والحمل لها سنة، والمتقدم عليها والمتأخر عنها سواء , ويكره الركوب، ويحرم النعي والنياحة، واتباعها بنار وشف الجيب، والدعاء بالويل والثبور، ولا يقعد المتبع لها حتى توضع والقيام لها منسوخ. [الـ] فصل: [السادس: دفن الميت] ويجب دفن الميت في حفرة تمنعه من السباع، ولا بأس بالضرح واللحد أولى، ويدخل الميت من مؤخر القبر، ويوضع على جنبه الأيمن مستقبلًا. ويستحب حثو التراب من كل حاضر ثلاث حثيات، ولا يرفع القبر زيادة على شبر، والزيارة للموتى مشروعة ويقف الزائر مستقبلًا للقبلة، ويحرم اتخاذ القبور مساجد، وزخرفتها، وتسريحها، والقعود عليها، وسب الأموات , والتعزية مشروعة. وكذلك: إهداء الطعام لأهل الميت.

[الكتاب الرابع] كتاب الزكاة تجب في الأموال التي ستأتي: إذا كان المالك مكلفًا. [الباب الأول] باب زكاة الحيون إنما تجب منه في النعم وهي الإبل والبقر والغنم. [الـ] فصل: [الأول: نصاب الإبل] إذا بلغت الإبل خمسًا ففيها شاة. ثم في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمسًا وعشرين ففيها ابنة مخاض (¬1) أو ابن لبون (¬2)، وفي ست وثلاثين ابنة لبون (¬3) وفي ست وأربعين حقة (¬4) وفي إحدى وستين جذعة (¬5)، وفي ست وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى حقتان، إلى مائة وعشرين، فإذا زادت ففي كل أربعين ابنة لبون، وفي كل خمسين حقة. [الـ] فصل: [الثاني: نصاب البقر] ويجب في ثلاثين من البقر تبيع (¬6) أو تسعة وفي كل أربعين ........................... ¬

(¬1) المخاض: هي أنثى الإبل التي أتمت سنة وقد دخلت في الثانية سميت بذلك لن أنها لحقت بالمخاض وهي الحوامل. (¬2) هو ذكر الإبل الذي أتم سنتين ودخل في الثالثة. (¬3) هي أنثى الإبل التي أتمت سنتين ودخلت في الثالثة، وسميت بذلك لن أنها وضعت غيرها وصارت ذلت لبن. (¬4) هي أنثى الإبل التي أتمت ثلاث سنين، ودخلت في الرابعة، وسميت لأنها استحقت أن يطرقها الفحل. (¬5) هي أنثى الإبل التي أتمت أربع سنين ودخلت الخامسة. انظر: «النيل» (4/ 107 - 113) و «المطلع» (ص24). (¬6) التبيع: ولد البقرة (جمع): أتبعه. والأنثى: تبيعة: (جمع): تباع. وسميت تبيعًا لأنه أمه، وقد أتى عليه الحول. «تاج العروس» (5/ 286).

مسنة (¬1) ثم كذلك. [الـ] فصل: [الثالث: نصاب الغنم] ويجب في أربعين من الغنم شاة إلى مائة وإحدى وعشرين، وفيها شاتان إلى مائتين وواحدة، وفيها ثلاث شياه، إلى ثلاثمائة وواحدة وفيها أربع، ثم في كل مائة شاة. [الـ] فصل: [الرابع: في الجمع والتفريق والأوقاص] ولا يجمع بين متفرق من الأنعام، ولا يفرق بين (¬2) مجتمع خشية الصدقة، ولا شيء فيما دون الفريضة، ولا في الأوقاص (¬3) وما كان من خليطين فيتراجعان بالسوية، ولا تؤخذ هرمة (¬4) ولا ذات عوار ولا عيب، ولا صغيرة، ولا أكولة (¬5) ولا ربى ولا ماخض (¬6) ولا فحل غنم. ¬

(¬1) قال الأزهري في «تهذيب اللغة» (2/ 299): البقرة والشاة يقع عليهما اسم «المسن» إذا أثنيا، وتثنيان في السنة الثالثة، وليس معنى إسنانها كبرها كالرجل المسن ولكن معناه طلوع سنها في الثالثة .... (¬2) قال مالك في «الموطأ» (1/ 264): وتفسير قوله: «ولا يجمع بين مفترق» أن يكون النفر الثلاثة الذين يكون لكل واحد منهم أربعون شاة. قد وجبت على كل واحد منهم في غنمه الصدقة. فإذا أظلهم المصدق جمعوها لئلا يكون عليهم فيها إلا شاة واحدة. فنهوا عن ذلك. وتفسير قوله: «ولا يفرق بين مجتمع» أن الخليطين يكون لكل واحد منهما إلا شاة واحدة. فنهى عن ذلك فقيل: لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع. خشبة الصدقة .. » (¬3) قال ابن الأثير في «النهاية» (5/ 214): الوقص، بالتحريك ما بين الفريضتين، كالزيادة على الخمس من الإبل إلى التسع، وعلى العشر إلى أربع عشرة والجمع: أوقاص. (¬4) الهرمة: الكبيرة التي قد سقطت أسناهنا. «وذات العوار» قيل: العوراء: المعيبة. «تاج العروس» (3/ 429)، و «الداري» (2/ 8). (¬5) الأكولة: تطلق على الشاة التي تسمن، فيه من كرائم المال. وعلى العاقر التي لا تلد والأول أشهر. «تاج العروس» (7/ 210). (¬6) المخاض: هي التي أخذها المخاض لتضع، والمخاض: الطلق عند الولادة يقال: مخضت الشاة مخضًا ومخاضًا، إذا دنا نتاجها. «النهاية» (4/ 306).

[الباب الثاني] باب زكاة الذهب والفضة إذا حال على أحدهما الحول ربع العشر، ونصاب الذهب عشرون دينارًا، ونصاب الفضة مائتا درهم، ولا شيء فيما دون ذلك، ولا زكاة في غيرهما من الجواهر وأموال التجارة (¬1) والمستغلات. [الباب الثالث] باب زكاة النبات يجب العشر في الحنطة والشعير والذرة (¬2) والتمر والزبيب، ما كان يسقى ...................... ¬

(¬1) قال الشوكاني في «النيل» (3/ 36): «وقد احتج بظاهر حديث الباب- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسه». أخرجه أحمد (28249) والبخاري رقم (1464) ومسلم رقم (982). أما الظاهرية فقالوا: لا تجب الزكاة في الخيل والرقيق لا لتجارة ولا لغيرها. وأجيب عنهم بأن زكاة التجارة ثابتة بالإجماع كما نقله ابن المنذر وغيره فيخص به عموم هذا الحديث، ولا يخفى أن الإجماع على وجوب زكاة التجارة في الجملة لا يستلزم وجوبها في كل نوع من أنواع المال؛ لن مخالفة الظاهرية في وجوبها في الخيل والرقيق الذي هو محل النزاع مما يبطل الاحتجاج عليهم بالإجماع في وجوبها في الخيل والرقيق. (¬2) مع العلم أن الذرة لم تثبت في السنة. انظر: «التلخيص» (2/ 166). قال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (28/ 20 - 22): * قالت طائفة: يجب العشر في كل ما يزرعه الآدميون من الحبوب والبقول ما أنبتته تجاراتهم من الثمار قليل ذلك وكثيره. * وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجب إلا فيما له ثمرة باقية. فيما يبلغ خمسة أوسق، وقال أحمد: «يجب العشر فيما ييبس ويبقى، مما يكال ويبلغ خمسة أوسق، فصاعدًا، وسواء أن يمون قوتًا كالحنطة والشعير والأرز، والذرة، أو من القطنيات كالباقلاء، والعدس، أو من الأبازير كالكسفرة، والكمون والكراويا، والبزر كبزر الكتان والسمسم، وسائر الحبوب. وقال مالك وأصحابه في المشهور من قولهم: تجب الزكاة في الحنطة، والشعير والسلت، والذرة، والخن، والأرز، والحمص، والعدس، والجلبان، والرش، البسلة، والسمسم والماش، وحب الفحل، وما أشبه هذه الحبوب المأكولة المدخرة.

بالمسني (¬1) منها ففيه نصف العشر ونصابها خمسة أوسق (¬2) ولا شيء فيما عدا ذلك كالخضروات وغيرها في العسل العشر، ويجوز تعجيل الزكاة، وعلى الإمام أن يرد صدقات أغنياء كل محل في فقرائهم، ويبرأ رب المال بدفعها إلى السلطان وإن كان جائرًا. [الباب الرابع] باب مصارف الزكاة هي ثمانية كما في الآية (¬3) وتحرم على بني هاشم ومواليهم، وعلى الأغنياء والأقوياء المكتسبين. [الباب الخامس] باب صدقة الفطر هي صاع من القوت المعتاد عن كل فرد، والوجوب على سيد العبد، ومنفق الصغير ونحوه، ويكون إخرجها قبل صلاة العيد، ومن لا يجد زيادة على قوت يومه وليلته، فل فطرة عليه، ومصرفها مصرف الزكاة. ¬

(¬1) أي فيما سقي بالساقية: الساقية هو البعير الذي يستقى به الماء من البئر ويقال له: الناضح. (¬2) الوسق: 60 صاعًا كيلًا. الصاع: 4 أمداد كيلًا. المد: 544 غرامُا من القمح. الوسق = 60×4×544=130560 غرامًا =130.56 كيلو غرام. فالخمسة أوسق = 130.56×50 = 652.8 كيلو غرام. وانظر: «الإيضاحات العصرية للمقاييس والموازين الشرعية «لمحمد صبحي حسن حلاق. (¬3) قال تعالى {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وف سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم} [التوبة: 60]

[الكتاب الخامس] كتاب الخمس يجب فيما يغنم في القتال وفي الركاز ولا يجب فيما عدا ذلك، ومصرفه من في قوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء ... الآية} (¬1). ¬

(¬1) [الأنفال: 41]

[الكتاب السادس] كتاب الصيام [الباب الأول: أحكام الصيام] [الفصل الأول: وجوب صوم رمضان] يجب صيام رمضان لرؤية هلاله من عدل، أو إكمال عدة شعبان، ويصوم ثلاثين يومًا ما لم يظهر هلال شوال قبل إكمالها، وإذا رآه أهل بلد لزم سائر البلاد الموافقة، وعلى الصائم النية قبل الفجر. [الـ] فصل [الثاني: مبطلات الصوم] ويبطل بالأكل ولشرب والجماع، والقيء عمدًا، ويحرم الوصال وعلى من أفطر عمدًا كفارة ككفارة الظهار، ويندب تعجيل الفطر، وتأخير السحور. [الـ] فصل [الثالث: قضاء الصوم] يجب على من أفطر لعذر شرعي (¬1) أن يقضي والفطر للمسافر ونحوه رخصة، إلا أن يخشى التلف أو الضعف عن القتال فعزيمة عن الأداء والقضاء يكفر عن كل يوم بإطعام مسكين. [الباب الثاني] باب صوم التطوع [الفصل الأول: ما يستحب صومه] يستحب صيام ست من شوال، وتسع ذي الحجة، ومحرم وشعبان، والاثنين ¬

(¬1) قال الشوكاني في «السيل» (2/ 55): وأما من أفطر عامدًا قدمنا في حديث المجامع في رمضان أنه قال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وصم يومًا مكانه» وذكرنا أنه صاغ للاحتجاج به والظاهر أنه كان عامدًا ولهذا قال هلكت وأهلكت. أخرجه البخاري رقم (1936)، مسلم رقم (1111).

والخميس، وأيام البيض، وأفضل التطوع صوم يوم وإفطار يوم. [الفصل الثاني: ما يكره صومه] ويكره صوم الدهر. وإفراد يوم الجمعة، ويوم السبت. [الفصل الثالث: ما يحرم صومه] ويحرم صوم العيدين وأيام التشريق (¬1) واستقبال رمضان بيوم أو يومين. [الباب الثالث] باب الاعتكاف بشرع للصائم في كل وقت في المساجد، وهو في رمضان آكد سيما في العشر الأواخر منه، ويستحب الاجتهاد في العمل فيها، وفي ليالي القدر ولا يخرج المعتكف إلا لحاجة. ¬

(¬1) أيام التشريق: هي الأيام الثلاثة التي بعد يوم النحر. قيل: سميت بذلك لن لحوم الأضاحي تنشرح وتقدد في الشمس. وقيل: لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس. وقيل: لأن صلاة العيد تقع عند شروق الشمس. وقيل التشريق: التكبير دبر كل صلاة. انظر: «غريب الحديث» لأبي عبيد (2/ 139). «فتح الباري» (4/ 243). ويرخص للمتمتع فقط إذا لم يجد الهدي أن يصوم أيام التشريف، للحديث الذي أخرجه البخاري رقم (1999) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج إلى يوم عرفة فإن لم يجد هديًا ولم يصم صام أيام منى» وللحديث الذي أخرجه البخاري رقم (1997 و1998) عن عائشة وابن عمر- رضي الله عنهم- قالا: «لم يرخص في أيام التشريق أن يضمن إلا لمن لم يجد الهدي». وانظر: «فتح الباري» (4/ 242 - 243).

[الكتاب السابع] كتاب الحج [4] [الباب الأول: أحكام الحج] [الفصل الأول: وجوب الحج] يجب على كل مكلف مستطيع فورًا. [الـ] فصل [الثاني: وجوب تعيين نوع الحج بالنية] ويجب تعيين نوع الحج من تمتع أو قران أو إفراد، والأول أفضلها، ويكون الإحرام من المواقيت (¬1) المعروفة ومن كان دونها فمهله أهله حتى أهل مكة. [الـ] فصل [الثالث: محظورات الإحرام] ولا يلبس المحرم القميص ولا العمامة ولا البرنس، ولا السراويل، ولا ثوبًا مسه ورس ولا زعفران ولا الخفين إلا أن لا يجد نعلين فيقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين. ولا تنتقي المرأة ولا بلبس القفازين، وما مسه الورس والزعفران، ولا يتطيب ابتداء، ¬

(¬1) وهي خمسة: 1 - ذو الحليفة: ميقات أهل المدينة ومن مر بهم، يبعد عن مكة 400 كم تقريبًا. 2 - الجحفة: مهل أهل الشام ومصر وسائر المغرب. وهي قرية تبعد عن مكة 187 كم وهي اليوم خراب ولهذا صار الناس يحرمون قبلها من المكسان الذي يسمى «رابغًا «وتبعد عن مكة (220 كم). 3 - قرن المنازل: ويسمى قرن الثعالب، وهو ميقات أهل نجد، يبعد عن مكة 94 كم. 4 - يلملم: وهو ميقات أهل اليمن، يبعد عن مكة 54 كم. 5 - ذات عرق: وهو ميقات أهل العراق. وهو مكان بالبادية، يفصل بين نجد وتهامة، يبعد عن مكة 70 كم.

ولا يأخذ من شعره وبشره إلا لعذر، ولا يرفث ولا يفسق، ولا يجادل، ولا يَنكح، ولا يُنكح، ولا يخطب، ولا يقتل صيدًا، ومن قتله فعليه جزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل، ولا يأكل ما صاده غيره، إلا إذا كان الصائد حلالًا ولم يصده لأجله، ولا يعضد من شجر الحرم إلا الإذخر (¬1)، ويجوز له قتل الفواسق الخمس، وصيد حرم المدينة وشجره كحرم مكة. إلا أن من قطع شجره أو خبطه كان حلالًا لمن وجه ويحرم صيد وج (¬2) وشجره. [الـ] فصل [الرابع: ما يجب عمله أثناء الطواف] وعند قدوم الحاج مكة يطوف للقدوم سبعة أشواط يرمل في الثلاثة الأولى، ويمشي فيما بقي، ويقبل الحجر الأسود أو يستلمه ................... ¬

(¬1) بكسر الهمزة وإسكان الذال وكسر الخاء، هو نبات معروف عند أهل مكة طيب الرائحة ينبت في السهل والحزن، وأهل مكة يسقفون به البيوت بين الخشب ويسدون به الخلل بين اللبنات في القبور. انظر: «شرح صحيح مسلم» (2/ 787). (¬2) وج: بفتح الواو وشد الجيم. اسم واد بالطائف. وقيل: هو اسم جامع لحصونها، وقيل اسم واحد منها يحتمل أن يكون على سبيل الحمى له ويحتمل أن يكون حرمه في وقت معلوم ثم نسخ. «النهاية» (5/ 155). * يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (2032) وأحمد (3/ 10 رقم 1413 - شاكر) والبخاري في تاريخه (1/ 140 رقم 420) عن الزبير أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن صيد وج وعضاهه حرام محرم الله عز وجل». وهو حديث ضعيف. * فمن قوى الحديث قال بمدلوله فذهب إلى ما في الحديث. * ومن ضعفه- وهم الجمهور- لم يحرمه وهو الأصح. انظر: «المجموع» (7/ 405)، و «مجموع الفتاوى» (26/ 117). العضاهة: كل شجر عظيم له شوك.

بمحجن (¬1) ويقبل المحجن ونحوه، ويستلم الركن اليماني والركن الأسود ويكفي القارن طواف واحد وسعي واحد، ويكون حال الطواف متوضئًا شاتر العورة، والحائض تفعل ما يفعل الحاج غير أن لا تطوف بالبيت، ويندب الذكر حال الطواف بالمأثور، وبعد ف فراغه يصلي ركعتين في مقام إبراهيم، ثم يعود إلى الركن فيستلمه. [الـ] فصل [الخامس: وجوب السعي بين الصفا والمروة] ويسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط داعيًا بالمأثور وإذا كان متمتعًا صار بعد السعي حلالًا حتى إذا كان يوم التروية أهل بالحج. [الـ] فصل [السادس: مناسك الحج] ثم يأتي عرفة صبح يوم عرفة ملبيًّا مكبرًا، ويجمع العصرين (¬2) فيها ويخطب ثم يفيض من عرفة , ويأتي المزدلفة، ويجمع فيها بين العشائين (¬3)، يبيت بها، ثم يصلي الفجر، ويأتي المشعر (¬4)، فيذكر الله عنده، ويقف به إلى قبل طلوع الشمس ثم يدفع حتى يأتي بطن مجسر (¬5) ثم يسلك الطريق الوسطى إلى الجمرة التي عند .............................. ¬

(¬1) عصا معوجة الرأس يجتذب بها الإنسان الشيء إلى نفسة. «غريب الحديث» لأبي عبيد (2/ 340). (¬2) العصران: صلاة الظهر والعصر. وقيل لهما تغليبًا لأحدهما على الآخر. انظر: «جنى الجنتين» (ص 79) للمحبي (¬3) هو المغرب والعشاء. انظر: المصدر السابق (¬4) المشعر الحرام: قال الشوكاني في «فتح القدير «(1/ 201): هو جبل قزح الذي يقف عليه الإمام. وقيل: هو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى وادي محسر. وقال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (26/ 135): الوقوف عند قزح أفضل، وهو جبل المقيدة، وهو المكان الذي يقف فيه الناس اليوم. وقد بني عليه بناء، وهو المكان الذي يخصه كثير من الفقهاء باسم المشعر الحرام. (¬5) هو واد بين مزدلفة ومنى، وليس من منى ولا المزدلفة، بل هو واد برأسه. انظر:» معجم البلدان» (5/ 62).

الشجرة (¬1)، وهي جمرة العقبة (¬2) فيرميها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ولا يرمنها إلا بعد طلوع الشمس، إلا النساء والصبيان فيجوز لهم قبل ذلك. ويحلق رأسه أو يقصره، فيحل له كل شيء إلا النساء، ومن حلق أو ذبح أو أفاض إلى البيت قبل أن يرمي فلا حرج. ثم يرجع إلى منى فيبيت بها ليالي التشريق، ويرمي في كل يوم من أيام التشريق الجمرات الثلاث بسبع حصيات، مبتدئًا بالجمرة الدنيا ثم الوسطى ثم جمرة العقبة، ويستحب لمن يحج بالناس أن يخطبهم يوم النحر وقي وسط أيام التشريق، ويطوف الحاج طواف الإفاضة وهو طواف الزيادة يوم النحر، وإذا فرغ من أعمال الحد طاف للوداع. [الـ] فصل [السابع: أفضل أنواع الهدي] والهدي أفضله البدنة ثم البقرة ثم الشاة، وتجزئ البدنة والبقرة عن سبعة، ويجوز للمهدي أن يأكل من لحم هديه ويركب عليه، ويندب له إشعاره (¬3) وتقليده (¬4)، ومن ¬

(¬1) ملاحظة: لا وجود للشجرة الآن، ولا في عصر المصنف أيضًا، ولعل الحامل له على ذكرها هو إيثاره الألفاظ الواردة في السنة منها حديث جابر الطويل رقم (174/ 1218). وانظر: «الفتح» (3/ 582). (¬2) وهي آخر الجمرات مما يلي (منى) وأولها ممل يلي مكة. وتمتاز عن الجمرتين الأخريين بأربعة أشياء: اختصاصها بيوم النحر، وأن لا يوقف عندها- يعني الدعاء، وترمى ضحى ومن أسفلها استحبابًا. (¬3) الإشعار: أن يخرج من جلد البدنة حبى يسيل الدم ثم يسلته، فيكون ذلك علامة على كونها هديُا. ولكون ذلك في صفحة سنامها الأيمن. وانظر: «الفتح» (3/ 543). (¬4) التقليد: أن يعلق في عنق الهدي شيئًا كالنعلين، ليعلم أنه هدي. «تاج العروس» (2/ 475). قال الحافظ في «الفتح» (3/ 545): «اتفق من قال: بالإشعار بإلحاق البقر في ذلك بالإبل، إلا سعيد بن جبير، واتفقوا على أن الغنم لا بشعر، لضعفها ولكون صنوفها أو شعرها بستر موضع الإشعار ... ». والإشعار مذهب جمهور علماء الأمصار من السلف والخلف.

بعث بهدي لم يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم. [الباب الثاني] باب العمرة المفردة يحرم لها من الميقات، ومن كان في مكة خرج إلى الحل (¬1) ثم يطوف ويسعى ويحلق أو يقصر، وهي مشروعة في جميع السنة [5]. ¬

(¬1) قال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» (3/ 82): «قد اعتنيت بتحقيق حدوده، فحده من طريق المدينة دون التنعيم عند بيوت نفار، وهو على ثلاثة أميال، وحده من طريق اليمن طرف «أضاه لبن» على سبعة أميال. ومن طريق العراق على ثنية جبل المقطع، على سبعة أميال ومن طريق الجعرانة في شعب آل عبد الله بن خالد، على تسعة أميال، ومن طريق الطائف على عرفات من بطن نمرة على سبعة أميال، ومن طريق جدة منقطع الأعشاش، على عشرة أميال. وانظر: «تاريخ مكة» للأزرقي (2/ 130).

[الكتاب الثامن] كتاب النكاح [الفصل الأول: أحكام الزواج] يشرع لمن استطاع الباءة، ويجب على من خشي الوقوع في المعصية، والتبتل غير جائز إلا لعجز عن القيام بما لا بد منه، وينبغي أن تكون المرآة ودودًا ولودًا بكرًا، ذات جمال وحسب ودين. وتخطب الكبيرة إلى نفسها، والمعتبر حصول الرضا منها، بمن كان كفئًا والصغيرة إلى وليها، ورضا البكر صماتها وتحرم الخطبة في العدة، على الخطبة، ويجوز النظر إلى المخطوبة، ولا نكاح إلا بولي وشاهدين إلا أن يكون عاضلًا أو غير مسلم، ويجوز لكل واحد من الزوجين أن يوكل لعقد النكاح ولو واحدًا. [الـ] فصل [الثاني: الأنكحة المحرمة] ونكاح المتعة منسوخ (¬1) والتحليل حرام وكذلك ..................................... ¬

(¬1) المتعة: هو نكاح المرأة إلى أجل مؤقت، كيومين أو ثلاثة أو شهر أو غير ذلك. فإنه لا خلا ف أنه قد كان ثابتًا في الشريعة كما صرح بذلك القرآن في سورة النساء الآية (24): {فما استمتعتم به منهن فئاتوهن أجورهن}. وللحديث الذي أخرجه البخاري رقم (4615) ومسلم رقم (11/ 1404) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «كنا نغزو مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليس معنا نساء فقلنا ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك، فرخص لنا بعد ذلك أن نتزوج المرأة بالثوب، ثم قرأ: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا}» [المائدة: 87]. * وثبت النسخ بأحاديث منها: ما أخرجه مسلم رقم (21/ 1406) وغيره من حديث سيرة الجهني: أنه كان مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «يا أيها الناس إني كنت آذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة. فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا».

الشغار (¬1) ويجب على الزوج الوفاء بشرط المرأة، إلا أن يحل حرامًا، أو يحرم حلالًا، ويحرم على الرجل أن ينكح زانية أو مشركة والعكس، ومن صرح القرآن (¬2) بتحريمه والرضاع كالنسب، والجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وما زاد على العدد المباح للحر والعبد، وإذا تزوج العبد بغير إذن سيده فنكاحه باطل، وإذا عتقت أمة ملكت أمر نفسها، وخيرت في زوجها، ويجوز فسخ النكاح بالعيب (¬3) ويقر من أنكحة الكفار إذا أسلموا ما يوافق الشرع. وإذا أسلم أحد الزوجين انفسخ النكاح، وتجب العدة، فإن أسلم هو الآخر ولم تتزوج المرأة كانا على نكاحها الأول ولو طالت المدة إذا اختارا ذلك. [الـ] فصل [الثالث: أحكام المهر] والمهر واجب، وتكره المغالاة فيه، ويصبح ولو خاتمًا من حديد أو تعليم قرآن، ومن تزوج امرأة ولم يسم لها صداقًا فلها مهر نسائها إذا دخل بها. ويستحب تقديم شيء من المهر قبل الدخول وعليه إحسان العشرة، وعليها الطاعة. ومن كان له زوجان فصاعدًا عدل بينهن في القسمة وما تدعوا الحاجة إليه، وإذا سافر أقرع بينهن. وللمرأة أن تهب نوبتها أو تصالح الزوج على إسقاطها، ويقيم عند الجديدة البكر سبعًا والثيب ثلاثُا، ولا يجوز العزل (¬4) ولا إتيان المرأة في دبرها. ¬

(¬1) الشغار معناه يوضحه الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (5112) ومسلم رقم (57/ 1415). عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن الشغار، والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته ليس بينهما صداق. (¬2) انظر: سورة النساء الآيتان (24،23) (¬3) لم يأت من قال: بجواز فسخ النكاح بالعيب بحجة نيرة، ولم يثبت شيء منها (¬4) الأصح جواز العزل: للحديث الذي أخرجه البخاري رقم (5209) ومسلم رقم (1440) عن جابر قال: «كنا نعزل على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن ينزل». والأولى ترك العزل. للحديث الذي أخرجه مسلم رقم (141/ 1442) عن عائشة، عن جذامة بنت وهب أخت عكاشة، قالت « ... ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذلك الوأد الخفي». * العزل: هو النزع بعد الإيلاج لينزل خارج الفرج. * وانظر: «السيل» للشوكاني (2/ 319) حيث تراجع عن رأيه هنا فقال في «السيل»: «قد اختلف أهل العلم في هذه الأحاديث فمنهم من جمع بحمل حديث- جذامة- وما ورد في معناه على التنزيه، ومنهم من رجح أحاديث الجواز لصحتها وكثرتها والطريقة الأولى أرجح.

فصل: والوليمة للعرس مشروعة وإجابتها واجبة ما لم تكن فيها ما لا يحل. [الـ] فصل [الرابع: الولد للفراش] والولد للفراش، ولا عبرة بشبهه بغير صاحبه، وإذا اشترك ثلاثة في وطء أمة في طهر ملكها كل واحد منهم فيه فجاءت بولد وادعوه جميعًا فيقرع بينهم ومن استحقه بالقرعة فعليه للآخرين ثلثا الدية.

[الكتاب التاسع] كتاب الطلاق [الباب الأول: أنواع الطلاق] [الفصل الأول: مشروعية الطلاق وأحكامه] هو جائز: من مكلف مختار ولو هازلًا لمن كانت في طهر لم يمسها فيه ولا طلقها في الحيضة التي قبله أو في حمل قد استبان، ويحرم إيقاعه على غير هذه الصفة، وفي وقوعه ووقوع ما فوق الواحدة من دون تخلل رجعة خلاف، والراجح عدم الوقوع (¬1). [الـ] فصل [الثاني: بما يقع الطلاق] ويقع بالكناية (¬2) مع النية، وبالتخيير إذا اختارت الفرقة. وإذا جعله الزوج إلى غيره وقع منه، ولا يقع بالتحريم (¬3) والرجل أحق بإمرأته في عدة طلاقه يراجعها متى شاء إذا كان الطلاق رجعيًّا، ولا تحل له بعد الثلاث حتى تنكح زوجًا غيره. [الباب الثاني] باب الخلع وإذا خالع الرجل امرأته كان أمرها إليها، لا ترجع إليه بمجرد الرجعة، ويجوز بالقليل والكثير ما لم يجاوز ما صار إليها منه فلا بد من التراضي بين الزوجين على الخلع أو إلزام الحاكم مع الشقاق بينهما، وهو فسح وعدته حيضة. ¬

(¬1) انظر مناقشة ذلك في الرسالة رقم (211) من «الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني». وانظر: «مجموع الفتاوى» رقم (33/ 20). (¬2) قال الشوكاني في «السيل» (2/ 365) واللفظ والمعنى في الكناية «فقد عرفت أنه لا فرق بين اللفظ الصريح والكناية؛ لنه إذا لم يكن قاصدًا لمعناه لم يقع به الطلاق ولا فرق بين أن تكون الكناية بلفظ أو إشارة أو كناية إذ ليس المراد إلا الإفهام وهو يقع بجميع ذلك ... ». (¬3) قال الشوكاني في «الدراري» (2/ 14): «في هذه المسألة نحو ثمانية عشر مذهبًه والحق ما ذكرناه وقد ذهب إليه جماعة من الصحابة ومن بعدهم.

[الباب الثالث] باب الإيلاء هو أن يحلف الزوج من جميع نسائه أو بعضهن لا يقربهن، فإن وقت بدون أربعة أشهر أو بها اعتزل، حتى ينقضي ما وقت به، وإن وقت بأكثر منها خير بعد مضيها بين أن يفيء أو يطلق. [الباب الرابع] باب الظهار وهو قول الزوج لامرأته: أنت علي كظهر أمي أو ظاهرتك أو نحو ذلك، فيجب عليه قبل أن يمسها أن يكفر بعتق رقبة، فإن لم يجد [6] فليطعم ستين مسكينًا، فإن لم يجد فيصم شهرين متتابعين (¬1)، ويجوز للإمام أن يعينه من صدقات المسلمين إذا كان فقيرًا لا يقدر على الصوم، وله أن يصرف منها لنفسه وعياله، وإذا كان الظهار مؤقتًا فلا يرفعه إلا انقضاء الوقت، وإذا وطئ قبل انقضاء الوقت أو قبل التكفير كف حتى يكفر في المطلق وينقضي وقت الموقت. [الباب الخامس] باب اللعان إذا رمى الرجل امرأته بالزنى، ولم تقر بذلك ولا رجع عن رميه، لاعنها فيشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين. والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم تشهد المرأة أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين. والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ................ ¬

(¬1) وهذا الترتيب للكفارة مخالف للنص وللإجماع ... قال تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير 3 فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا} [المجادلة: 3 - 4]. وانظر: «السيل الجرار» (2/ 454) فقد رتبها المصنف على الصواب. وانظر: «فتح القدير «(5/ 183).

[] (¬1) ويفرق الحاكم بينهما (¬2)، وتحرم عليه أبدًا، ويلحق الولد بأمه فقط، ومن رماها به فهو قاذف. [الباب السادس] باب العدة [الفصل الأول: أنواع العدة] هي للطلاق من الحامل بالوضع، ومن الحائض بثلاث حيض، ومن غيرهما (¬3)، بثلاثة أشهر، وللوفاة بأربعة أشهر وعشر، وإن كانت حاملًا فبالوضع، ولا عدة على غير مدخولة، والأمة كالحرة، وعلى المعتدة للوفاة ترك التزين، والمكث في البيت الذي كانت فيه عند موت زوجها أو بلوغ خبره. [الـ] فصل [الثاني: استبراء الأمة المسبية والمشتراة] ويجب استبراء الأمة المسبية والمشتراة ونحوهما بحيضة إن كانت حائضًا، والحامل بوضع الحمل، ومنقطعة الحيض حبى يتبين عدم حملها (¬4)، ولا تستبرأ بكر ولا صغيرة مطلقًا ولا لزم البائع ونحوه (¬5). ¬

(¬1) هنا عبارة مطموسة أصلًا ولكن نجد المصنف قال في «الدراري» (2/ 28 - 29): تعليقًا عليها [وإذا كانت حاملًا أو كانت قد وضعت أدخل نفي الولد في أيمانه] وأما كونه يدخل الولد في أيمانه، فلم يكن ذلك في الكتاب العزيز، ولا وقع في الملاعنة الواقعة في زمنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حديث ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاعن بين رجل وامرأته فانتفى من ولدها، ففرق بينهما والحق الولد بالمرأة». أخرجه البخاري رقم (5315) ومسلم رقم (8/ 1494). (¬2) قال في «السيل» (2/ 468): «فالفرقة بتفريق الحاكم مغنية عن الطلاق فإن وقع الطلاق فذلك تأكيدًا للفرقة ولا تتوقف الفرقة عليه». (¬3) قال في «الدراري» (2/ 32): «وهي الصغيرة والكبيرة التي لا حيض فيها، أو التي انقطع حيضها بعد وجوده فإنها تعتد بثلاثة أشهر .... » (¬4) انظر مناقشة المسألة في «السيل» (2/ 408 - 410). «مجموع الفتاوى» (34/ 19 - 23). (¬5) لعدم وجود دليل على ذلك لا بنص، ولا بقياس صحيح بل هو محض رأي.

[الباب السابع] باب النفقة تجب على الزوج للزوجة، والمطلقة رجعيًّا بائنًا ولا في عدة الوفاة، وفلا نفقة ولا سكنى إلا أن تكونا حاملتين (¬1) وتجب على الوالد الموسر لولده المعسر والعكس، وعلى السيد لمن يملكه ولا تجب على القريب لقريبه إلا من باب صلة الرحم المشروعة، ومن وجبت كسوته وسكناه. [الباب الثامن] باب الرضاع إنما يثبت حكمه بخمس رضعات مع تيقن وجود اللبن، وكون الرضيع قبل الفطام، ويحرم به ما يحرم بالنسب، ويقبل قول المرضعة، ويجوز إرضاع الكبير ولو كان ذا لحية لتجويز النظر (¬2). [الباب التاسع] باب الحضانة الأولى بالطفل أمه ما لم تنكح، ثم الخالة، ثم الأب، ثم يعين الحاكم من القرابة من رأي فيه صلاحًا، وبعد بلوغ سن الاستقلال (¬3) يخير الصبي (¬4) بين أبيه وأمه، فإن لم يوجد أكفله من كان له في كفالته مصلحة. ¬

(¬1) كذا في المخطوط والأجود «حاملتين «لن حامل نعت لا يكون إلا للإناث كحائض، فاستغنى فيه عن علامة التأنيث. «التاج» (7/ 288). (¬2) حمل العلماء من الصحابة والتابعين، وعلماء الأمصار إلى الآن- ما عدا عائشة وداود الظاهري- من حديث امرأة أبي حذيفة على أنه مختص بها وبسالم وهو الراجح. (¬3) هو سن التمييز، قال النووي في «التحرير» (ص134): «التمييز حاصل بفهم الخطاب ورد الجواب، ولا بضبط بسن بل يختلف باختلاف الأفهام. وذهب الجمهور إلى تقييده، فهب أكثرهم إلى تقييده بسبع سنين؛ لأنه السن الذي علق عليه الأمر بالصلاة. انظر: «المغني» (7/ 615). (¬4) قال الشوكاني في «السيل» (2/ 474): فإن لم يقع الاختيار من الصبي أو تردد في الاختيار وجب الرجوع إلى الإقراع بينهما لثبوت ذلك في حديث أبي هريرة عند ابن أبي شيبة- في مصنفه (5/ 237) - بلفظ «استهما فيه «وصححه ابن القطان _ انظر «التلخيص» (4/ 24) -.

[الكتاب العاشر] كتاب البيع [الباب الأول: أنواع البيوع المحرمة] المعتبر فيه مجرد التراضي، ولو بإشارة من قادر على النطق، ولا يجوز بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام والكلب والسنور. والدم وعسب الفحل وكل حرام، وفضل الماء، وما فيه غرر كالسمك في الماء، وحبل الحبلة والمنابذة (¬1) والملامسة (¬2) وما في الضرع، والعبد الآبق، والمغانم حتى بقسم، والتمر حتى يصلح، والصوف في الظهر، السمن في اللبن، والمحاقلة (¬3) والمزابنة (¬4) والمعاومة (¬5) والمخاضرة (¬6) ............. ¬

(¬1) المنابذة: أن يقول الرجل لصاحبه: انبذ إلي الثوب، أو انبذه إليك ليجب البيع. وقيل: هو أن يقول: إذا نبذت إليك الحصاة فقد وجب البيع فيكون البيع معاطاة من غير عقد، ولا يصح. «النهاية» (5/ 6). (¬2) الملامسة: أن يقول: إذا لمست ثوبي أو لمست ثوبك فقد وجب البيع. وقيل: هو أن يلمس المتاع من وراء ثوب ولا ينظر إليه ثم يوقع البيع عليه. «النهاية» (4/ 269 - 270). (¬3) المحاقلة: قيل: هي اكتراء الأرض بالحنطة، وقيل: هي المزارعة على نصيب معلوم كالثلث والربع ونحوهما. وقيل: هي بيع الطعام في ستبله بالبر. «النهاية» (1/ 416). (¬4) المزابنة: وهي بيع الرطب في رءوس النخل بالتمر، وأصله من الزين وهو الدفع، كأن كل واحد من المتبايعين يزين صاحبه عن حقه بما يزداد منه. «النهاية» (2/ 249). (¬5) المعاومة: وهي بيع تمر النخل والشجر سنتين وثلاثًا فصاعدًا. يقال: عاومت النخلة إذا حملت سنة ولم تحمل أخرى وهي مفاعلة من العام: السنة. «النهاية (3/ 323). (¬6) المخاضرة: هي بيع الثمار خضرًا لم يبد صلاحها. «النهاية» (2/ 41).

والعربون (¬1) والعصير إلى من يتخذه خمرًا، والكالئ بالكالئ وما اشتراه قبل قبضه، والطعام حتى يجري في الصاعان، ولا يصح الاستثناء في البيع إلا إذا كان معلومًا، ومنه استثناء ظهر المبيع، ولا يجوز التفريق بين المحارم، ولا أن يبيع حاضر لباد، والتناجش (¬2) والبيع على البيع، وتلقي الركبان، والاحتكار (¬3)، والتسعير، ويجب وضع الجوائح، ولا يحل سلق وبيع، وشرطان في بيع، وبيعتان في بيع، وبيع ما ليس عند البائع، ويجوز عدم الخداع، والخيار في المجلس ثابت ما لم يتفرقا. [الباب الثاني] باب الربا يحرم بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا مثلًا بمثل يدًا بيد [7] وفي إلحاق غيرها بها خلاف، فإن اختلفت الأجناس جاز التفاضل إذا كان يدًا بيد، ولا يجوز بيع الجنس بجنسه مع عدم العلم بالتساوي، وإن صحته غيره، ولا بيع الرطب بما كان يابسًا، إلا لأهل العرايا (¬4)، ولا بيع اللحم ¬

(¬1) العربون: هو أن يعطي المشترى البائع درهمًا أو نحوه قبل البيع على أنه إذا ترك الشراء كان الدرهم للبائع بغير شيء. وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بيع العربون». وهو حديث ضعيف. (¬2) التناجش: هو أن يمدح السلعة لينفقها ويروجها أو يزيد في ثمنها وهو لا يريد شراءها ليقع غيره فيها. «النهاية» (2/ 21). (¬3) الاحتكار: حبس السلع عن البيع إرادة غلاتها. «النهاية» (1/ 417). (¬4) العرايا: وهو أن مت لا نخل يه من ذوي الحاجة يدرك الرطب ولا نقد بيده يشتري به الرطب لعياله، ولا نخل له يطعمهم منه ويكون قد فضل له من قوته تمر فيجيء إلى صاحب النخل فيقول له: بعني تمر نخلة أو نخلتين بخرصهما من التمر، فيعطيه ذلك الفاضل من التمر تلك النخلات ليصيب من رطتها مع الناس، فرخص فيه إذا كان دون خمسة أوسق. «النهاية» (3/ 224)

بالحيوان، ويجوز بيع الحيوان باثنين أو أكثر من جنسه، ولا يجوز بيع العينة (¬1). [الباب الثالث] باب الخيارات يجب على من باع بعيب أن يبينه وإلا ثبت المشتري الخيار، والخراج بالضمان، وللمشتري الرد منه المصراة (¬2) فيردها وصاعًا من تمر، أو ما يتراضيان عليه، ويثبت الخيار لمن خدع أو باع قبل وصول السوق، ولكل من المتبايعين بيعًا منهيًّا عنه الرد، ومن اشترى شيئًا لم يره فله رده إذا رآه، وله رد ما اشتراه بخيار مده معلومة قبل انقضائها , وإذا اختلف البيعان فالقول ما يقوله البائع. [الباب الرابع] باب السلم هو أن يسلم رأس المال في مجلس العقد على أن يعطيه ما يتراضيان عليه معلومًا إلى أجل معلوم، ولا يأخذ إلا ما سماه أو رأس ماله، ولا يتصرف فيه قبل قبضه. [الباب الخامس] باب القرض يجب إرجاع مثله، ويجوز أن يكون أفضل أو أكثر إذا لم يكن مشروطًا، ولا يجوز أن يجر القرض نفعًا ........................................ ¬

(¬1) العينة: هو أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به، فإن المشتري بحضرة طالب العينة سلعة من آخر بثمن معلوم وقبضها ثم باعها المشتري من البائع الأول بالنقد بأقل من الثمن فهذه أيضًا عينة، وسميت عينة لحصول النقد لصاحب العينة لن العين هو المال الحاضر من النقد والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضرة تصل إليه معجلة. «النهاية» (3/ 333 - 334). (¬2) المصراة: الناقة أو البقرة أو الشاة بصرى اللبن في ضرعها: أي يجمع ويحبس. قال الأزهري: قال الشافعي: المصراة أنها التي تصر أخلافها ولا تحلب أيامًا حتى يجتمع اللبن في ضرعها. فإذا حلبها المشتري استغزرها. «النهاية» (3/ 27).

للمقرض (¬1). [الباب السادس] [باب] (¬2) الشفعة سببها: الاشتراك في شيء ولو منقولًا (¬3)، فإذا وقعت القسمة فلا شفعة، ولا يحل للشريك أن يبيع حتى يؤذن شريكه، ولا تبطل بالتراخي. [الباب السابع] [باب] (¬4) الإجارة (¬5) تجوز على كل عمل لم يمنع منه مانع شرعي، وتكون الأجرة معلومة عند الاستئجار، فإن لم تكن كذلك استحق الأجير مقدار عمله عند أهل ذل العمل وقد ثبت النهي عن كسب الحجام ومهر البغي وحلوان (¬6) الكاهن وعسب الفحل وأجرة المؤذن وقفيز الطحان ويجوز الاستئجار على تلاوة القرآن لا على تعليمه، ويجوز أن تكري العين مدة معلومة بأجرة معلومة، ومن ذلك الأرض لا بشطر ما يخرج منها، ومن أفسد ما استؤجر عليه أو أتلف ما استأجره ضمن. [الباب الثامن] باب الإحياء والإقطاع من سبق إلى إحياء أرض لم يسبق إليها غيره فهو أحق بها وتكون ملكًا له، ويجوز للإمام أن يقطع من في إقطاعه مصلحة شيئًا من الأرض الميتة أو المعادن أو المياه. ¬

(¬1) مثاله: أن يقول المقرض: أقرضك على أن تبيعني كذا، أو على أن تقرضني مالًا إذا احتجت. «المغنى «(4/ 354 - 355). (¬2) في المخطوط «كتاب «وبدلت إلى «باب «لضرورة التبويب. (¬3) المنقول: كالثياب والحيوان. انظر: «مغني المحتاج» (2/ 296). (¬4) في المخطوط «كتاب «وبدلت إلى «باب «لضرورة التبويب. (¬5) هو «تمليك المنافع بعوض». «التعريفات «(10). (¬6) حلوان الكاهن: هو ما يعطاه من الأجر والرشوة على كهانته. يقال: حلوته أحلوه حلوانًا، والحلوان مصدر كالغفران، ونوه زائدة.» النهاية» (1/ 435).

[الباب التاسع] [باب] (¬1) الشركة الناس شركاء في الماء والنار والكلإ، وإذا تشاجر المستحقون للماء كان الأحق به الأعلى فالأعلى يمسكه إلى الكعبين ثم يرسله إلى من تحته، ولا يجوز منع فضل الماء ليمنع به الكلأ، وللإمام أن يحمي بعض المواضيع لرعي دواب المسلمين في وقت الحاجة، ويجوز الاشتراك في النقود والتجارات ويقسم الربح على ما تراضيا عليه، وتجوز المضاربة (¬2) ما لم تشتمل على ما لا يحل، وإذا تشاجر الشركاء في عرض الطريق كان سبعة أذرع، ولا يمنع جار جاره أن يغرز خشبه في جداره، ولا ضرر ولا ضرار بين الشركاء، ومن ضار شريكه جاز للإمام عقوبته بقلع شجره أو بيع داره. [الباب العاشر] [باب] (¬3) الرهن يجوز رهن ما يملكه الراهن دين عليه والظهر يركب واللبن يشرب بنفقة المرهون، ولا يغلق (¬4) الرهن بما فيه. [الباب الحادي عشر] [باب] (¬5) الوديعة [8] والعارية يجب على ................................................................................................. ¬

(¬1) في المخطوط (كتاب) ودلت (باب) لضرورة التبويب. (¬2) المضاربة: أن تعطي مالًا لغيرك يتجر فيه فيكون له سهم معلوم من الربح وهي مفاعلة من الضرب في الأرض والسير فيها للتجارة. (¬3) في المخطوط (كتاب) ودلت (باب) لضرورة التبويب. (¬4) قال الشوكاني في «الدراري» (2/ 140) «: والمراد بالغلاق هذا استحقاق المرتهن له حيث لم يفكه الراهن في الوقت المشروط، وروى عبد الرازق- في مصنفه (8/ 237 رقم 15033) - عن معمر أنه فسر غلاق الرهن بما إذا قال الرجل: إن لم آتك بمالك فالرهن لك، قال: ثم بلغني عنه أنه قال: إن هلك لم يذهب حق هذا إنما هلك من رب الرهن الذي له غنمه وعليه غرمه وقد روى أن المرتهن في الجاهلية، كان يتملك الرهن إذا لم يؤد الراهن إليه ما يستحقه في الوقت المضروب فأبطله الشارع والغنم والغرم هنا هو أعم مما تقدم من أن الظهر يركب واللبن يشرب بنفقة المرهون. (¬5) في المخطوط (كتاب) ودلت (باب) لضرورة التبويب.

الوديع (¬1) والمستعير تأدية الأمانة إلى من ائتمنه، ولا يخن من خانه، ولا ضمان عليه تلفت بدون جنايته وخيانته، ولا يجوز منع: الماعون كالدلو والقدر، وإطراق الفحل وحلب المواشي لمن يحتاج ذلك، والحمل عليها في سبيل الله. [الباب الثاني عشر] [باب] (¬2) الغصب يأثم الغاصب، ويجب عليه رد ما أخذه، ولا يحل ما امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه، وليس لعرق (¬3) ظالم حق، ومن زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء، ومن غرس في ارض غيره غرسًا رفعه (¬4)، ولا يحل الانتفاع بالمغصوب ومن أتلفه ¬

(¬1) مراده «المودع». (¬2) في المخطوط (كتاب) ودلت (باب) لضرورة التبويب. (¬3) العرق الظالم: أن يجيء الرجل إلى أرض قد أحياها غيره فيغرس فيها أو يزرع ليستوجب به الأرض. «مختار الصحاح «(ص 180). (¬4) قوله: «ومن زرع ... ««ومن غرس «قد فرق بين حكم من زرع وحكم من غرس وهو قول لبعض أهل العلم جمعًا بين الأدلة في الباب. ولكنه قال في «السيل» (3/ 93): إلى أن ما غرسه الغاصب أو زرعه في الأرض المغصوبة فهو لمالكها وليس للغاصب من ذلك شيء، إلا من زرع في أرض قوم على غير وجه التعدي والعدوان، فالزرع لمالك الأرض ويرجع هو على الغاصب بما أنفق فيها وهذا الاستثناء علق المصنف صحته على صحة الخبر ثم قال عقب الحديث _الذي أخرجه أبو داود رقم (3399) وحديث حسن- عن عروة بن الزبير عن بعض الصحابة: أن رجلين اختصما إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غرس أحدهما خلا في أرض الآخر فقضى لصاحب الأرض بأرضه وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها قال: «فلقد رأيتها وإنها لتضرب أصولها بالفئوس، وإنها لنخل عم، وإذا كان هذا هو حكم الشرع في النخل الذي تعظم المؤونة عليه، وتكثر الغرامة فيه فأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الغاصب بالقطع وإخراج نخله مع كونه قد صار نخلًا عما، فكيف لا يكون الزرع مثله مع حقارة المؤونة عليه وقصر المدة فيه، وليس في كون البذر من الغاصب زيادة على كون أصول الغرس منه، فلا يصح أن يكون أحدهما سببًا لاستحقاق الغاصب للنفقة دون الآخر. فما ذكره المصنف رحمه الله تعالى- صاحب الأزهار- من قلع الزرع وإن لم يحصد ولزوم أجرة الأرض للغاصب وإن لم ينتفع صواب.

فعليه مثله أو قيمته. [الباب الثالث عشر] [باب] (¬1) العتق أفضل الرقاب أنفسها، ويجوز العتق بشرط الخدمة ونحوها، ومن ملك رحمه عتق عليه، ومن مثل (¬2) بمملوكه فعليه أن يعتقه، وإلا أعتقه الإمام أو الحاكم، ومن أعتق شركًا له في عبد ضمن لشركائه نصيبهم بعد التقويم، وإلا عتق نصيبه فقط واستسعي العبد (¬3). ولا يصح شرط الولاء لغير من أعتق، ويجوز التدبير (¬4)، فيعتق بموت مالكه، وإذا احتاج المالك جاز له بيعه، ويجوز مكاتبة المملوك على مال يؤديه، فيصير عند الوفاء حرًّا، ويعتق منه بقدر ما سلم، وإذا عجز عن تسليم مال الكتابة في الرق (¬5) ومن استولد أمته لم يحل له بيعها، وعتقت بموته، أو بتنجيزه (¬6) لعتقها (¬7). ¬

(¬1) في المخطوط (كتاب) ودلت (باب) لضرورة التبويب. (¬2) المثلة: يقال: مثلت بالحيوان أمثل به مثلُا: إذا قطعت أطرافه وشوهت به، ومثلت بالقتيل: إذا جدعت أنفه وأذنه أو مذاكيره أو شيئًا من أطرافه أو (مثَّل) بالتشديد فللمبالغة. «النهاية» (4/ 294). (¬3) قال في «السيل» (3/ 126): «أن الشريك الموقع للعتق إن كان مؤسرًا ضمن قيمة نصيب الشريك من ماله، وإن كان معسرًا فإن كان العبد قادرًا على السعاية واختار ذلك عتق جميعه وسعى، وإن لم يكن قادرًا على السعاية أو أبى أن يسعى فقد عتق منه ما عتق، وهو نصيب الذي أعتقه، ويبقى نصيب الآخر رقًا. (¬4) قال في «السيل» (3/ 128): أن التدبير بما كان مضافًا إلى ما بعد الموت كان له حكم الوصية وهي في هذه الصورة نافذة من الثلث. (¬5) قال في «السيل» (3/ 140): وذلك في الجملة بأن له قبل الوفاء حكمًا بين حكمي الحر والعبد إلا في رجوعه في الرق إذا عجز فإن له في ذلك حكم العبد. (¬6) تنجيزه: أي تعجيله. «المصباح «(2/ 594). (¬7) أي تنجيز مستولدها لعتقها. قلت: هذا في حين العتق بالولادة، ولكن العتق لا يقع.

[الباب الرابع عشر] [باب] (¬1) الوقف من حبس ملكه في سبيل الله صار محبسًا، وله أن يجعل غلاته لأي مصرف شاء مما فيه قربة. وللمتولي عليه أن يأكل منه بالمعروف، وللواقف أن يجعل نفسه في وقفه كسائر المسلمين. ومن وقف شيئًا مضارة لوارثه فهو باطل، ومن وضع مالًا في مسجد أو مشهد لا ينتفع به أحد جاز صرفه في أهل الحاجات ومصالح المسلمين، ومن ذلك ما يوضع في الكعبة وفي مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والوقف على القبور لرفع سمكها أو تزيينها أو فعل ما يجلب على زائرها فتنة: باطل. [الباب الخامس عشر] [باب] (¬2) الهدايا يشرع قبولها ومكافأة فاعلها , وتجوز بين المسلم والكافر، ويحرم الرجوع فيها، وتجب التسوية بين الأولاد، والرد لغير مانع شرعي مكروه. [الباب السادس عشر] [باب] (¬3) الهبات إن كانت بغير عوض فلها حكم الهدية في جميع ما سلف، وإن كانت بعوض فهي بيع ولها حكمه، والعمرى (¬4) والرقى (¬5) توجبان الملك للمعمر والمرقب ولعقبه من بعده لا رجوع فيهما. ¬

(¬1) في المخطوط (كتاب) وبدلت بـ (باب) لضرورة التبويب. (¬2) في المخطوط (كتاب) وبدلت بـ (باب) لضرورة التبويب. (¬3) في المخطوط (كتاب) وبدلت بـ (باب) لضرورة التبويب. (¬4) العمرى: يقال: أعمرته الدار عمري: أي جعلتها له يسكنها مدة عمره، فإذا مات عادت إلي، وكذا كانوا يفعلون في الجاهلية، فأبطل ذلك وأعلمهم أن من أعمر شيئًا أو أرقبه في حياته فهو لورثته من بعده. «النهاية» (3/ 298). (¬5) الرقى: هو أن يقول الرجل للرجل قد وهبت لك هذه الدار فإن مت قبلي رجعت إلي، وإن مت قبلك فهي لك , وهي فعلى من المراقبة لأن واحد منهما يرقب موت صاحبه.

[الكتاب الحادي عشر] كتاب الأيمان الحلف إنما يكون باسم الله تعالى أو صفة له، ويحرم الحلف بغير ذلك، ومن حلف فقال: (إن شاء الله) فقد استثنى ولا حنث عليه، ومن على شيء فرأى غيره خيرًا منه فليأت الذي هو خير وليكفره عن يمينه ومن أكره على اليمين فهي غير لازمة، ولا يأثم بالحنث فيها واليمين الغموس (¬1) هي التي يعلم الحال كذبها، ولا مؤاخذة باللغو (¬2) ومن حق المسلم على المسلم إبرار قسمه، وكفارة اليمين هي ما ذكره الله في كتابه العزيز. ¬

(¬1) اليمين الغموس: هي اليمين الكاذبة الفاجرة كالتي يقتطع بها الحالف مال غيره، سميت غموسًا؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم، ثم في النار وفعول للمبالغة. «النهاية» (3/ 386). (¬2) اللغو: لغو اليمين: هو أن يقول: لا والله وبلى والله، ولا يعقد عليه قلبه. وقيل: هي التي يحلفها الإنسان ساهيًا أو ناسيُا. وقيل: اللغو: سقوط الإثم عن الحالف إذا كفر يمينه. يقال: لغا الإنسان بلغو، ولغى يلغى، إذا تكلم بالمطرح من القول، وما لا يعني، وألغى إذا سقط. «النهاية» (4/ 257).

[الكتاب الثاني عشر] كتاب النذر إنما يصح إذا ابتغي به وجه الله تعالى، فلا بد أن يكون قربة، ولا نذر في معصية، ومن النذر في المعصية ما فيه مخالفة للتسوية بين الأولاد، أو مفاضلة بين الورثة مخالفة لما شرعه الله، ومنه النذر على القبور، وعلى ما لم يأذن به (¬1) الله ومن أوجب على نفسه فعلًا لم يشرعه الله لم يجب عليه (¬2). وكذلك إن كان مما شرعه الله وهو لا يطيقه فعليه كفارة يمين، ومن نذر بقربة وهو مشرك ثم أسلم لزمه الوفاء، ولا ينفذ النذر إلا من الثلث (¬3)، وإذا مات الناذر بقربة ففعلها عنه ولده أجزأه ذلك. ¬

(¬1) قال في «الدراري» (2/ 192): كالنذر على المساجد أو على أهل المعاصي ليستعينوا بذلك على معاصيهم. (¬2) كمن نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد أو لا يتكلم وأن يصوم. ذكره الشوكاني في «الدراري» (2/ 192). (¬3) ونجد الشوكاني- رحمه الله- في «السيل»: قد مال إلى أنه ينفذ من جميع المال فقال: «قوله: «وإنما ينفذ من الثلث ... إلخ «لم يدل على هذا دليل يخصه، وفي القياس على الوصايا نظرًا لأن الوصايا مضافة إلى ما بعد الموت، وهذا منجز في حال الحياة، فإن كان مضافًا إلى ما بعد الموت فله حكم الوصية.

[الكتاب الثالث عشر] كتاب الأطعمة [الباب الأول: المحرمات من الأطعمة] الأصل في كل شيء الحل، ولا يحرم إلا ما حرمه الله تعالى ورسوله، وما سكت عنه فهو عفو، فيحرم ما في الكتاب العزيز، وكل ذي ناب من السباع (¬1) وكل ذي مخلب من الطير، والحمر الإنسية، والجلالة (¬2) قبل الاستحالة، والكلاب والهر، وما كان مستخبثًا (¬3) وما عدا ذلك فهو حلال. [الباب الثاني] باب الصيد ما صيد بالسلاح الجارح والجوارح كان حلالًا إذا ذكر اسم الله وما صيد بغير ذلك فلا بد من التذكية. وإذا شارك الكلب المعلم كلب آخر لم يحل صيدهما (¬4) وإذا أكل الكلب المعلم ¬

(¬1) السباع: ما يفترس الحيوان ويأكله قهرًا وقسرًا؛ كالأسد والنمر والذئب ونحوها. «النهاية» (2/ 337). (¬2) الجلالة: هي التي تأكل العذرة من الحيوان، وأصل الجلة البعر فاستعير لغيره يقال منه جلت تحل وجتلت تجتل. «مشارق الأنوار على صحاح الآثار «للقاضي عياض (ص149). (¬3) فما استخبثه الناس من الحيوانات لا لعلة ولا لعدم اعتياد بل لمجرد الاستخباث فهو حرام وإن استخبثه البعض دون البعض كان الاعتبار بالأكثر كحشرات الأرض وكثير من الحيوانات التي ترك الناس أكلها ولم ينهض2 على تحريمها دليل يخصها، فإن تركها لا يكون في الغالب إلا لكونها مستخبثة. «الدراري» (2/ 206 - 207). (¬4) قال الشوكاني في «النيل «(5/ 335): ... لا يحل أكل ما يشاركه كلب آخر في اصطياده. ومحله: ما إذا استرسل بنفسه أو أرسله من ليس من أهل الزكاة فإن تحقق أنه أرسله من هو أهل الزركاة حل، ثم ينظر فإن كان إرسالهما معًا فهو لهما، وإلا فللأول».

ونحوه من [9] الصيج لم يحل فإنما أمسك على نفسه، وإذا وجد الصيد بعد وقوع الرمية فيه ميتًا ولو بعد أيام في غير ماء كان حلالًا، ما لم ينتن أو يعلم أن الذي قتله غير سهمه (¬1). [الباب الثالث] باب الذبح هو ما أنهر الدم وفرى (¬2) الأوداج وذكر اسم الله عليه ولو بحجر أو نحوه ما لم يكن سنًّا أو ظفرًا، ويحرم تعذيب الذبيحة والمثلة بها وذبحها لغير الله، وإذا تعذر الذبح بوجه جاز الطعن والرمي وكان ذلك كالذبح، وذكاة الجنين ذكاة أمه وما أبين من الحي فهو ميتة، وتحل ميتتان ودمان: السمك والجراد والكبد والطحال، وتحل الميتة للمضطر. [الباب الرابع] باب الضيافة يجب على من وجد ما يقري به من نزل عليه من الضيوف أن يفعل ذلك وجد الضيافة إلى ثلاثة أيام، وما كان وراء ذلك فصدقة، ولا يحل للضيف أن يثوي عنده حتى يخرجه، وإذا لم يفعل القادر على الضيافة ما يجب عليه كان للضيف أن يأخذ من ماله بقدر قراه ويحرم أكل طعام الغير (¬3) بغير إذنه، ومن ذلك حلب ماشيته وأخذ ثمرته ¬

(¬1) قال في «النيل «(5/ 344): أنه إن وجد فيه أثر غير سهمه لا يأكل. (¬2) فرى: قطع. الأوداج، جمع ودج، وهما ودجان: أي: عرقان محيطان بالحلقوم. «النهاية» (5/ 165)، «المصباح «(2/ 471). * ولكن الشوكاني في «السيل» (3/ 218): قال: لم يثبت في المرفوع ما يدل على اشتراط فري الأوداج إلا ما أخرجه أبو داود- رقم (2826) وهو حديث ضعيف- من حديث أبي هريرة وابن عباس قالا: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عن شريطة الشيطان وهي التي تذبح فيقطع الجلد ولا تفري الأوداج. (¬3) الغير: هكذا والوجه عدم دخول (أل) على غير؛ لأن المقصود بدخول (أل) التعريف على النكرة أن يخصصه بشخص بعينه فإذا قيل: «الغير «اشتملت هذه اللفظة على ما لا يحصى كثيرة، ولهذا لم تدخل (أل) على جملة مشاهير المعرف كدجلة، وعرفة لوضوح اشتهارها. «تصحيح التصحيف «(ص 398)، «تاج العروس «(3/ 460).

وزرعه لا يجوز إلا بإذنه، إلا أن يكون محتاجًا إلى ذلك، فليناد صاحب الإبل أو الحائط فإن أجابه وإلا فليشرب وليأكل غير متخذ خبنة (¬1). [الباب الخامس] باب آداب الأكل تشرع للآكل التسمية، والأكل باليمين، ومن حافتي الطعام لا من وسطه ومما يليه، ويلعق أصابعه والصحفة، والحمد عند الفراغ والدعاء، ولا يأكل متكئًا (¬2). ¬

(¬1) الخبية: معطف الإزار وطرف الثوب: أي لا يأخذ منه في ثوبه، يقال أخبن الرجل إذا خبأ شيئًا في خبنة ثوبه أو سراويله. «النهاية» (2/ 9). (¬2) قال ابن القيم في «زاد المعاد «(4/ 202): وقد فسر الاتكاء بالتربع، وفسر الاتكاء على الشيء. وهو الاعتماد عليه وفسر بالاتكاء على الجنب، والأنواع الثلاثة من الاتكاء، فنوع يضر بالأكل وهو الاتكاء على الجنب فإنه يمنع مجرى الطعام الطبيعي عن هيئته ويعوقه عن سرعة نفوذه إلى المعدة ... وأما النوعان الآخران فمن جلوس الجبابرة المنافي للعبودية.

[الكتاب الرابع عشر] كتاب الأشربة كل مسكر حرام، وما أسكر كثيره فقليله حرام، ويجوز الانتباذ في جميع الآنية، ولا يجوز انتباذ (¬1) جنسين مختلطين (¬2)، ويحرم تخليل الخمر، ويجوز شرب العصير والنبيذ قبل غليانه، ومظنة ذلك ما زاد على ثلاثة أيام، وآداب الشرب أن يكون ثلاثة أنفاس، وباليمين، ومن قعود، وتقديم الأيمن فالأيمن، ويكون الساقي آخرهم شربًا، ويسمي في أوله، ويحمد في آخره، ويكره التنفس في السقاء والنفخ فيه والشرب من فمه، وإذا وقعت النجاسة في شيء من المائعات لم يحل شربه، وإن كان جامدًا ألقيت وما حولها ويحرم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة. ¬

(¬1) انتباذ: يقال نبذت التمر والعنب إذا تركت عليه الماء ليصير نبيذًا، فصرف من مفعول إلى فعيل وانتبذته: اتخذته نبيذًا. «النهاية» (5/ 7). (¬2) يريد ما ينبذ من البسر والتمر معًا، أو من العنب والزبيب أو من الزبيب والتمر ونحو ذلك مما ينبذ مختلطًا وإنما نهى عنه لأن الأنواع إذا اختلفت في الانتباذ كانت أسرع للشدة والتخمير. «النهاية» (2/ 63).

[الكتاب الخامس عشر] كتاب اللباس ستر العورة واجب في الملأ والخلاء، ولا يلبس الرجل الخالص من الحرير، وإذا كان فوق أربع أصابع، إلا للتداوي، ولا يفترشه ولا المصبوغ بالعصفر (¬1) ولا ثوب شهرة ولا ما يختص بالنساء ولا العكس، ويحرم على الرجال التحلي بالذهب لا بغيره. [الكتاب السادس عشر] كتاب الأضحية [الباب الأول: أحكام الأضحية] تشرع لهل كل (¬2) بيت، وأقلها شاة ووقتها بعد صلاة عيد النحر، إلى آخر أيام التشريق، وأفضلها أسمنها، ولا يجزئ ما دون الجذع (¬3) من الضأن، ولا الثني من المعز ولا الأعور والمريض والأعرج، والأعجف (¬4)، .............................. ¬

(¬1) العصفر: نبات سلافته الجريال وهي معربة. وقيل: هو الذي يصبغ منه ريفي ومنه بري وكلاهما نبت بأرض العرب، وقد عصفت الثوب فتعصفر. «لسان العرب «(9/ 242). وانظر رسالة «القول المحرر في حكم لبس المعصفر وسائر أنواع الأحمر «في قسم الفقه «الفتح الرباني». رقم (138). (¬2) قال في «السيل» (3/ 2312): وبهذا تعرف أن الحق ماقاله الأقلون من كونها واجبة ولكن هذا الوجوب مقيد بالسعة، فمن لا سعة له لا أضحية عليه. (¬3) جذعة: الجذع من الشاه، ما دخل في السنة الثانية ومن البقر وذوات الحافر، وما دخل في الثالثة ومن الإبل ما دخل في الخامسة، والأنثى في الجميع: جذعة والجمع: جذعان وجذعات. «غريب الحديث الهروي «(3/ 72). (¬4) العجفاء: العجف الهزال والضعف». «لسان العرب «(9/ 62).

وأعضب (¬1) القرن والأذن، ويتصدق منها ويأكل ويدخر، والذبح في المصلى أفضل، ولا يأخذ من له أضحية من شعره وظفره بعد دخول عشر ذي الحجة حتى يضحي. [الباب الثاني] باب الوليمة (¬2) هي مشروعة وتجب الإجابة إليها ويقدم السابق ثم الأقرب بابًا، ولا يجوز حضورها إذا اشتملت على معصية. [الـ] فصل [الثاني: أحكام العقيقة (¬3)] والعقيقة مستحبة، وهي: شاتان عن الذكر وشاة عن الأنثى، يوم سابع المولود، وفيه يسمى ويحلق رأسة، ويتصدق بوزنه ذهبًا أو فضة. [الكتاب السابع عشر] كتاب الطب يجوز التداوي، والتفويض أفضل لمن يقدر على الصبر (¬4)، ويحرم بالمحرمات ويكره الاكتواء ولا بأس بالحجامة، والرقية بما يجوز من العين وغيرها ¬

(¬1) العضب: القطع، وناقة عضباء مشقوقة الأذن وكذلك الشاة والعضباء من أذن الخيل: التي يجاوز القطع ربعها. «لسان العرب «(9/ 252). (¬2) الوليمة: وهو الطعام الذي يصنع عند العرس. «النهاية» (5/ 266). (¬3) انظر: «تحفة المودود بأحكام المولود «تحقيق محمد صبحي بن حسن حلاق. (¬4) قال في «الدراري» (2/ 280): أن التفويض أفضل مع الاقتدار على الصبر كما يقيده قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن شئت صبرت» وأما مع عدم الصبر على المرض وصدور الحرج والحرد وضيق الصدر من المرض فالتداوي أفضل لأن فضيلة التفويض قد ذهبت بعدم الصبر.

[الكتاب الثامن عشر] كتاب الوكالة يجوز لجائز التصرف أن يوكل غيره في كل شيء ما لم يمنع منه مانع (¬1)، وإذا باع الوكيل بزيادة [10] على ما رسمه له موكله كانت الزيادة للموكل، وإذا خالفه إلى ما هو أنفع أو إلى غيره ورضي به صح (¬2). [الكتاب التاسع عشر] كتاب الضمانة (¬3) [الكفالة] يجب على من ضمن على حي أو ميت تسليم مال أن يغرمه عند الطلب، ويرجع على المضمون عنه إن كان مأمورًا من جهته (¬4). ومن ضمن بإحضار شخص وجب عليه إحضاره وإلا غرم ما عليه. ¬

(¬1) قال الشوكاني في «الدراري» (2/ 288): «وذلك كالتوكيل في شيء لا يجوز للمتوكل أن يفعله ويجوز للوكيل؛ كتوكيل المسلم للذمي في بيع الخمر أو الخنزير أو نحو ذلك، فإن ذلك لا يجوز ولا يكون محللًا للثمن ... ». (¬2) قال في «الدراري» (2/ 289 «: فتكون الرضا مناطًا مسوغًا لذلك ومجوزًا له، وإذا لم يرض؛ يلزمه ما وقع من الوكيل مخالفًا لما رسمه له لعدم المناط المعتبر». (¬3) هي التزام من يصح تبرعه حقًّا وجب على غيره، أو إحضار من هو عليه. انظر: «مغني المحتاج «(2/ 298). (¬4) لكون الدين عليه والأمر منه للضمين بالضمانة كالأمر له بالتسليم فيرجع عليه لذلك. وانظر «السيل» (2/ 397).

[الكتاب العشرون] كتاب الصلح (¬1) هو جائز بين المسلمين، إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا، ويجوز علن المعلوم والمجهول بمعلوم وبمجهول (¬2)، ولو عن انكسار وعن الدم كالمال (¬3) بأقل من الدية أو أكثر، ولو عن إنكار. [الكتاب الحادي والعشرون] كتاب الحوالة من أحيل على مليء فليحتل، وإذا مطل المحال عليه أو أفلس كان للمحال أن يصيب المحيل بدينه. ¬

(¬1) الصلح معاقدة يتوصل بها إلى الإصلاح بين المختلفين ويتنوع أنواعًا، صلح بين المسلمين وأهل حرب، وصلح بين أهل العدل وأهل البغي، وصلح بين الزوجين إذا خيف الشقاق بينهما. «المغني» (7/ 5). (¬2) انظر: تفصيل ذلك في «المغني» (7/ 9 - 15). (¬3) قال في «الدراري» (2/ 297): «وأما جواز المصالحة عن الدم كالمال، فلكون اللازم في الدم مع عدم القصاص هو المال، فهو صلح بمال عن مال يدخل تحت عموم قوله تعالى: {أو إصلاح بين الناس} [النساء: 114].

[الكتاب الثاني والعشرون] كتاب يجوز لأهل الدين أن يأخذوا جميع ما يجدونه معه، إلا ما كان لا يستغني (¬1) عنه وهو: المنزل وستر العورة وما يقيه البرد ويسد رمقه ومن يعول، ومن وجد ماله عنده بعينه فهو أحق به، وإذا نقص مال المفلس عن الوفاء بجميع دينه كان الموجود أسوة الغرماء، وإذا تبين إفلاسه فلا يجوز حبسه. ولي (¬2) الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته، ويجوز للحاكم أن يحجزه عن التصرف في ماله ويبيعه لقضاء دينه، وكذا يجوز له الحجر على المبذر، ومن لا يحسن التصرف، ولا يمكن من التصرف في ماله حتى يؤنس منه الرشد، ويجوز لوليه أن يأكل من ماله بالمعروف. ¬

(¬1) قال في «السيل» (3/ 421 - 422): «وهكذا ينبغي أن يترك للمفلس على كل تقدير ما تدعوا إليه حاجته من الطعام والإدام إلى وقت الدخل، وهكذا يترك للمجاهد والمحتاج إلى المدافعة عن نفسه أو ماله وسلاحه، وللعالم ما يحتاج إليه من كتب التدريس والإفتاء والتصنيف، وهكذا يترك لمن كان معاشه بالحرث ما يحتاج إليه في الحرث من دابة وآلة الحرث. ثم قال: والحاصل: أن تفويض مثل هذه الأمور إلى أنظار حكام العدل العارفين بالحكم بما أنزل الله هو الذي لا ينبغي لاختلاف الأحوال والأشخاص والأمكنة والأزمنة. (¬2) اللي: المطل، يقال: لواه غريمه بدينه يلويه ليا وأصله: لويا فأدغمت الواو في الياء. «النهاية» (4/ 280).

[الكتاب الثالث والعشرون] كتاب اللقطة من وجد لقطة فليعرف عفاصها (¬1) ووكاءها (¬2)، فإن جاء صاحبها دفعها إليه، وإلا عرف بها حولًا، وبعد ذلك يجوز له صرفها ولو في نفسه ويضمن مع مجيء صاحبها، ولقطة مكة أشد تعريفًا من غيرها، ولا بأس بأن ينتفع الملتقط بالشيء الحقير كالعصا والسوط ونحوهما، وتلتقط ضالة الدواب إلا الإبل. [الكتاب الرابع والعشرون] كتاب القضاء إنما يصح قضاء من كان: مجتهدًا، متورعًا عن أموال الناس عادلًا في القضية حاكمًا السوية، ويحرم عليه الحرص على القضاء وطلبه، ولا للإمام تولية من كان كذلك، ومن كان متأهلًا للقضاء فهو على خطر عظيم، وله مع الإصابة أجران ومع الخطأ أجر إن لم يأل جهدًا في البحث، وتحرم عليه: الرشوة والهدية التي أهديت لأجل كونه قاضيًا، ولا يجوز له الحكم حال الغضب، وعليه التسوية بين الخصمين إلا إذا كان أحدهما كافرًا والسماع منهما قبل القضاء، وتسهيل الحجاب بحسب الإمكان، ويجوز له اتخاذ الأعوان (¬3) مع الحاجة، والشفاعة، .................................. ¬

(¬1) العفاص: هو الوعاء الذي يكون فيه النفقة، إن كان من جلد أو من خرقة أو غير ذلك. «لسان العرب «(9/ 289). (¬2) الوكاء: الخيط الذي تشد به الصرة والكيس. «النهاية» (5/ 222). (¬3) قال في «السيل» (3/ 453): فإذا لم يتم حكم الشرع منه إلا بأعوان تشتد بها وطأته على المرتكبين للمنكرات والمتساهلين في تأدية الواجبات والمتمردين امتثال ما يقضي به شرع الله كان اتخاذ من يحصل به التمام من الأعوان ونحوهم واجبًا على القاضي. ثم قال: ومن مقتضيات اتخاذ الأعوان إحضار الخصوم، ودفع الزحام وعلو الأصوات .....

والاستيضاع (¬1) والإرشاد إلى الصلح، وحكمه ينفذ ظاهرًا فمن قضي له بشيء فلا يحل له إلا إذا كان الحكم مطابقًا للواقع. [الكتاب الخامس والعشرون] كتاب الخصومة والبينة والإقرار على المدعي البينة، وعلى المنكر اليمين، ويحكم الحاكم بالإقرار، وبشهادة رجلين أو رجل وامرأتين، أو رجل ويمين المدعي، ويمين المنكر ويمين الرد (¬2) وبعلمه (¬3)، ولا تقبل شهادة من ليس بعدل، ولا الخائن ولا ذي العداوة والمتهم، والقاذف، ولا بدوي (¬4) على صاحب قرية، وتجوز شهادة من يشهد على تقرير فعله أو قوله، إذا انتفت التهمة، وشهادة الزور من أكبر الكبائر، وإذا تعارض البينتان ولم يوجد وجه ترجيح قسم المدعي بين الغريمين، وإذا لم يكن للمدعي بينة فليس له إلا يمين صاحبه ولو كان فاجرًا، ولا تقبل البينة (¬5) بعد اليمين، ومن أقر بشيء عاقلًا بالغًا، غير هازل ولا بمحال عقلًا أو عادة ¬

(¬1) الاستيضاع: أن يطلب من أحد الخصمين أن يضع دينه عن خصمه. «اللسان «(15/ 328). (¬2) قال في «السيل» (3/ 325): لم يصح شيء في يمين الرد قط وما روي في ذلك فلا يقوم به حجة ولا ينهض للدلالة على المطلوب والأسباب الشرعية لا تثبت إلا بالشرع. (¬3) انظر: رسالة «رفع الخصام في الحكم بعلم الحكام «رقم (63). (¬4) قال في «النيل «(5/ 582) تعليقًا على أقوال العلماء في ذلك فقال: لأن البدوي إذا كان معروف العدالة كان رد شهادته لعلة كونه بدويًّا غير مناسب لقواعد الشريعة؛ لأن المساكن لا تأثير لها في الرد والقبول، لعدم صحة جعل ذلك مناطًا شرعيًّا، ولعدم انضباطه، فالمناط هو العدالة الشرعية إن وجد للشرع اصطلاح في العدالة، وإلا توجه الحمل على العدالة اللغوية، فعند وجود العدالة يوجد القبول وعند عدمها بعدم، ولم يذكر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المنع من شهادة البدوي إلا لكونه مظنة لعدم القيام بما تحتاج إليه العدالة، وإلا فقد قبل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الهلال شهادة بدوي. (¬5) قال في «السيل» (3/ 322): «لكنه إذا اختار اليمين لم تسمع منه البينة من بعد لأن السبب الشرعي المقتضي للحكم- وهو اليمين- قد وقع ووجب به وعلى الحاكم عند أن يسمع طلب المدعي ليمين المنكر أن يبين له أنه يأتي ببينة إذا كان له بينة قبل يمين خصمه وأنه إذا حلف خصمه لم تقبل البينة بعد ذلك. وليس هذا من التلقين للخصم، بل هو مما يلزم الحاكم ...

لزمه ما أقر به به كائنًا ما كان، ويكفي مرة واحدة من غير فرق بين موجبات الحدود وغيرها كما سيأتي.

[الكتاب السادس والعشرون] كتاب الحدود [الباب الأول] باب حد الزاني إن كان [11] بكرًا جلد مائة جلدة، وبعد الجلد يغرب عامًا، وإن كان ثيبًا جلد كما يجلد البكر، ثم يرجم حتى يموت، ويكفي إقراره مرة، وما ورد من التكرار في وقائع الأعيان فلقصد الاستثبات، وأما الشهادة فلا بد من أربعة. ولا بد أن يتضمن الإقرار والشهادة التصريح بإيلاج الفرج في الفرج، ويسقط بالشبهات المحتملة، وبالرجوع عن الإقرار ويكون المرأة عذراء أو رتقاء (¬1)، ويكون الرجل مجبوبًا (¬2) أو عنينًا (¬3). وتحرم الشفاعة في الحدود ويحفر للمرجوم إلى الصدر، ولا ترجم الحبلى حتى ترضع ولدها إن لم يوجد من يرضعه، ويجوز الجلد حال المرض بعثكال (¬4) ونحوه، ومن لاط بذكر قتل ولو كان بكرًا، وكذلك المفعول به إذا كان مختارًا، ويعزر من نكح بهيمة، ويجلد المملوك نصف جلد الحر، ويحده سيده أو الإمام. ¬

(¬1) الرتق: التحام الفرج بحيث لا يمكن دخول الذكر. «التحرير» للنووي (ص255). (¬2) مجبوب: أي مقطوع الذكر. «النهاية» (1/ 223). (¬3) العنين: العاجز عن الوطء، ربما اشتهاه ولا يمكنه، مشتق من (عنَّ) الشيء: إذا اعترض؛ لأن ذكره يعترض عن يمين الفرج وشماله. «التحرير» (ص255). (¬4) العثكال: العذق من أعذاق النخل الذي يكون فيه الرطب، ويقال: إثكال وأثكول. ويكون فيه أغصان كثيرة وكل واحد منها يسمى شمراخًا. «لسان العرب «(9/ 47).

[الباب الثاني] باب السرقة من سرق مكلفًا، مختارًا، من حرز، ربع دينار فصاعدًا، قطعت كفه اليمنى، ويكفي الإقرار مرة واحدة، أو شهادة عدلين، ويندب تلقين المسقط، ويحسم موضع القطع، وتعلق اليد في عنق السارق، ويسقط بعفو المسروق عليه قبل البلوغ إلى السلطان لا بعده فقد وجب، ولا قطع في ثمر ولا كثر ما تؤويه (¬1) الجرين (¬2) إذا أكل ولم يتخذ خبنة وإلا كان عليه ثمن ما حمله مرتين وضرب نكال، وليس على الخائن والمنتهب والمختلس قطع، وقد ثبت القطع في جحد العارية. [الباب الثالث] باب حد الشرب من شرب مسكرًا مكلفًا، مختارًا؛ جلد على ما يراه الإمام إما أربعين جلدة أو أقل أو أكثر ولو بالنعال، ويكفي إقراره مرة، أو شهادة عدلين ولو على القيء، وقتله في الرابعة منسوخ، والتعزير (¬3) في المعاصي التي لا توجب حدًّا ثابت بحبس أو نحوه أو ضرب ولا يجاوز عشر أسواط. [الباب الرابع] باب حد القذف من رمى غيره بالزنى وجب عليه حد القذف ثمانين جلدة، ويثبت ذلك بإقراره مرة، ¬

(¬1) رفع الفعل المضارع بعد (لم) قليل في لغة العرب، إلا أن الجزم للفعل المضارع بعد (لم) هو مذهب عامة العرب. انظر: «مغني اللبيب «(1/ 307). «الخصائص «لابن جني (2/ 411). (¬2) الجرين: بفتح الجيم وكسر الراء: الموضع الذي تجفف فيه الثمار. «تهذيب الأسماء «(3/ 50). (¬3) التعزير: التأديب، ولهذا سمي الضرب دون الحد تعزيرًا إنما هو أدب. «لسان العرب «(9/ 184). وقيل: التعزير: التأديب على ذنب لا حد فيه ولا كفارة. «إعلام الموقعين «(2/ 99).

أو بشهادة عدلين (¬1)، وإذا لم يتب لم تقبل شهادته فإن جاء بعد القذف بأربعة شهود سقط (¬2) عنه الحد، وكذلك إذا أقر المقذوف بالزنى. [الباب الخامس] باب حد المحارب هو أحد الأنواع المذكورة في القرآن: القتل أو الصلب أو قطع اليد والرجل من خلاف أو النفي من الأرض، يفعل الإمام منها ما رأى فيه صلاحًا لكل من قطع طريقًا ولو في المصر، إذا كان قد سعى في الأرض فسادًا، فإن تاب قبل القدرة عليه سقط عنه ذلك (¬3). [الباب السادس] باب من يستحق القتل حدًّا هو الحربي، والمرتد، والساحر، والكاهن، والساب لله أو لرسوله أو للإسلام، أو للكتاب، أو للسنة، والطاعن في الدين، والزنديق (¬4) بعد استتابتهم، والزاني المحصن، واللوطي مطلقًا، والمحارب. ¬

(¬1) وزاد في «السيل» (3/ 523): ويكتفى فيه أيضًا بشهادة رجل وامرأتين وبشهادة وحد مع يمين المدعي. (¬2) قال في «الدرري «(2/ 372): لأن القاذف لم يكن حينئذ قاذفًا بل قد تتقرر صدور الزنا بشهادة الأربعة فيقام الحد على الزاني ... (¬3) انظر: «مجموع الفتاوى» (28/ 310). (¬4) تقدم التعريف به ص 257 من القسم الأول من «الفتح الرباني».

[الكتاب السابع والعشرون] كتاب القصاص يجب على المكلف المختار العامد إن اختار ذلك الورثة وإلا فلهم الدية، وتقتل المرأة بالرجل والعكس. والعبد بالحر والكافر بالمسلم، والفرع بالأصل لا العكس، ويثبت القصاص في الأعضاء ونحوها، والجروح مع الإمكان. ويسقط بإبراء أحد الورثة، ويلزم نصيب الآخرين من الدية. وإذا كان فيهم صغير ينتظر في القصاص بلوغه. ويهدر ما سببه من المجني عليه. وإذا أمسك رجل وقتل آخر قتل القاتل وحبس الممسك. وفي قتل الخطأ الدية والكفارة وهو ما ليس بعمد (¬1)، أو من صبي أو مجنون، وهي على العاقلة (¬2) وهم العصبة. ¬

(¬1) انظر: «مجموع الفتاوى» (20/ 382). (¬2) العاقلة: هي العصبة والأقارب من قبل الأب الذين يعطون الدية قتيل الخطأ وهي صفة جماعة عاقلة. «النهاية» (3/ 278). العقل الدية وأصله: أن القاتل كان إذا قتل قتيلًا جمع الدية من الإبل فعقلها بفناء أولياء المقتول: شدها في عقلها ليسلمها إليهم ويقبضوها منه فسميت الدية عقلًا بالمصدر. «النهاية» (3/ 278).

[الكتاب الثامن والعشرون] كتاب الديات [الباب الأول: أحكام الدية والشجاج] دية الرجل [12] المسلم مائة من الإبل، أو مائتا بقرة، أو ألفا شاة، أو ألف دينار، أو اثنا عشر ألف درهم، أو مائتا حلة، وتغلط دية العمد وشبهه بأن يكون المائة من الإبل في بطون أربعين منها أولادها، ودية الذمي نصف دية المسلم ودية المرأة نصف دية الرجل. والأطراف وغيرها كذلك في الزائد على الثلث، وتجب الدية كملة في العينين، والشفتين، واليدين , والرجلين، والبيضتين، وفي الواحدة منها نصفها، وكذلك تجب كاملة في الأنف واللسان، والذكر، والصلب (¬1) وأرش المأمومة (¬2) والجائفة (¬3) ثلث دية المجني عليه، وفي المنقلة (¬4) عشر الدية ونصف عشرها، وفي الهاشمة (¬5) عشرها، وفي كل إصبع عشرها، وفي كل سن نصف عشرها، وكذا في الموضحة (¬6)، وما عدا هذه المسماة فيكون ارشه ¬

(¬1) الصلب: أي إن كسر الظهر فحدب الرجل ففيه الدية، وقيل أراد إن أصيب صلبه بشيء حتى أذهب الجماع، فسمي الجماع صلبًا؛ لأن المني يخرج منه. (¬2) المأمومة: وهما الشحة التي بلغت أم الرأس، وهي الجلدة التي تجمع الدماغ. «النهاية» (1/ 68). (¬3) الجائفة: هي الطعنة لتي تنفذ إلى الجوف يقال: جفته إذا أصبت جوفه، وأجفته الطعنة وجفته بها، والمراد بالجوف هاهنا: كل ما له قوة محيلة كالبطن والدماغ. (¬4) المنقلة من الجراح: ما ينقل العظم عن موضعه. «النهاية» (1/ 317). (¬5) الهاشمة: هي التي تهشم العظم- أي تكسره. (¬6) الموضحة: هي التي تكشف العظم بلا هشم.

بمقدار (¬1) نسبته إلى أحدها تقريبًا، وفي الجنين إذا خرج ميتًا (¬2) الغرة، وفي المملوك قيمته وأرشه بحسبها (¬3). [الباب الثاني] باب القسامة (¬4) إذا كان القاتل من جماعة محصورين ثبتت وهي خمسون يمينًا، يختارهم (¬5) ولي القتيل والدية إن نكلوا عليهم وإن حلفوا سقطت، وإن التبس الأمر كانت من بيت المال. ¬

(¬1) قال في «الدراري» (2/ 411): «الموضحة إذا كان أرشها نصف عشر الدية كما ثبت عن الشارع نظرنا إلى ما هو دون الموضحة من الجناية، فإن أخذت الجناية نصف اللحم وبقي إلى العصب كان أرش هذه الجناية نصف أرش الموضحة وإن أخذت ثلثه كان الأرش ثلث أرش الموضحة، ثم هكذا وكذلك إذا كان المأخوذ بعض الأصبع كان أرشه بنسبة ما أخذ من الأصبع إلى جميعها فأرش نصف الأصبع نصف عشر الدية ثم كذلك ... ». (¬2) قال في «الدراري» (2/ 412): «وإذا خرج الجنين حيًّا ثم مات من الجناية ففيه الدية أو القر، وهذل إنما هو في الجنين الحر». وانظر: «النيل» (7/ 69 - 72). (¬3) قال في «الدراري» (2/ 412 - 413): « ... فلا خلاف في ذلك، وإنما اختلفوا إذا جاوزت قيمة دية الحر هل تلزم أم لا ولأولى اللزوم، وأرش الجناية عليه منسوب عليه من قيمته فما كان فيه في الحر نصف الدية أو ثلثها أو عشرها ونحو ذلك ففيه في العبد نصف القيمة أو ثلثها أو عشرها ونحو ذلك». (¬4) القسامة: بالفتح: اليمين، كالقسم، وحقيقتها أن يقسم من أولياء الدم خمسون نفرًا على استحقاقهم دم صاحبهم، إذا وجدوه قتيلًا بين قوم ولم يرف قاتله، فإن لم يكونوا خمسين؛ أقسم الموجودون خمسين يمينًا، ولا يكون فيهم صبي ولا امرأة، ولا مجنون، ولا عبد، أو يقسم بها المتهمون على نفي القتل عنهم، فإن حلف المدعون استحقوا الدية، وإن حلف المتهمون لم تلزمهم الدية. «النهاية» (4/ 62). «التحرير» (ص 339). (¬5) قال في «السيل» (3/ 659): وليس في هذا- يعني حديث القسامة- ما يدل على أن لمدعي القسامة أن يختار لليمين من أراد.

[الكتاب التاسع والعشرون] كتاب الوصية تجب على من له ما يوصي فيه، ولا تصح: ضرارًا. ولا لوارث (¬1)، ولا في معصية، وهي القرب من الثلث (¬2). ويجب تقديم قضاء الديون. ومن لم يترك ما يقضي دينه قضاه السلطان من بيت المال. [الكتاب الثلاثون] كتاب المواريث هي مفصلة في الكتاب العزيز، ويجب الابتداء بذوي الفروض المقدرة (¬3)، وما بقي فللعصبة (¬4) والأخوات مع البنات عصبة (¬5). ولبنت الابن مع البنت السدس تكملة الثلثين، وكذا الأخت لأب مع الأب لأبوين، والأخ لأبوين أقدم من الأخ والأخت لأب، وللجدة أو الجدات والسدس مع عدم الأم، وهو للحد مع من لا يسقطه، ولا ¬

(¬1) إلا أن يجيز ذلك الورثة، كما أومأ إليه في «الدراري» (2/ 420). (¬2) قال في «السيل» (3/ 668): أن من وارث لم يصح تصرفه في زيادة على الثلث، ومن لا وارث له يصح تصرفه في جميع ماله إذا لم يخش عليه الحاجة إلى الناس، والوقوع في المسألة المحرمة ولا فرق بين المرض والصحة .... (¬3) الفروض المقدرة: هي النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس وأصحابها اثنا عشر وارثًا هم: الأم والأب والزوج والزوجة والجد والجدة والبنت وبنت الابن والأخت الشقيقة والأخت لب والأخ لأم والأخت لأم. وانظر: سورة النساء (176،12،11). (¬4) العصبة هم قرابات اشخص من قبل الأب. (¬5) قال في «الدراري» (2/ 413): «أي يأخذن ما بقي من غير تقدير كما يأخذ الرجل بعد فروض أهل الفرائض فلحديث ابن مسعود عند البخاري- رقم 6736 - أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى في بنت وبنت ابن وأخت بأن للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت.

ميراث للإخوة والأخوات مطلقًا مع الابن أو ابن الابن أو الأب، وفي ميراثهم مع الجد خلاف، ويرثون مع البنات إلا الإخوة لأم، ويسقط الأخ لأب مع الأخ لأبوين. وأولو الأرحام يتوارثون وهم أقدم من بيت المال، فإن تزاحمت الفرائض فالعول (¬1)، ولا يرث ولد الملاعنة والزانية إلا من أمه وقرابتها والعكس، ولا يرث المولود إلا إذا استهل وميراث العتيق لمعتقه، ويسقط بالعصبات وله الباقي بعد ذوي السهام (¬2)، ويحرم بيع الولاء وهبته، ولا توارث بين أهل ملتين، ولا يرث القاتل من المقتول. ¬

(¬1) العول: يقال: عالت الفريضة: إذا ارتفعت وزادت سهامها على أصل حسابها الموجب عن عدد وارثيها، كمن مات وخلف ابنتين، وأبوين وزوجة، فللابنتين الثلثان، وللأبوين السدسان، وهما الثلث، وللزوجة الثمن، فمجموع السام واحد وثمن واحد، فاصلها ثمانية، والسهام تسعة، وهذه المسألة تسمى في الفرائض: المنبرية؛ لأن عليًّا رضي الله عنه سئل عنها وهو على المنبر فقال من غير روية: «صار ثمنها تسعًا». «النهاية» (3/ 321). (¬2) انظر: «الدراري» (2/ 445) و «المغني» (6/ 349).

[الكتاب الحادي والثلاثون] [كتاب الجهاد والسير] [الفصل الأول: أحكام الجهاد] الجهاد: فرض كفاية، مع كل بر وفاجر إذا أذن الأبوان. وهو مع إخلاص النية يكفر الخطايا إلا الدين، وتلحق به حقوق الآدمي، ولا يستعان فيه بالمشركين إلا لضرورة، وتجب على الجيش طاعة أميرهم إلا في معصية الله، وعليه مشاروتهم والرفق بهم وكفلهم عن الحرام، ويشرع للإمام إذا أراد غزوًا أن يكتم حاله أو يوري بغير ما يريده، وإن يذكي العيون ويستطلع الأخبار، ويرتب الجيوش ويتخذ الرايات (¬1) والألوية، وتجب الدعوة قبل القتال إلى إحدى ثلاث خصال: إما الإسلام أو الجزية أو السيف، ويحرم: قتل النساء والأطفال والشيوخ إلا لضرورة (¬2)، والمثلة والإحراق بالنار. والفرار عن الزحف إلا إلى فئة ويجوز تبييت الكفار، والكذب في الحرب. والخداع (¬3). [الـ] فصل [الثاني: أحكام الغنائم] وما غنمه الجيش كان لهم أربعة أخماسه وخمسه، يصرفه الإمام في مصارفه، ويأخذ الفارس من الغنيمة ثلاثة أسهم والراجل سهمًا، ويستوي في ذلك القوي والضعيف ومن قاتل ومن لم يقاتل، ويجوز تنفيل (¬4) بعض الجيش، وللإمام .......................... ¬

(¬1) الرايات: جمع راية، والألوية: جمع لواء: هما علم الجيش. قيل: هما بمعنى وقيل: بل اللواء دون الراية. وهذا أظهر، فاللواء: علامة لمحل الأمير معه حيث دار. والراية: يتولاها صاحب الحرب. «تاج العروس» (10/ 160). (¬2) قال في «الدراري» (2/ 467): إذا كان ذلك لضرورة كأن يتترس بهم المقاتلة أو يقاتلون. (¬3) قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (12/ 45): واتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب كيفما أمكن إلا أن يكون فيه نقض عهد. (¬4) نفله تنفيلًا: أي: أعطاه نفلًا. والنفل: زيادة يزادها الغازي على نصيبه من الغنيمة. وانظر: «أضواء البيان» (2/ 384).

الصفي (¬1) وسهمه كأحد الجيش، ويرضخ (¬2) من الغنيمة لمن حضر، ويؤثر المؤلفين إن رأى في ذلك صلاحًا، وإذا رجع ما أخذه الكفار من المسلمين كان لمالكه (¬3)، ويحرم الانتفاع بشيء من الغنيمة قبل القسمة إلا الطعام والعلف، ويحرم الغلول، ومن جملة الغنيمة الأسرى، ويجوز القتل أو الفداء أو المن. [الـ] فصل [الثالث: أحكام الأسير والجاسوس والهدنة] ويجوز استرقاق العرب، وقتل الجاسوس، وإذا أسلم الحربي قبل القدرة عليه أحرز أمواله، وإذا أسلم عبد الكافر صار حرًّ، والأرض المغنومة أمرها إلى الإمام فيفعل ¬

(¬1) الصفي: أن يختص الإمام من الغنيمة بشيء لا يشاركه فيه غيره وفي ذلك أقوال منها: 1 - أنه قد حكى الجماع جماعة على خصوصيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، وأنه ليس لأحد بعده. انظر: «الأموال» لأبي عبيد (ص 14، 17)، «روح المعاني» للآلوسي (10/ 3). 2 - أنه لم يفهم أحد من الصحابة والتابعين من الأخبار الواردة أنه لمن بعده ولا أفتوا به- فيما أعلم- بل قال الإمام الشافعي: الأمر الذي لم يختلف فيه أحد من أهل العلم عندنا علمته ولم يزل يحفظ من قولهم أنه ليس لأحد ما كان لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صفي الغنيمة. انظر: «معرفة السنن» (9/ 217). 3 - أنه لم يدع الصفي أحد من الخلفاء بعده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى ولا من بعدهم في القرون المفضلة. وسبب هذه الأمور التي قدمت أنه قد جاء في غير حديث مما في الباب ما يشير إلى اختصاصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، ففي رواية: « ... وأديتم الخمس من المغنم وسهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسهم الصفي» وفي رواية: «كان للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سهم يدعى الصفي ... ». وانظر تخريج هذه الأحاديث وغيرها والتعليق عليها في «السيل» (3/ 743 - 745). (¬2) الرضخ: الغطية القليلة. «النهاية» (2/ 228). (¬3) قال في «السيل» (3/ 750): لم يثبت ما يدل على أنه يخرج عن ملكه حتى عن ملكه حتى يقال: هو أولى به من قبل القسمة وبعدها بالقيمة، بل هو باقِ على ملك مالكه، وأخذه منه على غير ما أذن به الشرع لا يترتب عليه حكم الملك أصلًا، فيأخذه قبل القسمة وبعدها، ولا يلزمه شيء، ويرجع من قد صار في نصيبه بالقسمة على الغنيمة فيعطى منها بقدر ما استحق، ولا فرق بين العبد وغيره».

الأصلح من قسمتها أو تركها مشتركة بين الغانمين أو بين جميع المسلمين، ومن أمنه أحد المسلمين صار آمنًا، والرسول كالمؤمن، وتجوز مهادنة الكفار ولو بشرط وإلى أجل أكثره عشر سنين، ويجوز تأييد (¬1) المهادنة بالجزية، ويمنع المشركون وأهل الذمة من السكون في جزيرة العرب. [الـ] فصل [الرابع: حكم قتال البغاة] ويجب قتال البغاة حتى يرجعوا إلى الحق، ولا يقتل أسيرهم، ولا يتبع مدبرهم، لا يجاز على جريحهم، ولا تغنم أموالهم. [الـ] فصل [الخامس: من أحكام الإمامة] وطاعة الأئمة واجبة إلا في معصية الله، ولا يجوز الخروج عليهم ما أقاموا الصلاة ولم يظهروا كفرًا بواحًا، ويجب الصبر على جورهم، وبذل النصيحة لهم، وعليهم الذب على المسلمين وكف يد الظالم، وحفظ ثغورهم، وتدبيرهم بالشرع في الأبدان والأديان والأموال، وتفريق أموال الله في مصارفها، وعدم الاستئثار بما فوق الكفاية بالمعروف، والمبالغة في إصلاح السيرة والسريرة. وإلى هنا انتهى المختصر بخط مؤلفه محمد بن علي بن محمد الشوكاني غفر الله لهم. آمين آمين. ¬

(¬1) قال في «السيل» (3/ 769): وأما كون المدة معلومة فوجهه أنه لو كان الصلح مطلقًا أو مؤبدًا؛ لكان ذلك مبطلًا للجهاد الذي هو من أعظم فرائض الإسلام، فلا بد من أن يكون مدة معلومة على ما يرى الإمام من الصلاح، فإذا كان الكفار مستظهرين وأمرهم مستعلنًا جاز له أن يعقده على مدة طويلة ولو فوق عشر سنين، وليس في ذلك مخالفة لعقده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للصلح الواقع مع قريش عشر سنين، فإنه ليس في هذا ما يدل على أنه لا يجوز أن تكون المدة أكثر من عشر سنين إلا اقتضت ذلك المصلحة.

بحث في دم الخيل ودم بني آدم هل هو طاهر أن نجس

بحث في دم الخيل ودم بني آدم هل هو طاهر أن نجس تأليف محمد بن على الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله الأكرمين، وصحبه الميامين. وبعد: فإنه وصل هذا السؤال من سيدي عز المعالي، وسيف الخلافة المتلالي محمد بن أمير المؤمنين المتوكل على الله- رضوان الله عليه-. وحاصله: حصلت بيننا مذاكرة في دم الخيل (¬1)، ودم بني آدم، هل هو طاهر أم نجس؟ فقلنا: إن كل جم ليس بنجس إلا دم الحيض، ودم النفاس، ولا ينقض الوضوء؛ فالنبي- صلى الله ¬

(¬1) الدم: هو السائل الأحمر الذي يجري في عروق الإنسان والحيوان. الدم إما أن يكون مسفوحًا أو غير مسفوح. 1 - الدم المسفوح: فهو الدم السائل الخارج من العروق، وهو نجس ويستثنى من ذلك دم الشهيد ما دام عليه. واحتباسه في العروق هو سبب نجاسة الميتة. ولا يجوز أكل الدم المسفوح كله؛ لنه إذا اغتذى به الإنسان زادت فيه الشهوة والغضب وطغت على العدل. ومن الدم المسفوح: الدم الخارج من فرج المرأة وهو أربعة أنواع: أ- دم مقطوع بأنه حيض، وهو دم البالغة في عادتها. ب- دم مقطوع بأنه استحاضة، وهو دم الصغيرة. ج- دم يحتمل الأمرين، والأظهر أنه حيض. د- دم يحتمل الأمرين، والأظهر أنه استحاضة. 2 - الدم غير المسفوح: وهو الدم غير السائل كالكبد والطحال المأكولين ودم الذباب والبق والبراغيث، والدم الذي ما زال في العروق، والدم العالق في اللحم؛ فإنه غير نجس ويجوز أكله، ولذلك كان غسل الذبيحة بدعة، وكذا غسل سكين القصاب بدعة، ولكن لا يجوز تتبعه وأكله كما يفعل اليهود. انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (17/ 179) (21/ 631). (21/ 228) «شرح العمدة» (1/ 21).

عليه وآله وسلم- احتجم ولم يتوضأ. وأما نواقض الوضوء فما هي إلا ما خرج من السبيلين. وأما مثل اللغو أو الفحش ففيه الاستغفار لا غير. فأفيدوا مما أجبنا عليهم بأدلة واضحة؛ لأنهم إذا أوضحنا لهم أسوة الرسول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قالوا: أهل البيت- عليهم السلام- بال دليل ولا برهان، إنما هم يخبطون خبط عشواء فالعجب كل العجب من ذلك!. أقول:- وبالله الثقة، وعليه التوكل-: ينيغي هاهنا تقديم مقدمة، وهي هل الأصل في الحيوانات الحل أو التحريم. الحق أن الأصل الحل إذا كان مستطابًا غير ضار، ولا يخرج عن ذلك إلا ما حرمه الشارع، أو كان ضارًّا، أو غير مستطاب، بل تستخبثه النفس. وقد دل القرآن الكريم على أصالة الحل فقال- سبحانه-: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة} (¬1) إلى آخر الآية. وقال- سبحانه-: {أحل لكم الطيبات} (¬2) وقال- سبحانه-: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} (¬3)، وقال تعالى: {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعًا منه} (¬4). وفي الصحيحين (¬5) وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: «إن أعظم المسلمين جرمًا، من سأل عن شيء لم يحرم فحرم ¬

(¬1) [الأنعام: 145]. (¬2) [المائدة: 5]. (¬3) [الأعراف 32]. (¬4) [البقرة: 29]. (¬5) أخرجه البخاري رقم (7289) ومسلم رقم (2358).

عليهم لأجل مسألته». وأخرج الترمذي (¬1)، وابن ماجه (¬2) عن سلمان الفارسي قال: سئل رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عن السمن والجبن والفراء فقال: «الحلال ما أحله الله في كتابه، والحرام ما حرمه الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا لكم». فدلت هذه الأدلة العامة أن الأصل في جميع الحيوانات التي لم تكن مستخبثة، من غير فرق بين الأهلية والوحشية. ومن زعم أن شيئًا فيها [1 أ] حرامًا فإن الدليل على ذلك على وجه تقوم به الحجة غير معارض بمثله، أو بما هو أرجح منه كان مقبولًا، وذلك كما ورد في تحريم كل ذي ناب من السباع (¬3)، ومخلب من الطير (¬4)، فإنه تخصيص من تلك العمومات الكلية، وكما ورد في تحريم الحمار الأهلي (¬5)، والبغال، فإنه كذلك مخصص من تلك العمومات، وكذلك تحريم الخبائث (¬6) المصرح بتحريمها في الكتاب العزيز. وإذا لم يأت المدعي للتحريم بدليل صحيح صاف عن شوائب الكدر، غير معارض بمثله، أو بما هو أرجح منه كان مردودًا، أو يكفي القائل بالتحليل المنع كما هو مقرر في ¬

(¬1) في «السنن» رقم (1726) وقال: حديث غريب، لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه ... وسألت البخاري عن هذا الحديث؟ فقال: ما أراه محفوظًا ... ". (¬2) في «السنن» رقم (3367). وهو حديث ضعيف. (¬3) أخرج البخاري في صحيحه رقم (5530) ومسلم رقم (1932) وأبو داود رقم (3820) والترمذي رقم (1477) والنسائي (7/ 200 رقم 4352) من حديث أبي ثعلبة الخشني: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع». (¬4) أخرج مسلم في صحيحه رقم (16/ 1934) من حديث ابن عباس قال: «نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير». (¬5) أخرج البخاري رقم (4226) ومسلم رقم (31/ 1938) من حديث البراء بن عازب: «أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الإنسية». (¬6) قال تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف: 157].

علم المناظرة، ولا يحتاج إلى الاستدلال، بل الاستدلال على مدعي التحريم. إذا تقرر لك هذا فمدعي تحريم الخيل (¬1) عليه الدليل، ويكفينا القيام في مقام المنع، فإذا لم يأت ¬

(¬1) ذهبت الهادوية ومالك وهو المشهور عند الحنفية إلى تحريم أكلها واستدلوا بحديث خالد بن الوليد: «نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن لحوم الخيل والبغال والحمير وكل ذي ناب من السباع». - أخرجه أبو داود رقم (3790) وابن ماجه رقم (3198) والنسائي (7/ 202) وأحمد (4/ 89) والدارقطني (4/ 287 رقم 61) وإسناده ضعيف لضعف صالح بن يحيى المقدام، قال البخاري فيه نظر، والراوي عنه وهو أبوه لم يوثقه إلا ابن حبان، وهو حديث ضعيف. - واستدلوا بقوله تعالى: {لتركبوها وزينة} [النحل: 8]. قالوا: أن الله المنصوصة تقتضي الحصر، فإباحة أكلها خلاف ظاهر الآية. قيل لهم: بأن كون العلة منصوصة لا تقتضي الحصر فيها، فلا تفيد الحصر في الركوب والزينة فإنه ينتفع بها في غيرهما اتفاقًا، وإنما نص عليهما لكونهما أغلب ما يطلب، ولو سلم الحصر لامتنع حمل الأثقال على الخيل والبغال والحمير ولا قائل به. - قالوا: من وجود دلالة الآية على تحريم الآكل عطف البغال والحمير فإنه دال على اشتراكهما معها حكم التحريم، فمن أفرد حكمهما عن حكم ما عطف عليه احتاج إلى دليل. قيل لهم: أن هذا من دلالة الاقتران وهي ضعيفة. قالوا: من وجود دلالة الآية أنها سبقت للامتنان، فلو كانت مما يؤكل لكان الامتنان به أكثر؛ لأنه يتعلق ببقاء البينة، والحكيم لا يمتن بأدنى النعم ويترك أعلاها سيما وقد امتن بالأكل فيما ذكر قبلها. قيل لهم: بأنه تعالى خص الامتنان بالركوب؛ لأنه غالب ما ينتفع بالخيل فيه عند العرب فحوطوا بما عرفوه وألقوه كما حوطوا في الأنعام بالأكل وحمل الأثقال؛ لأنه كان أكثر انتفاعهم بها لذلك، فاقتصر في كل من الصفين بأغلب ما ينتفع به عليه. قالوا: من وجود دلالة الآية أنه لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة التي امتن بها وهي الركوب والزينة. قيل: بأنه لو لزم من الإذن في أكلها أن تغني للزم مثله في البقر ونحوها، مما أبيح أكله ووقع الامتنان به لمنفعة أخرى. - وقيل لهم: أن آية النحل مكية اتفاقًا، والإذن في أكل الخيل كان بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنين. - أن آية النحل ليست نصًّا في تحريم الأكل والحديث صريح في جوازه ولو سلم ما ذكر كان غايته الدلالة على ترك الأكل وهو أعم من أن يكون للتحريم أو للتنزيه أو لخلاف الأولى، وحيث لم يتعين هذا واحد لا يتم التمسك، فالتمسك بالأدلة المصرحة بالجواز أولى.

بالدليل قامت عليه الحجة، وبطلت دعواه، واسترحنا من الكلام معه، والاستدلال عليه (¬1). وهذه الجملة معلومة من علم المناظرة، لا خلاف بين أهله في ذلك، وكما أن هذا معلوم في علم المناظرة فهو أيضًا معلوم في علم أصول الفقه، فإن المتمسك بالعام لديهم لا يتزحزح عن ذلك العموم إلا إذا اعتقد من يدعي خلافه بالمخصص الصالح للاحتجاج به، وإلا فقوله رد عليه. إذا تقرر لك هذا فاعلم أن القائل بأن الخيل لا يحل أكلها، وأنها كالحمير، والبغال لا بد أن يأتي بدليل تقوم به الحجة، وإلا فالواجب البقاء على تلك العمومات السابقة، فإن استدل على تحريمها بقول الله- عز وجل-: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها} (¬2) الآية. قلنا له: هذه الآية ليس فيها شيء من الدلالة على ما تريد، وبيانه أن الله- سبحانه- إذا ذكر لشيء من مخلوقاته فائدة، أو فائدتين، أو فوائد، فذلك لا يدل على أن لا يوجد فيها [1 ب] غير ما ذكره الله- سبحانه-، وهذا لا يخالف فيه أحد ممن يعرف العلوم الآلية، ويدري بلغة العرب، وبأسرارها المبينة في علم المعاني والبيان، وفي علم أصول الفقه. وقد ذكر الله- سبحانه- في الإبل فوائد ومنها: {وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه} (¬3) الآية، وهكذا سائر الحيوانات التي أحلها لا يستلزم ذكر فائدة من فوائدها أن تكون هي المرادة، ولا يجوز غيرها، وهذا أمر مجمع عليه بين أهل العلم، ومع هذا فهذه الآية التي استدلوا بها مكية وقد تعقبها التحليل بالمدينة كما سيأتي بيانه. ¬

(¬1) سيأتي ذكره. (¬2) [النحل: 8]. (¬3) [النحل: 7].

وإذا عرفت أنه لا دليل لهم فها نحن نتبرع بذكر الدليل الدال على الحل، وإن لم يكن ذلك مما يلزم؛ لأن مجرد المنع والوقوف عليه يكفي، ولكن اسمع أدلة الحل حتى ينشرح صدرك بالحق الحقيق بالقبول فنقول: ثبت في الصحيحين (¬1) وغيرهما (¬2) من حديث جابر أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- «أذن في لحوم الخيل»، وثبت أيضًا في الصحيحين (¬3) وغيرهما من حديث أسماء بنت أبي بكر قالت: «ذبحنا على عهد رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فرسًا ونحن بالمدينة فأكلناه». وفي لفظ أحمد (¬4): «فأكلناه نحن وأهل بيته «وقد اقتصرنا هاهنا على هذين الحديثين الثابتين في صحيح البخاري، والمتواتر قطعي الدلالة لا يحل مخالفته بالظنيات، وإن كثر عددها، فكيف وليس هنا دليل يفيد أن الصحابة أجمعوا على حل أكل الخيل، وكذلك أخرج ابن أبي شيبة (¬5) عن ابن جريج مثل ذلك، وهما تابعيان مميزان لا يخفى عليهم ما كان عليه الصحابة بلا شك ولا ريب، فعرفت بما ذكرنا أن حل لحوم الخيل مدلول عليه بعموم الآيات القرآنية، والمتواتر من السنة المطهرة، وبإجماع الصحابة، وبعض البعض من هذا يكفي، لا سيما مع عدم وجود دليل يتمسك به القائل بالتحريم، بل يكفي مجرد القيام مقام المنع كما تقدم، فأعجب من القائل بالتحريم كيف خفي ليه مثل هذا! ومع هذا هو مذهب الإمام زيد بن على كما حكاه الإمام الهدي عنه في البحر الزخار (¬6)، بل هو ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (4219) ومسلم في صحيحه رقم (1941). (¬2) أبي داود رقم (3788) والترمذي رقم (1478) والنسائي (7/ 202). وهو حديث صحيح. (¬3) أخرجه البخاري رقم (5510) ومسلم رقم (1943). (¬4) في «المسند» (6/ 354) بسند صحيح. (¬5) في «المصنف» (8/ 67 - 70) بسند صحيح. (¬6) (4/ 330).

قول أمير المؤمنين، وسيد المسلمين علي بن أبي طالب رضي اله عنه كما حكاه في الجامع الكافي (¬1) جامع مذهب آل محمد ولفه: وروى محمد بإسناده [2 أ] عن زيد بن علي عن علي رضي الله عنه أنه قال: يحل أكل الخيل العراب. انتهى. وإذا عرفت أن الخيل حلال فدمها طاهر كما ذهب إليه الجمهور، وهو الحق (¬2) الذي لا شك فيه، ولم يسمع القول بنجاسة الدم لا في زمن الصحابة، ولا التابعين، وهذا يعرفه كل من يعرف مذاهب أهل العلم، وهذا في غير دم الحيض والنفاس، وما خرج من السبيلين. وإلى هذا ذهب جماعة من أهل البيت منهم: زيد بن علي، والإمام الباقر محمد بن علي بن الحسين بن علي- رضي الله عنهم- وقد روى عنه صاحب الجامع الكافي (¬3) جامع آل محمد أنه قال: إذا رأيت في ثوب أخيك دمًا وهو يصلي فلا تخيره حتى ينصرف، وروى عنه أنه قال: لا تعاد الصلاة من نضخ دم. وروى صاحب الجامع الكافي بإسناده عن علي رضي الله عنه أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- توضأ ثم أمس إبهامه أنفه، فإذا دم فأعاد مرة أخرى، فلم ير شيئًا فأهوى بيده إلى الأرض فمسحه، ولم يحدث وضوءًا، ومضى إلى الصلاة. ورواه أيضًا عن أمير المؤمنين- رضي الله عنهم- زيد بن علي بإسناده. وقد كان الصحابة- رضي الله عنهم- تتمضخ ثيابهم بالدماء عند الجهاد، ولم يؤثر عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه أمر أحدًا منهم بغسل ثوبه، أو ينزعه عنه حال الصلاة. ومن ذلك الصحابي الذي أرسله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يقف في ¬

(¬1) «الجامع الكافي (جامع آل محمد)». تأليف: الحسن بن محمد الحسني الديلمي. انظر «مؤلفات الزيدية» رقم (1029). (¬2) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (21/ 520). (¬3) تقد ذكره.

محل الحراسة للمجاهدين، فإنه جاء في ظلمة الليل رجل من الكفار فرآه مستقيمًا يصلي، فرماه مرة بعد مرة ن والسهام تصيبه، ولم يخرج من الصلاة حتى أتمها، ثم أتى النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فعاتبه على صبره على ذلك، ولم يأمر بنزع الثياب التي عليه للصلاة، ولا أنكر عليه إتمامه للصلاة. وهذه الحديث في البخاري (¬1) من حديث جابر مختصرًا. وأخرج غيره (¬2) مطولًا. والقصة مشهورة معروفة في كتب السير (¬3) والحديث، وقد استدل القائلون بنجاسة الدم بدليلين: الأول: قوله- عز وجل-: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتتة أو دمًا مسفوحًا} (¬4) الآية. وليس في هذه الآية دلالة قط؛ لأنها مسوقة لذكر ما يحرم أكله. ولهذا قال على طعم يطعمه، ولا ملازمة بين تحريم الأكل والنجاسة بوجه من الوجوه قط. ومن ادعى الملازمة فقد غلط غلطًا بينًا وأما استدلالهم بحديث عمار (¬5) فهو مما لا تقوم به حجة قط. ¬

(¬1) في صحيحه (10/ 280) تعليقًا. (¬2) كأبي داود في «السنن» رقم (198) وأحمد (3/ 343 - 344) والدارقطني (1/ 223 - 224) وابن خزيمة (1/ 24 - 25) وابن حبان رقم (1096) والحاكم في «المستدرك» (1/ 156 - 157) وهو حديث حسن. (¬3) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (3/ 291 - 292). «المغازي» للواقدي (1/ 397). (¬4) [الأنعام: 145]. (¬5) أخرجه الدارقطني (1/ 127) والبزار رقم (248 - كشف) وأبو يعلى في «المسند» (1/ 16) والبيهقي في «السنن الكبرى» (1/ 14) والعقيلي في «الضعفاء» (1/ 176) وابن عدي في «الكامل» (2/ 98) من طريق ثابت بن حماد عن علي بن زيد عن ابن المسيب عن عمار به. قال الدارقطني عقبه: لم يروه غير ثابت بن حماد وهو ضعيف جدًّا. وقال البيهقي: هذا باطل لا أصل له وإنما رواه ثابت بن حماد عن علي بن زيد عن ابن المسيب عن عمار. وعلي بن زيد غير محتج به وثابت بن حماد متهم بالوضع. انظر: «تلخيص الحبير «(1/ 33)، «مجمع الزوائد» (1/ 283). وخلاصة القول: أن حديث عمار موضوع. أما لفظه: «أتى علي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا على بئر أدلوا ماء في ركوة لي، فقال: يا عمار ما تصنع؟ قلت: يا رسول الله أغسل ثوبي من نخامة أصابتني، فقال: يا عمار إنما يغسل الثوب من خمس: من الغائط، والبول، والقيء، والدم، والمني. يا عمار ما نخامتك ودموع عينيك والماء الذي في ركوتك إلا سواء».

وقد اتفق علماء الحديث العارفون به على ضعفه من وجوه كثيرة ليس المقام مقام بسطها، واتفقوا [2 ب] على أنها لا تقوم به الحجة، فالبقاء على الأصل وهو الطهارة متعين. ومن جملة من ذهب من أهل البيت إلى أن خروج الدم لا ينقض الوضوء الإمام الناصر صاحب الجبل والديلم المعاصر للإمام الهادي يحيى بن الحسين قال: الأمير الحسين في الشفاء (¬1): قيل: روى أنس «أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- احتجم وصلى ولم يتوضأ». (¬2) ولم يزد على غسل محاجمه دل على أن ذلك لا ينقض الوضوء. وهو قول الناصر للحق وأتباعه. انتهى. وقد روى هذا الحديث الدارقطني (¬3) وقال المنذري في تخريج المهذب: أن إسناده حسن. وقال ابن العربي في خلافياته: أن الدارقطني رواه بإسناد صحيح (¬4). ¬

(¬1) (1/ 82 - 83). (¬2) أخرجه الدارقطني (1/ 151 رقم 2) وفي سنده «صالح بن مقاتل» قال عنه الدارقطني: يحدث عن أبيه، ليس بالقوي. وهو حديث ضعيف. (¬3) أخرجه الدارقطني (1/ 151 رقم 2) وفي سنده «صالح بن مقاتل» قال عنه الدارقطني: يحدث عن أبيه، ليس بالقوي. وهو حديث ضعيف. (¬4) قال ابن حجر في «التلخيص» (1/ 113 رقم 152) وادعى ابن العربي أن الدارقطني صححه، وليس كذلك، بل عقبه في «السنن» صالح بن مقاتل ليس بالقوي، وذكره النووي في فصل الضعيف. وفي الباب أحاديث تفيد عدم نقضه منها: عن بكير بن عبد الله المزني أن ابن عمر عصر بثرة بين عينيه، فخرج منها شيء ففته بين أصبعيه، ثم صلى ولم يتوضأ. بإسناده صحيح. أخرجه البخاري معلقًا (1/ 280). وعبد الرازق في «المصنف» (1/ 145 رقم 553) وابن أبي شيبة في «المصنف» (1/ 138)، والبيهقي (1/ 141) وابن المنذر في «الأوسط» (1/ 172 رقم 65). (ومنها): حديث ابن عباس قال: «إذا كان الدم فاحشًا فعليه الإعادة، وإن كان قليلًا فلا إعادة عليه». أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (1/ 172 رقم 64). وأخرج الشافعي كما في «التلخيص» (1/ 114) عن رجل عن ليث عن طاوس عن ابن عباس، قال: «اغسل أثر المحاجم عنك، وحسبك». (ومنها): عن عطاء ابن السائب قال: رأيت عبد الله بن أبي أوفى «بزق دمًا ثم قام فصلى». وإسناده صحيح. أخرجه البخاري تعليقًا (1/ 280). وابن المنذر في «الأوسط» (1/ 172 رقم 63).

ومما يلزم القائلين بنجاسة الدن أنهم استدلوا على طهارة ما خرج من سبيلي المأكولات من الحيوانات بحديث جابر (¬1) والبراء (¬2) بلفظ: «لا بأس ببول ما أكل لحمه»، وهذا الحديث وإن كان لا تقوم به حجة لكنهم لما استدلوا به وحكموا لما يؤكل لحمه بطهارة البول كان الدم أخف من البول، وكان يلزمهم أن يحكموا بطهارة دم ما يؤكل لحمه مع كونه خارجًا من أحد السبيلين، فكيف حكموا بنجاسة الدم الخارج منها! ولم يثبتوا إلا السمك (¬3) ...................................... ¬

(¬1) أخرجه الدارقطني في «السنن» (1/ 128) وهو حديث ضعيف جدًّا. (¬2) أخرجه الدارقطني في «السنن» (1/ 128) وهو حديث ضعيف جدًّا. (¬3) أما دم السمك فليس بدم على التحقيق؛ لأن الدم على التحقيق يسود إذا شمس، ودم السمك يبيض، لهذا يحل تناوله من غير ذكاة، ولأن طبع الدم حار وطبع الماء بارد، فلو كان للسمك دم لم يدم سكونه في الماء. وفي مبسوط شيخ الإسلام أنه ما أخذ أي ما يتغير، وقال: بعضهم هو دم ولكنه طاهر؛ لأنه لو كان نجسًا لأمر بالطهارة فصار حكمه حكم الكبد والطحال ودم يبقى في العروق كذا في «الإيضاح». وقال أبو يوسف: في قول الشافعي هو نجس إلحاقًا بسائر الدماء، وهو ضعيف. انظر: «البناية في شرح الهداية» (1/ 748).

والبق والبرغوث (¬1)، وما صلب على الجرح، وما بقي في العروق (¬2) بعد الذبح، بل ثبت (¬3) أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أمر أهل عرينة أن يشربوا من أبوال الإبل، وإنما ذكرنا هذا تقريبًا للأذهان؛ لتفهم أنه لا وجه للحكم بنجاسة الدم من الآدمي، ومن الخيل والإبل ونحوها من سائر المأكولات (¬4). وأما انتقاض الوضوء بتعمد الكذب والنميمة ونحوهما من المعاصي (¬5) فاستدل القائلون بذلك الحديث المروي عن أبي هريرة أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «رأى رجلًا مسبلًا إزاره في الصلاة، فأمر بإعادة الوضوء والصلاة» (¬6) ففي إسناده .................... ¬

(¬1) ودم البق والبراغيث ليس بشيء، وبه قال مالك وأحمد في رواية لأنه ليس بمسفوح، والمسفوح، ودم الحدأة والأوازغ نجس؛ لأنه دم سائل وما يبقى في العروق واللحم طهر لا يمنع جواز الصلاة، وإن كثر؛ لأنه ليس بمسفوح، ولهذا حل تناوله، وعن أبي يوسف أنه معفو عنه في الثياب لعدم الاحتراز فيه دون الثوب. انظر: «البناية في شرح الهداية» (1/ 748 - 749). (¬2) انظر التعليقة السابقة. (¬3) أخرجه البخاري رقم (233) ومسلم رقم (1671) وأبو داود رقم (4364) والنسائي (7/ 96 رقم 4029) والترمذي (1/ 106 رقم 72)، وابن ماجه رقم (2578). (¬4) انظر: «المغني» (1/ 248). (¬5) قال النووي في «المجموع» (2/ 73) قال ابن المنذر في كتابيه «الإشراف والإجماع» وابن الصباغ: أجمع العلماء على أنه لا يجب الوضوء من الكلام القبيح؛ كالغيبة والقذف وقول الزور، وغيرها. واحتج الشافعي ثم ابن المنذر وثم البيهقي وأصحابنا في المسألة بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من قال في حلفه باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لغيره تعالى أقامرك فليتصدق». أخرج البخاري رقم (4860) ومسلم رقم (5/ 1647). (¬6) أخرجه أبو داود رقم (638) و (4086). وهو حديث ضعيف لا تقوم به حجة، ولا يستدل به على نقض الوضوء بالمعاصي.

مجهول (¬1) فلا يصح الاستدلال به على انتقاض وضوء المسبل إزاره، فضلًا عن غيره من الفاعلين للكذب، وسائر المعاصي. واستدلوا أيضًا بقصة الأعمى التي أخرجها الطبراني في الكبير (¬2) عن أبي موسى قال: بينما النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يصلي بالناس إذ دخل رجل فتردى في حفرة كانت في المسجد، وكان في نضره ضرر فضحك كثير من القوم في الصلاة فأمر النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من ضحك أن يعيد الوضوء والصلاة. وفي إسناده محمد بن عبد الملك بن مروان الواسطي (¬3)، قال أبو داود (¬4): إنه لم يكن بمحكم العقل. ورواه البيهقي (¬5) عن أبي العالية مرسلًا، وقال: أما هذا فحديث مرسل، ومراسيل أبي العالية ليست بشيء، كان لا يبالي عمن أخذ. وقال الشافعي (¬6) حديث أبي ¬

(¬1) قيل: هو يحيى بن أبي كثير وهو يحيى بن أبي كثير اليمامي، أحد الأعلام الأثبات، ذكره العقيلي في كتابه ولهذا أوردته فقال: ذكر بالتدليس. انظر: «الميزان» رقم (9607). وقيل: هو كثير بن جهمان السلمي. انظر: «الميزان» (3/ 403). (¬2) كما في «مجمع الزوائد» (1/ 246) وقال الهيثمي: رواه الطبراني في «الكبير» وفيه محمد بن عبد الملك الدقيقي ولم أر من ترجمه وبقية رجاله موثقون. قلت: قد ترجم لمحمد بن عبد الملك المزي في «التهذيب» (26/ 24 - 29) وهو ثقة لا طعن فيه. وقال الزيلعي في «نصب الراية» (1/ 47): رواه الطبراني في معجمه. قلت وإسناده منقطع، أبو العالية لم يسمع من أبي موسى. وهو حديث ضعيف. (¬3) انظر ترجمته في «الميزان» (3/ 632 رقم 7893). وثقه مطين والدارقطني. وقال أبو حاتم: صدوق. (¬4) انظر «الميزان» (3/ 132 رقم 7893). (¬5) في «السنن» (1/ 144) وهو حديث ضعيف. (¬6) ذكره ابن عدي في «الكامل (3/ 1022).

العالية الرياحي رياح. وقال ابن عدي (¬1): أكثر ما ينقم على أبي العالية هذا الحديث، وقد جزم جماعة من الحفاظ أنه لم يصح في كون الضحك [3 أ] ينقض الوضوء شيء. وأقول: ما كان لأصحاب رسول الله الذين هم خير القرون (¬2) أن يضحكوا في صلاتهم أ لا سيما على مثل هذه القضية التي تقتضي البكاء لا الضحك، فأي سبب للضحك لسائر الناس في رجل ضرير تردى في حفرة، فكيف للصحابة المؤتمين بالصادق المصدوق- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-!، قال البيهقي (¬3): وليس في شيء من الروايات أنه أمرنا بالوضوء. وأخرج البيهقي (¬4) عن أبي الزناد قال: كان من أدركت من فقهائنا الذين ينتهي إليه منهم: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير (¬5)، والقاسم بن محمد (¬6)، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وخارجة بن زيد، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وسليمان بن يسار في مشيخة جلة سواهم يقولون عن من رعف غسل عنه الدم، ولم يتوضأ. وفي من ضحك في الصلاة إعادة صلاته ولم يعد منه وضوءه. انتهى. قلت: وهؤلاء السبعة الذي صرح بأسمائهم هم الفقهاء السبعة، الذين كانت تدور عليهم الفتيا في أيام التابعين، وقال الشاعر: ¬

(¬1) في «الكامل» (3/ 1028). (¬2) تقد م تخريجه مرارًا. (¬3) في «السنن» (1/ 145). (¬4) في «السنن» (1/ 145). (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (1/ 387) من طريق حماد بن سلمة عن هشام، قال: ضحك أخي في الصلاة فأمره عروة أن يعيد الصلاة ولم يأمره أن يعيد الوضوء. (¬6) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (1/ 387) من طريق عبد الرحمن بن القاسم، قال: ضحكت خلف أبي وأنا في الصلاة فأمرني أن أعيد للصلاة. وأخرجه عبد الرازق في مصنفه (2/ 377 رقم 3768 ورقم 3769).

ألا كل من لا يقتدي بأئمة ... فقسمته ضيزى عن الحق خارجه فقل هم عبيد الله عروة قاسم ... سعيد أبو بكر سليمان خارجه ويعمم غيرهم كما قال في مشيخة جلة سواهم، فعدم نقض الدم للوضوء هو إجماع التابعين (¬1)، ولو خالفهم غيرهم لبينوه، وهيهات أن يخالف هؤلاء الجبال غيرهم! وإجماعهم يدل على إجماع الصحابة كما ذكرنا لك سابقًا. ولو قال صحابي من كبارهم أو صغارهم ما خفي ذلك على ذلك هؤلاء الأئمة من التابعين، وحكم أجمع الصحابة والتابعون لا ينبغي أن يخالفهم مخالف. وأما كون الكذب والغيبة والنميمة ونحوها غير ناقض للوضوء فلا دليل على ذلك، ولا من كتاب، ولا من سنة. وما سبق في قصة المسبل إزاره، وفي قصة الضرير الذي تردى فقد عرفناك أنه لا يصلح للاستدلال به على القصتين المذكورتين، فكيف يستدل به على الكذب والغيبة والنميمة! ولم يوجب الله- سبحانه- على فاعل المعصية إلا التوبة [3 ب]. وإلى هنا كفاية. وقد أوضحت في مصنفاتي [هذا] (¬2) المسائل أكثر مما هنا. والله ولي التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل [4 أ]. ¬

(¬1) قال مالك في «المدونة الكبرى» (1/ 100): فيمن قهقه في الصلاة وهو وحده: يقطع ويستأنف، وإن تبسم فلا شيء عليه، وإن كان خلف إمام فتبسم فلا شيء عليه، وإن قهقه مضى مع الإمام، فإذا فرغ الإمام أعاد صلاته، وإن تبسم فلا شيء عليه. وقال الشافعي في «الأم» (1/ 21): لا وضوء من كلام وإن عظم ولا ضحك في صلاة ولا غيرها. وقال ابن هانئ في «مسائل أحمد بن هانئ» قال: وسألت أحمد عن الرجل يضحك في الصلاة؟ قال: يعيد الصلاة ولا يعيد الوضوء. وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل، لا يرى من الضحك في الصلاة وضوءًا. قال: لا أدري بأي شيء أعادوا الوضوء من الضحك، أرأيت لو سب رجلًا قال: أما أنا فلا أوجب فيه وضوءًا ليس تصح الرواية فيه. «مسائل أحمد» لأبي داود (13). (¬2) كذا في المخطوط ولعل الصواب (هذه).

جواب سؤال في نجاسة الميتة

جواب سؤال في نجاسة الميتة تأليف محمد بن على الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط 1 - عنوان الرسالة: جواب سؤال في نجاسة الميتة. 2 - موضوع الرسالة: في الطهارة. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله والطاهرين. وبعد: فإنه سأل سيدي العلامة المفضال، عماد الآل يحيى بن مطهر بن إسماعيل- كثر فوائده الرب الجليل- سؤىلًا جيد الإيراد .. 4 - آخر الرسالة: .. وفي هذا كفاية إن شاء الله. انتهى من خط شيخنا بدر الدين محمد بن علي بن محمد الشوكاني أبقاه الله، وكثر الله فوائده آمين. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - الناسخ: يحى بن مطهر بن إسماعيل. 7 - عدد الصفحات: 6 صفحات. 8 - عدد الأسطر في الصفحة: 25 سطرًا. 9 - عدد الكلمات في السطر: 10 - 12 كلمة. 10 - الرسالة من المجلد الرابع من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين: وبعد: فإنه سأل سيدي العلامة المفضال، عماد الآل يحيى بن مطهر بن إسماعيل (¬1) - كثر فوائده الرب الجليل- سؤالًا جيد الإيراد، فائق الإيراد ولفظه: سؤال: كيف يجمع بين حديث ابن عباس في شاة ميمونة «إنما حرم من الميتة أكلها» المتفق عليه (¬2)، وإن اختلف في بعض ألفاظه، فإنه يدل أن كل ما عدا الأكل جاز الانتفاع به، وبين حديث عبد الله بن عكيم: «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب، ولا عصب» (¬3) فكما هو كتبه من كتب الحديث، فإنه يدل أنه لا ينتفع منها بشيء. ¬

(¬1) يحيى بن مطهر بن إسماعيل ين يحيى بن الحسين بن القاسم ولد سنة 1190 هـ. طلب العلم على جماعة من مشايخ صنعاء كالقاضي العلامة عبد الله بن محمد مشحم. قال الشوكاني في «البدر» رقم (585): في ترجمة «يحيى بن مطهر بن إسماعيل» وهو حال تحرير هذه الترجمة يقرأ علي في العضد وحواشيه وفي شرح التجريد للمؤيد بالله ... وهو الآن في عمل تراجم لأهل العصر وقد رأيت بعضًا منها فوجدت ذلك فائتًا ... وقد سألني بسؤالات وأجتب عليها برسائل هي في «مجموعات الفتاوى». توفي سنة 1268 هـ. «البدر الطالع» رقم (585) و «التقصار» (ص438 - 439). «نيل الوطر» (2/ 411 - 414). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1492) ومسلم رقم (100/ 363). قلت: وأخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 498 رقم 16). عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجد شاة ميتة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هلا انتفعتم بجلدها؟ قالوا: إنها ميتة. فقال: إنما حرم أكلها». (¬3) أخرجه أحمد في «المسند» (4/ 310 - 311) والبخاري في تاريخه (7/ 167 رقم 743) وأبو داود رقم (4127) والترمذي رقم (1729) والنسائي (7/ 175) وابن ماجه رقم (3613) وقال الترمذي: حديث حسن. والبيهقي في «السنن الكبرى» (1/ 15) وابن حبان في صحيحه رقم (1274). وهو حديث صحيح.

وقد دفع (¬1) ما قيل فيه من الاضطراب أو الانقطاع، وعلى فرض فمعناه صحيح نطق به القرآن الكريم. قال الله تعالى: {قل لا أجد في ما أوحي ألي محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتتة أو دمًا مسفوحًا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقًا} (¬2). والظاهر من معنى الرجسية (¬3) تحريم الانتفاع لا الأكل فقط لما وقع البخاري (¬4) وغيره (¬5) من حديث جابر أنه لما قال النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» فقيل له: يا رسول أرأيت شحوم الميتة؛ فإنه يطلي بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: «لا، هو حرام- ثم قال-: قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه». ولحديث أبي هريرة (¬6) سئل رسول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عن سمن وقعت فيه فأرة؟ فقال: «ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم» وهو في .................. ¬

(¬1) انظر: «الإرواء» رقم (38). (¬2) [الأنعام: 145]. (¬3) الرجس: القدر، ويقد يعبر به عن الحرام والفعل القبيح، والعذاب، اللعنة، والكفر. «النهاية» (2/ 200). (¬4) في صحيحه رقم (2236) و (4633). (¬5) كمسلم في صحيحه رقم (1518) وأحمد (3/ 326،324) وأبو داود رقم (3486) وابن ماجه رقم (2167) والترمذي رقم (1297) والبيهقي (6/ 12) والنسائي (7/ 310،309). (¬6) أخرجه أحمد (2/ 490،265،233،232) وأبو داود رقم (3486) والترمذي في «السنن» (4/ 257) معلقًا وهو حديث شاذ. ولفظ حديث أبي هريرة «سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن فأرة وقعت في سمن فماتت. فقال: «إن كان جامدًا فخذوها وما حولها ثم كلوا ما بقي وإن كان مائعًا فلا تقربوه.». - وللفظ الذي ذكره المصنف من حديث ميمونة عند البخاري وغيره.

البخاري (¬1) وغيره (¬2). ولحديث ميمونة: «إذا وقعت الفأرة في السمن، فإن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وإن كان مانعًا فلا تقربوه». أخرجه أبو داود (¬3) والنسائي (¬4). فإنها صريحة في حرمة الانتفاع، وعلى ذكر الآية الكريمة، فإنه يشكل فائدة [1 أ] التنصيص على لحم الخنزير، فإنه يظهر له فائدة، ولم أر من نبه عليه بعد البحث. فالإفادة من حسناتكم مطلوبة. انتهى السؤال. ¬

(¬1) في صحيحه رقم (235) و (5540). (¬2) كمالك في الموطأ (2/ 971 - 972 رقم 20) وأبو داود رقم (3841) والنسائي (7/ 178) والترمذي رقم (1789) والدارمي (1/ 188) و (2/ 109) وأحمد (6/ 335،330،329) والحميدي (1/ 149 رقم 312) والبيهقي (9/ 353). كلهم من حديث ميمونة. (¬3) في «السنن» رقم (3843). (¬4) في «السنن» (7/ 178 رقم 4260)، كلاهما من حديث ميمونة.

[الجواب] أقول: الكلام على حديث عبد الله بن عكيم (¬1) إعلالًا، واضطرابًا، وتحسينًا، ¬

(¬1) وفي المسألة سبعة أقوال: - قيل: لا يطهر الدباغ شيئًا وهو مذهب الهادوية ومجموعة من الصحابة مستدلين حديث عبد الله بن عكيم حيث قالوا: فهذا ناسخ لحديث ابن عباس لدلالته على تحريم الانتفاع من المستة بإهابها وعصبها. - وفي الحديث أقوال منها: - أنه حديث مضطرب في سنده، فإنه روي تارة عن كتاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتارة عن مشايخ من جهينة، وتارة عمن قرأ كتاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومضطرب أيضًا في متنه، فروي من غير تقييد في روية الأكثر، وروي بالتقييد بشهر أو شهرين، أو أربعين يومًا أو ثلاثة أيام، ثم إنه معل أيضًا بالإرسال فإنه لم يسمعه عبد الله بن عكيم منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبالانقطاع فإنه لم يسمعه عبد الرحمن بن أبي ليلى من ابن عكيم، ولذلك ترك أحمد بن حنبل القول به آخرًا وكان يذهب إليه أولًا كما قال به الترمذي. - أنه لا يقوى على النسخ؛ لأن حديث الدباغ أصح، فإنه قد روي من طرق متعددة في معناه عدة أحاديث عن جماعة من الصحابة- سيأتي. ولأن الناسخ لا بد من تحقيق تأخره، ولا دليل على تأخر حديث ابن عكيم، ورواية التاريخ فيه بشهر أو شهرين معلة، فلا تقوم بها حجة على النسخ على أنها لو كانت رواية التاريخ صحيحة ما دلت على أنه آخر الأمرين جزمًا، ولا يقال: فإذا لم يتم النسخ تعارض الحديثان، حديث ابن عكيم وحديث ابن عباس ومن معه، ومع التعارض يرجع إلى الترجيح أو الوقف؛ لأنا نقول لا تعارض إلا مع الاستواء، وهو مفقود كما عرفت من صحبة حديث ابن عباس، وكثرة من معه من الرواة، وعدم ذلك في حديث ابن عكيم. - بأن الإهاب كما عرفت، اسم لما لم يدبغ في أحد القولين، وقال النضر بن شميل: الإهاب لما لم يدبغ، وبعد الدبغ يقال له: شن وقربة، وبه جزم الجوهري. قيل: فلما احتمل الأمرين، وورد الحديثان في صورة المتعارضين، جمعنا بينهما بأنه نهى عن الانتفاع بالإهاب ما لم يدبغ، فإذا دبغ لم يسم إهابًا، فلا يدخل تحت النهي. - وقيل: يطهر جلد الميتة المأكول لا غيره، ويرده عموم «أيما إهاب». - وقيل: يطهر الجميع إلا الخنزير إلا الخنزير، فإنه لا جلد له، وهو مذهب أبي حنيفة. - وقيل: يطهر إلا الخنزير لقوله: {فإنه رجس} [الأنعام: 145] والضمير للخنزير فقد حكم برجسيته كله، والكلب مقيس عليه بجامع النجاسة وهو قول الشافعي. - وقيل: يطهر الجميع لكن ظاهره دون باطنه فيستعمل في اليابسات دون ويصلي عليه، ولا يصلي فيه، وهو مروي عن مالك جمعًا منه بين الأحاديث التي تعارضت. - وقيل: ينتفع بخلود النية باطنه وظاهره، ولا يخص منه شيئًا، عملًا بطاهر حديث ابن عباس وما في معناه «المغني» (1/ 89 - 92)، «البناية في شرح الهداية» (1/ 363 - 364).

وتصحيحًا قد استوفيته في شرحي على المنتقى (¬1)، وهو من كتب السائل- كثر الله فوائده- فلا نطول البحث بالكلام عليه، فإن سؤال السائل إنما يتعلق بكيفية الجمع بين الحديثين، ثم ذكر ما رجح به أحد طرفي البحث في سؤاله هذا. واعلم أن حديث: «إنما من الميتة أكلها» (¬2) يدل بمفهوم الحصر على أن غير ¬

(¬1) (1/ 87). (¬2) وقد روي الحديث عن جماعة من الصحابة من طرق متعددة. 1 - عن ابن عباس رضي اله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر». أخرجه مسلم رقم (105/ 366) وأبو داود رقم (4123) والترمذي رقم (1728) وأحمد (1/ 219) والنسائي (7/ 173) وابن ماجه رقم (3609) وهو حديث صحيح. 2 - أ. عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ، ولا بأس بصوفها وشعرها وقرونها إذا غسل بالماء». أخرجه الدرقطني (1/ 47 رقم 19) والبيهقي (1/ 24) وأورده الهيثمي في «المجمع» (1/ 218) وقال: روه الطبراني في «الكبير» وفيه: يوسف بن السفر وقد أجمعوا على ضعفه. ب- عن أم سلمة أو غيرهما من أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ميمونة ماتت شاة لها، فقال رسول لله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألا استمتعتم بإهابها؟ فقالت: يا رسول الله كيف نستمتع وهي ميتة؟ فقال: طهور الأدم دباغه». أخرجه الدارقطني (1/ 48 رقم 22). ج- عن أم سلمة أنها كانت لها شاة تحتلبها، ففقدها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «ما فعلت الشاة؟ قالوا: ماتت، قال: أفلا انتفعتم بإهابها؟ قلنا: إنها ميتة، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن دباغها يحل كما يحل خل الخمر» أخرجه الدارقطني (1/ 49 رقم 28) وأورده الهيثمي في «المجمع» (1/ 218) وقال رواه الطبراني في «الكبير» و «والأوسط» تفرد به فرج بن فضالة وضعفه الجمهور. وقال الدارقطني: تفرد به فرج بن فضالة وهو ضعيف. 3 - ن أنس قال: كنت أمشي مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لي: «يا بني ادع لي من هذا الدار بوضوء فقلت: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطلب وضوءًا؟ فقالوا: أخبره أن دلونا جلد ميتة. فقال: سلهم: هل دبغوه؟ قالوا: نعم. قال: فإن دباغه طهوره». أخرجه أبو يعلى وفيه درست بن زياد عن يزيد الرقاشي وكلاهما مختلف في الاحتجاج به. وقال البوصيري: «في سنده يزيد الرقاشي وهو ضعيف». وانظر: «المطالب العالية» (1/ 12 رقم 25) عن أنس بن مالك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استوهب وضوءًا فقيل له: لم نجد ذلك إلا في مسك ميتة، قال: «أدبغتموه؟ قالوا: نعم، قال: فهلم ذلك طهوره». أخرجه الطبراني في «الأوسط» رقم (9215) وقال الهيثمي في «المجمع» (1/ 217) وإسناده حسن. 1 - عن سلمة بن المحبق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دباغ جلود الميتة طهورها». 2 - أخرجه ابن حبان في صحيحه رقم (4505) ورجله ثقات. 3 - عن عائشة: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت. أخرجه مالك في «الموطأ «(2/ 498 رقم 18) وأبو داود رقم (4124) والنسائي (7/ 176) وابن ماجه رقم (3612) والدارمي (2/ 86) وأحمد (6/ 153،148،104،73). 4 - عن المغيرة بن شعبة قال: دعاني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بماء فأتيت خباء فيه امرأة أعرابية، قال: فقلت: إن هذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يريد ماء يتوضأ فهل عندك من ماء؟ قالت: بأبي وأمي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوالله ما تظل السماء ولا تقل الأرض روحًا أحب إلي من روحه ولا أعز ولكن هذه القربة مسك ميتة ولا أحب أنجس به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرجعت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته، فقال: «ارجع إليها فإن كانت دبغتها فهي طهورها» قال فرجعت إليها فذكرت ذلك لها فقالت: إي والله لقد دبغتها فأتيته بماء منها ووعليه يومئذ جبة شامية، وعليه خفان وخمار قال: فأدخل يديه من تحت الجبة، قال: من ضيق كميها، قال: «فتوضأ فمسح على الخمار والخفين». أخرجه أحمد في «المسند» (4/ 254) وأورده الهيثمي في «المجمع» (1/ 217) وقال: روه أحمد والبراني في «الكبير» ببعضه، وفيه علي بن يزيد، عن القاسم، وفيهما كلا وقد وثقا. 1 - عن أبي أمامة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خرج في بعض مغازيه فمر بأهل أبيات من العرب فأرسل إليهم: هل من ماء لوضوء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقالوا: ما عندنا ماء إلا في إهاب ميتة دبغناها بلبن، فأرسل إليهم: إن دباغه طهوره، فأتي به فتوضأ ثم صلى. أخرجه الطبراني في «الأوسط» رقم (1052) و «الكبير» رقم (7711) وأورده الهيثمي في «المجمع» (1/ 217) وقال: «فيه عفير بن معدان وقد أجمعوا على ضعفه». 2 - عن ابن مسعود قال: مر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشاة ميتة فقال: «ما ضر أهل هذه لو انتفعوا بإهابها». أخرجه الطبراني في «الكبير» رقم (576) وأورده الهيثمي في «المجمع» (1/ 217) وقال: فيه حماد ابن سعيد البراء ضعفه البخاري , وروى الطبراني نحوه عن ابن مسعود موقوفًا ورجاله ثقات. قال الحازمي في «الاعتبار» (ص 178): « ... فالمصير إلى حديث ابن عباس أولى لوجوه من الترجيحات، وبحمل حديث ابن عكيم على متع الانتفاع به قبل الدباغ وحينئذ يسمى إهابًا، وبعد الدباغ يسمى جلدًا، ولا يسمى إهابًا، وهذا معروف عند أهل اللغة ليكون جمعًا بين الحكمين، وهذا هو الطريق في نفي التضاد عن الأخبار». وقيل: سمي إهابًا؛ لأنه أهبة للحي وبناء للحماية له جسده كما يقال مسك لإمساكه ما وراءه والإهاب أعمم من الجلد يتناول جلد المزكي، وغير المزكي، وجلد ما يؤكل وما لا يؤكل؛ لأن صدر الكلم معنى الشرط، إذ التقدير وكل إهاب إذا دبغ فقد طهر وإن لم يدبغ لم يطهر. انظر: «فتح الباري» (9/ 658 - 659).

الأكل لا يحرم منها، بل هو حلال. ومن ذلك الانتفاع بها بوجه من وجوه الانتفاع غير الأكل. وحديث عبد الله بن عكيم (¬1) ليس فيه إلا مجرد النهي عن الانتفاع بالإهاب والعصب لا بغيره من الأجزاء، فكان مخصصًا لهذين النوعين من عموم مفهوم حديث: «إنما حرم ¬

(¬1) تقدم تخريجه.

من الميتة أكلها» (¬1) فلو لم يرد إلا هذان الحديثان فقط لكان المستفاد منهما جميعًا تحريم فلو لم يرد إلا هذان الحديثان فقط لكان المستفاد منهما جميعًا تحريم، فلو لم يرد إلا هذان الحديثان فقط لكان المستفاد منهما تحريم أكل الميتة من غير فرق بين لحم، وعظم، وجلد، وعصب، وغير ذلك. وجواز الانتفاع بها في غير الأكل (¬2) إلا فيما كان منها من العصب والجلد، فإن لا يجوز الانتفاع بهما في شيء من وجوه الانتفاع كائنًا ما كان. وأما قياس بقية أجزاء الميتة على هذين الجزئين، وجعل القياس مخصصًا لذلك المفهوم مما لا تطمئن به النفس، ولا ينثلج له الخاطر وإن قال بجواز التخصيص بمثل هذا القياس جماعة من أئمة الأصول. فإن قلت: فما وجه اقتصاره- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- على هذين الجزئين في النهي عن الانتفاع بهما، مع أن للميتة أجزاء غيرهما؟. قلت: هكذا ورد الشرع فقف حيث وقف بك، ودع عنك لعل وعسى ونحوهما. فإن قلت: لا بد من ذلك، فقد يقال: لعل وجه التنصيص عليهما دون أن العرب كانت تنتفع بهذين النوعين من الميتة، فيأخذون الإهاب للانتفاع به مدبوغًا، ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) قال ابن قيم الجوزية في «تهذيب السنن» (1/ 67 - 68 - المختصر): « ... وطائفة عملت بالأحاديث كلها، ورأت أنه لا تعارض بينها، فحديث ابن عكيم إنما فيه النهي عن الانتفاع بإاب الميتة , والإهاب: الجلد الذي لم يدبغ وأحاديث الدباغ تدل على الاستمتاع بها بعد الدباغ فلا تنافي بينها». ثم قال رحمه الله: «وهذه الطريقة حسنة، لولا أن قوله في حديث ابن عكيم: كنت رخصت لكم في جلود الميتة، فإذا أتاكم كتابي ... والذي كان رخص فيه هو المدبوغ، بدليل حديث ميمونة». ثم أجاب عن هذا الحديث بوجهين: أحدهما: أن في ثبوت لفظه: «كنت رخصت لكم» شيئًا، فهي ليست عند أهل السنن في هذا الحديث . انظر: «نصب الراية» للزيلعي (1/ 120 - 122). «مجموع الفتاوى» (21/ 94).

وغير مدبوغ، ويأخذون الغصب ليشدوا به [1 ب] ما يحتاج إلى شد. وأما غير هذين الجزئين فالمنفعة المتعلقة به هي الأكل وحده، هذا غاية ما يقوله من أراد إتعاب نفسه بالتخيلات التي لا تنفع، والتوهمات لتي لا يستفاد بها. ويدفع بأن أجزاء الميتة الخارجة عن هذين الجزئين ما ينتفعون به كانتفاعهم بهما أو أكثر، فمن ذلك الشحم، فإنهم ينتفعون بهما في منافع عديدة، منها الدهن للأشياء، الاستصباح، ولها قالوا لما حرم عليهم الشحوم منبهين على المنافع التي لهم فيها: أرأيت يا رسول الله شحوم الميتة، فإنه يطلي بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ وهكذا العظم، فإنهم ينتفعون به في منافع فقد كانوا يذبحون به كما ورد في الحديث (¬1)، وهكذا الأصواف التي على الجلود من الميتة، فإن لهم فيها أعظم المنافع. وقد كان لباسهم وشعارهم ودثارهم منها، وهكذا اللحم فإنه يمكن أن ينتفعوا به في طعام دوابهم. فإن قلت: قد ذكر النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- تحريم بيع الشحوم (¬2)، بل تحريم بيع الميتة، وذكر تخريم الذبح بالعظم. قلت: نعم ذكر ذلك في أحاديث آخرة، وليس النزاع في مطلق الذكر، بل النزاع في كون ذلك ونحوه لم يذكر في حديث عبد الله بن عكيم (¬3)، مع كونهم ينتفعون به كما ينتفعن بالإهاب والعصب، وليس المقصود من ذكرنا لذلك إلا النقص على من زعم أن أجزاء الميتة مستوية ففي تحريم الانتفاع، وأن التنصيص على الإهاب والعصب إنما وقع لكثرة انتفاعهم بهما. فإن قلت: قد صرح النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بتحريم بيع .......................... ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم من حديث جابر في الصحيحين أنه سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام». (¬3) تقدم تخريجه.

الميتة (¬1) في حديث، وبتحريم شحومها (¬2) في حديث آخر، وكلاهما في الصحيح. قلت: نعم، لا يحل بيع شيء من أجزاء الميتة كما في الحديثين المشار إليهما. وقد علل النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ذلك بقوله: «إن الله [2 أ] إذا حرم شيئًا حرم ثمنه» كما ثبت في الصحيح (¬3)، فصرح- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في هذا الحديث بأن تحريم البيع لازم من لوازم تحريم الأكل، ومتفرع عليه، فيحرم البيع لأجزاء الميتة جميعًا، ومن ذلك العصب والإهاب قبل دبغه (¬4) لا بعده، فهو مخصوص بأحاديث صحيحة، ويختص العصب والإهاب بتحريم الانتفاع بهما، ويبقى ما عدا ذلك على أصل الجواز. واعلم أن النهي عن الانتفاع بالعصب والإهاب، وانهي عن بيع الميتة لا يستلزمان أن تكون الميتة نجسة على وجه يمنع وجود شيء منها صحة صلاة ....................... ¬

(¬1) عن جابر قال: أنه سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام». أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2236) ومسلم رقم (71/ 158). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) أخرج أحمد (3/ 370) وأبو داود رقم (3488) عن ابن عباس قال: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوه وأكلوا أثماها، وأن لله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه». وهو حديث صحيح. قال ابن القيم في «إعلام الموقعين» (4/ 324 - 325): وفي قوله: حرام، قولان: أحدهما: أن هذه الأفعال حرام. الثاني: أن البيع حرام، وإن كان المشتري يشتريه لذلك. والقولان مبينان على أن السؤال هل وقع عن البيع لهذا الانتفاع المذكور؟ أو عن الانتفاع المذكور؟ والأول اختاره شيخنا، وهو الأظهر؛ لأنه لم يخيرهم أولًا عن تحريم هذا الانتفاع، حتى يذكروا له حاجتهم إليه، وإنما أخبرهم عن تحريم البيع فأخبروه أنهم يبتاعونه لهذا الانتفاع، فلم يرخص لهم في البيع ولم ينههم عن الانتفاع المذكور، ولا تلازم بين جواز البيع وحل المنفعة. والله تعالى أعلم. (¬4) انظر: «المغني» (6/ 362).

المصلي (¬1)، فإن تحريم البيع لا يستلزم أن يكون الشيء نجسًا (¬2)، لا شرعًا، ولا عقلًا، وإلا لزم نجاسة الأصنام والأزلام، وسهام الميسر، ونحوها مما ورد الدليل الصحيح (¬3) بتحريم بيعها، وقد قرن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في حديث جابر الثابت في الصحيح (¬4) بين الميتة والأصنام فاللازم باطل فالملزوم مثله. أما الملازمة فظاهرة، وأما بطلان اللازم فبالإجماع. وهكذا لا يستلزم نهيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عن الانتفاع بالإهاب والعصب أن يكونا نجسين لا شرعًا، ولا عقًلا؛ فإن كون الشيء نجسًا يمنع وجو صحة صلاة المصلي، إنما يثبت بدليل يدل على ذلك دلالة مقبولة، والنهي، الانتفاع هو باب آخر غير باب كون الشيء نجسًا أو طاهرًا (¬5)، وهكذا لا يستفاد من حديث إلقاء الفأرة وما حوله إذا وقعت في السمن الجامد (¬6)، وإراقة السمن الذي وقعت فيه الفأرة [2 ب] إذا كان مانعًا نجاسة هذه الميتة، فإن تحريم ما وقعت فيه من الجامد وما حوله، وتحريم جميع ¬

(¬1) انظر: «المجموع» (1/ 281). قال الشيرازي في «المهذب» شرح النووي (9/ 269): الأعيان ضربان نجس وطاهر، فأما النجس فعلى ضربين نجس في نفسه ونجس بملاقاة النجاسة، فأما النجس في نفسه فلا يجوز بيعه، وذلك مثل الكلب والخنزير والخمر والسرجين، وما أشبه ذلك من النجاسات والأصل فيه ما روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الله تعالى حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام». تقدم تخريجه. (¬2) قال النووي في «المجموع» (9/ 272): وأما النجس بملاقاة النجاسة فهو الأعيان الطاهرة إذا أصابتها نجاسة فينظر فيه، فإن كان جامدًا كالثوب وغيره جاز بيعه؛ لأن البيع يتناول الثوب وهو طاهر وإنما جاورته النجاسة، وإن كان مائعًا نظرت فإن كان مما لا يطهر كالخل والدبس لم يجز بيعه؛ لأنه نجس لا يمكن تطهيره من النجاسة فلم يجز بيعه كالأعيان النجسة. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) انظر: «المحلى» (1/ 118 - 124). (¬6) تقدم تخريجه.

المانع الذي وقعت فيه لكونه قد خالطه في الطرفين شيء من الميتة التي يحرم أكلها، فكان أكله حرامًا مثلها، وليس ذلك لكونه نجسًا. ولا ملازمة بين الإلقاء وبين ترك الانتفاع من كل وجه، فقد يكون الإلقاء إلى شيء له بذلك نوع انتفاع. وهكذا لا يستفاد من قوله تعالى: {أو لحم خنزير فإنه رجس} (¬1) أن تكون الميتة من غير الخنزير نجسة، فإن الضمير في قوله: {فإنه} راجع إلى المضاف (¬2) وهو لحم، أو إلى المضاف إليه وهو الخنزير على خلاف في ذلك. وعلى كل تقدير فذلك لا يستلزم نجاسة الميتة لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام. بل لو كان ما ذكره الله- سبحانه- في هذه الآية- أعني قوله: {قل لآ أجد في ما أوحى إلي محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دمًا مسفوحًا أو لحم خنزير} (¬3) نجسًا لقال- سبحانه- في هذه: فإنها رجس (¬4) والرجس يكون على أربعة أوجه: إما من حيث الطبع وإما من جهة العقل، وإما من جهة الشرع وإما من كل ذلك كالميتة. فإن الميتة تعاف طبعًا وعقلًا وشرعًا. والرجس من جهة الشرع: الخمر والميسر وقيل: إن ذلك رجس من جهة العقل وعلى ذلك نبه بقوله تعالى: {وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة: 219]، لأن كل ما يوفي إثمه على نفعه فالعقل يقتضي تجنبه، وجعل الكافرين رجسًا من حيث إن الشرك أقبح الأشياء قال تعالى: {وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسًا إلى رجسهم} [التوبة: 125]. وقوله تعالى: {ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون} [يونس: 100]. قيل: الرجس: النتن، وقيل العذاب وذلك كقوله تعالى: {إنما المشركون نجس} [التوبة: 28]. وقال سبحانه: {أو لحم خنزير فإنه رجس} [الأنعام: 145]. وذلك من حيث الشرع. «مفردات ألفاظ القرآن» (ص342) للراغب الأصفهاني.، فلما جعل الحكم بالرجسية خاصًا بالخنزير (¬5) مع ذكر الميتة والدم المسفوح معه أفاد ذلك أنهما مغايران له في هذه الصفة أعني: الرجسية. إذا تقرر لك هذا عرفت أنه لم يدل دليل على نجاسة الميتة من غير الخنزير كائنةً ما ¬

(¬1) [الأنعام: 145]. (¬2) {أو لحم خنزير فإنه} أي اللحم لأنه المحدث عنه أو الخنزير لأنه الأقرب ذكرًا وذكر اللحم لأنه أعظم ما ينتفع به منه فإذا حرم فغيره بطريق الأولى. «روح المعاني» (8/ 44). (¬3) [الأنعام: 145]. (¬4) الرجس: الشيء القذر، يقال: رجل رجس ورجال أرجاس. قال تعالى: {رجس من عمل الشيطان} [المائدة: 90]. (¬5) {أو لحم خنزير فإنه} أي اللحم لأنه المحدث عنه أو الخنزير لأنه الأقرب ذكرًا وذكر اللحم لأنه أعظم ما ينتفع به منه فإذا حرم فغيره بطريق الأولى. «روح المعاني» (8/ 44).

كانت هذه الكلية الأولى. الكلية الثانية: أن أكل الميتة حرام من غير فرق بين جميع أجزائها. الكلية الثالثة: أن بيعها حرام من غير فرق. فهذه الثلاث الكليات قد اتفقت عليها الأدلة [3أ]، ولم يختلف أصلًا. وإنما الخلاف في مجرد الانتفاع بالميتة في غير الأكل والبيع، فحديث: «إنما حرم من الميتة أكلها» (¬1) دل على جواز الانتفاع بها في غير الأكل والبيع. وحديث عبد الله بن عكيم فيه النهي عن الانتفاع بالإهاب والعصب فكان هذا الحديث مخصصًا لما يقيده مفهوم حديث: «إنما حرم من الميتة أكلها» من العموم كما قدمنا. ولا يجوز إلحاق غيرهما بهما لما عرفناك سابقًا. وإياك أن تغتر بما وقع في بعض كتب الفروع من أن نجاسة الشيء فرع تحريمه، فإن ذلك كلام باطل، ودعوى محضة (¬2) ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) قال الشوكاني في «النيل» (1/ 88 - 89): وأكثر أهل العلم على أن الدباغ مطهر في الجملة لصحة النصوص به، وخبر ابن عكيم لا يقاربها في الصحة والقوة لينسخها، قال الترمذي في «السن» (4/ 222): سمعت أحمد بن الحسن يقول: كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا الحديث لما ذكر فيه قبل وفاته بشهرين، وكان يقول: هذا آخر أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم ترك أحمد هذا الحديث لما اضطربوا في إسناده حيث روى بعضهم فقال: عن عبد الله بن عكيم عن أشياخ من جهنية». فائدة: يجوز استعمال المدبوغ. بلبسه والصلاة فيه، والصلاة عليه أو ملئه بالماء بجعله قربةً أو دلوًا للشرب أو الوضوء منه لأن الدباغ يطهر ظاهره وباطنه. ((البناية في شرح الهداية» (1/ 359). قال الأمير الصنعاني في «سبل السلام» (1/ 158): وأما النجاسة فيلازمها التحريم، فكل نجس محرمً ولا عكس، وذلك لأن الحكم في النجاسة هو المنع عن ملابستها على كل حال، فالحكم بنجاسة العين حكم بتحريمها بخلاف الحكم بالتحريم. فإنه يحرم لبس الحرير والذهب وهما طاهران ضرورةً شرعية وإجماعًا، فإذا عرفت هذا فتحريم الخمر والحمر الذي دلت عليه النصوص لا يلزم منه نجاستها، بل لابد من دليل آخر عليه، إلا بقينا على الأصل المتفق عليه من الطهارة فمن ادعى خلافه فالدليل عليه.

وفي هذا كفاية- إن شاء الله-. انتهى من خط شيخنا بدر الدين محمد بن على بن محمد الشوكاني- أبقاه الله، وكثر فوائده- آمين [3 ب].

جواب في حكم احتلام النبي صلى الله عليه وسلم

(73) 22/ 1 جواب في حكم احتلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، وصلى الله على محمد وآله وصحبه. ما تقولون- رضي الله عنكم وأرضاكم- في أنه ثبت في الخصائص النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام أن نبي الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لا يحتلم، وأن الاحتلام من قبل الشيطان- أعاذنا الله منه- مع الحديث الثابت في الصحاح (¬1) عن أم المؤمنين عائشة زوج النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «كنت أفركه من ثوب رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ويصلي فيه». هذا معنى الحديث. أفيدوا جزاكم الله خيرًا. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (6/ 125، 132) ومسلم (1/ 238 رقم 105/ 288). وأبو داود رقم (371، 372) والترمذي (1/ 198 رقم 116) وقال: حديث حسن صحيح. والنسائي (1/ 156، 157) وابن ماجه (1/ 197 رقم538). عن عائشة قالت: كنت أفرك المني من ثوب ثوب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم يذهب فيصلي فيه «وهو حديث صحيح». * وأخرجه أحمد (6/ 243) بسند حسن. عن عائشة قالت: «كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر ثم يصلي فيه ويحته من ثوبه يابسًا ثم يصلي فيه». وأخرج البخاري في صحيحه رقم (229، 230) و (231، 232) ومسلم رقم (108/ 289) عن عائشة رضي الله عنه: «كنت أإسله من ثوب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم يخرج إلى الصلاة وأثر الغسل في ثوبه بقع الماء». وهو حديث صحيح. وأخرج الدارقطني في «السنن» (1/ 125 رقم3). عنها رضي الله عنه: «كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كان يابسًا وأغسله إذا كان رطبًا». وهو حديث صحيح.

الحمد لله رب العالمين الجواب- والله الهادي- أنه قد ذهب جمع من العلماء إلى استحالة الاحتلام في حقه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، قالوا: لأنه من تلاعب الشيطان بالئائم، وجزموا بأن المني (¬1) الذي كان على ثوبه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ليس إلا من الجماع، ويقويه أنه لا ملازمة بين كون المني موجودًا في ثوبه، وبين كونه عن احتلام، لا عقلًا ولا عادة، لاحتمال أن يكون مما بقي في الذكر من أثر الجماع، أو مما يحصل عند مقدمات الجماع، كما حكى ذلك النووي (¬2) عن جماعة من العلماء. وذهب قوم جمع إلى منع الاستحالة، ومنع كون الاحتلام من تلاعب الشيطان (¬3)، وجزموا بأنه جائز منه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وبأنه من فيض البدن الخارج في بعض الأوقات، فالقائلون بأن عدم الاحتلام من خصائصه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ¬

(¬1) قال ابن الأثير «النهاية» (4/ 368): «المني» بالتشديد، وهو ماء الرجل وقد مني الرجل وأمنى، واستمنى إذا استدعى خروج المني. (¬2) في شرحه لصحيح مسلم (3/ 198 - 199). (¬3) أخرج البخاري في صحيحه رقم (7005) ومسلم في صحيحه رقم (2261) عن أبي سلمة عن أبي سلمة عن أبي قتادة الأنصاري وكان من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفرسانه- قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان. فإذا حلم أحدكم الحلم يكرهه فليبصق عن يساره وليستعذ بالله منه فلن يضره». قال الحافظ في «الفتح» (1/ 332 - 333): وليس بين حديث الفك تعارض لأن الجمع بينهما واضح على القول بطهارة المني بأن يحمل الغسل على الاستحباب للتنظيف لا على الوجوب وهذه طريقة الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث. وكذا الجمع ممكن على القول بنجاسته بأن يحمل الغسل على ما كان رطبًا والفرك على ما كان يابسًا وهذه طريقة الحنفية. قال الحافظ والطريقة الأولى أرجح لأن العمل بالخبر والقياس معًا لأنه لو كان نجسًا لكان القياس وجوب غسله دون الاكتفاء بفركه كالدم وغيره وهم لا يكتفون فيما لا يعفى عنه من الدم بالفرك. ويرد الطريقة الثانية أيضًا ما في رواية ابن خزيمة من طريق أخرى عن عائشة: «كانت تسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر ثم يصلي فيه، وتحكه من ثوب يابسًا ثم يصلي فيه». فإنه تضمن ترك الغسل في الحالتين. وقال الأمير الصنعاني في «حواشي العدة» (1/ 400 - 411): قال الأولون: هذه الأحاديث في فركه وحته إنما في منيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفضلاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طاهرة فلا يلحق به غيره. وأجيب عنه بأنها أخبرت عائشة عن فرك المني من ثوبه فيحتمل أنه عن جماع وقد خالطه مني المرأة فلم يتعين أنه منيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده. والاحتلام على الأنبياء غير جائز، لأنه من تلاعب الشيطان، ولا سلطان له عليهم، ولئن قيل: إنه يجوز أنه منيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده، وأنه من فيض الشهوة بعد تقدم أسباب خروجه من ملاعبة ونحوها، وأنه لم يخاطه غيره فهو محتمل ولا دليل مع الاحتمال. وذهبت الحنفية إلى نجاسة المني كغيرهم ولكن قالوا: يطهره الغسل، أو الفرك، أو الإزالة بالإذخر أو الخرقة عملًا بالحديثين.

هم الأولون. ولا يشكل الحديث على قولهم، لأنهم قد تخلصوا عنه بما سلف. والقائلون بأن ذلك ليس من خصائصه، وهم الآخرون لا إشكال يرد عليهم والله أعلم. انتهي جواب سيدي القاضي عين أعيان العلماء المجتهدين، عز الدين محمد بن على الشوكاني- حفظه الله- كما حفظ من الذكر المبين، وجعله قرة عين المسلمين آمين آمين آمين.

القول الواضح في صلاة المستحاضة ونحوها من أهل العلل والجرائح

القول الواضح في صلاة المستحاضة ونحوها من أهل العلل والجرائح تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

بسم الله الرحمن الرحيم إياك نعبد وإياك نستعين، والصلاة ولسلام على سيد المرسلين وآله وصحبه الأكرمين، وبعد: فإنه ورد إلينا سؤال من الشيخ علي بن محمد بن عبد الوهاب النجدي- كثر الله فوائده، وغفر لي وله- وهذا لفظه: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. ما قولكم في رجل دائم الحدث، وربما انقطع حدثه في بعض الأوقات، وليس لانقطاعه وقت معلوم، فإذا صلى في بيته من حين وضوئه صلى قبل أن يحدث، وإن خرج إلى المسجد أحدث إما قبل الدخول في الصلاة، وإما قبل الخروج منها. فهل يلزمه المشي إلى المسجد وإن صلى بالحدث؟ أم تلزمه الصلاة بالطهارة وإن فاتته الجماعة ومذهب الشافعي الأفضل في حقه أن يخرج إلى المسجد ويصلي مع الجماعة (¬1). قال النووي (¬2) المذهب المشهور على أن صلاة الجماعة عندهم سنة، فإن قلتم يلزمه المشي وتصح صلاته مع الحدث، فهل تصح إمامته بكامل الطهارة أم لا؟ والسائل قد وقف على كلام أهل المذاهب الأربعة، ورأى عباراتهم متفقه على أنه يصلي وإن وجد معه الحدث. وأما اختلافهم في بعض الحدود والشروط فقال الموفق (¬3) في كتاب المقنع (¬4) والمستحاضة تغسل فرجها وتعصبه وتتوضأ لوقت كل صلاة وتصلي ما شاءت من الصلوات، وكذلك من به سلس البول، والمذي، والريح، والجريح الذي لا يرقأ دمه، والرعاف الدائم. ¬

(¬1) انظر «المغني» (1/ 421). (¬2) انظر شرحه لصحيح مسلم (5/ 151). (¬3) أي شيخ الإسلام أبي محمد موفق الدين عبد الله بن قدامة المقدسي. (¬4) (1/ 96 - 97)

قال الشارح (¬1) ويجب على كل واحد من هؤلاء الوضوء لوقت كل صلاة إلا أن لا يخرج منه شيء، وهو قول الشافعي، وأصحاب الرأي. واستحب مالك لمن به سلس البول أن يتوضأ لوقت كل صلاة (¬2)، إلا أن يؤذيه البرد، فأرجو أن لا يكون عليه ضيق. وقال أحمد بن القاسم (¬3) سألت أبا عبد الله- يعني أحمد- فقلت: إن هؤلاء يتكلمون بكلام كثير، ويؤقتون بوقت، ويقولون: إذا توضأت للصلاة وقد ................ ¬

(¬1) المقنع (1/ 97 - حاشية) والحاشية في المقنع منقولة من خط الشيخ سليمان ابن الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله وهي غير منسوبة لأحد، والظاهر أنه هو الذي جمعها فجزاه الله خيرًا ورحمه. انظر صفحة العنوان «المقنع". (¬2) ذكره ابن قدامة في «المغني» (1/ 422). (¬3) ذكره ابن قدامة في «المغني» (1/ 424). ثم تابع كلامه قائلا: « ... وذلك لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرها بالوضوء كل صلاة من غير تفضيل، فالتفضيل يخالف مقتضى الخبر، ولأن اعتبار هذا يشق، والعادة في المستحاضة وأصحاب الأعذار أن الخارج يجري وينقطع، واعتبار مقدار الانقطاع فيما يمكن فعل العبادة فيه يشق وإيجاب الوضوء به حرج لم يرد الشرع به، ولا سأل عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المستحاضة التي استفته، فيدل ذلك ظاهرًا على عدم أعتباره مع قول الله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78]، ولم ينقل عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولاعن أحد من الصحابة هذا التفصيل، وقال القاضي وابن عقيل: إن تطهرت المستحاضة حال جريان دمها ثم انقطع قبل دخولها في الصلاة، ولم يكن لها عادة بانقطاعه، لم يكن لها الدخول في الصلاة حتى تتوضأ لأنها طهارة عفي عن الحدث فيها لمكان الضرورة. فإذا انقطع الدم زالت الضرورة، فطهر حكم الحدث كالمتيمم إذا وجد الماء، وإن دخلت في الصلاة فاتصل الانقطاع زمنًا يمكن الوضوء والصلاة فيه، فهي باطلة لأننا تبينا بطلان طهارتها بانقطاعه. وإن عاد قبل ذلك فطهارتها صحيحة لأننا تبينا عدم الطهر المبطل للطهارة، فأشبه ما لو ظن أنه أحدث، ثم تبين أنه لم يحدث. وفي صحة الصلاة وجهان: أحدهما: يصح، لأنا تبينا صحة طهارتها، لبقاء استحاضتها. الثاني: لا يصح لأنها صلت بطهارة لم يكن لها أن تصلي بها فلم تصح، كما لو تيقن الحدث وشك في الطهارة، فصلى، ثم تبين أنه كان متطهرًا. وإن عاودها الدم قبل دخولها في الصلاة لمدة تتسع للطهارة والصلاة بطلت الطهارة وإن كانت لا تتسع لم تبطل. لأننا تبينا عدم الطهر المبطل للطهارة، فأشبه ما لو ظن أنه أحدث فتبين أنه لم يحدث، وإن كان انقطاعه في الصلاة، ففي بطلان الصلاة به وجهان مبنيان على المتيمم يرى الماء في الصلاة وإن عاودها الدم فالحكم فيه على ما مضى في انقطاعه في غير الصلاة، وإن توضأت في زمن انقطاعة، ثم عاودها الدم قبل الصلاة أو فيها وكانت مدة انقطاعة تتسع للطهارة والصلاة، بطلت طهارتها بعود الدم، لأنها بهذا الانقطاع صارت في حكم الطاهرات، فصار عود الدم كسبق الحدث، وإن كان انقطاعًا لا يتسع لذلك، لم يؤثر عوده، لأنها مستحاضة، ولا حكم لهذا الانقطاع وهذا مذهب الشافعي- رحمه الله- وقد ذكرنا من كلام أحمد- رحمه الله- ما يدل على أنه لا عبرة بهذا الانقطاع، بل متى كانت مستحاضة أو بها عذر من هذه الأعذار فتحرزت وتطهرت، فطهارتها صحيحة، وصلاتها بها ماضية، ما لم يزل عذرها، وتبرأ من مرضها، أو يخرج وقت الصلاة، أو تحدث حدثًا سوى حدثها. وانظر: مزيد تفصيل: «شرح الزركشي على مختصر الخرقي» (1/ 437 - 440).

انقطع (¬1) الدم ثم سال بعد ذلك قبل أن تدخل في الصلاة تعيد الوضوء. ويقولون: إذا تطهرت والدم سائل ثم انقطع الدم قولًا آخر. قال: لست أنظر في لنقطاعة حين توضأت سال الدم أو لم يسل، إنما أمرها أن تتوضأ لكل صلاة فتصلي بذلك الوضوء النافلة والفائتة، حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى (¬2)، ولو نستقصي ما وقف عليه من عبارات العلماء لاحتمل كراريس، فالمطلوب بسط الجواب بما أمكن من الأحاديث والآثار، والنظر والقياس. وسر آخر وهو أنه ربما زاد الحدث ببعض المأكولات فهل يلزمه ترك [1 أ] ذلك المأكول والمشروب إذا عرف أنه يمد علة الحدث، وفرع لهذه المسألة، وهو أن السائل يصلي مع الجماعة بالحدث لإذن أهل العلم له بذلك كما تقدم، ولخوف أن تكون صلاة الجماعة شرطًا كما هو مذهب أهل الظاهر، ومن وافقهم، ثم أنه يقضي الصلاة في بيته لأجل إمكان الصلاة على طهارة، وتناول في ذلك حديث الرجلين اللذين صليا بالتيمم (¬3) ¬

(¬1) المقنع (1/ 97 - حاشية) والحاشية في المقنع منقولة من خط الشيخ سليمان ابن الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله وهي غير منسوبة لأحد، والظاهر أنه هو الذي جمعها فجزاه الله خيرًا ورحمه. انظر صفحة العنوان «المقنع". (¬2) ذكره ابن قدامة في «المغني» (1/ 422). (¬3) سيأتي تخريجه.

فلما وجد الماء أعاد أحدهما ولم يعد الآخر، فذكرا ذلك للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال للذي لم يعد: «أصبت السنة» وقال للآخر: «لك الأجر مرتين». وهذا الرجل قد اتخذ القضاء دينًا، فهل هو مصيب في ذلك أم لا؟ وأيضًا على أي صفة يحضر هذا الرجل صلاة الجمعة. أفتونا- علمكم الله ما لم تكونوا تعلمون- انتهى.

أقول- مستعينًا بالله، ومتكلًا عليه، حامدًا له مصليًا مسلمًا على رسوله وآله وصحبه-: إن هذا المكتوب قد اشتمل على أسئلة سنجيب عن كل واحد منها- بمعونة الله- بعد تقديم مقدمة هي أنه لا خلاف بين من يعتد به من أهل العلم أن كون الشيء ناقضًا للوضوء، مبطلًا للطهارة، موجبًا للوضوء لا يعرف إلا بالشرع، ولا مدخل في ذلك لحكم العقل، ولا لمحض الرأي، فإذا جاء حكم الشرع بأن هذا الشيء يبطل حكم الطهارة، ويوجب إعادتها كان علينا قبول ذلك والإذعان له، وإن لم نعقل علة ذلك، ولا فهمنا وجهه كما في مس الذكر (¬1)، وأكل لحوم الإبل (¬2)، فإنه قد ثبت عن الشارع أنهما ناقضان للطهارة، مبطلان للوضوء، وليس لنا أن نقول: العلة في هذا معقولة أو غير معقولة، أو السبب في هذا مفهوم أو غير مفهوم، وهكذا ما شابه هذين الناقضين من النواقض التي يبعد فهم عللها، ويصعب تعقل أسبابها، بل نقول بعد ورود الشرع: هكذا جاءنا عن ¬

(¬1) للحديث الذي أخرجه أحمد (6/ 406 - 407) وأبو داود رقم (181) والترمذي رقم (82) والنسائي (1/ 100) وابن ماجه رقم (479). عن بسرة بنت صفوان رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من مس ذكره فاليتوضأ». وهو حديث صحيح. وانظر: «بيل الأطار» الحديث رقم (15/ 252) بتحقيقنا فهناك تفصيل وبيان موسع. (¬2) للحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه رقم (97/ 360) وأحمد (5/ 102) وابن ماجه رقم (495) وابن الجارود رقم (25) والبيهقي في «السنن الكبرى» (1/ 158) وفي معرفة «السنن والآثار» (1/ 402) والطحاوي في «شرح المعاني» (1/ 70) وابن خزيمة (1/ 21) وأبو عوانة (1/ 270 - 271) والطيالسي (ص104 رقم 766) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن رجلًا سأل رسول الله أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: «إن شئت توضأ، وإن شئت فلا تتوضأ» قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: «نعم، توضأ من لحوم الإبل» قال أصلي في مرابض الغنم؟ قال: «نعم"، قال: أصلي في مرابض الإبل؟ قال: «لا". وهو حديث صحيح. انظر تفصيل وبيان ذلك موسعًا في «نيل الأوطار» رقم (19/ 56) - بتحقيقنا.

الله- سبحانه-، أو عن رسوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، ونحن نقبله ونذعن له كما وجب علينا قبول ما جائنا به من كون غسل أعضاء الوضوء. وهي بعض من البدن رافعًا لحكم الحدث، وهو شيء لم يقم بها حسًا ولا وجد عليها أثرة في رأي العين، وهكذا إذا جاء الشرع بأن هذا الشيء المرئي أثره الخارج من الفرج أو نحوه ليس بناقض للطهارة، فليس لنا أن نقول لم لم يكن ناقضًا؟ وكيف لايكون مبطلًا للطهارة! وها هو جسم مدرك بحاسة البصر، وحاسة اللمس، خارج من الفرج. بل نقول: هكذا جائنا عن الذي جائنا بتفصيل أحكام الطهارة وبيان شروطها، ومقتضيها ومانعها، وما تصح به وما لا تصح به، وليس لنا أن نرجع [1 ب] إلى ما تقتضي به عقولنا وتقبله أفهامنا؛ فإن ذلك في مثل هذه المدارك أمر وراء الشرع. وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل (¬1). وإذا تقرر هذا فالشرع قد ورد مورداُ لا يجحده أحد من المتشرعين أن دم المستحاضة مع كونه دمًا من الفرج الذي هو محل الحدث لا ينقض الطهارة (¬2)، ولا يبطل حكمها، وإن استمر خارجًا من عند الشروع في الوضوء إلى الفراغ من الصلاة. وهذا معلوم من الشرع علمًا ضروريًا، ومجمع عليه عند جميع أهل هذه الملة الشريفة. وألاحاديث الواردة في ذلك يعرفها السائل- عافاه الله-. فهذا الدم الخارج على هذه الصفة ليس من الأحداث الموجبة للوضوء في حق هذه المرأة المستحاضة لاينكلر ذلك منكر، ولا يخالف فيه مخالف، فصلاتها وهو خارج خروجًا كثيرًا، منصب انصبابًا ¬

(¬1) وهو نهر في البصرة، وقد احتفره معقل بن يسار في زمن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فنسب اليه. يضرب في الاستغناء عن الأشياء الصغيرة إذا وجد ما هو أكبر منها، وأعظم نفعًا. ذكره القاضي إسماعيل بن على الأكوع في الأمثال اليمانية «إذا جاء سيل الله بطل نهر معقل". وقال: من أمثال المولدين «إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل". وانظر: «الأمثال» للميداني (1/ 88). (¬2) انظر «المغني» (1/ 423).

شديدًا (¬1)، مستمر أستمرارًا مطبقًا، وصلاتها وهو خارج خروجًا يسيرًا، وسائل سيلانًا نزرًا، وصلاتها وهو منقطع تارة، وخارج أخرى مجزية صحيحة مقبولة واقعة على المنهج الشرعي، والمهيع المحمدي، والسبيل الأسلامي، لا فرق بين هذه الصور أصلًا. ولم يأت في هذه الشريعة السمحةالسهلة شيء مما يستدل به على الفرق. فالحاصل أن المستحاضة لا فرق بينها وبين غيرها من النساء اللاتي لم يكن مستحاضات في نفس الفريضة التي تؤديها بذلك الضوء، وأما الأحاديث الواردة بأن المستحاضة تغتسل لكل صلاة (¬2)، فلو صح ذلك لكان غاية ما فيه أنه يجب عليها أن تبالغ في رفع الحدث بالغسل، وأن لا تؤدي بطهارتها الا صلاة واحدة، وليس هذا بمناف لكون خروج الدم غير ناقض للطهارة، لأنها في تلك الصلاة التي أدتها لا فرق بينها وبين غيرها من النساء في جميع الأحكام فتصلي في أول الوقت كما تصلي سائر النساء، وتؤم بغيرها من النساء كما تؤم من لم تكن مستحاضة. وأما من زعم من الفقهاء بأنها تصلي في آخر الوقت فليس على ذلك آثارة من علم، ولا هو مما يشتغل برده لوضوح بطلانه، وكونه قولًا مجردًا عن البرهان على كل حال. فإن قلت: هل ينتهض شيء من الادلة الدالة على أنها تغتسل لكل صلاة أو نحو ذلك مما ورد في ذلك؟. ¬

(¬1) منها: الحديث الذي أخرجه أبو داودرقم (287) والترمذي رقم (128) وابن ماجه رقم (627) وأحمد (6/ 439، 381، 382، 439) والحاكم (1/ 172 - 173) والبيهقي (1/ 338) والطحاوي في «مشكل الآثار» (3/ 299، 300) عن حمنة بنت جحش قالت: كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة فاتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أستفتيه وأخبره فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش فقلت: يا رسول الله، إني أستحاض حيضة كثيرة شديدة، فما تأمرني فيها قد منعتني الصيام والصلاة؟ قال: «انعت لكي الكرسف، فإنه يذهب الدم» قالت: هو أكثر من ذلك؟ قال: «فتلجمي» قالت: هو أكثر من ذلك؟ «فاتخذي ثوبًا» قالت: هو أكثر من ذلك إنما اثج ثجًا ... ". وهو حديث حسن. (¬2) سيأتي ذكر ذلك.

قلت: لا تنتهض أحاديث إيجاب [2 أ]. الغسل عليها. أما حديث عائشة- رضي الله عنه- عند أبي داود (¬1) وابن ماجه (¬2) قالت: استحيضت زينب زينب بنت جحش فقال لها النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «اغتسلي لكل صلاة» ففي إسناده علل منها: كون في رجاله محمد بن إسحاق ولا يصح ما زعمه المنذري من تحسين بعض طرقه، وهكذا حديث عائشة أيضًا عند أحمد (¬3) وأبي داود (¬4) أن سهلة بنت سهيل بن عمرو استحيضت فأتت رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فسألته عن ذلك، فأمرها بالغسل عند كل صلاة، فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل، والمغرب والعشاء بغسل، والصبح بغسل، ففي إسناده محمد بن إسحاق (¬5) أيضًا عن عبد الرحمن بن القاسم، وابن إسحاق ليس بحجة لاسيما إذا عنعن، وعبد الرحمن قد قيل إنه لم يسمع ¬

(¬1) في «السنن» (1/ 204 - 205 رقم 292). (¬2) في «السنن» رقم (622). قال المحدث الألباني في صحيح أبي داود: صحيح دون قوله: زينب بنت جحش والصواب أم حبيبة بنت جحش ... ". قال الشافعي في «الأم» (1/ 245 رقم المسألة825): «إنما أمرها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تغتسل وتصلي، وليس فيه أنه أمرها أن تغتسل لكل صلاة، قال: ولا أشك إن شاء الله أن غسلها كان تطوعًا غير ما أمرت به، وذلك واسع لها». وقال النووي في «المجموع» (2/ 553): فرع: مذهبنا- أي الشافعية- أن طهارة المستحاضة الوضوء، ولا يجب عليها الغسل لشيء من الصلوات إلا مرة واحدة في وقت انقطاع حيضتها، وبهذا قال جمهور السلف والخلف وهو مروي عنه علي، وابن مسعود، وابن عباس، وعائشة رضي الله عنه وبه قال عروة بن الزبير وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو حنيفة ومالك وأحمد ............. (¬3) في «المسند» (6/ 119). (¬4) في سننه رقم (295). (¬5) محمد بن إسحاق بن يسار، أبو بكر المطلبي مولاهم، المدني، نزيل العراق إمام المغازى: صدوق يدلس، ورمى بالتشيع والقدر. «التقريب» رقم (5725).

من أبيه، قال ابن حجر (¬1) قد قيل إن بن إسحاق وهم فيه. وهكذا حديث عروة بن الزبير عن أسماء بنت عميس عند أبي داود (¬2) قالت: قلت: يا رسول الله، إن فاطمة بنت أبي جحش استحيضت منذ كذا وكذا فلم تصل، فقال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «هذا من الشيطان، لتجلس في مركن، فإذا رأت صفرة فوق الماء فتغتسل للظهر والعصر غسلًا واحدًا، وتغتسل للمغرب والعشاء غسلًا واحدًا، وتغتسل للفجر غسلًا، وتتوضأ فيما بين ذلك». ففي إسناده سهيل بن أبي صالح (¬3)، وفي الاحتجاج بحديثه خلاف. وهكذا حديث حمنة بنت جحش وفيه «فإن قويت على أن تؤخري الظهر، وتعجلي ¬

(¬1) في «التلخيص» (1/ 171). وهو حديث ضعيف. (¬2) في «السنن» رقم (296). (¬3) سهيل بن أبي صالح، ذكوان السمان أبو يزيد المدني، صدوق تغير حفظه بآخرة روى له البخاري مقرونًا- أي بغيره- وتعليقًا. «التقريب» رقم (2675). قلت: الحديث ضعيف، حالف فيه سهيل بن أبي صالح جميع من رواه عن الزهري واختلف عليه في لفظه. أخرج أبو داود رقم (281) من طريق جرير، عن سهيل، عن الزهري عن عروة بن الزبير، قال: حدثتني فاطمة بنت أبي حبيش أنها أمرت أسماء، أو أسماء حدثتني أنها أمرتها فاطمة بنت أبي حبيش أن تسأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فأمرها أن تقعد الأيام التي كانت تقعد، ثم تغتسل". قال البيهقي في «السنن الكبرى» (1/ 353): «هكذا رواه سهيل بن أبي صالح، عن الزهري، عن عروة، واختلف فيه عليه والمشهور رواية الجمهور، عن الزهري عن عروة، عن عائشة، في شأن أم حبيبة بنت جحش». ا هـ. قلت: حديث أبي داود رقم (281) ليس فيه الاغتسال لكل صلاة مجموعة ولا الاغتسال لصلاتين، وهذا اللفظ قريب من لفظ البخاري رقم (325) عن عائشة في قصة استحاضة فاطمة بنت أبي حبيش، وفيه: «ولكن دعى الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم أغتسلي وصلي».

العصر، ثم تغتسلي حتى تطهري وتصلي الظهر والعصر جمعًا، ثم تؤخري المغرب وتعجلي العشاء، ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي، وتغتسلين مع الصبح وتصلين. قال: وهذا أعجب الأمرين إلي» (¬1) أخرجه الشافعي (¬2)، وأحمد (¬3)، وأبو داود (¬4)، والترمذي (¬5)، وابن ماجة (¬6)، والدارقطني (¬7)، والحاكم (¬8)، وفي إسناده عبد الله بن محمد بن عقيل (¬9)، وهو مختلف فيه. وقال بن مندة: لايصح بوجه من الوجوه، وقال بن أبي حاتم (¬10) سألت أبي عنه. فوهنه ولم يقو إسناده. وقال الترمذي في كتاب العلل (¬11) إنه سأل البخاري عنه فقال: هو حديث حسن. وهكذا صححة أحمد والترمذي، لكن بن عقيل رواه عن إبراهيم بن محمد بن طلحة، وفي سماعه منه نظر، وقال ........................ ¬

(¬1) قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وهذا أعجب الأمرين إلي»: أي أحسن الأمرين، مع أن كلا الأمرين حسن. وهذا أحسن يعني الغسل مع الجمع. (¬2) رقم (141) ترتيب المسند. (¬3) في «المسند» (6/ 381، 382، 439). (¬4) في «السنن» رقم (287). (¬5) في «السنن» رقم (128). (¬6) في «السنن» رقم (627). (¬7) في «السنن» رقم (1/ 214). (¬8) في «المستدرك» رقم (1/ 172 - 173). (¬9) عبد الله بن محمد بن عقيل. لم يكن بالحافظ، وأهل العلم بالحديث مختلفون في جواز الاحتجاج بروايته قاله البيهقي في «السنن الكبرى» (1/ 237). وقال يحيي بن معين: لا يحتج بحديثه. وقال البخاري: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم والحميدي يحتجون بحديثه. انظر: «تاريخ بن معين» (4/ 64)، «تقريب التهذيب» (1/ 447). (¬10) في «العلل» (1/ 51 رقم 123). (¬11) (ص58).

الخطاني (¬1) قد ترك العلماءالقول بهذا الحديث. وقد رده ابن حزم (¬2) بأنواع من الرد. ومن جملة ذلك أنه علله بالانقطاع بين ابن جريح وابن عقيل، وزعم أن بينهما النعمان بن راشد وهو ضعيف (¬3)، وقد شارك ابن جريح في روايته عن ابن عقيل ضعفًا. وعلى الجملة [2 ب] فقد طول الحفاظ الكلام على هذا الحديث تعليلًا، وردُا، وتضعيفًا، وتصحيحًا، وتحسينًا. وقد أوضحت الكلام على ذلك في (¬4) ........... وعلى فرض أنه مما يصلح للتمسك به فهو مقيد بعدم وجود معارض بأنهض منه، وقد وجد ها هنا، وهو ما ثبت في الصحيحين (¬5) وغيرهما (¬6) من طرق عن عائشة مرفوعًا بلفظ: «فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي»، وهكذا وردت الأحاديث في (¬7) [ ..... ] الدم والتمييز بالعادة (¬8) حديث عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال في المستحاضة: «تدع أيام إقرائها، ثم تغتسل وتتوضأ عند كل صلاة». رواه ..................... ¬

(¬1) في «معالم السنن» (1/ 201 - هامش السنن) ولفظه: «وقد ترك بعض العلماء القول بهذا الخبر». (¬2) في «المحلي» (2/ 194 - 195). (¬3) ضعفه ابن حزم في «المحلى» (6/ 121). (¬4) غير واضح في المخطوط ولعله «نيل الأوطار» قلت: انظر «النيل» رقم الحديث (6/ 373) بتحقيقي لترى هذا التوضيح. (¬5) أخرجه البخاري رقم (306) ومسلم رقم (333). (¬6) كأبي داود رقم (282) والنسائي (1/ 184). وهو حديث صحيح. وفي رواية أخرجها البخاري رقم (228) ومسلم رقم (333) وأبو داود رقم (282) والترمذي رقم (125) والنسائي (1/ 184). «فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي». وزاد الترمذي في «السنن» (1/ 218): «وقال: توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت». وأخرج البخاري في صحيحه رقم (325) «ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي». (¬7) غير واضح في المخطوط. (¬8) غير واضح في المخطوط.

ابن ماجه (¬1) والترمذي (¬2) لأن في إسناده عثمان بن عمير بن قيس الكوفي هو أبو اليقظان ويقال له: عثمان بن أبي حميد، وعثمان بت أبي زرعة قال يحيي بن معين: ليس حديثه بشيء، وقال أبو حاتم (¬3) إنه ضعيف منكر الحديث، كان شعبه لا يرضاه، وقال أبو أحمد الحاكم (¬4) ليس بالقوي عندهم، ولم يرضه يحيي بن سعيد. وقال النسائي (¬5) ليس بالقوي، وقال الدارقطني (¬6) ضعيف، وقال بن حبان (¬7) اختلط بآخره حتى لا يدري ما يقول، لا يجوز الاحتجاج به، قال الترمذي (¬8) سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقلت: عدي بن ثابت عن أبيه عن جده، جد عدي بن ثابت ما اسمه؟ فلم يعرف محمد اسمه، وذكرت لمحمد قول يحيي بن معين أن اسمه دينار فلم يعبأ به، وقال الدمياطي في عدي المذكور (¬9) هو عدي بن ثابت أبان بن قيس بن الخطيم الأنصاري، ووهم من قال إن اسم جده دينار، وأما ما قاله المجد بن تيمية في المنتقى (¬10) إن الترمذي قال بعد إخراج هذا الحديث: إنه حسن. فوهم منه؛ فإن الترمذي لم يحسنه، بل سكت عنه، قال بن سيد الناس في شرحه للترمذي: ¬

(¬1) في «السنن» رقم (625). (¬2) في «السنن» رقم (126) وسكت عنه الترمذي ولم يحسنه. (¬3) في «الجرح والتعديل» (3/ 1/ 161). (¬4) انظر «الميزان» (3/ 50) «لسان الميزان» (7/ 302). «الكاشف» (2/ 223). (¬5) في «الضعفاء والمتروكين» رقم (438). (¬6) انظر «الميزان» (3/ 50) و «التاريخ الكبير» (3/ 245). (¬7) في «المجروحين» (2/ 95). (¬8) في «السنن» (1/ 220 - 221). (¬9) انظر «تهذيب التهذيب» (3/ 85). (¬10) الحديث رقم (9/ 376).

وسكت الترمذي عن هذا الحديث فلم يحكم بشيء، وليس من باب الصحيح ولا ينبغي أن يكون من باب حسن. ثم ذكر الكلام على ضعفه، وأطال في ذلك (¬1). وهكذا حديث عبد الحمن بن القاسم عن أبيه، عن زينب بنت جحش انها قالت للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «أنها مستحاضة، فقال: «تجلس أيام إقرائها ثم تغتسل، وتؤخر الظهر وتعجل العصر وتغتسل [3 أ] وتصلي، وتؤخر المغرب وتعجل العشاء، وتغتسل وتصيبهما معًا. وتغتسل للفجر» أخرجه النسائي (¬2) ورجال إسناده ¬

(¬1) انظر شرح الحديث رقم () «نيل الأوطار» بتحقيقنا. (¬2) في «السنن» (1/ 184 - 185 رقم63) ورواته كلهم ثقات. قال الشيخ محمد بن على الإتيوبي في «شرح سنن النسائي» المسمى: «ذخيرة العقي في شرح المجتبي» (5/ 398 - 399). هذا الحديث بهذا السند من أفراد المصنف، أخرجه في هذا الباب فقط، وفيه لنقطاع فإن القاسم لم يسمع من زينب قال حافظ في «تهذيب التهذيب» (12/ 449 - 450) أرسل عنهما القاسم بن محمد. ويؤيده ما سنن أبي داود قال: بعد حديث عائشة (292): «أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت زينب» حديث فريضه: قال أبو داود في «السنن» (1/ 204 - 205) ولم أسمعه منه، عن سليمان بن كثير، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: استحيضت زينب بنت جحش، فقال لها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إغتسلي لكل صلاة» وساق الحديث. قال أبو داود: ورواه عبد الصمد- يعني بن عبد الوارث- عن سليمان بن كثير، قال: «توضئي لكل صلاة» وهذا وهم من عبد الصمد، والقول قول أبي الولي. لكن قال البيهقي في «السنن الكبرى» 1/ 350): رواية أبي الوليد غير محفوظة فقد رواه مسلم بن إبراهيم، عن سليمان بن كثير. كما رواه سائر الناس عن الزهري، ثم أخرج بسنده عن مسلم، عن سليمان بن كثير، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: «استحيضت أخت زينب بنت جحش سبع سنين ... الحديث». وصحيح الحديث المحدث الآلي في «صحيح أبي داود» رقم (292) وقال: «الصواب أم حبيبة بنت جحش». قال الجامع- محمد الإتيوبي الولوي-: فتبين بهذا أن المستحاضةهي أخت زينب لا زينب فتبصر وشرح الحديث واضح مما سبق» 1هـ.

ربما كانوا ثقات، فإنه (¬1) [ ... ] عدم سماع عبد الرحمن بن القاسم من أبيه. وهكذا حديث عائشة أنها جائت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقالت: إني أمراة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال لها: «لا، اجتنبي الصلاة أيام محيضك ثم اغتسلي ثم توضئي لكل صلاة ثم صلى وإن قطر الدم على الحصير». أخرجه أحمد (¬2)، والترمذي (¬3)، والنسائي (¬4)، وأبو داود (¬5)، وأبن ماجة (¬6)، وابن حبان (¬7). ولكنه معلول، فإن حبيبًا لم يسمع من عروة بن الزبير، وإنما سمع من عروة [المزني] (¬8) فالإسناد منقطع، وحبيب بن أبي ثابت يدلس، وعروة [وهو المزني فهو] (¬9) مجهول (¬10)، وقد روى أصل الحديث ..................... ¬

(¬1) غير واضح في المخطوط. وانظر التعليقة السابقة. (¬2) في «المسند» (6/ 204). (¬3) في «السنن» رقم (125). (¬4) في «السنن» رقم (1/ 181 - 185). (¬5) في «السنن» رقم (282). (¬6) في «السنن» رقم (621). (¬7) في صحيحة رقم (1350) وهو حديث صحيح. (¬8) غير واضح في المخطوط وما أثبتناه من «نيل الأوطار» شرح الحديث رقم (10/ 377). (¬9) غير واضح في المخطوط وما أثبتناه من «نيل الأوطار» شرح الحديث رقم (10/ 377). (¬10) قلت: في رواية أبي داود: عروة غير منسوب، وقد نسبه أبن ماجة، والدراقطني والبزار، وإسحاق بن راهويه، فقالوا: عروة بن الزبير الأمر الذي دل عليه أن عروة في رواية أبي داود، هو عروة بن الزبير لا عروة المزني، وعليه فإن سنده عند أبي داود صحيح. أو دعوى الانقطاع بأن حبيب بن أبي ثابت لم يسمعه من عروة بن الزبير فغير مسلمة كما جنح إلى ذلك الحافظ بن عبد البر قائلًا: لا شك أن حبيب بن أبي ثابت أدرك عروة، وحبيب لا ينكر لقؤة عروة لروايته عمن هو أكبر من عروة وأقدم موتًا منه، كما قال أبو داود في سننه: وقد روى حمزة الزيات عن حبيب عن عروة بن الزبير عن عائشة حديثًا صحيحًا. 1هـ وهو يشير إلى ما رواه الترمذي في الدعوات بسنده عن حبيب بن عروة عن عائشة وقال: حسن غريب. زمراد أبي داود بهذا الرد على الثوري القائل بعدم رواية حبيب عن عروة بن الزبير. ويؤيد حديث حبيب ما أخرجه البخاري من طريق أبي معاوية قال: حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة، وفيه: وقال أبي: «ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت» من تعليق السيد عبد الله بن هاشم اليماني المدني. «تلخيص الحبير» (1/ 168).

مسلم (¬1) بدون قوله: وتوضئي إلي آخره، لأنها زيادة غير محفوظة، وقد رواها [ ... ] (¬2) كالدرامي (¬3) والطحاوي (¬4). وفي الباب عن جابر مرفوعًا رواه أبو يعلى (¬5) بإسناد ضعيف. وعن سودة بنت زعمة رواه الطبراني (¬6)، وأما ما رواه البخاري (¬7) ومسلم (¬8) في صحيحيهما أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت، فقال لها رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «فاغتسلي ثم صلي» فكانت تغتسل عند كل صلاة، بل فعلت ذلك من قبل نفسها. قال الشافعي (¬9) إنما أمرها رسول الله- صلي الله عليه وآله وسلم- أن تغتسل وتصلي، وليس فيه أنه أمرها أن تغتسل لكل صلاة. قال: ولا أشك- إن شاء الله- أن ¬

(¬1) في صحيحة رقم (333). (¬2) كلمة غير مقروءة في المخطوط. (¬3) في سننه (1/ 199). (¬4) في «شرح معني الآثار» (1/ 100 - 101). (¬5) عزاه اليه الحافظ في «التلخيص» (1/ 169) وضعف إسناده. (¬6) في «الأوسط» رقم (9184) عن سودة بنت زعمة، قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها التي كانت تجلس فيها، ثم تغتسل غسلًا واحدًا. ثن تتوضأ لكل صلاة». وأورده الهيثمي في «المجمع» (1/ 281) وقال وفيه جعفر عن سودة لم أعرفه. (¬7) في صحيحة رقم (320). (¬8) في صحيحة رقم (334). (¬9) في «الأم» (1/ 245 رقم المسألة825).

غسلها كان تطوعًا غير ما أمرت به، وذلك واسع. وكذا قال سفيان بن عيينة، والليث بن سعد، وغيرهما. قال النووي (¬1) ولم يصح عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه أمر المستحاضة بالغسل إلا مرة واحدة عند انقطاع حيضتها، وهو قوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي» (¬2) وليس في هذا ما يقتضي تكرار الغسل. قال: وأما الأحاديث الواردة في سنن أبي داود والبيهقي وغيرهما أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أمرها بالغسل، فليس فيها شيء ثابت. وقد بين البيهقي (¬3) ومن قبله ضعفها انتهى. فإن قلت: هذه الأحاديث، وإن كان في كل واحد منها مقال لا ينتهض معه للاستدلال، لكنها تنتهض بمجموعها، ويشهد بعضها لبعض، فيكون من الحسن لغيره، وهو معمول به [3 ب]. ومع هذا فقد صحح بعضها بعض الأئمة، وحسن بعضها بعض آخر منهم. قلت: أما تصحيح من صحح بعضها، وتحسين من حسن بعضها فقد قدمنا أنه لم يقع موقعه، وأنه وهم من قائله. وأما شهادة بعضها لبعض، وانتهاض بعضها للاستدلال فهو إنما يكون لو كانت سالمة من معارض، هو أنهض منها، ولم تسلم هذه الأحاديث من معارض، بل عورضت بما هو صحيح بلا خلاف، وهو أنه لا يجب ىعليها إلا غسل واحد عند إدبار وقت الحيضة، ولا يلزمها تجديد الغسل لكل صلاة أو للصلاتين، وكذلك لا يلزمها تجديد وضوء لكل صلاة أو للصلاتين. فإن قالت: إنه لا معارضة هاهنا، لأن الغسل المتكرر، والوضوء المتكرر لا ينافي ¬

(¬1) في «المجموع» (2/ 554). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (306) والنسائي (1/ 184) وأبو داود رقم (282). وهو حديث صحيح. (¬3) في المخطوط غير واضح وما أثبتناه من «نيل الأوطار» شرح الحديث رقم (17/ 325) بتحقيقنا.

غسل مرة واحدة، والزيادة مقبولة وإن كان المزيد أصح منها. قلت: إنما يتم هذا لو لم ينص الأئمة على عدم صحة شيء بالمرة. فإن قلت: فهلا جمعت بين الأحاديث مجمل تكرير الغسل والوضوء على الاستحباب كما فعل بعض الأئمة. وقد تقرر أن الجمع مقدم على الترجيح. قلت: لو سلمنا أن هذا الجمع متحتم فليس هاهنا وجوب غسل متكرر (¬1)، ولا وجوب وضوء متكرر وهو المطلوب، وقد عرفت مما تقدم أنه لم يكن مطلوبنا هاهنا إلا تقرير أن دم الأستحاضة ليس من الأحداث التي ينتقض بها الوضوء على أي صفة كان، وإذا ثبت هذا فلا فرق بين المستحاضة وبين من به سلس البول. أو سلس الغائط، أو سلس الريح، أو فيه جرح يستمر خروج الدم، أو القيح [] (¬2). وبه يتعذر الاحتراز عنه، فيكون من به شيء من هذه العلل كالمستحاضة لعدم الفرق بينها وبينهم بوجه من الوجوه. ويثبت لهم حكمها ثبوتًا ليس فيه شك ولا إشكال (¬3). ولا يتيسر في مثل هذا إيراد ما ¬

(¬1) وما ذهب إليه الجمهور من عدم وجوب الاغتسال إلا لإدبار حيضة هو حق، لفقد الدليل الصحيح الذي تقوم به الحجة لا سيما في مثل هذا التكليف الشاق فإنه لا يكاد يقوم مما دونه في المشقة إلا خلص العباد، فكيف بالنساء الناقصات الأديان بصريح الحديث، والتيسير وعدم التيسير من المطالب التي أكثر المختار صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإرشاد إليها، فالبرأة الأصلية المعتضدة بمثل ما ذكر لا يعني جزم بالانتقال عنها بما ليس بحجة توجب الانتقال وجميع الأحاديث التي فيها إيجاب الغسل لكل صلاة كل واحد منها لا يخلو عن مقال، لا يقال إنها تنتهض للاستدلال بمجموعها، لأنا نقول: ـ يوجد ما يعارضها وأما إذا كانت معارضة بما هو ثابت في الصحيح فلا كحديث عائشة رضي الله عنها- تقدم- فإن فيه «أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر فاطمة فلا أبي جحش بالاغتسال عند ذهاب الحيضة فقط. وترك البيان في وقت الحاجة لا يجوز كما تقرر في الأصول ... ». انظر: «الأم» (1/ 245) و «المجموع» للنووي (2/ 554). «المغني» (1/ 422). (¬2) كلمة غير واضحة في المخطوط. (¬3) انظر «المغني» (1/ 421 - 423).

أورده النافون للقياس من تلك الإشكالات، لأن الإلحاق بعدم الفارق لما كان في غاية الوضوح والجلاء اندفع عنه كل إيراد وإشكال وتشكيك كما يعرف ذلك فحول علماء الأصول، وأهل الرسوخ في علمي المعقول والمنقول. ويدل لعدم انتقاض طهارة من به علة من هذه العلل المتقدمة ما علمناه من كليات هذه الشريعة المطهرة [4 أ] التي يندرج تحت عمومها هؤلاء وأمثالهم، وذلك مثل قول الله- سبحانه-: {فاتقوا الله ما استطعتم} (¬1) فإن فيها تقييد التقوى بالاستطاعة، فما خرج عنها فليس من التكاليف التي كلف الله بها عباده، ومعلوم أنا لو قلنا أنها تنتقض طهارة من به علة من تلك العلل بالخارج الذي لا يمكنه الاحتراز عنه، وبالحدث الذي لا يقدر على إمساكه لكان ذلك تكليفًا له بما لا يستطيعه. وقد فهم الصحابة- رضي الله عنهم- من هذه الآية تخفيف التكليف عليهم، ولهذا عظم عليهم الأمر لما نزل قول الله- سبحانه-: {اتقوا الله حق تقاته} (¬2) وصرحوا بأن ذلك ليس في قدرتهم، ولا يدخل تحت استطاعتهم، فنزل قول الله- سبحانه-: {اتقوا الله ما استطعتم} (¬3) ففرحوا بذلك، وزال عنهم ما وجدوه من الحرج عند نزول الآية المتقدمة (¬4)، ومثل هذه الآية قول النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا به ما استطعتم» (¬5) ومثل قوله- صلي الله عليه وآله وسلم-: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا» (¬6) وهي أحاديث ثابتة في الصحيح. ومثله حديث: «صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا فإن لم تستطع فعلى جنب». وحديث: ¬

(¬1) [التغابن: 16]. (¬2) [آل عمران: 102]. (¬3) [التغابن: 16]. (¬4) انظر «تفسير ابن كثير» (8/ 140). (¬5) تقدم تخريجه. (¬6) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (4344، 4345) ومسلم رقم (71/ 1733) من حديث أبي موسى الأشعري.

«أمرت بالحنيفية السمحة السهلة» (¬1). وبالجملة فمن نظر في كتاب العزيز، وفي السنة المطهرة حق النظر وجدهما مصرحين في كثير من المواضيع بتقييد التكاليف الشرعية بالاستطاعة، وعدم الحرج والتيسير، وعدم التعسير، والتبشير وعدم التنفير، ولا أشد تكليفًا وأصعب تعبدًا من تكليف العبد [ ... ] (¬2). ولا يدخل تحت وسعة، فرحمة الله التي وسعت كل شيء [] (¬3) تخالف هذا التكليف وتنافي هذا الحرج [ ... ] (¬4) وتباين هذا التعبد الصعب، فتقرر بمجموع ما ذكرناه أن دم المستحاضة، واستمرار حدث من له حكمها ممن تقدم ذكره، وعدم ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (7/ 209) وأورده السيوطي في «الجامع الصغير» رقم (3150) وأشار لضعفه. وقال المناوي في «فيض القدير» (3/ 203): «وفيه على بن عمر الحربي أورده الذهبي في الضعفاء وقال: صدوق. ضعفه البرقاني، ومسلم بن عبد ربه، ضعفه الأزدي ومن ثم أطلق الحافظ العراقي في ضعف سنده، وقال العلائي: مسلم ضعفه الأزدي ولم أجد أحد وثقه. ولكن له طرق ثلاث ليس يبعد أن لا ينزل بسببها عن درجة الحسن. قلت: وله شاهد من حديث أبي قلابة الجرمي مرسلًا بلفظ: «يا عثمان إن الله لم يبعثني بالرهبانية مرتين أو ثلاثًا، وإن أحب الدين عند الله الحنيفية السمحة». أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (3/ 395). وله شاهد آخر من رواية عبد العزيز بن مروان بن الحكم مرسلًا. أخرجه أحمد بن حنبل في «الزهد» (289 و210) بسند صحيح. وأخرج أحمد في «المسند» رقم (2107 - شاكر) بإسناد صحيح من حديث بن عباس قال: قيل يا رسول الله! أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: «الحنيفية السمحة» وعلقه البخاري في صحيحة ووصله في «الأدب المفرد» رقم (287) من طريق محمد بن إسحاق عن داود بن حصين عن عكرمة عن ابن عباس. وقال الحافظ في «الفتح» (1/ 94) إسيناده حسن. وخلاصة القول أن الحديث حسن بشواهده. والله أعلم. (¬2) ثلاث كلمات غير واضحة في المخطوط. (¬3) كلمتان غير واضحتين في المخطوط. (¬4) كلمة غير واضحة في المخطوط.

انقطاعه إلا في أوقات غير معلومة، كل هذا لا تبطل به الطهارة، ولا ينتقض به الوضوء، ولا يجب على صاحبه تأخير صلاة إلى آخر وقتها، ولا يمنعه من أن يكون إمامًا بمن لم يكن فيه مثل علته، ولا يحول بينه وبين تأدية صلاته في جماعة [4 ب]. وإلى هنا انتهت المقدمة وبها يتبين جواب ما سأل عنه السائل على طريقة الإجمال. وأما ما سأل عنه على طريقة التفصيل فنقول: قد اشتمل سؤاله هذا على مسائل: المسألة الأولى: قوله: فإذا صلى في بيته في حين وضوئه صلى قبل أن يحدث، وإن خرج إلى المسجد أحدث إما قبل الدخول في الصلاة، وإما قبل الخروج منها، فهل يلزمه المشي إلى المسجد، وإن صلى بالحدث أم تلزمة الصلاة بالطهارة وإن فاتته الجماعة؟. وأقول: قد قدمنا أن هذا الحدث الدائم مطلقًا أو غالبًا بحيث لا يعلم وقت انقطاعه ليس بحدث أصلًا، ولا هو مما يطلق عليه أسم الحدث شرعًا، وحينئذ فتأدية صاحب علة من هذه العلل لصلاته حال خروج الخارج كتأديته لها مع مصادفة انقطاعه في كل الصلاة أو بعضها، فترك صاحبه لصلاة الجماعة وعدوله إلى الصلاة وحده قد تسبب عنه ترك سنه مجمع عليها، وفاته بذلك أجر كبير، وفضل عظيم، وثواب جليل، وهو ما في قوله- صلي الله عليه وآله وسلم-: «صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته، وصلاته في سوقه بضعًا وعشرين درجة» وهو في الصحيحين (¬1) وغيرهما (¬2) من حديث أبي هريرة، وفيهما (¬3) أيضًا من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله- صلي الله عليه وآله وسلم-: «صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة». ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (648) ومسلم رقم (245/ 650). (¬2) كمالك (1/ 129 رقم2) وأحمد (2/ 65) وأبو عوانة (2/ 2). والبيهقي في «السنن الكبري» (3/ 60). (¬3) البخاري في صحيحة رقم (645) ومسلم رقم (249/ 650).

وفي الباب أحاديث (¬1) غير هذه في بعضها التصريح بأنها تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة، فكيف يسمح من له رغبة في الخير، وطلب للثواب، وحرص على الأجر أن يصلي منفردًا فتكون له درجة واحدة، ويفوت عليه ست وعشرون درجة! مع كون صلاته وحده على فرض انقطاع الخارج منه حال تأديته لتلك الصلاة منفردًا لا يفضل على تأديته لها منفردًا، والخارج يخرج، وهكذا صلاته في جماعة والخارج منقطعًا لا يفضل على تأديته لها، والخارج مطبقًا، وهل هذا إلا من ظلم النفس بإحرمها للأجور التعددة، ومن بخس الحظ بتفويت الأجور المتكاثرة ومن عدم الرغبة في الخير الكثير، والأجر العظيم بالعدول عنه إلى الأجور النزر، والثواب القليل! هذا لو لم يكن من الشارع إلا لمجرد المفاضلة بين الصلاتين، فكيف وقد صح عنه أنه قال: «لقد هممت أن أمر بالصلاة، ثم أمر رجلًا فيصلي بالناس، ثم انطلق معي برجال معهم حزم [5أ] من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» وهو في الصحيح (¬2) من طرق، حتى أنه لم يرخص في التخلف عن الجماعة للأعمى الذي لا قائد له إذا كان يسمع النداء، وهو أيضًا في الصحيح (¬3). وجعل التخلف عن صلاة الجماعة من علامات النفاق، وهو في الصحيح (¬4) أيضًا. فإن هذه الأحاديث وأمثالها تدل على أن ذلك متأكد أبلغ تأكد، ومشدد فيه أعظم تشديد، ولا أقول: ذلك وهذا التفضيل الذي سبق ذكره ما بين صلاة الجماعة وصلاة ¬

(¬1) منها ما أخرجه البخاري في صحيحة رقم (646) من حديث أبي سعيد. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (644) ومسلم رقم (251/ 651). ومالك (1/ 129 رقم3) وأحمد (2/ 244) وأبو داود رقم (548و549) والنسائي (2/ 107) وابن ماجه رقم (791) والبيهقي في «السنن الكبرى» (3/ 55). (¬3) أخرجه مسلم في صحيحة رقم (255/ 653) والنسائي (2/ 109 رقم 850). (¬4) أخرجه البخاري رقم (657) ومسلم رقم (252/ 651) وابن ماجه (1/ 261 رقم 797) والدرامي (1/ 291) من حديث أبي هريرة.

المنفرد يدل [ ... ] (¬1) دلالة وينادي أعظم نداء، بأن صلاة الرجل منفردًا صحيحة، وأنها تسقط عنه الواجب، وتجزي عنه الفريضة، وكذلك حديث صلاة الرجل مع الأمام أفضل من الذي يصلي وحده ثم ينام، ونحو ذلك من الأحاديث كحديث المسيء صلاته (¬2)، ومن شابه ممن صلى منفردًا. ولكني أقول: إن العدول إلى صلاة الانفراد مع عدم وجود العذر المانع من صلاة الجماعة مع كونه مشددًا فيها هذا التشديد، ومؤكد حكمها هذا التأكيد لا يفعله إلا من رغب عن الخير، وأحرم نفسه الثواب الكثير، والأجر العظيم، فصاحب هذه العلل المتقدم ذكرها إن لم يكن له عذر إلا مجرد ما ظنه بأن تأدية صلاته وحده مع الانقطاع أكثر ثوابًا، وأعظم أجرًا من تأديتها في جماعة مع عدم الانقطاع فقد ظن ظنًا باطلًا، وتصور تصورًا فاسدًا. وسبب هذا الظن الباطل، والتصور الفاسد ما خطر له من أن ذلك الخارج حدث من الأحداث، وليس الأمر كذلك كما قدمنا لك. قال السائل (¬3) - كثر الله فوائده-: «وسؤال آخر وهو أنه ربما زاد الحدث ببعض المأكولات والمشروبات، فهل يلزمه ترك ذلك المأكول أو المشروب إذا عرف أنه يمد علة الحدث؟. أقول: لا تلزمه ذلك حتمًا، لأنه أكل ما يحل أكله شرعًا [5ب]، ولم يرد تقييده بمثل هذا القيد أعني كونه لا يزيد في شيء من فضلات البدن، بل يجوز للإنسان أن يأكل ما أذن الله بأكله ما لم يكن في ذلك المأكول ما يتسبب عنه حدوث عله يخشى على نفسه ¬

(¬1) كلمة غير واضحة في المخطوط. (¬2) أخرجه أحمد (2/ 437) والبخاري رقم (793) ومسلم رقم (45/ 397) وأبو داود رقم (856) والترمذي (2/ 103 رقم 303) والنسائي (2/ 124 رقم 884) وابن ماجه رقم (1060) من حديث أبي هريرة. (¬3) في هامش المخطوط ما نصه: هذا السؤال متأخر عن السؤال الذي بعده

منها الهلاك، أو بضرر البدن بمرض، فإن الله- سبحانه- قد نهى عباده عن أن يقتلوا أنفسهم، ونهاهم عن أن يأكلوا أو يشربوا ما يضر بأبدانهم، فهذا الجنس من المأكول والمشروب ليس مما أذن الله بأكله أو شربه، بل مما نهى عنه عباده، وليس مسألة السؤال من هذا القبيل، فإن المفروض أن الرجل الذي وقع السؤال عنه قد صار معتلًا بتلك العلة ولا يحصل باستعمال هذا النوع المسؤول عن أكله وشربه إلا مجرد الزيادة. وقد عرفت أنه لا فرق بين أن يكون الخارج مطبقًا كثيرًا، أو يأتي في وقت دون وقت، ولكن لا يكون وقت انقطاعه معلومًا عنده، أما لو كان الرجل صحيحًا ليس به علة السلس (¬1) لكنه إذا استعمل نوعًا خاصًا من المأكول والمشروب حدثت به هذه العلة فلا يبعد أن يقال: إن كان يجد غير هذا المأكول والمشروب بدون مشقة عليه في تحصيله على وجه لا يكون آثمًا به فاجتنابه واجب عليه، لأنه قد حصل ضررًا في بدنه [6أ] ومرض حادث عليه. وأما إذا كان لا يجد إلا هذا النوع الذي يحدث به هذه العلة، ولا يجد غيره، وقد أجاز الله المضطر الانتفاع أكلًا وشربًا بما حرمه عليه تحريمًا منصوصًا عليه، معلمًا بالدليل الصحيح كما في قوله- سبحانه-: {إلا ما اضطررتم إليه} (¬2) فجواز الأكل أو الشرب لما هو حلال في أصله، ولكنه يحدث به في البدن مثل ذلك الحادث ثابت بفحوى الخطاب (¬3)، وهو مما وقع الاتفاق بين أهل العلم على العمل به، حتى وافق في ¬

(¬1) قال النووي في «المجموع» (2/ 559) سلس البول هنا بكسر اللام وهي صفة للرجل الذي به هذا المرض، وأما سلس بفتح اللام فاسم لنفس الخارج فالسلس بالكسر كالمستحاضة وبالفتح كالاستحاضة. وقال في «اللسان» (6/ 324): سلس بول الرجل إذا لم يتهيأ أن يمسكه وفلان سلس البول إذا كان لا يستمسكه. (¬2) [الأنعام: 119]. (¬3) تقدم التعريف به.

العمل به النافون للعمل بالقياس والنافون للعمل بالمفاهيم. فإن قلت: فإذا كان يتمكن من غير هذا النوع الذي تحدث به العلة بالسؤال للناس لا بغير ذلك؟. قلت فواجب عليه أن يترك السؤال، ويأكل أو يشرب من ذلك النوع الذي يحدث به مثل ذلك، لأنه بوجوده قد صار ممن يحرم عليه السؤال كما يدل ذلك على الأدلة الواردة في تحريم سؤال الناس (¬1) لمن كان غنيًا، أو قويًا إلا أن يقال: إنه لا يصير بوجود هذا النوع الذي يضره غنيًا، بل يكون وجوده [6ب] في ملكه كعدمه، فهو والحال هذه لم يجد قوت يومه الذي يحرم عليه السؤال معه على تقدير الغني المانع من سؤال الناس بوجود قوت اليوم على ما في ذلك من اضطراب الأقوال واختلاف المذاهب. وبسط الكلام في هذا يطول به البحث، ويخرجنا عن المقصود، فهذان الاحتمالان للمجتهد أن يرجح منهما ما يترجح له بعد توفيه النظر حقه. قال السائل في غضون كلامه في السؤال الأول المحرر قبل هذا السؤال الذي فرغنا من الجواب عليه: فإن قلتم يلزمه المشي إلى صلاة الجماعة، وتصح صلاته مع الحدث، فهل تصح إمامته بكامل الطهارة أم لا؟ انتهى. أقول: قد قدمنا أن صلاة الجماعة ليس بفريضة، ولا هي شرط لصحة الصلاة، ولكنها سنة من السنن المؤكدة حسبما أوضحناه، فلا يلزمه المشي حتمًا، ولكنه يسن له ¬

(¬1) منها ما أخرجه أحمد (1/ 441) وأبو داود رقم (1626) والترمذي رقم (650) وابن ماجه رقم (1840) والنسائي رقم (2593). وهو حديث صحيح. من حديث بن مسعود مرفوعًا: «من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش، قالوا يا رسول الله: وما يغنيه؟ قال: خمسون درهمًا أو حسابها من الذهب». ومنها ما أخرجه أحمد (3/ 7، 9) وأبو داود رقم (1628) والنسائي رقم (2596) من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف». وهو حديث حسن.

كما تقدم، وأما كونها تصح إمامة سلس البول (¬1) ونحوه بكامل الطهارة. فأقول: قدمنا أن صاحب هذه العلة يفعل ما يفعله من لا عله به، وأن هذا الخارج ليس كسائر الأحداث، بل لا فرق بينه وبين من لا علة به، فظهر من هذا التقرير الذي أسلفنا تحريره أنه يؤم بغيره [7أ] ممن لا علة به، لأنا لا نسلم أنه ناقص طهارة، ثم لو سلمنا أن طهارته ناقصة تنزلًا فلم يأت في الشريعة المطهرة منع ناقص الطهارة عن أن يكون إمامًا، لمن كان كاملها. وقد كان الصحابة- رضي الله عنهم- من هو كثير المذي (¬2)، وأطلع على ذلك رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وسئل عنه، ولم يرد في حديث صحيح أو حسن ولا ضعيف أنه نهاه عن أن يؤم بغيره، وهكذا قد كان في عصره مستحاضات (¬3)، وبلغ ذلك رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وسئل عنه في مواطن، وتكرار ذلك كما تفيده الأحاديث التي قدمنا ذكرها في سؤال المستحاضات لرسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وسؤال من سأله من غيرهن عنهن، ولم يأت في حرف واحد أنه نهاهن عن الإمامة لغيرهن في الصلاة. ¬

(¬1) أخرج عبد الرازق في مصنفه رقم (582) والبيهقي (1/ 356) كان زيد قد سلس منه البول، وكان يداري منه ما غلب، فلما غلبه أرسله، وكان يصلي وهو يخرج منه. وأخرج البيهقي في «السنن الكبرى» (1/ 357) من طريق إسحاق بن راهويه: كان زيد بن ثابت سلس البول وكان يداويه ما استطاع فإذا غلبه صلى، ولا يبالي ما أصاب ثوبه، وقال أحمد في مسائل عبد الله رقم (82): وكان زيد بن ثابت سلس البول محصنه فصلى. (¬2) منها ما أخرجه البخاري رقم (132، 178، 269) ومسلم رقم (17، 18، 19/ 303) وأبو داود رقم (206) والترمذي رقم (114) والنسائي رقم (1/ 96، 97) وابن ماجه رقم (504) عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت رجلًا مذاء، فأمرت المقداد أن يسأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله: فقال: «فيه الوضوء». (¬3) تقدم ذكرهن خلال الأحاديث المتقدمة.

وقد كان في زمنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من به جراحات (¬1) يكثر خروج الدم ونحوه منها، ولم يرد عنه النهي عن أن يؤموا بغيرهم. وقد كان في عصره من يتطهر بالتيمم، ولم يثبت عنه أنه نهاهم عن أن يصلوا بغيرهم [7ب]، بل ثبت أنه قال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لعمران بن حصين: «عليك بالصعيد فإنه يكفيك»، وهو في الصحيحين (¬2) وغيرهم. وثبت أنه قال لأبي ذر: «إن الصعيد طهور لمن لم يجد الماء عشر سنين»، وهو في مسند أحمد (¬3)، وسنن أبي داود (¬4) وغيرهما (¬5). بل ثبت أن عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل صلى بأصحابه بالتيمم وكان جنبًا، فذكروا ذلك للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال: «يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟»، فقال: نعم، ذكرت قول الله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا} (¬6) فتيممت وصليت، فضحك رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ولم يقل شيئًا، وهو حديث مشهور (¬7) معروف مروي في كتب الحديث، وكتب السير. ¬

(¬1) أخرج مالك (1/ 62) وعبد الرازق في مصنفه (1/ 578 - 581) وابن سعد في «الطبقات» (3/ 350) والدراقطني (1/ 224) والبيهقي (1/ 357) وأورده الهيثمي في «المجمع» (1/ 295) وقال: رواه الطبراني. عن عمر رضي الله عنه أنه لما طعن كان يصلي وجرحه يثغب دمًا. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (344) ومسلم رقم (682). (¬3) في «المسند» (5/ 147، 155). (¬4) في «السنن» رقم (332، 333). (¬5) كالنسائي (1/ 171) وابن أبي شيبه في «المصنف» (1/ 156 - 157). (¬6) [النساء: 29]. (¬7) أخرجه أحمد (4/ 203) والدارقطني (1/ 178 رقم 12) وابن حبان في صحيحه رقم (1311 - 1313). والحاكم في «المستدرك» (1/ 177) وصححه ووافقه الذهبي. وأخرجه البخاري (1/ 454) معلقًا. وقال الحافظ: «هذا المعلق وصله أبو داود والحاكم وإسناده قوي ... ». والخلاصة أن الحديث صحيح.

والظاهر أن أصحابه كانوا متوضئين، ولهذا أنكروا عليه، وكان الماء موجودًا، ولو كان معدومًا لم ينكروا عليه، ولا كانت له حاجة تدعوه إلى الاستدلال بالآية، بل كان سيتعذر بعدم وجود الماء، وهكذا وقع من غيره من الصحابة كما رواه أحمد (¬1) وغيره عن بن عباس أنه صلى بجماعة من الصحابة وهو متيمم من جنابة، وفيهم عمار بن ياسر، وأخبرهم بن عباس بذلك، ولم ينكر عليه أحد منهم. فعرفت بمجموع ما ذكرناه المنع من كون من به سلس البول ونحوه ناقص طهارة. ثم على [8أ] التسليم فلا دليل يدل على المنع، بل الدليل قائم على الجواز، ومفيد للصحة كما أوضحناه (¬2). قال السائل- كثر الله فوائده-: «وفرع هذه المسألة، وهو أن السائل يصلي مع الجماعة بالحدث لإذن أهل العلم له بذلك كما تقدم، ولخوف أن تكون صلاة الجماعة شرطًا كما هو مذهب أهل الظاهر ومن وافقهم، ثم إنه يقضي الصلاة في بيته لأجل إمكان الصلاة على طهارة، وتناول في ذلك حديث (¬3) الرجلين اللذين صليا بالتيمم، فلما وجدا الماء أعاد أحدهما، ولم يعد الآخر، فذكرا ذلك للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال للذي لم يعد: «أصبت السنة»، وقال للآخر: «لك الأجر مرتين» وهذا الرجل قد اتخذ القضاء ديدنًا، فهل هو مصيب في ذلك أم لا؟ انتهى. ¬

(¬1) (3/ 173 رقم 1107) وعزاه صاحب «المنتقى» الأثرم. (¬2) وقال الشوكاني في «السيل الجرار» (1/ 534):» وأما ناقص الطهارة فلا دليل يدل على المنع أصلًا، فيصح أن يؤم المتيمم متوضًأ ومن ترك غسل بعض أعضاء وضوئه لعذر بغيره ونحوهما، ولا يحتاج إلى الاستدلال بحديث عمرو بن العاص في صلاته بأصحابه بالتيمم وهو جنب، فإن الدليل على المانع كما عرفت والأصل الصحة. (¬3) أخرجه أبو داود رقم (238) والنسائي (1/ 213 رقم 433) من حديث أبي سعيد الخدري وهو حديث حسن.

أقول: إذا كان الحضور مع الجماعة قد أذن به أهل العلم، وفيه الخلوص من الخلاف في كون صلاة الجماعة شرطًا فذلك يدل عل أن هذه الصلاة التي صلاها مع الجماعة صحيحة مجزية، ولو كانت غير صحيحة ولا مجزية لم يأذن بها أهل العلم، ولا تخلص بها الذي به تلك العلة عن كون الجماعة شرطًا عند من يقول به، وصحة هذه الصلاة مستلزم بعدم صحة قضائها، لأن القضاء إنما يكون إستدراكًا لشيء فات، ولم يصح، ولا إجزاء هذه الصلاة المفعولة في الجماعة ممن هو كذلك صحيحة مجزية. فتقرر بهذا أن إعادة هذه الصلاة من ذلك الذي قد صلاها في جماعة ابتداع محض، وشكوك فاسدة، وتنطع لم يأذن الله به. وإذا عرفت أنه لا وجه للقضاء على مقتضى إرادة هذا القاضي، وهو كونه حضر صلاة الجماعة لإذن أهل العلم له بذلك، وليتخلص من قول من قال: إنها شرط، وأنه لا يصح القضاء على مقتضى هذه الإرادة فهو أيضًا كذلك ليس بقضاء على مصطلح أهل الأصول والفروع، لأنهم [8ب] لا يطلقون أسم القضاء على مثل هذا، فما أحق هذه الصلاة التي انتقل منها من [ ... ] (¬1) إلى (¬2) زمن السنة إلى البدعة، ومن الثواب المتضاعف بفعل سنة الجماعة إلى العقاب بفعل بدعة الإعادة بغير وجه أن يقال لها صلاة الشك والوسوسة، لا صلاة القضاء. ومع هذا فهذه الإعادة لهذه الصلاة قد ذكر حكمها رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال «لا ظهران في يوم» (¬3)، وقال «لا تصلي صلاة في يوم مرتين» (¬4) ¬

(¬1) كلمة غير واضحة في المخطوط. (¬2) كلمة غير واضحة في المخطوط. (¬3) قال ابن حجر في «تلخيص الحبير» (1/ 156): «لا ظهران في يوم» هو بلظاء المعجمة المضمومة ولم أره بهذا اللفظ. لكن روى الدراقطني في سننه (1/ 415) من حديث ابن رفعه: «لا تصلوا صلاة في يوم مرتين» بإسناد صحيح. (¬4) أخرجه أبو داود رقم (579) والنسائي (2/ 114) والدارقطني (1/ 415 رقم 1) والبيهقي (2/ 303) وابن خزيمة (3/ 69) وابن حبان في صحيحة رقم (432) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه.

وهذان الحديثان صحيحان ثابتان في دواوين الإسلام، فلم يربح هذا المتشكك من فعله لهذه الصلاة المشكوكة إلا بوقوعه في ما نهى عنه رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: ونفاه وأبطل حكمه وبيينه للناس بيانًا أوضح من شمس النهار. ولا يصح الاستدلال على جواز صلاة الشك والوسوسة هذه بما وقع في الحديث الصحيح للرجلين الذين صليا بالتيمم، ثم وجدا الماء، فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر، فقال النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- للذي لم يعد: «أصبت السنة»، وقال للآخر: «لك الأجر مرتين» (¬1)، لأن هذا الذي أعاد لم يكن عنده علم بعدم جواز الإعادة، وقصد خيرًا وكرر عبادة في [ ... ] (¬2) جاهلًا بأن حكم الشرع في ذلك عدم جواز الإعادة فقال له ما قال، وأرشده إرشادًا في غاية الوضوح، يفهمه كل [ ] (¬3) وبين له أن فعله هذا خلاف ما شرعه الله لعباده وهو عدم الإعادة، وذلك حيث قال لصاحبه: «أصبت السنة» أي أصبت الطريقة التي شرعها الله لعباده، وظفرت بما هو حكم الله في هذه الصلاة، وفيه دلالة على أن صاحبه الذي أعاد بسبب الإعادة غير مصيب للسنة، ولا موافق لها، ولا عامل بحكمه [9أ]. والحاصل أن هذه المقالة النبوية، والعبارة المحمدية قد دلت أن ذلك الذي أعاد الصلاة مبتدع لا متبع، ومخالف للسنة لا موافق لها، ولكنه لما لم يكن ابتداعه عن قصد لعدم علمه بما شرعه الله لعباد في مثل هذه الصلاة التي صلاها بالتيمم، ثم وجد الماء قال له النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ما قال، وليس المراد بالسنة هاهنا ما هو المصطلح عليه عند أهل الأصول، وأهل الفروع، من كونها ما يمدح فاعله، ولا يذم تاركه، فتكون عندهم محتملة بما ليس بواجب، وهو ما يمدح فاعله، ويذم تاركه، فإن هذا ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) كلمة غير واضحة في المخطوط. (¬3) كلمة غير واضحة في المخطوط.

اصطلاح متحدد، وعرف حادث ليس بحقيقة لغوية ولا شرعية (¬1)، بل المراد بالسنة في لسان الشارع ما شرعه الله لعباده أعم من أن يكون واجبًا أو مرغبًا فيه، وليس بواجب، وهذا معلوم لا يخفى، ولكنا أردنا مزيد الإيضاح لدفع ما عسى أن يتوهمه متوهم، أو يغلط فيه غالط، فعرفت بهذا أن قوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «أصبت السنة» في قوة قوله: أصبت ما شرعه الله لعباده، ومن أصاب ما شرعه الله لعباده فقد رشد وفاز بالخير كله دقه وجله، وآخره وأوله، ومن لم يصب ما شرعه الله لعباده فهو في الجانب المقابل لجانب الشريعة، وليس إلا البدعة؛ إذ لا واسطة بينهما في الأمور المنسوبة إلى الدين، الداخلة في مسماه حقيقة أو ادعاء. فإن قلت: قد ثبتت الإعادة في الأحاديث الواردة في من أدرك أئمة الجور الذين يميتون الصلاة كميتة [9ب] الأبدان. بإخراجهم لها عن وقتها المضروب كما في الأحاديث الصحيحة، فإن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال لمن أدرك ذلك من المؤمنين أنهم يصلون الصلاة لوقتها، وأمرهم أن يصلون مع أولئك، وتكون صلاتهم معهم نافلة (¬2). أقول ليس في هذا إشكال يرد على ما نحن بصدده من الكلام على مسألة السؤال، فإن هذه الصلاة المعادة قد أخبرهم النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنها ليست بفريضة، ولا بقضاء للفريضة، بل قال: إنها تكون لهم نافلة، والنافلة باب آخر، والمنهي عنه ليس إلا إعادة الصلاة على أنها فريضة، ثم هي أيضًا مفعولة بعد خروج وقت الصلاة، فليس ¬

(¬1) تقدم التعريف بها. (¬2) منها: ما أخرجه أحمد (4/ 160 - 161) والترمذي رقم (219) والنسائي (2/ 112 - 113 رقم 858) وأبو داود رقم (575) وابن حبان في صحيحة رقم (1565) والترمذي (1/ 426) عن يزيد بن الأسود أنه صلى مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الصبح، فلما صلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا هو برجلين لم يصليا. فدعا بهما، فجيء بهما ترعد فرائضهما، فقال لهما: «ما منعكما أن تصليا معنا»؟ قالا: قد صلينا في رحالنا، قال: «فلا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الإمام ولم يصل فصليا معه، فإنها لكما نافلة». وهو حديث صحيح.

هذا من باب إعادة الصلاة في وقتها، والأمر واضح لا يخفى- إن شاء الله-. قال- كثر الله فوائده-: وأيضًا على أي صفة يحضر هذا الرجل صلاة الجمعة؟ أفتونا علمكم الله ما لم تكونوا تعلمون. انتهى. أقول: يحضر الجمعة على الصفة التي يحضر بها باقي الصلوات، فالجمعة صلاة من الصلوات، واختصاصها بالخطبة قبلها ليس ذلك مما يخرج عن كونها صلاة من الصلوات، ولقد أطال الناس في شروط هذه العبادة لأعني صلاة الجمعة (¬1) بما لا طائل تحته عند من جرد نفسه للعمل بالكتاب والسنة، ولم يعول على مجرد الرأي المحض، وتأمل- أرشدك الله- مقالات الناس في هذه العبادة، فهذا يقول لا يجب إلا في مكان مخصوص كالمصر الجامع في المكان المستوطن، وهذا يقول لا يجب إلا مع وجود الإمام الأعظم، وهذا يقول لا يجب إلا بعدد مخصوص [10أ] كقول من قال بالأربعين أو بالسبعين، أو بالاثنى عشر، أو بالثلاثين، أو نحو ذلك من الأقوال الفاسدة التي لا ترجع إلى عقل ولا نقل. ويا ليت شعري ما الحامل لهم على هذا وأمثاله في مثل هذه العبادة الجليلة، والصلاة الفاضلة! وقد بحثنا عن أدلتهم أتم بحث. فغاية ما يجده الإنسان عند من له نظر في الأدلة على وجه يكنه الاستدلال على ما قاله هو أومن يقلده هو وقوع واقعة فعلية أو اتفاقية. ويالله العجب كيف يستدل بمثل ذلك على كون الشيء شرطًا‍! فإن الشرط هو الذي يؤثر عدمه في عدم المشروط، فلا تثبت إلا بدليل خاص، وهو ما يفيد نفي الذات من حيث هي، أو نفي ما لا تصح. ويجري بدونه. وهكذا الفرض لا يثبت إلا بدليل خاص كالأمر بالفعل أو النهي عن الترك، أو التصريح بأنه فرض أو واجب أو نحو ذلك، فانظر- أرشدك الله- هل صح عن الشارع من وجه صحيح أنه قال لا صلاة جمعة إلا في مسجد جامع، أو في مكان مستوطن، أو ¬

(¬1) انظر «فتح الباري» (2/ 423).

مع وجود إمام أعظم، أو بعدد هو كذا أو كذا، أو قال لا يصح صلاة جمعة، أو لا يجري بكذا أو كذا أو كذا، أو وقع منه الأمر بذلك، أو النهي عن تركه، أو صرح بأنه فرض أو واجب! فيالله العجب ما للناس قيدوا هذه العبارة بقيود، وشرطوها بشروط تقلل عددها، وتقصر مددها، وتقسطها على كثير من العباد. وبالجملة فالبحث عن هذا يطول، وقد أوضحته في مؤلفاتي (¬1)، وتكلمت على دفع ما لم يكن عليه برهان من الله من الأقوال الباطلة في هذه الصلاة. وفي هذا المقدار من جواب سؤالات السائل- عافاه الله- كفاية، فخير الكلام ما أفاد المرام. كتبه جامعه محمد بن على الشوكاني- غفر الله لهما [10ب]-. ¬

(¬1) انظر «السيل الجرار» (1/ 601 - 610) بتحقيقنا. «نيل الأوطار» (2/ 496 - 499) حيث قال: «ورأى لأنه لم يثبت دليل على اشتراط عدد مخصوص. وقد صحت الجماعة في سائر الصلوات باثنين، ولا فرق بينهما وبين الجماعة، ولم يأت نص من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن الجمعة لا تنعقد إلا بكذا وهذا القول هو الراجح عندي».

بحث في دفع من قال أنه يستحب الرفع في السجود

75 - 16/ 5 بحث في دفع من قال أنه يستحب الرفع في السجود تأليف محمد بن على الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

بسم الله الحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله الأكرمين، وصحبه الأفضلين: وبعد: فإنه وقع البحث مع جماعة من أهل العلم- كثر الله فوائدهم- فيما ورد في الرفع من السجود، وطلبوا مني النظر في ذلك فأقول: اعلم أن الروايات كلها عن العدد الجم من الصحابة (¬1) - رضي الله عنهم- عن رسول ¬

(¬1) (منها) عند افتتاح الصلاة: فقد روي ذلك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحو خمسين رجلًا من الصحابة منهم العشرة المبشرين بالجنة. فقد روي حديث رفع اليدين من حديث أبي بكر، وعمر، وعلي، وابن عمر، ومالك بن الحويرث، وجابر، وأبي هريرة، وأبي موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عباس، وعمير الليثي، والبراء بن عازب، ووائل بن جحر ... وغيرهم. أما حديث أبي بكر. فقد أخرجه البييهقي في «السنن الكبرى» (2/ 73 - 74) وقال البيهقي رواته ثقات. وأما حديث عمر، فقد أخرجه البيهقي أيضًا في «السنن» (2/ 74). وأما حديث علي، فقد أخرجه أحمد (1/ 73) والبخاري في رفع اليدين رقم (921) وأبو داود رقم (744) والترمذي رقم (3323) وابن ماجه رقم (864) والدارقطني (1/ 287 رقم1) والبيهقي (2/ 74) وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وأما حديث بن عمر، أخرجه البخاري رقم (736) ومسلم رقم (22/ 290) عن بن عمر قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه ثم يكبر». وأما حديث مالك بن الحويرث أخرجه البخاري رقم (737) ومسلم رقم (391) والطيالسي في «المسند» (1/ 176 رقم 1253) وأحمد (3/ 346) والدرامي (1/ 285) والنسائي (2/ 123) وأبو داود رقم (745) وابن ماجه رقم (859) وأبو عوانة (2/ 94) والدارقطني (1/ 292 رقم 15) والبيهقي (2/ 71). وهو حديث صحيح. وأما حديث جابر، أخرجه أحمد (3/ 310) وابن ماجه رقم (868) وهو حديث صحيح. وأما حديث أبي هريرة، أخرجه أبو داود رقم (738) وابن ماجه رقم (860) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 224) وهو حديث صحيح. وأما حديث أبي موسى. فقد أخرجه الدارقطني (1/ 292 رقم 16) ورجاله ثقات. وأما حديث عبد الله بن الزبير، فقد أخرجه أبو داود رقم (739) وهو حديث صحيح. وأما حديث عبد الله بن عباس. فقد أخرجه أحمد (1/ 327) وأبو داود رقم (740) وابن ماجه رقم (865) وهو حديث صحيح. وأما حديث عمير الليثي. فقد أخرجه ابن ماجه رقم (861) والطبراني في «الكبير» (17/ 48 رقم 104) وأبونعيم في «الحلية» (3/ 358) ووهم ابن ماجه فسماه عمير بن حبيب وإنما هو عمير بن قتادة الليثي. وهو حديث صحيح. وأما حديث البراء، فقد أخرجه أبو داود رقم (749) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 224) والدارقطني (2/ 293 رقم 18 - 21 - 23) والبيهقي (2/ 76) وهو حديث ضعيف. وأما حديث وائل بن حجر. فقد أخرجه مسلم رقم (401) وأبو داود رقم (724، 726) والنسائي (2/ 123) وابن ماجه رقم (867) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 223) والدارقطني (1/ 292 رقم 14) والبيهقي (2/ 7) وأحمد (4/ 316 - 317) وهو حديث صحيح. (ومنها): الرفع عند الركوع وعند الاعتدال: أخرج البخاري رقم (737) ومسلم رقم (26/ 391) عن مالك بن الحويرث قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع يديه إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع حتى يبلغ بهما فروع أذنيه. وهو حديث صحيح. وأخرج البخاري في صحيحة رقم (739) عن نافع أن ابن عمر: «كان إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه، ورفع ذلك ابن عمر إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهو حديث صحيح. وانظر: «كتاب رفع اليدين في الصلاة» للبخاري (ص22) فقد قال: وكذلك يروى عن سبعة عشر نفسًا من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنهم كانوا يرفعون أيديهم عند الركوع ثم ذكرهم.

الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ليس فيها إلا الرفع في الثلاثة المواطن (¬1) فقط عند التكبير للدخول في الصلاة، وعند الانحطاط إلى الركوع، وعند الارتفاع منه، ولم ينقل عن أحد منهم أنه روى الرفع في السجود، بل ثبت من طرق عن عبد الله بن عمر- رضي ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة.

الله عنهما- أنه نفى ذلك وقال: لم يفعله رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ (¬1) -، وهكذا عن غيره. والحاصل أن جميع دواوين الإسلام الست الأمهات وغيرها ليس فيها ذكر الرفع في السجود، بل اقتصروا على رواية الرافع في الثلاثة المواطن (¬2) المتقدم ذكرها فحسب. فما ورد مما يخالف هذا فهو إن كان رواية ثقة من الشاذ (¬3) المعدوم من قسم الضعيف، وإن كان راويه غير ثقة كان من المنكر (¬4) وهو أشد ضعفًا من الشاذ، وبهذا القدر يندفع التعلق برواية من شذ أنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- رفع في السجود، فإن أردت زيادةً على ¬

(¬1) أخرج البخاري في صحيحة رقم (735) ومسلم رقم (390) عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يرفع يديه حذو منكبيه، إذا افتتح الصلاة وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضًا وقال: «سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد» وكان لا يفعل ذلك في السجود. وأخرج مسلم في صحيحة رقم (21/ 390) وفيه « ... ولا يرفعهما بين السجدتين». (¬2) أخرج البخاري في صحيحة رقم (735) ومسلم رقم (390) عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يرفع يديه حذو منكبيه، إذا افتتح الصلاة وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضًا وقال: «سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد» وكان لا يفعل ذلك في السجود. وأخرج مسلم في صحيحة رقم (21/ 390) وفيه «ولا يرفعهما بين السجدتين». (¬3) الشاذ: من شذ يشذ ويشذ، شذوذًا، إذا انفرد، والشاذ: المنفرد عن الجماعة .. قال الشافعي: هو أن يروي الثقة حديثًا يخالف ما روى الناس وليس من ذلك أن يروي ما لم يرو غيره. أقسام الحديث الشاذ: يكون الشذوذ في المتن، ويكون في السند ويكون فيهما معًا. حكم الحديث الشاذ: ضعيف مردود لأنه راويه وإن كان ثقة لكنه لما خالف من هو أقوى منه وأضبط علمنا أنه لم يضبط هذا الحديث فيرد حديثه ولا يقبل. انظر «السعي الحثيث إلى شرح اختصار علوم الحديث» د. عبد العزيز دخان (ص218 - 219). (¬4) المنكر: قال د. عبد العزيز دخان في «السعي الحثيث» (223): وهو كالشاذ إن خالف راويه الثقات فمنكر مردود وكذا إن لم يكن عدلًا ضابطًا، وإن لم يخالف، فمنكر مردود». المنكر لغة، اسم مفعول. من أنكره، أي جمله ولم يعرفه. ويطلق المنكر أيضًا على الشيء القبيح والأمر القبيح. وادق تعريف للحديث المنكر أن يقال: هو الحديث الذي يرويه الضعيف، مخالفًا لرواية من هو أوثق منه أو أولى منه.

هذا فاعلم أن النسائي في سننه (¬1) في باب (¬2) رفع اليدين للسجود أخرج عن مالك بن الحويرث «أنه رأي النبي- صلى الله عليه وعلى آله وسلم- رفع يديه في صلاته» وفيه أنه كان يرفعهما إذا سجد، وإذا رفع رأسه [1أ] من السجود، ثم ذكر مثله عنه من طريق ثانية (¬3)، ومن طريق ثالثة (¬4) في هذا الباب (¬5)، وهي كلها من طريق نصر بن عاصم الأنطاكي (¬6) عن مالك بن الحويرث، ثم ذكر النسائي (¬7) في باب (¬8) الرفع من السجدة الأولى عن مالك بن الحويرث مثله، وهي أيضًا من طريق نصر بن عاصم عنه. فجملة الطرق لحديث مالك بن الحويرث أربع، لكنها لما كانت كلها من طريق نصر ابن عاصم كانت بمنزلة طريق واحدة، ونصر بن عاصم (¬9) هذا لين الحديث لا يقوم ¬

(¬1) رقم (1058) وهو حديث صحيح. (¬2) باب رقم (36). (¬3) في سننه رقم (1086) قال: حدثنا محمد بن المثني قال: «حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا سعيد عن قتادة عن نصر بن عاصم عن مالك بن الحويرث أنه رأي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رفع يديه فذكر مثله». وهو حديث صحيح. (¬4) في سننه رقم (1087) وهوحديث صحيح. (¬5) رقم (36) قال: اخبرنا محمد بن المثني قال: حدثنا معاذ بن هشام قال: حدثني أبي عن قتادة عن نصر ابن عاصم عن مالك بن الحويرث أن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا دخل في الصلاة فذكر نحوه وزاد فيه وإذا ركع فعل مثل ذلك وإذا رفع رأسه من الركوع فعل مثل ذلك وإذا رفع رأسه من السجود فعل مثل ذلك». (¬6) كذا في المخطوط وصوابه نصر بن عاصم الليثي البصري. انظر «تهذيب التهذيب» (4/ 217). (¬7) في سننه رقم (1143) وهو حديث صحيح. (¬8) رقم 84 قال: أخبرنا محمد بن المثني قال: حدثنا معاذ بن هشام قال: حدثني أبي عن قتادة عن نصر ابن عاصم عن مالك بن الحويرث أن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا دخل في الصلاة رفع يديه وإذا ركع فعل مثل ذلك وإذا رفع رأسه من الركوع فعل مثل ذلك وإذا رفع رأسه من السجود فعل مثل ذلك كله يعني رفع يديه. (¬9) نصر بن عاصم الليثي البصري. قال أبو داود كان خارجيًا. قال النسائي: ثقة. وذكره بن حبان في «الثقات». انظر: «تهذيب التهذيب» (4/ 218 - 219).

بمثابة الحجة، مع أنه قد أختلف عليه في ذلك فأخرج النسائي (¬1) عن عبد الأعلى قال: حدثنا خالد، حدثنا شعبه عن قتادة، عن نصر، عن مالك أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- «كان إذا صلى رفع يديه حين يكبر حيال أذنيه، وإذا أراد أن يركع، وإذا رفع رأسه من الركوع. واقتصر على هذه المواطن، ولم يذكر الرفع في السجود، فتقرر لك بهذا أنه قد حصل الاختلاف في حديث مالك بن الحويرث، وذلك اضطراب يوجب أن يكون من قسم الضعيف، فكيف ومداره على ضعيف، وهو نصر بن عاصم. فإن قلت: قد روى النسائي في سننه (¬2) في باب (¬3) رفع اليدين بين السجدتين نحو ذلك من غير طريق مالك بن الحويرث، فقال: أخبرنا موسى عن عبد الله بن موسى البصري قال: أخبرنا انضر بن كثير أبو سهل الأزدي قال: صلى إلى جنبي عبد الله بن طاووس بمنى في مسجد الخيف، فكان إذا سجد السجدة الأولى فرفع رأسه منها رفع يديه تلقاء وجهه، فأنكرت أنا ذلك، فقلت لوهيب بن خالد: إن هذا يصنع [1ب] شيئًا لم أر أحد يصنعه، فقال له وهيب: تصنع شيئًا لم أر أحد يصنعه، فقال عبد الله بن طاووس: رأيت أبي يصنعه، وقال: إني رأيت بن عباس يصنعه، وقال عبد الله بن عباس: ¬

(¬1) في سننه رقم (880) وهو حديث صحيح. (¬2) رقم (1146). قلت: وأخرجه أبو داود رقم (740) وهو حديث صحيح. (¬3) رقم (87): رفع اليدين بين السجدتين تلقاء الوجه.

«رأيت رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يصنعه». قلت: هذا النضر بن كثير هو السعدي (¬1) البصري. قال بن حبان (¬2) فيه يروي الموضوعات عن الثقات لا يجوز الاحتجاج به بحال. انتهى. فكيف تثبت هذه السنة برواية هذا الكذاب! وبرواية مثل نصر بن عاصم مع الاختلاف عليه في ذلك إثباتًا ونفيًا، مع ما فيه من الضعف! هذا على تقدير أن رواية هذا الكذاب، وهذا الضعيف لم يخالف ما هو أولى منها، فكيف وهي مخالفة لرواية الجمع الجم من الصحابة! حتى قيل أنهم خمسون صحابيًا، وقيل أكثر من ذلك. فإن قلت: قد روي (¬3) أنه كان يرفع في كل خفض ورفع. قلت: إذا صح ذلك ¬

(¬1) النضر بن كثير السعدي ويقال: الضبي أبو سهل البصري العابد. قال أبو حاتم: سمعت أن حنبل يقول: هو ضعيف الحديث. قال البخاري: عنده مناكير، وقال في موضع آخر: عنده نظر. قال النسائي: صالح. «تهذيب التهذيب» (4/ 226). (¬2) ذكره ابن حجر في «تهذيب التهذيب» (4/ 226). قال الحافظ في «الفتح» (2/ 223): وأصح ما وقفت عليه من الأحاديث في الرفع في السجود ما رواه النسائي من رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن نصر ابن عاصم عن مالك بن الحويرث «أنه رأي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع يديه في صلاته إذا ركع، وإذا رفع رأسه من ركوعه، وإذا سجد، وإذا رفع رأسه من سجوده حتى يحاذي بهما فروع أذنيه». (¬3) أخرجه الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (15/ 46 - 47 رقم5831) عن ابن عمر: أنه كان يرفع يديه في كل خفض، ورفع وركوع، وسجود وقيام، وقعود بين السجدتين، ويزعم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يفعل ذلك». وقال الطحاوي عقبه: وكان هذا الحديث من رواية نافع شاذًا لما رواه عبيد الله وقد روي هذا الحديث عن نافع بخلاف ما رواه عنه عبيد الله. قال الحافظ في «الفتح» (2/ 223)» وهذه رواية شاذة فقد رواه الإسماعيلي عن جماعة من مشايخه الحفاظ عن نصر بن علي المذكور بلفظ عياش شيخ البخاري- الحديث رقم (739) حدثنا عياش قال: حدثنا عبد الأغلى قال: حدثنا عبيد الله عن نافع «أن بن عمر كان إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه، وإذا ركع رفع يديه، وإذا قال سمع الله لمن حمده رفع يديه، وإذا قام من الركعتين رفع يديه. ورفع ذلك ابن عمر إلى نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رواه حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ورواه بن طهمان عن أيوب وموسى بن عقبة مختصرًا.

بحث في أن السجود بمجرده من غير انضمامه إلى صلاة عبادة مستقلة يأجر الله عبده عليها

بحث في أن السجودَ بمجرّده من غير انضمامه إلى صلاةٍ عبادةٌ مستقلةٌ يأجر اللهُ عبده عليها تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

نقيس حمل هذا الخفض وارفع على ما بينته رواية (¬1) الجمهور، بل رواية الكل لا على ما في رواية ذلك الكذاب والضعيف، وليست بزيادة يجب العمل بها، أو الحمل عليها، فإن العمل بالزيادة إنما تكون بعد أن تقوم بها الحجة، ويتعين الأخذ بها، لا مثل هذه الزيادة التي لا يجوز العمل عليها، ولا الأخذ بها، فضلًا عن أن تكون مقبولة. وفي هذا كفاية. والله ولي التوفيق، وقد ذكر ابن القيم في الهدي (¬2) أن رواية الرفع في السجود وهم، فليكتب كلامه هنا [2أ]. ¬

(¬1) في المخطوط مكرر. (¬2) (1/ 211 - 212) وانظر «جامع الفقه» موسوعة الأعمال الكاملة للأمام ابن القيم الحوزية (1/ 89 - 91).

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على [سيد] (¬1) المرسلين وآله الأكرمين- ورضي الله عن الصحابة أجمعين-. اعلم أن السجود (¬2) لمجرده من غير انضمامه إلى صلاة ودخوله فيها عبادة مستقلة يأجر الله عبده عليها والنصوص على ذلك في الكتاب العزيز معروفة والحمل في بعضها غلى السجود الكائن في الصلاة أو على نفس الصلاة هو مجاز لابد فيه من علاقة وقرينة ودليل ومن ذلك السجودات للتلاوة فإنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينها بالسجود المنفرد وغيرها مثلها يحمل على السجود المنفرد. وهكذا يحمل المنفرد على السجود أو على نفس الصلاة ما ثبت في الصحيح (¬3) من حديث معدان بن طلحة اليعمري قال لقيت ثوبان مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت أخبرني بعمل أعمله يدخلني الجنة أو قال قلت ما أحب الأعمال إلى الله عز وجل فسكت ثم سألته فسكت ثم سألته الثالثة فقال سألت عن ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة» ثم لقيت أبا الدرداء فسألته فقال لي مثل ما قال لي ثوبان هذا لفظ ¬

(¬1) في الأصل: سيدي والصواب ما أثبتناه. (¬2) قال ابن القيم في «زاد المعاد» (1/ 229): أول سورة أنزلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اقرأ) على الأصح وختمها بقوله: {واسجد وأقترب} [العلق: 19]، بأن السجود لله يقع من المخلوقات كلها علويها وسفليها، وبأن الساجد أذل ما يكون لربه وأخضع له، وذلك أشرف حالات العبد. فلهذا كان أقرب ما يكون من ربه في هذه الحالة، وبأن السجود هو سر العبودية، فإن العبودية هي الذل والخضوع، يقال: طريق معبد، أي ذللته الأقدام، ووطأته. وأذل ما يكون العبد وأخضع إذا كان ساجدًا. (¬3) أخرجه مسلم رقم (488) والترمذي رقم (388) والنسائي (2/ 228) وابن ماجه رقم (1423) وهو حديث صحيح.

مسلم (¬1) وكل عربي لا يفهم من قوله سجدة إلا السجدة المنفردة وأما السجود الذي في الصلاة فأجره داخل في أجر الصلاة. وثبت في الصحيح (¬2) من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي كنت أبيت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي: «سل» فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة فقال: «أو غير ذلك» فقلت هو ذاك. قال: «فأعني على نفسك بكثرة السجود». هذا لفظ مسلم (¬3) فصدق هذا السجود على السجود المنفرد هو المعنى الحقيقي ومثل هذا حديث عائشة [رضي الله عنها] (¬4) الثابت عنها في الصحيح (¬5) أنها فقدت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدها على بطن قدمه وهو في المسجد وهما منصوبتان مهو يقول: «اللهم إني أعوز برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوز بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك»، وهكذا يصدق على السجود المنفرد ما ثبت في ................................ ¬

(¬1) في صحيحة رقم (225/ 488). (¬2) أخرج مسلم في صحيحة رقم (226/ 489) عن ربيعة بن كعب الأسلمي قال: كنت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: «سل» فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: «أو غير ذلك» قلت: هو ذلك. قال: «فأعني على نفسك بكثرة السجود». قال القاضي عياض في «أكمال المعلم بفوائد مسلم» (2/ 304): ليزداد من القرب ورفعة الدرجات حتى يقرب من منزلته وإن لم يساره فيها، فإن السجود معارج القرب ومدراج رفعة الدرجات قال تعالى: {واسجد وأقترب} [العلق: 19]. وقال- عليه السلام- في الحديث الآخر: «لا تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة» ولأن السجود غايته التواضع لله، والعبودية له، وتمكين اعز عضو في الإنسان وأرفعه وهو وجهه من أدنى الأشياء وأخسها وهو التراب والأرض المدوسة بالأرجل والنعال وأصله في اللغة: الميل. (¬3) في صحيحة رقم (226/ 489). (¬4) زيادة يستلزمها السياق. (¬5) أخرجه مسلم في صحيحة رقم (222/ 486).

الصحيح (¬1) من حديث أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء». وأخرج النسائي (¬2) من حديث عائشة [رضي الله عنها] (¬3) قالت: «كان [1أ] رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي إحدى عشرة ركعة فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر سوى ركعتي الفجر ويسجد قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية». وقد أخطأ صاحب عدة الحصن الحصين (¬4) في الحكم منه بأن هذه السجدة موضوعة فقد نبهت على ذلك في شرحي على العدة (¬5). وأخرج ابن أبي شبيبة في مصنفه (¬6) عن أبي سعيد أنه قال: ما وضع رجل جبهته لله ساجدًا فقال يا رب اغفر لي ثلاثًا إلا رفع رأسه وقد غفر له، وهذا وإن كان موقوفُا عليه فله حكم الرفع لأن ذلك لا يقال من طريقة الرأي وأخرجه الطبراني (¬7) عن أبي مالك عن أبيه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (¬8) رواه الطبراني في الكبير (¬9) من رواية محمد بن جابر عن أبي مالك هذا قال ولم أر من ترجمهما (¬10). ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحة (482). قلت: وأخرجه أبو داود رقم (875) والنسائي (2/ 226) وهو حديث صحيح. (¬2) رقم (1749) وهو حديث صحيح. (¬3) زيادة يستلزمها السياق. (¬4) (ص169). (¬5) (ص 168 - 169). (¬6) (10/ 221 - 222 رقم9282). (¬7) في «الكبير» (8/ 483 رقم8197). (¬8) (2/ 129). (¬9) في «الكبير» (8/ 483 رقم8197). (¬10) «قلت: محمد بن جابر هذا يترجح لدي أنه ابن سيار المترجم في «تهذيب الكمال» (24/ 565) لأمور عدة منها: 1 - التقارب في الطبقة. 2 - أن ابن سيار هذا كوفي، وشيخه أبو مالك هو سعد بن طارق الأشجعي من أهل الكوفة. 3 - نكارة المتن، فإذا كان محمد بن جابر هو ابن سيار- كما رجحته- فهو أولى من تلزق به هذه النكارة حيث إن من دونه أفضل حالًا منه، وابن سيار وشهور برواية المناكير. 4 - شهرته تكفي عند الرواية عنه عن تعيينه، خلافًا لغيره ممن يسمى بهذا الاسم، فهم دون الشهرة عنه فغالبًا ما يحتاجون عند الرواية عنهم إلى زيادة نسبة تعيينهم. وهذه النقطة كثيرًا ما تجدها في مصنفات الطبراني فإنه إذا جاء عنده راو غير مشهور فغالبًا ما يعينه» 1هـ. «الفرائد على مجمع الزوائد» خليل بن محمد العربي (ص269 - 297).

وأخرج بن ماجه (¬1) بإسناد صحيح عن عبادة بن الصامت أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول ما من عبد يسجد لله سجدة إلا كتب الله له بها حسنة ومحا عنه بها سيئة ورفع له بها درجة فاستكثروا من السجود. وأخرج أحمد (¬2) وابن ماجه (¬3) بإسناد جيد عن أبي فاطمة قال: يا رسول الله أخبرني بعمل استقيم عليه وأعمل قال عليك بالسجود فإنه لا يسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة ولفظ أحمد (¬4) أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: «يا أبا فاطمة إن أردت أن تلقاني فأكثر السجود». وأخرج الطبراني في الأوسط (¬5) بإسناد رجاله ثقات من حديث حذيفة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من حالة يكون العبد أحب إلى الله من أن يراه ساجدًا يعفر وجهه في التراب». وأخرج أحمد (¬6) والبزار (¬7) بإسناد صحيح من حديث أبي ذر قال سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ¬

(¬1) في «السنن» رقم (1424). وهو حديث صحيح. (¬2) في «المسند» (3/ 428). (¬3) في «السنن» رقم (1422) وهو حديث صحيح. (¬4) في «المسند» (3/ 428). (¬5) رقم (6075). (¬6) في «المسند» (5/ 148). (¬7) في مسنده (1/ 345 - 346 رقم 718 - كشف). وأورده الهيثمي في «المجمع» (2/ 258) وقال: رواه أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح.

ٍٍ يقول: «من سجد لله سجدة كتب الله له بها حسنة وحط عنه بها خطيئة ورفع له بها درجة»، ومعلم أن المراد بهذه السجدات المذكورة في هذه الأحاديث هي السجدات المنفردة كما هو المعنى الحقيقي وصدقه مجاوًا على السجود الكائن في الصلاة لا يضرنا ولا يدفع صدقه على السجود المنفرد والحاصل أن السجود نوع من أنواع العبادة مرغب فيه بهذه الحاديث وغيرها يتقرب به العبد كما يتقرب بالصلاة لورود التغيب والوعد النبوي بالأجر الجزيل عليه وفعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبعض أنواعه لا يمنع من فعل غيره كما هو شأن الترغيب العام بالقول ومثل هذا لا يخفى فيسجد في أي وقت شاء على أي صفة أراد ومن أنكر عليه ذلك فهو لا يدري بهذه الأحاديث التي ذكرناها وأشرنا إلى غيرها أو يدري بها ولكنه لا يفهم أن المشروعية ثبتت بدون ذلك [1ب] ومن قال بأن المشروع من السجود إنما هو بعض أنواعه مثل سجود التلاوة (¬1) والشكر (¬2) ونحو ذلك فيقال له يلزم هذا في ¬

(¬1) (منها): ما أخرجه مسلم في صحيحة رقم (108/ 578) وأبو داود رقم (1407) والترمذي رقم (573، 574) وقال: حديث حسن صحيح والنسائي (2/ 161، 162) وابن ماجه رقم (1058). عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سجدنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في: {إذا السماء انشقت} [الانشقاق: 1]. و {اقرأ باسم ربك الذي خلق} [العلق: 1]. وهو حديث صحيح. ومنها ما أخرجه البخاري رقم (1071) عن ابن عباس قال: «أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سجد بالنجم». (¬2) منها: ما أخرجه أحمد (5/ 45) وأبو داود رقم (2774) والترمذي رقم (1578) وابن ماجه رقم (1394) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وهو حديث حسن. عن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كان إذا جاءه خبر يسره خر ساجدًا لله». قال ابن القيم في «إعلام الموقعين» (2/ 448 - 449): فإن النعم نوعان: مستمرة، ومتحددة، فالمستمرة شكرًا لله عليها، وخضوعًا له، وذلًا في مقابلة فرحة النعم، وانبساط النفس لها وذلك من أكبر أدوائها، فإن الله سبحانه لا يحب الفرحين ولا الآشرين. فكان دواء هذا الداء الخضوع والذل والانكسار لرب العالمين، وكان سجود الشكر من تحصيل هذا المقصود ما ليس في غيره. ونظير هذا السجود عند الآيات التي يخوف الله بها عباده كما في الحديث: «إذا رأيتم آية فاسجدوا». أخرجه أبو داود رقم (1197) والترمذي رقم (3891) وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقد فزع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند رؤية انكساف الشمس إلى الصلاة، وأمر بالفزع إلى ذكره «- أخرجه البخاري رقم (1046) ومسلم رقم (901) ومعلوم أن آياته تعالى لم تزل مشاهدة معلومة بالحس والعقل، ولكن تجددها يحدث للنفس من الرهبة، والفزع إلى الله ما لا تحدثه الآيات المستمرة فتجدد هذه النعم في اقتضائها لسجود الشكر كتحدد تلك الآيات في اقتضائها للفزع إلى السجود والصلوات. قال ابن القيم في «عدة الصابرين» (ص172 - 174): فإن قيل: فنعم الله دائمًا مستمرة على العبد فما الذي اقتضى تخصيص النعمة الحادثة بالشكر دون الدائمة وقد تكون المستدامة أعظم». قيل: الجواب من وجوه: 1 - إن النعمة المتجددة تذكر بالمستدامة، والإنسان موكل بالأدنى. 2 - إن هذه النعمة المتجددة تستدعي عبودية مجددة وكان أسسها على الإنسان وأحبها إلى الله السجود شكرًا له. 3 - إن المتجددة لها وقع في النفوس والقلوب بها أعلق، ولهذا يهني بها ويعزي بفقدها. 4 - إن حدوث النعم توجب فرح النفس وانبساطها، وكثيرًا ما يجر ذلك إلى الأشر والبطر، والسجود ذل لله وعبودية وخضوع.

الصلاة فيقال ليس له أن يتنفل ألا النفل الذي وقع منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يزيد عليه في عدد ولا صفة ولا يفعله في زمان غير الزمان الذي فعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه ولا يخفاك أن هذا القول جهل عظيم لأن الترغيبات في مطلق النفل من الصلاة تدل على أن الاستكثار من صلاة النفل سنة ثابتة وشريعة قائمة ما لم يكن الوقت وقت كراهة (¬1) فهكذا مجرد السجود فإنه ثبت ¬

(¬1) أخرج البخاري في صحيحة رقم (586) ومسلم رقم (288/ 827) من حديث أبي سعيد الخدري قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا صلاة بعد الصبح حتى تبزغ الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب». وأخرج مسلم في صحيحة رقم (293/ 831) عن عقبة بن عامر الجهني قال: «ثلاث ساعات كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهانا أن نصلي فيهن، أو أن نقبر موتانا حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس وحين تضيف الشمس للغروب».

الترغيب فيه والأجر العظيم لفاعله كما تقدم ولا سيما وهو من أسباب القرب من الرب عز وجل كما تقدم (¬1) من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» ثم أمره بإكثار الدعاء عند هذا القرب الكائن للساجد بسجوده ما أحق طالب الخير وقارع باب الإجابة أن ينحط عند أن يدعو ربه ساجدًا فإنه يفتح له باب الرحمة التي تجاب عندها الدعوات وترفع بها الدرجات وتكفر بها الخطيئات لأنه قد صار في مقام القرب من ربه في مقام أقرب القرب من الجناب العالي عز وجل. كتبه قائله الشوكاني غفر الله له [2أ]. ¬

(¬1) تقدم ذكره من حديث أبي هريرة.

كشف الرين في حديث ذي اليدين

كشف الرين في حديث ذي اليدين تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا حمد الأمين، وآله الطاهرين، وبعد: فإنه ورد السؤال ... عن حديث ذي اليدين (¬1) المشهور، كيف توجيهه فيما وقع منه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من الكلام، هو وجماعة من الصحابة (¬2)، ثم وقع منه ¬

(¬1) قال الحافظ صلاح الدين العلائي في «نظم الفوائد» (ص61): فيما يتعلق بذي اليدين، وللناس فيه خلاف في موضوعين: أحدهما: في أنه ذو الشمالين أو غيره. والثاني: في أن ذا اليدين هل هو الخرباق المذكور في حديث عمران بن حصين أم هما اثنان؟ أما الأول فجمهور العلماء على أن ذا اليدين المذكور في حديث السهو هذا من رواية أبي هريرة غير ذي الشمالين. وهذا هو الصحيح الراجح إن شاء الله. والحجة لذلك: ما ثبت من طرق كثيرة أن أبا هريرة رضي الله عنه كان حاضرًا هذه القصة يومئذ خلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كذلك رواه حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: صلى بنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحدى صلاتي العشي. أخرجه مسلم رقم (98) وأبو داود رقم (1008). ثم تابع الحافظ عرض من روى ذلك فقال هذه طرق صحيحة ثابتة يفيد مجموعها العلم النظري. أن أبا هريرة رضي الله عنه كان حاضرًا القصة يومئذ ولا خلاف أن إسلامه كان سنة سبع، أيام خير ثم لا خلاف بين أهل السير أن ذا الشمالين استشهد يوم بدر سنة اثنتين رضي الله عنه. قال ابن إسحاق: ذو الشمالين هو عمير بن عبد عمرو بن نضلة (ابن عمرو) ابن غبشان بن سليم ابن مالك بن أحصى بن خزاعة حليف بني زهرة. قال أبو بكر الأثرم: مسدد بن مرهد يقول: الذي قتل ببدر هو ذو الشمالين ابن عبد عمرو حليف لبني زهرة وذو اليدين رجل من العرب كان يكون بالبادية فيجيء فيصلي مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم قال: وثبت أيضًا عن أبي هريرة من طريق في الحديث: فقام رجل من بني سليم يقال له ذو اليدين وذو الشمالين خزاعي كما قال ابن إسحاق. (¬2) من الصحابة: أبو هريرة رضي الله عنه. عمران بن حصين رضي الله عنه. عبد الله بن الزبير رضي الله عنه. ومن التابعين: 1 - محمد بن سيرين رضي الله عنه. 2 - عطاء بن أبي رباح رضي الله عنه. نص الحديث من رواية أبي هريرة: عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحدى صلاتي العشي فصلى بنا ركعتين ثم سلم فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه، ووضع خده الأيمن على كفه اليسرى، وخرجت السرعان من أبواب المسجد، فقالوا: قصرت الصلاة، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهاباه أن يكلماه، وفي القوم رجل يقال له «ذو اليدين» فقال: يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال: «لم أنس ولم تقصر». فقال: «أكمال يقول ذو اليدين» فقالوا: نعم. فتقدم فصلى ما ترك ثم سلم، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر، فربما سألوه: ثم سلم؟.

ومنهم بعد ذلك البناء على ما قد فعلوه من الصلاة قبل الخروج بالسلام الذي وقع سهوًا؟. وأقول مستعينًا بالله، ومتكلًا عليه: اعلم أن هذا الحديث قد اتفق جميع أهل الإسلام على أنه حديث صحيح (¬1) ثابت، ولم يخالف في ذلك أحد، وغاية ما جاء به من لم يعمل بظاهره هو مجرد التأويل بالوجوه المستعدة، أو الإعلان له بما لا يقدح في صحته بإجماع أهل هذا الشأن. ولا خلاف في ثبوته وصحنه من طريق أبي هريرة (¬2)، وهو في جميع دواوين الإسلام كذلك، وله طرق كثيرة، وألفاظ متعددة، قد جمعها الحافظ صلاح الدين العلائي (¬3)، فبلغت إلى شيء كثير، وليس هذا الحديث مما انفرد بروايته ¬

(¬1) سيأتي تخريجه. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (1229) ومسلم رقم (97/ 573) وفي رواية لمسلم رقم (99/ 573) صلاة العصر. وهو حديث صحيح. وفي رواية لأبي داود رقم (1008) فقال: «أصدق ذو اليدين» فأومأوا: نعم، وهي في الصحيحين، لكن بلفظ فقالوا. وهو حديث صحيح. (¬3) كتاب «نظم الفوائد» لما تضمنه حديث ذي اليدين من الفوائد.

أبو هريرة كما يظن ذلك كثير ممن [1أ] له شغلة بعلم الحديث، بل قد روى من طريق غيره، فرواه أبو داود (¬1)، وابن ماجه (¬2)، من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب، ورواه البزار في مسنده (¬3)، والطبراني (¬4) من طريق بن عباس، ورواه في زيادات المسند، والبيهقي (¬5) من حديث ذي اليدين نفسه، ورواه الطبراني في «الأوسط» (¬6) من حديث عبد الله بن مسعدة، ورواه أبو داود (¬7)، والنسائي (¬8) من طريق ابن خديج، ورواه الطبراني في «الكبير» (¬9) من طريق أبي العريان؛ فهؤلاء جماعة من الصحابة رووا هذا الحديث عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وقد روى مثل هذه القصة عمران بن حصين، فأخرج ذلك عنه مسلم (¬10)، وأبو داود (¬11)، والنسائي (¬12)، .................... ¬

(¬1) في «السنن» رقم (1017). (¬2) في «السنن» رقم (1213). وهو حديث صحيح. (¬3) (1/ 278 رقم 578 - كشف). (¬4) في «الكبير» (11/ 199 رقم 11484). وأورده الهيثمي في «مجمع الزوائد» (2/ 151) وقال: رواه أحمد البزار والطبراني في «الكبير» و «الأوسط» ورجال أحمد رجال الصحيح. (¬5) في «السنن» (2/ 360). (¬6) رقم (2323) وأورده الهيثمي في «المجمع» (2/ 152 - 153) وقال: رجاله رجال الصحيح. خلا شيخ الطبراني إبراهيم بن محمد بن برة. (¬7) رقم (1023). (¬8) في «السنن» رقم (664). وهو حديث صحيح. (¬9) (22/ 371 رقم930). وأورده الهيثمي في «المجمع» (2/ 152) وقال: رواه الطبراني في «الكبير» ورجاله رجال الصحيح. (¬10) في صحيحة رقم (574). (¬11) (1018). (¬12) في «السنن» (1331، 1237).

وابن ماجه (¬1)، وغيرهم (¬2). وقد ذهب الجمهور من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ومن أئمة السلف، ومن بعدهم إلى أن هذا الحديث شريعة ثابتة لجميع المسلمين، وأنه يرد ما يخالفه ولا يعارضه، وأن ما تستنكره الأذهان من البناء على ما تقدم من الصلاة بعد السلام الواقع سهوًا، وبعد الكلام فله تأويل صحيح، ووجه مقبول جار على أساليب الشريعة المطهرة، وموافق لمنهجها القويم على حسب ما يأتي تقويم ذلك- إن شاء الله-. وقد حكى هذا المذهب النووي في شرح مسلم (¬3) عن الجمهور [1ب]، ونقله ابن المنذر (¬4) عن ابن مسعود، وابن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعن عروة بن الزبير، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وقتادة في أحد الروايتين عنه، وحكاه الحازمي عن عمرو بن دينار. وممن قال به مالك، والشافعي (¬5)، وأحمد، وأبو ثور، وابن المنذر. وحكاه أيضًا الحازمي عن نفر من أهل الكوفة، وعن أكثر أهل الحجاز، وأكثر أهل الشام، وعن سفيان الثوري. وبالجملة فكل من قال من أهل العلم بالفرق بين كلام الساهي والجاهل، وبين كلام العامد يقول: يستأنف بهذا الحديث، ويعمل عليه. وأما القائلون بأنه لا فرق بين كلام الساهي والجاهل، وبين كلام العامد، وهو الجمهور من أئمتنا، وقد حكاه الترمذي (¬6) ¬

(¬1) في «السنن» رقم (1215). (¬2) كأحمد (4/ 427) وابن خزيمة رقم (1054) والبيهقي (2/ 335، 354) وأبو عوانة (2/ 216) من طرق. وهو حديث صحيح. (¬3) (5/ 71). (¬4) انظر: «المجموع» (4/ 85). (¬5) «الأم» (1/ 124). (¬6) في «السنن» (2/ 237).

عن أكثر أهل العلم، وقد حكاه أيضًا عن الثوري، وابن المبارك. وبه قال النخعي، وحماد بن أبي سليمان، والإمام أبو حنيفة، فهؤلاء وإن قالوا إنه لا فرق بين كلام وكلام، وأنه جميعه يفسد الصلاة، فإنهم يقولون بأن هذا الحديث أعني: حديث ذي اليدين، حديث صحيح، معمول به، مقبول، ولكنهم احتاجوا إلى تأويله، لأنه قد دل على أن الكلام إذا وقع على الصفة التي وقع عليها في هذا الحديث فإنه لا يفسد الصلاة، والتأويل [2أ] لا ينافي الصحة بإجماع أهل هذا الشأن. لإغذا تقرر لك أن هذا الحديث لا خلاف في صحته بين جميع طوائف أهل الإسلام، وأنه من الأحاديث المتلقاة بالقبول عند جميع أهل العلم، بل من الأحاديث المتواترة من التابعين فما بعدهم، بل لا يبعد أن يقال: أن الذين رووه من الصحابة قد بلغوا عدد التواتر فحسبما قدمنا بيانه، فالواجب العمل بهذا الذي صح عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بإجماع أمته، فنقول: من جرى له في صلاته مثل ما جرى لرسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بإجماع أمته، فنقول: من جرى له في صلاته مثل ما جرى لرسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في حديث ذي اليدين هذا كان عليه أن يقتدي برسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ويعمل كمل عمل؛ فإن هذا الذي فعل هذا الفعل هو معلم الشرائع، الذي جائنا بها عن الله- سبحانه-، فلا فرق بين هذا الحكم الشرعي وبين غيره من أحكام الشريعة المطهرة، إلا مجرد الشكوك والأوهام، فإذا قال قائل: قد صح عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ما يخالف ذلك، فأخرج البخاري (¬1) ومسلم (¬2)، وأبو داود (¬3)، والترمذي (¬4) والنسائي (¬5)، وأحمد بن حنبل في «المسند» (¬6) ¬

(¬1) في صحيه رقم (1200). (¬2) في صحيحة رقم (35/ 539). (¬3) في «السنن» (949). (¬4) في «السنن» رقم (405). (¬5) في «السنن» (3/ 18). (¬6) (4/ 368).

أن زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل منا صاحبه وهو إلى جنبه في هذه الصلاة، حتى نزلت: {وقوموا لله قانتين} (¬1) فأمرنا بالسكوت [2ب]، نهينا عن الكلام. وهذا الحديث أيضًا قد ثبت عند الشيخين (¬2) من حديث جابر، وعند الطبراني (¬3) من حديث عمار، وعند الطبراني (¬4) أيضًا من حديث أبي أمامة، وعند البزار (¬5) من حديث أبي سعيد، فيجاب بأنه لا مخالفة بين هذا الحديث، وبين حديث زي اليدين، ولا معارضة، فهذا الحديث يعم كل كلام من غير فرق بين كلام العامد، والساهي، والجاهل، لأن الألف واللام في لفظ الكلام من قوله: نهينا عن الكلام تفيد العموم، وهذا الحديث المسئول عنه أعني حديث ذي اليدين خاص فيبني العام على الخاص، ويكون الكلام المفسد للصلاة هو كلام العامد دون غيره، ولا عذر عن هذا على مقتضى القواعد الأصولية، ولا يصح أن يدعي مدع، أو يزعم زاعم بأن هذا الفعل لا يصلح لتخصيص القول العام، لأن البناء في حديث ذي اليدين قد وقع من النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ومن غيه من الصحابة الحاضرين في المسجد في ذلك الجمع، فليس هذا ¬

(¬1) [البقرة: 238]. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (1217) ومسلم رقم (36/ 540). قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (1018) والنسائي (3/ 6 رقم 1189). والبيهقي (2/ 258) وأحمد (3/ 334). (¬3) ذكره الهيثمي في «المجمع» (2/ 18) وقال رواه الطبراني في «الكبير» ورجاله ثقات. (¬4) في «الكبير» رقم (7850) وأورده الهيثمي في «المجمع» (2/ 81) وقال: رواه الطبراني في «الكبير» وفيه عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد وهما ضعيفان. (¬5) في مسنده (1/ 268 رقم 554 - كشف). وأورده الهيثمي في «الجمع» (2/ 81) وقال: رواه البزار وفيه عبد الله بن صالح كاتب الليث وثقه عبد الملك بن شعيب بن الليث فقال: ثقه مأمون وضعفه الأئمة أحمد وغيره.

الفعل مما يخصه، ثم هذا الدليل الخاص متأخر عن النهي العام بإجماع أهل النقل، والخاص المتأخر صالح للتخصيص كما هو مذهب الجمهور من أهل الأصول. وإنما قلنا [3أ]: إنه متأخر لأنه قد أخرج البخاري (¬1) ومسلم (¬2) وغيرهما (¬3) من حديث بن مسعود قال: كنا نسلم على النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وهو في الصلاة، فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا، فقلنا: يا رسول الله، كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا فقال: «إن في الصلاة لشغلًا». وفي رواية لأحمد (¬4)، والنسائي (¬5)، وأبي داود (¬6)، وابن حبان في صحيحة (¬7) قال: «كنا نسلم على النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إذ كنا بمكة قبل أن نأتي أرض الحبشة، فلما قدمنا من أرض الحبشة أتيناه فسلمنا عليه، فلم يرد، فأخذني ما قرب وما بعد حتى قضوا الصلاة، فسألته، فقال: «إن الله يحدث في أمره ما يشاء، وإنه قد أحدث من أمره أن لا نتكلم في الصلاة». فهذا الحديث قد أفاد أن مهاجرة الحبشة ما رجعوا من هجرتهم إلا وقد حرم الله الكلام في الصلاة، بخلاف حديث ذي الين، فإن الراوي له أبو هريرة عن مشاهدة، وإسلام (¬8) أبي هريرة إنما كان عند فتح خيبر، وما قيل من صاحب القصة قتل ببدر فقد أتفق أئمة الحديث كما نقله ابن عبد .................... ¬

(¬1) في صحيحة رقم (1199). (¬2) في صحيحة رقم (538). (¬3) كابن خزيمة في صحيحة رقم (855، 858). وهو حديث صحيح. (¬4) في «المسند» (1/ 377). (¬5) في «السنن» (3/ 19). (¬6) في «السنن» رقم (924). (¬7) في صحيحة رقم (2243، 2244). وهو حديث صحيح. (¬8) انظر «الطبقات» لابن سعد (4/ 327). «الإصابة» (7/ 435).

البر (¬1) وغيره على أن ذلك وهم من الزهري، وأنه جعل القصة لذي الشمالين، وذو الشمالين (¬2) هو الذي قتل ببدر، وهو خزاعي، واسمه عمير [3ب] بن عبد عمرو بن نضلة، وأما ذو اليدين (¬3) فتأخر موته بعد موت النبي- صلي الله عليه وآله وسلم-، ¬

(¬1) «التمهيد» (1/ 375)، «الاستذكار» (2/ 233). (¬2) ذكره ابن إسحاق في «السيرة النبوية» (1/ 681) وابن عبد البر في «التمهيد» (1/ 363 - 364). «الاستيعاب» (1/ 484). (¬3) انظر «السيرة النبوية» (2/ 681). قال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» (1/ 185 - 186):» ذو اليدين الصحابي رضي الله عنه مذكور في كتاب الصلاة في هذه الكتب اسمه الخرباق بن عمرو بخاء معجمة مكسورة وبموحدة وقاف وهو من بني سليم وهو الذي قال: يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت حين سلم من ركعتين. وليس هو ذا الشمالين الذي قتل يوم بدر، لأن ذا الشمالين خزاعي قتل يوم بدر، وذو اليدين سلمي عاش بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زمانًا حتى روى المتأخرون من التابعين عنه، واستدل العلماء لما ذكرناه بأن أبا هريرة شهد قصة السهو في الصلاة، وقد اجتمعوا على أن أبا هريرة إنما أسلم عام خيبر سنة سبع من الهجرة بعد بدر بخمس سنين. وكان الزهري يقول إن ذا اليدين هو ذو الشمالين وأنه قتل ببدر وأن قصته في الصلاة كانت قبل بدر تابعه أصحاب أبي حنيفة على هذا وقالوا كلام الناس في الصلاة يبطلها وادعوا أن الحديث منسوخ والصواب ما سبق. وقد أطنب أعلام المحدثين في إيضاح هذا ومن أحسنهم له إيضاحًا الحافظ أبو عمر ابن عبد البر في «التمهيد» في شرح الموطأ. ولقد لخصت مقاصد ما ذكره غيره في «شرح صحيح مسلم» وفي «شرح المهذب» قال ابن عبد البر، واتفقوا على أن الزهري غلط في هذه القصة». 1هـ. وقال الحافظ ابن حجر في «الفتح» (3/ 97): «وقد جوز بعض الأئمة أن تكون القصة وقعت لكل من ذي الشمالين وذي اليدين، وأن أبا هريرة روى الحديثين، فأرسل أحدهما وهوقصة ذي الشمالين وشاهد آخر وهي قصة ذي اليدين، وهذا محتمل من طريق الجمع. وقيل: «يحتمل على أن ذا الشمالين كان يقال له أيضًا ذو اليدين وبالعكس، فكان ذلك سببًا للاشتباه». وذكر قبله أن الطحاوي حمل قول أبي هريرة: «صلى بنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» على المجاز يعني أن المراد به صلى بالمسلمين، ثم قال بن حجر: ويدفع المجاز الذي اتكبه الطحاوي ما رواه مسلم وأحمد وغيرهما من طريق يحيي بن أبي كثير عن أبي سلمة في هذا الحديث بلفظ: «بينما أنا أصلي مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». وقد اتفق معظم أهل الحديث من المصنفين وغيرهم على أن ذا الشمالين غير ذي اليدين. ونص على ذلك الشافعي- رحمه الله- في اختلاف الحديث».

وحدث بهذا الحديث بعد موت النبي- صلي الله عليه وآله وسلم- كما أخرج ذلك الطبراني (¬1)، واسمه الخرباق (¬2)، فتقرر بهذا أن حديث ذي اليدين متأخر عن حديث النهي عن الكلام، ومن جملة المقويات لذلك، والمؤيدات له أن من جملة رواة حديث ذي اليدين عمران بن حصين، وهو متأخر الإسلام. وقد ذكر في روايته ما يفيد المشاهدة كما في صحيح مسلم (¬3) وغيره (¬4)، فإذا تقرر هذا فلا عذر لمن انصف وجمع بين الأدلة كما هو الواجب بإجماع المسلمين، فإنه قد وقع التصريح في علم الأصول، وعلوم الحديث، وغير ذلك بأن الجمع (¬5) مقدم على الترجيح. ووقع التصريح بأنه وقع الإجماع على ذلك، وهكذا وقع التصريح في علم الأصول بقيام الإجماع على أنه يبنى العام (¬6) على الخاص بشروطه (¬7) المعروفة في الأصول، فكان الواجب بمقتضى هذين الإجماعين على أن يجمع بين حديث ...................... ¬

(¬1) في «الكبير» رقم (4182، 4225) و (18/ رقم 464، 465، 467، 470). (¬2) قال الحافظ في «الفتح» (3/ 100): «وذهب الأكثر إلى أن اسم ذي اليدين: الخرباق بكسر المعجمة وسكن الراء بعدها موحدة وآخر قاف- اعتمادًا على ما وقع في حديث عمران بن حصين عند مسلم ولفظه: فقام إليه رجل يقال له الخرباق، وكان في يده طول، وهذا صنيع من يوحد حديث أبي هريرة بحديث عمران وهو الراجح في نظري. وإن كان ابن خزيمة ومن جنحوا إلى التعدد والحامل لهم على ذلك الاختلاف الواقع في السياقين ... ». (¬3) رقم (574). (¬4) كأحمد (4/ 427) وأبو داود رقم (1018) والنسائي (3/ 26) وابن ماجه رقم (1215). وهو حديث صحيح. (¬5) انظر الكفاية (ص608)، «تيسير التحرير» (3/ 136). (¬6) انظر «الكوكب المنير» (3/ 177، 383). (¬7) انظر هذه الشروط في «البحر المحيط» للزركشي (3/ 407 - 409).

النهي (¬1) عن الكلام، وبين حديث ذي اليدين مما قدمنا ذلك من الفرق بين كلام الساهي، والجاهل، والعامد. ومن عمل بحديث النهي عن الكلام واطرح حديث ذي اليدين فقد خالف إجماعين من إجماعات المسلمين: الإجماع [4أ] الأول أنه قدم الترجيح على الجمع، والإجماع الثاني أنه لم يبن العام على الخاص، وهذا على فرض أن المتخلل بين التسليم الواقع سهوًا، وبين التكبير الواقع للبناء هو الصلاة، لا فرق بينه وبين أجزاء الصلاة التي بين تحريمها وتحليلها. وأما لو قيل إن هذا الوقت الكائن بين التسليم سهوًا، وبين التكبير للبناء هو ولإن كان له حكم الصلاة لكن ليس كالصلاة من كل وجه، ولا يمتنع منه ما يمتنع من الصلاة، كما أنه لا يبطل الطواف بمبطلات الصلاة، مع أنه قد ورد أن الطائف في صلاة، وكما أنه لا يبطل ثواب منتظر الصلاة بفعل شيء مما يفسد الصلاة، مع أنه قد ورد أن منتظر الصلاة في صلاة، وحاصل هذا الوجه دعوى الفرق بين من كان مشتغلًا بأجزاء الصلاة الحقيقية الذكرية والركنية، وبين من لم يكن مشتغلًا بشيء من ذلك، بل كان خروجه سهوًا مسوغًا للبناء، فلو قيل بهذا الفرق لم يكن بعيدًا من الصواب، ولم يبق إشكال في الكلام الواقع منه- صلي الله عليه وآله وسلم- بعد التسليم سهوًا، وقبل التكبير مبنيًا، ولكنا هاهنا بنينا على تسليم الإشكال الذي أورده السائل- عافاه الله [4ب]-، وعلى أنه لا فرق بين ذلك، وبين أجزاء الصلاة الحقيقية، فجمعنا بين الأحاديث الواردة في النهي عن الكلام على العموم، وفي تسويغه في بعض الأحيان، كما قدمنا تقريره. فإن قلت: إذا كان حديث ذي اليدين على هذا التسليم والتقرير دالًا على أن كلام الساهي لا يفسد الصلاة، فما الدليل على أن كلام الجاهل لا يفسدها؟. قلت: الدليل على ذلك حديث ذي اليدين نفسه؛ فإن الجماعة الذين كلموا ¬

(¬1) تقدم تخريجه قريبًا.

رسول الله- صلي الله عليه وآله وسلم- وكلمهم لم يكونوا ساهين، بل جهلوا أن الكلام في تلك الحالة لا يجوز، فعذرهم رسول الله- صلي الله عليه وآله وسلم-، ولم يأمر أحدًا منهم بإعادة الصلاة، وأدل من هذا، وأوضح، وأصرح ما أخرجه أحمد (¬1)، ومسلم (¬2)، والنسائي (¬3)، وأبو داود (¬4) من حديث ابن الحكم (¬5) السلمي قال: بينما أنا أصلي مع رسول الله- صلي الله عليه وآله وسلم- إذ عطس رجل من القوم، فقلت يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم فقلت: وأثكل أماه، ما شأنكم تنظرون إلي؟. فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، إلى أن قال: فبابي وأمي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعينًا منه، يعني النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فوالله ما قهرني، ولا ضربني، ولا شتمني قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن». فهذا الحديث ليس فيه أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ [5أ]- أمره بإعادة الصلاة لكونه قد تكلم فيها عامدًا، بل عذره لجهله. ومثل هذا ما أخرجه البخاري (¬6)، وأحمد (¬7)، وأبو داود (¬8)، والنسائي (¬9) عن أبي هريرة قال رسول الله- صلى الله ¬

(¬1) في «المسند» (5/ 447، 448). (¬2) في صحيحة رقم (33/ 537). (¬3) في «السنن» (3/ 14 - 18). (¬4) في «السنن» رقم (931). قلت: وأخرجه ابن الجارود رقم (212) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 446) وأبو عوانة (2/ 141 - 142) وابن خزيمة (2/ 35 رقم 859). وهو حديث صحيح. (¬5) هو معاوية بن الحكم السلمي كان ينزل المدينة وعداده في أهل الحجاز. (¬6) في صحيحة رقم (6010). (¬7) في «المسند» (2/ 238، 239). (¬8) في «السنن» رقم (882). (¬9) في «السنن» (3/ 14). وهو حديث صحيح.

عليه وأله وسلم- إلى الصلاة، وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني وحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا، فلما سلم النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال للأعرابي: «لقد تحجرت واسعًا» يريد رحمة الله، فعذره- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بجهله. ومثل هذا حديث (¬1) من الذي تكلم بالكلمة ثم قال: لقد ابتدرها كذا من الملائكة. والحاصل أن الأحاديث الواردة (¬2) في النهي عن الكلام على العموم مثل حديث: «نهينا عن الكلام»، ومثل حديث: «لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» لا شك ولا ريب أنها لا تنافي ما ورد خاصًا ولا تعارضه، ومن جعل العام مقدمًا على الخاص، ومرجحًا عليه، فقد عكس قالب العمل الأصولي، وخالف ما عليه علماء النظر والاستدلال في جميع الأزمان، على جميع المذاهب. فجملة ما ينبغي عليه التعويل في هذا الجواب هو أمران: إما منع كون حالة من خرج من الصلاة بتسليم سهوًا، ثم تكلم، ثم عاد إلى الصلاة بالتكبير، وبنى على ما قد فعل كحالة من هو في الصلاة مشتغلا ًبأجزائها لم يخرج منها، فمن كان لديه ما يوجب الانتقال عن مركز [5ب] هذا المنع أهداه للمانع. الأمر الثاني: مما ينبغي التعويل عليه هو تسليم أنه كالمصلي. والجمع بين الأدلة المختلفة بما قدمنا ذكره. ولا عذر عن ذلك لمن أنصف، وجرى على طريقة الاجتهاد. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (799) ومالك (1/ 211، 212) وأبو داود رقم (770، 773) والترمذي رقم (404) والنسائي (2/ 145) عن رفاعة بن رافع الزرقي قال: كنا يومًا نصلي وراء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما رفع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسه من الركعة وقال: «سمع الله لمن حمده». قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد حمدًا طيبًا مباركًا فيه، فلما انصرف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من المتكلم آنفًا» فقال الرجل: أنا يا رسول الله، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لقد رأيت بضعًا وثلاثين ملكًا يبتدرون أيهم يكتبها أول». (¬2) تقدم ذكر ذلك.

ولا نعول على غير هذين الوجهين، وذلك كقول من قال: إن ذلك لإصلاح الصلاة، وقول من قال: إن إجابة النبي واجبة (¬1)، فإن النقوض تطرق ذلك طروقًا لا يمكن التقصي عنه بحال. فإن قلت: إذا كان الجواب عن استشكال السائل للكلام في تلك الحال، فما الجواب عن استشكال من استشكل الأفعال الصادرة منه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، ومن الصحابة بعد السلام سهوًا، وقبل التكبير للبناء؟. قلت: الجواب أن هذه شريعة وردت عن معلم الشرائع، ليس لنا أن نستنكر منها ما لا يطابق عقولنا، فإنه قد وقع الإجماع من جميع أهل الإسلام حسبما قدمنا تحقيقة أن حديث ذي اليدين حديث صحيح (¬2) ثابت عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، فما بقي بعد هذا إلا قبول ما جاء عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كما فعل ذلك جمهور الصحابة، والتابعين، وتابعيهم، وسائر أئمة المسلمين، وعلماء الدين، فإنهم عملوا بهذا الحديث، وقبلوه، جعلوه حجة بينهم وبين الله سبحانه [6أ]. وأما ما يروى عن جماعة من أهل العلم من أن هذا الحديث معارض للأحاديث الوارده عنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في تحريم الأفعال في الصلاة (¬3). فيجاب عن ذلك بأن ما دل على تحريم الأفعال في الصلاة فلا شك أنه عام عرضة للتخصيص، ولهذا ثنت أن كل عام من أدلة الأحكام مخصص، وأنه لم يوجد في شيء من أدلة المسائل عام لم يخصص أصلًا، فهذا الحديث الوارد عنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أعني: حديث ذي اليدين يخصص ذلك العام، فيبني العام على الخاص، ويكون الممنوع هو ما بقي من أفراد العام بعد التخصيص، وهذا هو العمل الأصولي الذي لا ¬

(¬1) ذكره القاضي عياض في «إكمال المعلم» (2/ 517). (¬2) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح. (¬3) انظر «اختلاف الحديث» للشافعي (ص232).

ينكره أحد ممن يعرف الأصول، فيقال: يحرم كل فعل في الصلاة مما ليس إلا ما دل عليه دليل بخصوصه، وقد دل الدليل الصحيح المتفق على صحته أنه يشرع لمن سلم ساهيًا أن يقتدي برسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، ويفعل كفله، لأن الله- سبحانه- يقول في محكم كتابه: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (¬1) ويقول: {قل إن كنتم تجبون الله فاتبعوني} (¬2)، ويقول: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (¬3). وكل عاقل يعلم أن الذي وقع منه [6ب] حديث ذي اليدين هو الذي حرم الأفعال في الصلاة بمثل قوله: «إن في الصلاة لشغلًا» (¬4)، وبمثل قوله: «اسكنوا في الصلاة» (¬5) فليس لأحد أن يجعل بعض ما ورد عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- شريعة لازمة، وبعضه ليس شريعة، بل الكل من مشكاة النبوة، ومن معدن الرسالة: {إن هو إلا وحي يوحى} (¬6)، مع أن حديث ذي اليدين هو ثابت من طرق أرجح (¬7) من الأحاديث المقتضية لتحريم الأفعال في الصلاة بمسافات يعرفها من يعرف مرتب الأدلة، وأيضًا فقد استدل بحديث ذي اليدين هذا جماعة نت أهل العلم السالكين طرق التأويل في محل السؤال، فمن جملة ما استدلوا به إطراقه أن سجود السهو بعد السلام (¬8)، فكيف ¬

(¬1) [الحشر: 7]. (¬2) [آل عمران: 31]. (¬3) [الأحزاب: 21]. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (1199) ومسلم رقم (538) من حديث ابن مسعود. (¬5) أخرجه مسلم في صحيحة رقم (119/ 430) من حديث جابر بن سمرة. (¬6) [النجم: 4]. (¬7) انظر «الاستذكار» لابن عبد البر (2/ 231). (¬8) قال ابن عبد البر في «التمهيد» (1/ 351 - 352): أن السلام الذي يتحلل به من الصلاة إذا وقع سهوًا لا يبطل الصلاة ولا يخرج منها، بل يجوز لفاعل ذلك البناء عليها، وقد خالف في ذلك بعض أصحاب أبي حنيفة والحديث حجة عليهم.

يأخذون بعض الحديث ويتركون بغضه! فإذا احتجوا ببعضه قامت عليهم الحجة بالبعض الآخر، مع أن هذا الحديث هو أقوى حجج القائلين بأن السجود للسهو بعد السلام (¬1). ¬

(¬1) انظر «المدونة الكبرى» (1/ 136). لسجود السهو أسباب ثلاثة: الزيادة- النقص- الشك. - إذا زاد المصلي في صلاته قيامًا أو قعودًا أو ركوعًا أو سجودًا متعمدًا بطلت صلاته، وإن كان ناسيًا ولم يذكر الزيادة حتى فرغ منها فليس عليه إلا سجود السهو وصلاته صحيحة. وإن ذكر الزيادة في أثنائها وجب عليه الرجوع عنها وسجود السهو وصلاته صحيحة. - إذا سلم المصلي قبل تمام صلاته متعمدًا بطلت صلاته. وإن كان ناسيًا ولم يذكر إلا بعد زمن طويل أعاد الصلاة من جديد. وإن ذكر بعد زمن قليل- كدقيقتين أو ثلاث- فإنه يكمل صلاته ويسلم ثم يسجد لسهو ويسلم. - إذ نقص المصلي ركنًا من صلاته فإن كان تكبيرة الإحرام فلا صلاة له سواء تركها عمدًا أو سهوًَا لأن صلاته لم تنعقد. - وإن تركه سهوًا فإن وصل إلى موضعه من الركعة الثانية لغت الركعة التي تركه منها وقامت التي تليها مقامها، وإن لم يصل إلى موضعه من الركعة الثانية وجب عليه أن يعود إلى الركن المتروك فيأتي به وبما بعده وفي كلا الحالين يجب عليه أن يسجد للسهو بعد السلام. - إذا ترك المصلي التشهد الأوسط ناسيًا وذكره قبل أن يفارق محله من الصلاة أتى به ولا شيء عليه. وإن ذكره بعد مفارقة محله قبل أن يصل إلى الركن الذي يليه رجع فأتى به ثم يكمل صلاته ويسلم ثم يسجد للسهو ويسلم. وإن ذكره بعد وصوله إلى الركن الذي يليه سقط فلا يرجع إليه فيستمر في صلاته ويسجد للسهو قبل أن يسلم. - إذا شك المصلي في صلاته، وترجح عنده أحد الأمرين فيعمل بما ترجح عنده فيتم عليه صلاته ويسلم ثم يسجد للسهو ويسلم. وإن لم يترجح عند أحد الأمرين فيعمل باليقين وهو الأقل فيتم عليه صلاته ويسجد للسهو قبل أن يسلم ثم يسلم. ويسجد للسهو فبل التسليم في موضعين: الأول: إذا كان عن نقص: لحديث عبد الله بن بحينة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى بهم الظهر فقام في الركعتين الأوليين، ولم يجلس، فقام الناس معه حتى إذا قضى الصلاة، وانتظر الناس تسليمه، كبر وهو جالس، وسجد سجدتين، قبل أن يسلم، ثم سلم». أخرجه البخاري رقم (1230) ومسلم رقم (85/ 570) وأبو داود رقم (1034) والترمذي رقم (391) والنسائي (3/ 2) وابن ماجه رقم (1206) وأحمد (5/ 345). الثاني: إذا كان عن شك لم يترجح فيه أحد الأمرين: للحديث الذي أخرجه مسلم رقم (571) عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر، كم صلى ثلاثًا أم أربعًا؟ فليطرح الشك جانبًا وليبن على ما أستيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم». ويسجد للسهو بعد التسليم في موضعين: الأول: إذا كان عن زيادة للحديث الذي أخرجه البخاري رقم (1226) ومسلم (1/ 401 رقم 91/ 572) عن عبد الله بن مسعود وقد تقدم. الثاني: إذا كان عن شك ترجح فيه أحد الأمرين للحديث الذي أخرجه البخاري (392 - البغا) ومسلم رقم (89/ 572) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم يسجد سجدتين».

وقد اختلفت الأدلة في ذلك، وتباينت المذاهب. وجملة ما في ذلك ثمانية مذاهب مستوفاة في المطولات، وليس هذا مقام بسطها. ومن جملة ما استدل به أهل العلم من أطراف هذا الحديث استثباته (¬1) - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من الجماعة بعد أن أخبره ذو اليدين فقال: «أحق ما يقول ذو اليدين؟» فاستدلوا بذلك على أنه يشرع الاستثبات في بعض الأحوال عند انفراد المخبر، وكذلك استدل أهل العلم بهذا الحديث ¬

(¬1) أن استثبات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما كان لأن ذا اليدين أخبره عن أمر يتعلق بفعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يكن ذاكرًا له حينئذ. فكانت الريبة المقتضية للاستثبات قائمة إذ لا يستحيل غلط ذي اليدين في عدد الركعات فاعتقد القصر أن النسيان من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فانضم هذا الاحتمال إلى انفراده دون بقية الحاضرين وخصوصًا من كان أكبر منه وأولى بسؤال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما. مع كون الذي أخبر به فعلًا يتعلق بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يكن ذاكرًا له، فلهذا سأل بقية الحاضرين عن ذلك، وليست هذه المسألة المفروضة أولًا.

على جواز صدور السهو منه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ [7أ]-، وكذلك استدل بهذا الحديث أهل العلم على جواز التشبيك في المسجد، وبالجملة فقد استدل بهذا الحديث أهل الإسلام على اختلاف طبقاتهم، فاستدل به أهل الأصول في خبر الواحد (¬1) إذا كان متعلقة مقتضيًا للشهرة، أو كان به مما تعم به البلوى (¬2). ¬

(¬1) قال الحافظ صلاح ابن العلائي في «نظم الفرائد» (ص196): فموضع الدلالة أن انفراد الواحد في مثل المقام يقتضي الريبة بقوله. وينتهي إلى القطع بكذبه، لكن في هذا المقام لم يمكن القطع ولا الظن بالكذب لعدالة الصحابة، فتوقف حتى وافقه القوم فتحقق صدقه وليس هذا كانفراد الواحد برؤية هلال رمضان حيث قبله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير ما مرة لأنه ليس مما تتوفر الدواعي عليه، ولو كان كذلك ما انفرد الواحد برؤية الهلال دون بقية الناس جائز ممكن. وقال ابن الصلاح في علوم الحديث (ص70): أن ما تفرد به الراوي إن كان مخالفًا لما رواه من هو أحفظ منه وأضبط كان شاذًا مردودًا، وإن لم يكن مخالفًا لما رواه غيره بأن لم يروه سواه فإن كان هذا الراوي حافظًا ضابطًا موثوقًا به عدالة، وإتقانًا قبل ما تفرد به، ولم يحطه ذلك عن درجة الصحيح كما تقدم من الأمثلة، وإن لم يبلغ الراوي هذه الدرجة كان تفرده منحطًا عن درجة الصحيح تارة يكون الراوي غير بعيد عن درجة الحافظ الضابط المتقن فيكون ما تفرد به حسنًا وتارة يكون بعيد عن ذلك لا يحتمل منه مثل هذا التفرد فيكون الحديث ضعيفًا مردودًا، وربما بلغ إلى حد النكارة». وانظر «البرهان» (1/ 577 - 578)، «المستصفي» (1/ 141). (¬2) وهو ما استدل به الحنيفة على رد خبر الواحد إذ كان مما تعم فيه البلوى خلافًا للجمهور من أئمة الحديث والأصول والفقه. ووجه الاستدلال منه أن حكم الصلاة مما تعم به البلوى وتتوفر الدواعي للسؤال عن حكمها خصوصًا للصحابة رضي الله عنهم، لما كانوا عليه من الاهتمام بأمور الذين. فلما انفرد ذو اليدين بأخباره بالسهو ولم يقبل منه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمجرده حتى استثبت من بقية الحاضرين، دل على أن انفراد الواحد فيما تعم به البلوى غير مقبول. وجواب هذا ما تقدم في المسألة: أن التوقف إنما كان لشذوذه عن الجماعة وكون الذي أخبر به فعلًا يتعلق بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم بالمعارضة بالأدلة الدالة على قبول خبر الواحد على الإطلاق من غير فرق بين ما تعم به البلوى وغيره، وبإجماع الصحابة على قبولهم خبر الواحد فيما تعم به البلوى، كقولهم حديث عائشة- رضي الله عنها- في الغسل من التقاء الختانين، وحديث رافع بن خديجة في المحايرة. ثم بالنقض عليهم بقبولهم خبر الواحد في وجوب الوتر والوضوء من خروج الدم والقهقهة، وغير ذلك مما تعم به البلوى، ولا مدفع لهم عن هذا الإلزام.

[وكذلك استدلوا به في جواز صدور السهو منه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-] (¬1)، واستدل به أهل أصول الدين على جواز صدور السهو منه (¬2) - صلي الله عليه وآله وسلم- واستدل به علماء المعاني والبيان في الكلام على سلب العموم، وعموم السلب (¬3) حيث ¬

(¬1) في المخطوط ما بين الخاصرتين مكرر. (¬2) قال القاضي عياض: اتفق جميع أهل الملل والشرائع على وجوب عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن تعمد الكذب فيما دلت المعجزة القاطعة على صدقهم فيه وذلك مما طريقه التبليغ عن الله سبحانه وتعالى من دعوى الرسالة وما ينزل عليهم من الكتب الإلهية إذ لو جاز خلاف ذلك لأدى إلى إبطال دلالة المعجزة وهو محال. الراجح الذي ذهب إليه جمهور العلماء جواز السهو والنسيان على الأنبياء صلوات الله عليهم في الأفعال كما دلت عليه هذه الأحاديث. (¬3) في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الرواية التي رواها مالك في الموطأ ومسلم في صحيحة: «كل ذلك لم يكن» وجواب ذو اليدين له بقوله: «قد كان بعض ذلك». دليل لقاعدة اتفق عليها أهل المعاني والبيان. أن النفي إذا تسلط على «كل» أو كانت في حيزه تكون «كل» حينئذ لنفي الشمول عن المجموع لا لنفي الحكم عن كل فرد فرد. وإن أخرجت «كل» من حيز النفي بأن قدمت عليه لفظًا ولم تكن معموله لنفعل المنفي توجه النفي إلى أصل الفعل وعم كلما أضيفت إليه «كل» فكأن السلب عن كل فرد فرد. والاحتجاج لهذه القاعدة بهذا الحديث من وجهين: أحدهما: أن الشؤال بـ «أم» عن أحد الأمرين لطلب التعيين بعد ثبوت أحدهما عند المتكلم على وجه الإبهام، فجوابه إما بالتعيين أو بنفي كل واحد منهما فلما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كل ذلك لم يكن» كان جوابه لنفي كل واحد منها بالنسبة إلى ظنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلو كان تقديم «كل» على المنفي إنما يفيد نفي الكلية لا نفي الحكم عن كل فرد لكان قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كل ذلك لم يكن» سلب الحكم عن كل فرد فرد لا عن المجموع، لأن الإيجاب الجزئي يقتضيه السلب الكلي. وقال الجرجاني: «والعلة في ذلك أنك إذا بدأت بـ «كل» كنت قد بنيت النفي عليه وسلطت الكلية على النفي وأعلمتها فيه، وإعمال معنى الكلية في النفي يقتضي أن لا يشذ شيء عن النفي».

قال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «كل ذلك لم يكن». واستدل به أهل الفقه في المواضع التي قدمنا الإشارة إليها، فإذا كان هذا الحديث بهذه المثابة العظيمة تغترف منه الفرق الإسلامية، وتستدل به، وتعمل عليه، وتبني عليه القواعد، فكيف لا يكون ما هو لبابه، ومفاده، وخلاصته، وعصارته معمولًا به! بل تنصب له التأويلات والتمحلات، ويذاد عن القناطر التي قد رصصت بمجرد الأقوال العاطلة عن حلية الاستدلال. وعلى الجملة فهذا خلاصة ما يقتضيه الإنصاف المطابق للقواعد المقررة في الفنون العلمية من الأصول وغيرها. وقد أختلف أهل العلم في ذلك اختلافًا كثيرًا لا يتسع المقام لبسطه، ولكنهم جميعًا مأجورون مثابون، فقد صح: «أن من أجتهد فأصاب فله أجران، ومن أجتهد فأخطأ فله أجر» (¬1). وفي رواية خارجة من مخرج حسن: «أن من أجتهد فأصاب فله عشرة أجور» (¬2). فرحم الله أهل العلم، فلقد فازوا بالخير كله، واستحقوا الأجر على الخطأ، وهذه مزية لا يشاكهم فيها غيرهم. وفي هذا المقدار من الجواب كفاية لمن له هداية. حرره المجيب محمد الشوكاني غفر الله له في صبح يوم الأحد لعله 24 شهر جمادى الأولى سنة 1218 [7ب]. ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه.

بحث في الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم

بحث في الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم تأليف محمد بن علي الشوكاني. حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط عنوان الرسالة: بحث في الكلام على الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم موضوع الرسالة: في فقه الصلاة. بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد وآله وأصحابه الراشدين. من المسترشد المستفيد محمد بن مهدي الحماطي الضمدي إلى مولانا ........ 4 - آخر الرسالة:. ... وتفريق كلمة عباد الله بغير حجة نيرة، ولابرهان واضح والمهدى من هداه الله. وحسبنا الله ونعم الكيل. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. السؤال بخط السائل والجواب بخط المؤلف. الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني. عدد الصفحات: 9 صفحات عدد الأسطر في الصفحة: 21 - 24 - 27 - 13 سطرا. عدد الكلمات في السطر: 10 - 12 كلمة. الرسالة من المجلد الرابع من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام والأتمان الأكملان على سيدنا محمد وآله وأصحابه الراشدين. من المسترشد المستفيد محمد بن مهدي الحماطي الضمدي إلى مولانا وشيخنا الأستاذ العلامة الأوحد، بدر الإسلام، وحسنة الأيام، العالم الرباني محمد بن علي الشوكاني - بارك الله للمسلمين في أيامه، وأمد في شهوره واعوامه، ولا زال ناشراً لأعلام السنة الغراء المحمديه على صاحبها أفضل التحيات الأبدية - وبعد: فإنها ظهرت في جهتنا في هذه المدة القريبة من بعض الأعلام الأكابر، وأهل الأمر في تلك الجهة الفتيا بترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وإلزام الناس بذلك، زاعما أنه لم يصح فيه عن النبي _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ شيء من الحديث، وأنه لاحق بالبدعة بل ربما يعاقب الجاهر بها، ومركز أدلته حديث أنس بن مالك المشهور، ولا شك في صحته، وإن طعن فيه بتلك المطاعن، وإنما من ادعى صحة الجهر بها لهم عدة أحاديث صحيحة عندهم كما لا يخفى على ذهنكم الشريف، بل ادعى السيوطي وغيره تواترها، ولم يزل الخلاف شائعا في هذه المسألة من عصر السلف الصالح إلى عصرنا، وكل فريق يدعى تواتر ما ذهب إليه، فا لمطلوب إيضاح الحق في المسألة، هل صح شيء في الجهر أم لا؟ وهذا أمره وراء الترجيح، وإذا رجح دليل على آخر عند من ولي شيئا من أمور المسلمين هل له إلزامهم وإكراههم على ما ترجح عنده على غيره أم لا؟ المسألة حادثة - لا عدمكم المسلمون - والله يتولاكم، والسلام.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله رب العلمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الأكرمين: اعلم أن مثل هذه المسألة ليست من مواطن الإنكار على الكامل بأي القولين، ولا يتصدر لإنكار ذلك من له نصيب من علم، وحظ منه (فإنه) (¬1) قد اختلف (1ب) فيها الأدلة اختلافا أوضح من شمس النهار، واختلف فيها أهل العلم من سلف هذه الأمة وخليفها اختلافا لا ينكره المقصرون فضلا عن المبتحرين في المعارف العلمية، ومن القائلين بالجهر بها جماعة من الصحابة (¬2). قال ابن سيد الناس: روي ذلك عن عمر، وابن عمر، وابن الزبير، وابن عباس وعلي بن أبي طالب، وعمار بن ياسر، وقد اختلفت الرواية عن بعض هؤلاء من الصحابة / فروي عن عمر فيها ثلاث رويات: الجهر والإسرار (¬3)، وترك قراءتها وكذلك روي الاختلاف في ذلك عن علي وعمار وأبي هريرة وروى الشافعي (¬4) بإسناده عن أنس بن مالك قال: صلى معاوية بالناس بالمدينة صلاة جهر فيها بالقراءة، فلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ولم يكبر في الخفض والرفع، فلم فرغ ناداه المهجرون والأنصار فقالوا: يا معاوية، نقصت الصلاة؟ أين بسم الله الرحمن الرحيم؟ وأين التكبير إذا خفض ورفعت؟ وكان إذا صلى بهم بعد ذلك قرأ بسم الله الرحمن الرحيم وكبر. أخرجه الحاكم في المستدرك (¬5)، وقال: صحيح على شرط مسلم، وروى. ..... ¬

(¬1) في المخطوط فإن والأصح "فإنه" (¬2) انظر "المجموع " (/2983) (¬3) قال في " المجموع " (3 - 299): وذهبت طائفة إلى أن السنة الإسرار بها في الصلاة السرية والجهرية حكاه ابن المنذر عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وعمار بن ياسر وابن الزبير والحكم وحماد والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة، وهو مذهب أحمد بن حنبل وأبي عبيد. .. ". (¬4) كما في "ترتيب المسند" (1 رقم 223). (¬5) (1/ 232)

الخطيب (¬1) الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم عن أبي بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وأبي بن كعب، وأبي قتادة، وأبي سعيد، وانس، وعبد الله بن أبي أوفى، وشداد بن أوس، وعبد ااه بن جعفر، والحسين بن علي، ومعاوية. فالعجب ممن يذعم يزعم أنه من أهل العلم ويستجيز والإنكار على قوم من قال به من هؤلاء الصحابة - رضي الله عنهم -!، قال الخطيب (¬2): وأما التابعون ومن بعدهم ممن قال بالجهر بها فهم أكثر من أن يذكروا وأوسع من أن يحصروا (2أ) ومنهم سعيد بن المسيب، وطاووس، وعطاء، ومجاهد، وأبو وائل، وسعيد بن جبير، وابن سيرين، وعكرمة، وعلي بن الحسين، وابنه محمد بن علي، وسالم بن عبد الله عمر، ومحمد بن المنذر، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، ومحمد بن كعب، ونافع مولى ابن عمر، وأبو الشعثاء، وعمر بن عبد العزيز، مكحول، وحبيب بن أبي ثابت، الزهري، وقلابة، وعلي بن عبد الله بن عباس وأبنه، والأزرق بن قيس، وعبد الله بن معقل. وهؤلاء أكابر التابعين، وأهل الرواية والفتيا منهم، قال الخطيب (¬3): وممن بعد التابعين عبيد الله العمري، والحسن بن زيد، وزيد بن علي بن حسين بن علي، ومحمد بن عمر بن علي، وأبن أبي زئيب، والليث بن سعد، وإسحاق بن راهويه. وزاد البيهقي (¬4) في التابعين عبد الله بن صفوان، ومحمد بن الحنفية، وسليمان التيمي ومن تبعهم المعمر بن سليمان. قال أبو عمر بن عبد البر (¬5): كان ابن وهب يقول بالجهر لم يرجع الإسرار. وحكاه غيره (¬6) عن ابن المبارك، وأبي ثور، وبه قال جمهور أهل البيت، وقال ¬

(¬1) ذكره النووي في "المجموع" (3/ 298) (¬2) ذكره النووي "في المجموع " (3/ 298) (¬3) في "المجموع" (3/ 299) (¬4) "التمهيد" (2/ 228 - 230) و"الاستذكار " (4) (¬5) "التمهيد" (2/ 228 - 230) "والاستذكار " (4) (¬6) ذكره النووي في "المجموع " (3)

البيهقي في الخلافيات (¬1) أنه أجمع آل الرسول _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ على الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ومثله في الجامع الكافي (¬2) وغيره من كتب أهل البيت. وإليه ذهب الشافعي (¬3) وأصحابه، وحكي عن أحمد بن حنبل، وأكثر العراقيين، ولاخلاف في إثبات البسملة في المصحف الشريف (¬4) في جميع أوائل السور إلا سورة التوبة والإثبات دليل على الثبوت. وقد جعله جماعة من أهل الأصول من الأدلة العلمية، وأجمع القراء السبع على إثباته في أوائل السور إذا أبتدأ بها القارئ إلا سورة التوبة. واختلفوا مع الوصل بسورة قبلها، واحتج القائلون بإثباتها وإثبات قراءتها بأحاديث منها: حديث أنس لما سئل عن قراءة رسول الله _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ كيف كانت؟ فقال: كانت مدا، ثم قرأ ببسم الله الرحمن الرحيم، يمد بسم الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم. أخرجه البخاري (¬5) وأبو داود (¬6)، والترمزي (¬7) والنسائي (¬8) وابن ماجه. ولفظه كان يشعر بالاستمرار (¬9) كما تقرر في الأصول (2ب)، فيستفاد من عموم الأزمان ¬

(¬1) عن جعفر بن محمد أنه قال: "اجتمع آل محمد _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ على الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وعلى أن يقضوا ما فاتهم من صلاة الليل والنهار وعلى أن يقولوا في أبي بكر وعمر أحسن القول ". " مختصر خلافيات البيهقي" (2). (¬2) "الجامع الكافي " تأليف الحسن بن محمد الحسني الديلمي. "مؤلفات الزيدية " (1). (¬3) ذكره النووي في "المجموع " (3) وابن قدامة في "المغني " (2). (¬4) انظر "الاستذكار " (4 - 167). "المجموع" (3). (¬5) في صحيحه رقم (5045 و5046). (¬6) في "السنن" رقم (1465). (¬7) في "السمائل" رقم (308). (¬8) في "السنن" رقم (1014). وهو حديث صحيح. (¬9) قال الحافظ في "الفتح" (9): استدل بعضهم بهذا الحديث على أن النبي _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ كان يقر أبسم الله الرحمن الرحيم، ورام بذلك معارضة حديث أنس أيضًا المخرج في صحيح مسلم أنه _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ كان لا يقرؤها في الصلاة وفي الاستدلال بذلك بحديث الباب -545 - نظر وقد أوضحته فيما كتبه عن النكت على علوم الحديث لابن الصلاح (2) وحاصله أنه لا يلزم من وصفه بأنه إذا قرأ البسمله يمد فيها أن يكون قرأ البسمله في أول الفاتحة في كل ركعة، ولأنه إنما ورد بصورة المثال فلا تتعين البسمله والعلم عند الله تعالى.

والأحوال. وروى ابن جريج عن عبد الله بن أبي مليكه، عن أ سلمة أنها سئلت عن قراءة رسول الله _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ فقالت: كان يقطع قراءته آية آية: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. رواه أحمد (¬1)، وأبو داود (¬2) وأخرجه أيضًا الترمزي (¬3)، قال (¬4): غريب، وليس إسناده بمتصل، وأعله الطحاوي (¬5) بالانقطاع فقال: لم يسمعه أبن أبي ليلى من أم سلمة. واستدل على ذلك برواية الليث (¬6) عن ابن أبي مليكة، عن يعلي بن مملك، عن أم سلمة. قال الحافظ ابن حجر (¬7) وهذا الذي أعل به ليس بعلة، فقد رواه الترمذي (¬8) من طريق ابن أبي مليكة عن أم سلمة بلا واسطة، وصححه ورجحه على الإسناد الذي فيه يعلى بن مملك انتهى. وأخرجه الدارقطني (¬9) عن ابن أبي مليكة، عن أم سلمة، ولم يذكر البسملة. قال اليعمري: رواته موثوقون. بلفظ: كان النبي _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ يفتتح الصلاة ببسم الله الرحمن ¬

(¬1) في" المسند" (6) (¬2) في "السنن" رقم (4001). (¬3) في "السنن" رقم (3095). (¬4) في "لسنن" (5) (¬5) في "شرح معاني لأثار" (1). (¬6) في "شرح معاني الأثار" (1). (¬7) في "التلخيص" (1). (¬8) في "السنن" رقم (2927). وهو حديث صحيح. (¬9) في "السنن" (1).

الرحيم. أخرجه الترمذي (¬1)، والدارقطني (¬2). قال الترمذي (¬3): هذا حديث ليس بذاك وفي إسناده إسماعيل بن حماد. (¬4) انظر"تهذيب التهذيب" (1). (¬5) انظر"تهذيب التهذيب (9 رقم360). (¬6) انظر"تهذيب التهذيب (9 رقم360). (¬7) (1) وصححه، وخطأه الحافظ ابن الحجر (¬8) ذكره الحافظ في "التلخيص" (1) وقال: وقد سرقه أبو الصلت الهروي وهو متروك، فرواه عن عباد بن العوام عن شريك وأخرجه الدارقطني (1) ورواه إسحاق بن راهويه في مسنده، عن يحيى بن آدم، عن شريك، فلم يذكر ابن عباس في إسناده أرسله وهوالصواب من هذا الوجه. (¬9) في "التلخيص" (1). (¬10): الصحيح في هذا الحديث أنه روي عن ابن عباس من فعله لا مرفوعًا إلى النبي _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ وأخرج الدارقطني (¬11) عن ابن عباس أن النبي _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ لم يزل يجهر في السورتين بسم الله الرحمن الرحيم. وفي إسناده عمر بن حفص المكي، وهو ضعيف، ¬

(¬1) في "السنن" رقم (245) بسند ضعيف (¬2) في "السنن" (1). (¬3) في"السنن" (2). (¬4) في مسنده (1 رقم526 - كشف) وأورده الهيثمي في "المجمع" (1) وقال رواه البزار وفيه عباد بن أحمد العرزمي ضعفه الدارقطني وفيه جابر الجعفي وهو ضعيف.: إسماعيل لم يكن بالقوي، وقد وثق إسماعيل، ويحي بن معين (¬5)، وفي إسناده أبو جالد الوالي هرمز، وقيل هرم. قال أبو زرعة (¬6) لا أعرف من هو. وقال أبو حاتم (¬7) صالح الحديث، وله طرق أخرى عن ابن عباس يلفظ: كان يجهر بالصلاة ببسم اللع الرحمن الرحيم. أخرجه الحاكم (¬8) في " التلخيص " (1).، وقال: في إسناده عبد الله بن عمرو ابن حسان، وقد نسبه ابن المديني إلى الوضع للحديث (¬9) قال ابن حجر (¬10) وقال أبو عمر بن عبد البر ذكره الحافظ في "التلخيص" (1). (¬11) في "السنن" (1)

وأخرجه (¬1) وعنه أيضًا من طريق أخرى، وفيها أحمد بن رشد بن خثيم عن عمه سعيد بن خثيم، وهما ضعيفان، ومما أستدلوا به ما أخرجه النسائي (¬2) من حديث أبي هريرة بلفظ (3أ): قال نعيم المجمر: صليت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن، وفيه: إذا سلم والذي نفسي بيده، لأشبهكم صلاة برسول الله _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ وقد صحح هذا الحديث ابن خزيمه (¬3) وابن حبان (¬4) والحاكم (¬5)، وقال على شرط البخاري ومسلم. وقال البيهقي (¬6): صحيح الإسناد، وله شواهد (¬7) وقال الخطيب (¬8): صحيح ثابت لا يتوجه إليه تعليل. ومما استدلوا به حديث أبي ¬

(¬1) الدارقطني في "السنن" (1 - 305). قال الدارقطني في "السنن" (1) بعد سرد احاديث هؤلاء وغيرهم ما لفظه: "وروي الجهر بسم الله الرحمن الرحيم عن النبي _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ من أصحابه وأزواجه غير من سمينا، كتبنا أحاديثهم بذلك في كتاب الجهر بها مفردا واقتصرنا على ما ذكرنا هنا طلبا للاختصار والتخفيف. (¬2) في "السنن" (2) عن نعيم المخمر، قال: صليت وراء أبي هريرة رضي الله عنه فقرأ: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" ثم قرأ بأم القرآن. حتى إذا بلغ: (وَلَا الضَّالِّينَ) قال "آمين"ويقول كلما سجد، وإذا قام من الجلوس: الله أكبر، ثم يقول إذا سلم: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_. وإسناده ضعيف (¬3) في صحيحه رقم (499). (¬4) فيصحيحه (1802). (¬5) في "المستدرك" (1) وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه ووافقه الذهبي (¬6) في " السنن الكبرى " (246) وهو حديث ضعيف (¬7) قال البيهقي في "السنن" (2) وقال الأشبيلي في"مختصر الخلافيات" (2) رواة هذا الحديث كلهم ثقات مجمع على عدالتهم محتج بهم في الصحيح. (¬8) في أول كتابه الذي وضعه في الجهر بالبسمله في الصلاة فرواه من وجوه متعددة مرضية ثم قال: هذا قاله النووي في "المجموع" (3).

هريرة عند الدارقطني (¬1) عن النبي _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ كان إذا قرأ وهو يؤم الناس افتتح بسم الله الرحمن الرحيم. قال الدارقطني: رجال إسناده كلهم ثقات انتهى. وفي إسناده عبد الله بن عبد الله الأصبحي (¬2)، روي عن ابن معين توثيقه وتضعيفه. قال ابن المديني: كان عند أصحابنا ضعيفا. وقد تكلم فيه غير واحد. ومما استدلوا به حديث أبي هريرة عند الدارقطني (¬3) قال: رسول الله _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_: "إذا قرأتم الحمد فاقرءوا ببسم الله الرحمن الرحيم ". قال اليعمري: وجميع رواته ثقات إلا أن نوح بن أبي بلال الراوي له عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة تردد فيه فرفعه تارة، ووقفه أخرى، وقال ابن حجر (¬4): هذا الإسناد رجاله ثقات، وصحح غير واحد من الأئمة وقفه على رفعه (¬5) ومن الأحاديث التي استدلوا بها حديث علي بن أبي طالب، وعمار بن ياسر أن النبي _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ كان يجهر في المكتوبات ببسم الله الرحمن الرحيم. أخرجه ¬

(¬1) في "السنن" (1 رقم38). (¬2) انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" (2 - 367). (¬3) في "السنن" (1 رقم 36). قلت: أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (2) وهو حديث ضعيف. قال الدارقطني في "علله": هذا الحديث يرويه نوح بن أبي بلال، واختلف عليه فيه، فرواه عبد الحميد بن جعفر عنه، واختلف عنه فرواه المعافي بن عمران عن عبد الحميد عن نوح بن أبي بلال عن المقبري عن أبي هريرة مرفوعا، وهو الصواب " انظر"نصب الرواية" (1) "التلخيص" (1). قال الأمير الصنعاني في"سبيل السلام" (2) عقب الحديث رقم (16) لا يدل الحديث على الجهر بها ولا الإسرار بل يدل على الأمر بمطلق قراءتها. (¬4) في "التلخيص" (421). (¬5) ثم قال ابن حجر في "التلخيص" (1): وأعله ابن القطان بهذا التردد وتكلم فيه ابن الجوزي من أجل عبد الحميد بن جعفر، فإن فيه مقالا، ولكن متابعة نوح له مما تقويه. وإن كان نوح وقفه، لكنه في حكم المرفوع إذ لا مدخل للاجتهاد في عد آي القرآن.

الدارقطني (¬1) وفي إسناده جابر الجعفي (¬2)، وإبراهيم بن الحكم (¬3) بن ظهير، وهما ضعيفان ومنها عن علي عند الدارقطني (¬4) أن النبي _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ كان يجهر في المكتوبات ببسم الله الرحمن الرحيم. قال الدارقطني (¬5) بعد إخراجه بإسناده: هذا إسناد علوي لا بأس به. وأخرج ابن عبد البر (¬6) عن عمر أن النبي_صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ كان إذاقام إلى الصلاة فأراد أن يقرأ قال بسم الله الرحمن الرحيم. قال ابن عبد البر: ولا يثبت فيه إلا أنه موقوف. ومنها ماأخرجه أبو الشيخ (¬7) عن جابر قال: قال رسول الله_صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_: "كيف تقرأ إذا قمت إلى الصلاة؟ "قلت: أقرأ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فقال: " قل بسم الله الرحمن الرحيم".وفي إسناده الجهم بن عثمان (3ب) قال أبو حاتم: مجهول. ومنها عن سمرة بن جندب قال: كان لرسول الله _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ سكتتان: سكتة إذا قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، وسكتة إذا فرغ من القراءة. فأنكر ذلك عمران بن حصين، فكتبوا إلى أبي بن كعب فكتب أن صدق سمرة. أخرجه الدارقطني (¬8)، وإسناده جيد. ومنها ¬

(¬1) في "السنن" (1 - 303). (¬2) انظر "تهذيب التهذيب" (1 - 286). قال النسائي: متروك الحديث (¬3) قال الحافظ في " اللسان" (1): إبراهيم بن الحكم بن ظهير الكوفي شيعي جلد. قال أبو حاتم كذاب روى في مثالب معاوية فمزقنا ما كتبنا عنه. وقال الدارقطني ضعيف (¬4) في "السنن" (1 رقم 1). (¬5) في "السنن" (1). ولكن الزيعلي قال: قال شيخنا أبو الحجاج المزي: هذا إسناد لا تقوم به حجة وسليمان هذا لا أعرفه. " نصب الراية " (1). (¬6) انظر"التمهيد " (3). و"الاستذكار" (4 - 165). (¬7) أخرجه الدارقطني (1 رقم 22). (¬8) في"السنن" (1). قلت: وأخرجه أبو داود رقم (777) والترمذي رقم (251) وقال: حديث حسن وابن ماجه، رقم (844). وهو حديث ضعيف. انظر "الإرواء " رقم (505).

عن أنس قال: كان النبي_صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ يجهر بالقراءة ببسم الله الرحمن الرحيم. أخرجه الدارقطني (¬1)، وله طريق أخرى عنه عند الدارقطني (¬2)، والحاكم (¬3). وأخرج الحاكم (¬4) عنه قال: سمعت رسول الله _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. قال الحاكم (¬5): ورواته كلهم ثقات. ومنها عن عائشة أن رسول الله _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. ذكره ابن سيد الناس في شرح الترمذي (¬6)، وفي إسناده الحكم بن عبد الله بن سعد، وقد تكلم فيه غيرواحد. ومنها عن بريدة بن الحصين (¬7) نحو حديث عائشة، وفي جابر الجعفي (¬8)، وله (¬9) طريق أخرى فيها سلمة بن صالح (¬10) وهو ذاهب الحديث، ومنها عن ابن عمر قال: " صليت خلف رسول الله _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ وأبي بكر وعمر، فكانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم ". أخرجه الدارقطني (¬11)، قال ابن ...................... ¬

(¬1) في "السنن" (1 - 309). (¬2) في "السنن" (1). (¬3) في "المستدرك" (1). (¬4) في "المستدرك" (1 - 234) وقال: رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات وأقره الذهبي. (¬5) في "المستدرق" (1). (¬6) لم يطبع منه إلا جزء من الطهارة بعنوان " النفح الشذي بشرح الترمذي ". (¬7) أخرجه الدارقطني في "السنن" (1 رقم 20). (¬8) تقدمت ترجمته. (¬9) أي الدارقطني في "السنن" (1 رقم 29). (¬10) قال النسائي ضعيف، وقال أبو حاتم: واهي الحديث، لا يكتب حديثه. وقال ابن معين: ليس بشيء كتبت عن. "لسان الميزان " (3). (¬11) في "السنن" (1).

ابن حجر (¬1): وفيه أبو طاهر (¬2) أحمد بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي وقد كذبه أبو حاتم (¬3) وغيره وفي الباب أحاديث غير ما ذكرنا، ولايخفاك أن في هذه الأحاديث التي ذكرنا فيها الصحيح، والحسن، والضعيف، فكيف يتوجه الإنكار على من عمل بها وبعد ذلك من منكرات الشريعة، ومن الابتداع في الدين، وهل هذا صنيع أهل العلم وم يحمل الحجج الشرعية! وقد عارض هذه الأحاديث حديث أنس عند أحمد (¬4) ومسلم (¬5) قال:"صليت خلف رسول الله _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فلم أسمع أحدا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. وفي لفظ لا أحمد (¬6) والنسائي (¬7): فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم. وفي لفظ لمسلم (¬8) وأحمد (¬9): وكانوا يستفتحون القراءه بـ الحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم. وقد أعل هذا اللفظ (4أ) بالاضطراب، لأن جماعة من أصحاب شعبة (رووه) (¬10) بلفظ: كانوا يسفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين، كما في الصحيحين (¬11) ¬

(¬1) في " التلخيص" (1). (¬2) انظر "الميزان" (1 - 127 رقم 509). " المغني في الضعفاء" (1). (¬3) انظر " الضعفاء والمتروكين" (1 رقم 231) لابن الجوزي (¬4) في "السند" (3). (¬5) في صحيحه رقم (52) وهو حديث صحيح. (¬6) في "المسند" (3، 114). (¬7) "في السنن" (2)، وهو حديث صحيح (¬8) في صحيحه رقم (52). (¬9) في " المسند" (3) وهو حديث صحيح. (¬10) في المخطوط مكرر. (¬11) البخاري رقم (743) ومسلم رقم (50).

وغيرهما (¬1). وجماعة (¬2) رواه بلفظ: فلم أسمع أحدا منهم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، وللحديث ألفاظ كثيرة، وفي الباب عن عائشة عند مسلم (¬3)، وعن أبي هريرة عند ابن ماجه (¬4)، وفي إسناده بشر بن رافع (¬5)، وقد ضعفه غير واحد. وله حاديث آخر عند أبي دواد (¬6)، والنسائي (¬7) وابن ماجه (¬8)، وأخرج أحمد (¬9) والترمذي (¬10)، والنسائي (¬11)، وابن ماجه (¬12) عن ابن عبد الله بن مغفل، قال: سمعني أبي وأنا أقول بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: يابني إياك والحدث، فإني صليت مع رسول الله _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_، ومع أبي بكر، وعمر، وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقولها، فلا تقلها، إذا قرأت فقل: الحمد لله رب العالمين، وقد حسنه الترمذي، وقال تفرد به الجريري (¬13) وقد قيل: إنه اختلط بآخره. وفيه ايضا ابن عبد الله بن مغفل (¬14) قيل اسمه ¬

(¬1) كأبي داود ررقم (782) والترمذي رقم (246). (¬2) انظر التعليقة السابقة. (¬3) في صحيحه رقم (498). (¬4) في "السنن" رقم (418) وهو حديث صحيح لغيره. (¬5) قال أحمد: ضعيف. انظر "الميزان" (1) و"بحر الدم" رقم (116). (¬6) لم أقف عليه عند أبي داود. (¬7) لم أقف عليه عند النسائي. (¬8) في "السنن" رقم (814) وهو حديث صحيح لغيره. (¬9) (4) (¬10) في"السنن"رقم (244) وقال: حديث عبد الله بن مغفل حديث حسن. (¬11) في"السنن" (2 رقم908) (¬12) في"السنن"رقم (518) وهو حديث ضعيف. (¬13) وهو سعيد بن إياس الجريري، بضم الجيم، أبو مسعود البصري ثقة، من الخامسة اختلط قبل موته، بثلاث سنين. مات سنة 144هـ. (¬14) انظر "مختصر خلافيات البيهقي" (2 - 45).

يزيد، وهو مجهول لا يعرف، لم يرو عنه إلا أبو نعامة، وقد رواه إسماعيل بن مسعود عن خالد بن عبد الله الواسطي، عن عثمان بن غياث (¬1)، عن أبي نعامة (¬2)، عن ابن عبد الله بن مغفل، ولم يذكر الجريري، وإسماعيل هو الجحدري. قال أبو حاتم: صدوق. وروي عنه النسائي. فعثمان بن غياث متابع للجريري، وقد وثق عثمان أحمد بن حنبل ويحيى بن معين. وأخرج له البخاري ومسلم. وقال ابن خزيمة (¬3):هذا حديث غير صحيح. وقال الخطيب (¬4) وغيره: ضعيف. قال النووي (¬5): ولا يرد على هؤلاء الحفاظ قول الترمذي: إنه حسن. انتهى. وسبب تضعيف هذا الحديث جهالة ابن عبد الله بن مغفل (¬6). قال أبو الفتح اليعمري: والحديث عندي ليس معللا بغير جهالة في ابن عبد الله بن مغفل. انتهى. وها جملة ما استدل به القائلون بالإسرار بالبسملة، أو بتر قراءتها بالمرة. ولا شك أنها من حيث ثبوت بعضها في الصحيحين أرجح في الأحاديث القاضية بأثبات قراءة البسملة، لكن أحاديث (4ب) إثبات قراءة البسملة لها مرجحات أخرى. منها كثرتها ¬

(¬1) عثمان بن غياث، الراسي أو الزهراني: البصري، ثقة، رمي بالإرجاء من السادسة. انظر"التقريب" (2). (¬2) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (1) وقال: أبو نعامة قيس بن عباية لم يحتج به الشيخان. وقد ضعفه البيهقي في "معرفة السنن والآثار" وبين سبب ضعفه. وانظر "نصب الراية" (1). (¬3) ذكره الزيعلي في "نصب الراية" (1). (¬4) ذكره الزيعلي في "نصب الراية" (1). (¬5) في"الخلاصه" (1): ولكن أنكره عليه الحافظ، وقالوا: هو حديث ضعيف لأن مداره على ابن عبد الله بن مغفل وهو مجهول. وممن صرح بهذا ابن خزيمة، وابن عبد البر، والخطيب البغدادي، وآخرون ونسب الترمذي فيه إلى التساهل. (¬6) انظر التعليقة السابقة

كما عرفت، مع شهادة بعضها لبعض، والمثبت أولى من النافي، ومنها أنها مشتملة على الزيادة، وهي صفة الجهرية، والمشتمل على الزيادة أرجح مما اشتمل على الأصل المزيد، ومنها أن أنسا قد روي عنه خلاف ذلك كما قدمنا، ومنها أن الدارقطني (¬1) أخرج عن أبي سلمة قال: سئلت أنس بن مالك: أكان رسول الله _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ يستفتح بالحمد لله رب العالمين، أو بسم الله الرحمن الرحيم؟ فقال: إنك سألتني عن شيء ما أحفظه، وما سألني عنه أحد من قبلك، قال الدارقطني: هذا إسناد صحيح، وعروض النسيان في مثل هذا غير مستنكر. انتهى. فعلى هذا إن أنسا رضي الله عنه استند في النفي المذكور في حديثه إلى عدم الذكر، وعروض النسيان له، وإن كان بعض ألفاظ حديثه يأبى ذلك. ومنها أنه قد قيل: إن المشركين كانوا يحضرون المسجد، فإذا قرأ رسول الله_صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ وقال: بسم الله الرحمن الرحيم، قالوا: إنه يذكر رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة (¬2)، فأمر أن يخافت ببسم الله الرحمن الرحيم. كذا قال القرطبي (¬3)، وقد روى هذا الحديث الطبراني في الكبير (¬4) والأوسط (¬5) وقد قال في مجمع الزوائد (¬6): إن رجاله موثقون، وهذا جمع حسن، ولكن لا يخفاك أن علة ¬

(¬1) في "السنن" (1 رقم 6) (¬2) تقدمت ترجمته. (¬3) في تفسيره (1). (¬4) (11 - 440رقم12245). (¬5) (5 رقم 4756). (¬6) (2). قال القرطبي في "المفهم" (2): اختلف الفقهاء في - ترك قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة: فمن قال: هي من الفاتحة، كالشافعي، وأصحاب الرأي قرأها فيها. ومن لم ير ذلك، كالجمهور، فهل تقرأ في الصلاة أو لا؟ وإذا قرئت، فهل يجهرها مع الحمد أو يسر؟ فمشهور مذهب مالك: أنه لا يقرؤها في الفرائض، ويجوز له أن يقرأها في النوافل تمسكا بالحديث، وعنه رواية أخرى: أنها تقرأ أول السورة في النوافل، ولا تقرأ أول أم القرآن، وروى عنه ابن نافع ابتداء القراءة بها في الصلاة الفرض والنفل، ولا تترك بحال، وأما هل يجهر بها؟ فالشافعي يجهر بها مع الجهر وأما الكوفيون فيسرونها على كل حال. والصحيح أن البسملة ليست آية من القرآن، إلافي النمل حاصة، فأنها آية هناك مع ما قبلها بلا حلاف، وأما في أوائل السورة، وفي أول الفاتحة فليست كذالك، لعد القطع بذالك، ومن ادعى القطع في ذلك عورض بنقيض دعواه. وقد أتفقت الأمه على أنه لا يكفر نافي ذلك ولا مثبته. وانظر: "المغني" (2).

توهم المشركين عند ذكر بسم الله الرحمن الرحيم أنه _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ يذكر رحمن اليمامة كائنة عند قراءة الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، فلا يتم هذا التعليل الذي ذكروه لعدم قراءة البسملة، وقد جمع بعض المحققين بين أحاديث الإثبات والنفي بأن النبي _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ كان يقرؤها تارة، ويخفيها أخرى، وجمع غيره بغير ذلك، وقد طولت الكلام على هذه المسألة في رسالة سميتها الرسالة المكملة في أدلة البسملة (5أ) ولم أجدها عند تحرير هذا، وفيما ذكرناه كفاية؛ إذ ليس مطلوب السائل - كثر الله فوائده-إلا ما ذكره في سؤاله من إنكار بعض أهل العلم على من جهر بالبسملة، وزعمه أن ذلك بدعة، وإلزام الناس بترك الجهر بها، ومعاقبته لمن جهر بها، فأن ما ذكرنا هاهنا يكفي في دفع الإنكار، وردع المنكر لذلك إذا كان ممن يعقل حجج الله - سبحانه -، ويعرف مواطن الإنكار التي أمر الله عباده بالإنكار على من فعلها، وأخذ على الحاملين لحجج الله أن يأخذوا على يد مرتكبيها ويأطروه على الحق أطرا، وأما مثل هذه المسألة فليس الإنكار فيها إلا من باب إنكار المعروف، وتفريق كلمة عباد الله بغير حجة نيرة، ولا برهان واضح. والمهدى من هداه الله. وحسبنا الله ونعم الكيل. كتبه محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما -.

جواب سؤالات وردت من بعض العلماء

جواب سؤالات وردت من بعض العلماء تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين وآله الطاهرين، وأصحابه الراشدين. وبعد: فإنها وردت هذه الأسئلة الجليلة من سيدي العلامة صافي الدين أحمد بن يوسف زبارة (¬1) - سدد الله إيراده وإصداره، وكثر الله فوائده، وأعلا مناره -. (الأسئلة) ولفظها: عرض لمحبكم إشكالات أفضلوا بإيضاح الجواب في حل إشكالها - أدام الله عليكم النعماء بأسمائه الحسنه ونوره الأسمى-. الأول: ما الدليل على قراءة المؤتم بعد الإمام غير الفاتحه مع النهي بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "لاتفعلوا إلا بفاتحة الكتاب" (¬2) وظاهره العموم، سواء كانت الصلاة جهلاية أو سرية، ومن قال: إنما النهي من يقرأخلفه في الجهرية فقد أغرب، فإن الحديث الذي رواه مسلم (¬3) عن عمران بن حصين قال: صلى بنا رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - صلاة الظهر أو العصر فقال: "أيكم قرأخلفي سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى؟ "فقال رجل: أنا ولم أرد إلا الخير قال: "قد علمت أن بعضكم خالجنيها "وبمثلها الرواية (¬4) ¬

(¬1) السيد أحمد بن يوسف بن الحسين بن علي زبارة ولد سنة 166هـ توفي سنة 1252هـ قرأ على مشايخ صنعاء، فمن جملة مقروءاته، القراءت السبع تلاه الشيخ العلامة هادي بن حسين القارني، وقرأ النحو والصرف، والمعاني والبيان والأصول على مشايخ صنعاء. "البدر الطالع" رقم (81)، "نيل الوطر" (1). (¬2) سيأتي تخريجه. (¬3) في صحيحه رقم (47). (¬4) عند مسلم في صحيحه رقم (48).

الثانية، وقال: صلى الظهر، وفيه: "قد ظننت أن بعضكم خالجنيها" والرواية (¬1) الثالثة، وفيه صلى الظهر وقال: "قد علمت أن بعضكم خالجنيها "فعلى هذه الروايات ظهر لي أن الأقوى عدم القراءة خلف الإمام مطلقا كقول أبي حنيفة وأصحابه، ما عدا بالفاتحة للمخصص، فأفضلوا بما يحل للأشكال - أحسن الله إليكم -. الثاني: في اللعان: لو حلف الملاعن إنه لصادق فيما رمى زوجته من الزنا، ونفى ولدها أربعا فأجابت أنه كاذب فيما رماها بها من الزنا، وأنه -أي الولد - من غلط أوشبهة فهل نقول: يجب عليها الرجم وانتفاء الولد بشهادة زوجها أو لا يكفي ذلك بل نقول: لا ينتفي الولد ولا يجب الرجم لدعواها الشبهة المحتملة؟ أفضلوا بإيضاح مبهم المشكل- أحسن الله إليكم -. الثالث: في رجل أقر بعلوق أمته من مائة، ثم مات ولم تحض، ولم يعلم هل ثبتت من أهل الحيض متقدما أم لا؟ وهل الحيض منقطع لعارض أو غير ثابت من الأصل، ولم يظهر من الإمارات سواه، فكم ينتظر للأمه بعد الإقرار العلوق لثبوت الشك أشهر فما دون كما ذكره أهل المذهب أنه لا يثبت إلا إذا علم بحركة ضرورية، أو أتت به بدون ستة أشهر، لأنهم يجبون أن يدعيه، ويكفي تلك الدعوة لمن ولد بعدها بدون أدنى مدة الحمل لا أكثر منها، فلا يلحق (1أ) الحمل بعدم الدعوة وتعذرها بعد موته أم يكفي دعوتها مع قولهم: ولا يصبح من السبي في الرحامات؟ فأفضلوا بإيضاح هذه الثلاثة الإشكالات فهي حوادث في الزمان - كثر الله إفادتكم، وشرح لكم الصدر - انتهى. ¬

(¬1) عند مسلم في صحيحه رقم (49).

(الجواب) أقول: الجواب عن السؤال الأول - بمعونة الله - يتضح بإيراد الأدلة القاضية بمنع القراءة خاف الإمام، وتقييدها بما يفيد اختصاص ذلك بالجهرية دون السرية. الدليل الأول: مما استدلوا به قول الله- عز وجل-: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) (¬1) وهذه الآية إنما تدل على المنع من القراءة حال جهر الإمام بالقراءة لقوله: (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) والاستماع إنما يكون لقراءة مجهور بها لا لقراءة مخافتة، وما كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يجهر بالقراءة إلا في الصلوات الجهرية، لا في الصلوات السرية، فإنه يخافت بها، وما يعرفون قراءته فيها إلا باضطراب لحييه كما ثبت ذلك. وقد يسمعهم الآية أحيانا على جهة الندرة والقلة فيعرفون أنه قرأ بسورة كذا. وغاية ما يلزم من ذلك أنه ينصت المؤتم في السرية إذا سمع جهر الإمام بتلك الآية التي يجهر بها نادرا، وذلك لا يستلزم ترك القراءة مطلقا لا شرعا، ولاعقلا. الدليل الثاني: ما ثبت عند أهل السنن (¬2) وغيرهم (¬3)، وصححه جماعة من الأئمة من قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في الحديث الذي رواه أبوهريرة: " إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا" فهذا يدل على وجوب الإنصات عند وقوع القراءة. وقد تبين كونه قال ذلك في صلاة جهرية بما أخزجه أبو داود (¬4)، والنسائي (¬5) .............................. ¬

(¬1) [الأعراف: 204]. (¬2) أخرجه أبو داود رقم (604) والنسائي (2) وبن ماجه رقم (846). (¬3) كأحمد (2). والطحاوي في" شرح معاني الآثار" (1) والدارقطني (1 رقم 10) وهو حديث صحيح. (¬4) في "السنن" رقم (862) (¬5) في السنن (2 - 141 رقم 919).

والترمذي (¬1) وحسنه من حديث أبي هريرة قال: أنصرف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال:: هل قرأ معي أحد منكم آنفا؟ "فقال رجل: نعم يارسول الله، فقال: "إني أقول مالي أنازع القرآن". الدليل الثالث: أخرج أبو داود (¬2) والترمذي (¬3) من حديث عبادة بن الصامت قال: صلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-الصبح فثقلت عليه القراءة، فلم أنصرف قال: "إني أراكم تقرؤون وراء إمامكم" قال: قلنا: يارسول الله إي والله قال: "لا تفعلوا إلا بأم الكتاب، فإن لا صلاة لمن لم يقرأ بها " وفي لفظ: "فلا تقرءوا بشيء من القرآن إذا جهرت به إلا بأم القرآن"ففي اللفظ الأول التصريح بأن ذلك في صلاة الصبح، وفي اللفظ الآخر التصريح بتقيد النهي عن القرآن بجهر الإمام بها. وقد أخرج الرواية الثانية هذه أيضًا [1ب] مالك (¬4) وأحمد (¬5)، والدارقطني (¬6)، وقال: كل رواتها ثقات. وأخرج الدارقطني (¬7) وقال: رجاله كلهم ثقات من حديث عبادة بن الصامت أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: "لا يقرأن أحدكم شيئا من القرآن إذا جهرت" (¬8) ¬

(¬1) في "السنن" رقم (312) وقال: هذا حديث حسن. وهو حديث صحيح. (¬2) في "السنن" رقم (823). (¬3) في "السنن" رقم (311). قلت: وأخرجه أحمد (5) والدارقطني (1318 رقم 5) وابن خزيمة (3 - 37 رقم1581) وابن الجارودفي "المنتقي"رقم (321) والحاكم (1). وهو حديث صحيح. (¬4) لم أجده في الموطأ. (¬5) في "المسند" (5). (¬6) في "السنن" (1) وهو حديث ضعيف. (¬7) في"السنن" (1). (¬8) في هامش المخطوط: "يقال مسألة إن مفهوم الشرط صلح للتقيد إذا لم يعارض بما هو أقوى منه وقد عارضه " لا تقرءوا إلا بفاتحة الكتاب" تمت.

بالقراءة" ولا يخفاك أن هذه القيود صالحة لتقييد ما ورد مطلقا كحديث عبد اللهبن شداد (¬1) وهو الدليل الرابع: من هذه الأدلة التي ذكرناها ولفظه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: " من كان له إمام فقراءة الإمام قراءة له " أخرجه مالك (¬2) وأحمد (¬3)، والترمذي (¬4) وقال (¬5): حسن صحيح: والدارقطني (¬6) وقال: وقد روي مسندا من طرق كلها ضعاف، والصحيح أنه مرسل، وقد تقرر في الأصول وجوب حمل المطلق على المقيد (¬7)، فما يرد مطلقا من الأحاديث الدالة على ترك القراءة خلف الإمام فهو يقيد بذلك القيد الثابت من طرق صحيحة، مع ما يعضده من دلالة الكتاب العزيز بقوله: (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) فإنه لا يستمع إلا لقراءة مجهورة كما سلف. وأما ماذكره ¬

(¬1) في"الموطأ" رقم (117) رواية محمد بن الحسن الشيباني. (¬2) في"الموطأ" رقم (117) رواية محمد بن الحسن الشيباني. (¬3) في "المسند" (3). (¬4) في "السنن" (2). (¬5) في السنن" (2). (¬6) في "السنن" (1 رقم4). قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (850) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1) والدارقطني 1 رقم20) وابن عدى في "الكامل" (6) وعبد بن حميد في "المنتخب" رقم (1050) وأبو نعيم في "الحلية" (7) من طرق عن جابر قال: قال رسول الله_صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة ". وهو حديث حسن. قال المحدث الألباني في " الإرواء"رقم (500): حديث حسن ثم قال: روى عن جماعة من الصحابة منهم. عبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود وأبو هريرة، وابن عباس وفي الباب عن أبي الدرداء وعلي، والشعبي مرسلا. (¬7) انظر "الكوكب المنير" (3) و"المسودة " (ص99).

السائل - كثر الله فوائده - من الاستدلال بحديث عمران بن حصين وهو الصحيحين (¬1) وغيرهما (¬2) أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- صلى الظهر، فجعل رجل يقرأ خلفه: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) فلما انصرف قال:"أيكم قرأ؟ أو أيكم القارئ؟ " فقال: "قد ظننت أن بعضكم خالجنيها". وفي لفظ (¬3): "قد علمت أن بعضكم خالجنيها" (¬4) فهذا ليس فيه النهي عن قراءة المؤتم خلف الإمام في السرية سرا، بل فيه النهي عن أن يجهر المؤتم في السرية بقراءة يخالج فيها إمامه، وذلك لا يكون إلا بقراءة مجهورة. ولم يذكر في هذا الحديث النهي للمؤتمين به عن القراءة لا سرا ولا جهرا، ولكنه يفهم من وصف تلك القراءة بتلك السورة بأنها مخالجة له. ¬

(¬1) بل أخرجه مسلم في صحيحه رقم (48) كما ذكر المصنف في بداية الرسالة. وأخرجه البخاري في "القراءة خلف الإمام" (ص92). (¬2) كأحمد (4) وأبو داود رقم (829) والبيهقي (2) والنسائي (3). وابن حبان في صحيحه رقم (1845). وهو حديث صحيح. (¬3) عند مسلم في صحيحه رقم (398). (¬4) قال الخطابي في "معالم السنن" (1): قوله: "خالجنيها" أي: جاذبنيها، والخلج: الجذب، وهذا وقوله: "نازعنيها" سواء وإنما أنكر عليه محاذاته في قراءة السورة حتى تداخلت القراءتان وتجاذبته وأما قراءة فاتحة الكتاب فإنه مأمور بها في كل إن أمكنه أن يقرأ في السكتتين فعل وإلا قرأ معه لا محالة. وقد اختلف العلماء في هذه المسألة: فروى عن جماعة من الصحابة أنهم أوجبوا القراءة خلف الإمام وروي عن آخرين أنهم كانوا لا يقرءون، وافترق العلماء فيه على ثلاثة أقاويل. فكان مكحول والأوزاعي والشافعي وأبو ثور يقولون: لا بد من أن يقرأ خلف الإمام فيما يجهر به وفيما لا يجهر. وقال الزهري ومالك وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق يقرأ فيما أسر الإمام فيه ولا يقرأ فيما يجهر به. وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي: لا يقرأ أحد خلف ال. وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي: لا يقرأ أحد خلف الإمام جهر الإمام أو أسر، واحتجوا بحديث رواه عبد الله بن شداد مرسلا عن النبي _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة".وهو حديث حسن وقد تقدم تخريجه.

إن مثل ذلك لا يحسن، وليس في قراءة المؤتم خلف إمامه سرا مخالجة البتة. ولم يرد النهي عنه في شيء من السنة، فلا وجه حينئذ (¬1) لجعل ذلك دليلا على ترك القراءة في السرية مطلقا، أو تركها إلا بفاتحة الكتاب. بل يقرأ المؤتم خلف إمامه في صلاة السر بما أراد، لكن قراءة مسرورا غير مجهورة. وأما الصلاة المجهورة التي ورد النهي عن القراءة فيها إلا بفاتحة الكتاب (¬2) فلا يقرأ بشيء إلا مخصصه الدليل، ومن جملة ما خصه الدليل فاتحة الكتاب تخصيصا متصلا خارجا من مخارج صحيحة، وحسنة. وقد تقر ان بناء العام على الخاص [2أ] مجمع عليه (¬3)، وذلك لا يستلزم الإجماع على أنه لا بد للمؤتم من قراءة فاتحة الكتاب خلف إمامه في الجهرية، ومن قال من اهل العلم بأنه لا يقرأ أبدا مع كونه ممن يقول بهذا الأصل ¬

(¬1) قال القرطبي في "المفهم " (2: قوله: "قد علمت أن بعضكم خالجنيها" أي: خالطنيها، ويروى: "نازعنيها" أي كأنه نزع ذلك من لسانه وهو مثل حديثه الآخر: "مالي أنازع القرآن" ولاحجة فيه لمنكري القراءة، لأن النبي_صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_، إنما أنكر المخالجة لا القراءة. وقال القاضي عياض في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (2 - 286): في هذا الحديث القراءة في صلاة الظهر والعصر، وقد جاء في هذا الحديث من أكثر الطرق "صلاة الظهر" بغير شك، وقد يحتج به من يمنع القراءة جملة خلف الإمام. ولا حجة له فيه لأنه لم ينهى عنه وإنما أنكر مجاذبته للسورة، فقال: " قد علمت أن بعضكم خالجنيها" ولم ينههم عن القراءة كما نهاهم في صلاة الجهر، وأمرهم بالإنصات، وإنما ينصت لما يسمع بل في هذا الحديث حجة أنهم كانوا يقرؤون خلفه، ولعل إنكار النبي_صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ كان لجهر الآحر عليه فيها أو ببعضها حين خلط عليه لقوله: "خالجنيها" وقد اختلفت الآثار في قراءة النبي_صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ فيهما، والصحيح والأكثر قراءته فيهما وهو قول الجمهور من السلف والعلماء وإنما روى تركه القراءة عن ابن عباس وقد روى عنه خلافه. وفيه قراءة المأموم فيما أسر فيه إمامه، وأن نهي النبي _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ إنما هو لمنازعته السورة التي قرأ بها لقوله: "خالخنيها" وأن نهيه أن يقرأ معه إنما كان فيما جهر فيه كما جاء في الحديث مفسرا. ... ". (¬2) تقدم ذلك. (¬3) انظر"البحر المحيط" (3 - 410) للزركشي.

أعني بناء العام على الخاص، ويعمل به في مسائل الشرع فالحجة عليه قائمة، فإن قال معتذرا عن ذلك بإنكار الإجماع على بناء العام على الخاص فهذه كتب الأصول بأسرها ترد عليه، وهي موجودة على ظهر البسيطة، وإن قال معتذرا عن ذلك بأنه لم يقف على الخاص أو لم يثبت له فالحجة عليه قائمة بوجوده في دواوين الإسلام وغيرها من طرق ينتهض بعضها (¬1) للاحتجاج به، فاضلا عن كلها، ولاسيما مع ما ثبت من طرق كثيرة في الصحيحين (¬2) وغيرهم (¬3) بأنه: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب"، وورد ايضا ما يدل على أن الفاتحة متعينة في كل ركعة على كل مصلى كما ورد في بعض طرق حديث المسيء من قوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "ثم كذلك في كل ركعاتك افعل " (¬4) وورد (¬5) أيضا ما يؤيد ذلك ويقويه. ¬

(¬1) في حاشية المخطوط: " من أصول ما يغني للقراءة بعد الإمام في الجهرية بأن تقديم الدليل القطعي على الظني واجب والدليل القطعي قوله تعالى: (فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) والله أعلم. يقال هو ظني الدلالة فيما نحن بصدده كما يعرف ذلك اطلع على تفسيرها، هذا على تسليم أن القراءة سرا ينافي الاستماع والإنصات". (¬2) أخرجه الخاري في صحيحه رقم (756) ومسلم رقم (34). (¬3) كأحمد (5) والدارمي (1) وأبو داود رقم (822) والترمذي رقم (247) والنسائي (2) وابن ماجه رقم (837) والدارقطني (1 رقم 17) والبيهقي (2). (¬4) أخرجه أحمد (4) وابن حبان في صحيحه رقم (1787) وأبو داود رقم (857و858) و (861) والنسائي (2) والبيهقي في " السنن" (2، 134، 372، 374، 385) وابن خزيمة في صحيحه رقم (545) والحاكم (1/ 241، 242) وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. كلهم من حديث رفاعة بن رافع الزرقي: أن النبي_صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ علمه -المسيء لصلاته -أن يقرأ بأم القرآن وبما شاء الله أن يقرأ ثم قال له: "اصنع ذلك في كل ركعة ". وهو حديث صحيح. (¬5) (منها) ما أخرجه مسلم رقم (41) وأبو داود رقم (821) والترمذي رقم (247) والنسائي (2) وأحمد (2) ومالك في "الموطأ" (1 رقم 39) والشافعي في "الأم" (1) والبيهقي (2) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج " يقولها ثلاثا بمثل حديثهم. (ومنها) ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (39) وأبو داود رقم (812) والترمذي رقم (247) والنسائي (2 - 136) ومالك (1 رقم 39) وأحمد (2) عن أبي هريرة رضى الله عنه سمعت رسول الله_صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ يقول: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج هي خداج هي خداج غير تمام" قال: فقلت: يا أبا هريرة إن أحيانا أكون وراع الإمام، قال فغمز ذرعي ثم قال: اقرأ بها في نفسك يافارسي، فإني رسول الله_صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ يقول: "قال الله تبارك وتعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل" قال رسول الله _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_: "اقرؤوا، يقول العبد: الحمد لله رب العالمين، يقول الله تبارك وتعالى: حمدني عبدي. .. "

وقد قال بعض اهل العلم: إن النهي عن القراءة خلف الإمام في الجهرية متوجه إلى قراءة من المؤتم ينازع فيها إمامه، ويخلط عليه. واستدل بما وردا في بعض الروايات بلفظ: "مالي أنازع القرآن (¬1) وفي بعضها بلفظ: "خلطتم علي " (¬2) وفي بعضها: "قد علمت أن بعضكم خالجنيها" (¬3). ومعلوم أن المنازعة والمخالجة والخلط على الإمام لا يكون إلا بقراءة مجهورة، فنهى عنها واستثنى من ذلك فاتحة الكتاب. وهذا الاستثناء يقتضي جواز الجهر بالفاتحة، وجواز الإسراربما عداها، ولم يدفع ذلك من قال بأن النهي متوجه إلى مطلق القراءة إلا بقول أنس بن مالك (¬4): "أقرأ بها يافارسي في نفسك" (¬5) وهذا دفع غير صحيح لما تقرر من عدم حجية أقوال بعض الصحابة في المسائل التي هي مطارح الاجتهاد، ومسارح القول بالرأي، وأنما الحجة إجماعهم كما هو مقرر في موطنه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) في حاشية المخطوط: "صوابه أبو هريرة كما هو في صحيح مسلم". (¬5) تقدم تخريجه آنفا.

وقد عرفت أن حمل المطلق على المقيد قاعده مقررة في الأصول (¬1)، مدلول عليها بما تقتضيه لغة العرب من ذلك، على أن هذا الدفع من أصله غير وارد، ولا يصح الاستدلال به على توجه النهي إلى مطلق القراءة، لأن قوله: "أقرأ به في نفسك" (¬2) ليس فيه إلا إسرار المؤتم لقراءة الفاتحة خلف إمامه (¬3)، وذلك لا يدل على ما استدلوا به عليه [2ب] من توجه النهي إلى مطلق القراءة، وباينه أن توجه النهي إلى مطلق القراءة كما قال يستلزم أن يكون الاستثناء للفاتحه على الطريقة التي كان النهي عليها كما هو شأن الاستثناء، وذلك يقتضي أن يجوز الجهر بها كما يجوز الإسرار بها. فأنس بن مالك أفتى بأحد الجائزين المفهومين من المستثني منه والمستثني، فإنك إذا قلت: أكرم القوم إلا بني فلان كان هذا التركيب دالا على إكرام كل القوم على أي صفة كانوا، وعلى أي حال من أحوالهم صاروا وعدم إكرام بني فلان على أي صفة كانوا، وعلى أي حال من أحوالهم صاروا، لما تقرر من دلالة العام على ما لا بد منه من الأزمنة والأوصاف والأحوال كما يفيد عموم الأشخاص، فهذا تقرير الدليل الذي استدل به ذلك البعض على ماقالوا، وفيه من القوة ما تراه، وإن كنت لا أوافقهم في ذلك لأمرين: ¬

(¬1) انظر "البحر المحيط " (3 - 412) للزركشي. (¬2) تقدم تخريجه من حديث أبي هريرة. (¬3) قال القرطبي في "المفهم" (2): واختلف العلماء في القراءة في الصلاة: فذهب جمهورهم إلى وجوب قراءة أم القرآن للإمام والفز في كل ركعة وهو مشهور، قول مالك، وعنه أيضًا أنها واجبه في جل الصلاة وهو قول إسحاك وعنه. أنها تجب في ركعة واحدة وقاله المغيرة والحسن وعنه: أن القراءة لا تجب في شيئا من الصلاة وهو أشذ الروايات. وحكى عنه: أنها تجب في نصف الصلاة. وإليه ذهب الأوزاعي؛ وذهب الأوزاعي أيضا، وأبو أيوب وغيرهم إلى أنها تجب على الإمام، والفذ والمأموم على كل حال، وهو أحد قولي الشافعي.

الأول: أن الأمر كما لو كان كما ذكروه لكان الخلط على الإمام، والمنازعة والمخالجة موجودة بوجود الجهر بالفاتحة فلا تحصل المصلحة المقصودة من النهي، ولا تندفع المفسدة المدفعوة به. الأمر الثاني: أنه لم يرد دليل صحيح أو حسن يدل على أن الصحابة - رضي الله عنهم - بعد هذا النهي كانوا كلهم أو بعضهم أو فردا من أفرادهم يجهرون بالقراءة خلف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بفاتحة الكتاب، ولا خلف من كان يؤمهم بعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وكذلك من جاء بعدهم من التابعين وتابعي التابعين. (¬1) وأما الجواب عن السؤال الثاني: فنقول: إن كان لدعواهها من غلط أو شبهة ما يدل عليها دلالة تقتضي أن تلك الدعوة تفيد الشبهة التي تدرأ بها الحدود كان ذلك مقتضيا لبطلان ذلك اللعان (¬2) من الأصل، ودرء الحد، فإن عروض هذه الشبهة الدافعة للحد تفيد أنه كان الرمي في حال لا يجب عليهما فيه الحد. وأما إذا لم يكن لتلك الدعوى وجه صحة أصلا فقد وقع اللعان بينهما ¬

(¬1) انظر "المغني" (2 - 158). (¬2) اللعان: وهو مشتق من اللعن، لأن كل واحد من الزوجين يلعن نفسه في الخامسة إن كان كاذبا. وقيل: سمي بذلك لأن الزوجين لا ينفكان من أن يكون أحدهما كاذبا فتحصل اللعنة عليه، وهي الطرد والإبعاد. والأصل فيه قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [النور 6: 9].

وتمت ألفاظه المعتبرة، وسقط الحد عليهما جميعا، وثبتت بينهما أحكام اللعان جميعها، لأن تلك الشبهة مع عدم دلالة دليل عليها أصلا لم تكن محتملة ولا مقتضية لبطلان ما قد وقع منهما [3أ] من التلاعن الذي وقع فيه الاستيفاء لما هو معتبر فيه من الشروط (¬1) والألفاظ. نعم. من يقول: إن مجرد دعوى الشبهة (¬2) موجبة لسقوط الحد الشرعي (¬3) وإن لم ¬

(¬1) سبب اللعان: رمي الزوج زوجته بالزنا، وليس له بينة على ذلك. حكمه: إن زنت زوجة الرجل وليس لها على زناها بينة، فإما أن تحمل من هذا الزنا أولا تحمل منه. فإن لم تحمل: جاز له أن يرميها بالزنا ويلاعنها، وإن حملت من هذا الزنا: وجب عليها أن يرميها بالزنا وينفي ولدها ويلاعنها إنلم تكن له بينة انظر: "مجموع الفتاوي" لابن تيمية (28). صيغته: تقدمت صيغة اللعان في الآيات من سورة النور من (6 - 9) ويجوز له أن يقول في اللعان: "فعلى سخط الله" بدلا من قوله "فعلى لعنة الله" الواردة في صيغة اللعان في القرآن الكريم، ويجوز له أن يلاعن بالعربية وبغير العربية. " اللاختيارات" للبعلي (ص475). آثار اللعان: أ - إذا شهد الزوج على زوجته أربع شهادات بالله أنها زنت فقد سقط عنها حد القذف، ووجب حد الزنا على المرأة، فإن شهدت أربع شهادات بالله على كذب زوجها فقد سقطعنها حد الزنا وإن رفضت ذلك أقيم عليها حد الزنا. ب - انقطاع نسب الولد الذي تم اللعان على نفي نسبه عن الزوج الملاعن. ج- وقوع الفرقة المؤبدة بين الزوجين المتلاعنين. انظر "المغني" (11 - 148). "مجموع الفتاوى" (15). (¬2) الشبهة هي ما التبس أمره حتى لا يمكن القطع أحلال هو أم حرام، أو هي مايشبه الثابت وهو ليس بثابت. (¬3) الحدود كلها تسقط بالشبهة ومن الشبهة المسقطة للحد: شهة القئمة على الفاعل وهي على أنواع انعدام الرضى بالجريمة، فأن زنا بها وهي نائمة لا حد عليها ومن أكره على الزنا حتي زنى فلا حد عليه. والجهل، فمن جهل التحريم فلا حد عليه. اعتقاد الحل: فمن أقد على الجريمة وهو يعتقد أنها حلال، يجهل التحريم فلما علمه استغفر فلا حد عليه ومن نكح امرأة يعتقد حلها له، ثم تبين أنها أخته من الرضاعة فلا حد عليه ولا مهر. الاضطرار: فلا يقام حد السرقة على الجائع إذا سرق ما يأكله أو يطعم به عياله التأويل يسقط الإثم في الحدود ولكنه لا يسقط العقوبة شبهة الملك: إذا وطئ المرتهن الجارية المرتهنة أو الشريك الأمة المشتركة فلا حد عليهما، لما له في ذلك من شبهة الملك، وعلى الواطئ مهر واحد وإن تكرر الوطء. ج-الشبهة في الأثبات: حيث يدرأ الحد عن القاذف بشهادة أهل الفسق والعصيان على الزنا، وبإقرار الزاني على نفسه بالزنا مرة او مرتين أو ثلاثا، فإن هذا لا يوجب حد الزنا عليه لنقض الإثبات ولكنه يسقط حد القذف عن قاذفه للشبهة في الأثبات. د- شبهة العقد: كمن وطئ جارية مشتراة شراء فاسدا، فلا حد عليه ولا مهر، ولا أجرة لمنافعها. ه - وليس للدولة أن تسقط الحد عن شخص مقابل مال تأخذه لبيت المال ولا يجوز له أن تستبدل بالحد المال. انظر: "مجموع الفتاوى" (28، 277) و (29) (31).

تكن صحيحة في نفس الأمر، ولا محتملة في الواقع يلزم على قوله أنه لا لعان هنا، ولا ثبوت حد على واحد منهما، أما كونه لا لعان فلكونه وقع في حال لا يوجب الرمي فيه الحد، لأن عروض تلك الشبهة رفع الرمي الواقع من الزوج بالزنا بظهور ما لم يكن معلوما عنده حال الرمي، وأوجب صدق المرأة في تكذيبه، لأنه غير زانية حينئذ. وأما كونه لأحد على واحد منهما فلكون الزوج قد ظهرت له شبهة بتلك الدعوى كما ظهرت لها، واندفع عنه بها الحد كما اندفع عنها بها كما لو قال في موقف اللعان لغير امرأته وهو يظنها امرأته: والله إني لصادق فيما رميت به هذه من الزنا، ثم تبين له أن

تلك المرأة ليست امرأته، فإن هذا اللفظ مع الأشارة التي هي معينة لمن وقع الرمي له كمد أكمل تعين لم تقتض ثبوت اللعان، على تقدير أنها أجابته بقولها: والله إنه لكاذب فيما رماني به من الزنا، لأني لم أكن امرأته، وكذلك لا يقتضي ذلك ثبوت الحد على أحدهما بلا خلاف، لأنه قد تبين أن إشارته إلى تلك المرأة التي لم تكن امرأته غلط منه لا عن قصد وعمد. وتبين صدق تلك المرأة في تكذيبه (¬1) وأما الجواب عن السؤال الثالث: فلابد بعد إقرار السيد بعلوق أمته من الانتظار للحمل إلى المدة المعتبرة (¬2) في سائر الحوامل من غير تقييد بمدة مخصوصة في الأمة فمن قال: أكثره أربع سنين قال في هذه كذلك [3ب]، ولم يدل دليل على اعتبار الستة الأشهر لا في حرة ولا في أمة، وليس ذلك إلا مجرد رأي بحت، ولا يخفى أن رفع الفراش الثابت يستلزم إبطال العصمة الشرعية الثابتة بالكتاب والسنة والأجماع، ويستلزم إبطال نسب ذلك الحمل (¬3) الذي صرح - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فيما صح ¬

(¬1) في حاشية المخطوط: "يقال المشروع في السنة بين المتلاعنين الحث من الحاكم بينهما وهو على التصادق على الاعتراف منه على القذف، وعلى الاعتراف منها بالزنا فلا مسرح لدفعه بالشبهة في المقام الملتعنين فهو مخالف لمقام سائر الحدود ". وانظر "المغني" (11 - 132). (11 - 192). (¬2) قال ابن تيمية في"مجموع الفتاوى" (32): أن أقل مدة الحمل الذي تثبت به الحقوق للجنسين ستة أشهر، وأكثرها أربع سنوات، وعلى هذا أن تزوج امرأة فولدت بعد شهرين من الزواج فإن الولد لا يحلقه ويعتبر عقد النكاح باطلا. (¬3) في حاشية المخطوط: "إذا لزم هذا اللازم بعد وفاة سيدها المقر بالعلوق يلزم هذا اللازم في حياته بأنه إذا أقر بعلوقها بأنه لا يجوز له التصرف بها إلا بعد مضي أربع سنين مثلا، من يوم إقراره بذلك، فإن علل بأنه مالك فالوارث بعده مالك أيضا، مع أنه فرد وغايته وفات الوارث بعد ذلك على فراش أبي، ولذلك قال له: (هو لك) ولم يقل: هو لأبيك. وفي رواية لأبي داود: (هو أخوك) ويقوي أنه ما ثبت إلا بدعوة الأخ قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "واحتجبي منه يا سودة" (*) فليتأمل. والله أعلم. (*): أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2053) ومسلم رقم (36) ومالك (2 رقم 20) وأحمد (6، 20، 237) وأبو داود رقم (2237) والنسائي (6 رقم 3484) وابن ماجه رقم (2004) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد ابن زمعة في غلام، فقال سعد: يارسول الله هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أنه ابنه انظر إلى شبهه، وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يارسول الله ولد على فراش أبي من وليدته، فنظر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شبهه فرأى شبها بينا بعتبة فقال: " هو لك ياعبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر واحتجبي منه ياسودة ".

عنه بإثباته، وذلك قوله: " الولد للفراش وللعاهر الحجر " (¬1) فإن ظاهر هذه العبارة ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (6818) ومسلم رقم (37) والترمذي رقم (1157) والنسائي (6 رقم 3482، 3483) وابن ماجه رقم (2006) وأحمد (2، 280، 386، 409، 466، 475، 492) والدارمي (2) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال في "المغني" (11 - 232). وأقل مدة الحمل ستة أشهر، لما روى الأثرم في إسناده عن أبي الأسود أنه رفع إلى عمر، أن امرأة ولدت لستة أشهر فهم عمر لرجمها، فقال له علي: ليس لك ذلك. قال تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ) [البقرة: 233] وقال تعالى: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) [الأحقاف: 15]. فحولان وستة أشهر ثلاثون شهرا، لا رجم عليها. فخلى عمر سبيلها وولدت مرة أخرى لذلك الحد. وقال ابن قدامة في "المغني" (11 مسألة 1354) ولو طلقها أومات عنها، فلم تنكح حتى أتت بولد بعد طلاقها أو موته بعد أربع سنين، لحقة الولد، وانقضت عدتها به. وقال الشوكاني في "السيل" 2): لم يأتي دليل قط لا صحيح ولاحسن ولا ضعيف، مرفوع إلى رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أن أقل الحمل كذا ولم يستدلوا إلا بقوله عز وجل: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) [الأحقاف:15]، مع قوله سبحانه: (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) [لقمان: 14]. ويقوي هذه الدلالة الإيمائيه أنه لم يسمع في المنقول عن أهل التواريخ والسير أنه عاش مولود لدون ستة أشهر وهكذا في عصرنا لم يسمع بشيء من هذا، بل الغالب أن المولود لستة أشهر لا يعيش إلا نادرا ولكن وجود هذا النادر يدل على ان الستة أشهر أقل مدة الحمل. وقد كان من مدة من ولد لستة أشهر من المشهورين عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي، وهكذا لم يرد في حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف، مرفوع إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أكثر مدة الحمل أربع سنين ولكنه اتفك ذلك ووقع كما تحكيه كتب التاريخ. غير أن هذا الاتفاق لا يدل على أن الحمل لا يكون أكثر من هذه المدة كما أن أكثرية التسعة أشهر في مدة الحمل لا تدل على أنه لا يكون في النادر أكثر منها، فإن ذلك خلاف ما هو الواقع. والحاصل أنه ليس هناك ما يوجب القطع بل إذا كان ظاهر بطن المرأة فيه حملا كأن يكون متعظما ولا علة بالمرأة تقتضي ذلك وحيضها منقطع وهي تجد ما تجده الحامل فالانتظار متوجه ما دامت كذلك وإن طالت المدة. أماإذا كان ثم حركة في البطن كما يكون في بطن الحامل فلا يقول بأنها إذا مضت الأربع السنين لا يكون له حكم الحمل إلا من هو من أهل الجحود الذي يتميز لهم، فإن الحمل ها هنا قد صار متيقنا بوجود الحركة التي لا تكون إلا من جنين موجود في البطن. ... ". وانظر "زاد الميعاد" (5).

النبوية واللفظ المحمدي يدل بعمومه على أن كل ولد ولد في نكاح الإسلام، أو ملكه يكون للفراش، فليحق بأبيه من غيرفرق بين مدة قريبة أو بعيدة، ولم يأتي ما يدل على تخصيص هذا العموم ببعض المدة، أو ببعض الأولاد، أو ببعض الصفات. ويقوي هذا العموم ويؤكده ويقرره مقابلتة لذلك بقوله: "وللعاهر الحجر" فإن ذلك يفيد أنه لا يخرج عن ذلك الحكم إلا من تقرر أنه عاهر، وأي عهر لمن تزوج بعقد شرعي، ونكح نكاح الإسلام، أو وطئ أمته المملوكة له بعقد الشرع، والتفصيل بين فراش وفراش، ومنكوحة بعقد، ومنكوحة بملك إذا كان بغير دليل فليس لنا أن نقول به ولا نصير إليه. وقد درجت أيام النبوة وأيا خير القرون، ولم يسمع بشيء من هذا. وكما أنه لا دليل على الستة الأشهر لا دليل أيضًا على اشتراط الدعوة في الأمة.

ولم يستدل من اشترط ذلك بشيء يصلح للاستدلال به، وغاية ما قالوه أنه لو ثبت فراش الأمة بمجرد الوطء لزم بإرتفاعه العدة الكاملة كالحرة لاستواء الفراشين، لزم ثبوت العدة لو أخرخها عن ملكه لزوال [ .... ] (¬1) بعضها. وانت تعلم أن الإلزام إنما يتم لو لم يرد دليل بتقدير العدة، اما مع وروده فالمتبع الدليل. وقد ورد في عدة أم الولد (¬2) وفي استبراء الإماء (¬3) ما ورد، فاندفع الإلزام بالمرة [4أ]. وأيضا قد اتفق في زمن النبوة أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - حكم بالولد لعبد بن زمعة (¬4) كما ثبت ذلك في دواوين الإسلام وغيرها، وأقر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عبد بن زمعة على دعواه، وحكم له بذلك، ولم يعتبر في ذلك دعوة ولا غيرها. وقد تقرر أن ترك البيان في وقت الحاجة، وتأخيره عنها لا يجوز (¬5). وتقرر أيضًا أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال (¬6). وتقرر أيضًا أن حكمه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - للواحد وعلى الواحد حكم للجماعة وعلى الجماعة ¬

(¬1) كلمة في المخطوط غير مقروءة. (¬2) اخرجه أحمد (4) وابو داود رقم (2308) وابن ماجه (2083) والحاكم في "المستدرك" (2) وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: "لا تلبسوا علينا سنة نبينا، عدة أم الولد إذا توفى عنها سيدها أربعة أشهر وعشر". وهو حديث صحيح. (¬3) أخرج أبو داود رقم (2157) والحاكم (2) وصححه على شرط مسلم وأقره الذهبي والدارمي (2) والبيهقي (7) وأحمد (3) من طريق شريك، عن قيس بن وهب (زاد أحمد وأبي إسحاق) عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري. عن أبي سعيد الخدري أن قال: في سبايا أو طاس: "لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضه". وهو حديث صحيح. (¬4) تقدم آنفا (¬5) انظر تفصيل ذلك في "البحر المحيط" (3). "الكوكب المنير" (3). (¬6) انظر "البحر المحيط" (3).

وهذه القصة هي حاصل ما وقع في أيام النبوة مما يستدل به على ثبوت فراش الأمة (¬1)، ولحوق ولدها. فهل روي في لفظ من ألفاظ هذا الحديث، أو في حرف من حروفه أنه وقع من - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - السؤال: هل جاءت به لستة أشهر، أو لما دونها أو لما فوقها؟ وهل ثبت في لفظ من ألفاظه أو حرف من حروفه أنها وقعت منه الدعوة بل قال بعد التداعي لديه: "هو لك ياعبد بن زمعة " (¬2) بعد قوله: ولد على فراش ابي، ولم يلتفت إلى قول من قال: عهد إلى فيه أخي فحكم- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بالولد للفراش ولم يعتبر غير ذلك. وفي هذا المقدار كفاية. والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه. كتبه المجيب محمد الشوكاني- غفر الله له -. ¬

(¬1) قال الأمير الصنعاني في "سبل السلام" (6) بتحقيقي: فأثبت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الولد بفراش زمعة للوليدة المذكورة، فسبب الحكم ومحله إنما كان في الأمة. وهذا كله الجمهور وإليه ذهب الشافعي ومالك والنخاعي وأحمد وإسحاق. وقال الشوكاني في "السيل" (2 - 354) بتحقيقي: فهذا الحديث قد دل على ثبوت الفراش للأمة ودل على فراش ثبوت الحرةبفحوى الخطاب وتمسك المشترطون للدعوة بهذه الدعوة الواقعة في الحديث. ولكن هذا إنما اتفق في هذه الحادثة وليس فيها ما يدل على أن ذلك شرط لا يثبت النسب بدونه. فقد كان الصحابة في زمنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يطؤون الإماء ويحدث لهم منهن الأولاد ويصيرون أولادا لهم. ولم يسمع أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبرهم بأنه لابد من الدعوة ولا ورد ذلك في شيء من المرفوع ولا سمع عن صحابي أنه قال باشتراط ذلك. وهكذا من بعد الصحابة. فالحاصل أن فراش الأمة يثبت بما يثبت به فراش الحرة وثبوت الملك عليها بمنزلة العقد على الحرة فلا يعتبر معه إلا ما يعتبر في فراش الحرة في إمكان الوطء. (¬2) انظر تفصيل ذلك في " البحر المحيط" (3) للزركشي. "الكوكب المنير" (3).

جواب سؤالات وصلت من كوكبان

جواب سؤالات وصلت من كوكبان تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج احاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط عنوان الرسالة: جواب سؤالات وصلت من كوكبان. موضوع الرسالة: في فقه الصلاة. أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الأكرمين. وبعد: فإنه وصل إلينا من القاضي محمد بن علي سعد الحداد الكوكباني. ... 4 - آخر الرسالة:. فلا بأس بأن يؤمر ببيع ماله، لأنه لا يحصل قضاء الدين كما ينبغي إلا بذلك وفي هذا المقدار من الجواب كفاية. كتبه المجيب محمد الشوكاني غفر الله له. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني. عدد الصفحات: 7 صفحات عدد الأسطر في الصفحة: 32 سطرا. عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة. الرسالة من المجلد الرابع من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الأكرمين، وبعد: فإنه وصل إلينا من من القاضي العلامة محمد بن علي سعد الحداد الكوكباني (¬1) - كثر الله فوئده - ما هذا لفظه: الأولى: أنه قد صح حديث: "من ذكرت عنده فلم يصل علي أبعده الله" (¬2) بألفاظ تقتضي بوجوب الصلاة عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عند ذكره، هل لمن كان في الصلاة عذر بقوله: "إن في الصلاة. ................................. ¬

(¬1) القاضي أديب الفرضي العلامة محمد بن علي سعد الحداد الكوكباني نشأ بحصن كوكبان وأخذ عن أعيان ذلك المكان وصفه صاحب "نيل الوطر" (2): ". .. وكان شاعرا بليغا أدبيا وله مطارحات مع أدباء عصره، تولى القضاء بكوكبان وله مؤلفات منها: "شرح نظم مفتاح الفائض"، "وبلوغ المراد فيما يتعلق بالحب والتواد". وكانت وفاته في كوكبان سنة 1251 هـ. انظر: "الروض الأغن" (3 رقم 812)، "نيل الوطر" (2). (¬2) أخرجه البزار (4 رقم 3767 - كشف) والطبراني كما في "المجمع" (10) وقال رواه البزار والطبراني وبنحوه وفيه لم أعرفهم. وللمتن شواهد. (منها): ما أخرجه الترمذي في "السنن" (3545) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "رغم أنف رجل ذكرت عنده ولم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان، ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة". وهو حديث حسن. (ومنها) ما أخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة" (56) وابن حبان في صحيحه رقم (909) والحاكم (549) وصححه ووافقه الذهبي، والترمذي رقم (3546) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي". وهو حديث صحيح.

لشغلا" (¬1) فتخصص ذلك به، أم يجب عليه، لأن الصلاة عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من أذكار الصلاة والدعاء المأثور؟. الثانية: انه قد صح من الأدعية في الصلاة ما صح، وأنه إذا دعا الإمام لنفسه دون المؤتمين فقد خانهم، هل يغير الألفاظ في الاستفتاح مثل: "اللهم ما بعد بيني وبين خطاياي" (¬2) ونحوه (¬3) فيقول: بيننا ونحوه من الأذكار في الاستفتاح وغيره، أم يخص بما عدا ما شرع للمأموم أن يقوله؟. الثالثة: هل يتوجه المأموم بما ورد، ولو في قراءة الإمام، أم وهو مخصوص بفاتحة الكتاب لقوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب" (¬4) فيترك ما عدا الفاتحه؟. الرابعة: هل يعتد اللاحق والإمام راكع بقيامه قدر سبحان الله ركعة، ولم يقرأ الفاتحة، أم يكون حكمه حكم من دخل والإمام ساجد كما قرره العلامة المقبلي (¬5) - رحمه الله -؟. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في الرسالة السابقه رقم (79). (¬2) أخرجه البخاري رقم (744) ومسلم رقم (147) وأحمد (2) والدرامي (1 - 284) وأبو داود رقم (781) والنسائي (2 - 129) وابن ماجه رقم (805) والبيهقي (2) والدارمي (1 رقم 3) من حديث أبي هريرة. (¬3) منها: ما أخرجه مسلم رقم (201) وأبو داود رقم (760) والترمذي رقم (3421) والنسائي (2 رقم 897)) وأحمد (2 رقم729 - شاكر) والطحاوي في "شرح معاني الأثار" (1) والبيهقي (2 «). عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه إذا قام إلى الصلاة قال: "وجهت وجهي للذى فطر السموات والأرض -إلى قوله من المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك - إلى آخره". (¬4) تقدم تخريجه في الرسالة السابقه رقم (79). (¬5) في "المنار" (1).

الخامسة: هل لقسمة مال الغائب بين ورثته وجه يتوجه العمل به من غير نظر إلى طول المدة وعدمه، والظن بموته وعدمه، أم يحفظ بنظر عدل مر كون عليه حتى ينكشف أمره يسند شرعي؟. السادسة: هل يجب من عليه دين من النقد، وليس له مخرج من القضاء إلا من ماله الأطيان ونحوه أن يتصرف بماله وبيعه، ام يجبر الغرماء على اخذ ماله بثمن الزمان بدليل؟ لكم ما وجدتم لا سيما مع عدم النفاق إلا بغبن فاحش أم يمهل إلى ميسرة ماله وعلته؟ تفضلوا بالإفادة - جزيتم الحسنى وزيادة -.

أقول: - حامدا الله عز وجل -، مصليا مسلما على رسوله وآله. إني قد حررت أكثر هذه المسائل وأجوبتها ودلائلها والجمع بين ما اختلف منها في مؤلفاتي (¬1)، وطولت مباحثها، وأوضحت راجحها من مرجوحها، وسأذكر ها هنا [1أ] في جواب السائل - عفاه الله - ما ينتفع به، وأن قل - فخير الكلام ما أفاد -. أما الجواب عن المسألة الأولى: فاعلم انها قد تضافرت الأدلة الدالة على مشروعية الصلاة عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عند ذكره، فمن ذلك حديث: "البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي" أخرجه التزمذي (¬2) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وقال (¬3): حسن صحيح. ومن ذلك حديث جابر بن سمرة قال: صعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - المنبر فقال: "آمين آمين آمين "فلمل نزل سأل عن ذلك فقال: "أتاني جبريل - فذكر الحديث - وفيه رغم أنف من ذكرت عنده فلم يصل علي" أخرجه الطبراني (¬4)، وفي إسناد إسماعيل بن أبان الغنوي (¬5)، كذبه يحيى بن معين وغيره (¬6). ولكنه قد أخرج الطبراني (¬7) أيضًا من حديث كعب بن عجرة أن رسول الله -صلى ¬

(¬1) انظر " نيل الأوطار" (1). (¬2) في "السنن" رقم (3546). وهو حديث صحيح وقد تقدم. (¬3) في "السنن" (5). (¬4) في "المعجم الكبير" (2 رقم 2022). وقال الهيثمي في "المجمع" (8) رواه الطبراني بأسانيد وأحدها حسن. (¬5) انظر "تهذيب التهذيب" (1). (¬6) قال البخاري: متروك، تركه أحمد والناس. وقال أبو داود: كان كذابا. نظر: "تهذيب التهذيب" (1). (¬7) في "المعجم الكبير" (19 رقم 319). قلت: وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (4 - 154) وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبى.

الله عليه وآله وسلم - خرج يوما إلى المنبر فقال حين ارتقى درجة: "آمين" ثم رقى أخرى فقال: "آمين" الحديث وفيه: "إن جبريل قال له عند أن رقى الدرجة الثالثة بعد من ذكرت عنده فلم يصل عليك، فقلت: آمين" قال العراقي: ورجاله ثقات. وأخرج الطبراني (¬1) أيضًا من حديث جابر بلفظ: "الشقي من ذكرت عنده فلم يصل علي". ولا يخفاك ان وصف من ذكر عنده فلم يصل علي بالبخل تارة، والبعد اخرى، والشقاوة تارة، رغم الأنف أخرى، يفيد مشروعية الصلاة عليه، فصلى الله وسلم عليه، وعلى آله من قل سامع لذكره على أى حالة كان ومن جملة الأحوال التي يكون عليها السامع ان يكون في صلاة ولم يرد ما يخصص المصلي من هذه العمومات. وحديث: " إن في الصلاة لشغلا" (¬2) المراد به أن القول فيها والدخول في أركانها وأذكارها فيه ما يشغل المصلي عن الأشتغال بغير ذلك، والصلاة عليه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - هي من جملة أذكارها كما تدل على ذلك الأحاديث الصيحة الثابتة في دواوين الإسلام وغيرها، بل قد ورد ما يدل على ان المصلي يجعل الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عنوانا لكل دعاء يدعو به في صلاته، كما حديث فضالة بن عبيد قال: سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - رجلا يدعو في صلاته، فلم يصل على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "عجل هذا" ثم دعاه فقال له أو لغيره: "إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد لله، والثناء عليه، ثم ليصل على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ثم ليدع بما شاء" أخرجه أبو داود (¬3)، ................................... ¬

(¬1) عزاه إليه الحافظ في "الفتح" (11) فقال: وعند الطبراني من حديث جابر بن رفعه: "شقي عبد ذكرت عنده فلم يصل علي". (¬2) تقد تخريجه. (¬3) في "السنن" رقم (1481).

والنسائي (¬1)، الترمذي (¬2) وصححه، وابن خزيمة (¬3)، وابن حبان (¬4)، والحاكم (¬5). فالمصلي إذا سمع ذكر رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ينبغي له أن يصلي عليه، وان كان حال سماعه يقرأ فاتحة الكتاب أو غيرها من القرآن. وأما من يمنع مثل ذلك متمسكا بحديث: "إن هذه صلاتنا [1ب] لا يصح فيها شيء من كلام الناس" (¬6) فقد غلط في استدلاله هذا غلطا بينا، فإن المراد بقوله: " من كلام الناس " من تكليمهم، ومخاطباتهم، على انه يرد على هذا المستدل بهذا الدليل سؤال الاستفسار فيقال له: ما المراد بقوله: من كلام الناس؟. فإن قال: المراد به ما لم يكن من كلام الرب - سبحانه -. فيقال له: آخر هذا الحديث الذي جعلته دليلا لك يرد عليك هذا الاستدلال ردا بينا، فإنه قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث: " إن صلاتنا لا يصح فيها شيء من كلام الناس، إنما ه هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن"، فجعل التسبيح والتكبير قسيمين لقراءة القرآن الذي هو كلام الله - سبحانه -. وإنا قال: المراد به ماعدا التسبيح والتكبير وقراءة القرآن. فيقال له أيضا: ما ورد من. ................................. ¬

(¬1) في "السنن" (3/ 44). (¬2) في "السنن" رقم (3477) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬3) في صحيحه رقم (710). (¬4) في صحيحه رقم (1960). (¬5) في "المستدرك" (1) و (2) وصححه ووافقه الذهبي. وهو حديث صحيح. (¬6) أخرجه مسلم رقم (33) وأبو داود رقم (931) والنسائي (3 - 18) وابن الجارود رقم (212) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1) والبيهقي (2 - 250) وأحمد (5 - 448) والبخاري في "خلق أفعال العباد" (ص 38 - 39) وابن خزيمة (2 رقم 859). من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه. وهو حديث صحيح.

ألفاظ التشهد (¬1) ليس من التسبيح، ولا من التكبير، ولا من القرآن. ومن جملة ذلك الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بتلك الألفاظ الثابتة بطريق التواتر (¬2). ومن جملة ما ثبت في الصلاة مما ليس من التسبيح والتكبيروقراءة القرآن .......................................................... ¬

(¬1) منها ما أخرجه البخاري رقم (831، 835، 1202، 6230، 6265، 6328، 7381) ومسلم رقم (55، 56، 57، 58، 59/ 402) وأبو داود رقم (968) والترمذي رقم (289) والنسائي (2 - 241) وابن ماجه رقم (899) وأحمد (1، 413، 427 - 428، 431، 439) من حديث عبد الله بن مسعود قال: التفت إلينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "إذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله، والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبراكاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه، فيدعو". ومنها: أخرجه مسلم في صحيحه (60) عن ابن عباس قال: كان رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلمنا التشهد: "التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله - إلى آخره". (¬2) منها ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (65) ومالك في "الموطأ" (1 - 166 رقم 67) وأبو داود رقم (980، 981) والتلرمذي رقم (3220) والنسائي رقم (3 - 46 رقم 1285) وفي "عمل اليوم والليلة" رقم (48) من حديث أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال بشير بن سعد: يا رسول الله، أمرنا الله أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك؟ فسكت، ثم قال: " قول اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما بركت على إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما علمتم". وزاد ابن خزيمة في صحيحه رقم (711): "فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا"؟ وهذه الزيادة رواها ابن حبان في صحيحه رقم (1956) والحاكم (1) والدارقطني في "السنن" (1 - 355 رقم 2). قال الأمير الصنعاني في "سبل السلام" (2): والحديث دليل على وجوب الصلاة عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة لظاهر الأمر (أعني) قولوا، وإلى هذا ذهب جماعة من السلف والأئمة والشافعي وإسحاق ودليلهم الحديث مع زيادته الثابتة.

[و] (¬1) التوجيهات الثابته عن رسول الله (¬2) - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ثبوتا أوضح من شمش النهار يغرف ذلك كل عارف بعلم السنة. ومن جملة ما ثبت عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة مما ليس بتسبيح ولا تكبير ولا قراءة قرآن ما علمنا من الأدعيه التي يدعوها في الصلاة، وهي كثيرة جدا تأتي في مصنف مستقل، بل وقع منها - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - التفويض للداعي في الدعاء بما أحب فقال: "ثم لا يتخير من الدعاء أعجبه إليه " وهو حديث صحيح. (¬3) وبهذا يتقرر بطلان الاستدلال بهذا الدليل على كل حال، وبكل تقدير. وقد استكثر من الاستدلال به جماعة من المؤلفين في هذه الديار، وهو وهم محض، وغلط بحت. وأما الجواب عن السؤال الثاني: فأقول: إن الإمام لا ينبغي له ان يأتي في صلاته بدعاء يخص به نفسه بل يأتي بصيغة تشمله هو والمؤتمون به، هذا معنى حديث انه إذا خص بالدعاء فقد خانهم (¬4). ¬

(¬1) زيادة يستلزمها السياق. (¬2) (منها) حديث علي في التوجه وقد تقدم. (ومنها): حديث عمر أنه كان يقول: "سبحانك اللهم بحمدك وتبارك اسمك، وتعالى جدك ولا إله عيرك ". أخرجه مسلم في صحيحه رقم (52) موقوفا على عمر. وأخرجه الدراقطني في "السنن" (رقم 7، 8، 9، 10) موقوفا ورقم (6) موصولا. (منها) ما أخرجه أحمد (3/ 50) والترمذي رقم (242) وأبو داود رقم 775 والنسائي (2) وابن ماجه رقم (804) والدارمي (1) والبيهقي (2 - 35) والدارقطني (1 رقم 4). من حديث ألي سعيد رضي اللع عنه مرفوعًا وفيه كان يقول بعد التكبير: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه، ونفخه ونفسه ". وهو حديث صحيح. (¬3) تقد آنفا وهو حديث صحيح. (¬4) أخرجه الترمذي في "السنن" رقم (357): عن ثوبان عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يحل لامرئ أن ينظر في جوف بيت امرئ حتى يستأذن، فإن نظر فقد دخل، ولا يؤم قوما فيخص نفسه بدعوة دونهم، فإن فعل فقد خانهم، ولا يقوم ألى الصلاة وهو حقن". قال الترمذي: حديث حسن. قلت: بل هو حديث ضعيف: إلا جملة: "ولا يقوم إلى الصلاة وهو حقن" فصحيحه.

وأما الأدعية التي وردت بألفظ منقوله عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فلا ينبغي لأحد أن يغيرها عن الأسلوب التي وردت به خصوصا الألفاظ التي قال الرواة فيها إن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في صلاته كذا، فإنها تبقي على ما هو عليه، ويأتي بها الإمام والمأموم كما وردت، لأن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - هو كان إمام الصلوات كلها فتلك الألفاظ المسموعة منه التي قالها في صلاته ينبغي الاقتداء بلفظه فيها، فإن كانت خاصة جاء الإمام [2أ] والمأموم والمنفردبها خاصة، وإن كانت عامة جاء بها عامة اقتداء برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. فإن قلت: يحتمل أن يكون قالها رسول -الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في صلاة النوافل. قلت: قول الصحابي كان يقول في صلاته هو مطلق غير مقيد بصلاة فريضة ولا بصلاة نافلة. وظاهره أنه كان يقول ذلك فيما يصدق عليه أنه صلاة. والفريضة والنافلة يصدق على كل واحدة منهما أنها صلاة، ومجرد الاحتمال لا يقدح في صحة الاستدلال. وإذا تقرر لك هذا فيما نقل إلينا من قوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في صلاته فهكذا إذا علم الناس - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن يقول أحدهم في ركوعه أوسجوده أو اعتداله كذا، فإن الإمام، والمأموم، والمنفرد يقولونه بتلك الصيغة (¬1) المروية ¬

(¬1) (منها): ماأخرجه البخاري في صحيحه رقم (817) ومسلم رقم (484) وأبو داود رقم (877) والنسائي (2 رقم 1122) و (2 رقم 1047) و (2 رقم 1123) وابن ماجه رقم (889) والبيهقي في "السنن الكبري" (2). من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي". (ومنها): ما أخرجه مسلم رقم (205) وأبو داود رقم (847) والنسائي (2 رقم 1068) والبيهقي (2) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رفع رأسه من الركوع قال: "اللهم ربنا لك الحمد، ملء السموات والأرض وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد".

عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من غير تحريف لولا تبديل لأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ترك الاستفصال في مقام الاحتمال (¬1)، وهذا الترك ينزل منزلة العموم في المقال كما تقرر في الأصول ترجيح هذه القاعدة. وقد أوضحت ذلك في إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول (¬2)، وبهذا يتبين لك أن حديث المنع من تخصيص الإمام لنفسه بالدعاء دون المؤتمين به هو مخصوص بما جاء به من الأدعية في الصلاة من جهة نفسه، فإنه يأتي به بصيغة الجمع لا بصيغة تخصه دون غيره. وأما الجواب عن السؤال الثالث: فأقول: إن الأحديث الواردة في نهي المؤتمين عن القراءة خلف إمامهم إلا بفاتحة الكتاب خاصة بنفس قراءة القرآن كما في حديث عبادة بن الصامت بلفظ: "إني أراكم تقرؤون وراء إمامكم " قال: قلت: يا رسول الله أي والله. قال: "لاتفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لا يقرأ بها" (¬3). أخرجه أبو داود، والترمذي، وأحمد، والبخاري في جزء القراءة وصححه. وصححه أيضًا ابن حبان (¬4)، والحاكم (¬5)،. ............... ¬

(¬1) انظر"البحر المحيط" (3) للزرقشي و"البرهان" (1). (¬2) (ص 452) بتحقيقنا. (¬3) تقدم في الرسالة رقم (79). (¬4) في صحيحه رقم (1782). (¬5) في "المستدرك" (1/ 238).

والبيهقي (¬1)، وفي لفظ: "فلا تقرؤوا بشيء إذا جهرت به إلا بأم القرآن" اخرجه أبو داود - (¬2) والنسائي (¬3)، والدارقطني (¬4)، وقال: رجاله كلهم ثقات، وفي لفظ: "لعلكم تقرؤون والإمام يقرأ؟ " قالوا: إن لنفعل، قال: "لا، إلا بان يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب". أخرجه من تقد ذكره، قال الحافظ بن حجر (¬5): وإسناده حسن، وفي حديث أبي هريرة بلفظ: "فانتهى الناس عن القراءة عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فيما جهر فيه حين سمعوا ذلك". أخرجه في الموطأ (¬6)، والنسائي (¬7)، وأبو داود (¬8)، والترمذي (¬9) وحسنه (¬10)، وفي لفظ لدارقطني (¬11): "وإذا جهرت بقراءتي [2ب] فلا ¬

(¬1) في "السنن الكبرى" (2) وهو حديث ضعيف. من حديث عبادة بن الصامت وقد تقد. (¬2) في "السنن" رقم (824). (¬3) في "السنن" (2 رقم 920). (¬4) في "السنن" (1 رقم 9). قلت: وأخرجه البيهقي (2) والحاكم في "المستدرك" (1 - 239) وقال: هذا متابع لمكحول في روايته عن محمود بن الربيع، وهو عزيز وإن كان رواية إسحاق بن أبي فروة فإني ذكرته شاهدا وقال الذهبي: ابن أبي فروة هالك. وخلاصة القول أن الحديث ضعيف والله أعلم. (¬5) في"التلخيص" (1). (¬6) (1 رقم44). (¬7) في "السنن" (2). (¬8) في "السنن" رقم (604). (¬9) في "السنن" رقم (312). واخرجه ابن ماجه رقم (846) وهو حديث صحيح. (¬10) الترمذي في "السنن" (2). (¬11) في "السنن" (1).

يقرأ معي أحد " فهذه الروايات ونحوها تدل على أن المنهي عنه حال قراءة الإمام، إنما هو قراءة القرآن فقط، وأما قراءة ما ورد من التوجه (¬1) والاستعاذة (¬2) ونحو ذلك فلا بأس به، ولايتناوله النهي، ولا يدل عليه بوجه من وجوه الدلالة، وهذا أعني التوجه والاستعاذة حال قراءة الإمام هو مذهب جماهير السلف والخلف، بل لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم أنه قال بعدم جواز التوجه والقراءة من المؤتم حال قراءة إمامه، وهكذا لم ينقل ذلك عن احد من أهل المذاهب الأربعة، وسائر أهل العلم، إلا عن ابن حزم الظاهري، فإنه قال: إن المؤتم لا يأتي بالتوجه وراء الإمام، قال: لأن فيه شيئا من القرآن، وقد نهى- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن يقرأ خلف الإمام إلا أم القرآن هكذا قال، وهو فاسد، لأنه إن أراد قوله: لأن فيه شيئا من القرآن كل توجه. فقد عرفت مما سلف ان أكثرها مما لا قرآن فيه، وإن أراد خصوص توجه على - رضي الله عنه - الذي فيه: "وجهت وجهي. .. إلخ" (¬3) فليس محل النزاع هذا التوجه الخاص، والتشهدات (¬4) كثيرة، وللمصلي مندوحة عن الوقوع فيما يحتمل النهي عنه لما فيه من القرآن. فإن قلت: ظاهر قوله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) (¬5) وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا" أخرجه أبو داود (¬6)، والنسائي (¬7) وابن .. ......................... ¬

(¬1) تقدم ذكرذلك (¬2) انظر حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - وقد تقدم. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) تقدم ذكر ذلك (¬5) [الأعراف: 204]. (¬6) في "السنن" رقم (604). (¬7) في "السنن" (2).

ماجه (¬1)، وأخرجه ايضا أحمد (¬2)، ورجال إسناده ثقات، وما قيل من انه إنفرد بزيادة قوله: "وإذا قرأ فإنصتوا"أبو خالد سليمان بن حيات الأحمر (¬3) فمدفوع بأنه من الثقات الإثبات الذين أحتج بهم البخاري ومسلم، فلا يضر تفرده بذلك، وأيضا فهو لم يتفرد بهذه الزيادة، بل قد تابعه عليها أبو سعيد محمد بن سعد الأنصاري الأشهلي المدني. أخرج ذلك من طريقه النسائي (¬4). وقد أخرج أيضًا هذه الزيادة مسلم في صحيحه (¬5) من حديث أبي موسى الأشعري. قلت: هذان العمومان: العموم القرآني، والعموم النبوي مخصوصان بما ورد الشرع بفعله في الصلاة للمؤتم، ومن ذلك فاتحة الكتاب والتوجه والاستعاذة ومما يؤيد هذا التخصيص ما قدمنا في الأحاديث المصرحة بأن النهي إنما هو عن قراءة القرآن خلف الإمام فقط. وأما الجواب على السؤال الرابع: فأقول: قد ذهب الجمهور (¬6) إلى أن اللاحق إذا أدرك الإمام، وهو راكع بعد ان كبر للأفتتاح، ثم ركع وشارك إمامه في قدر تسبيحة من الركوع قبل ان يرفع رأسه من الركوع [3أ] فقد ادرك الركعة، وجاز له الاعتداد بها. واستدلوا بما أخرجه ابن خزيمة (¬7) ¬

(¬1) في "السنن" رقم (846). (¬2) في "المسند" (2) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وهو حديث صحيح. (¬3) سليمان بن حيان الازدي أبو خالد الأحمر الكوفي الجعفري. قال ابن معين: ثقة وقال مرة لا بأس به وقال أبو حاتم: صدوق. انظر: "تهذيب التهذيب" (2)، "الميزان" (2 رقم 3443). (¬4) في "السنن" (2 - 142). (¬5) (1 رقم 63). (¬6) انظر "المحلي" (3، 255، 362). (¬7) في صحيحه (3 رقم 1595).

من حديث أبي هريرة بلفظ: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك قبل أن يقيم الإمام صلبه". ويجاب عن هذا الاستدلال بان المراد بالركعة في قوله: "من أدرك ركعة" هو المعني الحقيقي للركعة، وهي القيام، وما يجب فيه من القراءة التي لا تجزي الركعة بدونها، وذلك هو الفاتحة كما دلت على الأدلة الصحيحة. ولا خلاف في أن معني الركعة حقيقة هو جميعها، وان إطلاق الركعة على بعضها مجاز، والحقيقة مقدمة على المجاز بلا خلاف، فمن أدرك القيام وأمكنه ياتي بالفاتحة، ثم ركع قبل أن يقيم الإمام صلبه فقد أدرك الركعة، ومن لم يدرك ذلك على هذه الصفة فلم يدرك الركعة. فأن قلت: أي فائدة على هذا التقدير لقوله: قبل ان يقيم الإمام صلبه؟. قلت: دفع توهم أن من دخل مع الإمام، ثم قرأ الفاتحة وركع الإمام قبل فراغه منها غير مدرك، بل هو مدرك إذا ركع قبل أن يقيم الإمام صلبه. وقد ذهب إلى هذا ابن خزيمة (¬1)، وهو الراوي لذلك الحديث، وهو أعرف بمعناه. وذهب إلى هذا المذهب أبو بكر الضبعي، وبعض أهل الظاهر، كما حكى ذلك ابن سيد الناس في شرح الترمذي، ثم قال بعد رواية هذا المذهب، أعني: عدم الاعتداد بالركعة إذا لم يدرك اللاحق القيام والفاتحة، ويلحق الإمام وهو راكع قبل ان يقيم صلبه عن ابن خزيمة، وأبي بكر الضبعي، وبعض أهل الظاهر (¬2) حاكيا عمن روى عن ابن خزيمة (¬3) إنه احتج لما ذهب إليه بما روى عن أبي هريرة أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أدرك الإمام في الركوع فليركع معه، وليعد الركعة" وقد رواه البخاري (¬4) في القراءة خلف الإمام من حديث ¬

(¬1) في صحيحه (3 رقم 1595). (¬2) انظر "المحلي" (3). (¬3) في صحيحه (3 - 58 رقم 1622). (¬4) رقم (134).

أبي هريرة أنه قال: "إن ادركت القوم ركوعا لم تعتد بتلك الركعة". قال الحافظ (¬1): وهذا هو المعروف عن أبي هريرة موقوفا. وقال الرافعي (¬2) تبعا للإمام: إن أبا عاصم العبادي حكى عن ابن خزيمة احتج به. إذا عرفت هذا تبين لك انه لابد من الجمع بين الروايات بما ذكرناه فإن حديث: "قبل ان يقيم صلبه" هو من حديث أبي هريرة، وأخرجه عنه ابن خزيمة كما قدمه. وقد ذهب إلى خلافه، واحدهما الراوي للحديث، والآخر المخرج له، ولم يذهبا إلى خلافه لمجرد الرأي، بل استدلا بتلك الرواية والاختلاف في رفعها ووقفها لا يقدح في حجيتها، لأن الرفع زيادة. وقد عرفت بما ذكرناه أن هذا القول ليس هو قول المقبلي (¬3) فقط، بل قد ذهب إليه من أهل العلم من حكينا لك عنهم [3ب]، بل قال البخاري في جزء القراءة خلف الإمام (¬4). وعلى هذا فقد ذهب إليه جماهير من أهل العلم، لأن القائلين بوجوب القراءة خلف الإمام هم الجمهور. وقد حكاه الحافظ في الفتح (¬5) عن جماعة من الشافعية. وحكى العراقي في شرحه للترمذي (¬6) عن شيخه السبكي أنه كان يختار انه لا يعتد بالركعة من لا يدرك الفاتحة، ثم قال: وهو الذي نختاره؛ فهذان إمامان كبيران من أئمة الشافعية. السبكي والعراقي يختاران هذا المذهب، وبهذ تعرف من ذهب إلى ما ذكرناه ¬

(¬1) في "التلخيص" (2). (¬2) ذكره الحافظ في "التلخيص" (2). (¬3) في"المنار" (1). (¬4) (ص34). (¬5) (2 - 243). (¬6) لا يزال كتاب نفح الشذي الذي بدأه ابن سيد الناس وأكمله العراقي مخطوطا. سوى جزء من أحاديث الطهارة.

من عدم الاعتداد بالركعة التي لا يدرك بها المؤتم فيها الفاتحة، ويدرك إمامه قبل أن يقيم صلبه، وتعرف أيضًا انه لا يحصل الجمع بين أحاديث وجوب قراءة الفاتحة، وإدراك الإمام راكعا قبل أن يقيم صلبه (¬1) ¬

(¬1) انظر "فتح الباري" (2 - 243)، "المغني" لابن قدامة (1 - 505). قال النووي في "المجموع" (4): اقل الركوع هو: ان ينحني المصلى بحيث تنال راحتاه ركبتيه فلوإنخنس وأخرج ركبتيه، وهو مائل منتصب وصار بحيث لو مد يديه لنالت راحتاه ركبتيه لم يكن ذلك ركوعا لأن نيلهما لم يحصل بالانحناء. وأكمل الركوع فبأمرين: أحدهما في الهيئة، والثاني في الذكر. أما الهيئة: فأن ينحني بحيث يستوي ظهره وعنقه، ويمدهما كالصفيحة وينصب ساقيه إلى الحقو، ولا يثني ركبتيه، ويضع يديه على ركبتيه يأخذوهما بهما. ويفرق بين أصابعه وحينئذ". الذكر: فيستحب أن يكبر للركوع ويبتدئ به الهوي. لذلك إذا أدرك الإمام في حال الركوع، فإنه تجزئه تكبيرة واحدة فيكبر للإحرام -فتجزئه عن تكبيرة الركوع، ولو كبر تكبيرتين إحداهما للإحرام والأخرى للركوع لكان أحسن. " المجموع" للنووي (4). "المغني" لابن قدامة (1 - 505). فائدة: * إذا كان المأموم يركع والإمام يرفع رأسه من الركوع لم يجزئه ذلك، وعليه أن يأتي بالتكبيرة منتصبا، فإن أتى بها بعد أن انتهى في الانحناء إلى قدر الركوع أو أتى ببعضها لم يجزئه لأنه أتى بها في غير محلها. ولأنه يفوته القيام وهو من أركان الصلاة. "المغني" (1). وإذا أدرك المسبوق الإمام في غير ركن الركوع، كأن يدركه ساجدا أو يدركه في التشهد فإنه يستحب له الدخول معه، ولا يعتد بها. "المجموع" (4) و"المغني" (1). وقال القاضي عياض في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (2 - 562) - تعليقا على حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام، فقد أدرك الصلاة. وهو حديث صحيح أخرجه البخاري (580) ومسلم رقم (607) وأبو داود رقم (1121) والترمذي رقم (5024) والنسائي (1) وابن ماجه رقم (1122) -. لا خلاف أن اللفظ ليس على ظاهره، وأن هذه الركعة تجزيه من الصلاة دون غيرها. وإنما ذلك راجع إلى حكم الصلاة وقيل: معناه: فضل الجماعة وهو ظاهر حديث أبي هريرة، وهذا في رواية ابن وهب عن يونس عن الزهري وزيادته قوله: "مع الإمام" وليس هذه الزيادة في حديث مالك عنه، ولا في حديث الأوزاعي وعبيد الله بن عمر ومعمر، واختلف فيه عن يونس عنه، وعليه يدل إفراد مالك في التبويب في "الموطأ" (1)، وقد رواه بعضهم عن مالك مفسرا: " فقد أدرك الفضل" ورواه بعضهم عن ابن شهاب وهذا الفضل لمن تمت له الركعة كما قال، وفب مضمونه أنه لا يحصل بكماله لمن لم تتحصل له الركعة. .. ثم قال: وهذه الركعة التي يكون فيها مدركاللأداء والوجوب في الوقت هو قدر ما يكبر فيه للأحرام وقراءة أم القرآن بقراءة معتدلة، ويركع ويرفع ويسجد سجدتين يفصل بينهما ويطمئن في كل ذلك. على من أوجب الطمأنينه، فهذا أول ما يكون به مدركا، وعلى قوله من لا يوجب أم القرآن في كل ركعة تكفيه تكبيرة الإحرام والوقوف لها. .. ثم قال: واما الركعة التي يدرك لها فضيلة الجماعة فأن يكبر لإحرامه قائما ثم يركع، ويمكن يديه من ركبتيه قبل رفع الإمام رأسه. هذا مذهب مالك وأصحابه، وجمهور الفقهاء من أهل الحديث والرأي، وجماعة من الصحابة والسلف. .. ".

واعلم أن استيفاء البحث يحتاج إلى تطويل، وقد طولته في مؤلفاتي (¬1) واستوفيت الكلام عليه احتجاجا ودفعا وترجيحا. وفي هذا المقدار الذي ذكرناه هنا كفاية. وأما الجواب عن المسألة الخامسة فأقول: لا شك ولا ريب أن القواعد الشرعية قاضية بأن ملك كل مالك باق على ملكه، لا يخرجه عنه إلا وقوع التصرف منه فيه باختياره أو موته، والغائب إذا لم يصح خبر موته جميع ما يملكه باق على ملكه، لا يجوز لغيره التصرف فيه لوجهين: الوجوه (¬2): لكن إذا خشى عليه الفساد كان للحكام، ومن له النظر في المصالح أن يجعلوه بنظر العدول، يقيمون ما يحتاج إلى الإقامة ويبيعون ما يخشى عليه الفساد، ¬

(¬1) انظر "نيل الأوطار" (3 - 152). (¬2) العبارة اعتراها نقص والله أعلم.

ويأخذون أجرتهم كما يأخذون ذلك من مال الأحياء الحاضرين، فأن كان في الورثة من يصلح لذلك فهو أولى من غيره. وأما الجواب عن المسألة السادسة: فأقول: إذا رفع الغرماء من عليه دين إلى حاكم الشريعة فالوجه الشرعي الذي دل عليه الدليل، وأفاده ما وقع لمعاذ بن [معاذ] (¬1) -رضي الله عنه - لما طالبه أهل الدين بدينهم أن الحاكم يقضيهم من مال المديون، ويبيعهم منهم بثمن الزمان والمكان، ولا يكلف بعد بذل ماله بغير ذلك إذا كان المال في مكان يمكن صاحب الدين الاتصال به والانتفاع به. وأما إذا كان في مكان لا يمكنه الانتفاع به، وكان من عليه الدين أقدر على التصرف ¬

(¬1) كذا في المخطوط والصواب (جبل) وأخرج الحديث الدراقطني (4 - 231 رقم 95) والبيهقي (6) والحاكم في "المستدرك" (2) وقال: صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي. من حديث كعب بن مالك: "أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجر على معاذ ماله، وباعه في دين كله عليه". وأخرجه أبو داود في "المراسيل" رقم (172) وعبد الرزاق في مصنفه (8 رقم 15177) وهو منقطع. من حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك مرسلا قال: "كان معاذ بن جبل شابا سخيا وكان لا يمسك شيئا فلم يزل يدان حتى أغلق ماله في الدين فأتي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكلمه ليكلم غرماءه، فلو تركوا لأحد لتركوا لمعاذ لأجل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فباع لهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم ماله حتى قام معاذ بغيره شيء". وهو حديث ضعيف انظر: "الإوراء" رقم (1435). قال ابن قدامة في "المغني" (6): "ومتى لزم الإنسان ديون حالة لا يفي ماله بها، فسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه، لزمته إيجابتهم ويستحب أن يظهر الحجر عليه لتجتنب معاملته فإذا حجر عليه ثبت بذلك أربعة أحكام: أحدهما: تعلق حقوق الغارماء بعين ماله. الثاني: منع تصرفه في عين ماله. الثالث: أن من وجد عين ماله عنده فهو أحق بها من سائر الغرماء إذا وجدت الشروط. الرابع: أن للحاكم بيع ماله وإيفاء الغرماء والأصل في هذا ما روى كعب بن مالك".

به، والبيع له فلا بأس بأن يأمر ببيع ماله، لأنه لا يحصل قضاء الدين كما ينبغي إلا بذلك. وفي هذا المقدار من الجواب كفاية. كتبه المجيب محمد الشوكاني - غفر الله له [4أ]-.

بحث في جواب سؤالات تتعلق بالصلاة

بحث في جواب سؤالات تتعلق بالصلاة تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

عنوان الرسالة: (بحث في جواب سؤالات تتعلق بالصلاة). موضوع الرسالة: في فقه الصلاة. أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، يا مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، وبعد: فإنه وصل من سيدنا العلامة حسنة الآل، زينة الأمثال يحيى بن مطهر بن إسماعيل. .. آخر الرسالة:. .. ويخرج بخروجهم للعلة التي ذكرناها. وإلى هنا انتهى جواب المسائل. وحسبي الله وكفى، ونعم الكيل حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما. نوع الخط: خط نسخي معتاد. الناسخ: محمد بن علي الشوكاني. عدد الصفحات: 14 صفحة. عدد الأسطر في الصفحة: 25 سطرا. عدد الكلمات في السطر: 10 - 12 كلمة. الرسالة من المجلد الرابع من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

بسم الله الرحمن الرحيم يا مالك يوم الدين، إياك نعبد، وإياك نستعين، وبعد: فإنه وصل من سيدنا العلامة حسنة الآل، زينة الأمثال يحيى بن مطهر بن إسماعيل بن يحيى بن الحسين بن القاسم (¬1) - كثر الله فوائده - هذه الأسئلة النفيسة، ولفظها: أشكل على المسترشد عدة مسائل، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -قد أرشد إلى السؤال: المسألة الأولى: في القراءة في الصلاة، اعتاد كثير من الناس قراءة سورة العصر فما دونها إماما ومأموما، مع كون المعروف من قول من وكل إليه بيان ما يقرأ في الصلاة وفعله خلاف ذلك، فربما وقع التبرم من صلاة من يقرأ بالشمس وسبح، والحال أنها صلاة أخفهم إليها ندب النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - معاذا لما شكوا قراءته البقرة (¬2)، وهم أهل أعمال، فجعل ذلك فرض الضعيف والسقيم وذا الحاجة، وقد كانت عادته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - القراءة بطوال القرآن، وأوسطه، وطوال الفتح (¬3) عند الكلام على حديث ابن مسعود من أنه كان يقرن بين عشرين سورة، وآخرهن حم الدخان والنزعات " كأن عبد الله كان يرى الدخان السور المذكورة. من المفصل، وسيأتي سرد السور المذكورة. ¬

(¬1) تقدمة ترجمته. (¬2) سيأتي تخريجه في الجواب. (¬3) (2). وحديث ابن مسعود أخرجه البخاري رقم (775) وطرفاه رقم (4996، 5043) حدثنا آدم قال حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة قال: سمعت أبا وائل قال: "جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: قرأت المفصل الليلة في ركعة، فقال: هذا كهذا الشعر. لقد عرفت النظائر التي كان النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرن بينهن. فذكر عشرين سورة من المفصل، سورتين في كل ركعة.

وفي حديث أم فضل بنت الحارث عند مسلم (¬1) أن آخرصلاة صلاها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالناس في مرض موته المغرب، قرأ فيها بالمرسلات، وقد كان من شأنه تخفيف المغرب، فحالة المرض يقتضي زيادة التخفيف، وكانت الصلاة بالمرسلات تخفيف التخفيف من معلم الشرائع، والله تعالى يقول: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (¬2). والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقول: " صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬3) والآن صار الناس يتضررون من الصلاة بما ندب إليه الشارع معاذا (¬4) من التخفيف، وليس ذلك منهم عن علم، بل كأنهم جهلوا أن المفضل من قاف، وأن المرسلات من أوسطه، والشمس [1أ] من قصاره، فرغبوا عن ذلك، وصار الاختصار هو الغالب، والعلماء هم الذين أخذا الله عليهم الميثاق، والذي [ ... ] (¬5) أن ذلك ليس من التخفيف الشرعي، وإن كان فيه تخفيف في الصورة، ولكنه سرق للصلاة. ومع هذا فربما صلى الرجل ووقف ¬

(¬1) رقم (173) قلت وأخرجه البخاري رقم (763). عن ابن عباس قال: إن أم الفضل بنت الحارس سمعته وهو يقرأ: (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا) فقالت: يابني لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة، إنها لآخر ما سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ بها في المغرب. (¬2) [الأحزاب: 21]. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (631) ومسلم رقم (24) من حديث مالك بن الحويرث. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6106) ومسلم في صحيحه رقم (465) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: كان معاذا يصلي مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يأتي فيؤم قومه. فصلى ليلة مه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العشاء، ثم أتى قومه فأمهم فافتتح بسورة البقرة، فانحرف رجل فسلم ثم صلى وحده وانصرف. فقالوا له: أنافقت يا فلان؟ قال: لاوالله، ولآتين رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلأخبرنه فأتى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يارسول الله إن أصحاب نواضح، نعمل بالنهار وإن معاذ صلى معك العشاء، ثم أتى فافتتح بسورة البقرة، فأقبل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على معاذ فقال: "يا معاذ، أفتان أنت؟ اقرأ: والشمس وضحاها، والضحى والليل إذا يغشى،، سبح اسم ربك الأعلى". (¬5) كلمة غير واضحة في المخطوط.

في المسجد، أو بين يدي رجل من عباد الله لا يدري ما يقف عليه منه، بل في إنتظار ملاقاته قدر قراءة طولي الطوليين، فلا يمل ويرغب عن من لا يضيع لديه عمل عامل. وقد أنكر السلف على مروان قراءته في المغرب بقصارقصار المفصل (¬1)، وكذلك الرجل الذي اعتاد قراءة: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) انكر عليه أصحابه وشكوه إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، فقال له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "ما يمنعك وما يحملك" (¬2) فأجابه بقوله: إني أحبها. قال ابن المنير (¬3): في الحديث أن المقاصد تغير أحكام الفعل، لأنه لو قال إنه لا يحفظ غيرها لأمره يتحفظ، لكنه اعتل بحبها فصوبه لصحة قصده. وقد قيل إنما كان يقررها في صلاة الليل دون الفرائض، وصار الناس يلتزمون قراءتها في الثانية، لا لمقصد، بل لو قصدوا ما أراده لم يكن لهم ما جزم به للرجل جزما لعدم المشاركة في العلة، والابتداء بالقصد كما وقع في حق خزيمة (¬4) ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (764) حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عروت ابن الزبير عن مروان بن الحكم قال: "قال لي زيد بن ثابت: ما لك تقرأ في المغرب بقصار، وقد سمعت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ بطوليه الطوليين". (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6106) ومسلم رقم (178) من حديث جابر. وأخرجه البخاري رقم (774) والترمذي رقم (2601) وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح. من حديث أنس. وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (7375) من حديث عائشة. (¬3) ذكره الحافظ في "الفتح" (2) وإليك النص كاملا. قال ناصر الدين بن المنير: "في هذا الحديث أن المقاصد تغير أحكام الفعل لأن الرجل لو قال إن الحامل له على إعادتها أنه لا يحفظ غيرها، لكنه اعتل بحبها فظهرت صحة قصده فصوبه قال: وفيه دليل على جواز تخصيص بعض القرآن بميل النفس إليه والاستكثار منه ولا يعد ذلك هجرانا لغيره. وفيه ما يشعر بأن سورة الإخلاص مكيه. .. ". (¬4) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (3607) والنسائي (7) رقم (4647) عن عمارة ابن خزيمة، أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن النبي ابتاع فرسا من أعرابي، فاستتبعه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليقضيه ثمن فرسه فأسرع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المشي، وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس، ولا يشرعون أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابتاعه، فنادى الأعرابي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "إن كنت مبتاعا هذا الفرس وإلا بعته، وقام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين سمع نداء الأعرابي، فقال: "أو ليس قد ابتعته منك؟ " فقال الأعرابي: لا والله ما بعتكه! فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بل قد ابتعته منك " فطفق الأعرابي يقول: هلم شهيدا! فقال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنك قد بايعته، فأقبل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على خزيمة، فقال: " بم تشهد" فقال: بتصديقك يارسول الله! فجعل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهادة خزيمة بشهادة رجلين. وهو حديث صحيح.

وأبي بردة، فإنه قضى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لهما بالاختصاص، فلو زعم أحد بمحبتهما لكانت إنما هي لكونها أحبها الرجل، فدخل الجنة، لا أنه لذاتها. هذا فيما يظهر - والله أعلم -. فأحسنوا با لإيضاح، فهذه التصورات هي السبب في السؤالات لا برحتم. المسألة الثانيه: هل تكره قراءة الرجل في الركعة الثانية لسورة هي قبل التي قرأها في الأولى على ترتيب المصحف؟ إن قلتم لا يجوز فقد صرح بعض أهل العلم بالكراهة، وقرر للمذهب، وأن قلتم لا يجوز لمخالفة الترتيب نوقش بأنه ليس بتوفيقي، وبأن في إرشاد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ إلى الحد الذي لا ينبغي التخفيف به: " اقرأ [1ب] والشمس وضحاها، والليل إذا سجى، وسبح اسم ربك الأعلى" (¬1) وفي رواية (¬2): " إذا أممت الناس فا قرأ والشمس وضحاها، وسبح اسم ربك الأعلى وقرأ باسم ربك الذي خلق، والليل إذا يغشى" وهما في مسلم. وسرد الراوي للسور التي كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقرنيها في الصلاة من المفصل، وهي الرحمن، والنجم في ركعة، واقتربت والحاقة في ركعة، والذريات والطور في ركعة والواقعه ونون في ركعة وسأل سائل والنازعات في ركعة، وويل للمطففين وعبس في ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (6106) ومسلم رقم (178) من حديث جابر. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (179/ 465) من حديث جابر.

ركعة، والمدثر والمزمل في ركعة، وإذا الشمس كورت والدخان في ركعة كما ذكره الحافظ (¬1). المسألة الثالثة: هل التسبيح في الثالثة والأخريين إثارة من علم؟ والذي يظهر في مقام السؤال تعين الفاتحة في كل ركعة على الإمام والمأموم، لأدلة أوردها لمعرفة ما يعارضها أو يخصصها، فمن الأدلة ما يكون لصد ما سقيت عليه، وقد يكون صوابا، فمنها وهو في الصحيح (¬2): "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". وفي رواية: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج " (¬3) فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام،، فقال: أقرأ بها في نفسك، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا تفعلوا إلا بأم القرآن" (¬4)، قال الحافظ (¬5): والركعة صلاة حقيقية. وفي حديث المسيء (¬6): " ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" بعد أن أمره بالقراءة بل في حديث رفاعة بن رافع عند أبي داود (¬7) دلالة على وجوب قراءة زيادة على الفاتحة في كل ركعة، لأن لفظه: "ثم اقرأ بأم القرآن، وبما شاء الله أن تقرأ ثم افعل. .. إلخ" وقد نقل النووي (¬8) الإجماع على لزوم ذلك في الأوليين، وقال: إنه سنة عند جميع العلماء ونقل القاضي عياض (¬9) القول بوجوب السورة في الأوليين عن بعض أصحاب ¬

(¬1) في "الفتح" (2). (¬2) تقدم في الرسالة رقم (80) (¬3) تقدم في الرسالة رقم (80). (¬4) تقدم في الرسالة رقم (80). (¬5) انظر فتح الباري" (2 - 57). (¬6) تقدم تخريجه في الرسالة رقم (79). (¬7) في "السنن" رقم (858 صحيح، 859 حسن، 860 حسن، 861 صحيح). (¬8) ذكره في شرحه لصحيح مسلم (4). (¬9) في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (2 - 281).

مالك، وكذا أورده الحافظ (¬1) بصيغة الدعوى عن ابن حيان والقرطبي وغيرهما، وتحقيق ما هو الحق يستمد منكم. المسألة الرابعة: حديث: "إذا أتيما مسجد جماعة. .. إلخ" (¬2) قد تبين بالروايات الصحيحة أن الثانية نافلة، وهو قضية [2أ] حكم القرآن ن فهل المراد مجرد الكون معهم فيما بقي عليهم بما يقع للآتي نافلة، أم المطلوب الإتيان بتلك الصلاة بحيث ينطبق عليه: "ما ادركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا؟ " (¬3). المطلوب الكشف عن حقيقة الحال، والتمييز بين زائف الرأي، وصحيح المقال - يسر الله فوائدكم - آمين. انتهى. ¬

(¬1) في "الفتح" (2 - 281). (¬2) أخرجه أحمد (4 - 161) وأبو داود رقم (575 - 576) والترمذي رقم (219) والنسائي رقم (858) والدراقطني (1 - 414) وابن حبان رقم (2388) والحاكم (1 - 245) من حديث يزيد بن الأسود. وهو حديث صحيح. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (636) ومسلم رقم (151).

الجواب عن السؤال الأول - وعلى الله سبحانه المعول -: هو أن المرجع في تطويل الصلاة وتخفيفها والتوسط بين التطويل والتخفيف ما جاءنا عن المبين بما شرعه الله لعباده فهو القدوة والأسوة كما في الأوامر القرآنية: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (¬1)، (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (¬2)، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (¬3) وكما جاء في السنة الثابتة من أمر أمته باتباعه كقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬4) وقد ثبت عنه مقدار يعم جميع الصلوات الخمس، ومقدار يخص كل صلاة من الصوات الخمس وغيرها. فأما المقدار الذي يعم كل الصلوات الخمس في حديث جابر عند البخاري (¬5) ومسلم (¬6) وغيرهما أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " يامعاذ، أفتان أنت؟ " (¬7) أو قال: "أفاتن أنت؟ فلولا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى". ولهذا الحديث (¬8) ألفاظ آخر، وفيه أنه يشرع ¬

(¬1) [الحشر: 7] (¬2) [آل عمران: 31] (¬3) [الأحزاب: 21]. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) في صحيحه رقم (700، 701، 705، 711). (¬6) في صحيحه رقم (465). (¬7) قال الحافظ في "الفتح" (2): ومعنى الفتنة ها هنا: أن التطويل يكون سببا لخروجهم من الصلاة، وللتكره للصلاة في الجماعة. وقال النووي في شرحة لصحيح مسلم (4): "أفتان أنت يا معاذ" أي: منفر عن الدين وصاد عن، ففيه الإنكار على من ارتكب ما ينهي عنه، وإن كان مكروها غير محرم، وفي جواز الإكتفاء في التغرير بالكلام، وفي الأمر بتخفيف الصلاة وتغرير على إطالتها إذا لم يرضي المؤمنون. (¬8) تقدم من حديث عائشة، وأنس.

أن تكون القراءة في الصلاة بهذه السور من غير فرق بين جميع الصلوات الخمس، وكون سبب الورود تطويل معاذ في صلاة العشاء لا ينافي العمل بما يقتضيه اللفظ؛ فإن المعتبر اللفظ لا السبب كما هو معروف مكرر في مواطنه. ومن الأحاديث المشتملة على بيان جميع الصلوات الخمس تطويلا وتخفيفا حديث سليمان بن يسار عن أبي هريرة أنه قال: ما رأيت [2ب] رجلا أشبه صلاة برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من فلان - لإمام كان بالمدينة - قال سليمان: فصليت خلفه فكان يطيل الأوليين من الظهر، ويخفف الأخريين، ويخفف العصر، ويقرأ في الأوليين من المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في الأوليين من العشاء من وسط المفصل، ويقرأ في الغداة بطوال المفصل. أخرجه أحمد (¬1)، والنسائي (¬2) ورجاله رجال الصحيح. وقد صححه ابن خزيمة (¬3) وغيره. وأخرج مسلم (¬4) وغيره عن جابر بن سمرة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ ب: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) (¬5) ونحوها، وكان يقرأ في الظهر ب: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) وفي العصر نحو ذلك (¬6). وفي رواية لأبي داود (¬7) أنه قرأ في الظهر بنحو من: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) والعصر كذالك، والصلوات كلها كذالك إلا الصبح فإنه كان يطيلها. ¬

(¬1) في" المسند" (2). (¬2) في "السنن" رقم (983) وهو حديث صحيح. (¬3) في صحيحه (1 رقم 520) وقال ابن خزيمة عقب الحديث: هذا الاختلاف في القراءة من جهة المباح، جائز للمصلي أن يقرأ في المغرب وفي الصلوات كلها التي يزاد على فاتحة الكتاب فيها بما أحب وشيئا من سور القرآن، وليس بمحظور عليه أن يقرأ بما شاء من سور القرآن غير أنه إذا كان إماما، فالاختيار له أن يخفف في القراءة ولا يطول في القراءة". (¬4) في صحيحه رقم (168). (¬5) في صحيحه رقم (168/ 458). (¬6) عند مسلم في صحيحه رقم (170). (¬7) في "السنن" رقم (806) وهو حديث صحيح.

ومن الأحاديث العامة لجميع الصلوات حديث الذي كان يقرأ ب: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) حسبما ذكره السائل (¬1) - عفاه الله - ولا وجه لدعوى الاختصاص. وقد ورد نحو هذه الأحاديث العامة لجميع الصلوات الخمس، وفيها بيان مقدار القراءة في كل صلاة، وما يطول فيه وما يخفف. وأما المقدار الذي يخص كل صلاة من الصلوات الخمس فورد في الفجر كان يقرأ: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ).أخرجه الترمذي (¬2)، والنسائي (¬3) من حديث عمرو بن حريث، وورد أنه استفتح في صلاة الفجر بسورة المؤمنين. أخرجه مسلم (¬4) من حديث عبد الله بن السائب. وورد أنه قرأ فيها بالطور. أخرجه البخاري (¬5) تعليقا من حديث أم سلمة، وأنه كان يقرأ في ركعتي الفجر، أو في إحدهما ما بين الستين إلى المائة. أخرجه البخاري (¬6) ومسلم (¬7) من حديث أبي برزة، وأنه قرأ فيها الروم. أخرجه النسائي (¬8) عن رجل من الصحابة، وأنه قرأ فيها المعوذتين. أخرجه النسائي (¬9) أيضًا من حديث عقية بن عامر، وأنه قرأ فيها: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا). أخرجه عبد الرزاق (¬10) عن أبي برزة، وأنه قرأ فيها الواقعة. ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) في "السنن" (2). (¬3) في "السنن" (2 - 178 رقم 951) من حديث عمرو بن حريث وهو حديث صحيح. (¬4) في صحيحه رقم (163). (¬5) في صحيحه (2 الباب رقم 105). (¬6) في صحيحه رقم (541). (¬7) في صحيحه رقم (172). (¬8) في "السنن" (2 رقم 947) وهو حديث حسن. (¬9) في "السنن" (2 رقم 952) وهو حديث صحيح. (¬10) في مصنفه (2 رقم 2732).

أخرجه عبد الرزاق (¬1) أيضًا [3أ] عن جابر بن سمرة، وأنه قرأ فيها بسورة يونس وهود. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (¬2) عن أبي هريرة، وأنه قرأ فيها: (إِذَا زُلْزِلَتِ). أخرجه أبو داود (¬3) وأنه قرأ فيها: (؟) السجدة، و (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ) أخرجه البخاري (¬4) ومسلم (¬5) من حديث ابن مسعود. إذا عرفت هذا فقد قرأ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في صلاة الصبح بالسور الطويلة، والقصيرة والمتوسطة. وأما المقدار الذي يخص الظهر والعصر فقد كان يقرأ فيهما ب: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ)، (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ). أخرجه أبو داود (¬6)، والترمذي (¬7) وصححه من حديث جابر بن سمرة. وكان يقرأ في الظهر ب: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) أخرجه مسلم (¬8) من حديث جابر بن سمرة أيضا، وأنه قرأ فيها من سورة لقمان والذاريات. أخرجه النسائي (¬9) من حديث البراء، وأنه قرأ في الأولى من الظهر ب: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)، وفي الثانية: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) أخرجه. ............................... ¬

(¬1) في مصنفه (2 رقم 2720). (¬2) في مصنفه (1). (¬3) في "السنن" رقم (816) من حديث معاذ بن عبد الله الجهني وهو حديث حسن. (¬4) في صحيحه رقم (891). (¬5) في صحيحه رقم (65) من حديث أبي هريرة. (¬6) في "السنن" رقم (805) بإسناد حسن. (¬7) في "السنن" (307) وقال: حديث حسن صحيح. (¬8) رقم (171). (¬9) في "السنن" (2 رقم 971) وهو حديث حسن.

النسائي (¬1) أيضًا عن أنس، وثبت أنه كان يقرأ في الأوليين منهما بفاتحة الكتاب وسورتيين يطول في الأولى ويقصر في الثانية. أخرجه البخاري (¬2)، ولم يعين السورتين، وثبت عن أبي سعيد عند مسلم (¬3) وغيره (¬4) أنه قال: كنا نحزر قيام رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في الظهر والعصر، فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر قراءة: (؟) السجدة، وحزرنا قيامه في الركعتين الآخراتين قدر النصف من ذلك، وحزرنا قيامه في الركعتين الأولين من العصر على قدر قيامه في الآخرتين من الظهر، وفي الآخرتين من العصر على النصف من ذلك. وثبت عن أبي سعيد أيضًا عند مسلم (¬5) وغيره (¬6) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الآخرتين قدر قراءة خمس عشرة آية [3ب] أو قال نصف ذلك، وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر خمس عشرة آية، وفي الآخرتين قدر نصف ذلك. إذا عرفت هذا، وقد نقل بعض الصحابة قراءته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في هتين الصلاتين بسور معينة، وبعضهم قدر لبثه في كل ركعة بمقادير بينة لا تلتبس. وأما المقدار الذي يخص صلاة المغرب فقد ثبت في الصحيحين (¬7) ................ ¬

(¬1) في "السنن" (2/ 163 - 164 رقم927). قلت: وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه رقم (1/ 257 رقم 512) بإسناد صحيح وابن حبان في صحيحه (3/ 153 رقم 1821). (¬2) في صحيحه رقم (776) ومسلم في صحيحه رقم (155/ 451) من حديث أبي قتادة. (¬3) في صحيحه رقم (157/ 452). (¬4) كأبي داود رقم (804) والنسائي (1/ 237) والبيهقي (2/ 66). (¬5) في صحيحه رقم (452). (¬6) كأحمد (3/ 2). (¬7) البخاري في صحيحه رقم (765) ومسلم رقم (174/ 463).

وغيرهما (¬1) عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في المغرب بالطور. وثبت في الصحيحين (¬2) وغيرهما (¬3) من حديث أم الفضل بنت الحارس أنها سمعت رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقرأ فيها بالمرسلات. وأخرج النسائي (¬4) بإسناد جيد عن عائشة أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قرأ فيها الأعراف فرقها بين الركعتين. وأخرج ابن ماجه (¬5) بإسناد قوي عن عمر أنه قال - كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في المغرب: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) و: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ). وأخرج نحوه ابن حبان (¬6)، والبيهقي (¬7) من حديث جابر بن سمرة بإسناد ضعيف وأخرج النسائي (¬8) فيهما بالدخان. وأخرج البخاري (¬9) عن مروان [بن الحكم] قال: قال لي زيد بن ثابت: مالك تقرأ ¬

(¬1) كأبي داود في "السنن" (811) والنسائي (2/ 169 رقم 987) ومالك في "الموطأ" (1/ 78 رقم 23) وأحمد (4/ 84) وابن ماجه رقم (832). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (763) ومسلم رقم (173/ 462). (¬3) كمالك في "الموطأ" (1/ 78 رقم 24) وأبو داود رقم (810) والترمذي رقم (308) وقال: حديث حسن صحيح والنسائي (2/ 168 رقم 985، 986). (¬4) في "السنن" (2/ 169 - 170 رقم 989، 990) وهو حديث صحيح. (¬5) في "السنن" (1/ 272 رقم833) وهو حديث منكر وقال الألبانيوالمحفوظ أنه كان يقرأ بهما في سنة المغرب. (¬6) في صحيحه رقم (1841) (¬7) في "السنن الكبرى" (3/ 201) (¬8) في "السنن" (2/ 169 رقم988) من حديث عبد الله بن عتبة بن مسعودوفي سنده: "معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الهاشمي المدني لم يوثقه غير ابن حبان والعجلي، وباقي رجاله ثقات. (¬9) في صحيحه رقم (764)

بقصار المفصل وقد سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقرأ بطولي الطوليين، والطوليان هما الأعراف والأنعام. وقد تقدم في حديث أبي هريرة (¬1) في حديث الرجل الذي هو أشبه التاس صلاة برسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقرأ في المغرب بقصار المفصل (¬2). إذا عرفت هذا فقد ثبت في صلاة المغرب القراءة بالسور الطويله والقصيرة والمتوسطة. وأما المقدار الذي يخص صلاة العشاء فأخرج أحمد (¬3)، والنسائي (¬4)، والترمذي (¬5) وحسنه من حديث بريدة أن الني - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقرأ فيهما بالشمس وضحاها، ونحوها من السور. وأخرج البخاري (¬6) ومسلم (¬7) من حديث البراء [4أ] أنه قرأ فيها بالتين والزيتون. وأخرج البخاري (¬8) من حديث أبي هريرة أنه قرأ فيها ب: (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ). وتقدم في أمره لمعاذ بالتخفيف (¬9) أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أمره بقراءة (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)، (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا)، (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) ¬

(¬1) تقدما آنفا وهو حديث صحيح. (¬2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه مالك في "الموطأ" (1 رقم 25) من حديث عبد الله الصنابحي باسناد صحيح. (¬3) في "مسنده" (5) (¬4) في "السنن" (2 رقم999) (¬5) في "السنن" (2 رقم 309) وهو حديث صحيح. (¬6) في صحيحه رقم (767) (¬7) في صحيحه رقم (464). قلت: وأخرجه مالك في "الموطأ" (1 رقم 27 وأبو داود رقم (1221) والترمذي (2 رقم 3)، وقال حديث حسن صحيح، والنسائي (2 رقم 1000). (¬8) في صحيحه رقم (768). (¬9) تقدم تخريجه.

وقد روي أن التطويل كان من معاذ في صلاة العشي، وإن كان الأمر بالقراءة منه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لا تخص صلاة دون صلاة. وتقدم في حديث أبي هريرة (¬1) عن الفتى الذي وأشبه الناس صلاة برسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقرأ في الأوليين من العشاء من وسط المفصل. إذا عرفت هذا فقد ثبتت القراءة في صلاة العشاء بالسور المتوسطة والقصيرة. وقد اتضح بما ذكرناه من الأدلة المشتملة على بيان مقادير القراءة في الصلوات الخمس، والأحاديث المبينة لمقدار القراءة في كل صلاة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لم يستمر في صلاة من الصلوات على قراءة السور الطويلة فقط، أو القصيرة فقط، أو المتوسطة فقط بل كان تارة يقرأ بالطويلة، وتارة بالقصيرة، وتارة بالمتوسطة. ولكل سنة وشريعة ليس لأحد إنكارها ولا مخالفتها، ولا دعوى أن شيئا منها خلاف السنة، بل المخالف للسنة هو الذي يستمر على قراءة نوع من هذه الأنواع الثلاثة ويدع غيره، فإن ادعى أن ذلك هو السنة دون غيره فقد ضم إلى مخالفته للسنة بفعلة مخالفة آخرى [4ب] بقول الذي قالة. فأن كان إماما فعليه أن يصلي بهم صلاة أخفهم (¬2). وقد بين لنا معلم الشرائع هذه التخفيف الذي أمر به معاذا فأرشده إلى تلك السور، فمن زعم على إمام من ائمة الصلاة يقرأ بمثل هذه السور التي أرشد إليها - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - انه قد طول وخالف السنة فهو جاهل أو متجاهل، وإذا قرأ الإمام سورا ¬

(¬1) تقدم وهو حديث صحيح. (¬2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (703) ومسلم رقم (341) ورقم (467) وأبو داود رقم (794، 795) والنسائي (2 رقم 823) والترمذي (1 رقم 236). من حد يث أبي هريرة أن - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، فإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء ". وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (701) ومسلم رقم (465) من حديث جابر. وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (704) ومسلم رقم (466) من حديث أبي مسعود البدري.

أطول مما أرشد إليه الشارع معاذا مع علمه إن في المؤتمين به من يضرر بذلك فهو أيضًا مبتدع مخالف للسنة، وكذلك إذا لم يعلم. وكان الجمع كثيرا بحيث يجوز أن فيهم من يتضرر بذلك. وهذه السور التي أرشد إليها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - معاذا هي أوساط المفصل. وزاد مسلم (¬1) أنه أمره بقراءة: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) وزاد عبد الرازق (¬2) (الضحى)، وزاد الحميدي (¬3): (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ)، (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ). وأما إذا قرأ إمام بما هو أقصر من هذه السور التي أرشد إليها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وهو قصار المفصل فهو أيضًا متسنن غير مبتدع، لأن الشارع قد سن لأمته ذلك حسبما بيناه، ولكنه لا يجعل ذلك ديدنه وهجيراه على وجه لا يفارقه، فغنه إذا فعل ذلك كان مبتدعا لما قدمنا، ووجه ابتداعه أنه ظن أن السنة منحصرة في ذلك النوع، فاستلزم ذلك نفي سنية ما عداه، فإن أكثر من ملازمة نوع من تلك الأنواع أعني التطويل أو التقصير أو التوسيط مع اعترافه [5أ] بأن الكل سنة، وفعله لغير النوع الذي لازمه في بعض الأحوال فليس بمبتدع، والمنفرد يطول ما شاء كما أرشده إلى ذلك معلم الشرائع، والإمام يصلي بالقوم صلاة أخفهم. والحاصل أن المنفرد إذا فعل أي نوع من تلك الأنواع الثلاثة فقد فعل السنة ما لم ينكر بعضها، وتطويله لقراءته وصلاته أكثر ثوابا، وأعظم أجرا، واإمام إذا أم قوما لهم رغبة في الطاعة لا يتضررون بالتطويل، فأي الأنواع الثلاثة فعل فقد فعل السنة، وتطويل صلاته وقراءته أكثر ثوابا له، وامن ائتم به، وأعظم أجرا. وإن كان يؤم قوما لا يأمن أن فيهم الضعيف. ........................ ¬

(¬1) في صحيحه رقم (179). (¬2) في مصنفه (2 - 366 رقم 3725). (¬3) في مسنده (2 رقم 1246).

والمريض (¬1) وذا الحاجة فعل ما أرشده إليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من تلك السور، وما يماثلها أو دونها لا ما هو أكبر منها. فإن قلت: قد تكرر في هذا الجواب ذكر المفصل فما هو من السور؟ قلت: قال في الضياء: هو من سورة محمد إلي آخر القرآن، وذكر في القاموس (¬2) أقوالا عشرة من الحجرات إلي آخره، قال في الأصح، أو من الغاشية، أو القتال، أو قاف، أو الصافات، أو الصف، أو تبارك، أو إنا فتحنا لك، أو سبح اسم ربك، أو الضحى. ونسب [5ب] بعض هذه الأقوال إلى من قالها، وسمي مفصلا لكثرة الفصول بين سورة أو لقلة المنسوخ منه كذا قيل (¬3). وأما ما سأل عنه السائل - كثر الله فوائده - في المسألة الثانية من أن بعض أهل العلم صرح بكراهة قراءة سورة في الركعة الثانية قبل السورة التي قرأهافي الركعة الأولى في ترتيب المصحف. ¬

(¬1) تقدم ذكر ذلك. *وأخرج مسلم في صحيحه رقم (186) من حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي " أم قومك، فمن أم قوما فليخفف، فأن فيهم الكبير، وإن فيهم المريض وأن فيهم الضعيف، وإن فيهم ذا الحاجة، وإذا صلى أحدكم وحده فليصي كيف شاء". * وأخرج مسلم في صحيحه رقم (187) من حديث عثمان بن أبي العاص قال: آخر ما عهد إلي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أممت قوما فأخف بهم الصلاة ". *وأخرج البخاري رقم (710) ومسلم رقم (192) من حديث أنس بم مالك: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إني لأدخل الصلاة أريد إطالتها، فأسمع بقاء الصبي، فأخفف، من شدة وجد أمه بها ". (¬2) (ص1347). (¬3) قال الحافظ في "الفتح" (2): واختلف في المراد بالمفصل مع الاتفاق على أن منتهاه آخر القرآن هل هو من أولى الصافات أو الجاثية أو القتال أو الفتح أو الحجرات أو ق أو الصف أو تبارك أوسبح أو الضحى إلى آخر القرآن. .. ".

فأقول: إن هذا الذي صرح بهذا لا ينبغي أن يعد من أهل العلم، لأنه خفي عليه شيء هو أوضح من شمس النهار، وبيان ما ذكرناه من وجوه: الأول: أن كل عارف وإن قل عرفانه يعلم أن هذا الترتيب الواقع في المصحف ليس على حسب التقدم والتأخر في النزول، فقد ثبت أن أول (¬1) ما نزل: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) وبعدها (¬2): (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) وكان آخر (¬3) ما نزل أو من آخر ما نزل: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وليس التلاوة مقيدة على حسب الترتيب الذي وقع في المصحف، بل ولا على حسب النزول، فللإنسان أن يتلو من أي مكان شاء في الصلاة وغيرها، ويختار في كل ركعة ما يريد. الوجه الثاني: حديث الذي كان يفتتح في صلاته بقراءة: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة، فقرره (¬4) - النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مع كونه كان يؤم بأهل مسجده. أخرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح، والبخاري تعليقا، والبزار، والبيهقي، والطبراني من حديث أنس. وهذا ظاهر ¬

(¬1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (4956). من حديث عائشة - رضي الله عنها -: "أول ما بدئ به رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرؤيا الصادقة، جائه الملك فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ). وانظر "تفسير ابن كثير" (8). (¬2) قال ابن كثير في تفسيره (8) ثبت في صحيح البخاري رقم (4922) من حديث جابر أنه كان يقول: أول شيء نزل من القرآن: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) وخالفه الجمهور فذهبوا إلى أن أول القرآن نزولا قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ). (¬3) انظر "أسباب النزول" للواحدي (ص190). (¬4) تقدم تخريجه.

الدلاالة، لأنه لم يتقيد بقراءة ما بعد: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ولو تقيد بذلك لم يقرأ في جميع صلواته إلا بالمعوذتين مع (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) لأنه لم يكن بعدها في ترتيب المصحف إلا هاتان السورتان. الوجه الثالث: أنه قد ثبت في صحيح مسلم (¬1) وغيره أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قرأ بالبقرة، ثم بالنساء، ثم بآل عمران. قال القاضي عياض (¬2): فيه دليل لمن يقول إن ترتيب السور إجتهاد من المسلمين حين كتبوا المصحف، وأنه لم يكن ذلك من ترتيب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، بل وكله إلى أمته بعده قال: وهذا قول مالك والجمهور، واختاره القاضي أبو بكر الباقلاني [6أ]. قال ابن الباقلاني: هو أصح القولين مع احتمالهما، قال القاضي عياض (¬3): والذي نقوله أن ترتيب السور ليس بواجب في الكتابة، ولا في الصلاة، ولا في الدرس، ولا في التلقين، والتعليم، وأنه لم يكن من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في ذلك نص، ولا يحرم مخالفته، ولذلك اختلف ترتيب المصحف قبل مصحف عثمان. قال: وأما من قال (¬4) من أهل العلم أن ذلك بتوقيف من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كما استقر في مصحف عثمان، وإنما اختلفت المصاحف قبل أن يبلغهم التوقيف فيتأول قراءته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - النساء، ثم آل عمران هنا على أنه كان قبل التوقيف والترتيب. ........................ ¬

(¬1) في صحيحه رقم (203): عن حذيفة قال: صليت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ذات ليلة، فافتتح. فقلت: يركع عند المائة ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة. فمضى، فقلت يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها. ثم افتتح آل عمران فقرأها. يقرأ مترسلا. إذا مر بآية بها تسبيح سبح. وإذا مر بسؤال سأل. وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: " سبحان ربي العظيم" فكان ركوعه نحوا من قيامه، ثم قال: "سمع الله لمن حمده" ثم قام طويلا قريبا مما ركع، ثم سجد فقال: "سبحان ربي الأعلى" فكان سجوده قريبا من قيامه. (¬2) في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (3 - 137). (¬3) في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (3). (¬4) في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (3).

انتهى (¬1). قلت: وقد أوضحت فساد ما زعمه القائلون بالتوقيف في بحث طويل، وأبنت أن ذلك من الجهل بالكيفيات التي كان عليها الصحابة في تلاوة القرآن وكتابته. الوجه الرابع: الإجماع قائم على أنه يجوز للمصلي أن يقرأ في الركعة الثانية سورة قبل التي يقرأها في الأولي. حكى هذا الإجماع القاضي عياض (¬2)، فذلك القائل بأنه يكره مخالف للإجماع. وأما ما سأل عنه السائل - كثر الله فوائده - من قوله: هل على التسبيح والثالثة والاخريين أثارة؟. فأقول: أما من كان يحسن الفاتحة وحدها، أو مع زيادة عليها فلا أثارة من علم قط على أنه يدع الفاتحة، ويعدل التسبيح، ولا أدري كيف وقع لبعض أهل العلم التخيير في الركعتين الأخريين بين الفاتحة وهذا التسبيح! فإن الأدالة الواردة في هذا التسبيح مقيدة بمن لا يحسن القراءة كحديث رفاعة بن رافع أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - علم رجل الصلاة فقال: "إن كان معك قرآن فاقرأ، وإلا فاحمد الله وكبره وهلله، ثم اركع" أخرجه أبو داود (¬3)، والترمذي (¬4) وحسنه، والنسائي (¬5). فهذا كما ترى مقيد بعدم كون مع الرجل قرآنا، وكذلك حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقال: إني لا استطيع أن آخذ شيئا من القرآن فعلمني ما يجزيني فقال: " قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله ¬

(¬1) كلام القاضي عياض في "إكمال المعلم بفوائد مسلم " (3). (¬2) في "إكمال المعلم بفوائد مسلم " (3). (¬3) في "السنن" رقم (861). (¬4) في "السنن" رقم (302). (¬5) في "السنن" (2 رقم 1053).

إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله " رواه أحمد (¬1)، وأبو داود (¬2)، والنسائي (¬3)، والدارقطني (¬4)، وابن الجارود (¬5)، وابن حبان (¬6)، والحاكم (¬7) وفي إسناده؟ إبراهيم بن إسماعيل السكسكي (¬8)، وهو من رجال البخاري (¬9)، لكن عيب عليه [6ب] إخراج حديثه. وضعفه النسائي (¬10) وقال ابن القطان (¬11) ضعفه قوم فلم يأتوا بحجة، وقال ابن عدي (¬12) لم أجدبه حديثا منكر المتن، وذكزه النووي في الخلاصة (¬13) في فصل الضعيف. انتهى. ولم يتفرد بالحديث إبراهيم المذكور، وقد رواه الطبراني (¬14)، وابن حبان (¬15) في صحيحه أيضًا من طريق طلحة بن مصرف عن ابن أبي أوفي، ولكن في إسناده الفضل بن موفق ضعفه أبو حاتم، كذلك قال ابن .................................. ¬

(¬1) في "المسند" (4، 356، 382). (¬2) في "السنن" رقم (832). (¬3) في "السنن" (2 رقم 924). (¬4) في "السنن" (1 - 314 رقم 1، 2، 3). (¬5) في "المنتقى" (رقم 189). (¬6) في صحيحه رقم (1805، 1806، 1807). (¬7) في "المستدرك" (1/ 241) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وهو كما قالا. (¬8) قال الذهبي في "الميزان " (1) كوفي صدوق، لينة شعبة والنسائي. وهو حديث حسن (¬9) انظر "هدى الساري" (ص388). (¬10) ذكره الذهبي في "الميزان" (1). (¬11) ذكره ابن حجر في "التلخيص" (1). (¬12) ذكره الذهبي في "الميزان" (1). (¬13) (1 - 383 رقم 1196). (¬14) في "الأوسط" (3 رقم 3025). (¬15) في صحيحه رقم (1810). وهو حديث حسن.

حجر (¬1). وهذا الحديث أيضًا مقيد بما ترى من عدم استطاعة الرجل بأن يأخذ شيئا من القرآن، فلا يصح الاستدلال بهذا المقيد بعدم الاستطاعة على جواز ترك من يحفظ الفاتحة بقراءتها والعدول إلى هذا التسبيح. ومن استدل بهذا الحديث والذي قبله على الجواز المذكور فقد غلط غلطا بينا. قال شارح المصابيح (¬2): وما أحسن ما قال: أعلم أن هذه الواقعة لا يجوز أن يكون في جميع الأزمان، لأن من يقدر على تعلم هذه الكلامات لا محالة يقدر على تعلم الفاتحة، بل تأويله لا استطيع أن أتعلم شيئا من القرآن في هذه الساعة وقد دخل على وقت الصلاة فإذا فرغ من تلك الصلاة لزمة أن يتعلم انتهى. فهذان الحديثان هما أشف ما ورد في هذا التسبيح، وعلى فرض ورود غيرهما مطلقا عن هذا التقييد فحمله على هذين الحديثين المقيدين متحتم وما ورد من أن الفاتحة متعينة في كل ركعة وهي أدلة صحيحة. وقد ساق السائل - عافاه الله - بعضها وقد ذكرنا منها في شرحنا للمنتقى (¬3) مالا يحتاج إلى زيادة عليه من وقف عليه. وأما ما سأل عن السائل - كثر الله فوائدة - في السؤال الرابع من أنه قد ثبت في حديث: "إذا أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكم نافلة " (¬4) وأنه قد تبين في الروايات الصحيحة أن الثانية نافلة قال: فهل المراد مجرد الكون معهم فيما بقي عليهم يقع للأتي نافلة، أم المطلوب الإتيان بتلك الصلاة بحيث ينطبق عليها: " ماأدركتم فصلوا وما ¬

(¬1) في "الفتح" (2). (¬2) (2 - 584). (¬3) (1). (¬4) أخرجه أحمد (4، 161) وأبو داود رقم (575، 576) والترمذي رقم (219) والنسائي رقم (858) والدارقطني في "السنن" (1 - 414) وابن حبان في صحيحه رقم (2388) والحاكم في "المستدرك" (1 - 245) من حديث يزيد بن الأسود العامري. وهو حديث صحيح

فأتكم فأقضوا؟ " وأقول: الظاهر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لم يرد من الوارد إلى مسجد جماعة، وهم في صلاة وقد صلى أن يصلي معهم تنفلا تلك الصلاة بحيث لا يترك منها شيئا، ويقضي ما سبقه به الإمام، بل المراد أنه يدخل [7أ] معهم على الصفة التي يجدهم عليها لئلا يعد من الغافلين المعارضين عن جماعة المسلمين، ويتم معهم سواء كان ما أدركهم ركعة أو ركعات أو بعض ركعة. هذا الظاهر من هذا الإرشاد النبوي. ولم يرد ما يدل على أنه يصلي معهم ما أدرك ويقضي ما فات في غير هذا الحديث، لأنه لم يكن المقصود له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ها هنا الأتيان بكل تلك الصلاة هم فيها، حتى يقضي ما قد فاته كما يفعل من دخل مفترضا في جماعة قد سبقه الإمام ببعض الركعات، بل المراد ما ذكرنا من الدخول مع المصلين في تلك الصلاة، ويخرج بخروجهم للعلة التي ذكرناها. وإلى هنا انتهي جواب المسائل. وحسبي الله وكفى، ونعم الوكيل. حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما -.

رفع الأساس لفوائد حديث ابن عباس

رفع الأساس لفوائد حديث ابن عباس تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: عنوان الرسالة: (رفع الأساس لفوائد حديث ابن عباس). موضوع الرسالة: في فكر الصلاة. أول الرسالة: أورد شيخي العلامة محمد بن أحمد السودي حفظه الله سؤالا على مولاي المجتهد الذي أحيا الله به شريعة سيد المرسلين، وأخرج للمتعلمين من زوايا معانيها. .. 4 - آخر الرسالة:. .. فالجواب في مثل عدد ركعات الإحدى الزيادة، وفي صفاتها تقديم الراجح من الروايات على المرجوح. وفي هذا المقدار كفاية. والله ولي التوفيق. تمت. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد 6 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني 7 - عدد الصفحات 5 صفحات 8 - المسطرة: الأولى: 28 سطرا الثانية: 27 سطرا الثالثة 27 سطرا الرابعة 26 سطرا الخامسة 19 سطرا 9 - عدد الكلمات في السطر: 14 - 15 كلمة 10 - الرسالة من المجلد الثاني من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني)

أورد الشيخي العلامة محمد بن أحمد السودي (¬1) - حفظه الله - سؤال على مولاي المجتهد الذي أحيا الله به شريعة سيد المرسلين، وأخرج للمتعلمين من زوايا معانيها خبايا النفائس، واقتنص لهم من كبائس المعالي كرائمها المتصدر لتحرير مشكلاتها. محمد بن علي محمد الشوكاني - بارك الله في أيامه - كما بارك في الأولى آمين: لفظه: سؤال لمن نفع الله بعلومه، وجدد للعلم بوجوده ما درس من رسومه الحائز لقصب السبق في مضمار الكمال، الصائب سهل المطر عند إنكسار النضال في حديث الحبر ابن عباس عند الجماعة (¬2) بلفظ: "بت عند خالتي ميمونة. .. " الحديث بطوله، وهو أنه قد قبل بأنه يقتطف من ثمراته بضع وعشرون حكما، فرمت أن أنظمها في سلك تمامها، فما أورى لذهني زنادا، وصار أعند ذلك كقضية بين طرفيها كمال العناد، فليكن من مولاي - حفظه الله - إفادة السائل مع بيان وجه الدلالة، فهو في التحقيق مناط للحكم ورابطة، إما على جهة الاستقلال بيانه أو بواسطة. ¬

(¬1) محمد بن أحمد بن سعد السودي ثم الصنعاني المولد والمنشأ والدار. ولد سنة 1178 ه حفظ القرآن. قال السوكاني في " البدر الطالع " رقم (407): ". .. ثم لازمني منذ ابتداء طلبه إلى انتهائه فقرأ علي في النحو الملحق وشرحها لبحرق، وشرحها للفاكهي ثم قال ولصاحب الترجمة أشعار فائقة. .. صار قاضي من قضاة مدينة صنعاء. توفي سنة 1236 هـ. " البدر الطالع" رقم (407)، " التقصار " (ص 395)، "نيل الوطر " (2). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (689) ومسلم رقم (184) وأحمد (1) وأبو داود رقم (1365) والترمذي رقم (232) والنسائي (2 رقم 842).

فأجاب بما سماه: (رفع الأساس لفوائد حديث ابن عباس) لفظه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين وبعد: فإنه وصل هذا من بعض الأعلام - كثر الله فوائده - فلنذكر أولا لفظ الحديث، ثم نذكر ما يستفاد منه. أما لفظ الحديث: فهو عند الجماعة (¬1) كلهم بلفظ: عن ابن عباس قال: "بت عند خالتي ميمونة، فقام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يصلي من الليل، فقمت عن يساره، فأخذ برأسي وأقامني عن يمينه. وقد ثبت في رواية عند أحمد أن ابن عباس قال: أنه إذ ذاك في عشر سنين. وأما ما يستفاد من هذا الحديث، ولفظ أبي داود (¬2) قال: "بت في بيت خالتي ميمونة، فقام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من الليل فأطلق القرية فتوضأ، ثم أو كى القرية، ثم قام إلى الصلاة، فقمت فتوضأت كما توضأ، ثم جئت فقمت عن يساره، فأخذ بيميني، فأدراني من ورائه، فأقامني عن يميني، فصليت معه. وفي رواية لأبي داود (¬3) قال: فأخذ برأسي، أو بذؤابتي، فأقامني عن يميني. وفي لفظ (¬4) له عن ابن عباس أنه رقد عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فرآه اسيقظ فتسوق، وتوضأ وهو يقول: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) حتى ختم السورة ¬

(¬1) تقدم تخريجه في التعليقة المتقدمة آنفا. (¬2) في "السنن" رقم (610) وهو حديث صحيح. (¬3) في "السنن" رقم (610) وهو حديث صحيح (¬4) في "السنن" رقم (1353). وهو حديث صحيح.

ثم قال فصلى ركعتين أطال فيهما القيام والركوع والسجود، ثم انصرف فنام حتى نفخ، ثم فعل ذلك ثلاثة مرات، ست ركعات، كل ذلك يستاك، ثم يتوضأ ويقرأ هؤلاء الآيات، ثم اوتر بثلاثة ركعات، فأتاه المؤذن حين طلع الفجر ثم صلى ركعتين، ثم خرج إلى الصلاة، وهو يقول: "اللهم اجعل في قلبي نورا" الحديث، وهو عند بقية الجماعة (¬1) بنحو هذا. وأما ما يستفاد من هذا الحديث من الأحكام الشريعة فسأرقم ها هنا ما يخطر على البال، ويسعفه الذهن، من دون مراجعة شيء من شروح الحديث، فإذا وافق شيء مما أذكره ها هنا شيئا مما قد ذكره المتقدمون فذلك من اتفاق الخواطر، أما الوضوح المأخذ، أو لظهور الاستفادة، أو لكون العلوم التي بها تستخرج الأحكام، وتستنبط المسائل هي موجودة عند المتأخرين كما كانت موجودة عند من قبلهم [1ب]. فأقول - وبالله الثقة والاستعانة - وعليه التوكل -، جملة ما يحضرني من فوائد هذا الحديث الشريف خمس وخمسون فائدة. الفائدة الأولى: جواز مبيت الصبي (¬2) المميز عند من كانت رحما له من النساء. الفائدة الثانية: جواز إجتماع الزوجين في مكان، مع حضور صبي مميز (¬3) ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6316) ومسلم رقم (181). (¬2) قال القاضي عياض في " إكمال المعلم" (3): وفيه دليل تقريب القرابة والأصهار وتأنيسهم وبرهم، وإدناء من هو في هذا السن وكان حينئذ ابن عشر سنين من ذوي محارمه. (¬3) قال القاضي عياض في"إكمال المعلم" (3): وفيه جواز اضطجاع الرجال مع زوجاتهم بحضرة غيرهم ممن لا يستحينهم وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث: بت عند خالتي ميمونة في ليلة كانت فيها حائضا وهذه الكلمة - وإن لم يصح طريقها - فهي صحيحة المعنى حسنة جدا، إذا لم يكن ابن عباس بطلب المبيت عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ليلة خالية ولا يرسله أبوه على ما جاء في الحديث إلا في وقت يعلم أنه لا حاجة للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها، إذ كان لا يمكنه ذلك مع مبيته معها في وساد واحد، ولا يستعرض هو لأذاه. بمنعه مما يحتاج إليه من ذلك

الفائدة الثالثة: قبول رواية (¬1) من تحمل صغيرا ورو ى كثيرا. الفائدة الرابعة: مشروعية صلاة الليل (¬2) الفائدة الخامسة: مشروعية الصلاة لمن قام في الليل من النوم. الفائدة السادسة: مشروعية صلاة الرجل في البيت الذي ينام فيه (¬3) الفائدة السابعة: جواز الصلاة في البيت الذي فيه امرأة إذا كانت زوجا له. الفائدة الثامنة: جواز النوم قبل صلاة الوتر. ¬

(¬1) انظر "السعي الحثيث إلى شرح اختصار علوم الحديث" د. عبد العزيز دخان (ص282 - 283). (¬2) لقوله تعالى: (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) [المزمل: 2]. * وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل" من حديث أبي هريرة أخرجه مسلم رقم (202) والترمذي رقم (438) وقال حديث حسن صحيح، والنسائي رقم (1613) وأبو داود رقم (2429) وأحمد (2) والحاكم (1) وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وهو حديث صحيح. وعن أبي هريرة قال: "سأل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: الصلاة في جوف الليل ". أخرجه مسلم رقم (203) وأحمد (2 و329) وابن خزيمة (2 رقم1134) والبيهقي (3). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "أن نبي الله كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا، فلما كثر لحمه صلى جالسا، فإذا أرداد أن يركع قام فقرأ ثم ركع ". أخرجه البخاري رقم (4837) ومسلم رقم (2820) (¬3) قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ... فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبه ". أخرجه البخاري رقم (731) ومسلم رقم (213) من حديث زيد بن ثابت. وأخرج مسلم في صحيحه رقم (2) عن جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده. فليجعل لبيته نصيبا من صلاته فإن الله جعل في بيته من صلاته خيرا ".

الفائدة التاسعة: مشروعية إعداد ماء الوضوء في المكان الذي يبيت فيه الرجل. الفائدة العاشرة: جواز الوضوء بالماء القليل الذي كان ساكنا قبل تحريكه للوضوء منه. الفائدة الحادية عشرة: مشروعية عدم الاستعانه في الوضوء بأحد (¬1). الفائدة الثانية عشرة: مشروعية. ...................................... ¬

(¬1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (181) من حديث أسامة بن زيد: " أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أفاض من عرفة عدل إلى الشعب فقضى حاجته، قال أسامة بن زيد: فجعلت أصب عليه ويتوضأ، فقلت: يارسول الله أتصلي؟ فقال: المصلي أمامك ". وأخرج البحاري في صحيحه رقم (182) وأطرافه رقم (203، 206، 363، 388، 4421، 5789، 5799). من حديث نافع بن جبير بن مطعم أخبره أنه سمع عروة بن المغيرة بن شعبة يحدث عن المغيرة بن شعبة أنه كان مع رسول الله في سفره وأنه ذهب لحاجة له وأن مغيرة جعل يصب الماء عليه وهو يتوضأ، فغسل وجهه ويديه ومسح على الخفين. وقال ابن بطال: هذا من القربات التي يجوز للرجل أن يعملها عن غيره بخلاف الصلاة. قال: واستدل البخاري من صب الماء عليه عند الوضوء أنه يجوز للرجل أن يوضئه غيره. انظر "فتح الباري" (1). قال النووي في "شرحه لصحيح مسلم" (3 - 169): الاستعانة ثلاثة أقسام: أحدها: أن يستعين بغيره في إحضار الماء فلا كراهة فيه ولا نقص. الثاني: ان يستعين به في غسل الأعضاء ويباشر الاجنبي بنفسه غسل الأعضاء فهذا مكروه إلا لحاجة. الثالث: أن يصب عليه وهذا الأولى تركه وهل يسمى مكروها: فيه وجهان قال أصحابنا وغيرهم وإذا صب عليه وقف الصاب على يسار المتوضئ وقال الحافظ بن حجر في "فتح الباري" (1): بعد ذكر كلام النووي وتعقب بأنه إذا ثبت أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله لا يكون خلاف الأولى، وأجيب بأنه قد يفعلهلبيان الجواز فلا يكون في حقه خلاف الأولى بخلاف غيره وقال الكرماني: إذا كان الأولى تركه كيف ينازع في كراهته؟ وأجيب بأن كل مكروه فعله خلاف الأولي من غير عكس، إذ المكروه يطلق على الحرام بخلاف الأخر.

الاستياك لمن قام من النوم (¬1). الفائدة الثالثة عشرة: مشروعية تكرير السواك والوضوء والصلاة عند كل قيام، إذا تكرر ذلك (¬2) الفائدة الرابعة عشرة: مشروعية عدم ...................................................... ¬

(¬1) عن أبي هريرة رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء". أخرجه مالك في "الموطأ" (1 رقم 115) وأحمد (2، 517) والنسائي كما في "تحفة الأشراف" للمزي (9) وابن خزيمة رقم (140) وذكره البخاري تعليقا في صحيحه (4) باب رقم (27). وهو حديث صحيح. وعن أبي هريرة قال: قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لولا أن أشق على المؤمنين لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ". أخرجه البخاري رقم (878) ومسلم رقم (42) وأبو داود رقم (46) والترمذي رقم (22) والنسائي (1 رقم 7) وابن ماجه رقم (287) والدارمي (1). وأما حكمه فهو سنة عند جماهير العلماء. ويشتد استحبابه في خمسة أوقات: 1 - عند الصلاة، سواء كان متطهرا بماء أو تراب أو غير متطهر كمن لم يجد ماء ولا تراب. 2 - عند الوضوء. 3 - عند قراءة القرآن. 4 - عند الاستيقاظ من النوم. 5 - عند تغير الفم. قال ابن دقيق العيد في "الإمام في معرفة أحاديث الأحكام" (1، 380): السر فيه. أي في السواك عند الصلاة أنا مأمورون في كل حال من الأحوال التقرب إلى الله أن نكون في حالة كمال ونظاقة، إظهارا لشرف العبادة. (¬2) انظر التعليقة السابقة. وانظر: "المحلي" (2). وقال حذيفة رضي الله عنه -: "كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام ليتهجد يشوص فاه بالسواك". أخرجه البخاري رقم (889) ومسلم رقم (46).

الإسراف بالماء في الوضوء (¬1)، فإنه توضأ ثلاثة مرات من القربة تؤكد ما في كل مرة، وتوضأ معه ابن عباس كوضوئه. الفائدة الخامسة عشرة: مشروعية تلاوت هذا الآيه: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (¬2) وما بعدها إلى آخر السورة حال الوضوء الواقع عند القيام من .................................... ¬

(¬1) قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (6): قوله: "ثم توضأ وضوءا حسنا بين الوضوءين " يعني لم يسرف ولم يقتر وكان بين ذلك قواما. (¬2) [آل عمران: 190 - 200]. قال ابن كثير في تفسيره (2): معنى الآية أنه يقول تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: هذه في ارتفاعها واتساعها وهذه انخفاضها وكثافتها واتضاعها وما فيها من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات، وثوابت وبحار، وجبال وقفار وأشجار ونبات وزروع وثمار وحيوان ومعادن ومنافع مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص: (وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) أي تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر، فتارة يطول هذا ويقصر هذا، ثم يعتدلان، ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرا ويقصر الذي كان طويلا، وكل ذلك تقدير العزيز الحكيم ولهذا قال: (لِأُولِي الْأَلْبَابِ) أي العقول التامة الذكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها، وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون الذين قال الله تعالى فيهم (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف: 105 - 106]. ثم قال ابن كثير بعد ذلك: " ... وقد ذم الله تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته فقال: قال ابن كثير في تفسيره (2): معنى الآية أنه يقول تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: هذه في ارتفاعها واتساعها وهذه انخفاضها وكثافتها واتضاعها وما فيها من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات، وثوابت وبحار، وجبال وقفار وأشجار ونبات وزروع وثمار وحيوان ومعادن ومنافع مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص: (وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) أي تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر، فتارة يطول هذا ويقصر هذا، ثم يعتدلان، ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرا ويقصر الذي كان طويلا، وكل ذلك تقدير العزيز الحكيم ولهذا قال: (لِأُولِي الْأَلْبَابِ) أي العقول التامة الذكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها، وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون الذين قال الله تعالى فيهم (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف: 105 - 106]. ثم قال ابن كثير بعد ذلك: "وقد ذم الله تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته فقال ثم قال ابن كثير بعد ذلك: " ... وقد ذم الله تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته فقال: قال ابن كثير في تفسيره (2): معنى الآية أنه يقول تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: هذه في ارتفاعها واتساعها وهذه انخفاضها وكثافتها واتضاعها وما فيها من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات، وثوابت وبحار، وجبال وقفار وأشجار ونبات وزروع وثمار وحيوان ومعادن ومنافع مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص: (وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) أي تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر، فتارة يطول هذا ويقصر هذا، ثم يعتدلان، ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرا ويقصر الذي كان طويلا، وكل ذلك تقدير العزيز الحكيم ولهذا قال: (لِأُولِي الْأَلْبَابِ) أي العقول التامة الذكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها، وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون الذين قال الله تعالى فيهم (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف: 105 - 106]. ثم قال ابن كثير بعد ذلك: " وقد ذم الله تعالى ما لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته فقال: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) ومدح عباده المؤمنين: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) قائلين: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا) أي ما خلقت هذا الخلق عبثا بل بالحق لتجزي الذين أساؤوا بما عملوا وتجزي الذين أحسنوا بالحسنى ثم نزهوه عن العبث وخلق الباطل فقالوا: (سُبْحَانَكَ) أي عن أن تخلق شيئا باطلا فقنا عذاب النار: يا من خلق الخلق بالحق والعدل يا من هو منزه عن النقائض والعيب والعبث قنا من عذاب النار بحولك وقوتك وقيضنا لأعمال ترضي بها عنا، ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم وتجيرنا به من عذابك الأليم ". وانظر: "المجموع" (3).

النوم (¬1) الفائدة السادسة عشرة: مشروعية الإيتار بثلاث ركعات كما وقع في الرواية المذكورة (¬2). الفائدة السابعة عشرة: مشروعية الإيتار بركعة، كما وقع في رواية لأبي داود (¬3)، ذكرها في باب صلاة الليل من حديث ابن عباس هذا بلفظ: "ثم قام فصلى سجدة واحدة فأوتر بها ". الفائدة الثامنة عشرة: مشروعية الإيتار بسبع ركعات كما وقع في رواية لأبي داود (¬4) من حديث ابن عباس هذا، وذكرها في باب صلاة الليل. الفائدة التاسعة عشرة: مشروعية الإيتار بخمس ركعات، كما وقع أيضًا في رواية لأبي داود (¬5) من هذا الحديث، ذكرها في ذلك الباب أيضا ¬

(¬1) قال الحافظ في "الفتح" (1): في: على رد من كره قراءة القرآن على غير طهارة، لأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ هذه الآيات بعد قيامه من النوم قبل أن يتوضأ وتعقبه ابن المنير وغيره بأن ذلك مفرع على أن النوم في حقه ينقض، وليس كذلك، لأنه قال: "تنام عيني ولا ينام قلبي" وأما كونه توضأ عقب ذلك فلعله جدد الوضوء أو أحدث بعد ذلك فتوضأ. قلت: وهو تعقب جيد بالنسبة إلى قول ابن بطال: بعد قيامه من النوم، لأنه لم يتعين كونه أحدث في النوم، لكن لما عقب ذلك بالوضوء كان ظاهرا كونه أحدث. ولا يلزم من كونه نومه لا ينقض وضوءه أن لا يقع منه حدث وهو نائم، نعم خصوصياته أنه إن وقع شعر به بخلاف غيره وما ادعوه من التجديد وغيره الأصل عدمه. (¬2) تقدم آنفا (¬3) في "السنن" رقم (1355) وهو حديث ضعيف. (¬4) في "السنن" رقم (1356) وهو حديث صحيح. (¬5) في "السنن" رقم (1357) وهو حديث صحيح

الفائدة الموفية عشرين: أن جميع ما صلاه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تلك الليلة إحدى عشرة ركعة بالوتر، كما وقع في رواية لأبي داود (¬1) من حديث، ذكرها في ذلك الباب أيضا. الفائدة الحادية والعشرون: أن جميع ما صلاه في تلك الليلة ثلاث عشرة ركعة بالوتر، كما وقع أيضًا في رواية لأبي داود (¬2) من حديثه في ذلك الباب أيضا. الفائدة الثانية والعشرون: أنه كان آخر صلاته في هذه الليلة وترا، كما وقع في أكثر روايات (¬3) هذا الحديث. الفائدة الثالثة والعشرون: أنه صلى بعد الوتر ركعتين، ثم خرج فصلى الغداة. (¬4) الفائدة الرابعة والعشرون: أن جملة ما صلاه في تلك الليلة تسع ركعات، ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ثلاثا. الفائدة الخامسة والعشرون: أنه صلى عشر ركعات، ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر [2أ] بواحدة. (¬5) الفائدة السادسة والعشرون: أنه صلى في هذه الليلة ركعتين، ثم ركعتين، ثم ¬

(¬1) في "السنن" رقم (1364) وهو حديث صحيح. قلت: وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (185). (¬2) في "السنن" رقم (1365) وهو حديث صحيح. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (130) من حديث عائشة قالت: كان رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي من الليل حتى يكون آخر صلاته وترا. وأخرجه أبو داود رقم (1363) عن الأسود بن يزيد أنه دخل على عائشة فسألها عن صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالليل فقالت: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة من الليل، ثم أنه صلى إحدى عشرة ركعة وترك ركعتين، ثم قبض - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين قبض وهو يصلي من الليل تسع ركعات وكان آخر صلاته من الليل الوتر. (¬4) أخرجه البخاري رقم (1830) ومسلم رقم (182). وأبو داود رقم (1364) وهو حديث صحيح. (¬5) أخرجه أبو داود في "السنن" رقم (1355) وهو حديث ضعيف.

ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر بخمس (¬1). الفائدة السابعة والعشرون: أنه صلى في هذه الليلة ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، قال القعنبي: ست مرات، ثم أوتر (¬2). وهذه الروايات كلها مذكوره من حديث ابن عباس المذكور في مبيته عند خالته ميمونة تلك الليلة، روى ذلك أبو داود في باب صلاة الليل من سننه، وأكثر هذه الألفاظ موجوده في غير السنن من أمهات الست وغيرها. الفائدة الثامنة والعشرون: في رواية من هذا الحديث عند أبي داود (¬3)، ذكرها في ذلك الباب أنه صلى إحدى عشرة ركعة بالوتر، ثم نام، فأتاه بلال فقال: الصلاة الصلاة يارسول الله، فقام، فركع ركعتين، ثم صلى بالناس، فأفادت هذا الرواية (¬4) أن ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في "السنن" رقم (1358) وهو حديث صحيح. (¬2) أخرجه أبو داود في "السنن" (1367) وهو حديث صحيح. (¬3) في "السنن" رقم (1364) وهو حديث صحيح. قلت: واخرجه البخاري رقم (6316) ومسلم رقم (181). (¬4) أي رواية أبي داود في "السنن" رقم (1357) وفيه: "بت في بيت خالتي ميمونة بنت الحارس فصلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العشاء، ثم جاء فصلى أربعا، ثم نام ثم قام يصلي فقمت عن يساره فأدراني فأقامني عن يمينه فصلى خمسا ثم نام حتى سمعت غطيطه، أوخطيطه، ثم قام فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى الغداة. وهو حديث صحيح. وقد وضحتها الرواية التي أخرجه أبو داود رقم (1364) وقد تقدمت. وقال المحدث الألباني في "صفة صلاة النبي" (ص122): ثبتت هاتان الركعتان في صحيح مسلم وغيره، وهما تنافيان قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا" رواه الخاري ومسلم، وقد اختلف العلماء في التوفيق في الحدثين على وجوه لم يترجح عندي شيئا منها، والأحوط تركهما اتباعا للأمر. ثم وقفت على حديث صحيح يأمر بالركعتين بعد الوتر، فالتقى الأمر بالفعل وثبت مشروعية الركعتين للناس جميعا، والأمر الأولى يحمل على الاستحباب فلا منافاه. وانظر"الصحيحه" رقم (1993).

الركعتين المذكورتين في الرواية الآخرى هما ركعتا الفجر. الفائدة التاسعة والعشرون: أنه ثبت في رواية من هذا الحديث عند أبي داود (¬1) أنه قال: بت عند خالتي ميمونة، فجاء رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بعد ما أمسى فقال: أصلى الغلام؟ قالوا: نعم. فيه مشروعية الاستفهام عن صلاة من لم يبلغ الحلم. الفائدة الموفية ثلاثين: أنه يشرع للمؤذن أن يأتي الإمام فيؤذنه بالصلاة. الفائدة الحادية والثلاثون: مشروعية تطويل صلاة الليل، لقول ابن عباس في رواية (¬2): فصلى ركعتين أطال فيهما القيام والركوع والسجود. الفائدة الثانية والثلاثون: مشروعية صلاة ركعتين (¬3) الفجر في البيت قبل الخروج إلى الصلاة. الفائدة الثلاثة والثلاثون: مشروعية الاستنثارفي الوضوء لمن قام من النوم (¬4)، كما وقع في رواية لأبي داود من هذا الحديث، ذكرها في ذلك الباب. الفائدة الرابعة والثلاثون: أنه يشرع تأخير صلاة ركعتي الفحر حين يفرغ المؤذن من الآذان، كما وقع في رواية لأبي. ........................ ¬

(¬1) في "السنن" رقم (1356) وهو حديث صحيح. (¬2) أخرجه أبو داود رقم (1353). (¬3) انظر الرويات السابقة. (¬4) الاستنثار: وهو استفعال من النثر بالنون والمثلثة وهو طرح الماء الذي يستنشقه المتوضئ أي يجذبه بريح أنفه لتنظيف ما في داخله فيخرج ريح أنفه سواء أكان بإعانة يده أم لا. انظر: "فتح الباري" (1). أخرج البخاري رقم (161) وطرفه (162) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: "من توضأ فليستنثر، ومن استجمر فليوتر ".

داود (¬1) من هذا الحديث، ذكرها في ذلك الباب بلفظ: فقام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعدما سكت المؤذن، فصلى: سجدتيين خففتين. الفائدة الخامسة والثلاثون: أنه لا يشرع بعد آذان الفجر إلا صلاة ركعتين الفجر فقط، فلا يفعل بين الآذان والصلاة زيادة عليهما، لما ثبت في رواية لأبي داود (¬2) من هذا الحديث، ذكرها في ذلك الباب بلفظ: ثم يجلس يعني بعدما صلى ركعتين، حتى صلى الصبح. الفائدة السادسة والثلاثون: أنه يشرع دعاء عند الخروج إلى الصلاة. بما دعا به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله: " اللهم أجعل في قلبي نورا إلى آخر الحديث "، كما وقع في بعض رويات (¬3) حديث ابن عباس هذا. الفائدة السابعة والثلاثون: أنه يجوز أن ينام الرجل وامرأته، وصبي مميز (¬4) على فراش واحد، فإن ابن عباس في هذا الحديث كما في رواية لأبي داود (¬5)، ذكرها في ذلك الباب قال: فاضطجعت في عرض الوسادة، واضجع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأهله في طولها. الفائدة الثامنة والثلاثون: أن صلاة الجماعة تنعقد باثنين (¬6). الفائدة التاسعة والثلاثون: أنها تصح الجماعة إذا إنضم إلى الإمام صبي فقط (¬7) [2ب]. الفائدة الموفية أربعين: أنها تصح الجماعة في النوافل (¬8). ¬

(¬1) في "السنن" رقم (1355) وهو حديث. (¬2) في "السنن" رقم (1355) وهو حديث ضعيف. (¬3) أخرجه البخاري رقم (6316) ومسلم رقم (181). (¬4) هذا الصبي في هذه الرواية هو من محارم ميمونة، بل هو ابن أختها. (¬5) في "السنن" رقم (1367) وهو حديث صحيح. (¬6) انظر الروايات السابقة. وقال ابن قدامة في "المغني" (3): وتنعقد الجماعة باثنين فصاعدا لا نعلم فيه خلافا. (¬7) انظر الروايات السابقة. وقال ابن قدامة في "المغني" (3): وتنعقد الجماعة باثنين فصاعدا لا نعلم فيه خلافا. (¬8) ومنها ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (731، 6113 و7290) ومسلم رقم (213/ 214 / 781). من حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: احتجر رسول الله حجرة مخصفة، فصلى فيها فتتبع إليه رجال، وجاءوا يصلون بصلاته. ... وفيه: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".

الفائدة الحادية والأربعون: أنها تصح دخول المؤتم في الجماعة، بعد إحرام الإمام. الفائدة الثانية والأربعون: أن نية الإمامه من الإمام تصح بعد الشروع في الصلاة منفردا (¬1). الفائدة الثالثة والأربعون: أن المؤتم إذا وقف في غير موضع وقوف المؤتم الواحد جاهلا فلا تبطل صلاته بذلك (¬2). الفائدة الرابعة والأربعون: أنه يشرع للإمام إذا وقف بعض المؤتمين في غير موضع الوقوف أن يرشده إلى موضع الوقوف. (¬3). الفائدة الخامسة والأربعون: أن الإرشاد إلى موضع الوقوف إذا لم يتمكن منه المصلي ألا يفعل أو أفعال كان عليه ذلك. الفائدة السادسة والأربعون: أن الفعل الطويل المتكرر لا يبطل به صلاة المصلي إذا كان للإرشاد؛ فإنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وضع يده على رأس ابن عباس، ثم أخذ بإذنه فأداره من يساره إلى جهة اليمنى (¬4). الفائدة السابعة والأربعون: أن في بعض الروايات أنه وضع يده على رأسه (¬5)، وفي ¬

(¬1) انظر "المغني" لابن قدامة (3): قال: ولو أحرم منفردا ثم جاء آخر فصلى معه، فنوى إمامته، صح في النفل، نص عليه أحمد واحتج بحديث ابن عباس. (¬2) قال ابن قدامة في "المغني" (3): إذا كان المؤموم واحدا فكبر عن يسار الإمام، أداره الإمام عن يمينه ولم تبطل تحريمته. (¬3) قال ابن قدامة في "المغني" (3): إذا كان المؤموم واحدا فكبر عن يسار الإمام، أداره الإمام عن يمينه ولم تبطل تحريمته. (¬4) انظر "المغني" لبن قدامة (3، 55). (¬5) أخرجه أبو داود في "السنن" رقم (1367). وهو حديث صحيح.

بعضها أنه أخذ برأسه، وفي بعضها أخذ بذؤابته (¬1)، وفي بعضها أنه أخذ بأذنه (¬2) ¬

(¬1) تقدم في بداية الرسالة. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (992) عن ابن عباس أنه بات عند ميمونة - وهي خالته - فاضطجعت في عرض وسادة، واضطجع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأهله في طولها، فنام حتى انتصف الليل أو قريبا منه، فاستيقظ يمسح النوم عن وجهه ثم قرأ عشر آيات من آل عمران ثم قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى شن معلقة فتوضأ فأحسن الوضوء، ثم قام يصلي، فصنعت مثله، فقمت إلى جنبه، فوضع يده اليمنة على رأسه وأخذ بأذني يفتلها، ثم صلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ركعتين ثم أوتر، ثم أضطجع حتى جاءه المؤذن فقام فصلى ركعتين ثم خرج فصلى الصبح. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (2): وفيه: مبيت الصغير عند محرمه وإن كان زوجها عندها. وجواز الاضطجاع مع المرأة الحائض، وترك الاحتشام في ذلك بحضرة الصغير وإن كان مميزا أو مراهقا. وفيه صحة صلاة الصبي. وفيه جواز فتل أذنه لتأنيسه وإيقاظه وقد قيل إن المتعلم إذا تعوهد بفتل أذنه كان أذكى لفهمه. وفيه فضل صلاة الليل ولا سيما في النصف الثاني. وفيه البداءة بالسواك واستحبابه عند كل وضوء وعند كل صلاة. وفيه جواز الاغتراف من الماء القليل لأن الإناء المذكور كان قصعة أو صفحة. وفيه استحباب القليل من الماء في التطهير مع حصول الإسباغ. وفيه بيان فضل ابن عباس وقوة فهمه وحرصه على تعلم أمر الدين وحسن تأتيه في ذلك. وفيه اتخاذ مؤذون راتب للمسجد. وفيه إعلام المؤذن الإمام بحضور وقت الصلاة، واستدعاؤها لها. وفيه مشروعية الجماعة في النافلة. وفيه الائتمام بمن لم ينو الإمامه. وفيه بيان موقف الإمام والمأموم. وفيه: قال ابن بطال: واستنبط البخاري منه أنه لما جاز للمصلي أن يستعين بيده في صلاته فيما يختص بغيره كانت استعانته في أمر نفسه ليتقوى بذلك على صلاته وينشط لها إذا احتج إليه أولى وانظر فتح الباري" (3 - 72) الباب رقم (21) استعانة اليد في الصلاة إذا كان من أمر الصلاة.

وفي بعضها أنه أخذ بيمينه (¬1)، فأفاد ذلك أنه لا يتعين أن يكون الأخذ بعضو مخصوص، بل يأخذ بأي عضو كان من الذي وقف في غير موقفه. الفائدة الثامنة والأربعون: أنه يديره من خلفه، ولا يديره من بين يده، لأن ابن عباس قال: فأدارني من ورائه (¬2). الفائدة التاسعة والأربعون: أن هذا الحكم أعني: إرشاد من وقف في غير موقفه إلى موقفه كما ثبت في الصبي الذي رفع عنه قلم التكليف، فهو أيضًا يثبت في المكلف بفحوى الخطاب، لأنه مكلف با لأحكام، فكان في إرشاد الصبي دليل على مشروعية إرشاد المكلف بالطريق الأولى (¬3). الفائدة الموفية خمسين: أن إرشاد من وقف في غير موقفه، كما ثبت في النوافل يثبت في الفرائض، بفحوى الخطاب (¬4)، فكان في إرشاد المصلي إلى موقفه بالطريق الأولى. الفائدة الحادية والخمسون: أن هذا الإرشاد كما ثبت في الوقوف على اليسار ثبت أيضًا في الوقوف في غير الموقف المشروع، كأن يقف قدام الإمام، أو خلفه، بحيث يتمكن الإمام من إرشاده، فهذا يستفاد من الحديث بفحوى خطابه، لأن المواضع التي لا يشرع الوقوف فيها متناوبة الأقدام، فما ثبت من الأحكام لبعضها ثبت للبعض الآخر. الفائدة الثانية والخمسون: أن صلاة النافلة تصح من الصبي لأن تقريره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بل تعليمه له يفيد ذلك. الفائدة الثالثة والخمسون: أن هذا الحديث قد أفاد أن صلاة الفريضة تصح من غير ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (185). (¬2) انظر الروايات السابقة. (¬3) انظر "المغني" (3 - 56). (¬4) تقدم توضيح معناه.

المكلف بفحوى الخطاب، فكان تقريره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لصلاة الصبي نافلة دليل على صحة صلاته فريضة بالطريق الأولى. الفائدة الرابعة والخمسون: أن موقف المؤتم الواحد عن يمين الإمام (¬1). الفائدة الخامسة والخمسون: أن هذا الحديث يرد على من صلى عن يسار الإمام صحة صلاته، مستدلا [3أ] بأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر ابن عباس بإعادة التكبيرة، لأنا نقول إدارته من ذلك الموضع قد أفادة أنه ليس بموضع له، وعلى فرض أنه قد كان (¬2) كبر ولم يعد التكبير بعد الإدارة، ولا أنكر ذلك النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بعد الفراغ من الصلاة، فغاية ما في هذا أن الجهل عذر للجاهل، فلا يكون عذرا لغيره. فهذه خمس وخمسون فائدة مشتملة على خمسة وخمسين حكما، والزيادة عليها ممكنه وذلك بأن يجمع ألفاظ روايات هذا الحديث كلها من الأمهات وغيرها، فأنها عند ذلك تكثر الفوائد، وتتعدد الأحكام. ولعلى ما قاله المنذري في مختصر السنن (¬3) في باب (¬4) الرجلين يؤم أحدهما الآخر أنه قد أخذ من حديث ابن عباس هذا ما يقارب عشرين حكما، مبنيا على ما يستفاد من بعض طرقه، أوم من طريقة واحدة من طرقه. ¬

(¬1) ذكره الخطابي في "معالم السنن" (1) فقد قال: فيه أنواع من الفقه - يقصد حديث ابن عباس - منها: أن الصلاة في الجماعة في النوافل جائزة. أن الاثنين جماعة. أن المأموم يقوم على يمين الإمام إذا كانا اثنين جواز العمل اليسير في الصلاة. جواز الاثنين بصلاة من لم ينو الإمامة فيها. (¬2) انظر "المغني" (3) وقد تقد التعليق على ذلك. (¬3) (1 - 316). (¬4) الباب رقم (1).

فأن قلت: قد عرفنا ما ذكرته من هذه الفوائد، فكيف الجمع بين الروايات المختلفة كما وقع في صفة الإدارة، وفي اختلاف عدد الركعات، واختلاف صفاتها؟ قلت: أما ما وقع في صفة الإدارة فيمكن، الجمع بأن ذلك وقع كله في تلك الليلة، لأنه يمكن أن يضع يده على رأسه، ثم يأخذ بذؤابته، ثم بأذنه، ثم بيده. وأما اختلاف عدد الركعات وصفاتها فإذا أمكن الجمع بتعدد الواقعة فهو أولى من الترجيح، وغير ممتنع أن يبيت ابن عباس عند خالته ليالي متعددة، ويصلي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بتلك اليالي صلوات مختلفة. وأما إذا تعذر الجمع بتعدد (¬1) الواقعة، وذلك بأن يثبت من طريق صحيحة أنه لم يبيت عندها إلا تلك الليلة فقط، فالواجب في مثل عدد الركعات الإحدى الزيادة، وفي صفاتها تقديم الراجح من الروايات من المرجوح. وفي هذا المقدار كفاية. والله ولي التوفيق. تمت. ¬

(¬1) قال الحافظ في "الفتح" (2): والحاصل أن قصة مبيت ابن عباس يغلب على الظن عدم تعددها فلهذا ينبغي الاعتناء بالجمع بين مختلف الروايات فيها، ولا شك أن الأخذ بمكا اتفق عليه الأكثر والأحفظ أولى مما خلافهم فيه من هو دونهم ولا سيما أن زاد أو نقص، والمحقق من عدد صلاته في تلك الليلة إحدى عشرة، وأما رواية ثلاثة عشرة فيحتمل منها ستة العشاء. وجمع الكراماني بين ما اختلف من روايات قصة ابن عباس هذه باحتمال أن يكون بعض رواته ذكر القدر الذي اقتد ابن عباس به فيه وفصله عما لم يقتد به فيه، وبعضهم ذكر الجميع مجملا.

تحرير الدلائل على مقدار ما يجوز بين الإمام والمؤتم من الارتفاع والانخفاض والبعد والحائل

تحرير الدلائل على مقدار ما يجوز بين الإمام والمؤتم من الارتفاع والانخفاض والبعد والحائل تأليف محمد بن علي الشوكاني. حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: (تحرير الدلائل على مقدار ما يجوز بين الإمام والمؤتم من الارتفاع والانخفاض والحائل). 2 - موضوع الرسالة: من فقه الصلاة. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم وبه الإعانة. والحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله، وبعد؛ فإنه سألني مولاي العلامة إبراهيم بن محمد بن إسحاق لا برح في حماية الملك. .. 4 - آخر الرسالة: حرره المجيب الحقير محمد بن علي الشوكاني غفر الله له في النصف الأولى من ليلة الاثنين المسفرة إنشاء الله عن اليوم الخامس والعشرين من شهر صفر سنة أربع عشرة ومائتين وألف سنة (1214ه) 5 - عدد صفحات الرسالة: 15 صفحة + صفحة العنوان. 6 - عدد الأسطر في الصفحة: 18 - 19 صفحة. 7 - عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات. 8 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 9 - الرسالة من المجلد الثاني من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

بسم الله الرحمن الرحيم وبه الإعانة الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله. وبعد: فإنه سألني مولاي العلامة: إبراهيم بن محمد بن إسحاق (¬1) - لا برح في حماية الملك الخلاق - عن الدليل على ما وقع في كلام أهل المذهب الشريف في الأزهار (¬2) حيث قال مؤلفه: الإمام - عليه السلام - ما لفظه: "ولا يضر قدر ارتفاعا ونخفاضا وبعدا وحائلا ولا فوقها في المسجد، وفي ارتفاع المؤتم الإمام فيها". هذا معنى السؤال. ¬

(¬1) إبراهيم بن محمد بن إسحاق بن المهدي أحمد بن الحسن بن الإمام القاسم بن محمد. ولد سنة 1140 ه. قال الشوكاني في ترجمته رقم (14): وكثيرا ما تفد علي منه سؤالات أجيب عنها في رسائل كما يحكي ذلك مجموع رسائلي. مات رحمه الله 1241 ه. انظر: "البدر الطالع" رقم (14) و"نيل الوطر" (1). (¬2) مع "السيل الجرار" (1).

والجواب - بمعونة الملك الوهاب - ينحصر في ثلاثة أبحاث: البحث الأول: في تحرير عبارة مختصر "الأزهار"، وبيان المراد منها، وإيراد كلام من تكلم عليها. والبحث الثاني: في حكاية المذاهب في حكاية المسألة. والبحث الثالث: في تحرير الأدلة على ما اشتملت عليه من الأطراف، وبيان ما فيها. أما البحث الأول (¬1): فاعلم أن كلام "الأزهار" قد اشتمل على مسائل. المسألة الأولى: أنه لا يضر ارتفاع المؤتم عن إمامه فوق مقدار القامة في المسجد. المسألة الثانية: أنه لا يضر ارتفاعه أيضًا قدر القامة في غير المسجد. المسألة الثالثة: أنه لا يضر انخفاض المؤتم عن إمامه فوق القامة في المسجد. المسألة الرابعة: أنه لا يضر انخفاض المؤتم عن إمامه مقدار القامة [1أ] في غير المسجد. المسألة الخامسة: أنه لا يضر بعد المؤتم عن إمامه فوق القامة في غير المسجد. المسألة السادسة: أنه لا يضر قدر القامة بعدا منه عن إمامه في غير المسجد. المسألة السلبعة: أنه لا يضر ارتفاع المؤتم عن إمامه فوق القامة في غير المسجد أيضا. ¬

(¬1) انظره في "السيل الجرار" (1) و"ضوء النهار " (2»).

المسألة الثامنة: أنه لايضر انخفاض الإإمام عن المؤتم فوق القامة في المسجد. المسألة التاسعة: أنه لايضر انخفاض الإمام عن المؤتم قدر القامة في غير المسجد. المسألة العاشرة: أنه لايضر بعد الإمام عن المؤتم فوق القامة في المسجد. المسألة الحادية عشرة: أنه لايضر بعد الإمام ةعن المؤتم قدر القامة في غير المسجد. المسألة الثانية عشرة: أنه لا يضر كون بين الإمام والمأموم حائلا فوق القامة في المسجد، بشرط أن لا يكون ذلك في الاصطفاف. المسألة الثالثة عشرة: أنه لا يضر كون بينه وبين المؤتم حائلا قدر القامة بذلك الشرط. المسألة الرابعة عشرة، والمسألة الخامسة عشرة: أنه لا يضر الحائل بالشرط المذكور في حق المؤتم عن إمامه فوق القامة في المسجد، وقدرها فيه. المسألة السادسة عشرة: أنه يعفى عن ارتفاع الإمام عن المؤتم قدر القامة في المسجد. المسألة السابعة عشرة: أنه لا يعفى عن ارتفاعه عن المؤتم زيادة على قدر القامة في المسجد. المسألة الثامنة عشرة: أنه يعفى عن ارتفاع الإمام عن المؤتم قدر القامة في غير المسجد.

المسألة التاسعة عشرة: أنه لا يعفى عن ارتفاع الإمام [1ب] فوق القامة عن المؤتم في غير المسجد، فذلك اللفظ في الأزهار (¬1)، فلا بد من إيضاح ما فيه من المسائل حتى يتضح بعد ذلك الاستدلال عليها، مع أن ما في "الأزهار" يدل على ست عشرة مسألة أخرى، بفحوى خطابه، وأنه لا يضر دون القامة ارتفاعا، ولا انخفاضا، ولا بعدا، ولا حائلا، لا من الإمام، ولا من المؤتم من غير فرق بين المسجد وغيره. ووجه كونها ست عشرة أن الارتفاع والانخفاض والبعد والحائل يعفى عن دون القامة فيها من المؤتم، فهذه أربع مسائل، ويعفى عن دون القامة فيها من الإمام، وهذه أربع أخرى، وهذه الحالات يتحصل من العفو عنها في المسجد ثماني مسائل، فكانت جملة ما تحصل بفحوى الخطاب ست عشرة مسألة منضمة إلى المسائل المتقدمة، وهي تسع عشرة، تكون جميع المسائل التي تستفاد من لفظ "الأزهار" المسئول عنه خمسا وثلاثين مسألة. إذا تقرر هذا فاعلم أنه قد استشكل جماعة من المتأخرين بعض ما في هذه العبارة المسئول عنها. فقال الجلال في ضوء. ........................................... ¬

(¬1) "الأزهار في فقه الائمة الأطهار" تأليف: الإمام المهدي أحمد بن يحى المرتضى الحسنى. وهو مختصر من كتاب تنصيص التذكرة الفاخرة في فقه العترة الطاهرة " للفقيه الحسن بن محمد المذحجي، ونقل ابن مفتاح أن مسائل الأزهار منطوقها ومفوهمها تسعة وعشرون ألف مسألة وقد تهافت عليه علماء الزيدية بالدراسة والشرح والحاشية والتعليق. "مؤلفاته الزيدية " (1 رقم 276). وللمحقق كتاب بعنوان "أدلة الأبرار لمتن الأزهار في فقه الائمة الأطهار " أعاننا الله على نشره.

النهار (¬1) بعد أن بين وجه الضمير في قوله: وفي ارتفاع المؤتم لا الإمام فيهما بأن ضمير التثنية يرجع إلى المسجد وغيره، ما لفظه: وفي العبارة قلق [2أ] وانغلاق، لأن جزء مرجع ضمير التثنية في فيهما هو ارتفاع المؤتم، فيصير المعنى لارتفاع الإمام في ارتفاع الإمام. انتهى. وأقول: يمكن أن يقال إن المرجع هو المسجد المذكور صريحا، وغير المسجد المذكور ضمنا، فإن الكلام في قوة: ولا يضر قدر القامة ارتفاعا وانخفاضا وبعدا وحائلا في المسجد وغيره، ولا فوق القامة في المسجد إلا ارتفاع الإمام، فإنه لا يعفى في المسجد وغيره. وهذا هو مراد صاحب "الأزهار" (¬2). ولهذا فسر مرجع الضمير في البحث بذلك، وليس جزء المرجع الضمير ما فهمه الجلال (¬3) من ارتفاع المؤتم، فإن ما يلزم في ذلك من الفساد كاف في صرف إرادة صاحب الأزهار عنه. ومن جملة ما وقع الاعتراض عليه في عبارة الأزهار قوله: وحائلا حتى قال بعض المتأخرين: أنه راجع إلى البعد المذكور قبله. وأقول: لا ريب أن أحد اللفظين مغن عن الآخر، ولا سيما بعد تقييد الحائل بغير الحائل في الاصطفاف كما تقدمت الأشارة إليه، وكما صرح به في شروح الأزهار. وقد قيد الحائل في شرح ابن مفتاح بأن يكون في التأخر دون الاصطفاف، ولا وجه لتقييده بذلك؛ فإن الحيلولة كما تكون في التأخر تكون في غيرها، وكذلك البعد كما يكون في التأخر يكون في غيره من الجهات الأربع، وإن كانت صورة تقدم المؤتم على الإمام، وصورة الحيلولة بينهما في الا صطفاف مبطلة كما في أول الفصل الذي في الأزهار ¬

(¬1) (2 «). (¬2) تقدم في تعليقة سابقة. (¬3) في "ضوء النهار" (2»).

من ذلك البحث. وقد حاول جماعة ضبط ما في عبارة الأزهار، واختصارها فقال في هامش الهادية: وضابطه أن قدر القامة أي الأربعة لا يفسد لا في المسجد ولا في غيره، وما فوقه إن كان في غير المسجد أفسد لها في ارتفاع [2ب] المؤتم. انتهي. ولا يخفى عليك أن هذا الضابط هو مثل حروف الأزهار مرتين أو أكثر مع أنه لم يذكر فيه الأربعة التي هي الارتفاع، والانخفاض، والبعد، والحائل كما في الأزهار، إنما قال من أي الأربعة، وهي محتاجة إلي التفسير. ولو صرح بها ما تم الضابط إلى في مثل ما في الأزهار من الحروف بزيادة على ما تقدم. وقال الجلال في ضوء النهار مصوبا لعبارة الأزهار بما هو أخص وأسلم عنده ما لفظه: ولو قال يفسد ببعد في غير المسجد فوق القامة إلي ارتفاعا للمؤتم لكان أقل وأدل. انتهى. ولا يخفى عليك أن كلامك هذا ليس فيه إلا الحكم بأن البعد فوق القامة في غير المسجد يكون مفسدا لارتفاع المؤتم، وليس فيه جواز قدر القامة، وفوقها في المسجد، فليس في عبارته ما يفيده الحصر حتى يستفاد منها كون غير ما حصره غير مفسد. ثم لو سلمنا أن مفهوم عبارته دتل على ذلك فغايته أن الارتفاع قدر القامة وفوقها في المسجد لا يكون مفسدا، فمن أين الفساد كما في مخالفة الأمر، فإنما ليست بمقتضية الفساد، بل المقتضى للفساد دليل خاص، وهو ما يؤثر عدمه في العدم، كالشرط أو ما كان جزءا للماهيه كالركن، ومع هذا فقد عبر عن الارتفاع والانخفاض والحائل والبعد بلفظ البعد، وهو وإن كان كل ذلك يصدق عليه البعد لغة لكن لا يخفى أنه لا يتبادر الارتفاع والانخفاض من لفظ البعد، لكون العرب قد وضعت هذا الاسم الخاص. والإيضاح في المصنفات مع التطويل [3أ] أولى من الأبهام مع الاختصار. وقد جاء مؤلف الأثمار بعبارة أخص من عبارة الحلال، وأسلم من الخلل فقال ما

لفظه: " ولا يضر بعد مطلقا غالبا " قال ابن برهان (¬1) في شرحه: "أي لا يضر المؤتم بعد عن الإمام مطلقا " معناه سواء كان بعد مسافة، أو بعد ارتفاع، أو انخفاض، أو لحائل، وسواء كان في مسجد أو عيره، فلا تفسد صلاة المؤتم في أي ذلك إذا كان يعرف ما يفعله الإمام ولو بمعلم. قوله غالبا احتراز من أن يبعد المؤتم عن الإمام بأي تلك الأمور فوق القامة في غير المسجد أو في، وكان البعد بارتفاع الإمام فوق القامة، فإن صلاة المؤتم تفسد بذلك. قال: وهذه النسخة يعني نسخة الأثمار هي الأخيرة المعتمده، وهي مع إختصارها جماعة مانعة. انتهى. ولا يخفى أنه يرد عليه في التعبير بلفظ البعد عن الأربعة الأحوال ما ورد على الجلال، وأيضا التعبير بلفظ غالبا لا يفهم منه المراد؛ إذ ليس معناها ألا أن عدم الضرر في غالب الأحوال دون نادرها، وهذا النادر لا يدرى ما هو من نفس هذه العبارة، بل يحتاج إلى معرفته من موضع أخر، وهو إختصار مخل من حيث الأبهام، ثم إن الشارح فسر الاحتراز بلفظ غالبا بقوله: احتراز من أن يبعد المؤتم عن الإمام بأي تلك الأمور فوق القامة، في غير المسجد أو فيه بارتفاع الإمام فوق القامة. انتهى. وظاهر هذا أن ارتفاع المؤتم فوق القامة في غير المسجد يضر وليس كذلك، كما يفيده قوله في الأزهار "في ارتفاع المؤتم وقد تقد فإن كان [3ب] تركه لذلك لدخوله في الإطلاق المتقدم فيقدح فيه تعميم الشارح لصورة الاحتراز كما سمعت، ثم أيضًا ليس ما احترز عنه ب: "غالبا " هو نادر بل هي صور متعدده، وكونها دون صور ما قبله بقليل لايوجب أن تكون نادرة، ويمكن أن يقال: إن معناه لغة أن ¬

(¬1) وهو "شرح الإثمار في فقه الأئمة الأطهار ". تأليف: القاضي محمد بن يحيى برهان الصعيدي. شرح مبسوط ذكر في الأدلة والخلاف، وهو في أربع مجلدات لعله المسمى: "تفتيح القلوب والأبصار ".

تكون ما هي قيد له غالبغ، وتكون ما أخرجته بمفهومها مغلوبا، وإن لم يكن نادرا، وهذا موافق لمعناها لغة، وإن خالف استعمالها اصطلاحا. ثم أيضًا غاية ما في عبارة الأثمار أنه لا يضر البعد الشامل للأحوال الأربعه، ولا ملازمة بين الضرر والفساد الذي هو المراد لصاحب الأزهار، لأن ترك الواجب يضر لكونه يفوت صاحبه المدح؛ إذ الواجب ما يمدح فاعله، ويزم تركه، بل ترك المسنون والمندوب يضر لكونه قد فات ثوبه. فالعبارة لا تفيد الفساد الذي هو المقصود في البحث فليمعن الناظر النظر فيما خطر على البال من هذه المناقشات لصاحب ضوء النهار (¬1)، وصاحب الأثمار (¬2). (¬3) وأم البحث الثاني المتضن لحكاية أقوال العلماء في مسألة السؤال: ¬

(¬1) تقدم ذكره. (¬2) تقدم ذكره. (¬3) في هامش المخطوط ما نصه: "أما المناقشة ففيها نظر من وجوه: الأولى: أن عبارة الجلال لا يرد عليه شيء مما ذكر، لأن ما يستفاد في متن الأزهار بالمفهوم هو كالمنطوق على ما قد عرف من قاعدته، من أول الكتاب إلى آخره، فما معنى المناقشة بإنهاء العبارة لا تدل إلا على طريقة المفهوم. الوجه الثاني: أن التعبير بالفساد هو مراد صاحب الأزهار بقوله: ولا يضر، ولذا تضمنت عبارته شرح قول الأزهار ولا يضر، أي لا يفسد. الوجه الثالث: أن التعبير بلفظ البعد يعني غناء ظاهرا، إذ المتون يراعي فيها الا ختصار. الوجه الرابع: ما ناقش به عبارة صاحب الأثمار في قوله: غالبا لا مسلمه له أنه مخالف لمعناها اصطلاحا، لأنه نادر، وكونه صور متعدده لا يخرجها التعدد عن كونها نادرا فقوله غالبا في محله ومحيزه. الوجه الخامس: المناقشة لصاحب الأثمار بعدم الملازمة بين الضرر والفساد الذي هو مراد صاحب الأزهار بغير وأرده، لأن حل العبارة واختصارها لا يجب فيه تغير كل لفظ فيها، ولفظ الضرر هو في عبارة الأزهار، فلا وجه لتخصيص المناقشة بذلك على صاحب الأثمار. 1 ه.

فأعلم أنه لما كان لحكاية الأقوال دخل في مسألة السؤال إذ عليها ينبني الاستدلال تعرضنا لها باختصار، وجملتها سته. المذهب الأول: التفصيل المتقدم في الأزهار على تلك الصفة السابقة في تعداد المسائل، وهو الذي صححه السيدان الإمامان: المؤيد بالله وأبو طالب للمذهب، وعليه أقتصر المتأخرون من أئمة المذهب الشريف [4أ]، وبه أخذوا (¬1). المذهب الثاني: ظاهر قول الهادي - عليه السلام - في المنتخب (¬2) وهو قول أبي العباس، أنه فرق بين ارتفاع المؤتم والإمام إذا كان فوق القامة لآن ذلك مما تبطل به الصلاة على المؤتم. المذهب الثالث: لأبي حنيفة أنها لا تبطل في الوجهين وتكره (¬3). المذهب الرابع: للشافعي (¬4) أنه يعفى عن مسافة ثلثمائة زراع "والزائد مبطل. واختلف اصحابه في وجه ذلك، فقال ابن شريح: وجهه أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - صلى صلاة الخوف بالطائفة الأولى ركعة، ثم مضت إلى وجه العدو، وهي في الصلاة لتحرس من النبل، ومبلغ النبل في العادة ثلاثمائة زراع. وقال ابن الصباغ، وابن الوكيل (¬5) بل ¬

(¬1) انظر "البحر الزخار" (1 - 334). (¬2) تأليف الهادي يحيى بن الحسين الهاشمي اليمني. جمعه تلميذه محمد بن سليمان الكوفي، وعلى هذا الكتاب اعتماد الهادويين من الزيديه في الفقه. انظر: "مؤلفات الزيديه" (3 رقم 3026). (¬3) انظر "المحلى" (4 - 85). (¬4) ذكره ابن قدامة في "المغني" (3). (¬5) ذكره النووي في "المجموع" (4).

لعرف الناس وعادتهم في استقرائهم لذلك المقدار دون ما زاد عليه. قال المهذب (¬1): وفي كون ذلك تحديدا أو تقريبا وجهان (¬2)، وقد دفعه الإمام المهدي في البحر (¬3) بأن الطائفة لم تمض في صلاة الخوف مصلية. ويجاب عنه أنه ثبت في رواية صحيحه أنها مضت كذلك، وليس فيها التعليل المذكور بالحراسه من النبل، فلا يتم الاستدلال. المذهب الخامس: للأمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة أن البعد لا يضر ما دام المؤتمون يسمعون قراءة الإمام، وبه قال عطاء (¬4)، وبعضهم قيد قول عطاء بالبعد في الارتفاع فقط، فيكون مذهبا سادسا. وأما البحث الثالث فهو في الأدلة على هذه المذاهب، فنقول: استدلال الإمام المهدي في البحر (¬5) لما ذهب إليه أهل المذهب فقال: مسألة: ولا يضر بعد المؤتم في المسجد، ولا الحائل ولا فوق القامة، مهما [4ب] علم حال الإمام إجماعا، ولا ارتفاعه كا فعل أبي هريرة إلا بحذاء رأس الإمام أو متقدما. ولا يضر قدر القامة في غير المسجد أجماعا المذهب وما زاد أفسد، إذ أصل البعد التحريم [في المفروض] (¬6)، ولا دليل على ما تعد القامة. انتهى. ¬

(¬1) (1). (¬2) أحدهما أنه تحديد، فلو زاد على ذلك زرع لم يجزه. الثاني: أنه تقريب فإنه زاد على ثلاثة أزرع جاز. وهو الوجه الأصح. وانظر: "المهذب" (1) و"المجموع" (4). (¬3) (1). (¬4) ذكره النووي في "المجموع" (3). (¬5) (1). (¬6) كذا في المخطوط وفي "البحر الزخار " [للإجماع في المفروض].

وكلامه هذا قد اشتمل على حجج: الحجة الأولى: استدلاله على جواز بعد المؤتم وجواز الحائل بينه وبين الإمام في المسجد ولو فوق القامة، إلى حد يمكن معه العلم بحال الإمام بالإجماع. الحجة الثانية: الاستدلال على جواز ارتفاع المؤتم في المسجد ولو فوق القامة في المسجد، يكون مشابها لفعل أبي هريرة الذي أشار إليه (¬1)، وهو ماأخرجه البخاري (¬2) تعليقا، وسعيد بن منصور في سننه (¬3) والشافعي (¬4)، البيهقي (¬5)، عن أبي هريرة:، أنه صلى على ظهر المسجد بصلاة الإمام ". وروى سعيد بن منصور (¬6) مثله عن أنس أنه كان يجمع في دار أبي رافع عن يمين المسجد في غرفة قدر قامة منها، لها باب مشرف على المسجد البصرة، فكان يظاتم بالإمام. الحجة الثالثة: ¬

(¬1) عزاه إليه الحافظ في"الفتح" (1). (¬2) في صحيحه رقم (1). باب رقم (18) "الصلاة في السطوح والمنبر ". (¬3) عزاه إليه الجاحظ في "الفتح" (1). (¬4) كما في معرفة "السنن" والآثار " (2 رقم 1515). (¬5) في "السنن" رقم (3). (¬6) عزاه إليه الحافظ في "الفتح"رقم (1). وقد أخرجه البيهقي في "السنن" (3) والشافعي كما في ترتيب المسند (1 - 108 رقم 317). عن صالح بن إبراهيم قال رأيت أنس بن مالك صلى الجمعة في بيوت حميد بن عبد الرحمن فصلى صلاة الإمام في المسجد وبين بيوت حميد والمسجد: الطريق.

من الحجج التي أحتج بها الإمام المهدي (¬1) في كلامه السالف أنه لايضر قدر القامة في غير المسجد إجماعا. الحجة الرابعة: أنه أحتج للمذهب على أنه إذا زاد على قدر القامة أفسد في غير المسجد، بأن أصل البعد التحريم في المفرط، ولا دليل على ما زاد على القامة، فيكون مفسدا. واحتج للفرق بين جواز ارتفاع المؤتم فوق القامة دون الإمام بما معناه أنه إذا ارتفع الإمام فوق القامة المؤتمون غير متوجهين إليه، بخلاف ما إذا كان المرتفع المؤتمين فإنهم متجهون إلى الإمام، ولو كثر ارتفاعهم. هذا خلاصة احتج به للمذهب، وهو خلاصة ما احتج به [5أ] سائر أهل المذهب من المتقدمين والمتأخرين. وقد اعترض الجلال في ضوء النهار (¬2) وما احتج به الإمام المهدي (¬3) للمذهب من أن أصل البعد التحريم، فقال ما لفظه: واحنج المصنف بالإجماع على منع البعد المفرط وبعدم الدليل على جواز ما فوق القامة. وهو تهافت لأن المجمع على منعه هو غير ما جوازوه، وهذا إنما يصح تعليل الاعتراض به لو كان الإمام المهدي معللا لمنع ما جوازوه من فوق القامة بلإجماع على المنع منه، وهو لم يعلل بذلك، ولا ادعاه، بل قال: إن البعد المفرط أصله أنه مجمع على تحريم. وقال: لا دليلا على ما زاد على القامة، فأي معنى لقول الجلال معللا للاعتراض بأن المجمع على منعه هو غير ما جوازوه، ¬

(¬1) في "البحر الزخار" (1). (¬2) في "ضوء النهار" (1 «). (¬3) في "البحر الزخار" (1).

فإن الإمام المهدي يقول بموجب هذا الكلام، ويعتف بأن المجمع على منعه هو غير ماجوزوه، إذا لو كان المجمع على منعه هو ما جوزوه لكان الإجماع على منع ما جوزوه كافيا للإمام المهدي في الرد عليهم مغنيا له عن قوله: ولا دليل على ما زاد على القامة. فالحاصل أن تعليل الاعتراض عليه بذلك لا يتم بعد صدور الاحتجاج على من جوز فوق القامة، فإنه ممنوع بلإجماع، وهو لم يحتج عليهم بذلك، إنما احتج عليه بعدم الدليل فيما دون البعد المفرط، وبالإجماع على المنع في المفرط، ولم يقل قائل بجواز البعد المفرط؛ إذا لو قال به قائل لم يكن ثم إجماع [5ب] إن كان القائل من أهل عصر المجمعين، وإن كان بعد عصرهم كان مخالفا للإجماع، لكونه قائلا بجواز ما منع الإجماع، فينظر في ضوء النهار إن كان لفظه هو اللفظ الذي نقلناه عنه سابقا كما رأيناه في النسخة التي حضرت وقت تحرير البحث. نعم، يمكن مناقشة الإمام المهدي في قوله (¬1): ولا دليل على ما زاد على القامة فيكون مفسدا بأن يقال: الأصل الجواز، وعدم الفساد كما أشار إليه الجلال، فلا يحتاج القائل به إلى دليل، بل هو قائم مقام المنع، متمسك بالبراءة الأصلية. والدليل على مدعي عدم الجواز والفساد. ولعله يقول: إن الأصل تساوي الإمام والمؤتم في الموقف، من دون ارتفاع، ولا انخفاض، ولا حائل، ولا بعد. وقد نقل عن هذا الأصل الإجماع الدال على جواز قدر القامة كما سبق، فيكون ما زاد عليه باقيا على أصل المنع، فالدليل على مدعي جوازه هذا غاية ما يمكن في تقريره كلامه، ويمكن أن يقلب عليه هذا الاستدلال فيقال: الأصل جواز الائتمام بالإمام على صفة، وفي كل حال، ومن ادعى التقييد بالتساوي في الموقف فهو مدع لتقييد الاقتداء بحالة خاصة، ووضع معين فعليه الدليل من غير فرق بين قد القامة وفوقه، وها نحن نذكر الأن ما يمكن الاستدلال به على كثير من التفاصيل المتقدمة في تلك المذاهب نافيا وإثباتا، ثم بذكر ما تقضيه القواعد ¬

(¬1) في "البحر الزخار" (1).

الأصولية، والمسالك الاجتهادية، ونبيين ما هو الراجح من الأقوال بمعونة ذي الجلال. البحث الثالث: فنقول: أخرج أبو داود (¬1) عن همام أن حزيفة أم الناس بالمدائن على دكان فأخذ مسعود بقميصه فجبذه فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم [6أ] أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال: بلى، قد ذكرت حين يديتني (¬2)، أي: مدت يدك إلي قميصي وجبذته إليك. وأخرجه أيضًا ابن خزيمة (¬3)، وابن حبان (¬4)، والحاكم (¬5) وصححوه. وفي رواية للحاكم (¬6) التصريح برفعه، ورواه أبو داود (¬7) من وجه آخر وفيه أن الإمام ¬

(¬1) في "السنن" رقم (597). (¬2) في هامش المخطوط مانصه: يديتني بالياء المثناه التحتيه لا بالميم (*)، واشتقاقه من اليد الجارحة طاهر، وعليه قال الأسدي: المعروف بقاع الدهماء: يديت إلى ابن حساس بن وهب ... بأسفل ذي الجذاة يد الكريم (**) وإن كان هذا من اليد التي هي النعمة فهو يلاقي حقيقتها التي هي الجارحة في جميع تصرفها وتفسيرها مددت يدك إلى قميصي صريح أنها بالياء، وأن الميم تصحيف. والله أعلم. (*): وثبت أيضًا مديتني، ولعل كانت الحاشية لم تبن عليه. (*): عزاه ابن منظور في "لسان العرب" (15) قال بعض بني أسد. وهو من شواهد "لسان العرب". قال الجوهري في "الصحاح" (6): ويديت الرجل: أصبت يده، فهو ميدي فإن أردت أنك اتخذت عند يدا قلت: أيديت عنده يدا فأنا مود إليه ويديت لغة - ثم ذكرت الشاهد المتقدم دون غيره -. (¬3) في صحيحه رقم (1523). (¬4) في صحيحه رقم (2143). (¬5) في "المستدرك" (1) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. قلت وأخرجه: الشافعي في مسنده (1 - 138) والبغوي رقم (831) والبهقي (3) وابن الجارود رقم (313) وابن أبي شيبة (2). وهو حديث صحيح. (¬6) في "المستدرك" (1). (¬7) في "السنن" رقم (598). وهو حديث حسن لغيره.

كان عمار بن ياسر، والذي يبذه حزيفة، وهو مرفوع، ولكن فيه مجهول والأول أقوى كما قال الحافظ (¬1). وأخرج الدارقطني (¬2) من حديث ابن مسعود قال: نها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن يقوم الإمام فوق شيء والناس خلفه، يعني أسفل منه. وقد أورده الحافظ في التلخيص (¬3)، ولم يتكلم عليه. ولا يخفى أن قول أبي مسعود في الحديث الأول أنهم كانوا ينهون عن ذلك، وقد بينه حديثه الآخر أن الذي نها عن ذلك هو النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وكذلك بينته رواية الحاكم التي أشرنا إليها، ومعنى النهي حقيقة التحريم المرادف للفساد كما هو المذهب الحق في الأصول (¬4)، فيكون ارتفاع الإمام على المؤتم ممنوعا من غير فرق بين قدر القامة ودونها وفوقها، وسواء كان في المسجد، أو في غيره ولكنه قد ثبت في الصحيحين (¬5) وغيرهما (¬6) من حديث سهل ¬

(¬1) في "التلخيص" (2). (¬2) في "السنن" رقم (2). (¬3) في"التلخيص" (2). (¬4) انظر"الكوكب المنير" (1)، "تيسير التحرير" (2). و (1 - 475). (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (377) [وأطرافه: (448، 917، 2094، 2569)] ومسلم رقم (544). (¬6) كأحمد (5) وأبو داود رقم (1080) والنسائي (2) وابن ماجه رقم (1416). قال القرطبي في "المفهم" (2) استدل أحمد بن حنبل بصلاة النبي على المنبر، على جواز صلاة الإمام على موضع أرفع من موضع المأموم، ومالك يمنع ذلك في الارتفاع الكثير دون اليسير، وعلل المنع: بخوف الكبر على الإمام، واعتزر بعض أصحابه عن الحديث: بأن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معصوم عن الكبر ومنهم من علله، بأن ارتفاع المنبي كان يسير. وقال النووي في "شرحه لصحيح مسلم" (5 - 34): قالوا العلماء كان المنبر الكريم كما صرح مسلم في روايته رقم (44) فنزل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخطوتين إلى أصل المنبر ثم سجد في جنبه ففيه فوائد منها: استحباب اتخاذ المنبر. استحباب قول الخطيب ونحوه على مرتفع كمنبر أوغيره. جواز الفعل اليسير في الصلاة فإن الخطوتين لا تبطل بهما الصلاة ولكن الأولى تركه إلا لحاجة فإن كان لحاجة فلا كراهة فيه كما فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفيه أن الفعل الكثير كالخطوات وغيرها إذا تفرق لا تبطل لأن النزول عن المنبر والصعود تكرر وجملته كثيرة ولكن أفراده المتفرقه كل واحد منها قليل. وفيه جواز صلاة الإمام على موضع أعلى من موضع المأمومين ولكنه يكره ارتفاع الإمام على المأموم وارتفاع المأموم على الإمام لغير حاجة فإن كان لحاجة بأن أراد تعليمهم أفعال الصلاة لم يكره بل يستحب لهذا الحديث، وكذا إن أراد المأموم إعلام المأمومين بصلاة الإمام واحتاج إلى الارتفاع وفيه تعليم الغمام المأمومين أفعال الصلاة وأنه لا يقدح ذلك في صلاته وليس ذلك من باب التشريك في العبادة بل هو كرفع صوته بالتكبير ليسمعهم. قال الحافظ في "الفتح" (1): والغرض من إيراد هذا الحديث في هذا الباب - رقم 18 - الصلاة في السطوح والمنبر والخشب: جواز الصلاة على المنبر. جواز اختلاف موقف الإمام والمأموم في العلو والسفل وصرح المصنف في حكايته عن شيخه علي بن المديني عن أحمد بن حنبل، ولا بن دقيق العيد في ذلك بحث. فإنه قال: من أراده أن يستدل به على جواز الارتفاع من غير قصد التعليم لم يستقم، لأن اللفظ لا يتناوله. ولا نفراد الأصل بوصف معتبر تقتضي المناسبة اعتباره فلا بد منه. وفيه دليل على جواز العمل اليسير في الصلاة. ..

بن سعد أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - جلس على المنبر في اول يوم وضع، فكبر وهو عليه راكع، ثم نزل القهقري، فسجد وسجد الناس معه، ثم عاد حتى فرغ، فلما انصرف: أيها الناس فعلت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي ". فمن أهل العلم من جعل ارتفاع الإمام على المؤتم مكروها فقط، مستدلا بهذا الحديث الصحيح، ومنهم من استدل به على جواز الارتفاع (¬1) اليسير، ومنهم من رجحه على ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة.

الأحاديث السابقة بكونه في الصحيحين (¬1)، وفي الكل عند نظر، لأن الترجيح على فرض التعارض، ولا تعارض لوجوه: الوجه الأول: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قد علل ذلك [6ب] بالتعليم، فغايته أنه يجوز الارتفاع لمن أراد تعليم المؤتمين (¬2). الوجه الثاني: أنه مجرد فعل، وهو لا ينتهض لمعارضة القول. الوجه الثالث: أنه قد تقرر في الأصول أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إذا أمرنا بشيء، أو نهانا عن شيء، وفعل ما يخالف أمره نهيه، فإن ظهر في الفعل دليل التأسي (¬3) به كان ناسخا على فرض تأخره عن الأمر والنهي، وإن لم يظهر دليل التأسي، فإن كان الأمر والنهي شاملين له كان الفعل مختصا به، غير معارض للأمر أو النهي، أو سائر الأقوال، ولم يظهر في هذا الفعل دليل التأسي به، فلا يكون ناسخا، وعلى فرض أن قوله: إنما فعلت إيرادت التعليم فغايته الاختصاص بتلك الحالة كما قدمناه الوجه الرابع: أنه لم ينقل إلينا تأخر صلاته على المنبر، حتى يكون الكلام فيه كما قاله القائل، بل ما وقع من الصحابة بعد موته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يدل على أن المتأخر هو النهي، فتكرر بمجموع ما ذكرناه أنه لا معارضة بين النهي عن ارتفاع الإمام، وبين فعله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - على جميع التقادير. فالظاهر أن ارتفاع الإمام لغير ¬

(¬1) رضي- تقدم تخريجه. (¬2) انظر "فتح الباري" (1). (¬3) انظر تفصيل ذلك في "الكوكب المنير" (2 - 209). " تيسير التحرير" (3).

قصد التعليم ممنوع (¬1)، ومن ادعى جوازه فعليه الدليل (¬2) من غير فرق بين القليل والكثير. وأما ارتفاع المؤتم فلم يأت ما يدل على منعه فيكون الأصل معا من قال بجوازه من غير فرق بين القامة ودونها وفوقها، والمسجد وغيره. ومن زعم خواز قدر معين دون ما زاد عليه فعليه الدليل. ويؤيد هذا الجواز ما تقدم من فعل أبي هريرة، وأنس بمحضر الصحابة من دون إنكار. وما ذكرنا من عدم جواز ارتفاع الإمام (¬3) يستلزم عدم جواز انخفاض المؤتم، لأن انخفاضه لا يكون إلا إذا كان الإمام مرتفعا [7أ]، وإلا لم يسم انخفاضا، وكذلك ما ذكرناه من جواز ارتفاع المؤتم يستلزم جواز انخفاض الإمام، لأن ارتفاع المؤتم لا يكون إلا إذا كان الإمام منخفضا، وإلا لا يسم ارتفاعا وقد دخل تحت هذا الدليل عدة مسائل مما تقد، وهي ارتفاع الإمام في المسجد، وارتفاعه في غير المسجد قدر القامة ودونها وفوقها، ونخفاضه في المسجد، وانخفاضه في غير المسجد قدر القامة ودونها وفوقها، وارتفاع المؤتم وانخفاضه كذلك. وأما البعد من الإمام عن المؤتم والعكس، وهما متلازمان؛ لأن بعد احدهما من الآخر يستلزم بعد الأخر عنه. وقد قدمنا أن الحائل هو بعد تقيضه بما سلف داخل تحت البعد. فاعلم أن الأصل الجواز لما قدمنا، من غير فرق بين قدر القامة ودونها وفوقها، وفي المسجد وخارجه، ومن زعم التقييد بمقدار معين أو بمكان معين فعليه الدليل، ولم يأت دليل يدل على تقييد ذلك بشيء. وأما ما تقدم من حكاية الإجماع على منع البعد المفرط فذلك إنما هو حيث لا يدرك ¬

(¬1) انظر "الفتح" (1) وقد تقدم. "صحيح مسلم شرح النووي" (5 - 34) وقد تقدم. (¬2) قال الشوكاني في "السيل" (1): لا يضر قدر القامة ولا فوقها لا في المسجد ولا غيره من غير فرق بين الارتفاع والا نخفاض والبعد والحائل. ومن زعم أن شيئا من ذلك تفسد به الصلاة. وانظر: "المحلي" (4). (¬3) أنظر" المغني" (3).

المؤتم أفعال الإمام كما تقد عن عطاء، والمنصور. ولا ريب أن من كان من البعد بحيث لا يدرك أفعال إمامه (¬1)، ولا ينقلها إليه ناقل لا يتمكن من الائتمام والاقتداء بالإمام، فلا يتم صلاة الجماعة لذلك، وما دون هذا البعد، وهو حيث يكون مع بعده يدرك أفعال إمامه ويمكنه الاقتداء به، فلا وجه لمنعه ومن يزعم المنع في صورة من الصور لم يقبل منه ذلك، إلا بدليا وكما أنه لا وجه لقول من قال بالفرق بين المسجد وغيره لا وجه أيضًا لقول الشافعي في التقدير بثاثمائة زراع (¬2)، فإن ذلك إنما نشأ من ظنه أن ذهاب الطائفة الأولى [7ب] مصلية في صلاة الخوف (¬3) لقصد الحارسة على النبل، ¬

(¬1) انظر "المجموع" (3). (¬2) انظر"المغني" (3). (¬3) قال النووي في "المجموع " (3): وقدر الشافعي بثلا ثمائة زراع لأنه قريب في العادة، هذا اختيار منه للصحيح. وقول الجمهور أن هذا التقدير مأخوذ من العرف لأن من صلاة الخوف.؟ قال بن تيميه في " مجموع" (23): وأما صلاة المأموم خلف الإمام: خارج المسجد أو في المسجد وبينهما حائل فإن كانت الصفوف متصله جاز باتفاق الائمة. وإن كان بينهما طريق، أو نهر تجري فيه السفن، ففيه قولان معروفان، هما روايتان عن أحمد: أحدهما: المنع كا قول أبي حنيفة. الثاني: الجواز كا قول الشافعي. وأما إذا كان بينهما حائل يمنع الرؤيه، والاستطراق، ففيها عدة أقوال في مذهب أحمد وغيره. قيل يجوز، وقيل: لا يجوز، وقيل: يجوز في المسجد دون غيره، وقيل: يجوز مع الحاجة. ولا يجوز بدون الحاجة. ولا ريب أن ذلك جائز مع الحاجة مطلقا: مثل أن تكون أبواب المسجد مغلقة، أو تكون المقصورة التي فيه الإمام مغلقة أو نحو ذلك. وقال النووي في "المجموع" (4): 1 - يشترط أن لا تطول المسافة بين الإمام والمأمومين إذا صلوا في غير المسجد، وبه قال جماهير العلماء. 2 - لو حال بينهما طريق صح الاقتداء عندنا وعند مالك والأكثرين. 3 - لو صلى في دار أو نحوها بصلاة الإمام في المسجد وحال بينهمها حائل لم يصح عندنا وبه قال أحمد. 4 - يشترط لصحة الاقتداء علم المأموم بانتقالات الإمام، سواء صليا في المسجد أو في غيره أو أحدهما فيه والآخر في غيره وهذا مجمع عليه. * قال ابن حزم في" المحلي" (4): وجائز للإمام أن يصلي في ما كان ارفع من مكان جميع المأمومين وفي أخفض منه، سواء في كل ذلك العامة والأكثر والأقل فإن أمكنه السجود فحسب وإلا فإذا أراد السجود فلينزل حتي يسجد حيث يقدر، ثم يرجع إلى مكانه. * وقال الشوكاني في "السيل" (1) في هذا الحديث - حديث النهي تقدم تخريجه - دليل على منع الإمام من الارتفاع عن المؤتم، ولكن هذا النهي يحمل على التنزيه لحديث صلاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبي كما في الصحيحين وغيرهما - تقدم - ومن قال إنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل حال لتعليم كما وقع في آخر الحديث فلا يفيده ذلك لأنه لا يجوز له في حال التعليم إلا ما هو جائز في غيره ولا يصح القول باختصاص ذلك بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وانظر: "فتح الباري" (1). و"إكمال المعلم بفوائد مسلم" (2).

وذلك مجرد تخمين، ولا دليل عليه في الرواية فلا حجة في محض الرأي، وأما استدلال من استدل بما في الصحيحين (¬1) وغيرهما (¬2) من حديث سهل بن سعد وغيره أنه كان بين مصلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وبين الجدار ممر الشاة فليس في هذا من الدلالة شيء لأن الكلام في البعد الكائن بين الإمام والمؤتم، لا في البعد الكائن بين الإمام والجدار الذي أمامه، على أنه لو ورد مثل هذا في المقدار الذي بين الإمام والمأموم لم يكن دليلا على منع ما ذاد عليه، لن غايته جواز هذا المقدار من البعد، وهو لا ينفي جواز ما زاد عليه بلا شك ولا شبهة. ومن تدبر ما أسلفناه عرف الدليل نافيا وإثباتا على جميع ما قدمنا تحريره من المسائل التي اشتملت عليها مسألة السؤال الواردة من السائل - كثر الله فوائده -. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (496) وطرفه (7334) ومسلم في صحيحه رقم (508). (¬2) كأبي داواد رقم (696) وهو حديث ضعيف.

حرره المجيب الحقير محمد بن علي الشوكاني - غفر الله له - في النصف الأول من ليلة الاثنين المسفرة إن شاء الله عن اليوم الخامس والعشرين من شهر صفر سنة أربع عشرة ومائتين وألف، سنة 1214. وكان الفراغ من رقم النسخة المبارك يوم الجمعة خامس عشر من رمضان المكرم سنة 1215. بكلم خادم آل محمد غفر الله له ولوالديه، ولمن دعى لهما بالغفران آمين اللهم آمين والصلاو والسلام الدائمان على سيدنا محمد وآله.

بحث في كثرة الجماعات في مسجد واحد

بحث في كثرة الجماعات في مسجد واحد تأليف محمد بن علي الشوكاني. حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: (بحث في كثرة الجماعات في مسجد واحد). 2 - موضوع الرسالة: فقه الصلاة. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على كل حال والاستعاذة به من الابتداع والجهل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه خير صحبه وآل. أما بعد: فما تكونون أيها الأعلام العارفون بين الحلال والحرام. .. 4 - آخر الرسالة:. .. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية والله ولي التوفيق ثم في الأصل كتبه المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله له. انتهى. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - عدد الصفحات: أربع صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 30 - 32 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 14 - 16 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الخامس من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على كل حال، والاستعاذة به من الابتداع والجهل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه غير صحبة وآل. أما بعد: فما تقولون أيها الأعلام العارفون بين الحلال والحرام في شأن ما صار يفعله في أحد جوامع بلدة من الجهات اليمنية المحفوظة من الله بالبركات والخيرات السنية، وذلد أن المذكورين يسمعون المؤذن ينادي بالآذان للصلاة المكتوبة فيبادر أحدهم إلى ناحية المسجد المذكور، فيقيم الصلاة، ويصلي تلك الصلاة إماما، فيقتدي به الحاضرون من عامة الناس غالبا، ثم يصلي أكثر الخواص خلف إمام الرتبة. وفي بعض اللأيام يقع مثل هذا في صلاة الصبح، والحال إن الحاضرين في وقتها إناس قليل. وأما في وقت العشاء فما زال يستبق الجماعة المذكرون ليفعلها في كل ليلة قبل أن يبادر بالآذان والمؤذن الراتب، وربما فعلوها قبل تيقن دخول وقتها،، ويشروعنها جماعتين أو أكثر تارة معا كل من الجماعتين في ناحية من المسجد، وتارة مرتبا. وقد يحضر في بعض الحالات أحد المذكورين عند شروعهم في صلاة الجماعة المذكورة فيتنحى إلى جانب المسجد لم يشرع جماعة جماعة أخرى، فتقام الصلاة خاف إمام الراتب، وقد تفرق الأكثر ممن كان في المسجد من الناس، ولم يبقى إلا الأقل. ومن ذلك إن إناس يتطوعا بصيام أيام في شهر رجب، فيبادرون بصلاة المغرب جماعة في المسجد المذكور، مع إن في النفس شيئا من الهجوم على ذلك قبل تيقن استكمال غروب قرص الشمس، على أن كثير من الصائمين المذكورين لذلك يأخرون الأفطار إلى بعد تمام الصلاة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وكذا صار بعض المذكورين حواصبا (¬1) على فعل صلاة العصر جماعة عقيب صلاة الجماعة، مداوما على ¬

(¬1) الحاصب: الريح الشديدة تحمل التراب والحصباء. الحاصب: العدد الكثير من الرجالة. "لسان العرب" (3).

ذلك في كل أسبوع لغير عذر شرعي، ويقتدي به في ذلك كثير من العوام، وإذا انكر عليهم أحد ولو من أهل بيت النبوة - عليهم السلام - أو من شيعتهم الكرام أجابوا عليه بما يتمثل به الطغام، الذين قال لهم: قال الله تعالى، قال رسول الله: كل يصلي كيف ما شاء الله، والسر القبول. فما يقول العلماء في هذه الحركات المستنكرة المبتكرة المجانبة لما وردا عن نبينا المصطفى - صلى الله وسلم عليه وعلى آله الخيار - وأصحابه أهل الصدق والوفاء فهل يذجر من ظهر منهم الأصرار ردعا له عن ذلك، وعن التفريق بين المؤمنين المنهي عنه، إذا هو مما اتخذا لأجله بنو غنم بن عوف (¬1) مسجد الضرار فاقتدوا في [ ...... ] (¬2) وأكشفه عن وجه البدعة النقاب - لا برحتم أهل جلاء المشكلات وحل المعضلات؟ - نعم وقد كرر بعض الجهابذة أن من جملة الكبائر التعدي على وظيفة غمام الراتب فيه قهرا على صاحبها، لأنه من غصب المناصب، وهو أولى بالكبيرة من ¬

(¬1) قال تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [التوبة: 107]. * قال الطبري في "جامع البان " (7 /ج11 - 24): والذين ابتنوا مسجدا ضرارا لمسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكفرا بالله لمحادتهم بذلك رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويفرق به المؤمنين ليصلي فيه بعضه دون مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وبعضهم في مسجد رسو الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيختلفوا بسبب ذلك ويفترقوا: (وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) يقول: واعدادا له، لأبي عامر الكافر الذي خالف الله ورسوله وكفر بهما وقاتل رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من قبل، يعني من قبل بنائهم ذلك المسجد، وذلك أن أبا عامر هو الذي كان حزب الأحزاب، يعني حزب الأحزاب لقتال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما خذله الله، بحق الروم يطلب النصر من ملكهم على نبي الله وكتب إلى أهل مسجد الضرار يأمرهم ببناء المسجد. .. ". وانظر: "السيرة النبوية " لابن هشام (4). "الدر المنثور" (3 - 277). (¬2) كلمة الغي مقروءه في المخطوط.

غصب الأموال، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا يأمن الرجل في سلطانه (¬1) ونصوا على أن غمام المسجد الراتب أحق من غيره وإن [ ..... ] (¬2) بفضله، وأنه يبعث له ندبا إذا ابطأ ليحجب أو يأذن له في الإمامة. وقال الماوردي (¬3): إن كان المسجد له إمام راتب بولاية لم يجز لمن دخله أن يقيم فيه ¬

(¬1) أخرجه في صحيحه رقم (582) من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو مرفوعا. (¬2) كلمة غير واضحة في المخطوط. (¬3) في "الحاوي" (3). قال الشافعي في "الأم" (1): وإذا كان للمسجد راتب ففاتت رجلا - أو رجالا - في الصلاة، صلوا فرادى، ولا أحب أن يصلوا فيه جماعة، فإن فعلوا أجزأتهم الجماعة فيه ". وقد استدل المانعون بالمنقول والمعقول: المنقول: انظر الآية (107) من سورة التوبة - وقد تقد توضيحه - السنة النبوية وقد تقدم ذكر كثيرمن الأحاديث في ذلك. نذكر منها أيضا: عن أبي بكرة رضي الله عنه: "أن رسول الله أقبل من نواحي المدينة، يريد الصلاة، فوجد الناس قد صلوا فمال إلى منزله، فصلى بهم ". وهو حديث حسن. انظر: "تمام المنة " (ص155). ووجه الدلالة منه: أنه لو كانت الجماعة الثانية جائزة بلا كراهة لما ترك النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضل المسجد النبوي. -وكذلك استدلوا بالآثار: منها: تقدم قول الشافعي " الأم" (1). ومنها: مأخرجه ابن أبي شيبة (2) وعبد الرزاق في مصنفه (3 رقم 3425) و (3426) وذكره السرخسي في "المبسوط" (1، 161). عن الحسن البصري قال: " كان اصحاب محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دخل المسجد وقد صلي فيه صلوا فرادى". وانظر: "المدونة الكبرى " (1). " إعلاء السنن" (4) ثم استدلوا بالمعقول: قالوا عن الجماعة الثانية يؤدي إلى تفريق الجماعة الأولى المشروعة. لأن الناس أن الجماعة تفوتهم يعجلون أدائها ويحرصون على شهودها مع الإمام، فتكثر الجماعة وإذا علموا أنها لا تفوتهم، يتأخرون فتقل الجماعة، وتقليل الجماعة مكروه. وقال الشافعي في "الأم" (1): "وأحسب كراهية من كره ذلك منهم إنما كان اتفرق الكلمة، وأن يرغب الرجل عن الصلاة خلف الإمام جماعة فيتخلف ومن أرد عن المسجد في وقت الصلاة، فإذا قضيت دخلوا فصلوا فيكون في هذا اختلاف وتفرق كلمة، وفيها المكروه ". وقد علق أحمد شاكر على كلام الإمام الشافعي بقوله: "والذي ذهب إليه الشافعي من المعنى في هذا الباب صحيح جليل ينبي عن نظر ثاقه، فهم دقيق وعقل دراك لروح الإسلام ومقاصده، وأول مقصدا للإسلام ثم أجله وأخطره: - توحيد كلمة المسلمين. - جمع قلوبهم في غاية واحدة، هي إعلاء كلمة الله. - توحيد صفوفهم في العمل لهذه الغاية. والمعنى الروحي في هذا اجتماعهم على الصلاة، وتسوية صفوفهم فيها أولا كما قال رسةل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجهكم "تقدم. - أخرجه البخاري رقم (717) ومسلم رقم (436) عن النعمان بن بشير رفعه. ثم قال: وقد رأى المسلمون بأعينهم آثار تفرق جماعتهم في الصلاة واضطرب صفوفهم، ولمسوا، ذلك بأيديهم، إلا من بطلت حاسته. وطمس على بصره وإنك لتدخل كثيرا من مساجد المسلمين. فترى قوما يعتزلون الصلاة مع الجماعة طلبا لسنة - كما زعموا!!. ثم يقمون جماعات أخرى لأنفسهم، ويضنون أنه يقمون الصلاة بأفضل مما يقمها غيرهم، ولئن صدقوا، لقد حملوا من الوزر ما أضاع أصل صلاتهم فلا ينفعهم ما ظنوه من الإنكار على غيرهم في ترك بعض السنن أو المندوبات وترى قوما آخرين يعتزلون مساجد المسلمين، ثم يتخذون لأنفسهم مساجد أخرى، ضرارا، وتفريقا للكلمة، وشقا لعصى المسلمين. ثم قال: وكان عن تساهل المسلمين في هذا، وظنهم أن إعادة الجماعة في المسجد جائزة مطلقا إن فشت بدعة منكرة في الجوامع العامة مثل الجامع الأزهر، والمسجد المنسوب للحسين رضي الله عنه وغيرهما بمصر. . ففي الجامع الأزهر مثلا إمام للقبلة القديمة، وآخر للقبلة الجديدة. ونحو ذلك في مسجد الحسين. وقد رأينا فيه أن الشافعية لهم إمام يصلي بهم الفجر في الغلس والحنفيون لهم آخر يصلي بهم الفجر بإسفار ورأينا كثيرا من الحنفيين من علماء وطلاب وغيرهم، ينتظرون إمامهم ليصلي بهم الفجر. ولا يصلون مع إمام الشافعين والصلاة قائمة والجماعة حاضرة، ورأينا فيهما وفي غيرهما جماعات تقام متعدة في وقت واحد وكلهم آثمون. "جامع الترمذي" (1 - 432 هامش). وانظر: "رحلة الصديق إلى البيت العتيق" (ص137) هامش ط الهندية. تنبيه: قيود لمن قال بالمنع: ذهب منعه الجماعة الثانية إلى تفصيل في المنع فنتعوها في حالات دون أخرى ومن هذه القيود: *أن يكون للمسجد إمام راتب. وهو من نصبه من له ولاية نصبه من واقف أو سلطان أو نائبا في جميع الصلوات أو بعضها وذلك بأن يقول: جعلت إمام مسجدا هذا فلانا. انظر: " بلغة السالك لأقرب المسالك " (1). *وقال الشيرازي في " التنبيه" (ص38): وإن كان للمسجد إمام راتب كره لغيره إقامته الجماعة فيه. وقال النووي في "المجموع" (4): "إذا لم يكن للمسجد إمام راتب فلا كراهة في الجماعات الثانية والثالة وأكثر بالإجماع ". - قال الإمام الشافعي في "الأم" (1180): وإنما أكره هذا - أي الجماعة الثانية - في كل مسجد له إمام ومؤذن. فأما مسجد بني على ظهر الطريق أو ناحيته لا يؤذن فيه مؤذن راتب، ولا يكون له إمام معلوم ويصلي فيه المارة ويستظلون، فلا أكره ذلك فيه، لأن ليس فيه المعتى الذي وصفة من تفرق الكلمة، وأن يرغب رجال عن إمامة رجل، فيتخذون إماما غيره ". * قال العيني في "عمدة الفاري" (5): "وحاصل مذهب الشافعي أنه لا يكره أي: الجمع بعد صلاة الإمام الراتب في المسجد المطروق ". وانظر: "روضة الطالبين " (1). "المبسوط" (1). - وأما أدلة المجيزون للجماعة الثانية في مسجد قد صلي فيه مرة *الحديث النبوي: " صلاة الجماعة تفضل عن صلاة الفذ بخمسة وعشرين درجة ". قال الشيخ الألباني: "استدلوا بأطلاق أي أنهم فهموا أن (أل) في كلمة الجماعة للاستغراق، أي ان كل صلاة جماعة في المسجد تفضل صلاة الفذ، ونحن نقول بناء على الأدلة السابقة - ذكرها الشوكاني - إن (أل) هذه ليس للاستغراق، وإنما هي للعهد، أي أن صلاة الجماعة التي شرعها الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحض الناس عليها، وأمر الناس بها، وهدد المتخلفين عنها بحرق بيوتهم، ووصف من تخلف عنها بأنه من المنافقين هي صلاة الجماعة التي تفضل صلاة الفذ وهي الجماعة الأول.: مجلتنا " الأصالة" عدد (3، 14) 15 رجب سنة 1415 ه (ص90 - 101). *الحديث الثاني وهو حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبصر رجلا يصلي وحده فقال: "ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟، فصلى معه رجل ". والاستدلال به ممنوع، فإن هذا الحديث يدل على تكرار الجماعة التي هي جماعة صورية، فإن الذي فرغ من صلاته، إذا صلى مع من لم يصل صلاته، يكون متنفلا ولم يكره أحد من العلماء، وأما الجماعة الحقيقية، بأن الإمام والمقتدي يجمعون، وهم لم يصلوا قبل ذلك فلا يدل الحديث على جوازها. أعلم أن صلاة الجماعة عبادة في وقت معين فلا تقضى (وقضاءها هنا تكرارها) إلا بأمر جديد، والأمر الأول إنما هو متعلق بالإمام الراتب، ويؤيده هدي السلف وحرصهم على الجماعت معهم. والراجح هو ما ذهب إليه المكرهون ولكن مع تحقق العلة المذكورو حيث تفرقة الكلمة أو تقاعد القوم عن الجماعة الأولى ولا يكون ذلك إلا في مسجد له إمام ومؤذن راتبا. وانظر تفصيل ذلك من خلال الأدلة وأقوال العلماء في هذه الرسالة. وانظر: "المبدع (2).

جماعة لما فيه من التقاطع وشق العصا وتفريقاة الجماعة وتشتيت الكلمة. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. انتهى [1ب].

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الأكرامين وصحبه وسلم. اعلم أن ما سأل عنه السائل من صدور ما يصدر عن بعض المبتدعين (¬1) من تفريق جماعة المسلمين في المساجد التي تقام فيها جماعة كبرى مع إمام يؤم بهم، فيأتي بعض من لا رغبة في تكاثر الثواب، وتعاظم الأجر، فيعمل هو وواحد أو اثنين أو أكثر إلى جانب المساجد فيجتمعون، فلذا من عمل الآخرة إلى إشغال الدنيا، أو تثاقلا لطاعة، وزهدا في الأجر لعظيم، ورغوبا عن هدى النبوة، وما استمر عليه العمل في أيام الرسالة، وأيام الخلفاء الراشدين. والحاصل أن مثل هذا لا يحل من وجوه: الأول: أنه لم يسمح في أيام النبوة أن رجلا ترك الجماعة الكبرى في المسجد الذي تقام فيه، وبادر بجماعة قبل قيام الجماعة الكبرى، ولا يمكن أحد أن يمكر ذلك البتة. الوجه الثاني: أنه قد صحة الأدلة كتابا وسنتة في النهي عن التفريق على العموم (¬2) ¬

(¬1) قيل أن أول ظهور تعدد الجماعات في المسجد الواحد كان في القرن السادس الهجري ولم بكن في القرون التي قبله. انظر: "فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك " لشيخ عليش المصري (1 - 94) ط: 1378 ه. (¬2) (منها): قوله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: 153]. (ومنها): قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103]. (ومنها): قوله تعالى: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى: 13]. وأخرج مسلم في صحيحه رقم (60) من حديث عرفجه الأشجعي قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من أتاكم وأمركم جميع على رجلا واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه ".

وهو منه، بل أقبح أنواعه. الوجه الثالث: أنه قد ثبت وصح ان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "هم بأن يحرق على المتخلفين عن الجماعة الكبرى بيوتهم بالنار ". كما ثبت في الصحيحين (¬1) وغيرهما (¬2) من طرق، ومثل هؤلاء الذين سبقوا الجماعة الكبرى بالتجميع، ثم ذهبوا إلى ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (644) ومسلم رقم (251/ 651). (¬2) كمالك (1 رقم 3) واحمد (2) وأبو داود رقم (548، 549) والنسائي (2) وابن ماجه رقم (791). وهو حديث صحيح. قال الحافظ في " الفتح" (2): من فوائد وبركات صلاة الجماعة: 1 - إجابة المؤذن بنية الصلاة في الجماعة. 2 - والتبكير في أول الوقت. 3 - المشي إلى المسجد بالسكينة. 4 - دخول المسجد داعيا. 5 - صلاة التحية عند دخوله كل ذلك بنية الصلاة في الجماعة. 6 - انتظار الجماعة وما فيها من أجر. قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة " أخرجه البخاري رقم (647) من حديث أبي هريرة. 7 - صلاة الملائكة، واستغفارهم له. 8 - شهادتهم له. 9 - إجابة الإقامة. 10 - السلام من الشيطان حين يفر من الإقامة. 11 - الوقوف منتظرا إحرام الإمام، أو الدخول معه في أي هيئة وجده عليها. 12 - إدراك تكبيرة الإحرام كذلك. 13 - تسوية الصفوف، وسد فروجها. 14 - جواب الإمام عند قوله، سمع الله لمن حمده. 15 - الأمن من السهو غالبا وتنبيه الإمام إذا سها بالتسبيح أو الفتح عليه. . 16 - حصول الخشوع، والسلامة عما يلهي غالبا. 17 - تحسين الهيئة غالبا. 18 - احتفاف الملائكة به. 19 - التدريب على تجويدالقراءة وتعليم الأركان والأبعاض. 20 - إظهار شعائر الإسلام. 21 - إرغام الشيطان بالاجتماع على العبادة والتعاون على الطاعة. 22 - السلامة من صفة النفاق، ومن إساءة الظن بأنه ترك الصلاة رأسا. 23 - رد السلام على الإمام. 24 - الانتفاع باجتماعهم على الدعاء والذكر وعود بركة الكامل على الناقص. 25 - قيام نظام الألفة بين الجيران وحصول تعاهدهم في أوقات الصلوات. فهذه خمس وعشرون خصلة ورد في كلا منها أمر أو ترغيب يخصه وبقي منها أمران يختصان بالجهرية وهما الانصات عند قراءة الإمام والاستماع لها والتأمين عند تأمينه ليوافق تأمين الملائكة. *قال السيد مهدي الكلاني: "دل هذا الحديث بعبارة النص على أن الجماعة الأولى هي التي ندب إليها الشارع، فلو كانت الثانية والثالثةإلى غير ذلك مشروعة لم يهم بإحراق بيوت من تخلف عن الجماعة الأولى لاحتمال إدراكه الثانية أو الثالثة وهلم جرا، فثبت به أن وجوب الإتيان إلى الجماعة الأولى يستلزم كراهة الثانية في المسجد الواحد حتما بتة. .. ". انظر التعليق على "الحجة على أهل المدينة" (1/ 81). "إعلاء السنن" (4/ 246 - 247).

بيوتهم وخرجوا من المسجد أشد تفريقا للمسلمين، وإعراضا عن جماعتهم من المتخلفين عن المسجد الذين يصلون جماعة من غير حدود، وأعظم مواحشة بين المؤمنين وإيغالا لصدورهم، ومخالفة بين قلوبهم. الوجه الرابع: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " أنكر على من لم يدخل الجماعة معتذرا بأنه قد صلى في رحله، ثم أمر بالدخول مع جماعة من المسلمين كما ثبت في الحديث يزيد بن الأسود (¬1)، وأبي ذر، وعبادة لئلا يتظهر بمخالفة المسلمين في ¬

(¬1) أخرجه أحمد (4 - 161) والترمذي رقم (219) والنسائي (2 - 113 رقم 858) وابو داود رقم (575) وابن حبان رقم (1565) والبيهقي في "السنن الكبرى " (2، 301) والحاكم في "المستدرك" (1). وهو حديث صحيح.

عدم الدخول في جماعتهم. وهذا الذي قام قبل قيام الجماعة الكبرى في المسجد، ثم صلى هو وجماعة هو أشد تظاهرا بمخالفة المسلمين، وأعظم ابتداعا. الوجه الخامس: قد ثبت النهي عن الخروج من المسجد بعد النداء (¬1) وذلك لأنها مخالفة للمسلمين وتفريقا لجماعتهم، وإعراضا عن الطاعة. والذي يسابق الجماعة، واعتزل جميع المسلمين أشد مخالفة، وأعظم تظهرا بما يخالف ما هو من أعظم مقاصد الشارع. الوجه السادس: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر بتسوية الصفوف، ويقول: "استووا ولا تختلفوا فتختلف قلبوكم ". وهو في الصحيح (¬2)، فجعل الاختلاف في التساوي في الصف علة لاختلاف القلوب، وهذا الذي قام يصلي قبل قيام جماعة الكبرى يتسبب عن فعله من اختلاف القلوب زيادة على ما يسبب عن الاختلاف في الاصطفاف. الوجه السابع: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - صح عنه النهي للمنتظرين لصلاة أن يقوم قبل أن يروه، وهو في. ...................... ¬

(¬1) أخرج مسلم في صحيحه رقم (655) وأبو داود رقم (536) والترمذي رقم (204) وقال حديث حسن صحيح. والنسائي رقم (685) وابن ماجه رقم (733) وهو حديث صحيح. عن أبي الشعفاء قال: كنا مع أبي هريرة في المسجد فخرج رجل حين أذن المؤذن للعصر، فقال أبو هريرة، أما هذا فقد عصى أبا القاسم. انظر: "فتح الباري" (2) باب رقم (24). (¬2) أخرجه البخاري رقم (717) ومسلم رقم (436) من حديث نعمان بن بشير. وأخرج البخاري في صحيحه رقم (723) ومسلم رقم (433) ومن حديث أنس أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة". وأخرج مسلم في صحيحه رقم (664) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "كان رسول الله يتحلل الصف من ناحية إلى ناحية، يمسح صدورنا ومناكبنا ويقول: لا تختلفوا فتختلف قلوبكم ". وهو حديث صحيح.

الصحيحين (¬1) وغيرهما.؟ فكيف بمن قام وانفرد واحد أو أكثر بجمعة مستقلة!. الوجه الثامن: أنه قد صح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "أما يخشى إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله راسه برأس حمار، أو يحول الله صورته صورة حمار "وهو في الصحيحين (¬2) وغيرهما (¬3). وسبب ذلك ما فيه من المخالفة للإمامة فكيف من اعتزال جماعة من المسلمين وصلى في مسجدهم [2أ] منفردا أو جماعة المسلمين!. الوجه التاسع: أنه قد ثبت: " أن صلاة الرجل مع الرجل أذكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أذكى من صلاته مع الرجل " (¬4) ثم كذلك ما كثرت الجماعة ¬

(¬1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (637) وطرفاه رقم (638، 909) ومسلم في صحيحه (604) من حديث عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني ". (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (691) ومسلم رقم (427). (¬3) كأحمد (2) وابو داود رقم (623) والترمذي رقم (582) والنسائي (2). قال القرطبي في "المفهم " (2): ومقصود هذا الحديث الوعيد بمسخ الصورة الظاهرة أو الباطنة على مسابقة الإمام بالرفع، وهذا يدل على أن الرفع من الركوع والسجود مقصود لنفسه وأنه ركن مستقل كالركوع والسجود. وقال الحافظ في "الفتح" (2): وظاهر الحديث يقتضي تحريم الرفع قبل الإمام لكونه توعد عليه بالمسخ وهو أشد العقبات، وبذلك حزم النووي في شرح المهذب، ومع القول بالتحريم فالجمهور على أن فاعله يأثم وتجزئ صلاته. (¬4) أخرجه أبو داود رقم (554) وفي النسائي (2 رقم 843) وابن حبان في صحيحه رقم (2056) والطيالسي رقم (554) والدارمي (1) وابن خزيمة (2 رقم 1477) والحاكم (1 - 248) والبيهقي في "السنن الكبرى" (3، 67، 68) وأحمد (5) وعبد الرزاق في " المصنف (1 رقم2004) من طرق، وقال ابن حجر في"التلخيص" (2 رقم 554): "وصححه ابن السكن والعقيلي والحاكم وذكر الاختلاف فيه وبسط ذلك، وقال النووي: أشاره على بن المديني على صحته. وعبد الله ابن ابي بصير قيل: لا يعرف لأنه ما روي عنه غير أبي إسحاق السبيعي. قلت: لم يوثقه إلا ابن حبان (5) والعجلي (ص251) لكن أخرجه الحاكم من رواية العيزار بن حريس عنه فارتفعت جهالة عينه، وأورد له الحاكم شاهدا من حديث قباث بن هشيم وفي إسناد نظر. .. ". والخلاصة: أن الحديث حسن

فهذا الذي صلى وهو ومن معه قبل قيام الجماعة الكبرى قد أحرم نفسه، وأحرم من معه الأجر الأعظم، والثواب الأكثر معا ما عليه من إثم الابتداع، وإثم تفريق جماعة المسلمين. الوجه العاشر: أنه قد ثبت عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إن منتظر الصلاة في صلاة " (¬1) فهذا الذي قام يصلي بجماعة أو مفردا قبل قيام الجماعة الكبرى قد فات الأجر العظيم هو ومن خدعه بالقيام معه، فإنه كانوا في صلاة بالانتظار لقيام الجماعة، فأخرجه هذا المبتدع، وأحرم نفسه الأجر العظيم وصار هو وهم بما فعلوه من التفريق مبتدعين، فبينما هم في طاعة حكم الصلاة في الأجر إذا صاروا في بدعة استحقوا بسيئها الوزر. الوجه الحادي عشر: أنه قد صح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "النهي عن الاختلاف عن الأئمة، وأن ذلك سبب اختلاف الصور والقلوب ". كما ثبت في الصحيحين (¬2). ............................... ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (647) ومسلم رقم (649) وأبو داود رقم (559) والترمذي رقم (603) وابن ماجه رقم (876) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسا وعشرين ضعفا وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه به خطيئته، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه، اللهم صلي عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة (¬2) أخرج البخاري رقم (717) ومسلم في صحيحه رقم (436) من حديث النعمان بن بشير النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم ".

وغيرهما. ولا شك ولا ريب أن هذا الاعتذال عن الجماعة الكبرى قبل قيامها له مدخل في التأثير في اختلاف القلوب، وإغار الصدور، والمواحشة بين المسلمين زيادة على ما في تلك المخالفة المذكورة في الحديث. الوجه الثاني عشر: أنه قد ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "أنه نهى الذي ركع قبل أن يصل في الصف، وقال له: زادك الله حرصا ولا تعد (¬1) ووجه ذلك ما فيه نوع من التخالف الذي ثبت النهي عنه. ولا شك أن الانفراد بجماعة مستقلة قبل قيام الجماعة الكبرى في ذلك المسجد فيه من الختلاف التفريق ما لا يشك فيه ومن المواحشة بين جماعة المسلمين، وتكدير خواطرهم، وتنكيد صدورهم ما لا يخفي على الفطن. والحاصل أن جمع القلوب، والتأليف بين المسلمين وقطع ذرائع التفريق، والتخالف مقصد من مقاصد الشرع عظيم، وأصل من أصول هذا الدين كبير. يعرف ذلك من يعرف ما كان عليه الهدي النبوي، وما تطابقت عليه أدلة القرآن والسنة، فقد كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لا يرى مدخلا من مداخل الاختلاف، ولا بابا من الابواب الموصلة غل التفريق، والتخالف إلا قطع ذريعته وهتك وسيلته، وسد ". ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (783) وابو داود في "السنن" (684) عن أبي بكرة رضي الله عنه انه انتهى إلى النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو راكع فركع قبل أن يصل على الصف فقال له النبي زادك الله حرصا ولا تعد".

بابه، وردم مدخله. لا يشك في هذا شاك، ولا يمتري في ممتر حتى كان ذلك ديدنه وهجيراه في جميع شؤونه. انظر وصح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من أنه خرج على أصحابه - رضي الله عنهم - وهم يختلفون في القرآن فقال: " اقرؤا في كل حسن " (¬1) وأرشدهم في موطن أخر أنهم يقرؤون ما دامت قلبوهم مؤتلفة غير مختلفة (¬2) وبالجملة لو تعرضنا لجميع الأدلة الدالة على أن الاختلاف من أعظم المنكرات في جميع الحالات، وعلى كل التقديرات لطال زيل هذا الجواب إلى غاية، وبعد الوصول فيه إلى نهاية، ولكن اقتصرنا ها هنا على ما ذكر وما ورد من قطع ذرائع الاختلاف في خصوص الصلاة. الوجه الثالث عشر: ما ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "أنه خرج على أصحابه فرآهم حلقا متفرقين فقال: ما لي أراكم عزين (¬3) "أي متفرقين مستخلفين بكثر الراء وتخفيفها جمع عزة هي الجماعة المتفرقة. أخرجه مسلم (¬4) وأحمد (¬5) ¬

(¬1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (5062) عن عبد الله أنه سمع رجلا يقرأ آية، سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلافها فأخذت بيده، فانطلقت به إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " كلا كما محسن فاقرآ " أكبر علمي قال: " فإن من كان قبلكم اختلفوا فأهلكهم ". (¬2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (5060) وأطرفه رقم (5061، 7364، 7365) ومسلم رقم (2667). عن جندب بن عبد الله عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " اقرؤا القرآن ما ائتلفت قلبوكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه ". (¬3) (عزين) جمع عزة، وهي الحركة المجتمعة من الناس، وأصلها عزوة فحذفت الواو وجمعت جمع السلامة على غير قياس، كتبين وبرين في جمع تبة وبرة. "النهاية " (3). (¬4) في صحيحه رقم (119). (¬5) في "المسند" (5).

وأبو داود (¬1)، والنسائي (¬2)، وابن ماجه (¬3). ففي [2ب] هذا الحديث ما يزجر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ومن كان له أدنى بصيرة، وأقل فهم للحق ورجوع إليه، وإقلاع عن الباطل فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنكر عليهم مجرد التفريق في المسجد، ووقوف كل طائفة وحدها منفردة عن الأخرى، مع أنهم سيجمعون في صلاة واحدة، وعلى إمام واحد، فكيف لو كان هذا التفريق بأن تصلي كل طائفة وحدها معتزلة عن الجماعة الكبرى! فإن هذا أعظم شأنا لاختلاف القلوب، والتفرق في الدين، والمواحشة بين المؤمنين، لا يشك في ذلك من له أدنى معرفة للمقاصد الشرعية، وأقل بصيرة تفهم بها مدلولات الكلمات النبوية. وأما من طبع على قلبه يطابع التعصب، وعلى صدره الرين فهو بعيد عن الانقياد للحق، والإذعان للصواب. وهذا الاستفهام منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - هو استفهام استنكار وتوبيخ وتقريع، وهو يحمل النهي والمتبالغ عن الكون عن تلك الحالة التي رآهم عليها. هذا جواب السائل في مجرد التجميع من البعض قبل قيام الجماعة الكبرى في ذلك المسجد. أما لو كان الانفراد بالتجميع حال قيام الجماعة (¬4) الكبرى فهذا أشد منكر ¬

(¬1) في " السنن " رقم (129). (¬2) في " السنن " (3/ 4) مختصرا. (¬3) في " السنن " رقم (1045). كلهم من حديث جابر بن سمرة. وهو حديث صحيح. قال القرطبي في " المفهم " (2/ 62): " مالي أراكم عزين " جماعات في تفرقة وأمرهم بالائتلاف، والاجتماع، والاصطفاف كصفوف الملائكة وهذا يدل على استحباب تسوية الصفوف وقد أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: إنه من تمام الصلاة من حديث أنس وهو حديث صحيح أخرجه البخاري رقم (719) ومسلم رقم (433). (¬4) انظر: حاشية اين عابدين (2/ 37). بتحقيقنا.

وأعظم ابتداعا، وأكثر إثما على من بلغه ذلك إن رآه أن ينزل بهم صودا من العنوفة، وطرقا من التأديب الشرعي. وأما سأل عنه السائل - أرشده الله - عن قيام جماعة من الناس يصلون العصر جماعة بعد الفراغ من صلاة الجمعة في المسجد الذي أقيمت فيه الجمعة، فهذا فعل للصلاة قبل دخول وقتها. والمقرر على العامة بدعائهم إلى القيام إلى الصلاة في ذلك الوقت يستحق العقوبة البالغة، وهذا الأمر منكر مجمع عليه بين جميع المسلمين، وحرام لا يخالف فيه أحد من هذه الأوجه، فإنه إنما سوغ الجمع تقديما للمسافر (¬1) على ما فيه من ضعف أدلته واحتمالها. والحق تحقيق الصواب الذي صح في صيغ المسافر بموضع التأخير لا جمع التقديم. وأما المقيم فلم يقل بذلك أحد، ولا أجازه مجيز إلا إذا كان له عذر من مرض أو نحوه، على ما في ذلك من التفاصيل التي لا يتسع المقام لبسطها وأما قيام جماعة على هذه الصفة في جامع من جوامع المسلمين بعد الفراغ من الصلاة الأولى، سواء كانت صفة أو غيرها لغير معذور بين بالأعذار الشرعية فلم يقبل به أحد. وقد جمعنا في هذا رسالة مطولة في أيام قديمة دفعنا بها قول من قال بجواز الجمع مستدلا على ذلك بجمعه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من غير مرض، ولا سفر (¬2). وأوضحنا رواة الحديث فسروه بالحمع الصوري (¬3) لا بهذا الجمع الذي فهمه من لم يرسخ قدمه في علم. ¬

(¬1) أخرج البخاري رقم (1112) ومسلم رقم (46/ 704) وأبو عوانة (2/ 351) والبيهقي في " السنن الكبرى " (3/ 161 - 162) وأحمد في " المسند " (3/ 247، 265) والنسائي (1/ 284رقم 586). عن أنس - رضي الله عنه - إذا ارتحل في سفره قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب ". الحديث فيه دليل على جواز الجمع بين الصلاتين للمسافر تأخيرا ودلالة على أنه تلا يجمع بينهما تقديما ... وقد اختلف العلماء في ذلك، فذهبت الهادوية، وهو قول ابن عباس وابن عمر وجماعة من الصحابة، ويروى عن مالك، وأحمد، والشافعي إلى جواز الجمع للمسافر تقديما وتأخيرا عملا بهذا الحديث في التأخير وبما يأتي في التقديم. عن معاذ - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عزوة تبوك، فكان يصلي الظهر والعصر معا، والمغرب والعشاء جميعا ". وهو حديث صحيح أخرجه مسلم رقم (553). قال الأمير الصنعاني في " السبل " (3/ 118) إلا أن اللفظ محتمل لجمع التأخير لا غير أوله ولجمع التقديم، ولكن. . أخرجه الترمذي رقم (553) وهو حديث صحيح. عن معاذ قال: " كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى أن يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعا. وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس عجل العصر إلى الظهر، وصلى الظهر والعصر جميعا ". فهو كالتفصيل لمجمل رواية مسلم. ثم قال: إذا عرفت هذا فجمع التقديم في ثبوت روايته مقال إلا رواية " المستخرج " لأبي نعيم على صحيح مسلم: إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعا، ثم ارتحل. وهو صحيح. أنظر " الإرواء " (3/ 33) فإنه لا مقال فيها. وقد قال ابن حزم في " المحلى " (3/ 173) إلى أنه يجوز جمع التأخير لثبوت الرواية به لا جمع تقديم، وهو قول النخعي، ورواية عن مالك وأحمد ثم أختلف في الأفضل للمسافر هل الجمع أو التوقيت؟ ". فقالت الشافعية ترك الجمع أفضل، وقال مالك: إنه مكروه وقيل يختص بمن له عذر. قال ابن القيم في " زاد المعاد " (1/ 481) لم يكن - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجمع راتبا في سفره كما يفعله كثير من الناس، ولا يجمع حال نزوله أيضا، وإنما كان يجمع إذا جد به السير، وإذا سار عقيب الصلاة كما في أحاديث تبوك. وأما جمعه وهو نازل غير مسافر فلم ينقل ذلك عنه إلا بعرفة ومزدلفة لأجل اتصال الوقوف كما قال الشافعي وشيخنا، ولهذا خصه أبو حنيفة بعرفه، ومن تمام النسك. وأنه سبب. وقال أحمد ومالك والشافعي: إن سبب الجمع بعرفة ومزدلفة السفر، وهذا كله في الجمع في السفر. (¬2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه رقم (50/ 705) عن ابن عباس قال: " أنه جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر ". قيل لابن عباس: ما أراد من ذلك قال: أراد أن لا يحرج أمته ". (¬3) قال القرطبي في " المفهم " (2/ 346 - 347): أن هذا الجمع يمكن أن يكون المراد به بأخير الأولى إلى أن يفرغ منها في آخر وقتها، ثم بدأ بالثانية في أول وقتها، وإلى هذا يشير تأويل أبي الشعثاء في الحديث الذي. أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1174) ومسلم عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال: قلت: يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء، قال: وأنا أظنه ". وأخرج البخاري في صحيحه رقم (543) ومسلم رقم (65) من حديث ابن عباس وفيه: " صليت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة ثمانيا جمعا وسبعا جمعا. أخر الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء ". ويدل على صحة هذا التأويل. أنه قد يفي فيه الأعذار المبيحة للجمع التي هي: الخوف، والسفر والمطر وإخراج الصلاة عن وقتها المحدود لها بغير عذر لا يجوز باتفاق.

الشريعة. على أنه لم يعمل به أحد من علماء الشريعة كما حكاه الترمذي في آخر سننه (¬1) فقال: إن صيغ ما في كتابه معمول به إلا حديثين فيه أحدهما (¬2). وقال الإمام المهدي في البحر (¬3) مثله ويحرم الجمع لغير عذر قيل إجماعا (¬4) ¬

(¬1) (5/ 736كتاب العلل رقم 51). (¬2) غير واضح في المخطوط. وإليك نص كلام الترمذي " جميع ما في هذا الكتاب من هذا الحديث فهو معمول به، وقد أخذ به بعض أهل العلم ما خلا حديثين: حديث ابن عباس أن النبي وإليك نص كلام الترمذي " جميع ما في هذا الكتاب من هذا الحديث فهو معمول به، وقد أخذ به بعض أهل العلم ما خلا حديثين: حديث ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين الظهر والعصر بالمدينة، والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر ولا مطر، وحديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إذا شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد الرابعة فاقتلوه " وقد بينا علة الحديثين جميعا في الكتاب. (¬3) (1/ 169). (¬4) انظر " البحر الزخار " (1/ 169). فائدة: قال القرطبي في " المفهم " (2/ 343): الجمع: إنما هو إخراج إحدى الصلاتين المشتركتين عن وقت جوازها، وإيقاعها في وقت الأخرى مضمومة إليها. وهو إنما يكون في الصلوات المشتركة الأوقات، وهي الظهر، والعصر والمغرب والعشاء، ولا يكون في غيرها بالإجماع. ثم الجمع متفق عليه، ومختلف فيه. فالأول: هو الجمع بعرفة والمزدلفة. والمختلف فيه: هو الجمع في السفر والمطر، والمرض. فأما الجمع فإليه ذهب جماعة السلف وفقهاء المحدثين، والشافعي وهو مشهور مذهب مالك، وهل ذلك لمجرد السفر؟ أو لا بد معه من جد السير قولان: بالأول: قال جمهور السلف، وعلماء الحجاز وفقهاء المحدثين، وأهل الظاهر. وبالثاني: قال مالك والليث، والثوري والأوزعي وأبي حنيفة وحده الجمع للمسافر وكرهه الحسن وابن سيرين، وروي عن مالك كراهيته وروى عنه، أنه كرهه للرجال دون النساء وأحاديث ابن عمر، وأنس ومعاذ - تقدم ذكرها - وهي حجة على أبي حنيفة لكن أبو حنيفة تأولها على أن الصلاة الأولى وقعت في آخر وقتها، والثانية وقعت في أول وقتها، وهذا يجوز باتفاق. وقد جاء في حديث معاذ في كتاب أبي داود أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا، ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء. وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب وهذا حجة ظاهرة للجمهور في الرد على أبي حنيفة. وأما الجمع لعذر المطر: فقال به مالك والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وجمهور السلف: بين المغرب العشاء، وأما بين الظهر والعصر: فقال بالجمع بينهما في المطر الوابل الشافعي، وأبو ثور، والطبري، وأبو حنيفة، وأصحابه وأهل الظاهر. ولليث، من الجمع في صلاتي الليل والنهار. وأما الجمع لعذر المرض فقال به مالك. إذ خاف الإغماء على عقله، وأبي نافع الجمع لذلك، وقال لا يجمع قبل الوقت، فمن أغمي عليه حتى ذهب وقته لم يجب عليه قضاؤه ومنعه أيضًا أشهب، والشافعي. قال الشوكاني في " السيل الجرار " (1/ 185): " ولقد ابتلي زمننا هذا من بين الأزمنة وديارنا هذه من بين ديار الأرض بقوم جهلوا الشرع، شاركوا في بفض فروع الفقه، فوسعوا دائرة الأوقات، وسوغوا للعامة أن يصلوا في غير أوقات الصلاة، فظنوا أن فعل الصلاة في غير أوقاتها شعبة من شعب التشيع وخصلة من خصال المحبة لأهل البيت فضلوا وأضلوا. وأهل البيت - رحمهم الله براء من هذه المقالة مصونون عن القول بشيء منها ولقد صارت الجماعات الآن تقام في جوامع صنعاء للعصر بعد الفراغ من صلاة الظهر والعشاء في وقت المغرب وصار غالب العوام لا يصلي الظهر والعصر إلا عند اصفرار الشمس، فيا لله وللمسلمين من هذه الفواقر في الدين ". اهـ

وفي هذا المقدار لمن له هداية. والله ولي التوفيق. تم في الأصل. كتبه المجيب محمد بن علي الشوكاني - غفر الله له - انتهى [3أ].

جواب عن الذكر في المسجد

جواب عن الذكر في المسجد تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: (جواب عن الذكر في المسجد). 2 - موضوع الرسالة: في فقه الصلاة. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وصحبه، وبعد: فإنها وصلت إلي منظومة من علماء مدينة زبيد تتضمن السؤال عن الذكر في المسجد. ... 4 - آخر الرسالة:. .. وسماء الأرض والجبال للذكر لا يكون إلا عن الجهر به كمل هذا من تحرير المجيب، وكان التحرير أول يوم من سنة (1207هـ) بعناية المجيب قرة عين المسلمين عز الدين محمد بن علي الشوكاني حفظه الله، ومكن لبسطته، ورفع درجته بحوله وقوته. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 4 صفحات. 7 - المسطر: الأولى: 36 سطرا. الثانية: 29 سطرا. الثالثة: 28 سطرا. الرابعة: 22 سطر. 8 - عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الأول من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وصحبه، وبعد: فإنها وصلت إلي منظومة من علماء مدينة زبيد (¬1) تتضمن السؤال عن الذكر في المسجد، والتلميح إلى بعض علمائها بأنه منع من ذلك، ومنع من الصلاة بالمساجد في الليل، ومن صلاة العيد في المسجد فأجبت بما لفظه (¬2): نظام هو الدر الثمين منضدا ... يسائل عمن أم للذكر مسجدا ولا شك أن الذكر في كل موطن ... على كل حال شرعه قد تأكدا به جاءت الأخبار نصا وظاهرا ... وجاء به نص الكتاب مرددا وما جاء للتعليم فيما علمته ... خصوص ولا الإطلاق منها تقيدا إذا لم يكن فيه تشوش خاطر ... لمن صار في محرابه متعبدا ولا بالغا حد الصراخ كأنه ... نداء أصم ليس يعلم بالندا ولا كان مصحوبا مشوبا ببدعة ... يصير بها لحط الشريعة أرمدا ومن قال ما جاز اجتماع بمسجد ... لذكر فقل هات الدليل المشيدا فقد جاء عن خير البرية فعله ... وسل مرسلا إن ثبت عنه ومسندا ومن قوله قد صح في غير دفتر ... وقام إليه في المواطن مرشدا وأي نزاع في هدى عن محمد ... أتانا فدت نفسي ومالي محمدا ¬

(¬1) زبيد: واد مشهور في تهامة ثم البحر الأحمر ومآتيه من جبال العدين وأودية بعدان والأودية النازلة من شرق وصاب. وهو من أخصب وديان اليمن تربة ونماء وتبلغ مساحته الزراعية 25 ألف هكتار. وقد أطلق اسم الوادي على مدينة زبيد الواقعة في منتصفه وكانت تعرف قديما باسم (الحصيب) نسبة إلى الحصيب بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن حيدان بن يقطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميع بن سبا. انظر: " معجم البلدان والقبائل اليمنية " (ص 286 - 288). (¬2) انظر هذه الأبيات في ديوان الشوكاني (ص 159 - 160).

وإن قال وصف الجهر أوجب كونه ... ابتداعا عنك ادعاء مجردا وقد جاء عن جمع من الصحب أنه ... بقول رسول الله والفعل شيدا وكان به عرفان تتميم فرضه ... كذلك قال الحبر قولا مجودا وأقبح شيء نهي عبد مقرب ... أراد بجوف الليل أن يتهجدا يقوم إلى المحراب والناس نوم ... ليركع للخلاق طورا ويسجدا فذا باتفاق للخلائق منكر ... وعن فعله رب البرية هددا ومنع صلاة العيد من غير مقتض ... قبيح إذا أم البرية مسجدا وقد كان خير الرسل إلا لعاذر ... يروح إلى نحو المصلى على المدى وغير مناف للجواز فضيلة ... لجنابه عند الهداة أولي الهدى أخرج البخاري (¬1) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله ¬

(¬1) في صحيحه رقم (7405). قلت: وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (2675) والترمذي رقم (3603) وابن ماجه رقم (3822) وأحمد (3). قال القرطبي في " المفهم " (7/ 5 - 7) قوله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي ". قيل: معناه ظن الإجابة عند الدعاء، وظن المغفرة عند الاستغفار، ظن قبول الأعمال عند فعلها على شروطها تمسكا بصادق وعده وجزيل فضله ويؤيده قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ". وكذلك ينبغي للتائب والمستغفر، وللعامل أن يجتهد في القيام بما عليه من ذلك، موقنا أن الله تعالى يقبل عمله، ويغفر ذنبه فإن الله تعالى قد وعد بقبول التوبة الصادقة، والأعمال الصالحة، فأما لو عمل هذه الأعمال وهو يعتقد، أو يظن أن الله تعالى لا يقبلها، وأنها لا تنفعه، فذلك هو القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله وهو من أعظم الكبائر، ومن مات على ذلك وصل إلى ما ظن منه. فأما ظن المغفرة والرحمة مع الإصرار على المعصية، فذلك محض الجهل، والغرة وهو يجر إلى مذهب المرجئة. .. والظن: تغليب أحد المجوزين بسبب يقتضي التغليب، فلو خلا عن السبب المغلب لم يكن ظنا بل غرة وتمنيا. " وأنا معه حين يذكرني " أصل الذكر: التنبه بالقلب للمذكور، والتيقظ له، ومنه قوله: (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) [البقرة: 40] أي تذكروها وهو في القرآن كثير، وسمي القول باللسان ذكرا لأنه دلالة على الذكر القلبي، غير أنه قد كثر اسم الذكر على القول اللساني حتى صار هو السابق للفهم وأصل مع الحضور والمشاهدة كما قال تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) [الحديد: 4] أي مطلع عليكم ومحيط بكم وقد ينجر مع ذلك الحفظ والنصر، كما قيل في قوله تعالى: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) أي أحفظكما ممن يريد كيدكما. وإذا تقرر هذا فيمكن أن يكون معني: " وأنا معه إذا ذكرني " أن ذكر الله في نسفه مفرغة مما سواه رفع الله عن قلبه الغفلات، والموانع، وصار كأنه يرى الله ويشاهده وهي: الحالة العليا التي هي: أن تذكر الله كأنك تراه فإن لم تصل إلى هذه الحالة، فلا أقل من أن يذكره وهو عالم بأن الله يسمعه ويراه، ومن كان هكذا كان الله له أنيسا إذا ناجاه، ومجيبا إذا دعاه وحافظا له من كل ما يتوقعه ويخشاه، ورفيقا به يوم يتوفاه، ومحلا له من الفردوس أعلاه وقوله: " فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي " النفس: اسم مشترك يطلق على نفس الحيوان، وهي المتوفاة بالموت والنوم، ويطلق ويراد به الدم، الله تعالى منزه عن ذينك المعنيين، ويطلق ويراد به ذات الشيء وحقيقته كما يقال: رأيت زيدا نفسه عينه أي ذاته، ويطلق ويراد به الغيب كما في قوله تعالى: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) [المائدة: 116] أي: غيبك.

وسلم -: " أنا عند ظن عبدي بي [1]، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسي ذكرته في نفسي، وأن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ". قال الأسيوطي: والذكر في ملأ لا يكون إلا على جهر. وأخرج مسلم (¬1) والترمذي (¬2) عن أبي هريرة أيضا، وأبي سعيد قالا: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " ما من قوم يذكرون الله إلا حفت بهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، نزلت عليهم السكينة، ¬

(¬1) في صحيحه رقم (2700). (¬2) في " السنن " رقم (2945). قلت: وأخرجه اين ماجه رقم (225). وهو حديث صحيح.

وذكرهم الله فيمن عنده ". وأخرج مسلم (¬1) والحاكم (¬2)، واللفظ له عن أبي هريرة أيضًا قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إن لله ملائكة سيارة، وفضلاء يلتمسون مجالس الذكر في الأرض، فإذا أتوا على مجلس ذكر حف بعضهم بعضا بأجنحتهم إلى السماء فيقول الله: من أين جئتم؟ فيقول: ربنا جئنا من عند عبادك يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويهللونك ويسألونك الجنة. فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا يارب. فيقول: فكيف لو رأوها!؟ فيقول: ومم يستجيرونني وهو أعلم؟ فيقول: من النار، فيقول: هل رأوها؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوها! ثم يقول: اشهدوا أني قد غفرت لهم وأعطيتهم ما سألوني، وأجرتهم مما استجاروني فيقول: ربنا إن فيهم عبدا خطاء جلس إليهم وليس معهم فيقول: وهو أيضًا قد غفرت له هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ". وأخرجه البخاري (¬3) أيضا. وأخرج مسلم (¬4) والترمذي (¬5) من حديث معاوية بن أبي سفيان: " أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - خرج على حلقة من أصحابه فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده فقال: إنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة ". وأخرج الشيخان (¬6) من حديث ابن عباس قال: إن رفع الصوت لخير ذكر حين ¬

(¬1) في صحيحه رقم (2689). (¬2) في " المستدرك " (1/ 495). (¬3) في صحيحه رقم (6408). (¬4) في صحيحه رقم (2701). (¬5) في " السنن " (3379). وقال: حديث حسن غريب. قلت: وأخرجه النسائي (8/ 249). وهو حديث صحيح. (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (841) ومسلم في صحيحه رقم (583) واللفظ للبخاري. اختلف العلماء رحمهم الله في مشروعية الجهر بالذكر التكبير وغيره عقب الصلوات الخمس على قولين: القول الأول: يشرع الجهر بالذكر، التكبير وغيره عقب السلام في الصلوات المفروضة وهو قول الحنابلة والظاهرية وبعض الحنفية إذا لم يشوش على غيره. حاشية ابن عابدين (1/ 530، 660). قال في " كشاف القناع " (1/ 427) وقال الشيخ - ابن تيمية: ويستحب الجهر بالتسبيح والتحميد والتكبير عقب كل صلاة. وقال في " المبدع " (1) ويسحب الجهر بذلك. وقال ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (22): وفي الصحيح أن رفع الصوت بالتكبير عقب انصراف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنهم كانوا يعرفون انقضاء صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك. وقال ابن حزم في " المحلى " (4): ورفع الصوت بالتكبير إثر كل صلاة حسن. واستدلوا بما يأتي: حديث ابن عباس وقد تقدم وهو حديث صحيح. ما ورد في الحديث القدسي: " وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم " وقد تقدم، وهو حديث صحيح. القول الثاني: وهو الراجح. والله أعلم. لا يشرع الجهر بالذكر عقب الصلاة. وهو قول المالكية والشافعية وبعض الحنفية والحنابلة. انظر: " المبدع " (1). جاء في كتاب " كفاية الطالب الرباني " (2) فائدة: قال القرافي كره مالك - رضي الله عنه - وجماعة من العلماء لأئمة المساجد والجماعات: الدعاء عقب الصلاة المكتوبة جهرا للحاضرين. قال النووي في" المجموع " (3): إن الذكر والدعاء بعد الصلاة يستحب أن يسر بهما إلا أن يكون إماما يريد تعليم فيجهر ليتعلموا فإذا تعلموا أو كانوا عالمين أسره. وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم (5): وحمل الشافعي رحمه الله هذا الحديث على أنه جهر وقتا حتى يعلمهم صفة الذكر لا أنهم جهورا دائما قال فاختار للإمام والمأموم أن يذكر الله تعالى بعد الفراغ من الصلاة ويخفيان ذلك إلا أن يكون إماما يريد أن يتعلم منه فيجهر حتى يعلم أنه قد تعلم منه ثم يسير. وانظر: " فتح الباري " (2/ 326) و" الأم " للشافعي (1) واستدلوا بما يأتي. حمل الحديث - ابن عباس - على التعليم. قولة تعالى: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) [الإسراء: 110]. خوف الرياء والعجب. وانظر: " المجموع " (3). " الأم " للشافعي (1/ 150).

ينصرف الناس من المكتوبة. كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -

قال: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته (¬1). وأخرج البزار (¬2) والحاكم في المستدرك (¬3)، وقال: صحيح عن جابر قال: خرج علينا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقال: " يا أيها الناس، إن لله سرايا من الملائكة تحل وتقف على مجالس الذكر، في الأرض فارتعوا في رياض الجنة، قالوا: وأين رياض الجنة؟ قال: مجالس الذكر ". وأخرج البيهقي (¬4) عن أنس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - " إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا: قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر ". وأخرج ............................. ¬

(¬1) قال القاضي عياض في " إكمال المعلم بفوائد مسلم " (2/ 535) والظاهر أنه لم يكن يحضر الجماعة وكان يعلمها بمشاهدة ذلك ولأنه كان صغيرا ممن لا يواظب على صلاة الجماعة، ولا يلزمه ذلك. قال الحافظ في " الفتح " (2): " وقال غيره: يحتمل أن يكون حاضرا في أواخر الصفوف فكان لا يعرف انقضاءها بالتسليم، وإنما كان يعرف بالتكبير ". (¬2) عزاه إليه الهيثمي في " المجمع " (10/ 77). (¬3) في " المستدرك " (1/ 494) وصححه الحاكم وتعقبه الذهبي بقوله: (عمر ضعيف). قال الهيثمي في " المجمع " (10/ 77): " رواه أبو يعلى، والبزار وفيه عمر بن عبد الله مولى عفرة وقد وثقه غير واحد. وضعفه جماعة، وبقية رجال الصحيح ". وهو حديث ضعيف. (¬4) في " شعب الإيمان " رقم (529).

البيهقي (¬1) عن عبد اللهبن مغفل قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " ما من قوم يجتمعون يذكرون الله إلا ناداهم مناد من السماء: قوموا لكم، فقد بدلت سيئاتكم حسنات ". وأخرج البيهقي في الشعب (¬2) عن أبي الجوزاء قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " أكثروا ذكر الله حتى يقول المنافقون [2] أنكم مراؤون " هذا مرسل. أخرج الحاكم (¬3)، صححه، والبيهقي في الشعب (¬4) عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " أكثر ذكر الله حتى يقولوا مجنون ". وأخرج بقي بن مخلد (¬5) عن عبد الله بن عمرو أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مر بمجلسين يدعون الله ويرغبون إليه، والآخر يعلمون العلم. فقال: " كل المجلسين خير، وأحدهما أفضل من الآخر ". وأخرج البيهقي (¬6) عن أبي سعيد الخدري عن النبي ¬

(¬1) في " شعب الإيمان " رقم (533). قلت: وأخرجه الطبراني في " الأوسط " رقم (3744) وفي " الدعاء " رقم (1920). وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 80) وقال رواه الطبراني " و" الأوسط ". ورجالهما رجال الصحيح. قلت: إسناده حسن. (¬2) (1/ 397رقم 527). وقال هذا مرسل. (¬3) في " المستدرك " (1/ 499). وقال الحاكم: هذه صحيفة للمصريين صحيحة الإسناد، وأبو الهيثم سليمان بن عتبة العثواري من ثقات أهل مصر. قلت: جمهور الحفاظ على تضعيف هذه الصحيفة. ودراج ضعيف في روايته عن أبي الهيثم خاصة. والخلاصة أن الحديث ضعيف. (¬4) (1 رقم 526). (¬5) ما زال مخطوطا فيهما أعلم. (¬6) في " الشعب " (1 رقم 535). قلت: وأخرجه أحمد في مسنده (3). بسند ضعيف.

- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " يقول الرب تعالى يوم القيامة: سيعلم أهل الجمع اليوم من أهل الكرم، فقيل: من أهل الكرم يا رسول الله؟ قال: مجالس الذكر في المساجد ". وأخرج البزار (¬1) والبيهقي (¬2) بسند صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " عبدي إذا ذكرتني خاليا ذكرتك خاليا، وإذا ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير منهم وأكثر ". وأخرج البيهقي (¬3) عن عقبة بن عامر أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل يقال له ذو البجادين: " إنه أواه " وذلك أنه كان يذكر الله. ¬

(¬1) في مسنده (4 رقم 3065 - كشف). وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 78) وقال رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير بشر بن معاذ العقدي وهو ثقة. (¬2) في " الشعب " (1/ 406 رقم 551). وقال: ومنها الذكر الخفي وهو ضربان: أحدهما: الذكر في النفس وقد قال الله عز وجل: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً) [الأعراف: 205]. والآخر: ما دار به اللسان ولم يسمعه إلا صاحبه قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي ". (¬3) في " الشعب " (1/ 416رقم 580). وفي " الشعب ": وذلك أنه كان يكثر ذكر الله بالقرآن والدعاء وفي رواية رقم (581) ذو النجادين قال: أبو أحمد إنما هو البجادين قال البيهقي رحمه الله هو كما قال. وإنما سمي بذلك لأنه لما أسلم نزع ثيابه فأعطته أمه بجادا من شعر مر فشقه باثنين فاتزر بأحدهما وارتدى الآخر فسمي بذلك. وإسناده مرسل.

وأخرج البيهقي (¬1) عن جابر أن رجلا كان يرفع صوته بالذكر. فقال رجل: لو أن هذا خفض من صوته، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إنه أواه ". وأخرج البيهقي (¬2) عن زيد بن أسلم قال: قال ابن الأذرع: انطلقت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ليلة فمر برجل في المسجد يرفع صوته، قلت: يا رسول الله، عسى أن يكون هذا مرائيا، قال: " لا ولكنه أواه ". وأخرج الحاكم (¬3) عن شداد بن أوس. قال: أنا عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إذ قال: " ارفعوا ايديكم فقولوا: لا إله إلا الله " ففعلنا، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " اللهم إنك بعثتني بهذه الكلمة، وأمرتني بها، ووعدتني عليها الجنة إنك لا تخلف الميعاد، ثم قال: أبشروا فإن الله قد غفر لكم ". وأخرج البزار (¬4) عن أنس النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " إن لله سيارة من الملائكة يطلبون حلق الذكر، فإذا توا عليهم حفوا بهم، فيقول الله تعالى غشوهم ¬

(¬1) في " الشعب " (1/ 418 رقم 585). (¬2) في " الشعب " (1/ 416 رقم 581). قلت: وأخرجه أحمد (4/ 337) من طريق هشام بن سعد، به. وأورده الهيثمي في " " المجمع " (9) وقال رواه أحمد ورجال الصحيح. (¬3) في " المستدرك " (1/ 501) وسكت عليه الحاكم وقال الذهبي: راشد ضعفه الدارقطني وغيره ووثقه دحيم. قلت: وأخرجه أحمد (4) وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (1) وقال: رواه أحمد والطبراني والبزار ورجاله موثقون. وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 18) وعزاه لأحمد فقط وقال: فيه راشد بن داود وقد وثقه غير واحد وفيه ضعيف، وبقية رجاله ثقات. (¬4) في مسنده (4 - 5 رقم 3062 - كشف). وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 77) وقال رواه البزار من طريق زائذة بن أبي الرقاد عن زياد النميري، وكلاهما وثق على ضعفه فعاد هذا إسناده حسن.

برحمتي، فهم الجلساء لا يشقى جليسهم ". وأخرج الطبراني (¬1)، وابن جرير (¬2) عن عبد الله بن سهل حنيف، قال: نزلت على رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وهو في بعض أبياته: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ) (¬3) الآية فخرج يلتمسهم، فوجد قوما يذكرون الله تعالى، فلما رآهم جلس معهم. وأخرج أحمد (¬4) قال: كان سلمان في عصابة يذكرون الله فمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فكفوا فقال: " إني رأيت الرحمة تنزل عليكم فأجببت أن أشارككم فيها ". وأخرج الأصبهاني (¬5) عن أبي رزين العقيلي أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال له: " ألا أدلك على ملاك الأرض الذي تصيب به خير الدنيا والآخرة؟ قال: بلى، قال: عليك بمجالس الذكر، وإذا خلوت فحرك لسانك [3] بذكر الله ". وأخرج ابن أبي الدنيا (¬6)، والبيهقي (¬7)، والأصبهاني (¬8) عن أنس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لأن أجلس مع قوم يذكرون الله بعد صلاة الصبح إلى أن تطلع الشمس أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ولأن أجلس مع قوم يذكرون الله ¬

(¬1) عزاه إليه السيوطي في " الدر المنثور" (5/ 381). (¬2) في " جامع البيان " (9جـ 15/ 235). (¬3) [الكهف: 28]. (¬4) في الزهد كما في " الدر المنثور " (5). (¬5) في " الترغيب والترهيب " (2/ 172رقم 1375). وأخرجه أبو نعيم في " الحلية " (1/ 366 و367). (¬6) لم أعثر عليه؟! (¬7) في" الشعب " (1/ 409 رقم 559) وفي " السنن " (8/ 79). (¬8) في " الترغيب والترهيب " (2/ 176 رقم 1380). بسند ضعيف.

بعد العصر إلى أن تغيب الشمس أحب إلى من الدنيا وما فيها ". وأخرج أحمد (¬1) وأبو داود (¬2)، والترمذي (¬3) وصححه، والنسائي (¬4)، وابن ماجه (¬5) عن السائب أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " جاءني جبريل فقال: مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية ". وأخرج الحاكم (¬6) عن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " من دخل السوق فقال لا إله إلا الله وحده لاشريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير كبت له ألف ألف حسنة، ومحي عنه ألف ألف سئية ورفع له ألف ألف درجة، وبني له بيتا في الجنة ". وأخرج المروزي عن عبيد بن عمير قال: كان عمر يكبر في بيته فيكبر أهل المسجد، فيكبر أهل السوق حتى ترتج منى تكبيرا (¬7) وأخرج أيضًا عن ميمون بن مهران قال: أدركت الناس وإنهم ليكبروا في العشر حتى كنت أشبهه بالأمواج من كثرتها " (¬8). ¬

(¬1) في " المسند " (4/ 55). (¬2) في " السنن " رقم (1814). (¬3) في " السنن " رقم (829). (¬4) في " السنن " رقم (6/ 162). (¬5) في " السنن " رقم (2922). وهو حديث حسن. (¬6) في " المستدرك " (1/ 538). بسند ضعيف. (¬7) أخرجه البخاري في صحيحه معلقا (2/ 416الباب رقم 12 التكبير أيام مني، وإذا غدا إلى عرفة ". (¬8) أخرجه البخاري في صحيحه معلقا (2/ 457 رقم الباب 11) فضل العمل في أيام التشريق. قال الحافظ في " الفتح " (2/ 462): " وقد اشتملت هذه الآثار على وجود التكبير عقب الصلوات وغير ذلك من الأحوال، وفيه اختلاف بين العلماء في مراضع: فمنهم من قصر التكبير على أعقاب الصلوات، ومنهم من خص ذلك بالمكتوبات دون النوافل، ومنهم من خصه بالرجال دون النساء، وبالجماعة دون المنفرد، وبالمؤداة دون المقضية، وبالقيم دون المسافر وبساكن المصر دون القرية وظاهر اختيار البخاري شمول ذلك للجميع. انظر: " المحلى " (7) و" المغني" (3/ 293).

وأخرج البيهقي (¬1) عن ابن مسعود قال: " إن الجبل لينادي الجبل باسمه فلان هل مر بك اليوم ذاكر؟، فإن قال نعم أستبشر، قم قرأ عبد الله: (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ. .. الآية) (¬2) وقال: أتسمعون الزور، ولا تسمعون الخير ". وأخرج ابن جرير في تفسيره (¬3) عن ابن عباس في قوله تعالى: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ) (¬4) قال: إن المؤمن إذا مات بكى عليه من الأرض الموضع الذي يصلي فيه ". واخرج ابن أبي الدنيا (¬5) عن أبي عبيد قال: " إن المؤمن إذا مات تنادت بقاع الأرض: عبد الله المؤمن مات، فتبكي عليه الأرض والسماء، فيقول الرحمن: ما يبكيكما على عبدي؟ فيقولان: ربنا لم يمش في ناحية منا قط إلا وهو يذكر. وسماع الأرض والجبال للذكر لا يكون إلا عن الجهر به. كمل هذا من تحرير المجيب، وكان التحرير أول يوم من سنة 1207. بعناية المجيب قرة عين المسلمين، عز الدين محمد بن علي الشوكاني - حفظه الله ومكن لبسطته، ورفع درجته بحوله وقوته -. آمين. ¬

(¬1) في " الشعب " (1 رقم 538). (¬2) [مريم: 90]. (¬3) في " جامع البيان " (13جـ 25 - 125). (¬4) [الدخان: 29]. (¬5) عزاه إليه السيوطي في" الدر المنثور " (7/ 413).

سؤال: هل يجوز قراءة كتب الحديث كالأمهات في المساجد مع استماع الدين لا فطنة لهم؟ وجواب الشوكاني عليه

سؤال: هل يجوز قراءة كتب الحديث كالأمهات في المساجد مع استماع الدين لا فطنة لهم؟ وجواب الشوكاني عليه. تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبومصعب

وصف المخطوط: (أ) 1 - عنوان الرسالة: (سؤال: هل يجوز قراءة كتب الحديث كالأمهات في المساجد مع استماع العوام الذين لا فطنة لهم وجواب الشوكاني عليه). 2 - موضوع الرسالة: فقه المسجد. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده. وبعد: فأنه ورد إلى سؤال في شهر القعدة سنة سبع مائتين وألف حاصله: هل يجوز. .. 4 - آخر الرسالة:. .. كل ما يحتاج إليه البيان فلا مفسدة كمل من خط المؤلف والمجيب القاضي العمدة الفهامة عز الدين والمسلمين محمد بن علي الشوكاني حفظه الله كما حفظ به الذكر المبين وجعله قرة عين للعاملين وأحيا به شريعة سيد المرسلين وجزاه عنا وعن المسلمين أفضل ما جزى محمد عن أمته آمين آمين. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 4 صفحات. 7 - المسطرة: الأولى: 7 أسطر. الثانية: 28 سطرا. الثالثة: 29 سطرا. الرابعة: 25 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 13 - 14 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الأول من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

وصف المخطوط (ب): 1 - عنوان الرسالة: (سؤال هل يجوز قراءة كتب الحديث كالأمهات في المساجد مع استماع العوام الذين لا فطنة لهم. وجواب الشوكاني عليه). 2 - موضوع الرسالة: فقه المساجد. 3 - أول الرسالة: الحمد لله ورد إلى سؤال في شهر القعدة سنة 1202هـ حاصله: هل تجوز قراءة كتب الحديث كالأمهات في المساجد، مع استماع العوام الذين لا فطنة لهم. .. 4 - آخر الرسالة:. .. فلا مفسدة. منقولة من خط المجيب العلامة محمد بن علي الشوكاني أبقاه الله، وبارك في عمره، وحسبنا الله وكفى، ونعم الوكيل، ونعم المولى، ونعم النصير. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. 5 - نوع الخط: خط نسخي رديء لكنه واضح. 6 - عدد الصفحات: 3 صفحات. 7 - المسطرة: الأول: 25 سطرا. الثانية: 39 سطرا. الثالثة: 24 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات. 9 - الرسالة من المجلد الأول من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

[بسم الله الرحمن الرحيم] (¬1) الحمد لله [وحده فإنه] (¬2) ورد إلي سؤال في شهر القعدة سنة 1207 [سبع ومائتين وألف] (¬3) حاصله هل تجوز قراءة كتب الحديث الأمهات في المساجد، مع استماع العوام الذين لا فطنة لهم، ثم أطال السائل الكلام، وذكر ما يلزم من ذلك من اعتقاد العوام للظواهر، وما تدل عليه أحاديث الصفات، والتمسك بالأحاديث الضعيفة. ثم وسع الكلام وشنع بشع على من فعل ذلك، ولعله يشير إلى المسؤول (¬4) - غفر الله له - فإني كنت في هذه الأيام أملي في صحيح البخاري، وسنن أبي داود، وفي الجامع المقدس، ويجضر القراءة جماعة من العلماء، ويحضر للاستماع جماعة من العامة. فأجبت ما حاصله، الجواب عن هذا السؤال يستدعي بسطا طويلا، لأنه يتشعب الكلام فيه شعب كثيرة لا نفي بها إلا نعي بها إلا رسالة مستقلة، ولكني هاهنا أقتصر على ذكر أبحاث تتسع لها بياضة السؤال فأقول: اعلم أن التدريس في كتب السنة (¬5) المطهرة في جوامع المسلمين ما زال مستحسنا عند جميع أهل الإسلام، منذ زمن الصحابة إلى الزمن الذي نحن فيه، معدودا باتفاقهم من أعظم أنواع القرب (¬6)، وأعلى مراتب التعليم والتعلم. ¬

(¬1) زيادة من (أ). (¬2) زيادة من (أ). (¬3) زيادة من (أ). (¬4) أي الشوكاني رحمه الله. (¬5) إن مجالس إملاء الحديث منذ بدء تدوين الحديث النبوي، كانت تعقد له المجالس فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا يملون الحديث على الناس وهم يكتبونها بين أيديهم، وفي التابعين وأتباعهم جماعة كانوا يعقدون مجالس الإملاء. وعن يحيى بن أبي طالب. سمعت يزيد بن هارون في المجلس ببغداد وكان يقال: إن في المجلس سبعين ألفا. أخرجه السمعاني في " أدب الإملاء والاستملاء " (1 رقم 44). وأنظر: " أدب الإملاء ولاستملاء " للسمعاني (1/ 150 - 161)، وانظر: " تذكرة السامع والمتكلم " لابن جماعة (ص 142 - 143). (¬6) قال السيوطي في" تدريب الراوي " (1/ 45): " فإن علم الحديث أفضل القرب إلى رب العالمين، وكيف لا يكون وهو بيان طريق خير الخلق وأكرم الأولين والآخرين " ا هـ.

أما في سائر أقطار المسلمين على اختلاف مذاهبهم، وتباين آرائهم فأمر لا ينكره أحد، وأما في قطرنا هذا المختص أهله بالتمسك بمذاهب الأئمة الأطهار من ذرية النبي المختار، فما زالت مساجده عامرة من قديم الزمن بالقراءة في كتب الحديث القديم منها والحديث، أما في كتب الأئمة من الآل الكرام فأمر لا ينكره أحد من الخواص والعوام. وأما في كتب المحديثين فما زال الأمر كذلك أيضًا منذ خروجها إلى اليمن إلى الآن يأخذها أهل كل قرن عمن قبلهم، ويروونها لمن بعدهم على مرور العصور، كرور الدهور. ولنتبرك بذكر طائفة من الأئمة الأكابر من أهل بيت النبوة، ممن قرأ كتب الحديث من الأهات وغيرها، وأقرأها. وقرر العلماء على قراءتها في المساجد وغيرها، ورواها بأسانيده المتصلة بمصنفيها فنقول: من جملتهم الإمام الأعظم المنصرو بالله (¬1) عبد الله بن حمزة، والإمام الأجل أحمد بن سليمان (¬2)، والأمير الكبير الحسين بن محمد [1] صاحب الشفاء (¬3)، والإمام الأكبر المؤيد بالله يحيى بن حمزة (¬4)، والإمام الأعظم محمد بن علي (¬5) المعروف بصلاح الدين، والإمام النحرير أحمج بن يحيى. ................................ ¬

(¬1) تقدم ترجمته. (¬2) أحمد بن سليمان بن محمد الحسني اليمني [500 - 566هـ]. من كتبه كتاب " أصول الأحكام في الحلال والحرام ". " حقائق المعرفة ". انظر: المصدر السابق (ص 390 رقم 388). (¬3) الأمير الحسين بن (بدر الدين) محمد بن أحمد بن يحيى بن يحيى اليحيوي الهادوي الحسني اليمني. (582 - 662هـ). (¬4) تقدم ترجمته. (¬5) الإمام محمد بن علي بن محمد بن علي المشهور بصلاح الدين (739 - 793هـ). من كتبه: " رسالة إلى أهل مكة ". " قصيدة الرسالة الدافعة والحجة البالغة ". " أعلام المؤلفين الزيدية " (ص 972 رقم 1042)، " أئمة اليمن " (1/ 261 - 278).

المرتضى (¬1)، والإمام الكبير محمد بن إبراهيم الوزير (¬2)، وأخوه المدقق الهادي بن إبراهيم (¬3)، والإمام الخليل عز الدين بن الحسن (¬4) وأهل بيته، والإمام المتبحر شرف الدين بن شمس الدين (¬5) وأهل عصره، والإمام العلامة الحسن بن علي بن داود (¬6)، والإمام المجدد المنصور بالله القاسم بن محمد (¬7)، والإمام المجتهد المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم (¬8)، والإمام المحقق الحسين بن القاسم (¬9) وجماعة من أعيانهم، وأكابر أشياعهم، ¬

(¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) تقدمت ترجمته. (¬3) الهادي بن إبراهيم بن علي الوزير (758 - 822هـ). جرت بينه وبين أخيه محمد بن إبراهيم الوزير صاحب العواصم محاورات ومناظرات وعكف على التأليف، والتدريس والإفتاء. من مصنفاته: " الأجوبة المذهبة عن المسائل المهذبة ". " تراجم آل الوزير ". انظر: " الضوء اللامع " (10)، " أعلام المؤلفين الزيدية " (ص 1069 رقم 1149). (¬4) عز الدين بن الحسن بن الحسين عدلان، المؤيدي اليحيوي ( ... - 1361 هـ) عالم فقيه أصولي كان مولده ونشأته بهجرة فللة وتولى القضاء في رازح. من كتبه: " شرح على الغاية في أصول الفقه في مجلدين ولم يكلمه "، " التحفة السنية في مهمات المسائل الأصولية ". " أعلام المؤلفين الزيدية " (ص645رقم 671). (¬5) تقدمت ترجمته. (¬6) تقدمت ترجمته. (¬7) تقدمت ترجمته. (¬8) تقدمت ترجمته. تنبيه: قال ابن تيمية في مجموعة " الرسائل والمسائل " (1 /ج3) وكثير من الكتب المصنفة في أصول علوم الدين وغيرها تجد الرجل المصنف فيها في المسألة العظيمة كمسألة القرآن والرؤية والصفات والمعاد وحدوث العالم وغير ذلك يذكر أقوالا متعددة. والقول الذي جاء به الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان عليه سلف الأمة ليس في تلك الكتب ولا عرفه مصنفوها ولا شعروا به وهذا من أسباب توكيد التفريق والاختلاف بين الأمة وهو ما نهيت الأمة عنه، كما في قوله تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران: 105 - 106). قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة. وقد قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ) [الأنعام: 159]. وقال سبحانه وتعالى: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) [البقرة: 176]. وقد خرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أصحابه وهم يتنازعون في القدر، وهذا يقول ألم يقل الله كذا؟ وهذا يقول ألم يقل الله كذا؟ فقال: " أبهذا أمرتم؟ أم إلى هذا دعيتم؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا: أن ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، انظروا ما أمرتم به فافعلوه وما نهيتم عنه فاجتنبوه ". (¬9) تقدمت ترجمته. تنبيه: قال ابن تيمية في مجموعة " الرسائل والمسائل " (1 /ج3) وكثير من الكتب المصنفة في أصول علوم الدين وغيرها تجد الرجل المصنف فيها في المسألة العظيمة كمسألة القرآن والرؤية والصفات والمعاد وحدوث العالم وغير ذلك يذكر أقوالا متعددة. والقول الذي جاء به الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان عليه سلف الأمة ليس في تلك الكتب ولا عرفه مصنفوها ولا شعروا به وهذا من أسباب توكيد التفريق والاختلاف بين الأمة وهو ما نهيت الأمة عنه، كما في قوله تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران: 105 - 106). قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة. وقد قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ) [الأنعام: 159]. وقال سبحانه وتعالى: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) [البقرة: 176]. وقد خرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أصحابه وهم يتنازعون في القدر، وهذا يقول ألم يقل الله كذا؟ وهذا يقول ألم يقل الله كذا؟ فقال: " أبهذا أمرتم؟ أم إلى هذا دعيتم؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا: أن ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، انظروا ما أمرتم به فافعلوه وما نهيتم عنه فاجتنبوه ".

أضعاف أضعاف هؤلاء. ومن لم يعرف حقيقة الحال أو داخله رتب فيما ذكرنا فليطالع تواريخ هؤلاء الأئمة، وينظر في مسموعاتهم وأسانيدهم ومؤلفاتهم، فإنه عند ذلك يعلم صحة ما حكيناه. وإذا نقر بالإجماع على هذه الصحة التي ذكرناها فكون العامة يحضرون إملاء الحديث لا يصلح أن يكون مانعا من قراءة كتب الحديث في المساجد والمشاهد والمحافل لأمور: الأول: أن حضورهم في مجالس إملاء الحديث ما زال منذ قديم الزمان، فكان الإجماع على قراء ة كتب السنة في المساجد أو غيرها إجماعا على جواز حضورهم وعدم صلاحية كونه مانعا. الثاني: أنا نعلم بالضرورة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان يلقي هذه الأحاديث التي تجدوها في كتب الحديث إلى الصحابة معهم الخاصة والعامة، والعالم والجاهل. ولو كان مجرد سماعهم لإملاء الأحاديث في المساجد وغيرها مانعا من التدريس في كتب الحديث لكان أيضًا مانعا من إلقائه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - هذه الأحاديث

إلى عوام الصحابة، لأن العلة واحدة، واللازم باطل والملزوم مثله. أما الملازمة فللاشتراك في تلك العلة، وأما بطلان اللازم فبالإجماع. فإن قلت: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان يبين متشابه الأحاديث لعوام الصحابة، لأنه لا يجوز عليه أن يقررهم على اعتقاد الباطل قلت: ونحن نقول: كذلك ينبغي للمحدث أن يعرف العامة الذين يحضرون قراءة ما كان مرادا به خلاف ظاهره (¬1)، ¬

(¬1) تنبيهات لابد منها بين يدي المحدث: 1 - الحذر من وضع الأحاديث في غير موضعها وعليه أن يحذر من سوء الفهم للأحاديث الصحاح والحسان التي وردت في كتب السنة فحرفها بعض الناس عن مواضعها. 2 - الحذر من دعاة التشكيك في الأحاديث الصحيحة. 3 - الحذر من الأحاديث الموضوعة والواهية. وقد حذر علماء السنة من رواية الحديث الموضوع إلا مع التنبيه عليه، وبيان أنه موضوع ليحذر منه قارئه أو سامعه. قال الإمام النووي " تحرم رواية الحديث الموضوع مع العلم به في أي معنى كان سواء الأحكام والقصص والترغيب والترهيب وغيرها إلا مبينا أي مقرونا ببيان وضعه. علما أن العلماء الذين أجازوا الاستشهاد بالضعيف في فضائل الأعمال لم يفتحوا الباب على مصراعيه وإنما وضعوا شروطا ثلاثة: 1 - ألا يكون الحديث شديد الضعف حيث يكون واهيا قريبا من الموضوع. 2 - أن يندرج تحت أصل شرعي معمول به، ثابت بالقرآن الكريم والسنة الصحيحة. 3 - ألا يعتقد عند الاستشهاد به ثبوته عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بل يعتقد الاحتياط وبناء على الشروط الثالث لا يجوز للمستشهد أن يضيف الحديث الذي استشهد به إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصيغة الجزم والقطع. بل عليه أن يقول، روي عن كذا، أو نقل عن كذا، أو ورد عن كذا. .. وما أشبه من صيغ التضعيف والتمريض وأما قوله. قال رسول الله كذا فمردود وغير جائز وغير لائق. انظر: " تدريب الراوي " للسيوطي (2/ 118 - 124). أخرج البخاري في صحيحه رقم (100) ومسلم رقم (2607) عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " إن الله لا يقبض العلم أنتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما أتخذ الناس رؤوسا جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ". قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/ 195): وفي هذا الحديث الحث على حفظ العلم والتحذير من ترئيس الجهلة، وفيه أن الفتوى هي الرياسة الحقيقية وذم من يقدم عليها بغير علم ".

وما كان مؤولا، أو منسوخا، أو ضعيفا، أو مخصصا، أو مقيدا، أو لا يدعهم يتمسكون بما لا يحل التمسك به، لأن المفروض أن المحدث المذكور متأهل لذلك، وأنه قد بلغ إلى رتبة يصلح عندها للتحديث وأما إذا كان غير متأهل لبيان ما ذكرنا فإنما هو وهم كما قال الشاعر: كبهيمة عمياء قاد زمامها ... أعمى على عوج الطريق الجائر الأمر الثالث: من الأدلة الدالة على جواز إملاء الحديث بمحضر من العامة هو أنا نعلم قطعا أن القرآن الكريم مشتمل على آيات في الصفات، وأحكام متشابهات، مثل ما اشتملت عليه السنة من ذلك أو أكثر، فلو كان استماعهم للحديث لا يجوز لتلك العلة لكان استماعهم للقرآن وتعليمهم إياه لا يجوز، لأن العلة واحدة، وهو خرق لإجماع المسلمين، فإنهم مازالوا يعلمون صبيانهم كتاب الله العزيز، وهم مع كونهم في سن الصبا خالين عن المعارف العلمية هم أيضًا خالون عن كمال العقل الذي له مدخل في الفهم والتمييز، فهل يلتزم السائل - أرشده الله - مثل هذا اللازم الباطل بإجماع المسلمين. والأمر الرابع: أن جعل سماع العامة مانعا من قراءة كتب السنة في المساجد فيلزم تعطيل المساجد عن كثير من العلوم، منها القرآن وعلومه لما تقدم، ومنها [2] علم الفقه الذي هو عمدة المسلمين في جميع الأقطار وذلك لأن فيه الرخص التي تلحق المتتبع لها بالمتزندقين، فقراءته في المساجد مع حضور العامة مظنة لعملهم بتلك الرخص كما أن قراءة كتب السنة مظنة لعملهم بما يسمعونه مما لا يجوز العمل به. ولا فرق بين المظنتين،

ولا بين ما يستلزمان من اعتقاد العامي مما لا يجوز. ومنها: علم الكلام، فإن فيه من الشبه والأقوال الباطلة ما لم يكن في غيره من العلوم، حتى أن أهله يحكون فيه أقوال اليهود والنصارى، ومذاهب المعطلة والملحدة، والزنادقة. وقراءتها في المساجد مكانه لحضور العامة المستلزم لا عتقاده مذهبا كفريا، فالتخرج من قراءتها في المساجد أولى من التحرج من قراءة السنة فيها، التي هي أقولا المصطفي، وبيان أفعاله، وهكذا علم أصول الفقه؛ فإنه لا يخلوا عن مباحث إذا سمعها العامي واعتقدها وقع فيما لا يحل، كما يقع بين علمائه من المراجعات في علل القياس، وما فيها من الأمثلة التي لا يراد منها حقيقتها، وإيراد مبطلاتها من المنع، والنقض، والكسر، والقدح، والمعارضة، وغيرها. وكذلك ما في مقدماته من المسائل التي هي أمهات علم الكلام، ومنها علم المنطق، وعلم الرياضي، وعلم الإلهي، وعلم الطبيعي، فإن المفسدة في سماع العامي لهذه العلوم أشد من المفسدة في سماع ما تقدم من غيرها. الأمر الخامس: أن الأدلة الدالة على وجوب تبليغ الأحكام على علماء هذه الأمة قاضية بوجوب مطلق التبليغ (¬1) من غير قرق بين عامة المسلمين وخاصتهم، ولا سيما وقد ¬

(¬1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (3461) عن عبد الله بن عمرو قال أن رسول الله قال: " بلغوا عني ولو آية وحدثوا ن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار". وأخرج البخاري في صحيحه (1/ 194معلقا الباب رقم 34) كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر ابن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاكتبه فإني حفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولتفشوا العلم ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا. وقد حث - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على طلب العلم وحضور مجالسه: أخرج البخاري في صحيحه رقم (66) ومسلم رقم (2176) عن أبي واقد الليثي أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذا أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذهب واحد. قال: فوقفا على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة، فجلس فيها وأما الآخر، فجلس خلفهم، وأما الثالث، فأدبر ذاهبا. فلما فرغ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " ألا أخبركم عن النفر الثلاثة، أما أحدهم فأوى إلى الله، فآواه الله وأما الآخر، فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه ". قال القرطبي في المفهم (5/ 508): فقيه: الحض على مجالسة العلماء ومداخلتهم، والكون معهم، فإنهم القوم الذين لا يشقى بهم جليسهم. وفيه: التحلق لسماع العلم في المساجد حول العالم، والحض على سد خلل الحلقة، لأن القرب من العالم أولى، لما يحصل من ذلك نم حسن الاستماع والحفظ، والحال في حلق الذكر كالحال في صفوف الصلاة يتم الصف الأول فإن كان نقص ففي المؤخر. قال تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). وقال تعالى: (رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا). قال ابن حجر في الفتح: (1/ 141): يرفع الله المؤمن العالم على المؤمن غير العالم ورفعه الدرجات تدل على الفضل، إذ المراد به كثرة الثواب. وبها ترتفع الدرجات، ورفعنها تشمل المعنوية في الدنيا بعلو المنزلة وحسن الصيت والحسية في الآخرة بعلو المنزلة في الجنة. وقوله تعالى: (رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) واضح الدلالة في فضل العلم، لأن الله لم يأمر نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بطلب الازدياد من شيء إلا من العلم. والمراد بالعلم العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر دينه في عباداته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته وما يجب له من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص ومدار ذلك على التفسير والحديث والفقه. وقال البخاري في صحيحه (1/ 159 - 160) الباب رقم (10): العلم قبول القول والعمل، لقوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ): فبدأ بالعلم، وأن العلماء هم ورثة الأنبياء، ورثوا العلم، من أخذه أخذ بحط وافر، ومن سلك طريقا يطلب به علما سهل الله به طريقا إلى الجنة وقال سبحانه وتعالى: (يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) وقال سبحانه: (وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ)، (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) وقال سبحانه: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " من يرد الله به خيرا يفقهه " " وإنما العلم بالتعلم. .... ".

ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مدح " من بلغ مقالة. ...............................

كما سمعها " (¬1)، فمن ادعى اختصاص ذلك بالخاصة فعليه الدليل. لا يقال إن هذه المصلحة قد عارضتها مفسدة، وهي ما يعتقده العامي مما لا يجوز لأنا نقول: المروض أن العالم المتصدر للتحديث يقوم ببيان كل ما يحتاج إلى البيان فلا مفسدة. [منقولة من خط المجيب العلامة محمد بن علي الشوكاني - أبقاه الله، وبارك في عمره - وحسبنا الله ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وسلم] (¬2) [كمل من خط المؤلف والمجيب القاضي العمدة الفهامة عز الدين والمسلمين محمد علي الشوكاني حفظه الله كما حفظ به الذكر المبين، وجعله قرة عين للعالمين. وأحيا به شريعة سيد المرسلين، وجزاه عنا وعن المسلمين أفضل ما جزى محمد عن أمته. آمين آمين] (¬3). ¬

(¬1) أخرج أحمد (1/ 437) والترمذي في السنن (2657) وابن ماجه (232) عن عبد الله بن مسعود: قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " نضر الله أمرء سمع منا حديثا، فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع " وهو حديث صحيح. وأخرج أحمد (5/ 183) وأبو داود رقم (3660) والترمذي رقم (2656) وابن ماجه رقم (230) من طريق. عن زيد ابن ثابت: " رحم الله امرءا سمع حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه، ثلاث خصال، لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم ". وهو حديث صحيح واللفظ لأحمد. (¬2) زيادة من المخطوط (ب). (¬3) زيادة من المخطوط (أ).

إشراق الطلعة في عدم الاعتداد بإدراك ركعة من الجمعة

إشراق الطلعة في عدم الاعتداد بإدراك ركعة من الجمعة تأليف عبد الله عيسى بن محمد بن يحيى حققه وعلق عليه وخرج أحايثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: إشراق الطلعة في عدم الاعتداد بإدراك ركعة من الجمعة. 2 - موضوع الرسالة: فقه الصلاة. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وبعد: فإنه وقعت فيمن أدرك من الجمعة ركعة هل يتمها ظهرا بتكميلها أربعا أم يتم ذلك جمعة. .. 4 - آخر الرسالة:. ... رواه أبو بكر ابن أبي شيبة في " المصنف " من رواية يحيى بن كثير قال: حدثت عن عمر بن الخطاب، قال: إنما جعلت الخطبة مكان الركعتين، فإن لم يدرك الخطبة / فليصل. 5 - نوع الخط: خط نسخي ضعيف 6 - عدد الصفحات: (9) صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 30 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 14 - 16 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الثاني من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني). ملحوظة: الرسالة فيها نقص من آخرها في الأصل والله أعلم.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وبعد: فإنه وقعت مذاكرة فيمن أدرك من الجمعة ركعة، هل يتمها ظهرا بتكميلها أربعا أم يتم ذلك جمعة، ويضيف إليها ركعة أخرى كما هي منصوص عليه في بعض الأحاديث؟ فخطر في البال ذكر المسألة تبركا ونقل ذلك من كتب أهل المذهب وغيرهم، وذكر الأحاديث المتعلقة بها، والكلام عليها، ومع جمعها يتبين الراجح من القولين. فأقول: قال القاضي زيد: مسألة إن أدرك شيئا من الخطبة نحو أن يدرك منها قدر آية أتمها جمعة، وإن لم يدرك شيئا منها لم تصح منه الجمعة، ويصلي أربعا، ويبني على ما أدركه مع الإمام. قد نص عليه الهادي في " المنتخب " (¬1)، وهو قول عطاء، وطاووس، ومجاهد، ومكحول، وعمدتهم في ذلك أن الخطبة بمثابة ركعتين، وأنها شرط كما سيأتي بيانه. قال القاضي زيد: فإن قيل يروى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما أدركت فصل وما فاتك فاقض " (¬2) قلنا كذلك يقول إنه يصلي مع الإمام ما أدرك، ويقضي ما فات، والخلاف في كيفية القضاء، وليس في الخير ما يدل على موضع الخلاف، وما روي عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدركها " (¬3)، فالمراد به قد أدرك فضلها، فدليل ما ذكرنا، وما روي عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أدرك ركعة من الجمعة أضاف إليها أخرى، ومن أدرك دونها صلى أربعا "؛ فإن أهل العلم ضعفوه، وذكر أبو بكر الرازي في المختصر الطحاوي أنه حديث ضعيف لا يثبته أهل العلم، وما روي: " من أدرك ركعة من صلاة الجمعة ¬

(¬1) تقدم التعريف به. (¬2) أخرج البخاري رقم (908) ومسلم رقم (151/ 602) من حديث أبي هريرة قال سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون، وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا ". (¬3) سيأتي تخريجه.

فليضف إليها أخرى " لا يصح، لأن مالكا روى هذا الخبر في الموطأ (¬1) عن ابن شهاب موقوفا عليه، وقول ابن شهاب ليس بحجة على أن هذا لا يصح من وجه آخر، وذلك لأن أصل الحديث ما روى معمر عن الأوزاعي، عن مالك، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " من أدرك ركعة فقد أدركها " (¬2) قال معمر عن الزهري: ونرى الجمعة من الصلاة، فهذا أصل الحديث، وفيه دلالة على أن ذكر الجمعة ليس من كلام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انتهى. ما نريد نقله وأنه مما يؤيد شرطية سماع شيء من الخطبة بقياسات كثيرة ثبتت، ما المطلوب؟ سيأتي ذكرها إن شاء الله، ثم رجعت متن حديث من أدرك من الجمعة فقد أدركها، فوجدت الشيخين (¬3)، وأبا داود (¬4) النسائي (¬5)، والترمذي (¬6)، ومالكا (¬7) كلهم لم يرووه بلفظ الجمعة، بل بلفظ: " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة (¬8). وقال عبد الله بن عمر في روايته (¬9): " فقد أدركها ": وقد قال ابن عدي (¬10): إن إسناد من أدرك من الجمعة ركعة غير محفوظ، وقال النووي في الخلاصة (¬11) إن أحاديث: من أدرك من الجمعة ركعة " ضعيفة. وقال العراقي (¬12): ¬

(¬1) (1/ 105رقم 11). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (580) ومسلم في صحيحه رقم (161/ 607). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (580) ومسلم في صحيحه رقم (161/ 607). (¬4) في " السنن " رقم (1121). (¬5) في" السنن " (1/ 274). (¬6) في" السنن " رقم (5924). (¬7) في " الموطأ " (1/ 105). (¬8) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (580) ومسلم في صحيحه رقم (161/ 607). (¬9) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (. .. ). (¬10) في " الكامل " (7). (¬11) (2/ 670). (¬12) انظر " طرح التثريب " (2/ 358 - 363).

وليس للتعرض للجمعة ذكر في حديث أبي هريرة في شيء في من الكتب الستة، إلا عند ابن ماجه (¬1)، وهو ضعيف. انتهى. قلت: والكل لم يحملوه على ظاهر، إذ منهم من يقول: المراد إدراك فضيلة الجمعة، كما تشير إليه الزيادة من رواية يونس: " من أدرك من الصلاة [1أ] مع الإمام، أو أدرك الوقت "، كما يشير إليه حديث أبي هريرة: " إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته " (¬2)، سيأتي. وقد جعلا حديثا واحدا، ومنهم من حمله على إدراك الركوع مع الإمام، وأن الركعة واحدة الركعات كما يشير إليه حديث أبي هريرة عند ابن حبان الآتي (¬3)، ويشير إليه لفظ عبد الله بن عمر: فقد أدركها " إذا أعيد الضمير إلى الركعة. وقال ابن حجر (¬4) في باب (¬5) من أدرك من الصلاة ركعة: والظاهر أن هذا أعم من حديث الباب الماضي قبل عشرة (¬6) أبواب، يعني حديث أبي سلمة عن أبي هريرة: " إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تقرب الشمس فليتم صلاته " ويحتمل أن تكون اللام (¬7) عهدية فيتحدا، ويؤيده أن كلامهما من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة، وهذا مطلق، وذال مقيد، فيحمل المطلق على المقيد. وقال الكرماني (¬8) في الفرق بينهما: " أن الأول فيمن أدرك من الوقت قدر ركعة، ¬

(¬1) في " السنن " رقم (1122) وهو حديث صحيح. انظر: " الإرواء " رقم (622). (¬2) سيأتي تخريجه. (¬3) سيأتي تخريجه. (¬4) في" الفتح " (2/ 57). (¬5) (2/ 57 - مع الفتح) الباب رقم (29). (¬6) (2 - مع الفتح) الباب رقم (17) الحديث رقم (655). (¬7) انظر " معترك الأقران في إعجاز القرآن " (2/ 56). (¬8) ذكره ابن حجر في " الفتح " (2/ 57).

وهذا فيمن أدرك من الصلاة ركعة كذا قال، وقال بعد (¬1) ذلك: وفي الحديث أن من دخل في الصلاة فصلى ركعة، وخرج الوقت كان مدركا لجميعها، ويكون كلها أداء، وهو الصحيح ". انتهى. قال ابن حجر (¬2): وهذا يدل على اتحاد الحديثين عنده لجعلهما متعلقين بالوقت، بخلاف ما قال أولا. وقال التيمي: معناه من أدرك ركعة فقد أدرك فضل الجمعة. وقيل المراد بالصلاة الجمعة، وقيل غير ذلك. وقوله فقد أدرك الصلاة ليس على ظاهره بالإجماع، لما قدمناه من أنه لا يكون بالركعة الواحدة مدركا لجميع الصلاة، بحيث تحصل براءة ذمته من الصلاة، فإذا فيه إظهار تقديره فقد أدرك وقت الصلاة، أو حكم الصلاة، أو نحو ذلك. ويلزمه إتمام بقيتها، ومفهوم التقييد بالركعتين من أدرك دون الركعة لا يكون مدركا لها، وهو الذي استقر عليه الاتفاق. انتهى كلام ابن حجر (¬3). ولنا المتن الآخر وهو: من أدرك ركعة من صلاة الجمعة فليضف معها أخرى " فتتبعت طرقه فوجدت أنه خرج من ثلاث طرق، من طريق أبي هريرة، وابن عمر، وجابر، وتفرعت الطرق منهم، ولم يخل طريق من مقال، وغالب ذلك عن الزهري. أما حديث أبي هريرة فرواه ابن ماجه (¬4) من رواية ابن أبي ذئب عن الزهري، عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى " وهو ضعيف؛ فإنه من رواية عمر بن حبيب عن ابن أبي ذئب، وعمر بن حبيب كذبه ابن. .................. ¬

(¬1) أي ابن حجر في " الفتح " (2/ 57). (¬2) في " الفتح " (2). (¬3) في " الفتح " (2/ 57). (¬4) في " السنن " رقم (1121) وهو حديث صحيح.

معين (¬1)، ورواه ابن أبي حبان (¬2) في صحيحه من رواية عبد الرحمن بن ثابت، عن ثوبان، عن أبيه، عن الزهري، ومكحول عن أبي سلمة، وزاد: " وليتم ما بقي " ورواه ابن عدي (¬3) في ترجمة عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وضعفه [1ب]، وقال أحمد (¬4) ليس بشيء. وعن ابن معين (¬5) في رواية ضعيف، قال العقيلي (¬6) لا يتابع عبد الرحمن إلا من هو مثله أو دونه، ورواه الدارقطني (¬7) من رواية صالح بن أبي الأخصر عن الزهري، وزاد قال: " أدركهم جلوسا يصلي أربعا "، وصالح بن أبي الأخصر (¬8) ضعيف، ضعفه يحيى ابن معين، والنسائي والبخاري، وقال: معاذ: ألححنا على صالح بن أبي الأخصر في حديث الزهري فقال: منه ما سمعت، ومنه ما عرضت، ومنه ما لم أسمع فاختلط علي. ورواه (¬9) أيضًا بهذه الزيادة ياسين بن معاذ عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة عن أبي هريرة، وفي رواية له عن سعيد أو عن أبي سلمة، وفي رواية له عن اين المسيب فقط، قال الدارقطني (¬10) ياسين ضعيف. وفي " التلخيص " (¬11) متروك. وقال ابن حبان (¬12) يروي الموضوعات، وعند ابن .......................... ¬

(¬1) كما في " الميزان " (3/ 184). (¬2) في صحيحه (4/ 352رقم 1486). (¬3) في" الكامل " (2/ 326). (¬4) انظر " تهذيب التهذيب " (6 - 137). (¬5) ذكره ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (6/ 137). (¬6) في" الضعفاء الكبير " (2/ 326). (¬7) في " السنن " (2/ 12رقم 9، 10). (¬8) انظر " تهذيب التهذيب " (4/ 332 - 334). (¬9) الدارقطني في " السنن " (2 رقم 3). (¬10) في " السنن " (2/ 11 رقم 3). (¬11) (2/ 85). (¬12) في " المجروحين " (3/ 142).

عدي (¬1) والذهبي رفع هذا الحديث من مناكيره. وراه (¬2) من رواية عبد الرزاق بن عمر الدمشقي، والحجاج (¬3) بن أرطأة، وعمر بن قيس برفعهم كلهم عن الزهري عن سعيد بن المسيب، زاد عمر بن قيس (¬4) وأبو سلمة بلفظ: " من أدرك من الجمعة ركعة - قال عبد الرزاق (¬5) - فليضف - وقال الآخران (¬6) - فليصل إليها أخرى " والحجاج بن أرطأة مختلف فيه قال العقيلى (¬7): كان يرسل عن يحيى بن أبي كثير، فإنه لم يسمع نمه، وعيب عليه التدليس، وقال يحيى بن يعلى: أمرنا زائدة أن يترك حديث الحجاج بن أرطأة. وقال عبد الله بن أحمد: ثنا أبي: سمعت يحيى يذكر أن حجاجا لم يرى الزهري، وكان سيء الرأي فيه جدا. وأما عبد الرزاق بن عمر فقال مسلم (¬8): ضعيف. وقال النسائي (¬9): ليس بثقة، وقال البخاري (¬10): منكر الحديث. وقال الدارقطني (¬11): ضعيف من قبل أن كتابه ضاع. وقال ابن مسهر: ضاع الكتابه عن الزهري، فكان يتبعه بعد أن ذهب، فيؤخذ عنه ما سواه. وأما عمر ................................................................ ¬

(¬1) في " الكامل " (7/ 2641 - 2642). (¬2) أي الدارقطني في " السنن " (2/ 10 رقم 1). (¬3) عند الدارقطني في " السنن " (2/ 10 رقم 2). (¬4) عند الدارقطني في" السنن " (2/ 11رقم 5). (¬5) أخرجه الدارقطني في " السنن " (2/ 10 رقم 1). (¬6) أي الحجاج بن أرطأة وعمر بن قيس. انظر " سنن الدارقطني " (2/ 10 - 11 رقم 2، 5). (¬7) في " الضعفاء " (1/ 277 - 278). (¬8) في " الكنى والأسماء " (ص12). (¬9) في " الضعفاء والمتروكين " (ص164 رقم 399). (¬10) في " التاريخ الكبير " (6/ 130). (¬11) في " الضعفاء والمتروكين " رقم (354).

ابن قيس بسندل فتركه أحمد (¬1)، والنسائي (¬2)، والدارقطني (¬3)، قال يحيى (¬4): ليس بثقة. وقال البخاري (¬5): منكر الحديث. وقال أحمد (¬6) أيضا: أحاديثه بواطيل. ورواه (¬7) أيضًا من رواية سليمان بن أبي داود عن الزهري عن سعيد بن المسيب بلفظ: " من أدرك الركوع من الركعة الأخيرة يوم الجمعة فليضف إليها أخرى، ومن لم يدرك الركوع من الركعة الأخرى فليصل الظهر أربعا " وسليمان بن أبي داود الحرابي ضعيف. وفي " التلخيص " (¬8) متروك، وضعفه أبو حاتم (¬9). وقال البخاري (¬10): منكر الحديث. ونقل الذهبي (¬11) عن البخاري في ترجمة سليمان بن أبي داود اليماني (¬12): أن البخاري قال: من قلت فيه منكر الحديث لا تحل رواية حديثه. ورواه (¬13) من رواية يحيى بن راشد البراء عن داود بن هند، عن سعيد بن المسيب بلفظ: " من أدرك من الجمعة ركعة فليضف إلهيا أخرى ". ويحيى بن راشد (¬14) ¬

(¬1) كما في " بحر الدم " (ص315رقم 748). (¬2) في " الضعفاء والمتروكين " (ص 188رقم 484). (¬3) في " الضعفاء والمتروكين " رقم (378). (¬4) انظر " الميزان " (3). (¬5) في " التاريخ الكبير " (6/ 187). (¬6) في " العلل " رقم (1351). (¬7) أي الدارقطني في " السنن " (2/ 12رقم 9). (¬8) (2/ 85). (¬9) في " الجرح والتعديل " (2، 115 - 116). (¬10) في " التاريخ الكبير " (2/ 2 / 11). (¬11) في " الميزان " (2/ 202رقم 3449). (¬12) والذي في " الميزان " (2/ 202) سلميان بن داود اليمامي. (¬13) أي الدارقطني في " السنن " (2/ 12 - 13 رقم 13). (¬14) انظر " المغني " (2/ 750)، " تهذيب الكمال " (31/ 299).

ضعيف، ضعفه النسائي (¬1) قال ابن معين (¬2): ليس بشيء، وقال الدارقطني في " العلل " (¬3): حديثه غير محفوظ، وقد روي عن يحيى بن سعيد الأنصاري [2أ] أنه بلغه عن سعيد بن المسيب قوله: وهو أشبة بالصواب. ورواه (¬4) أيضًا من رواية عبيد الله بن تمام، عن سهيل بن صالح (¬5) ضعيف. ورواه ابن عدي في " الكامل " (¬6) في ترجمة محمد بن عبد الرحمن البياضي، عن سعيد ابن المسيب: " من أدرك من صلاة الجمعة ركعة. .. الحديث " وقال: هذا الأسناد غير محفوظ، قال (¬7): ورواه قوم من الضعاف عن الزهري مثل معاوية الصدفي، وجماعة من أشباقق عن سفيان فذكروا الجمعة، وأورده ابن عدي (¬8) أيضًا في ترجمة يحيى بن حميد المصري، عن قرة بن عبد الرحمن، عن ابن شهاب عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها قبل أن يقيم الإمام صلبه ". وقال هذه الزيادة يقولها يحيى، هذا ولا عرف له غيره. قلت: وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه (¬9) بهذا اللفظ، ذكره ابن حجر في. .............................. ¬

(¬1) في " الضعفاء والمتروكين " (ص252رقم 668). (¬2) انظر " تهذيب الكمال " (31/ 299). (¬3) (9/ 210 - 211س 1729). (¬4) أي الدارقطني في " السنن " (2/ 13رقم 15). (¬5) انظر: " الميزان " (2/ 243رقم 5348). (¬6) (6). (¬7) ابن عدي في " الكامل " (6/ 2190). (¬8) في " الكامل " (7/ 2684). (¬9) (3/ 45رقم 1595).

" التلخيص " (¬1)، ولم يعله، فإن صحت هذه الزيادة فالحديث إنما هو: " من أدرك الركوع مع الإمام "، وأن يعتد بتلك الركعة، وأورده ابن عدي (¬2) ايضا في ترجمة يزيد ابن عياض، عن أبي حازم، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة بلفظ: " من أدرك سجدة فقد أدرك ركعة ". ويزيد متروك الحديث، قال البخاري (¬3) وغيره: منكر الحديث، وقال علي (¬4): كان يكذب، وقال ابن حجر (¬5): وراه ابن خزيمة في صحيحه (¬6) من طريق الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن الزهري بذكر الجمعة، وقال في آخره: هذا اللفظ روي على المعنى، فإن قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أدرك من الصلاة " يشمل الجمعة وغيرها، فمن رواه بلفظ الجمعة فقد أتي ببعض أفراده انتهى. قال السيد العلامة حسين بن مهدي النعمي (¬7): ولكنه يعكر الجميع ما ذكره معمر عن الزهري من قوله: والجمعة من الصلاة، إذ لو كان هذا عنده لما احتاج واضطر إلى التورك على العموم. انتهى. قلت: وهذا إنما هو فيمن بيدل لفظ ركعة من الصلاة بركعة من صلاة الجمعة لا يتميز، يدل لفظ بعد أدركها بقوله فليصل إليها أخرى، أو يضيف، أو نحو ذلك؛ فإن هذا لم يكن من رواية الحديث بالمعنى. وقال ابن حجر (¬8) أيضا: وأحسن طرق هذا ¬

(¬1) (2/ 87). (¬2) في " الكامل " (7/ 2719). (¬3) ذكره الذهبي في " الميزان " (4/ 437). (¬4) عزاه إليه الذهبي في " الميزان " (4/ 137). (¬5) في " التلخيص " (2/ 87). (¬6) (3/ 75 - 58 رقم 1622). (¬7) لم أعثر له على ترجمة. (¬8) في " التلخيص " (2/ 85).

الحديث رواية الأوزاعي على ما فيها من تدليس الوليد. وقد قال ابن حبان في صحيحه (¬1) أنها كلها معلولة، وقال ابن أبي حاتم في العلل (¬2) عن أبيه: لا أصل لهذا الحديث، إنما المتن: من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها، وذكر الدارقطني في علله (¬3) الاختلاف فيه وقال: الصحيح: " من الصلاة ركعة " وقد قال العقيلي - والله أعلم - وأما حديث ابن عمر فرواه النسائي (¬4)، وابن ماجه (¬5) من رواية بقية قال النسائي (¬6) عن يونس، وقال ابن ماجه (¬7) حدثنا يونس ين يزيد الأعلى عن الزهري، وقال النسائي (¬8) حديث الزهري عن سالم. قال النسائي (¬9) عن أبيه (¬10) [2ب]، وقال ابن ماجه (¬11) عن ابن عمر قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أدرك ركعة من صلاة الجمعة أو غيرها فقد تمت (¬12) صلاته "، وقال ابن ماجه (¬13): " فقد أدرك الصلاة ". ورواه. .................................. ¬

(¬1) (4/ 352). (¬2) (1/ 172) قال أبي هذا خطأ المتن والإسناد وإنما هو الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها " وأما قوله من صلاة الجمعة فليس هذا في الحديث فوهم في كليهما. (¬3) (9 - 217). (¬4) في " السنن " (1/ 274 - 275). (¬5) في " السنن " رقم (1132). (¬6) في " السنن " (1/ 274). (¬7) في سننة (1/ 356). (¬8) في " السنن " (1/ 274). (¬9) في " السنن " (1/ 274رقم 557). (¬10) أي سالم عن أبيه. (¬11) في " السنن " (1/ 356). (¬12) في رواية النسائي (1/ 274رقم 557). (¬13) في" السنن " رقم (1123).

الدارقطني (¬1) بلفظ فليضف إليها أخرى، وقد تمت في رواية (¬2) فقد أدرك الصلاة قال الدارقطني (¬3): قال لنا (¬4): إن أبي هريم لم يروه عن يونس إلا بقية، قال العراقي (¬5): بل رواه عنه سلميان بن بلال إلا أنه قال: عن ابن شهاب، عن سالم أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " من أدرك ركعة من الصلوات فقد أدركها إلا أن يقضي ما فاته " هكذا رواه النسائي (¬6) مرسلا. قلت: وهذا محمول على أنه أدرك الفضيلة، أو أدرك وقتها بدليل قوله: " إلا أن يقضي ما فاته ". والخلاف في كيفية القضاء. قال العراقي (¬7): وقد أورده ابن عدي في الكامل (¬8) في ترجمة بقية بن الوليد متصلا، وقال: هذا الحديث خالف فيه بقية في إسناده ومتنه، فأما الإسناد فقال عن سالم، وإنما هو عن الزهري عن سعيد، وفي المتن قال: من صلى الجمعة، والثقات رووه فلم يذكروا فيه الجمعة انتهى. وقال ابن أبي حاتم في " العلل " (¬9) عن أبيه: هذا خطأ في المتن والإسناد، وإنما هو عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا: " من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها ". وأما قوله: " من صلاة الجمعة " فوهم. قال ابن حجر (¬10): إن سلم من وهم بقية ففيه تدليس التسوية، لأنه عنعن لشيخه. ¬

(¬1) في " السنن " (2/ 12 رقم 2). (¬2) أي الدارقطني في " السنن " (2/ 12). (¬3) في" العلل " (9/ 223). (¬4) قال الدارقطني في " العلل " (9/ 223) قال أبو بكر بن أبي داود ولم يروه عن يونس إلا بقية. (¬5) انظر " طرح التثريب في شرح التقريب " (2/ 362). (¬6) في " السنن " (1/ 275رقم 558). (¬7) انظر " طرح التثريب في شرح التقريب " (2/ 361). (¬8) (2/ 508 - 509). (¬9) (1/ 172رقم 491). (¬10) في" التلخيص " (2/ 86).

قلت: أما التدليس (¬1) التسوية فقد يندفع بالتصريح بحديث في رواية ابن ماجه (¬2)، قال: حدثنا يونس، وقال النسائي (¬3): حدثنا الزهري، فبقيت المخالفة على ما هي. وأورده ابن عدي في الكامل (¬4) يف ترجمة إبراهيم بن عطية الثقفي الواسطي، عن يحيى بن سعيد، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: فهذا غير محفوظ. قال: وإنما يعرف من حديث بقية عن يونس، عن الزهري، عن سالم عن أبيه، والزهري روى هذا الحديث عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وإبراهيم هذا ضعيف، قال ابن حبان (¬5): منكر الحديث جدا، وكان هشيم يدلس عنه ألأخبار التي لا أصل لها، وهو حديث خطأ. قال العراقي (¬6): وقد اضطرب فيه بقية، رواه مرة عن الزبيدي، عن الزهري، عن سالم عن أبيه أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " من أدرك من الصلاة ركعة فليصل إليها أخرى " رواه البزار في مسنده (¬7). وقد خالف (¬8) الزبيدي الحفاظ في هذا، لأن الزهري يرويه عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وقال ابن حجر: هذا خطأ من تصرف البزار. ¬

(¬1) تدليس التسوية: وهو أن يجيء المدلس إلى حديث سمعة منت شيخ ثقة، وقد سمعه ذلك الشيخ الثقة من شيخ ضعيف، وذلك الشيخ الضعيف يروي عن شيخ ثقة. فيعمد المدلس الذي سمع الحديث من الثقة الأول فيسقط منه شيخ شيخه الضعيف، ويجعله من رواية شيخه الثقة عن الثقة الثاني، بلفظ محتمل كالعنعنة ونحوها، فيصير الإسناد كله ثقات ويصرح هو بالاتصال بينه وبين شيخه لأنه قد سمعه منه، فلا يظهر حينئذ في الإسناد ما يقتضي عدم قبوله إلا النقد والمعرفة بالعلل ولذلك كان شر أقسام التدليس. " التبصرة والتذكرة " (1/ 179 - 191). (¬2) في " السنن " رقم (1123). (¬3) في " السنن " (1/ 274). (¬4) (1/ 245). (¬5) في " المجروحين " (1/ 109). (¬6) انظر " طرح التثريب في شرح التقريب " (2/ 361 - 362). (¬7) في مسنده (1/ 310رقم 647 - كشف). (¬8) قاله البزار في مسنده (1/ 310).

قلت: لعل ابن حجر يعني أن المخالف بقية لا الزبيدي، أو غير ذلك فينظر. قال العراقي (¬1): وراه الدارقطني (¬2) أيضًا من رواية عيسى بن إبراهيم، وهو البركي، والطبراني في " الأوسط " (¬3) من رواية إبراهيم بن سليمان الدباس، وكلاهما عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أدرك ركعة من يوم الجمعة فقد أدركها، وليضف إليها أخرى " وهذا إسناد حسن. ورجاله موثقون انتهى. فقال في الميزان (¬4) عيسى بن إبراهيم البركي صدوق، له أوهام، قال ابن معين (¬5): لا يسوى شيئا، أو ليس حديثه بشيء كما في الكامل [3أ] للحافظ، قال الذهبي (¬6) قال شيخنا أبو الحجاج: ذلك وهم، إنما ذلك القرشي، وهو أقدم من هذا، قال الذهبي (¬7): والبركي منسوب إلى سكة البرك من البصرة يروي عن حماد بن سلمة، وطبقته، وعنه أبو داود، وأحمد بن علي الأبار قال أبو حاتم (¬8): صدوق، وقال النسائي (¬9): ليس به بأس، مات سنة ثمان وعشرين ومائتين. انتهى. لكنه يبقى النضر هل لقي شيخه، لأن عبد العزيز القسملي قال فيه ابن حجر في التقريب (¬10): إنه من الطبقة العاشرة (¬11) وهذه الطبقة قائمة مقام الشيوخ كما. ...................... ¬

(¬1) انظر: طرح التثريب في شرح التقريب " (2/ 361). (¬2) في" السنن " (2/ 13 رقم 14). (¬3) (4/ 276 رقم 4188). (¬4) (3/ 310 رقم 6549). (¬5) انظر " الميزان " (3/ 310). (¬6) في " الميزان " (3/ 310). (¬7) في " الميزان " (3/ 310). (¬8) ذكره الذهبي في " الميزان " (3/ 310). (¬9) ذكره الذهبي في " الميزان " (3/ 310). (¬10) (1 رقم 1251) " وهو أبو زيد المروزي البصري، ثقة عابد، ربما وهم من السابعة " مات سنة 67هـ. (¬11) قال ابن حجر في " التقريب " (1/ 512) من السابعة.

نبه (¬1) عليه في الخطبة، ولأن بين موت هذا وموت شيخه عبد العزيز بن مسلم (¬2) إحدى وستين سنة. وقد قرر ابن حجر (¬3) أيضًا أن عيسى بن إبراهيم ربما وهم كما في عادته في " التقريب " (¬4) في [. ... ] (¬5) بما هو الأرجح، فما قيل في الرجل قال العراقي: رواه الدارقطني (¬6) من رواية يعيش بن الجهم عن محمد بن عبده بن نمير، عن يحيى بن سعيد عن نافع، عن ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " من أدرك ركعة من الجمعة فليصل إليها أخرى " وأورده ابن عدي في " الكامل " (¬7) في ترجمة يعيش بن الجهم قال: وهذا الإسناد غير محفوظ. قال العراقي: وقد تقدم من رواية عبد العزيز القسملي، والقسملي احتج به الشيخان، رواه عنه ثقتان عيسى بن إبراهيم البركي (¬8)، وإبراهيم بن سليمان (¬9) الدباس انتهى. قلت: أما عبد العزيز قال في الميزان: بصري ثقة. قال العقيلي (¬10): في حديثه بعض الوهم. قال الذهبي (¬11): هذه الكلمة صادقة الوقوع على مثل مالك، وشعبة. ثم ساق العقيلي (¬12) له حديثا واحدا محفوظا قد خالفه فيه من دونه في الحفظ. قال يحيى (¬13) ¬

(¬1) ذكر ذلك ابن حجر في " مقدمة التقريب " (1/ 6). (¬2) انظر " التقريب " (1/ 512). (¬3) انظر " التقريب " (1/ 512). (¬4) انظر " التقريب " (1/ 512). (¬5) كلمة غير مقروءة في المخطوط. (¬6) في" السنن " (2/ 13رقم 14). (¬7) (7/ 2741). (¬8) تقدم ذكره وانظر " الميزان " (3/ 310). (¬9) انظر: " الجرح والتعديل " (2/ 103). (¬10) في " الضعفاء الكبير " (3/ 17رقم 973). (¬11) في " الميزان " (2/ 635رقم 5130). (¬12) في " الضعفاء " (3/ 17 - 18). (¬13) ذكره الذهبي في " الميزان " (2/ 635).

ابن معين عبد العزيز القسملي لا بأس به. وقال أبو حاتم (¬1): صالح. وقال يحيى بن إسحاق: سمعت منه، وكان من الأبدال. وقال العقدي: كان من العابدين. قال الذهبي (¬2): روى عن عبد الله بن دينار، وحصين، ورى عنه خلق منهم القعني، مات سنة 167هـ انتهى. لكن ابن حجر (¬3) قال ربما رهم. وأما إبراهيم بن سليمان الدباس فذكره ابن أبي حاتم (¬4)، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا. وذكره ابن حبان في الثقات (¬5)، لكن قال ابن حجر (¬6): أنه ذكر الدارقطني في العلل (¬7) الاختلاف فيه، وصوب وقفه انتهى. لأنه يرويه جعفر بن عون عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر موقوفا، ورواه سفيان عن الأشعث، عن نافع، عن ابن عمر موقوفا أيضا، وتابع الأشعث أيوب عن نافع أيضًا موقوفا. وأما حديث جابر فرواه ابن عدي في الكامل (¬8)، في ترجمة كثير بن شنظير عن عطاء بن أبي رباح [3ب] عن جابر عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " من أدرك السجد فقد أدرك الركعة ". قال ابن عدي (¬9): أحاديثه أرجو أن تكون مستقيمة. انتهى. ¬

(¬1) ذكره الذهبي في " الميزان " (2/ 635). (¬2) في" الميزان " (2/ 635رقم 5230). (¬3) في" التقريب " (1/ 512رقم 1251). (¬4) في" الجرح والتعديل " (2/ 103). (¬5) (8/ 69). (¬6) في " التلخيص " (2/ 85). (¬7) (9/ 216 - 217). (¬8) (6/ 2090). (¬9) في " الكامل " (6/ 2091).

والعجب من الحافظ العراقي (¬1) ميله إلى تصحيح هذا، لأنه إن كان المراد أنه قد أدرك الفضيلة فلا بأس في ذلك، وإن كان المراد أنه قد أدرك بالركعة بكمالها ويعتد بها فهذا أعلى غاية من الشذوذ، وكيف لا يشذ وعند أبي داود (¬2): " إذا أتيتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئا " وأما هو فقد مال إليه كما يظهر من كلامه عليه حيث قال (¬3): ولم أر من فرق بين إدراكه جالسا إلا أن فهم ذلك من قول أنس - رضي الله عنه - وابن المسيب، والحسن، والشعبي، وعلقمة، والأسود: إذا أدركهم جلوسا صلى أربعا. ولو قال قائل بأنه إذا أدركه قبل الجلوس للتشهد في الرفع من الركوع والسجود والرفع منه صلى ركعة. واستدل بحديث جابر المتقدم ولفظه: من أدرك السجدة فقد أدرك الركعة " فعلى هذا يكون مدركا للركعة بإدراك السجدة إلا أن يراد بالركعة السجدة، ومراد بالركعة كمالها بقراءتها، وفيه نظر. انتهى كلامه. ¬

(¬1) انظر " طرح التثريب في شرح التقريب " (2/ 361 - 363). (¬2) في " السنن " رقم (893). قلت: وأخرجه الدارقطني في " السنن " (1/ 347) والحاكم (1/ 216، 273، 274) وقال صحيح الإسناد، ويحيى بن أبي سليمان من ثقات المصرين. وفي الموضع الآخر قال: هو شيخ من أهل المدينة سكن مصر، ولم يذكر بجرح والصواب أن يحيى هذا لم يوثقه غير ابن حبان. وقال فيه البخاري: منكر الحديث. وقال أبو حاتم: مضطرب الحديث، ليس بالقوي وبهذا تعلم تساهل الحاكم في تصحيحه. انظر " ميزان الاعتدال " (4/ 383رقم 9535). وأخرج ابن خزيمة في صحيحه (3/ 57 - 58رقم 1622). وأخرجه البيهقي في " السنن الكبرى " (2/ 89) من طرق عن سعيد بن أبي مريم. قال البيهقي: تفرد به يحيى بن أبي سليمان المديني، وقد روي بإسناد آخر أضعف من ذلك عن أبي هريرة. وللحديث طرق يتقوى بها. وهو حديث صحيح. (¬3) انظر " طرح التثريب في شرح التقريب " (2/ 361 - 363).

قلت: ولم تحفظ هذه الزيادة إلا من طريق زيد بن عياض، وهو متروك، فبطلت دعوى ابن عدي - والله أعلم -. وإن حملت السجدة على ما هي عليه برواية البخاري (¬1) فهي إذا محفوظة. ولا يخفي ما في كلام العراقي من التكلف والتحمل، وإن قال آخرا: وفيه نظر تتمة للبحث، فقد تقرر في الأصول أن الفعل إذا كان بيانا لواجب مجمل وجب. والخطبة من بيان المجمل المأمور به في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) الآية. ولا شك أن الخطبة من ذكر الله، وقصر الذكر على الصلاة محتاج إلى دليل قاهر، ومما يزيد ذلك ما قال القاضي زيد في وجه قول يحيى - عليه السلام -، وهو ما روي عن عمر- رضي الله عنه - أنه قال: " إنما جعلت الخطبة مكان ركعتين، من لم يدرك الخطبة فليصل أربعا " ولم يؤثر خلافه عن أحد من الصحابة، فوجب أن يجري مجرى الإجماع في كون حجة. فإن قيل هذا يحتاج إلى إخراجه من الكتب المشهورة، قيل له: رواه أبو بكر ابن أبي شيبة في المصنف (¬2) من رواية يحيى بن ¬

(¬1) في صحيحه في رقم (556) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته. قال الخطابي: المراد بالسجدة: الركعة بركوعها وسجودها والركعة إنما يكون تمامها بسجودها فسميت على هذا المعنى سجدة. . "، " فتح الباري " (2/ 58). (¬2) (2). بين يدي الرسالة: قال الشافعي: ومن أدرك مع الإمام ركعة بسجدتين أتمها جمعة، وإن ترك سجدة فلم يدر أمن التي أدرك أم الأخرى، حسبها ركعة وأتمها ظهرا. انظر: " مختصر المزني " (ص 27). وقال الماوردي في " الحاوي " (3 - 51): إذا أدرك مع الإمام ركعة من صلاة الجمعة فقد أدرك بها الجمعة، فيأتي ركعة أخرى وقد تمت صلاته. وإن أدرك أقل من ركعة، لم يكن مدركا للجمعة، وأتمها ظهرا أربعا هذا مذهبنا وبه قال الصحابة: ابن مسعود، وابن عمر، وأنس بن مالك، ومن الفقهاء: الزهري، والثوري، مالك، وأحمد، وزفر، ومحمد بن الحسن. وذكر عن عطاء، وطاوس، ومجاهد، ومكحول: أنه لا يكون مدركا للجمعة إلا بإدرالك الخطبة والصلاة، به قال من الصحابة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. قال الماوردي: والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه: ما وراه ياسين بن معاذ عن الزهري عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الجمعة ومن أدرك أقل منه صلاها ظهرا ". تقدم مناقشة في الرسالة التي بين يديك. وكل ما ورد بلفظ: الجمعة، هو ضعيف، والله أعلم. وروى ابن شهاب الزهري، عن سعيد المقيري، عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إذا أدرك أحدكم ركعتين يوم الجمعة فقد أدرك الصلاة، ومن أدرك ركعة فليضف إليها أخرى، وإن لم يدرك ركعة فليصل أربعا ". ولأنه لم يدرك من الجمعة ما يعتد به فوجب أن لا يكون مدركا للجمعة، أصله؛ الإمام إذا انفضوا عنه قيل أن يصلى ركعة وقال أبو حنيفة، وهو أحد أقوالنا: بيني على الظهر. وأما الجواب عن قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وما فاتكم فاقضوا " تقدم تخريجه، فهو: أن يقال: وقد روي: " وما فاتكم فأتموا " فإن كان القضاء حجة علينا فالتمام حجة عليكم، فيسقطان جميعا، أو يستعملان معا، فيكون معنى قوله: " فاقضوا " إذا أدركوا ركعة، " وأتموا ": إذا أدركوا دون الركعة. وأما قياسهم على الركعة، فالمعنى في إدرك الركعة: أنها مما يعتد به وأما قياسهم على صلاة المسافر خلف المقيم، ففيه جوابان: أحدهما: أن التمام خلف المقيم لا يفتقر إلى الجماعة فلم يعتبر فيه إدرك ما يعتد به في جماعة، والجمعة من شرطها الجماعة، فاعتبر في إدراكها إدراك ما يعتد به جماعة. الثاني: أن المسافر خلف المقيم ينتقل من إسقاط إلى إيجاب، ومن إيجاب إلى إسقاط، ومن كمال إلى نقصان، فلم ينتقل إلا بشيء كامل، فسقط ما قالوا ". ثم قال: فإذا تقرر أن إدراك الجمعة يكون بركعة، فلا فرق بين أن يدركه قارئا في قيام الثانية، أو راكعا فيها، في أنه يكون مدركا لركعة يدرك بها الجمعة. فأما إن أدكه رافعا من ركوع الثانية فهو غير مدرك للجمعة، ولا يعتد له بهذه الركعة، فإذا سلم الإمام صلى ظهرا أربعا. فلو أدرك ركعة مع الإمام، وقام فأتي بركعة بعد سلام الإمام صلى ظهرا أربعا ثم قال: فلو أدرك ركعة مع الإمام، وقام فأتى بركعة بعد سلام الإمام، ثم تيقن أنه ترك سجدة من إحدى الركعتين، فإن علم أنه تركها من الثانية أتى بها وسجد للسهو، وسلم من جمعة، وإن علم أنه تركها من الأولى، كانت الأولى مجبورة بسجدة من الثانية، وتبطل الثانية، وعليه أن يأتي بثلاث ركعات تمام أربع، ويسجد للسهو ويسلم من ظهر. وإن شك هل تركها من الأولى أو الثانية؟ عمل على أسوأ أحواله، وأسوأ أحواله أن يكون قد تركها من الأولى، فيجبرها بالثانية، ويبني على الظهر. " المجموع " للنووي (4/ 526). قال أبو حنيفة: يكون مدركا للجمعة بدون الركعة، حتى لو أدرك معه الإحرام قبل سلامه بنى على الجمعة، وبه قال حماد بن أبي سليمان وإبراهيم النخعي استدلالا بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا ". فوجب أن يقتضي ما فاته لحصول ما أدركه. قالوا: ولأنه أدرك الإمام في حال هو فيها باق على الجمعة، فوجب أن يكون مدركا لها كالركعة. قالوا: ولأن كل من تعين فرضه بالإتمام، فإن بإدراك آخر الصلاة مع الإمام كإدراك أولها. أصله: المسافر خلف المقيم يلزمه الإتمام بإدراك آخر الصلاة، كما يلزمه الإتمام بإدراك أولها. انظر: " البناية في شرح الهداية " (3/ 88 - 90). قال ابن قدامة في " المغني " (3/ 184): ولنا، ما روى الزهري عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " من أدرك من الجمعة ركعة، فقد أدرك الصلاة ". رواه الأثرم، ورواه ابن ماجه ولفظه: " فيلصل إليها أخرى " وعن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " متفق عليه، ولأنه قول من سمينا من الصحابة، ولا مخالف لهم في عصرهم. ثم قال (3/ 183 - 184): أكثر أهل العلم يرون أن من أدرك من الجمعة مع الإمام، فهو مدرك لها، يضيف إليها أخرى، ويجزئه، وهذا قول ابن مسعود وابن عمر، وأنس، وسعيد بن المسيب والحسن، وعلقمة، والأسود، عروة، والزهري، والنخعي، ومالك، والثوري والشافعي، وإسحاق، وأبي ثور وأصاحب الرأي. وقال عطاء، وطاوس، ومجاهد، ومكحول؛ من لم يدرك الخطبة صلى أربعا. لأن الخطبة شرط للجمعة، فلا تكون جمعة في حق من لم يوجد في حقه شرطها. وأما من أدرك أقل من ركعة، فإنه لا يكون مدركا للجمعة، ويصلي ظهرا أربعا، وهو قول جميع من ذكرنا في المسألة السابقة. وقال الحكم وحماد وأبو حنيفة: يكون مدركا للجمعة بأي قدر أدركه من الصلاة مع الإمام، لأن من لزمه أن يبني على صلاة الإمام إذا أدرك، لزمه إذا أدرك أقل منها، كالمسافر يدرك المقيم، ولأنه أدرك جزءا من الصلاة، فكان مدركا لها كالظهر. وقد تقدم ذلك. قال الإمام مالك في " الموطأ " (1/ 105): وعلى ذلك أدركت أهل العلم ببلدنا، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة ". وأخرج مالك في " الموطأ " (1/ 105رقم 11) حدثني يحيى عن مالك عن أبن شهاب، أنه كان يقول. من أدرك من صلاة الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى، قال ابن شهاب: وهي السنة. وقال أبو عمر في " التمهيد " (7/ 70): وهذا موضع اختلف فيه الفقهاء فذهب مالك والشافعي، وأصحابهما، والثوري، والحسن بن حي، والأوزاعي وزفر بن الهذيل، ومحمد بن الحسن في الأشهر عنه، والليث بن سعد، وعبد العزيز بن أبي سلمة، وأحمد بن حنبل إلى أن من لم يدرك ركعة من صلاة الجمعة مع الإمام، صلى أربعا، وقال أحمد: إذا فاته الركوع، صلى أربعا، وإذا أدرك ركعة صلى إليها أخرى، عن غير واحد من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منهم ابن مسعود، وابن عمر وأنس، ذكره الأثرم عن أحمد. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إذا أحرم في يوم الجمعة قبل سلام الإمام صلى ركعتين وروي ذلك أيضًا عن إبراهيم النخعي، والحكم بن عتيبة، وحماد، وهو قول داود، واحتجا بقول الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا " قالوا: مأمور بالدخول معه، وروي عن محمد بن الحسن القولان جميعا. والقول الراجح هو: أكثر أهل العلم يرون أن من أدرك ركعة من الجمعة مع الإمام، فهو مدرك لها، يضيف إليها أخرى ويجزئه وهذا قول ابن مسعود وابن عمر، وأنس وسعيد بن المسيب والحسن وعلقمة والأسود وعروة، والزهري والنخعي ومالك، والثوري والشافعي وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الراي تبعا لما تقدم من عموم الأدلة ضمن الأحاديث التي تقدم ذكرها والتعليق عليها: فمنها " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ". البخاري رقم (580) ومسلم رقم (607) - والله أعلم - قد تقدم مزيد أدلة. وانظر: الرسالة رقم (88، 89، 90).

كثير. قال: حدثت عن عمر بن الخطاب قال: " إنما جعلت الخطبة مكان الركعتين، فإن لم يدرك الخطبة [4 أ] فليصل. إلى هنا الموجود من هذه المخطوطة والله أعلم.

اللمعة في الاعتداد بإدراك الركعة من الجمعة

اللمعة في الاعتداد بإدراك الركعة من الجمعة تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: (اللمعة في الاعتداد بإدراك الركعة من الجمعة). 2 - موضوع الرسالة: فقه الصلاة. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين، ورضي الله عن صحبه الأكرمين، وبعد: فإنه وقف الحقير محمد بن علي الشوكاني غفر الله له ذنوبه وستر عيوبه على بحث لبعض الأعلام. .. 4 - آخر الرسالة:. ... جمعنا هذه الورقات للكلام على ما فيه من العلماء المنصفين المؤثرين للأدلة على غيرها لكان لنا في الترك مندوحة. حرر في نهار يوم الخميس لعله سادس شهر شوال سنة 1218هـ. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني. 7 - عدد الصفحات: 14صفحة + صفحة العنوان. 8 - عدد الأسطر في الصفحة: 27 سطرا. 9 - عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات. 10 - الرسالة من المجلد الثاني من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين، ورضي الله عن صحبة الأكرمين، وبعد: فإنه وقف الحقير محمد بن علي الشوكاني - غفر الله ذنوبه، وستر عيوبه - على بحث لبعض الأعلام المبرزين في من أدرك ركعة من الجمعة، ولم يدرك الخطبة فأطال في ذلك وأطاب؛ ولكنه طلب مني بعض المستفيدين أن أحرر في هذه المسألة ما يظهر لي، وأوضح ما لدي، فأقول: حاصل ما يتعلق بهذه المسألة ينحصر في مقدمة وعشرة مقاصد. أما المقدمة: فاعلم أنه يقع كثيرا في كتب الاستدلال الإهمال للمسالك المعتبرة عند أهل العلم من كون من يدعي كون كذا شرطا (¬1) لكذا، أو فرضا فيه، أو ركنا له (¬2)، ونحو ذلك، هو الذي يطلب منه الدليل على إثبات تلك الدعوى، فإن جاء به خالصا عن شوب كدر النقص والمعارضة ونحوهما كانت دعواه صحيحة، وإن لم ينهض بذلك على الوجه المعتبر فالحق بيد المانع ولا يطالب بدليل، بل قيامه في مقام المنع، وثبوته في مركز الدفع يكفيه هذا إذا كان البحث بحث اجتهاد واستدلال، كما هو المفروض فيما نحن بصدده. وأما إذا كان البحث تقليد ونقل فليس على الناقل إلا تصحيح النقل، وهذه الجملة معلومة عند علماء هذا الفن، لا يختلفون في شيء من تفاصليها. فإذا رأيت من هو قائم في مقام المنع، وقد خاطبه المناظر به بالدليل، أو من كان مدعيا وقد تبرع له المانع بالدليل الذي ليس بسند للمنع فاعلم أن ذلك غلط في البحث، وخلط في المناظرة، فإن قيام المدعي في مقام المانع أو المانع في مقام المدعي لا يكون إلا لأحد أمرين: إما عدم الخبرة بكيفية المناظرة، أو لقصد المغالطة والترويج للشبهة. ¬

(¬1) سيأتي تعريفه. (¬2) سيأتي تعريفه.

إذا تقرر هذا فاعلم أن من ادعى أن الجمعة لا تصح بدون سماع الخطبة فقد ادعى أن الخطبة شرط، أو ركن لها، إذ الذي يقتضي البطلان هو ذلك. أما الشرط (¬1) فلكونه وصف ظاهر منضبط يستلزم عدمه عدم الحكم، كما تقرر في الأصول، وأما الركن (¬2) فلأن الذات التي طلبها الشارع قد وجدت ناقصة، ولا تكون مجزية إلا بدليل يدل على ذلك، ولا يفيد مدعي البطلان إقامة البرهان على أن تلك الذات قد وجدت خالية عن فرض من فرائضها، أو واجب من واجباتها، لأنهما لا توجبان [1أ] بطلان ما هما فيه كذلك. أما عند من يجعلهما مترادفين (¬3) فظاهر؛ إذ هما لا يستلزمان إلا المدح للفاعل، والذم للتارك، كما تقرر في الأصول (¬4) أن ذلك هو مفهومهما. أما عند من لم يجعلهما مترادفين كالحنفية (¬5) فهو لا يفرق بينهما إلا من حيث ثبوت الفرض بدليل قطعي، ¬

(¬1) وقال صاحب " جمع الجوامع " (2/ 20) الشرط: ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجودا أو عدم لذاته. انظر: " المحصول " (1/ 109)، " الكوكب المنير" (1/ 359). (¬2) الركن: لغة ركن الشيء جانبه القوي. وفي الاصطلاح مايقوم به ذلك الشيء من التقوم إذ قوام الشيء بركنه. وقيل: ركن الشيء ما يتم به وهو داخل فيه بخلاف شرطه وهو خارج عنه. " التعريفات" (ص117). (¬3) ذكره صاحب " الكوكب المنير " (1/ 351 - 352). (¬4) انظر: " نهاية السول " (1/ 58)، " الإحكام " لابن حزم (1/ 323)، " المستصفى " (1/ 66). (¬5) رتب الحنفية على الفرق بينهما أثارا كثيرة منها أن حكم الفرض لازم علما وتصديقا وبالقلب وعملا بالبدن، وأنه من أركان الشرائع، ويكفر جاحده، ويفسق تاركه بلا عذر. أما حكم الواجب فهو لازم عملا بالبدن لا تصديقا، ولا يكفر جاحده، ويفسق تاركه إن استخف به. أما إذا تأول فلا. وإذا ترك المكلف فرضا كالركوع أو السجود بطلت صلاته، ولا يسقط في عمد ولا في سهو. ولا تبرأ الذمة إلا بالإعادة. أما إذا ترك واجبا فإن عمله صحيح، ولكنه ناقص. وعليه الإعادة فإن لم يعد برئت ذمته مع الإثم. " المسودة " (ص 50)، " تيسير التحرير " (2/ 135).

والواجب بدليل قطعي، والواجب بدليل ظني، مع كون لكل واحد منهما لوازم عنده لا مدخل لها في البطلان. فغاية ما يلزم من ترك فرضا، أو واجبا أن يكون مذموما بذلك الترك، وهذا الذم لا يستلزم بطلان الذات. ولا منافاة بين كون المكلف يمدح على تأديته لما هو مكلف به، ويذم على تركه بعض ما هو فرض أو واجب فيه. فإن الصحة سقوط القضاء في العبادات، وترتب الآثار جميعا في المعاملات، وههنا قد سقط القضاء، وهكذا الإجزاء كما قرره أهل الأصول؛ فإنهم جعلوا الإجزاء كالصحة في العبادات، وأما ما قاله المتكلمون من أن الصحة موافقة الأمر فهو غير اصطلاح أهل الأصول على أنهم قد صححوا الذات التي وقع التكليف بها مع، عدم شرطها في الواقع إذا حصل الظن بفعله فقط. إذا عرفت هذا فاعلم أن كون الشيء شرطا لشيء لا يثبت إلا بدليل يدل على عدم وجود ذلك المشروط، عند عدم ذلك الشرط، وذلك كالنفي المتوجه إلى الذات التي وقع التكليف بها كقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " (¬1) ونحوه، فإن هذا النفي يتوجه إلى الذات الشرعية التي وقع بها التكليف، فالخطاب باق، وعلى فرض وجود ذات غير شرعية فلا اعتبار بها، لأن التكليف الذي يلزم المكلف، ويسقط به القضاء هو شيء مخصوص، وهو ما كان شرعيا لا كل فعل يفعله، وأي صورة جاء بها، سواء كانت شرعية أم لا. وبهذا تعلم أن توجه النفي إلى الذات بهذا الاعتبار صحيح، فلا ضرورة تلجئ إلى القول بأنه لا يمكن توجيهه إلى الذات، لوجودها في الخارج، بل يتوجه إلى الصحة أو الكمال، لأنا نقول: لا اعتبار بتلك الذات التي ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (756) ومسلم رقم (394) وأبو داود رقم (822) والترمذي رقم (247) وابن ماجه رقم (837) وأحمد (5/ 314) من حديث عبادة بن الصامت.

وجدت في الخارج؛ إذ هي غير شرعية. والاعتبار إنما هو بالذات الشرعية التي وقع [1ب] التكليف بها. وكما يصلح الدليل المشتمل على نفي الذات لإثبات الشرطية، كذلك يصلح الدليل المشتمل على نفي القبول المتعلق بالذات، لإثبات الشرطية كقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا يقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " (¬1). وقد ذهب بعض المحققين إلى أنه لا تلازم بين القبول (¬2) والإجزاء. وقال: القبول أعم مطلقا من الإجزاء، وبينه بأن كل مقبول مجز ولا عكس (¬3). قال: لأن المجزي ما يخرج به المكلف عن عهدة التكليف، والقبول ما يترتب على فعله الثواب؛ وأقول: إن نفي القبول المتعلق بتلك الذات التي وقع التكليف بها ظاهره يعم القبول للذات التي يخرج المكلف بفعلها عن عهدة التكليف والقبول لثوابها إلا بدليل يدل على قبول الذات، وسقوط التكليف بفعلها مع عدم ذلك الأمر الذي كان نفي القبول لأجله، فلا يرد ما أورده هذا القائل من الأدلة على سقوط التكليف، مع تصريح الشارع بعدم القبول، كقيام الإجماع على قبول صلاة الفاسق مع قوله تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (¬4) وكذلك الأحاديث الواردة في عدم قبلو صلاة الآبق (¬5)، ومن بلغت ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6904) ومسلم رقم (2/ 225) وأبو داود رقم (60) والترمذي رقم (76) وأبو عوانة (1) وأحمد (2/ 308، 318). من حديث أبي هريرة. (¬2) أنظر " تيسير التحرير " (2/ 235)، " جمع الجوامع " (1/ 103). (¬3) انظر " المسودة " (ص52). (¬4) [المائدة: 27]. (¬5) أخرجه الترمذي في " السنن " رقم (360) من حديث أبي أمامة قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، والمرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون ". قال الترمذي في " السنن " (2/ 193): هذا حديث غريب من هذا الوجه. وهو حديث حسن

المحيض بدون خمار (¬1) ونحو ذلك، فإنها إذا قامت الأدلة المقبولة على سقوط التكليف مع تصريح الشارع بعد القبول (¬2) كانت تلك الأدلة مخصصة لما يقتضيه نفي القبول، وإن لم يقم كان الواجب البقاء على نفي القبول على العموم. فإن الفعل المنفي يتضمن النكرة، فيكون من باب النكرة (¬3) الواقعة في سياق النفي. ومن جملة ما يصلح للاستدلال به على الشرطية النهي الصريح المتعلق بفعل الذات عند عدم شيء، وذلك كقول القائل: لا يصل أحدكم وهو محدث، ونحو ذلك؛ فإن النهي (¬4) يدل على الفساد المرادف للبطلان (¬5) إن كان لذات الشيء أو لجزء الذات، لا لأمر خارج كما قرره أهل الأصول. ولا ت نافي بين قول من قال: إنه يدل على التحريم أو القبح. ومن جملة ما يصلح للاستدلال به على الشرطية إذا قال الشارع: من فعل كذا بدون كذا ففعله خداج، أو باطل أو غير صحيح، أو غير مجز، أو نحو ذلك، مما يؤدي هذا المعنى، ويفيد هذا المفاد [2أ]. وأما ذهاب ركن الشيء ¬

(¬1) أخرجه أحمد في المسند (6/ 105) وأبو داود رقم (641) والترمذي رقم (377) وقال حديث حسن. وابن ماجه رقم (655) وابن خزيمة في صحيحه (1/ 380رقم 775) والحاكم في " المستدرك " (1/ 251) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وهو حديث صحيح. (¬2) انظر " السيل الجرار " (1/ 361). (¬3) انظر " جمع الجوامع " (1/ 413)، " نزهة الخاطر العاطر " (2/ 125). (¬4) قالوا أن ورود صيغة النهي مطلقة عن شيء لعينه - أي لعين ذلك الشيء كالكفر والظلم والكذب ونحوها من المستقبح لذاته: يقتضي الفساد شرعا عند الأئمة الأربعة والظاهرية. قال القرافي في " شرح وتنقيح الفصول " (ص173): ومعنى الفساد في العبادات وقوعها على نوع من الخلل يوجب بقاء الذمة مشغولة بها وفي المعاملات عدم ترتب أثارها عليها. (¬5) اختلف الأصوليون في اقتضاء النهي الفساد والبطلان وقيل بيان المذاهب في ذلك وما يترتب عليها من اختلاف الفروع يتعين علينا أن نوضح أمرين أثنين: الأمر الأول: أحوال النهي: 1 - أن يأتي النهي مطلقا أي مطلقا عن القرائن الدالة على أن المنهي عنه قبيح لغيره أو لعينه وهذا نوعان: أ- نوع يكون النهي عن الأفعال الحسية، كالزناوالقتل وشرب الخمر. ب- نوع يكون النهي فيه عن التصرفات الشرعية وذلك كالصوم، والصلاة. 2 - أن يكون النهي راجعا لذات الفعل أو لجزئه وذلك كالنهي عن بيع الحصاة وبيع الحصاة هو أن يجعل نفس الرمي بيعا. فالنهي إذن راجع إلى ذات الفعل. وكالنهي عن بيع المضامين والملاقيح وحبل الحبلة. فالنهي راجع إلى المبيع وهو ركن من أركان العقد وجزء من أجزائه. 3 - أن يكون النهي راجعا إلى وصف لازم للمنهي عنه دون أصله وذلك كالنهي عن الرباء، فالنهي من أجل الزيادة. والزيادة ليست هي عقد البيع ولا جزء له بل وصف له. أن يكون النهي عن العمل راجعا إلى وصف مجاور له، ينفك عنه، غير لازم، لأنه قد يحصل بغيرها. الأمر الثاني: بيان معنى الصحة والبطلان والفساد. الصحة: في العبادات عند الفقهاء هي عبارة عن كون الفعل مسقطا للقضاء. وعند المتكلمين: عبارة عن موافقة الشرع وجب القضاء أو لم يجب. والصحة في المعاملات: كون العقد سببا لترتب ثمراته المطلوبة عليه شرعا. البطلان: معناه في العبادة عدم سقوط القضاء بالفعل وذلك كمن وطئ في الحج بعد الإحرام وقبل التحلل الأول. ومعناه في المعاملات: تخلف الأحكام عنها وخروجها عن كونها أسبابا مقيدة للأحكام. وذلك كبيع المضامين، كعقد النكاح على المحارم. معنى الفساد: فهو مرادف للبطلان عند جمهور الفقهاء وانظر قول القرافي وقد تقدم وعند الحنفية الفساد قسم ثالث مغاير للصحة والبطلان، فالفاسد عندهم هو ما كان مشروعا بأصله، غير مشروع بوصفه، وهو ما عرفه بعضهم بقوله: " ما كان مشروعا في نفسه، فائت المعين من وجه، لملازمة ما ليس بمشروع أياه بحكم الحال، مع تصور الانفصال في الجملة ". وذلك كعقد الربا، فإن البيع مشروع بأصله، لكن رافقه وصف الربا الذي هو غير مشروع. انظر: " التبصرة " (ص 100)، " المستصفى " (2/ 24)، " جمع الجوامع " (1/ 393).

الذي وقع التعبد به، فذلك كالصلاة التي هي ناقصة ركعة أو ركوعا، أو سجدة، فإن التعبد بالصلاة إنما ورد بصورة مخصوصة؛ فإذا كانت ناقصة نقصانا يخرج به عن الهيئة المطلوبة من الشارع، وهو النقصان الذاتي، فمن فعلها على تلك الصورة الناقصة لم يفعل الصورة التي طلبها منه الشارع. فإذا ادعى صحتها فعليه الدليل، ويكفي المانع للصحة أن يقوم في مركز المنع حتى يأتي مدعي الصحة بما ينقله عن مقام المنع، ولا ينقله عن ذلك إلا دليل صحيح يدل على أن تلك الصورة الناقصة صحيحة، مجزية، مسقطة للقضاء، هذا إذا كان قد اتفق المتناظران على أن ذلك الشيء الذي تركه المكلف هو ركن من أركان الصورة التي وقع التكليف بها، وأنها بدونه ناقصة نقصانا ذاتيا؛ أما إذا لم يتفقا، بل قال أحدهما: إن هذ الشيء الذي تركه المكلف ليس بجزء من أجزاء الصورة المطلوبة، أو أنه لا يوجب نقصانا في تلك الصورة فالدليل على مدعي الجزئية، وكون ذلك الجزء يوجب نقصا في الصورة المطلوبة من الشارع؛ ويكفي المانع قيامه في مقام المنع، حتى يبرهن المدعي على دعواه. فإذا برهن عليها برهانا مقبولا لم يقبل بعد ذلك المنع المجرد من المناظر له، بل قد ثبت بالبرهان أن ذلك الشيء ركن لتلك الصورة المطلوبة. فمن ادعى أنها مقبولة بدونه فعليه البرهان، إن جاء به فذاك، وإلا كان عليه أن يسلم بأنها غير مقبولة ولا مجزئة. إذا تقرر لك ما يكون به الشرط شرطا، وما يكون به الركن ركنا، وما هو الدليل الذي يصلح لإثبات ذلك، عرفت أن المقتضي للبطلان ما وقع التكليف به هو إما عدم شرطه، أو عدم شطره، لا عدم ما هو واجب من واجباته التي ليست بشرط ولا شطر. فمن استدل مثلا بالأمر بشيء على كون ذلك الشيء شرطا يستلزم عدمه عدم المشروط فقد غلط غلطا بينا، بل عامة ما يفيده الأمر هو كون ذلك المأمور به واجبا يمدح فاعله [2ب] ويذم تاركه. وهو لا يدل على استلزام عدمه لعدم ما هو واجب فيه، لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام. وإذا كان الأمر الصريح المفيد للوجوب بقاء على معناه الحقيقي، لعدم وجود ما يصرفه لا يفيد البطلان، فبالأولى عدم

استفادة ذلك من طول الملازمة، وتكرير الفعل، وإلى هنا. انتهى ما نريده من المقدمة، فلنشرع الآن في المقاصد فنقول: [المقصد الأول] إذا قال قائل: إن الخطبة شرط لصلاة الجمعة، أو شطر لها، فمنع ذلك مانع، فالدليل على مدعي الشرطية أو الشطرية. ويكفي المانع وقوفه في موقف المنع، فيقول مثلا: لا أسلم أن الخطبة شرط لصلاة الجمعة، ولا أسلم أنها شطر لها. ولا يفيد المدعي إلا دليل يدل على أن الخطبة شرط. وقد عرفت أنه لا يدل على الشرطية إلا تلك الأدلة الخاصة، لا مجرد أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: كان يخطب، أو أنه أمرنا بالخطبة، أو نحو ذلك. ولا يمكنه ههنا دعوى كون الخطبة ركنا لصلاة الجمعة، لأن صلاة الجمعة صلاة تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم. فما لم يكن بين تحريمها وتحليلها فليس منها فضلا عن أن يكون شرطا لها ولا ريب أن الشرط كما يكون داخلا ومصاحبا يكون خارجا، ولكن أين الدليل الذي يدل على الشرطية التي هي المدعاة. [المقصد الثاني] أن بعض الأعلام وهو الذي قدمنا الإشارة إليه في أول هذا البحث جعل عنوان بحثه: الكلام على تضعيف رواية: " من أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى " (¬1)، وغير خاف عليك أن المقام مقام الاستدلال من مدعي الشرطية أو الشطرية، لا مقام إيراد دليل من هو قائم مقام المنع، فإنه ليس بمستدل في هذا المقام، ولا يتوجه عليه الخطاب بإبراز الدليل، ولا يصلح للمدعي أ، يغضب عليه منصب المنع، فيجعله مستدلا، ويجعل نفسه مانعا، فإن هذا مخالف لأدب البحث، ومباين لقواعد المناظرة. ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (87).

[المقصد الثالث] أنه - كثر الله فوائده [3أ]- سلم في عنوان بحثه، الذي أشرنا إليه، أنه قد ثبت الحديث بلفظ: " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " كما في الصحيحين (¬1) وغيرهما، فلو فرضنا أن المانع قد تبرع بإيراد هذا الدليل، ولم يتوقف في مركزه الذي ليس عليه غير الوقوف فيه، بل جاء بما يشبه سند المنع قائلا: لم لا يجوز أن تكون الجمعة كسائر الصلوات؟ يحصل إدراكها بإدراك ركعة منها، للحديث المذكور في الصلاة على العموم، لكان في هذا السند للمنع من الفائدة ما يوجب على من ادعى أنها ليس كسائر الصلوات أن يقيم البرهان على ذلك، لأن صلاة الجمعة قد وجد فيها ما وجد في غيرها من الصلوات، وهي كونها ذات أذكار وأركان، تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم (¬2)، مع كونها قد قامت مقام إحدى الصلوات الخمس. فالقائل بأنها كسائر الصلوات القول قوله، والظاهر معه، والدليل على مدعي إخراجها عن الصلوات، وعدم الاعتداد بإدراك ركعة منها، ولا يفيد ذلك إلا دليل يدل على الأمرين جميعا، أعني أنها لا تستحق هذا الوصف، وهو أنها صلاة من الصلوات، ولا يكون إدراك الركعة منها إدراكا لها، فأين هذا الدليل؟ وما هو؟. [المقصد الرابع] لو سلم المانع بأن رواية: " من أدرك من الجمعة ركعة فقد أدركها. (¬3) أو: " من ¬

(¬1) تقدم مرارا. (¬2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (618) والترمذي رقم (3) وابن ماجه رقم (275) والطحاوي في " شرح معاني الآثار " (1/ 273) والشافعي كما في " ترتيب المسند " (1/ 70 رقم 206) وابن أبي شيبة (1/ 229) وأحمد (1/ 129) من حديث على - رضي الله عنه - مرفوعًا بلفظ: " مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير التسليم ". وهو حديث حسن. (¬3) تقدم تخريجه.

أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى وقد تمت صلاته " (¬1). باطلة أو موضوعة، فماذا عليه؟ وهو يقول أنا أمنع كون الخطبة شرطا أو شطرا، حتى يكون من لم يدركها غير مدرك لصلاة الجمعة، أو يقول: أنا أتبرع بسند لهذا المنع. فأقول: قد ثبت في سائر الصلوات بالاتفاق، وبالدليل الصحيح، أن من أدرك ركعة منها فقد أدركهأ، ويتم ما بقي عليه من عدد تلك الصلاة، فما بال الجمعة لم تكن هكذا، مع كونها صلاة من الصلوات بالاتفاق، ومسقطا لإحدى الصلوات الخمس بلا خلا ف. فأنا أطلب الدليل من المدعي لها [3ب] ما ليس لغيرها من شرط أوشطر، ومن المدعي أنها ليست كغيرها في أنه يكون مدراك الركعة منها مدركا لها، وتم ما بقي عليه منها، فأين البرهان على هذا؟ أو ما هو؟. [المقصد الخامس] ما ذكره - دامت إفادته - من أن الإجماع كائن على أن من أدرك الركعة لا يكون مدركا لكل الصلاة، بل يتم ما بقي، فيقال له: وهكذا القائل بأن إدراك الركعة من الجمعة، إدراك للجمعة لا يقول إنها تدرك الجمعة كلها بالركعة من دون تمام، بل يقول: إنه يتم الركعة الأخرى كسائر الصلوات، وليس مطلوبه إلا هذا، مع منعه للتفرقة بين صلاة الجمعة وغيرها، فهذا القدر يكفيه، مع أنه يمكنه أن يربط ما يقوله بفحوى الخطاب فيقول: إذا كان إدراك ركعة من سائر الصلوات يكفي في إدراكها، وإن خرج الوقت بعد إدراك الركعة، وقبل تمام بقيتها فكيف لا يكون من أدرك ركعة من الجمعة مع بقاء وقتها! والتمكن من تأدية الركعة الباقية في الوقت مدركا لها، مجتزيا بها، فهذا سند للمنع قوي، وكلام سوي. ¬

(¬1) تقدم تخريجه.

[المقصد السادس] قال - كثر الله فوائده - بعد أن ساق طرق حديث: من أدرك من الجمعة ركعة ما لفظه: قلت: وهذا محمول على أنه أدرك الفضيلة، أو أدرك وقتها، بدليل قوله إلا أن يقضي ما فاته. وأقول: إن كان هذا الحمل للأدلة الواردة في سائر الصلوات من غير تخصيص بالجمعة استلزم عدم الاعتداد بالركعة التي يدركها المدرك من جميع الصلوات، وأن من أدرك من الجماعة ركعة فلا اعتبار بتلك الركعة، بل المدرك لها إنما أدرك الفضيلة فقط، ويستأنف الصلاة من أولها في جماعة أو فرادى. وهكذا من أدرك من صلاة من الصلوات الخمس بركعة، وخرج وقتها لم يدرك إلا الفضيلة، وقد فاتته الصلاة، وهذا خرق للإجماع، وإهمال للأدلة المتواترة. وإن كان هذا الحمل إنما هو لصلاة الجمعة فقط، فما ذنبها مع اندراجها تحت الأحاديث الصحيحة المتواترة المصرحة بأن من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها، وهي صلاة بالاتفاق؛ بل عليه أن يضيف إليها أخرى، ولا يقتصر [4أ] على الركعة بناء على ظاهر الحديث ويقول: قد تمت صلاة الجمعة بإدراك الركعة، وليس عليه غير ذلك؛ فهذا معلوم للمانع، كما هو معلوم للمستدل، بل هو مجمع عليه، ولا يحتاج إلى الحمل، فإن الأدلة قد دلت على أنه يتم ما بقي عليه. [المقصد السابع] قال - كثر الله فوائده -: قد تقرر في الأصول أن الفعل إذا كان تبيانا لواجب مجمل وجب، والخطبة من بيان المجمل المأمور به في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ. ... ) (¬1) الآية. ¬

(¬1) [الجمعة: 9].

ولا يشك أن الخطبة من ذكر الله، وقصر الذكر على الصلاة محتاج إلى دليل فما هو؟. أقول: إذا كان الواجب المدعو إليه هو الذكر الذي هو الخطبة، والذكر الكائن في الصلاة، فمن أين الإجمال سلمنا، فكل واحدة من الخطبة والصلاة مأمور بالسعي إليها على طريق الاستقلال، فكل واحد منهما واجب مستقل، فمن أدرك الواجبين فقد أدركهما، من أدرك أحدهما فقد أدركه، فمن أين للمدعي شرطية أحدهما للآخر، أو شطريته؟ والبرهان على ذلك وهذا هو محل النزاع، ولا سبيل له إلى ذليل يدل على أن خطبة الجمعة شرط لصلاة الجمعة، كما أنه لا سبيل له إلى تصحيح دعوى أن الخطبة شطر للصلاة، بعد تسليمه أنها صلاة مستقلة بتحريم، وتحليل، وأذكار، وأركان. فخلاصة ما يستفاد من الآية التي فيها الأمر بالسعي هو وجوب السعي، لا وجوب ما إليه السعي. ولو سلمنا أن وجوب الوسيلة بعلوم وجوب المتوسل إليه، فغاية ما هناك أنه يجب على الساعي استماع الخطبة، وهذا واجب مستقل، وفعل الصلاة، وهذا أيضًا واجب مستقل. فما الذي تقيده هذه الآية؟ غير هذا، وهو كون أحد الواجبين المنفصل أحدهما عن الآخر شرطا له أو شطرا له حتى يكون سماع الخطبة مؤثرا عدمه في عدم الصلاة. فالحاصل أن المطلوب منه - عافاه الله - أن يبين؛ أولا الإجمال الذي ادعاه، ثم يوضع دليل الوجوب، ثم يبرهن على أن الخطبة داخلة في المدعو إليه، فإن الذي فهمه الصحابة فمن بعدهم أن الدعاء بالآية الكريمة، إنما هو إلى الصلاة [4ب]. ثم يبين أن الخطبة شرط للصلاة، أو شطر لها، حتى يصح ما ادعاه من أن من فاتته الخطبة لم يعتد بصلاة الجماعة، فإن هذا أعني عدم الاعتداد بالشيء لا يكون إلا لفوات شرطه أو شطره، ومهما أمكنه بيان ما تقدم فلا يمكن بيان هذا الوجه الآخر بوجه من الوجوه، وهو محل النزاع.

[المقصد الثامن] قال - كثر الله فوائده -: " مجيبا على من علل بالانقطاع: إن أصحابنا يحتجون بالمنقطع (¬1)، فيقال له: إن كان المقصود بيان مذهب الأصحاب فنصوصهم في هذه المسألة معروفة للمقصر والكامل، ومصرح بها في المختصرات من كتب الفقه، فضلا عن المطولات، فقد صرحوا تصريحا لا شك فيه أن من لم يدرك قدر آية من الخطبة أتمت ظهرا، ولكن الشأن في دفع التعليل بالانقطاع بكون مذهب الأصحاب العمل به، فإنه لا يعجز المعلل بالانقطاع أن يقول: ومذهب أصحابه أنهم لا يحتجون به وحينئذ فما التخلص عن أصحاب هذا، وأصحاب هذا، وإن كان مقصودة بيان الحق في الواقع في هذا التحرير الذي حرره، فيقال له: كيف يكون ما انقطع إسناده مما تقوم به الحجة والعقل، يجوز أن ذلك الانقطاع قد يكون في كذب، أو رضاع، أو ضعيف لا يحتج به، كم يجوز العقل أن الذي فيه ثقة مقبول، بل التجويز الأول أظهر، لأن غالب الانقطاع، والتدليس، والإرسال، والإعضال (¬2) لا يكون إلا لعلة، وإلا فما وجه ذكر بعض الرجال السند دون بعض؟. وما النكتة في ذلك مع كون كلهم ثقات تقوم بكل واحد منهم الحجة. ¬

(¬1) المنقطع: وهو ما لم يتصل إسناده، سواء سقط منه صحابي أو غيره وبعبارة أخرى، سواء ترك ذكر الراوي من أول السند أو وسطه أو آخره إلا أن الغالب استعماله في رواية من دون التابعي عن الصحابي كمالك عن ابن عمر، المنقطع ضعيف لا يحتج به. " وقواعد التحديث " للقاسمي (ص130). " إرشاد الفحول " (ص 247). قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص 248): ولا تقوم الحجة بالمعضل وهو الذي سقط من رواته اثنان ولا بما سقط من رواته أكثر من اثنين لجواز أن يكون الساقط أو الساقطان أو الساقطون أو بعضهم غير ثقات. (¬2) انظر التعليقة السابقة.

[المقصد التاسع] قال - كثر الله فوائده -: فإن قيل: هذا الذي روي عن ابن مسعود غير مرفوع، فيحتمل أن يكون مذهبا له، قيل له: الظاهر أن ذلك من المرفوع إذ لا يصدر ذلك التعميم من ذلك الصحابي الجليل، وعنده سنة مخالفة، والاحتمال لا يدفعه الظهور. أقول: أما كونه لا يصدر عنه ذلك، وعنده سنة مخالفة فيمكن. ولكن قد وقع من جماعة من الصحابة المخالفة لما رروه بالراي، كحديث غسل الإناء سبع مرات من ولوغ [5أ] الكلب، وتعفيره بالتراب (¬1)؛ فإن أبا هريرة (¬2) الراوي له كان يفتي بثلاث. وكذا الكلام فيمن أصبح جنبا، وفي مواضع عديدة. فإن كان هذا التعلق المذكور نافعا فيلزم صاحب البحث - عافاه الله - أن يجعل قول كل صحابي حجة، ويقدمه على المرفوع، وما أراه يقول بذلك. ثم إذا سلمنا أن ابن مسعود إنما قال ذلك لأنه لم يكن عنده سنة مخالفة، فماذا ينفعنا هذا. غاية الأمر أن أفتي لعدم وجود النص لديه، فمن أين يستلزم هذا أن لا يكون ذلك اجتهادا منه؟ وأي قول لصحابي (¬3) في كل جزء من جزئيات الشريعة لا يمكن أن يدعي فيه مثل هذا، ومن قد سبقه إلى مثل هذه المقالة، فإن أهل الأصول وغيرهم إنما جعلوا لأقوال الصحابة حكم الرفع إذا كان الشيء لا مجال للاجتهاد فيه (¬4) كتقدير الجزاء، وعدد الركعات، والطوافات، والرمي للجمرات وما ¬

(¬1) أخرجه مسلم رقم (280) وأحمد (4/ 86) وأبو داود رقم (74) والنسائي (1/ 177) وابن ماجه رقم (365) والدارمي (1/ 188) والدراقطني (1/ 65 رقم 11) والبيهقي (1/ 241 - 242) عن عبد الله بن مغفل. وهو حديث صحيح. (¬2) انظر المحلى (1/ 114 - 115). (¬3) تقدم قول الصحابي وتفصيل ذلك، وانظر: إرشاد الفحول ص 797. (¬4) قول الصحابي حجة فيما لا يدرك بالرأي والاجتهاد، حجة عند العلماء لأنه محمول على السماع من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيكون من قبيل السنة والسنة مصدر للتشريع. قال الإمام النووي في مقدمة شرح صحيح مسلم (1/ 30): إذا قال الصحابي: كنا نفعل في حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو في زمنه، أو هو فينا أو بين أظهرنا أو نحو ذلك فهو مرفوع. الإحكام للآمدي (4/ 155 - 156). نزهة الخاطر (1/ 403 - 406).

جرى هذا المجرى، فكيف يقال في مثل ما نحن بصدده من صلاة الجمعة أنه لا مجال للاجتهاد فيه. فإن كان الجزم منه بعدم احتماله للاجتهاد صادرا عن دليل فما هو؟ وإن كان لا جزم منه بل مجرد احتمال فنحن نمنع هذا الاحتمال، على أنه لو سلم الاحتمال لكان جوابنا عليه بما قاله هاهنا، من أن الاحتمال لا يدفع الظهور. [المقصد العاشر] قد ترك - كثر الله فوائده - العمل بالأحاديث المروية فيمن أدرك ركعة من الجمعة مع كون بعضها قد صححه بعض الأئمة المعتبرين (¬1)، وبعضها قد حسنه بعضهم وبعضها فيه مقال، ولو فرض أنه لا صحيح فيها ولا حسن لكانت بمجموعها مع كثرة طرقها، وتباين مخارجها من الحسن لغيره، وهو معمول به، فما باله - عافاه الله - عدل عن هذه الروايات المرفوعة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إلى ما رواه عن أولئك الصحابة رضي الله عنهم مع كون في طرق تلك الروايات عن الصحابة من المقال [5ب] ما هو أشد مما قيل في طرق هذه الأحاديث المرفوعة (¬2). فليت شعري كيف وقع له هذا مع إنصافه وطول باع عرفانه، وما الموجب لهذا عليه، مع كون قول الصحابي ليس بحجة عنده، ما لم يكن إجماعا لهم على خلاف فيه، فلقد طال تعجبي من ذاك. وكيف أبعد النجعة هذا الإبعاد، وسافر إلى دعوى الإجمال في الآية الكريمة، ثم لم يكفه ذلك حتى زعم أنه يجب على الأمة العمل بقول صحابي لكونه لا يقول ما قال إلا لعدم وجود دليل لديه، وأنه لا مجال للاجتهاد في ذلك، فله ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (87). (¬2) انظرها في الرسالة رقم (87).

حكم الرفع، فهب أنه لا وجود لدليل لدى ذلك الصحابي فكان ماذا، فقد جاءنا الدليل الثابت في الصحيح (¬1) وغيره (¬2) من طريق جماعة من الصحابة أن من أدرك من صلاة العصر ركعة قبل طلوع الشمس فقد أدرك، ومن أدرك ركعة من صلاة الفجر قبل طلوع الشمس فقد أدركها، ومن أدرك من الصلاة ركعة قبل خروج وقتها فقد أدركها (¬3)، من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة (¬4)، من أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة (¬5). وألفاظ غير هذه، لا يتسع المقام لبسطها، وهي متواترة في المعنى المراد. أعني أن إدراك ركعة من الصلاة قبل خروج وقتها، أو مع الإمام إدراك لها، ويتم ما بقي عليه. ولا خلاف بين المسلمين أن الجمعة صلاة، وأن لها ركعة يمكن إدراكها، كما لغيرها ركعة يمكن إدراكها. فهلا قدم - كثر الله فوائده - هذه السنة المتواترة وقال: الجمعة كغيرها. فإن قال: قد قام البرهان أنها ليست كغيرها. فما هو البرهان؟ وما الموجب لإخراجها عن غيرها مع كونها صلاة ذات أذكار وأركان، فيها تحريم بالتكبير، وتحليل بالتسليم، وقد قامت مقام غيرها من الصلوات الخمس، وهي الظهر في يوم الجمعة؟ فإن قال: إن الذي أخرجها عن هذه العمومات، ما رواه عن بعض الصحابة. فهل يقول في غير هذه المسألة بالتخصيص للسنن المتواترة بمثل ذلك، أم هذا تخصيص منه لهذه العبارة بهذه الخصوصية. فإن قال: إنه يقول في غيرها بذلك فما البرهان على هذا؟ وإن كان لا ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (556) ومسلم رقم (163/ 608). (¬2) كأحمد (2) وأبو داود رقم (412) والترمذي رقم (1116) والنسائي (1 - 258) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر. (¬3) انظر التعليقات السابقة. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم 580 ومسلم رقم 607 من حديث أبي هريرة وقد تقدم مرارا. (¬5) تقدم مرارا، وهو حديث صحيح.

يقول بذلك بل يخص هذه العبادة بذلك [6أ] وحدها دون غيرها، فما هذا بأول تعسف خصصت به هذه العبادة. فقد تلاعبت بها أقوال الرجال من يمين إلى شمال (¬1). هذا يقول: لا تصح إلا بعدد أربعين، وآخر يقول بأكثر من ذلك العدد، وآخر يقول بأقل منه، وهذا يقول: يشترط فيها المصر الجامع، وآخر يقول الذي فيه حمامات ومساجد ويسكنه عشرة آلاف، وآخر يقول دون ذلك، وآخر يقول أكثر، وهذا يقول: الإمام الأعظم على شروط يشترطونها واختراعات يخترعونها، وهذا يقول: يشترط سماع الخطبة، وهذا يقول كذا، وهذا يقول كذا. ليت شعري ما بال هذه العبادة من بين سائر العبادات ثبتت لها شروط وفروض وأركان بأمور لا يستحل العالم المحقق العارف بكيفية الاستدلال أن يجعل أكثرها سننا، ومندوبات، فضلا عن فرائض وواجبات، فضلا عن شرائط. ومع هذا فقد تأكد دخول هذه الصلاة تحت عموم الصلوات بأدلة خاصة مصرحة بها. وبالغ الشارع في البيان حتى قال: من أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى، وقد تمت صلاته. (¬2) فلم يكتف بمجرد الإدراك، بل ضم إلى ذلك إضافة أخرى إليها ثم لم يكتف بذلك، بل جاء بما يدفع كل علة، وينقع كل غلة، فقال: وقد تمت صلاته. ومع هذا فقد أوضحنا لك أن الدليل على مدعي كون لهذه العبادة شرطا أو شطرا، وبينا ما يصلح للاستدلال به على مثل ذلك، فأين الدليل القائل لا صلاة جمعة لمن لم يسمع الخطبة أو بعضها، أو لا تقبل صلاة جمعة إلا بسماع خطبة، أو لا يصل أحدكم الجمعة إذا لم يسمع شيئا من الخطبة، فإنا لم نجد حرفا من هذا في السنة المطهرة؛ ¬

(¬1) انظر المغني (3/ 184) قال ابن قدامة: أكثر أهل العلم يرون أن من أدرك ركعة من الجمعة مع الإمام فهو مدرك لها، يضيف إليها أخرى، ويجزئه وهذا قول ابن مسعود وابن عمر وأنس وسعيد بن المسيب والحسن وعلقمة والأسود وعروة، والزهري والنخعي ومالك، والثوري والشافعي وإسحاق وأبي ثور، وأصحاب الرأي، وانظر مزيد تفصيل في المصدر المذكور. (¬2) تقدم تخريجه.

بل لم نجد فيها قولا يشتمل على الأمر بها الذي يستفاد منه الوجوب، فضلا عن الشرطية. وليس هناك إلا مجرد أفعال محكية عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه خطب وقال في خطبته كذا، وقرأ كذا، وهذا غاية ما فيه أن تكون الخطبة قبل صلاة الجمعة سنة [6ب] من السنن المؤكدة، لا واجبة، فضلا عن أن تكون شرطا للصلاة بخلاف الصوم، فإن الشارع صرح لأمته أن الله أبدلهم يوم الجمعة بصلاة مكان صلاة الظهر وهي الجمعة. وورد الأمر بها والنهي عن تركها (¬1)، والوعيد لتاركها (¬2) بأن يحرق عليه منزله بالنار , وبأن الله يطبع على قلبه (¬3)، ويختم على قلبه ويكون من الغافلين، وغير ذلك من النصوص الصحيحة الصريحة الكثيرة، ولم يأت في حرف منها ذكر الخطبة، ولا ما يدل على وجوبها، فضلا عن كونها شرطا للصلاة، ولا ورد الوعيد على تركها لا بتصريح ولا بتلويح. فما بال من يتصف بجعلها فريضة كفريضة صلاة الجمعة، وتجاوز ذلك إلى أنها شرط لصلاة الجمعة، فليته إذا فرط في إثبات مشروعية الخطبة وجاوز بها كونها سنة إلى كونها فريضة أن لا يدعي ما لا يقبله الإنصاف من كونها شرطا لغيرها، ويهمل ما يعتبره أهل العلم في دلائل الشروط من الأمور التي يجب الوقوف عندها، بل يعمل الأدلة المتواترة الواردة في أن من أدرك .............. ¬

(¬1) لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} [الجمعة: 9] (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (254/ 652) وأحمد (1/ 402، 422، 449، 461) وابن خزيمة رقم (1853، 1854) من حديث عبد الله أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم. وهو حديث حسن. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (655) من حديث أبي هريرة: لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين.

ركعة من الصلاة فقد أدركها (¬1) بل يعمل الأدلة الخاصة بصلاة الجمعة بعد اندراجها تحت هذا العموم، وقد رويت من ثلاث عشرة طريقا (¬2)، من حديث أبي هريرة، يقول الحاكم في ثلاث (¬3) منها: إنها على شرط الشيخين، ورويت من ثلاث طرق من حديث (¬4) ابن عمر، ورويت من طرق غير هذه الطرق (¬5). فليت شعري ما هو الأولى بالتأثير؟ هل جميع ما ذكرناه هنا، أم قول يقوله بعض الصحابة على ضعف في طريقه، ونزاع فيمدلوله، وكونه من باب الاجتهاد، والذي لا يكون حجة على أحد فليتأمل ¬

(¬1) تقدم تخريجه (¬2) انظر الإرواء (3/ 84 - 90 رقم 622). (¬3) 1 - أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 291) من طريق الأوزاعي عن الزهري عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: من أدرك الركعة من الجمعة فقد أدرك الصلاة. 2 - أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 291) من طريق أسامة بن زيد الليثي عن الزهري عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى. 3 - أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 291) من طريق مالك بن أنس وصالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن أبي سلمة أن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى. 4 - وأخرجه ابن ماجه في السنن (1/ 356 رقم 1121) من طريق عمر بن حبيب، عنه بلفظ: من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى. (¬4) أخرجه النسائي (1/ 274 رقم 557) وابن ماجه رقم (1123) والدارقطني (2/ 12 رقم 12) من حديث ابن عمر. وقال ابن حجر في بلوغ المرام عند الحديث رقم (5/ 416) إسناده صحيح وقوى أبو حاتم في العلل إرساله (1/ 172 رقم 491). والخلاصة أن الحديث بذكر الجمعة صحيح من حديث ابن عمر، لا من حديث أبي هريرة. (¬5) وأخرجه الطبراني في الكبير (9/ 358 رقم 9545) من حديث ابن مسعود بلفظ من أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى، ومن فاتته الركعتان فليصل أربعا. وقال: وأورده الهيثمي في المجمع (2/ 192) وقال: إسناده حسن.

المنصف هذا بعين بصيرته، وليدع ما يعرض له من أسباب العدول عن الصواب؟ فالدين دين الله، والتكليف هو لعباد الله، والشريعة المطهرة الموضوعة بين ظهراني هذا العالم هي ما في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وليس أحد من العباد بمستحق للمجادلة والمصاولة عن وقله على وجه يستلزم طرح ما هو ثابت من الشريعة، فأهل العلم أحياؤهم وأمواتهم، وإن بلغوا في معرفة الشريعة المطهرة إلى حد يقصر عنه الوصف، وفي التقيد بها إلى مبلغ تضيق عنه العبارة [7أ]، وفي جلالة القدر ونبالة الذكر إلى رتبة يضيق الذهن عن تصورها، فهم رحمهم الله متعبدون بهذه الشريعة كتعبدنا بها، وتابعون لا مبتدعون ومكلفون لا مكلفون. هذا يعلمه كل من لديه نصيب من علم الشريعة، ومع هذا فالخلاف قائم بين أهل البيت رضوان الله عليهم في هذه المسألة فضلا عن غيرهم. قال الأمير الحسين في الشفا: فصل: فيمن أدرك ركعة من الجمعة ولم يدرك شيئا من الخطبة اختلف في ذلك علماؤنا رحمهم الله فقال يحيى: من لم يدرك من الخطبة قدر آية لم تصح منه الجمعة، وصلى أربعا، وبه قال ولده أحمد بن يحيى، فإنه قال: من لم يدرك شيئا من الخطبة يصلي الظهر أربعا عند القاسم، والناصر، وعند زيد بن علي أن من أدرك ركعة من الجمعة اضاف إليها أخرى، وأجزأته الجمعة. وبه قال المؤيد بالله والمنصور بالله (¬1)، انتهى كلامه. ¬

(¬1) قال الشوكاني في السيل الجرار (1/ 612 - 613): قد عرفت مما أسلفنا أنه لم يصح شيء من تلك الشروط وأن إطلاق اسم الشروط عليها لم يدل عليه دليل يثبت به الوجوب فضلا عن الشرطية إلا الخطبتان، فقد قدمنا أن دليلهما قد يدل على وجوبهما، وبعد هذا كله تعلم أنه لا يضر اختلال شيء مما جعله شروطا، ثم حكمه على بعض الشروط بأنه يضر اختلاله قبل الفراغ وبعضها بأنه لا يضر بعد حكمه على الجميع بالشرطية - تحكم يأباه الإنصاف فإن الشرط هو ما يؤثر عدمه في العدم فكيف كان بعض الشروط مؤثرا وبعضها غير مؤثر، فهذا مع كونه تحكما مخالف لاصطلاح أهل الأصول والفروع. وأعجب من ذلك كله أنه لا دليل بيده يدل على ما ذكره لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف بل إيجاب فرض الجمعة وتتميمها ظهرا مخالف للدليل وهو ما أخرجه النسائي (3/ 12 رقم 1425) من حديث أبي هريرة بلفظ: ومن أدرك الركعة من الجمعة فقد أدرك الجمعة. ولهذا الحديث اثنا عشر طريقا صحح الحاكم ثلاثا منها وقال في البدر المنير: هذه الطرق الثلاث أحسن طرق هذا الحديث والباقي ضعيف - انظر التعليقة السابقة - ثم قال: فهذه الأحاديث تقوم بها الحجة ويندفع ما قاله المصنف صاحب الأزهار ويدل على ما دلت عليه هذه الأحاديث ما في الصحيحين - البخاري رقم (580) ومسلم رقم (607) وغيرهما - كأبي داود رقم (1121) والترمذي رقم (523) والنسائي رقم (532) وابن ماجه رقم (1122) من حديث أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة، فإن صلاة الجمعة داخلة في هذا العموم ولا تخرج عنه إلا بمخصص ولا مخصص

ولنقتصر على هذا المقدار، ففيه كفاية لمن كانت له هداية، ولولا أن جامع البحث الذي جمعنا هذه الورقات للكلام على ما فيه من العلماء المنصفين المؤثرين للأدلة على غيرها كلان لنا في الترك مندوحة. حرر في نهار يوم الخميس لعله سادس شهر شوال سنة 1218 [7ب].

ضرب القرعة في شرطية خطبة الجمعة

ضرب القرعة في شرطية خطبة الجمعة تأليف عبد الله عيسى حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: (ضرب القرعة في شرطية خطبة الجمعة). 2 - موضوع الرسالة: فقه الصلاة. 3 - أول الرسالة: الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين، وبعد: فإني على جواب لبعض علماء العصر المحققين .... 4 - آخر الرسالة: وأصلح لنا النيات، وأحسن الختام بجاه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ صلاة وسلاما يدومان بدوام الملك العلام حرر بتاريخ سلخ شهر صفر سنة 1219هـ 5 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني. 6 - نوع الخط: خط رقعة. 7 - عدد الصفحات: 11صفحة + صفحة العنوان. 8 - عدد الأسطر في الصفحة: 21 سطرا. 9 - عدد الكلمات في السطر: 8 - 10 كلمات. 10 - الرسالة من المجلد الثاني من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين. وبعد: فإني اطلعت على جواب لبعض علماء العصر المحققين - كثر الله فوائده - جعله على الرسالة المسماة بإشراق الطلعة (¬1) وحصر ذلك الجواب في مقدمة وعشرة مقاصد، إلا أن المقدمة هي مصب الغرض، وزبدة البحث، والأصل الذي بنيت عليه المقاصد فهي الحقيقة بأن يكون هي المقصودة بالبحث، وتلك المقاصد إنما هي فروع عنها فرأيت أن أتكلم على أبحاث تلك المقدمة، وأبين عدم ورودها، وأما المقاصد فبعضها سيتضح الجواب عنها في الكلام على المقدمة، والبعض الآخر قد عرف جوابه من الرسالة الأولى المسماة بإشراق الطلعة (¬2) كما سيأتي التنبيه على ذلك في آخر الجواب، فلو تعرضنا لدفعها بعد ذلك لكان من تحصيل الحاصل، والتطويل لما عرف. فأقول وبالله التوفيق، وهو حسبي وكفى، ونعم الوكيل: إن الجواب على تلك يشتمل على أبحاث. البحث الأول اعلم أن ذكر المسائل العلمية، وإقامة الأدلة عليها، والجمع أو الترجيح بينها إن تعارضت قد يكون المقصود بها إفادة الحق، والإرشاد إلى العمل بما يريده الشارع والهداية إلى أحكام الله، والدعاء إلى سبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنة (¬3). ¬

(¬1) الرسالة رقم 88). (¬2) الرسالة رقم 88). (¬3) قال تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125]. فأمر الله رسوله في هذه الآية بالجدال، وعلمه فيها جميع آدابه من الرفق والبيان والتزام الحق والرجوع إلى ما أوجبته الحجة.

وهذا القسم لا يشترط فيه أن يكون على ترتيب معين، ولا جاريا على القواعد الجدلية، ولم يلتزم الصحابة والتابعون والعلماء المتقون في ذلك سلوك الطريق الجدلية، وقواعد المناظرات، وقد يكون المقصود بها إسكات الخصم، وقطع مشاغبته، وعوق المناظر وغلبته في المناظرة والحيلولة بينه وبين ما أراد إثباته أو نفيه، وهذا القسم هو المقصود بتأليف كتب الجدل (¬1) ورسائل آداب البحث والمناظرات، وذكر الأصوليون أنواعها في القياس، وهي اعتراضاته المعروفة، وقد ذكر أصحاب الفصول اللؤلؤية (¬2) أنه ¬

(¬1) وللجال المذموم وجهان: 1 - الجدال بغير علم. 2 - الجدال بالشغب والتمويه، ونصرة الباطل بعد ظهور الحق وبيانه قال تعالى: {وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذناهم فكيف كان عقاب} [غافر: 5]. وجدال المحقين: فمن النصيحة في الدين ألا ترى إلى قوم نوح عليه السلام حيث قالوا: {قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا} وجوابه لهم: {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم} [هود: 32، 34]. قال ابن عقيل في الوضاح كما في الكوكب المنير (4/ 370): وكل جدل لم يكن الغرض فيه نصرة الحق، فإنه وبال على صاحبه، والمضرة فيه أكثر من المنفعة لأن المخالفة توحش، ولولا ما يلزم من إنكار الباطل واستنقاذ الهالك بالاجتهاد في رده عن ضلالته لما حسنت المجادلة للإيحاش فيها غالبا، ولكن فيها أعظم المنفعة إذا قصد بها نصرة الحق والتقوي على الاجتهاد ونعوذ بالله من قصد المغالبة وبيان الفراهة. واعلم أنه إذا بان له المناظر سوء قصد خصمه توجه تحريم مجادلته قال تعالى: {وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون} [الحج: 68]. وهذا أدب حسن علمه الله عباده ليردوا به من جادلهم به تعنتا ولا يجيبوه. انظر: الكوكب المنير (4/ 371) والكافية في الجدل (ص 529). (¬2) الفصول اللؤلؤية تأليف صارم الدين إبراهيم بن محمد الوزير الصنعاني. جمع فيه أقوال مختلف المذاهب في المسائل الأصولية من دون استدلال ومناقشة مقدما لمذهب أئمة الزيدية وعلماء الآل بنقل أقوالهم وآرائهم. مؤلفات الزيدية (2/ 321 رقم 2406).

لا يجب معرفتها على المجتهد، أي لأنها [1أ] إنما شرعت طرقا للمناظرة، والمناظرة ليست بواجبة حتى تكون الاعتراضات مما لا يتم الواجب إلا به , وقد صرح أئمة المعقول والمنطق بأن الغرض من الجدل إنما هو إلزام الخصم بمقدمات يسلمها، فيبنى عليها الكلام، وإن كانت باطلة، أو بمشهورات لا يعتبر فيها اليقين، ومطابقة الواقع، وممن نص على ذلك المولى الحسين ابن الإمام في شرح الغاية (¬1) عند تقسيم القياس باعتبار المادة، وقال أيضا: إن الغرض من الجدل إما إقناع القاصر عن درك البرهان، أو إلزام الخصم، انتهى. إذا علمت ذلك، فنقول: إذا رأيت من هو قائم في مقام الإفادة للحق وقد طولب بأن يسلك المسالك المعتبرة في الجدل فاعلم أن ذلك غلط في البحث، وخلط في المخاطبة، فإن إقامة المفيد للحق في مقام مريد الجدال أو العكس لا يكون إلا لأحد أمرين: إما عدم الخبرة بالتفريق بين المقامين، أو لقصد المغالطة والترويج للشبهة، إذا تقرر هذا فاعلم أني لم أقصد بالرسالة التي سميتها إشراق الطلع (¬2) قصد الجدال لأحد، إنما قصدت ما ذكرته في خطبتها، وهو ما لفظه: إنها وقعت مذاكرة في تلك المسألة، فخطر في البال ذكر المسألة رأسها، وقل ذلك من كتب أهل البيت عليهم السلام وغيرهم، وذكر الأحاديث المتعلقة بها، والكلام عليها، ومع جمعها يتبين للناظر الراجح من القولين , انتهى. ¬

(¬1) انظر مؤلفات الزيدية (2/ 168 رقم 1957). (¬2) الرسالة رقم (87).

البحث الثاني إنها لم تهمل في تلك المسألة المسالك المعتبرة عند أهل العلم كما قال المجيب - عافه الله - معرضا بالإهمال ما لفظه: اعلم أنه كثيرا ما يقع في كتب الاستدلال الإهمال للمسالك المعتبرة عند أهل العلم. انتهى. بل ولا أعلم أنه يهملها أحد من المصنفين في كتب الاستدلال، وإنما هو كثيرا ما يقع الإهمال للمتأمل، وتجويد النظر في كتبهم [1ب] حتى يتوهم إخلالهم بها، وبيان ذلك في هذه المسألة التي صدرنا رسالتنا بها أنا قد ادعينا نقلها عن القاضي زيد رحمه الله فإن كان الكتاب موجودا عند المناظر فلينظرها فيه، حتى يصح النقل، وإن لم يكن موجودا بعثنا به إليه، فإذا صح النقل فقد حصلت الدعوى فيه بأن المأموم إذا لم يدرك من الخطبة قدر آية لم تصح منه الجمعة (¬1) بل يصلي أربعا ويبني على ما أدركه مع الإمام، وإن الهادي عليه السلام قد نص على ذلك في المنتخب (¬2) فإن طلب المناظرة لتصحيح النقل عن الهادي، فالكلام فيه كما سمعت، وإن طلب الدليل على تلك الدعوى فقد ذكره بقوله: وعمدتهم في ذلك أن الخطبة بمثابة ركعتين، وأنهما شرط كما سيأتي بيانه. فبعد الاستدلال بهذا يثبت للمناظر على المستدل أحد ثلاثة أمور: إما النقض (¬3) أو المناقضة، أو المعارضة، وللمناظر أن يورد على المستدل ما أراد من هذه الثلاثة، وعلى المستدل أن يجيب عن ذلك، وإلا انقطع فوقع الاستشعار في هذا المقام لإيراد المناظر للمعارضة بدليل يدل على خلاف المدعي، وإنما وقع الاستشعار لإيراد المعارضة المذكورة لكونها ظاهرة الورود بخلاف المنع، فإن انعدام الصلاة بانعدام الخطبة مجمع عليه عند ................................ ¬

(¬1) انظر الأزهار (1/ 612) مع السيل. (¬2) تقدم التعريف به. (¬3) انظر الرسالة رقم (88).

الجمهور (¬1)، ولم يخالف في ذلك إلا الحسن وداود، والجويني، وابن الماجشون فقط، وبعد أن تم البحث في المعارضة وقع الاستشعار أيضًا بإيراد المنع، لكونهما بمثابة ركعتين وإنها شرط فتعرضنا لإثباتها بما ذكرناه من التتمة في آخر البحث. البحث الثالث قال المجيب - كثر الله فوائده -: وإن لم ينهض به على الوجه المعتبر، فالحق بيد المانع، ولا يطالب بدليل، بل قيامه في مقامع المنع [2أ]، وثبوته في مركز الدفع يكفيه، إلى أن قال: وهذه الجملة معلومة عند أهل النظر، لا يختلفون في شيء من تفاصيلها. وأقول: إن أراد بالمانع النافي لحكم المسألة، وأنه بمجرد نفيه أو يعجز المستدل يكون الحق بيد المانع، وأن ذلك يكفيه في حقيقة منعه، وأن ذلك مما لا يختلف في تفاصيله أحد، فلا يخفى أن هذا مخالف لما أوجبته جميع أئمتنا عليهم السلام، والجمهور من العلماء من وجوب الدليل على النافي لحكم غير ضروري شرعي أو عقلي، كما يجب على المثبت. وهذه المسألة هي آخر مسألة في» غاية السول " (¬2) ونسب في الفصول (¬3) القول بوجوب الدليل على النافي إلى جميع أئمتنا والجمهور، وهو الذي اختاره ابن الحاجب في مختصره (¬4) قال الشيخ العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن علي الفيروزآبادي (¬5) الشيرازي ما لفظه: فصل: وقد ألحق بعض أصحابنا من أهل النظر بهذا الباب بأن ¬

(¬1) انظر الرسالة (88). (¬2) غاية السؤل في علم الأصول. تأليف شرف الدين الحسين بن القاسم. مختصر في القواعد الأصولية يهتم بالأدلة والأقوال وهو في مقدمة وثمانية مقاصد فرغ منه المؤلف ليلة السبت 23 شوال 1035 هـ. انظر مؤلفات الزيدية (2/ 293 رقم 2318). (¬3) تقدم التعريف به. (¬4) انظر: المنتهى لابن الحاجب (ص 163). (¬5) ذكره الشيرازي في التبصرة ص 530.

يقول: أنا ناف فلا يلزمني إقامة دليل، وإنما الدليل على من يثبت، ألا ترى أن من نفى نبوة غيره لا يلزمه الدليل على ذلك، وإنما يلزم من يثبت النبوة، وهذا ليس بشيء لأن القطع بالنفي لا يجوز إلا على دليل، كما لا يجوز القطع بالإثبات إلا عن دليل فكما يجب إقامة الدليل على ما قطع به من الإثبات وجب إقامة الدليل على ما قطع به من النفي (¬1) انتهى كلامه. ¬

(¬1) قال الشيرازي في التبصرة ص 530: النافي للحكم عليه الدليل وإلى هذا ذهب جمهور الأصوليين، منهم الغزالي والآمدي وابن الحاجب، وابن السبكي وهو مقتضى كلام الغزالي في المستصفى والشيرازي هنا. ومن الناس من قال: لا دليل عليه، وهو قول بعض أصحابنا بعض أصحاب الظاهر، وبعضهم فرق بين العقليات والشرعيات فقالوا: عليه الدليل في نفي العقليات دون الشرعيات. منتهى السول (3/ 67). وقال الشيرازي: لنا: قوله تعالى: {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه} [يونس: 39] فذمهم الله تعالى بأن قطعوا بالنفي من غير دليل. ولأن القطع بالنفي لا يكون إلا عن طريق، كما أن القطع في الإثبات لا يكون إلا عن طريق، فلما وجب على المثبت إظهار ما اقتضاه الإثبات عنده وجب على النافي إظهار ما اقتضاه النفي عنده. واحتجوا بأن من أنكر النبوة لا دليل عليه، وإنما يجب الدليل على مدعي النبوة، وذلك من أنكر الحق لا بينة عليه، وإنما البينة على مدعي الحق، فكذلك هاهنا، يجب أن يكون الدليل على من أثبت الحق دون من نفاه. والجواب: أن من ينكر النبوة إذا انقطع بالنفي، وقال: لست بنبي فإنه يجب عليه إقامة الدلالة على نفيه وهو أن يقول: لو كنت نبيا مبعوثا، لكان معك دليل على صدقك، لأن الله تعالى لا يبعث نبيا إلا ومعه ما يدل على صدقه فلم لم أر معك دليلا على أنك لست بنبي فهذا لا دليل عليه، لا، ه لم يقطع بالنفي، بل هو شاك، والشاك لا دليل دل عليه، وفي مسألتنا قطع النفي، فلا يجوز أن يقطع بذلك إلا عن طريق يقتضيه ودليل يوجبه فوجب إظهاره. وأما منكر الحق فإنه يجب عليه إقامة البينة على إنكاره، وهو اليمين فلا نسلم ما ذكروه. وجواب آخر: وهو أنه إن كان المدعي عينا فاليد بينة له، وإن كان دينا فبراءة الذمة بالفعل بينة له، وليس كذلك هاهنا، لأن نفيه لم يتم على نفيه ما يدل على صحته، فلم يصح نفيه. قالوا: لو نفى صلاة سادسة لم يكن عليه دليل فكذلك هاهنا. قلنا: لا بد في نفيها من دليل، وهو أن يقول: إن الله تعالى لا يتعبد الخلق بفرض غلا ويجعل إلى معرفته طريقا من جهة الدليل. فلما لم نجد ما يدل على الوجوب دلنا ذلك على أنه لا واجب هناك فيستدل بعدم الدليل على نفي الوجوب. وانظر اللمع ص 70. البحر المحيط (6/ 9). الإبهاج (3/ 188). شرح المنهاج للبيضاوي (2/ 766).

وإن أراد المجيب أبقاه الله بالمانع طلب الدليل على مقدمة أو أكثر، فلا يخفى أيضًا أنه لا يكون الحق بيده بمجرد طلب الدليل، وغاية ما هناك أن المستدل إذا لم ينهض بالدليل على الوجه المعتبر لزم انقطاعه وعوقه، وذلك هو الغرض من الجدل ولكن عوقه وانقطاعه لا يستلزم أن يكون الحق بيد المانع [2ب]، وغلا لزم أن يكون الحق بيد كل غالب في المراء والجدال، ولا يخفى ما يترتب على ذلك، وعلى الجلة، فعبارة المجيب في هذا المقام مشكلة جدا. البحث الرابع في تقرير أن الخطبة بمثابة ركعتين، وأنها شرط كما أشرنا إلى ذلك في إشراق الطلعة (¬1) وهو مبني على مقدمات. الأولى: أن الحقائق الشرعية (¬2) واقعة بمعنى أن الشارع نقلها عن معانيها اللغوية إلى ¬

(¬1) انظر الرسالة (87). (¬2) ومثال ذلك: 1 - كلفظ الصلاة والصوم، وأمثالها فإن هذه الألفاظ كانت معلومة لهم ومستعملة عندهم في معانيها المعلومة، ومعانيها الشرعية ما كانت معلومة لهم. 2 - وقيل الحقيقة الشرعية هي اللفظ الذي استفيد من الشارع وضعه للمعنى سواء كان اللفظ والمعنى مجهولين عند أهل اللغة. ومثاله: كأوائل السور عند من يجمعها اسما لها أو للقرآن فإنها ما كانت معلومة على هذا الترتيب ولا القرآن ولا السور. أو كانا معلومين ومثاله: كلفظ الرحمن (لله) فإن هذا اللفظ كان معلوما لهم، وكذا صانع العالم كان معلوما لهم بدليل قوله تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} [الزخرف: 87] لكن لم يضعوه لله تعالى، لذلك قالوا: ما نعرف الرحمن إلا رحمان اليمامة حين نزل قوله تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} [الإسراء: 110]. وقال الصفي الهندي: أن يكون المعنى معلوما واللفظ غير معلوم عندهم ومثاله: كلفظ الأب فإنه قيل: إن هذه الكلمة لم تعرفها العرب، ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما نزل قوله تعالى: {وفاكهة وأبا} [عبس: 31]. هذه الفاكهة فما الأب؟ ومعناه كان معلوما لهم بدليل أن له اسما آخر عندهم نحو العشب. انظر الإبهاج (1/ 275 - 276)، البحر المحيط (2/ 158 - 158)، إرشاد الفحول ص 108).

معان مخترعة شرعية، وصار اللفظ اسما لمجموع تلك الأجزاء بخصوصها، ولتكن هذه المقدمة أصلا موضوعا، لأنه قد برهن عليها في الأصول. المقدمة الثانية: أن الماهيات كما تكون طبيعية تكون وضعية، بمعنى أن واضع الاسم إذا اعتبر في معناه مجموع أشياء وجودية، أو عدمية حقيقية أو اعتبارية صار مسمى اللفظ مجموع ما اعتبره، وكان كل معتبر جزءا من الماهية، فلا يكون المعنى الحقيقي للفظ إلا جميع الماهية الملتئمة من الأجزاء التي لاحظها الواضع عند الوضع، وهذه المقدمة أيضًا أصل موضوع قد تقررت في علم الحكمة، وفي علم الوضع. المقدمة الثالثة: أن تلك الأجزاء المعتبرة للماهية الاعتبارية قد تكون مختلفة كأركان الحج وأركان القياس، والتشبيه مثلا، وقد يختص بعض أجزائها بحكم غير ما يختص به البعض الآخر كهذه المذكورة ونحوها، وهذه المقدمة أيضًا غنية عن البيان. المقدمة الرابعة: إن أحكام الشارع على الحقائق الشرعية إنما تنصرف إلى الماهيات التي اعتبرها ووضع اللفظ بإزائها.

المقدمة الخامسة: أنه إذا انعدم جزء من أجزاء الماهية انعدمت لانعدامه، إذ المركب من مجموع أجزاء ينعدم لانعدام جزء منها وذلك واضح [3أ]. المقدمة السادسة: إن الماهيات التي اعتبرها الشارع، وهي معاني الحقائق الشرعية تكون معرفتها بقول يدل على ذلك أو بفعل مبين لذلك ويعرف كون الفعل بيانا اقترانه بقول أو بقرينة كما تقرر في الأصول (¬1) فما شمله الفعل أو القول من الأجزاء المعتبرة فهو الملاحظ في تلك الماهية، ويلا يلغى اعتبار الجزئية إلا لدليل يدل على أنه لم يعتبر ذلك الأمر جزاء، بل اعتبره واجبا مستقلا أو شرطا أو نحو ذلك. وبعد: هذه المقدمات يعلم أنه وقع خطاب التكليف بصلاة الجمعة، وهي حقيقة شرعية موضوعة بإزاء ماهية اعتبارية وضعية، ولا سبيل إلى معرفة تلك الماهية المطلوبة إلا بتعريف الشارع وبيانها لنا بقول، أو فعل مع قول، أو مع قرينة، فبينها صلى لله عليه وآله وسلم، بالخطبة والصلاة في جماعة، واستمر هذا البيان من حين قدم المدينة (¬2) إلى أن توفاه الله تعالى، فكانت الخطبة ركنا من أركانها وبعضا من أجزائها ولو لم تكن كذلك لبين حكمها أو تكرها لبيان الجواز ولو مرة في عمره، كما فعل في غيرها ولو لم تكن كغيرها من سائر الصلوات التي لم يجعل ما هو خارج عنها من أركانها بل هي حقيقة مستقلة اعتبر فيها ما لا يعتبر في غيرها ولهذا خالفت سائر الصلوات من جهات عديدة، منها عذر المسافر عنها والعبد والمرأة والمريض وأهل البادية (¬3) ومنها أنها ¬

(¬1) انظر الكوكب المنير (1/ 153 - 154). (¬2) تقدم ذكر ذلك. (¬3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (1067) وهو حديث صحيح من حديث طارق بن شهاب أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا أربعة عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض.

لا تكون إلا جماعة اتفاقا، ومنها المخالفة في الوقت حتى قيل: تجزئ قبل الزوال (¬1). قال ابن المنذر: وفي عدم إذن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لأهل قباء والعوالي بإقامتها في مساجدهم أبين البيان أن حكمها مخالف لسائر الصلوات انتهى. فإن قلت: إنه يلزم [3ب] على هذا أن تكون الخطبة ركنا لا شرطا. قلت: لا ضير في ذلك، ونحن نلتزمه، وكثيرا ما يقع في عبارة المتقدمين التعبير بشرط الصحة، وبالركن عن شيء واحد، لأن حكمها واحد، وهو انعدام الماهية بانعدام ركنها أو شرطها كما قال ابن رشد المالكي في نهاية المجتهد (¬2) ما لفظه: الفصل الثالث في الأركان: اتفق المسلمون على أنها خطبة وركعتان بعد الخطبة، واختلفوا من ذلك في خمس مسائل: هي قواعد هذا الفصل، المسألة الأولى: هل هي شرط في صحة الصلاة، وركن من أركانها أم لا. فذهب الجمهور إلى أنها شرط وركن انتهى كلامه. ولهذا جعلوا الخطبتين بمثابة ركعتين. فإن قلت: فعلى هذا يلزم أن تكون الخطبة من الصلاة. قلت: وأي محذور في ذلك؟ فإن الخطبة ذكر كما قال تعالى {فاسعوا إلى ذكر الله} (¬3) ¬

(¬1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (939) ومسلم رقم (30/ 859) من حديث سهل بن سعد قال: ما كنا نصلي مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجمعة ثم نرجع إلى القائلة فنقيل. وأخرج مسلم في صحيحه رقم (29/ 858) من حديث جابر قال: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي الجمعة ثم يذهبون إلى جمالهم فيريحونها حتى تزول الشمس. وأخرج البخاري في صحيحه رقم (4168) ومسلم رقم (860) وأبو داود رقم (1085) والنسائي رقم (1391) وابن ماجه رقم (1100) من حديث سلمة بن الأكوع قال: كنا نجمع مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا زالت الشمس. قال الشوكاني في السيل الجرار (1/ 600) ومجموع هذه الأحاديث يدل على أن وقت صلاة الجمعة حال الزوال وقبله، ولا موجب لتأويل بعضها. (¬2) بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد (1/ 386) بتحقيقي. (¬3) الجمعة: 9.

والصلاة عبارة عن ذات الأذكار والأركان، وقد اعتبر فيها ما اعتبر في الصلاة من الطهارة، والمنع من الكلام. وقد أخرج الإمام أحمد (¬1) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا، والذي يقول أنصت ليست له جمعة. قال الحافظ ابن حجر (¬2) وهو يفسر حديث أبي هريرة في الصحيحين (¬3) مرفوعا: إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت. قلت: ونفي الجمعة (¬4) في قوله ليست له جمعة تقرر كنظائره من الأدلة التي يتوجه النفي فيها إلى الذات [4أ]. البحث الخامس قال المجيب كثر الله فوائده: إن الصحة سقوط القضاء في ................................ ¬

(¬1) في المسند (1/ 230). (¬2) في الفتح (2/ 414 - 415). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (394) ومسلم رقم (11/ 851). قلت وأخرجه أبو داود رقم (1112) والترمذي رقم (512) والنسائي (3/ 104) وابن ماجه رقم (1110) والدارمي (1/ 364) ومالك (1/ 103 رقم 61) وأحمد (2/ 272). (¬4) انظر أقوال العلماء في ذلك. قال العلماء: معناه لا جمعة له كاملة للإجماع على إسقاط فرض الوقت عنه وحكى ابن التين عن بعض من جوز الكلام في الخطبة أنه تأول قوله: فق لغوت أي أمرت بالإنصات من لا يجب عليه، وهو جحود شديد، لأن الإنصات لم يختلف في مطلوبيته فكيف يكون من أمر بما طلبه الشرع لاغيا بل النهي عن الكلام مأخوذ من حديث الباب بدلالة الموافقة لأنه إذا جعل قوله: أنصت مع كونه آمرا بالمعروف لغوا فغيره من الكلام أولى أن يسمى لغوا. وقالوا: إذا أراد الأمر بالمعروف فليجعله بالإشارة. انظر: المغني (3/ 193 - 195).

العبادات (¬1) وترتب الآثار جميعا في المعاملات، وهاهنا قد سقط في القضاء، وهكذا الإجزاء (¬2) كما قرره أهل الأصول على أنهم قد صححوا الذات التي وقع التكليف بها، مع عدم شرطها في الواقع إذا حصل الظن بفعله فقط انتهى. وأقول أولاً: إن قوله: وهاهنا قد سقط القضاء دعوى مجردة عن الدليل، فإن أسندها بما تقرر في الأصول من أن القضاء بأمر جديد، ولا أمر جديد فيما نحن بصدده، فهذا غير خاص بصلاة الجمعة، بل سائر الصلوات الخمس وجميع الواجبات إذا تركت فقضاها ساقط إلا أن يأتي أمر جديد في ذلك الواجب أنه إذا ترك وجب قضاؤه، ويأتي دليل آخر أن ذلك الواجب المأمور بقضائه إذا فعل مجردا عما يظن أنه من شرطه، أو شطره كان مسقطا للقضاء، فحينئذ يتم دعوى أنه قد سقط قضاء هذا الواجب إذا فعل مجرجا، أو أن ذلك دليل عدم الشرطية أو الشطرية. وثانيًا: أن قوله: وأما ما قاله المتكلمون (¬3) فهو غير اصطلاح أهل الأصول لا يخفى ما فيه، فإن نفس مخالفة اصطلاحهم لاصطلاح أهل الأصول لا تدل على بطلان قولهم، على أن المتكلمين هم من أهل الأصول، وكلا القولين منصوص عليهما في علم الأصول، وإنما قابلوا قول المتكلمين بقول الفقهاء، لا بقول الأصوليين حتى يتوهم خروج [4ب] المتكلمين عن زمرة الأصوليين. البحث السادس إن إقامة الجمعة جماعة بخطبة لا خلاف في صحتها بين أحد من أئمة المسلمين فمن ¬

(¬1) انظر البحر المحيط للزركشي (1/ 319). الكوكب المنير (1/ 467). (¬2) انظر البحر المحيط للزركشي (1/ 319 - 321) (¬3) ذكره الزركشي في البحر المحيط (1/ 319)

ادعى بعد هذا صحة إقامتها بغير خطبة براءة ذمة المكلف بفعلها كذلك فعليه الدليل، ويقرر هذا الأصل بما قاله المجيب كثر الله فوائده في هذه المقدمة ولفظه أن التعبد بالصلاة إنما ورد بصورة مخصوصة، فإذا كانت ناقصة نقصانا يخرج به عن الهيئة المطلوبة من الشارع، وهو النقصان الذاتي، فمن فعلها على تلك الصورة الناقصة لم يفعل الصورة التي طلبها منه الشارع فإذا ادعى صحتها فعليه الدليل، ويكفي المانع للصحة أن يقوم في مركز المنع حتى يأتي مدعي الصحة بما ينقله عن مقام المنع، ولا ينقله عن ذلك إلا دليل صحيح يدل على أن تلك الصورة الناقصة صحيحة مجزئة مسقطة للقضاء. انتهى كلامه (¬1) وهو كلام نفيس جدا. وأما قوله بعد ذلك: هذا إذا كان قد اتفق المتناظران على أن ذلك الشيء المتروك هو ركن من أركان الصلاة التي وقع التكليف بها، وأنها بدونه ناقصة نقصانا ذاتيا إلى آخر كلامه، فجوابه أولا بالمعارضة، وهو أنه قد اتفق المتناظران على شرعية الخطبة وصحة الصلاة بها، ومقارنتها لها، وعدم ترك الخطبة من أحد ممن أقام شعارها العظيم من حين شرعها الله تعالى إلى الآن، فإنه لم ينقل إلينا أن أحدا من أهل الإسلام أقام الجمعة بغير خطبة، فمع اتفاق المتناظرين على هذا [5 أ] فالدليل على مدعي صحتها بدون خطبة، وثانيا بأن اشتراطه كثر الله فوائده لاتفاق المتناظرين على الركنية، وأنها بدونه ناقصة نقصا ذاتيا يستلزم رفع الخلاف بينهما، وعدم الثمرة للمناظرة لأن الخصم إذا قد سلم كونها ركنا، وأنها بدونه ناقصة نقصانا ذاتيا، فماذا بقي بعد هذا إلا المكابرة التي لا تليق بمنصف. وبعد تقرير هذه الأبحاث يعلم الجواب على المقاصد، لأن الذي اشتملت عليه إما المطالبة بدليل شطرية الخطبة أو شرطيتها، وهو الذي اشتمل عليه المقصد الأول، وبعض المقاصد الآخرة. ¬

(¬1) انظر كلام الشوكاني هذا في الرسالة رقم (88).

وأما الاعتراض بعدم السلوك في إشراق الطلعة (¬1) على المسالك المعتبرة في الجدل وهو مضمون المقصد الثاني، وقد عرفت الجواب عليهما من البحث الرابع، ومن البحث الثاني. وأما الكلام على حديث: من أدرك ركعة (¬2) وهو مضمون بقية المقاصد، وقد ذكرنا ما يتعلق بذلك في إشراق الطلعة (¬3) فلا حاجة إلى إعادته هنا. وأما منع كون خطاب التكليف بصلاة الجمعة مجملا وهو المقصد السابع، وقد عرفت في البحث الرابع أن الحقائق الشرعية لها ماهيات وضعية اعتبرها الشارع لا تعرف إلا ببيانها منه. وأما الكلام على الاستدلال بالحديث المنقطع (¬4) وهو المقصد الثامن، وهي مسألة معروفة في الأصول، فلو تكلمنا عليها لفعلنا ما هو معروف عند المجيب أبقاه الله، مما استدل به أئمتنا عليهم السلام [5ب] على قبول المرسل (¬5) وما حققه الإمام عبد الله بن حمزة في الشافي (¬6)، ولم نقل إن أصحابنا يحتجون بالمنقطع إلا لأنا بصدد دفع ما منع به دليل أئمتنا، لأني قد ذكرت في خطبة الرسالة أي سأنقل المسألة برأسها من كتب أهل المذهب وغيرهم، فالاعتراض عليهم بما أصلوه في الأصول لا يجدي في الفروع إلا بنقل الكلام إلى ذلك، ونقل الكلام إلى تلك المسألة الأصولية تطويل لكونها معروفة. وعلى الجملة فإنه يظهر للمنصف أن الحكمة في تشريع الجمعة هي غير الحكمة في ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (87). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر الرسالة رقم (87). (¬4) تقدم تعريفه وبيان حجيته. (¬5) تقدم تعريفه، وبيان حجيته. (¬6) وهو رد على كتاب الرسالة الخارقة للفقيه: عبد الرحيم بن أبي القبائل المتوفى سنة 616 هـ. ألفه عبد الله بن حمزة الحسني اليمني، وهو في أربع مجلدات ضخمة حقق فيها أيضًا طرقه ومروياته. مؤلفات الزيدية (2/ 121).

غيرها، وأنه لوحظ فيها ما لم يلاحظ في غيرها. والله تعالى أعلم. وفقنا الله تعالى إلى سلوك سبيل السلام وأصلح لنا النيات، وأحسن الختام بجاه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ صلاة وسلاما يدومان بدوام الملك العلام. حرر بتاريخ سلخ شهر صفر سنة 1219 هـ.

الدفعة في وجه ضرب القرعة

الدفعة في وجه ضرب القرعة تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين وبعد: فإنه لما وقف سيدي العلامة فخر الدين عبد الله بن عيسى بن محمد بن الحسين (¬1) - عافاه الله وكثر فوائده- على جوابي على رسالته الذي سميته " اللمعة في الاعتداد بإدراك الركعة من الجمعة " أرسل ببحث سماه ضرب القرعة في شرطية خطبة الجمعة فمن أحب تحقيق الحق، فمن أحب تحقيق الحق، والوقوف على ما يجب اعتماده، فلينظر أولا في رسالته التي سماها إشراق الطلعة (¬2) ثم في جوابي عليها، ففي النظر في الأصل، والجواب ما يرفع الحجاب ويوضح الحق، وأنا أتكلم هاهنا على أبحاث من كلامه في رسالته الأخيرة، وقد تقدم مني جواب عليها، وأرسلته إليه وهو الأم، ولم يعد منه ما يفيد الموافقة ولا المخالفة، وطال الأمد، فطلب مني بعض العلماء إيضاح ما يصلح لتعقب ذلك البحث، فكتب هاهنا ما ينجلي عند إعادة النظر في تلك الرسالة مع تناسي ما كتبته في الجواب الباقي لدى المجاب عليه عافاه الله. فأقول: قال - كثر الله فوائده -: البحث الأول إن ذكر المسائل العلمية إلخ. أقول: لا يشك عارف في انقسام الباعث على ذكر المسائل العلمية إلى ما ذكره من مجرد الإرشاد، أو المناظرة، لكن الشأن هاهنا في كلامه في رسالته المتقدمة من أي القسمين هو، إن كان من الإرشاد إلى الحق كما زعمه فهل الباعث له هذا الإرشاد كونه قد صح عنده شيء من ذلك؟ بل ليس عنده إلا مجرد أن فلانا قال فيها بكذا، واستدل بكذا، من دون أن يعلم أن ذلك حق أو باطل، بل لا مقصد له إلا حكاية القول وقائله ¬

(¬1) تقدمت ترجمته في الرسالة (87) (¬2) الرسالة رقم (87).

ودليله كما يفعله المقلدون، وإن كان الباعث له في الأمر الأول فما معنى الاعتذار في هذه الرسالة بقوله في البحث الثاني إنه نقلها عن فلان وفلان، وأن الكتاب موجود، إلى آخر ما قاله هنالك، فإن هذا إنما هو صنيع من ليس له إلا الحكاية والتقليد، ولا ريب أنه لا يطلب منه إلا تصحيح النقل ثم إن دليله الذي دعى الناس إليه [1أ] فإن لم يجد في رسالته تلك إلا الكلام على دليل المخالف له، والاقتصار بعد ذلك على رؤية منقطعة، وأخرى ضعيفة، ينتهيان إلى رجلين من الصحابة، ولا حجة في ذلك لأمرين: الأول عدم صحة السند (¬1) لو كان قائل ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فكيف والقائل له غيره. الأمر الثاني أنه قد تقرر أن الحجة الشرعية التي ثبتت بها التكاليف العامة والخاصة للعباد لا تكون بقول فرد من أفراد الصحابة ولا الأفراد ما لم يكن ذلك إجماعا (¬2) ¬

(¬1) قال الشوكاني في إرشاد الفحول ص (242): من حديث هو ما اتصل إسناده بنقل عدل ضابط من غير شذوذ ولا علة فادحة فما يكن متصلا ليس بصحيح، ولا تقوم به الحجة، ومن ذلك المرسل وهو أن يترك التابعي الواسطة بينه وبين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا اصطلاح محور أهل الحديث. ثم قال ص 247: ولا تقوم الحجة بالحديث المنقطع وهو الذي سقط من رواته واحد ممن دون الصحابة، ولا بالمعضل وهو الذي سقط من رواته اثنان، ولا بما سقط من رواته أكثر من اثنين لجواز أن يكون الساقط أو الساقطان أو الساقطون أو بعضهم غير ثقات. وانظر قواعد التحديث للقاسمي ص 130. وقال الشيخ عبد الله سراج الدين في المنظومة البيقونية ص 100: والمعضل ما سقط من إسناده اثنان فصاعدا بشرط التوالي كقول مالك: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قال ابن عمر، والمعضل أسوأ حالا من المنقطع، وذلك للجهل بحال من حذف من الرواة، وإنما يكون أسوأ حالا من المنقطع إذا كان الانقطاع في موضع واحد، أما إذا كان في موضعين فإنه يساوي المعضل في سوء الحال. وانظر الكفاية ص 81 - 82. (¬2) انظر المستصفى (2/ 294)، البحر المحيط (4/ 436)، الكوكب المنير (2/ 210).

والبحث مدون في الأصول، معروف مشهور، فكيف نصب نفسه - كثر الله فوائده - إلى دعاء الناس إلى حال يقوم به حجة على فرد من أفرادهم! وأثبت بما لا يقوم الحجة شرائط لم يأذن الله بها في كتابه، ولا نطق بها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -! فهل هذا شأن المرشدين إلى مسائل الدين من العلماء المجتهدين؟. وإن قال: الباعث له هو الأمر الآخر، فكيف استجاز أن يدعو الناس إلى ما لا يعلم أنه من أقسام الحق، أو من الباطل، وهل هذا صنع الدعاة إلى الله، وإلى شريعته، مع أنه بأبى عليه أن يكون هذا الباعث أمور: الأول: تكلمه على دليل المخالف، بزيادة على ما تكلم به القاضي زيد ومن معه، كما صرح بذلك، وأوضح مواضع نقله. الثاني: إيراده لما ظنه دليلا من منقطعات أقوال بعض الصحابة. الثالث: أن هذه الرسالة قد اشتملت على ما لم يكن في شرح القاضي زيد من استدلال، ودفع، وترجيح. والرابع: أنه عنون رسالته (¬1) تلك بعنوان، وسماها باسم، فإن كان ناقلا كما قال، فما معنى هذا العنوان، وما مفاد هذه التسمية؟ فإن ذلك يكتفي أن هذه الرسالة مؤلفة له في هذه المسألة، ولو كان المراد مجرد النقل عن القاضيزيد كان يغني عن ذلك أن يقول قال فلان في الكتاب الفلاني ما لفظه كذا، ثم يقول عقيب نقل المراد انتهى بلفظه كما يفعله من يريد النقل عن الغير، وأما إذا الباعث له ليس مجرد الإرشاد [1ب]، بل مجرد يدعي شرطا لشيء أو شطرا له ثم يعنون بحثه بالكلام على دليل المخالف، وبعد التدبر لهذه التقديرات يتضح للناظر في هذه المباحث ما اشتمل عليه البحث الأول من هذه الرسالة التي نحن بصدد الكلام عليها. ¬

(¬1) أي " إشراق الطلعة في عدم الاعتداد بإدراك ركعة من الجمعة ". الرسالة رقم (87).

قال - كثر الله فوائده - البحث الثاني: أنها لم تهمل في تلك المسألة المسالك المعتبرة إلخ. أقول: ظاهر كلامه، بل صريحه أنه لم تهمل المسالك المعتبرة في رسالته، ولا أهملها أحد من المصنفين، وهذه الكلية غريبة جدا من مثله في فضله ونبله، ولكني لا أهمل المسالك المعتبرة فيما أحرره الآن على كلامه هذا في عدم إهماله للمسالك المعتبرة، فأقول: هو - كثر الله فوائده - قد قام هنا في مقام المنع، فإن كلامه هذا في قوة منع الإهمال، والذي يتوجه من جهة مدعي الإهمال هو الاستدلال على وجه الإهمال يف الكل والبعض، لأن كلامه هنا إن كان من عموم السلب فنقضه يتم بوجود الإهمال في فرد من أفراد كتب الاستدلال، أو في رسالته هذه، وإن كان من باب سلب العموم فلا يضرنا ولا ينفعه، لأني لم أقل بثبوت الإهمال من كل أحد، بل قلت: إنه كثيرا ما يقع الإهمال ويكفيه، ويكفينا، ويكفي الناظر في هذه المناظرة أن يمعن النظر في رسالته - عافاه الله - التي سماها " إشراق الطلعة " فإن وجد قد استدل في مقام المنع، ومنع في مقام الاستدلال فذلك هو الذي أردنا الإرشاد لا التنبه له والتحذير من الوقوع فيه، وأما كتب الاستدلال فقد أجادها بتقييد زعمه من عدم الإهمال فيها بما يعلمه، فإن هذا الأمر ظاهر مكشوف لا يخفى على مثله، ولكنه ربما ذهل عند تحرير هذه الأحرف عن ذلك، أو تذاهل لدفع ما ورد على كلامه على أي صفة كان الدفع، وها أنا أقول له، أو للناظر في هذه المناظرة: عليك بكتاب من كتب الفقه التي يتعرض مصنفوها للاستدلال على أي مذهب كان، فأمعن النظر في مقدار كراسة منه، فإن وجت ما ذكرناه فذلك يكفينا مؤنة النقل، وإن لم تجد هذا في غالب [2أ] تلك المؤلفات فتعال حتى أملي عليك من ذلك ما تطمئن به نفسك، وتقر به عينك. وها نحن نقرب لك المسافة، ونطلعك على الحقيقة. فنقول: قال - كثر الله فوائده - في أوائل رسالته التي سماها " إشراق الطلعة " (¬1) ما ¬

(¬1) الرسالة رقم (87).

لفظه فإقول: قال القاضي زيد (¬1): مسألة: وإن أدرك شيئا من الخطبة نحو أن يدرك منها قدر آية أتمها جمعة، وإن لم يدرك من الخطبة شيئا لم يصح منه الجمعة، ويصلي أربعا، ويبني على ما أدركه مع الإمام، ثم ذكر بعد ذلك أن الخطبة بمثابة ركعتين، وأنها شرط. فاعلم أنه هنا قد ذكر خمس مسائل: الأولى: عدم صحة الجمعة، والثانية يصلي أربعا، والثالثة يبني على ما أدركه، والرابعة أن الخطبة مقام ركعتين. والخامسة أنها شرط، فهذه خمس مسائل يكفي المانع من ثبوتها أو بعضها أن يقوم مقام المنع (¬2)، وعلى من ادعى ثبوتها الاستدلال عليها بدليل يوجب نقل المانع من مقام المنع، فما باله ههنا ترك ذلك كله وقال: فإن قيل: روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " ما أدركت فصل " (¬3) فإن هذا تعرض للكلام على ذليل المخالف قبل الاستدلال على إثبات الدعوى، وقيل تزلزل قدم المانع عن مقام المنع، وليس هذا الموافق للمسالك المعتبرة في قواعد المناظرة عند من له أدنى فهم، بل المسالك المعتبرة ههنا أن يقرر ثبوت تلك المسأئل ببرهان تقوم به الحجة على المخالف، لا بمجرد تشفيع دعوى بدعوى، فإذا جاء به على هذه الصفة كفاه، فإن تسليم المخالف لدليل المدعي يكفي، فإن جاء ذلك المخالف بما هو سند للمنع كان على المدعي أن يتكلم عليه حتي يبطله، فتكون الدائرة له، أو يعجز عنه فتكون الدائرة عليه. وأما مجرد تعداد خمس مسائل [2ب] لم تربط بدليل قط، وقلب المناظرة بالكلام على دليل المانع، وغضب منصب المنع، فهذا ليس من المسالك المعتبرة في ورد ولا صدر، ولا هو من مباحث على الجدل (¬4) في قبيل ولا بير، يعرف هذا من ¬

(¬1) في " الأزهار " (1/ 612 - السيل الجرار). (¬2) انظر الرد الشوكاني في الرسالة رقم (88). (¬3) تقدم تخريجه مرارا. (¬4) الجدل في اللغة: اللدد في الخصومة والقدرة عليها جادله فهو جدل ككنف - مجدل - كمنير - ومجدال كمحراب، وجدلت الحبل أجدله جدلا: كفتلته أفتله فتلا أي فتلته فتلا محكما، والجدالة: الأوض. يقال: طعنه فجدله: أي رماه في الأرض - " أساس البلاغة " (1/ 111)، " مقاييس اللغة " (1). الجدل في اصطلاح الفقهاء: فتل الخصم أي رده بالكلام (عن قصده) أي ما يقصده من نفي أو إثبات من حكم لطلب صحة قوله أي قول القائل له، (إبطال) قول غيره. انظر: " الفقيه والمتفقه " (1/ 229). واعلم أن المناظرة والمجادلة والمحاورة والمناقشة والمباحثة ألفاظ مترادفة وقد توجد بعض الفروق بينها عند علماء البحث، فيرى بعضهم أن الجدل يراد منه إلزام الخصم ومغالبته. والمناظرة تردد الكلام بين شخصين، يقصد كل واحد منهما تصحيح قوله وإبطال قول صاحبه، مع رغبة كل منهما في ظهور الحق والمحاورة هي المراجعة فالكلام ومنه التحاور. انظر: " مناهج الجدل " (ص25)، " الكافية في الجدل " (ص19). ومن آداب المناظرة والجدال: ينبغي للمجادل أن يقدم على جداله تقوى الله تعالى لقوله سبحانه: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن: 16]. ويخلص النية في جداله، بأن يبتغي به وجه الله تعالى. وليكن قصده في نظره إيضاح الحق وتثبيته دون المغالبة للخصم. أن يبني أمره على النصيحة لدين الله، وللذي يجادله لأنه أخوه في الدين مع أن النصيحة واجبة لجميع المسلمين. وليرغب إلى الله في توفيقه لطلب الحق فإنه تعالى يقول: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69]. ينبغي أن لا يكون معجبا بكلامه، مفتونا بجداله فإن الإعجاب ضد الصواب ومنه تقع العصبية رأس كل بلية. وهناك آداب كثيرة ذكرها الخطيب البغدادي في " الفقيه والمتفقه " (2/ 8 - 62). وإليك بعض الآداب المتعلقة بالسؤال والجواب: ينبغي أن يوجز السائل في سؤاله ويحرر كلامه ويقلل ألفاظه ويجمع فيها معاني مسألته، فإن ذلك يدل على حسن معرفته. يلزم المجيب أن يسد بالجواب موضع السؤال، ولا يتعدى مكانه ويجعل المثل كالممثل به، ويختصر في غير تقصير وإن احتاج إلى البيان بالشرح أطال من غير هذر، ولا تكدير، ويقابل باللفظ المعنى حتى لا يكون غير ناقص عن تمامه، ولا فاضل عن جملته. والسؤال على أربعة أضراب: السؤال عن المذهب، بأن يقول السائل: ما تقول في كذا؟ السؤال عن الدليل، بأن يقول السائل، ما دليلك عليه؟ ج - السؤال عن وجه الدليل فيبينه المسئول. د - السؤال على سبيل الاعتراض، والطعن فيه فيجيب المسؤول عنه ويبين بطلان اعتراضه وصحة ما ذكره من وجه دليله. فإن ذلك يختلف باختلاف الدليل: فإن كان دليله من القرآن كان الاعتراض عليه من ثلاثة أوجه: أن ينازعه في كونه محكما، ويدعي أنه منسوخ. أن ينازعه في مقتضى لفظه. ج - أن يعارضه بغيره فيحتاج أن يجيب عنه بما يدل على أنه لا يعارضه، أو يرجح دليله على ما عارضه به. وإن كان دليله من السنة فالاعتراض عليه من خمسة أو جه: أن يطالبه بإسناد حديثه. أن يقدح في إسناده وذلك من وجوه: أن يكون الراوي غير عدل. أن يكون مجهولا. أن يكون الحديث مرسلا. ج - الاعتراض على المتن من وجوه: - أن يكون المتن جوابا عن سؤال، والسؤال مستقل بنفسه فيدعي المخالف قصره على السؤال. - أن يكون الجواب غير مستقل بنفسه ويكون مقصورا على السؤال ويكون السؤال عن فعل خاص يحتمل موضع الخلاف وغيره، فيلزم السائل المسؤول التوقف فيه حتى يقوم الدليل على المراد به. د - الاعتراض الرابع وهو دعوى النسخ. هـ- الاعتراض الخامس وهو معارضة الخبر بخبر غيره. فإن كان دليله الإجماع فإن الاعتراض عليه من ثلاثة أوجه: أن يطالب بظهور القول لكل مجتهد من الصحابة. أن يبين ظهور خلاف بعض الصحابة. أن يعترض على قول المجمعين، إن لم يكونوا صرحوا بالحكم بمثل ما يعترض على لفظ السنة. وإذا كان دليله الذي احتج به القياس، فإن الاعتراض عليه من وجوه: أن يكون مخالفا لنص القرآن، أو نص السنة، أو الإجماع. وإذا كان كذلك فإنه قياس غير صحيح. أن تكون العلة منضوية لما لا يثبت بالقياس. إنكار العلة في الأصل وفي الفرع. أن يعارض النطق بالنطق. وانظر مزيد تفصيل في " الفقيه والمتفقه " (2/ 80 - 90)، " مناهج الجدا " (ص54، 57)، " الكوكب المنير " (4/ 634 - 830).

يعرف ذلك العلم معرفة بالكنه، أو بالوجه، فهذا المثال يكفي الناظر في هذه المناظرة، فإنه فاتحة رسالة المناظر - كثر الله فوائده -. فإن كان قد ساق هذا المساق من عند نفسه، وباختيارة فقد بطل عليه ما ادعاه من كلية عدم الإهمال في رسالته، وإن كان ناقلا فقط، وهذا السياق سياق المنقول عنه فقد بطل عليه ما ادعاه من الكلية في جانب عدم إهمال المصنفين لذلك، فكيف لم يقنع بنفي الإهمال عن رسالته، حتى نفاه عن جميع المصنفين في سابقي الدهر ولا حقه! مع أنه يعلم ويعلم كل أحد أن علم المناظرة علم اصطلاح حدث بعد انقراض بعض علماء المسلمين المصنفين، ولم يعلمه من المصنفين الموجودين بعد إلا القليل النادر، ومعلوم أن من لم يعلم بعلم العلوم لا يتمكن من استعمال قواعده كما ينبغي، ويراعي مسالكه كما يجب. فإن قال: إن كلامه الذي ذكره في هذه الرسالة التي نحن بصدد عليها لم يكن

من باب عموم السلب، بل هو من باب سلب العموم كما قدمنا الإشارة إليه عاد عليه ما قد قدمنا الأمر بأنه لا ينفعه ولا يضرنا، وإن قال: إن تلك القصة التي تكلم بها هي قضية مهملة، وهي في قوة الجزئية، فهو أيضًا كلام لا ينفعه ولا يضرنا، لأنا لم نقل تكليف الإهمال، بل قلنا بوجوده كثيرا في المصنفات، ولعل قائلا يقول ههنا: إذا قد قررت حدوث هذا العلم، فما للناس به حاجة. فأقول: لم أتكلم ههنا على حاجة الناس إليه، ولا على عدمها، بل تكلمت على قول صاحب الرسالة - عافاه الله - أنه لم يهمل المسالك المعتبرة في هذا العلم، لا هو ولا غيره من المصنفين. وأما ما ذكره من أنه يتوجه على المستدل ثلاثة أمور: إما النقض، أو النقض، أو المناقضة، أو المعارضة، فهذا كلام صحيح، ولكن بعد أن يكون المستدل مستدلا بدليل يقبله المانع. وأما قبل [3أ] استدلال المستدل، وقبل انتقال المانع عن مركز المنع، فلا يتوجه شيء من ذلك، بل يكفي المانع القيام في ذلك المركز الذي هو منصبه، وهو المنع، فهذا الكلام - عافاه الله - خارج عن البحث الذي وقعت المؤاخذة به عليه. قال - كثر الله فوائده -: البحث الثالث. قال المجيب. .. إلخ. أقول: ما ذكره من نقل كلام من أوجب الدليل على النافي من أهل الأصول خروج من البحث بالمرة، ودفع لما نحن بصدده بالصدد، فإنا بصدد الكلام على ما ذكره أهل علم المناظرة، وعلى ما ادعاه من سلوكه في مسالكهم المعتبرة، وهم قد قرروا هذا وحرروه، وهو موجود في مؤلفاتهم، معلوم عند من يعرفها، مشهور عند أهلها. وقد قيد كلامي بقيد أوضح من الشمس، ونقله المجيب في كلامه الذي في هذه الرسالة التي نحن بصدد الكلام على ما فيها. فقلت: وهذه الجملة معلومة عند أهل النظر، لا يختلفون في شيء من تفاصيلها، فبعد قولي عند أهل النظر كيف يتوجه له الاعتراض بما اعتراض! وقد رجع - كثر الله فوائده - إلى هذا في آخر كلامه، وجعل ذلك أحد شقي الترديد، ولا وجه للترديد بعد ذلك التصريح. وليعلم - أدام الله فوائده - أني لا أريد بالمانع مانعا معينا، وبالمستدل

مستدلا معينا، بل إذا لم يثبت برهان المسألة من أي مستدل كان، بدليل مقبول كان الحق عدم ثبوتها، لأن ما لم يرد به الشرع موردا صحيحا، ولا قضى به العقل قضاء مقبولا لا يحل تكليف عباد الله به، ولا يلزمهم قبوله، ومن زعم من أهل الأصول أن نافي ما هذا شأنه محتاج إلى الاستدلال بدليل على نفيه، وإلا لزمه العمل به، وإن مل يثبت بدليل فكلامه خارج عن الحق، مائل عن الصواب خروجا وميلا يعرف كل دوي الألباب؛ فإن هذا مع فساده في نفسه مستلزم فسادا كثيرا، وتكليفا ثقيلا، فإنا لو فرضنا أن مدعيا يدعي وجوب صلاة سادسة معلوم أنه لا يجد في الشرع والعقل دليلا يدل على ذلك، فإن كان عجزه عن الاستدلال يريح العباد من هذا التكليف فهو الذي أردنا بأن المانع إلا بالاستدلال، فإن كان يكفي هذا الاستدلال وجود دليل الإثبات بعد الإستقراء والتتبع، وكان هذا مرادهم، فالخطب أيسر على أن هذا هو عائد إلى المنع [3ب]، فصاحبه مانع لا مستدل، وإن كان لا يكفي إلا إبراز دليل مستقل غير عدم وجود الدليل، فيالله هذه المقالة ما أبعدها عن الحق! وما فيها من إثبات أحكام الشرع، أو العقل بمجرد دعوى المبطلين! وليتفضل - كثر الله فوائده - بإيضاح دليل نفي الصلاة السادسة على فرض وجود مدع يدعيها على هذا الوجه، حق يتبين له أنه يعجز عن الدليل إلا إذا كان راجعا إلى مركز لمنع كما أسلفنا. قال - كثر الله فوائده -: البحث الرابع في تقرير الخطبة، الخطبة بمثابة ركعتين إلخ. أقول: اعلم أن هذا البحث هو بيت القصيد، ومحل النشيد، فإن أصل الدعوى التي بنيت عليها تلك القناطر في الرسالة لمسماة " إشراق الطلعة " (¬1) وفي جوابي عليها المسمى: " اللمعة في الاعتداد بإدراك الركعة من الجمعة " (¬2) وفي الجواب من صاحب ¬

(¬1) الرسالة رقم (87). (¬2) الرسالة رقم (88).

الرسالة - كثر الله فوائده - المسمى " ضرب القرعة في شرطية خطبة الجمعة " (¬1) وفي هذه الوريقات التي نحن بصددها الآن هو كون الخطبة جزءا من صلاة الجمعة، وأنه إذا لم يحصل السماع لها فقد فات شطر الصلاة، فلا يعتد الجمعة من لم يدركها، فاسمع الآن ما يملى عليك من رد ما استدل به في هذا البحث، حتى نعلم أن تلك المقالة مبنية على غير أساس. فنقول: أما قوله: وهو مبني على مقدمات، ألأولى: أن الحقائق الشرعية واقعة إلخ فهذا مسلم، ولكنه حجة عليه لا له، وبيانه أن الحقائق الشرعية ثابتة واقعة، وأن من جملة ما نقله الشارع من معناه اللغوي الصلاة، فجعلها حقيقة شرعية في ذات الأذكار والأركان، وجعل تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم. فأخرج أحمد (¬2)، وأبو داود (¬3)، وابن ماجه (¬4)، والترمذي (¬5)، وقال: هو أصح شيء في الباب من حديث علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم "، فإن وصلاة الجمعة هي صلاة من جملة الصلوات تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم، فإن كان صاحب الرسالة - كثر الله فوائده - يسلم أن صلاة الجمعة من جملة الصلوات، وأن الحقيقة ما ذكرناه منقولا عن الشارع - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فهذه المقدمة التي ذكرها حجة عليه لا له كما قدمناه، فإن كان يزعم أن الصلاة الجمعة حقيقة شرعية تختص بها، وأن تحريمها ليس هو التكبير كما نص عليه الشارع - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث، ونقله أهل الشرع عنه بأن تحريمها ¬

(¬1) الرسالة رقم (89). (¬2) الرسالة رقم (89). (¬3) في " المسند " (1/ 123، 129). (¬4) في " السنن " رقم (618). (¬5) في " السنن " رقم (275).

هو الشرع في الخطبة فلياتنا بدليل يدل على ذلك، لا بما هو خارج عن محل النزاع، أو بما هو حجة عليه لا له كما ذكره في هذه المقدمات. فإنا نقول له: نعم، الحقائق الشرعية واقعة، فكان ماذا؟ ثم نقول له في المقدمة [4أ] الثانية: إن الماهيات تكون وضعية كما ذكرت، فهل يأتينا بوضع منقول عن الشارع أن صلاة الجمعة ليست كسائر الصلوات، وليس تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم، بل تحريمها الشروع في الخطبة، فإن كنت تجد إلى هذا سبيلا فلتأتنا به، فإنا لا نحتاج في قبوله إلى تقرير ثبوت الماهيات الوضعية؛ إذ تقريرها وتسليم ثبوتها من دون برهان على محل النزاع لا يضرنا ولا ينفعك، بل ينفعنا ويضرك كما قد قدمنا، فإن في الاستدلال لقولنا بعين هاتين المقدمتين اللتين أوردتهما أن الحقائق الشرعية ثابتة، وأن الماهية الوضعية موجودة، فإن كنت تزعم أن الشارع جعل الخطبة التي هي خارجة عن الماهيات الشرعية شطرا للصلاة، وجزءا منها، فنحن نمنع ذلك، ثم لو أردنا أن نننتقل عن مركز المنع إلى مركز الاستدلال لم يعجزنا أن نقول بعد تقرير ثبوت الحقائق الشرعية، وتقرير ثبوت الماهية الوضعية، وتقرير النقل عن الشارع أن الصلاة تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم وتقرير أن صلاة الجمعة صلاة من الصلوات أن ما قبل تحريمها وما بعد تحليلها غير داخل فيها، ولا جزء من أجزائها. وأما ما ذكره في المقدمة الثالثة من أن أجزاء الماهية قد تكون مختلفة، فنقول: نعم، وهكذا محل النزاع، فإن الأجزاء الأذكار والأركان، وهما مختلفان ولكن هذا لا ينفعك ولا يضرنا، فإن كنت تزعم أن شيئا من الخارجات عن تحريمها وتحليلها داخل فيها فلا يثبت هذا الزعم إلا بدليل يدل عليه، ولا بمجرد ما ذكرته منت ثبوت الحقائق الشرعية، والماهيات الوضعية، وأنها قد تكون مختلفة، ولا بما ذكرته في المقدمة الرابعة من أن الحقائق الشرعية تنصرف أحكام الشارع عليها إلى الماهيات التي اعتبره، فإنا نقول بموجب هذا الكلام، ولا نزاع بيننا وبينك فيه أصلا، بل إذا حكم الشارع على صلاة من الصلوات بحكم، كان هذا الحكم ثابتا لتلك الصلاة، مثلا يكون قوله - صلى الله

عليه وآله وسلم -: " من أدرك ركعة من صلاة الجمعة فليضف إليها أخرى " (¬1). وقد تمت صلاته حكما ثابتا لصلاة الجمعة التي هي الأذكار والأركان الكائنة ما بين تحريمها وتحليلها. وهكذا ما ذكره في المقدمة الخامسة من أنه إذا انعدم جزء من أجزاء الماهية انعدمت، فإنا نقول بموجب هذا أو نسلمه، ولكن محل النزاع بيننا وبينك في [4ب] جواز ذلك الجزء، فإن كان بيدك برهان فهاته، وإلا فالتطويل فيها لا طائل تحته، لا يأتي بفائدة إلا قطعية الأوقات، وتسويد الطروس (¬2) بما هو تحصيل للحاصل، وبيان للبين، وإيضاح للواضح. وهكذا ما ذكره في المقدمة السادسة من أن معرفة الحقائق الشرعية يكون بقول أو فعل، فإن مسلم إذا كان ذلك الفعل أو القول يدلان على أن ذلك الأمر جزء من الأجزاء، داخل في الأركان والأذكار التي بين التحريم والتحليل. وأما مجرد صدور قول أو فعل من الشارع يدل على أنه يفعل قبل الصلاة كذا أو بعدها كذا، فليس هذا دليلا على محل النزاع، ومجرد الملازمة لشيء مثل الصلاة أو بعدها يدل على أنه جزء أجزائها لكان الوضوء، والآذان، والإقامة جزءا من أجزاء الصلاة الداخلة فيها، بل هذه الأمور [. .... ... ] (¬3) الأمر الخطبة، لأنه ايضا مع الفعل والملازمة أقوال يزيدها تأكيدا وثبوتا، بل ثبت ما يدل على أن الوضوء شطر الإيمان (¬4)، ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) أي القراطيس التي بكتب عليها. (¬3) كلمات غير واضحة في لمخطوط. (¬4) يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه رقم (223) وأحمد (5، 343، 344) والترمذي رقم (3517) والنسائي (5/ 5 - 6) من حديث عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الطهور شطر الايمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السموات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ". وهو حديث صحيح.

وأن الإيمان هو الصلاة، فهل يجعل هذه الأمور أجزاء للصلاة؟ إن قال نعم ارتكب ما هو خارق للإجماع، ومخالف للمعلوم من ضرور ة الدين، وإن قال لا فما الفرق مع كون ما ذكرناه اكد مما ذكره؟ فإنه لو تيسر له ما يفيد أن الخطبة شطر الصلاة كما ورد في الوضوء لصال به وجال وقال، وقال: وهكذا يلزم أن تكون الأذكار المشروعة عقيب الصلاة منها، لأن الشارع أرشد إليها ولازمها، واللازم في هذه الأمور باطل بالإجماع، فالملزوم مثله. وإذا تقرر لك ما أبرز، عرفت عدم وجود الدليل وجود على ما ادعاه، وعلمت اندفاع ما أورده في هذه المقدمات، أهنا حجة عليه لا له، فليس في المقام بيد القائلين مما قاله غير ما قد حرره، فإن كان نصب مثل هذه الأمور في مقابلة ما أوردناه في رسالتنا المسماة بـ " اللمعة " (¬1) من الأدلة الواردة من تلك الوجوه الثابتة من تلك الطرق، بعد دعاء إلى الحق، أو صناعة من الجدل المستعمل على قوانينه المعتبرة كما زعمه صاحب الرسالة - عافاه الله -، فقد فوضنا الناظر في هذه المناظر، وألقينا إليه بمقاليدها، وإن يكن ذلك من أي القسمين، ولا صح أندراجه في أحد الفنين علم ورودها أوردنا في تلك الرسالة. قال - كثر الله فوائده [5أ]-: البحث الخامس إلخ. أقول: ما ذكره من أن القضاء بأمر جديد لا بدليل الأصل لا ينفعه ولا يضرنا؛ فإنه لم يثبت سبب القضاء، وهو انعدام الشطر أو الشرط، حتى يرد ما أورده، وإذا لم يثبت فليس الدليل على القائل بالصحة، وعدم الاختلال بعد وجود الماهية التي اعتبرها الشارع. ثم لو فرضنا أن الدليل على مدعي الصحة، عدم القضاء لكان ما ذكرناه في تلك الرسالة كافيا مثل الأحاديث المتواترة أن من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها ومثل ما ورد في خصوص صلاة الجمعة لو لم يكن منها إلا قوله: " من أدرك ركعة من الجمعة فليضف إليها أخرى " (¬2) وقد تمت صلاته، فإن هذا من التصريح بالمطلوب مالا يحتاج إلى زيادة بيان فكيف!. ¬

(¬1) الرسالة رقم (88). (¬2) تقدم تخريجه.

قال - كثر الله فوائده -: إن دعوى سقوط القضاء ههنا دعوى مجردة عن الدليل. قال - كثر الله فوائده -: البحث السادس أن إقامة الصلاة بخطبة لا خلاف في صحتها إلخ. أقول: مثل هذا الكلام قد استعمله بعض أهل العلم في استدلالاتهم (¬1)، وهو مدفوع بما هو مبين في مواضعه، وعلى تسليم أن هذا الأمر الذي وقع فيه الخلاف جزءا من أجزاء الصلاة، وليس الأمر كذلك، بل هو محل النزاع، فالاستدلال بهذا الدليل مصادرة، وأيضا يلزم ما قدمنا ذكره من أن الصلاة تبطل بعدم الآذان، أو الإقامة قبلها، أو الأذكار بعدها، لأنه قد وقع الإجماع على أن صلاة من أذن وأقام وجاء بالأذكار المشروعة بعد الصلاة صحيحة، وأيضا قد وجد الدليل ههنا، وهو أحاديث: من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها (¬2). وصلاة الجمعة من جملة الصلوات، ويؤيد ذلك الأحاديث الواردة في خصوص صلاة الجمعة بما تفيد هذا المعنى. وقد أوضحنا هذا في الرسالة الأولى المسماة: " اللمعة " (¬3) فأي دليل يفيد ما تفيده هذه الأدلة من اعتداد من أدرك ركعة من صلاة الجمعة بها، وأنه قد أدرك الصلاة بإدراكها. وبالجملة فقد أوضحنا في الرسالة المذكورة ما يقو م الحجة ببعضه فلا نعيده، بل نحيل الناظر في هذا عليها، وعلى الأصل الذي هي جواب عنه، فإنه إذا أخلص النظر ¬

(¬1) قال الشوكاني في " السيل الجرار " (1/ 603): قد ثبت ثبوتا متواترا يفيد القطع بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما ترك الخطبة في صلاة الجمعة قط. فالجمعة التي شرعها الله سبحانه هي صلاة الركعتين مع الخطبة قبلها وقد أمر الله سبحانه في كتابه العزيز بالسعي إلى ذكر الله والخطبة من ذكر الله إذا لم تكن هي المرادة بالذكر فالخطبة فريضة. وأما كونها شرطا من شروط الجمعة فلا. (¬2) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح. (¬3) الرسالة رقم (88).

وتدبر (¬1) البحث لم يحتج إلى هذه الأبحاث المذكورة ههنا، ولا إلى ما هي جواب عنه، وإنما احتجنا إلى تحرير هذه الأبحاث لبيان ما في جواب الجواب من المقال. والله يهدي إلى صواب الصواب، ويرشد الجميع إلى الحق الذي يرضاه آمين، اللهم آمين. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. بلغ مقابلة على الأصل بعون الله، والحمد لله رب العالمين. ¬

(¬1) واعلم أن القلب على الخصم - المناظر - والمعارضة والنقض كل ذلك صحيح في النظر قال سبحانه وتعالى حاكيا عن قول المنافقين: (لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا) [آل عمران: 168]، فأجابهم بما أقلبه عليهم في أنفسهم، وإن جعلته نقضا صح، وإن جعلته معارضة أيضًا صح. فقال تعالى: (فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [آل عمران: 168] والسكوت عن الجواب للعجز من أقسام الانقطاع قال سبحانه وتعالى: (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) [البقرة: 258]. وأقسام الانقطاع من وجوه أحدها ما تقدم: 2 - أن يعلل ولا يجدي. 3 - أن ينقض ببعض كلامه بعضا. 4 - أن يؤدي كلامه إلى المحال. 5 - أن ينتقل من دليل إلى دليل. 6 - أن يسأل عن الشيء فيجيب عن غيره. 7 - أن يجحد الضرورات ويدفع المشاهدات ويستعمل المكابرة والبهت في المناظرة. لذلك ينبغي لمن لزمته الحجة، ووضحت له الدلالة، أن ينقاد لها ويصير إلى موجباتها، لأن المقصود من النظر والجدل طلب الحق واتباع تكاليف الشرع، وقد قال سبحانه وتعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر: 18]. انظر: " الفقيه والمتفقه " (2/ 112).

بحث في الكسوف

بحث في الكسوف تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: بحث في الكسوف. 2 - موضوع الرسالة: فقه الصلاة. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد والأمين وآله الطاهرين. وبعد: فإنه ورد سؤال من بعض أهل العلم عن الكسوف .... 4 - آخر الرسالة:. .. وهذا لا يجهله من له أدني إلمام بالعلوم الشرعية لأنه قد طرح به في عدة أبواب كباب صلاة العيد وكباب الصيام وكباب الحج والحمد لله رب العالمين. كمل من تحرير المجيب محمد بن علي الشوكاني حفظه الله تعالى وأحيا به الشريعة المطهرة. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - المسطر: 4 صفحات. الأولى: 19 سطرا. الثانية: 26 سطرا. الثالثة: 26 سطرا. الرابعة: 22 سطرا. 7 - عدد الكلمات في السطر: (13 - 14) كلمة. 8 - الرسالة من المجلد الأولى من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين، وبعد: فإنه ورد سؤال من بعض أهل العلم عن الكسوف الواقع ليلة الربوع، لعلها اليوم الثالث عشر من شهر الحجة الحرام، على ما دل عليه كما عدة شوال والقعدة، لأن أول شهر الحجة كان على اعتبار كمال عدة الشهرين الذين قبل يوم الجمعة، فكان على هذا يوم الأضحى يوم الأحد، ووقع الكسوف ليلة رابع عيد الأضحى، وهي ليلة الربوع، فقال هذا السائل ما حاصله: هل يدل هذا الكسوف للقمر على أن أول الشهر يوم الخميس، لأن كسوف القمر لا يكون إلا ليلة رابع عشر في غالب الأحوال، أو ليلة خامس عشر في النادر، وهل تكون هذه الدلالة صحيحة شرعية أم لا؟ وإذا كانت صحيحة فمن نحر أضحيته في يوم ثالث عيد النحر على كمال العدة، وهو اليوم الذي كسفت القمر في الليلة التي بعده، فهل يكون ما نحره في هذا اليوم أضحية، أو يكون شاة لحم؟ هذا حاصل السؤال؟ وفيه طول. ولما وقفت على هذا السؤال أحبت عنه بما حاصله: اعلم أنه قد ذكر أهل علم الهيئة أن القمر والشمس ينكسفان في أوقات مخصوصة، وجعلوا ذلك أمرا تجريبيا، فقالوا: تنكسف القمر ليلة رابع عشر في الغالب، وليلة خامس عشر في النادر، وتنكسف الشمس يوم ثامن وعشرين في الغالب، ويوم تاسع وعشرين في النادر، وهذا لا يكاد يختلف فيه علماء الهيئة، وهو موجود في المؤلفات الخاصة بهذا العلم. وقد حكى ذلك عنهم من علماء الشريعة في الكتب الفقهية (¬1)، وفي التفاسير (¬2)، وشروح الحديث (¬3). ¬

(¬1) انظر: المغني (3/ 228 - 230). (¬2) انظر: " الكشاف " (3/ 115) (4/ 50)، " روح المعاني " للألوسي (11/ 68). (¬3) فتح الباري " (2/ 529).

ومن علماء الشريعة من يحكي ذلك عنهم من دون تنبيه على أنه ليس من علم الشريعة، ومنهم من يحكي ذلك وينبه [1] على أنه ليس من علم الشريعة. فمن جملة من ذلك الإمام المهدي - عليه السلام - في البحر الزخار. . فقال: مسألة: ولا كسوف في العادة يعني: كسوف الشمس إلا في ثامن أو تاسع وعشرين، ورواية (¬1) كسوفها يوم مات إبراهيم في العاشر من شهر ربيع الأول محتمل، ولا خسوف يعني: خسوف القمر إلا في رابع أو خامس عشر انتهى. فهذه الرواية من الإمام - عليه السلام - مطلقة غير منسوبة إلى علماء الهيئة، ولا وقع منه التنبيه على أن ذلك ليس من عمل الشريعة، ولكنه قد تبعه في الرواية صاحب شرح الأثمار (¬2)، وبين أن القائل بذلك علماء الهيئة والمنجمون، لا علماء الشريعة، فقال: فائدة: اتفق أهل علم الهيئة والمنجمون على أن الشمس لا تكسف إلا في اليوم الثامن والعشرين (¬3) من الشهر في الأغلب، أو في اليوم التاسع والعشرين نادرا، وزعموا بأن ذلك لأجل حيلولة جرم القمر بينها وبين الأرض إذا تزامنتا في مقدار دقيقة، وأن القمر لا تكسف إلا في الليلة رابع عشر في الأغلب، وخامس عشر نادرا. وعلل بعضهم ذلك بحيلوله الأرض بين الشمس والقمر (¬4)، بحيث ينقطع شعاع الشمس عند اتصاله بالقمر، وإنما نوره مستفاد منها انتهى. فانظر كيف نسب هذه ¬

(¬1) (2/ 74 - 75). (¬2) لا يزال مخطوط فيما أعلم. (¬3) وانظر البحر الزخار (2/ 74 - 75). (¬4) ذكره الألوسي في روح المعاني (11/ 69) نقله عن ابن الهيثم،. ..... ثم قال الألوسي تعقيبا على ذلك ". . لم لا يجوز أن يكون ذلك الاختلاف والخسوف من آثار إرادة الفاعل المختار من دون توسط القرب والبعد من الشمس وحيلولة الأرض بينها وبينه. .. ". ثم قال بعد ذلك " والحق أنه لا جزم بما يقولونه في ترتيب الأجرام العلوية وما يلتحق بذلك، وأن القول به مما لا يضر بالدين، إلا إذا صادم ما علم مجيئه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

المقالة إلى أهل الهيئة والمنجمين، ولم ينسبها إلى الشرع ثم قال في أثناء الكلام: وزعموا بأن ذلك لأجل حيلولة جرم القمر. .. إلى آخر كلامه. ولفظ زعموا إنما يستعمل فيما لا أصل له من الكلام، أو يستعمل مع الشك في الصحة ولا خلاف بين علماء الشريعة المطهرة أنه لا اعتبار بكسوف الشمس والقمر في معرفة أعداد الشهور، ولم يقل قائل من المسلمين أن ذلك معتبر. وقد عرفنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وجه الحكمة في كسوف الشمس والقمر فقال فيما صح عنه: " أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فصلوا وادعوا " (¬1) وفي رواية (¬2): " إن الله يخوف بهما عباده " فعرفنا بهذا أن الكسوف إنما هو لأظهار آية من آيات الله لعباده، ولأجل تخويفهم من الذنوب، وإرشهادهم إلى التوبة والاستغفار، والصدقة والصلاة والدعاء، كما ورد في الأحاديث الصحيحة (¬3) ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1041) ومسلم رقم (21/ 911) والنسائي (3م 126). وابن ماجه رقم (1261) من حديث أبي مسعود الأنصاري. وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (1058) ومسلم في رقم (1/ 901) وأبو داود رقم (1177 - 1191) والترمذي رقم (561، 563) والنسائي (3/ 127) وابن ماجه رقم (1263) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1095) ومسلم في صحيحه رقم (24/ 912) من حديث أبي موسى وفيه " إن هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن اشلله يرسلها يخوف بها عباده فإذا رايتم منها شيئا فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره ". (¬3) انظر التعليقة السابقة. و (منها) ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1042) ومسلم في صحيحه رقم (28/ 914) من حديث عبد الله بن عمر أنه كان يخبر عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إن الشمس والقمر لا يخسفان لا موت أحد ولا لحياته، ولكنهما آية من آيات الله فإذا رايتموهما فصلوا ". و (منها) ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1043) ومسلم رقم (29/ 915) من حديث المغيرة ابن شعبة قال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوما مات إبراهيم، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا نيكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى تنكشف ".

وأما كونهما لا يكونان إلا في وقت مخصوص (¬1) بحيث يستدل به على عدم الشهر أو نحوه، فهذا شيء مخالف للشريعة المطهرة، ولأقوال علماء الإسلام جميعا، فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقول (¬2) " نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب، الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا، وأشار بأصابعه إشارة يفهمهما العامي كما يفهمهما العالم " ثم أرشدنا في أحاديث أخر [2] إلى إكمال العدة ثلاثين يوما (¬3)، وإلى العمل على ٍ ¬

(¬1) قال الحافظ في الفتح (2/ 537): قالوا: فلو كان الكسوف بالحساب لم يقع الفزع. ولو كان بالحساب لم يكن للأمر بالعتق والصدقة والصلاة والذكر معنى فإن ظاهر الأحاديث أن ذلك يفيد التخريف وأن كل ما ذكر من أنواع الطاعة يرجى أن يدفع به ما يخشى من أثر ذلك الكسوف. وقال ابن حجر في الفتح (2/ 537) قال ابن دقيق العيد: ربما يعتقد بعضهم أن الذي يذركه أهل الحساب ينافي قوله: " يخوف الله بهما عباده، وليس بشيء لأن لله أفعالا على حسب العادة، وأفعالا خارجة عن ذلك، وقدرته حاكمة على كل سبب، فله أن يقتطع ما يشاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض، وإذا ثبت ذلك فالعلماء، بالله لقوة اعتقادهم في عموم قدرته على خرق العادة وأنه يفعل ما يشاء إذا وقع شيء غريب حدث عندهم الخوف لقوة ذلك الاعتقاد، وذلك لا يمنع أن يكون هناك أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله خرقها وحاصله أن الذي يذكره أهل الحساب إن كان حقا في نفس الأمر لا ينافي كون ذلك مخوفا لعباد الله تعالى. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1913) ومسلم رقم (19/ 108) وأبو داود رقم (2319) والنسائي (4/ 139 - 140رقم 2140) كلهم من حديث ابن عمر. (¬3) أخرج البخاري في صحيحه رقم (1909) ومسلم رقم (19/ 1081) وأحمد (2/ 415) والدرامي (1) والنسائي (4) والطيالسي (1/ 182رقم 867) وابن الجارود (ص15) رقم (376) والبيهقي (4/ 205، 206، 247، 252). من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين ". وقال في الحجة البالغة: " لما كان وقت الصوم مضبوطا بالشهر القمري باعتبار رؤية الهلال، وهو تارة ثلاثون يوما، وتارة تسع وعشرون، وجب في صورة الاشتباه أن يرجع إلى هذا الأصل. وأيضا مبنى الشرائع على الأمور الظاهرة عند الأميين دون التعمق، والمحاسبات النجومية، بل الشريعة وإرادة بإخمال ذكرها وهو قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ". الحجة البالغة (2/ 51).

الرؤية (¬1)، ونفرنا من العمل بما يقوله المنجمون. وبالغ في ذلك، وحذر كلية التحذير حتى قال: " من أتى كاهنا أو منجما فقد كفر بما أنزل على محمد " (¬2). فمن زعم أن الله تعبد عباده بشيء من أحوال النجوم فقد أعظم على الله الفرية، فهي لم تخلق إلا ليهتدى بها في ظلمات البر والبحر (¬3)، ولتزيين السماء (¬4)، ورجوما للشياطين (¬5). هذا ما ذكره الله في كتابه العزيز، ولم يذكر غيره، وأبان الله - عز وجل - في كتابه العزيز أن تقدير سير القمر والشمس .... ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة. (¬2) أخرج أحمد (2/ 408، 476) وأبو داود رقم (3904) والترمذي رقم (135) والنسائي في الكبرى رقم (9017) وابن ماجه رقم (639) والحاكم (1/ 8) وهو حديث صحيح. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أتى عرافا أو كاهنا، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد ". وأخرج أحمد (1، 311) وأبو داود وقم (3905) وابن ماجه رقم (3726) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد ". وهو حديث حسن. (¬3) لقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [الأنعام: 97]. (¬4) لقوله تعالى: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) [الصافات: 6]. (¬5) لقوله تعالى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ) [الملك: 5].

منازل (¬1) ليعلم عباده عدد السنين والحساب، فعلق هذا الحكم بسيرهما لا بكسوفهما، وأيضا فقد ورد في الشريعة المطهرة ما يدل على اختلاف هذه العادة، واختلافهما، فتبت في الصحيحين (¬2) وغيرهما أن الشمس كسفت يوم مات إبراهيم ابن نبينا محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. وقد ورى الزبير بن بكار (¬3) أن وفاته كانت في عاشر شهر ربيع الأول. وروى البيهقي (¬4) مثله عن الواقدي، فهذا يبطل ما جزموا به من أن لا يكون الكسوف إلا في تلك الأوقات المعلومة المخصوصة، وقد روى البيهقي (¬5) عن قتادة أن الشمس كسفت يوم قتل الحسين السبط - سلام الله عليه -، وروى البيهقي (¬6) أن قتله كان يوم عاشوراء بل هو متفق عليه بين أهل السير والأخبار (¬7)، ولم يخالف في ذلك أحد. قال ابن بهران في شرح الأثمار: وقد اشتهر أن قتل الحسين - عليه السلام - كان يوم عاشوراء انتهى. وهذا أيضًا يدل على اختلال تلك العادة، وبطلان دعوى كليتها. وقد تكلم علماء الشريعة بمسائل تفيد ما ذكرناه، حتى نقل أصحاب الشافعي عنه مسألة وقوع العيد الكسوف معا (¬8)، وقد عرف أنه لا عيد في الإسلام إلا يوم الفطر ويوم النحر، فأما يوم ¬

(¬1) انظر ذلك في الرسالة رقم (34). (¬2) تقدم من حديث المغيرة بن شعبة. (¬3) ذكره ابن حجر في " الإصابة " (2/ 72). (¬4) في " معرفة السنن والآثار " رقم (7164). (¬5) في" معرفة السنن والآثار " رقم (7167). (¬6) في " معرفة السنن والآثار " رقم (7167) وقال البيهقي " قبل يوم عاشوراء ". (¬7) انظر " تاريخ الطبري " (5/ 347، 381)، " مروج الذهب " (3/ 248). (¬8) انظر " معرفة السنن والآثار " رقم (7168) وانظر تفصيل ذلك في " المغني " (3/ 329).

الفطر فهو أول يوم من شهر شوال. وأما يوم النحر فهو اليوم العاشر من شهر الحجة. وهذا يدل على أنه يقول بإمكان الكسوف إما في أول يوم من الشهر، أو في اليوم العاشر منه. وقد اعترض الشافعي بعض من اعتمد على علم الهيئة، ورد عليه أصحاب الشافعي بأن علم الهيئة، ورد عليه أصحاب الشافعي بأن علم الهيئة ليس من علم الشريعة، فلا يجوز الاعتراض به على الأمور الشرعية، كما صرح بذلك صاحب الفتح - فتح الباري (¬1) - وغيره. وإذا تقرر هذا عرفت أن الاستدلال بكسوف القمر على كون اليوم الذي اكسفت في ليلته هو اليوم الرابع عشر من الشهر، على ما هو الغالب، أو اليوم الخامس عشر على ما هو الأقل. لا يجوز [3ب] أن ينسب إلى علم الشريعة ولا يقول به أحد من المتشرعين، بل الواجب البناء على كمال العدة (¬2) كما ثبت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، ولا يجوز غير ذلك، ولو كان هذا جائز لجاز العمل على ما في الجداول من تعيين وقت دخول الأشهر، لأن اعتمادها عند المنجمين أولى من اعتماد مثل الكسوف، مما هو نادر مختلف. وقد كان أول شهرنا هذا الذي وقع فيه الكسوف، ووقع السؤال فيه قبل دخول الشهر الشرعي المبني على كمال العدة بيومين عند أهل الجداول، وكذلك سائر الشهور؛ فإنها لا بد تتقدم الشهور (¬3) عند أهل الجداول على الشهور الشرعية بيوم أو يومين، ولو اعتبرنا الجداول لتركنا الشريعة المطهرة، وصرنا منجمة، وكما أنه لا اعتبار بالجداول لا اعتبار بكبر الهلال وصغره، وارتفاعه، وانخفاضه، وهذا مجمع عليه علماء الإسلام، لا يختلفون فيه، وإن قال بعضهم باعتبار الحساب، فهو من جهة غير هذه الجهة، واعتبار غير هذا الاعتبار. ¬

(¬1) (2/ 529) و (2/ 537). (¬2) تقدم ذكره. (¬3) انظر الرسالة رقم (34).

إذا عرفت هذا فالعمل على ما وقع من اعتبار كمال العدة، فيصح ما وقع من صلاة، ونحر، وحج، وغير ذلك بلا خلاف بين المسلمين. وإذا تبين بوجه شرعي أن أول الشهر قبل ما قضت به العدة بيوم أو يومين برؤية هلال ذي الحجة، فالعمل صحيح في جميع ما تقدم، ولا يختل منه شيء على القانون الشرعي، فكيف إذا لم يتبين بوجه شرعي مرض. إنما يتبين بكسوف القمر، أو اعتبار أهل الجداول؛ فإن ذلك لا يوجب اختلال شيء بإجماع المسلمين، وهذا لا يجهله من له أدهي إلمام بالعلوم الشرعية، لأنه قد طرح به في عدة أبواب، كباب الصلاة، وكباب الصيام وكباب الحج. والحمد لله رب العالمين. كمل من تحرير المجيب محمد بن علي الشوكاني حفظه الله تعالى، وأحيا به الشريعة المطهرة، آمين آمين (¬1). ¬

(¬1) فائدة: اعلم أن الله سبحانه استدل على التوحيد والألهيات: 1 - بخلق السموات والأرض. 2 - أحوال الشمس والقمر. 3 - المنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار. 4 - بكل ما خلق الله في السموات والأرض وهي أقسام الحوادث والحادثة في هذا العالم وهي محصورة في أربعة أقسام: أ-الأحوال الحادثة في العناصر الأربعة ويدخل فيها أحوال الرعد والبرق والسحاب والأمطار والثلوج. ويدخل فيها أيضًا أحوال البحار، وأحول المد والجزر، وأحوال الصواعق والزلازل والاخسف. ب - أحوال المعادن وهي عجيبة كثيرة. ج - اختلاف أحوال النبات. د - اختلاف أحوال الحيوانات. انظر: " التفسير الكبير " للرازي (17/ 37). وقال أيضًا " اعلم أن انتفاع الخلق بضوء الشمس وبنور القمر عظيم، فالشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل. وبحركة الشمس تنفصل السنة إلى الفصول الأربعة، وبالفصول الأربعة تنتظم مصالح هذا العام. وبحركة القمر تحصل الشهور، وباختلاف حاله في زيادة الضوء، ونقصانه تختلف وطوبات هذا العالم، ويسبب الحركة اليومية يحصل النهار والليل، فالنهار زمانا للتكسب، والليل يكون زمانا للراحة. وانظر (4/ 177وما بعدها) " شرح الآية 164 من سورة البقرة " من تفسير الفخر الرازي. وانظر: الرسالة رقم (34) من فتاوى الشوكاني). قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (24/ 254 - 258): " الحمد لله: الخسوف الكسوف لهما أوقات مقدرة، كما لطلوع الهلال وقت مقدر، وذلك ما أجرى الله عادته بالليل والنهار. والشتاء والصيف، وسائر ما يتبع جريان الشمس والقمر. وذلك من آيات الله تعالى: كما قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [الأنبياء: 33]. وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ) [يونس: 5]. وقال تعالى: (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [الأنعام: 96]. وقال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) [البقرة: 189]. وقال تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [التوبة: 36]. وقال تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [سورة يس37: 40]. وكما أن العادة التي أجراها الله تعالى أن الهلال لا يسهل إلا ليلة ثلاثين من الشهر، أو ليلة إحدى وثلاثين، وأن الشهر لا يكون إلا ثلاثين، أو تسعة وعشرين، فمن ظن أن الشهر يكون أكثر من ذلك، أو أقل فهو غالط. فكذلك أجرى الله العادة أن الشمس لا تكسف إلا وقت الاستسرار وأن القمر لا يخسف إلا وقت الابدار، ووقت إبداره، هي الليالي البيض التي يستحب صيام أيامها: ليلة الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، فالقمر لا يخسف إلا في هذه الليالي. والهلال يستسر آخر الشهر: إما ليلة، إما ليلتين. كما يستسر ليلة تسع وعشرين، أو ثلاثين، والشمس لا تكسف إلا وقت استسراره وللشمس والقمر ليالي معتادة، من عرفها عرف الكسوف والخسوف. كما أن من علم كم مضى من الشهر يعلم أن الهلال يطلع في الليلة الفلانية أو التي قبلها. لكن العلم بالعادة في الهلال علم عام، يشترك فيه جميع الناس. وأما العلم بالعادة في الكسوف والخسوف فإنما يعرفه من يعرف حساب جريانهما، وليس خبر الحاسب بذلك من باب علم الغيب، ولا من باب ما يخبر به من الأحكام التي يكون كذبه فيها أعظم من صدقه، فإن ذلك قول بلا علم ثابت، وبناء على أصل صحيح. وفي سنن أبي داود - رقم (3905) - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ". وهو من حديث ابن عباس أخرجه أحمد (1/ 277، 311) وابن ماجه رقم (3726) وهو حديث حسن. وفي صحيح مسلم - رقم (2230) - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه لم يقبل الله صلاته أربعين يوما ". والكهان أعلم بما يقولونه من المنجمين في الأحكام، ومع هذا صح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن إتيانهم، ومسألتهم، فكيف بالمنجم؟ وأما ما يعلم بالحساب فهو مثل العلم بأوقات الفصول، كأول الربيع والصيف، والخريف، والشتاء، لمحاذاة الشمس أوائل البروج التي يقولون فيها أن الشمس نزلت في برج كذا، أي حاذته. ومن قال من الفقهاء أن الشمس تكسف في غير وقت الاستسرار فقد غلط، وقال ما ليس له به علم، وما يوى عن الواقدي من ذكره: أن إبراهيم ابن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مات يوم العاشر من الشهر، وهو اليوم الذي صلى فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الكسوف؛ غلط. والواقدي لا يحتج بمسانيده، فكيف بما أرسله من غير أن بسنده إلى أحد، وهذا فيما لم يعلم أنه خطأ، فأما هذا فيعلم أنه خطأ. ومن جوز هذا فقد قفا ما ليس له به علم. ...

جواب على سؤال ورد من بعض أهل العلم يتضمن ثلاثة أبحاث: 1 - بحث في المحاريب 2 - بحث في الاستبراء 3 - بحث في العمل بالرقومات

جواب على سؤال ورد من بعض أهل العلم يتضمن ثلاثة أبحاث: 1 - بحث في المحاريب 2 - بحث في الاستبراء 3 - بحث في العمل بالرقومات تأليف محمد بن علي الشوكاني حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه محفوظة بنت علي شرف الدين أم الحسن

وصف المخطوط: 1 - عنوان الأبحاث: - بحث في المحاريب - بحث في الاستبراء - بحث في العمل بالرقومات. 2 - موضوع الرسالة: فقه. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين. وبعد: فإنها وردت مذاكرة من بعض أهل العلم تتمضن. .. 4 - آخر الرسالة:. ... إلى غير ذلك من المواضع التي يصعب تعدادها وفي هذا المقدار كفاية والله ولي التوفيق. حرره المجيب بن محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما في شهر جمادى الآخرة سنة (1215هـ). 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - الناسخ: لمؤلف: محمد بن علي الشوكاني. 7 - عدد الأوراق: (14) روقة = (28) صفحة. 8 - عدد الأسطر في الصفحة: 22 - 25 سطرا. 9 - عدد الكلمات في السطر: 11 - 12 كلمة. 10 - الرسالة - أو الأبحاث - من المجلد الثاني من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين. وبعد: فإنها وردت مذاكرة من بعض أهل العلم تتضمن السؤال عن ثلاثة أبحاث: البحث الأول: السؤال عن صحة ما ذكره الحافظ السيوطي في الجامع الصغير من حديث ابن عمرو مرفوعًا بلفظ: " اتقوا هذه المذابح يعني المحاريب " قال أخرجه الطبراني في الكبير (¬1)، والبيهقي في شعب الإيمان (¬2)، ثم قال السائل - عافاه الله -: إن وجد في حاشية ما لفظه: أخرج ابن أبي شيبة (¬3) ..................... ¬

(¬1) كما في " مجمع الزوائد " (8) وقال الهيثمي: " وفيه عبد الله مغراء وثقه ابن حبان وغيره، وضعفه ابن المديني في روايته عن الأعمش وليس هذا منها. (¬2) بل في " السنن " (2/ 439) بسند حسن. وقد عزاه السيوطي في " الدر المنثور " (2/ 188) إلى البيهقي في سننه ولم يعزه للبيهقي في شعبه. قلت: حديث ابن عمرو صحيح لغيره. (¬3) في مصنفه (2/ 59) وهو حديث ضعيف. قال الألباني رحمه الله في " الضيفة " (1/ 640) وهذا سند ضعيف وله علتان: الأولى: الإعضال، فإن موسى الجهني - وهو ابن عبد الله - إنما يروي عن الصحابة بواسطة التابعين، أمثال: عبد الرحمن بن أبي ليلى، والشعبي ومجاهد، ونافع وغيرهم، فهو من أتباع التابعين، وفيهم أورده ابن حبان في " ثقاته " (7/ 449). وعليه، فقول السيوطي في " إعلام الأريب بحدوث بدعة المحاريب " - (ص68) - " إنه مرسل " ليس دقيقا، لأن المرسل في عرف المحدثين إنما هو قول التابعي: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذا ليس كذلك. الأخرى: ضعف أبي إسرائيل هذا، واسمه إسماعيل بن خليفة العبسي، قال: الحافظ في " التقريب " " صدوق سيء الحفظ ". وهذا على ما وقع في نسختنا المخطوطة من " المصنف " ووقع فيما نقله السيوطي عنه في " الإعلام " " إسرائيل " يعني: إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، وهو ثقة وهو من طبقة أبي إسرائيل، وكلاهم من شيوخ وكيع، فإن نسختنا جيدة مقابلة بالأصل، نسخت سنة 735هـ. وقد عرفت أن الصواب معضل، وهذا إن سلم من أبي إسرائيل، وما أظنه بسالم فقد ترجح عندي أن الحديث من روايته، بعد أن رجعت إلى نسخة أخرى من " المصنف " (1/ 188) فوجدتها مطابقة للنسخة الأولى، وعليه فالسند ضعيف مع إعضاله ثم رأيته كذلك في " المطبوعة " (2/ 59) 1 هـ.

في [الضعفاء] (¬1) عن موسى الجهني قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تزال أمتي يخير ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح النصارى ". وأخرج (¬2) أيضًا عن ابن مسعود قال: " اتقوا هذه المذابح "، وأخرج (¬3) أيضًا عن عبد الله (¬4) بن أبي الجعد قال: " كان أصحاب محمد يقولون: إن من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح في المساجد " يعني ¬

(¬1) بيدو أنه خطأ في المخطوط وصوابه " المصنف ". (¬2) في " المصنف " (2 - بسند صحيح. قال المحدث الألباني رحمه الله في " الضعيفة " (1/ 642): قلت: فهذا صحيح عن ابن مسعود فإن إبراهيم، وهو ابن يزيد النخعي، وأن كان لم يسمع من ابن مسعود، فهو عنه مرسل في الظاهر، إلا أنه قد صحح جماعة من الأئمة مراسيله، وخص البيهقي ذلك بما أرسله عن ابن مسعود. قلت: وهذا التخصيص هو الصواب، لما روى الأعمش قال: قلت لإبراهيم: أسند لي عن ابن مسعود. فقال إبراهيم: " إذا حدثتكم عن رجل عن عبد الله فهو الذي سمعت، وإذا قلت: قال عبد الله، فهو عن غير واحد عن عبد الله ". علقه الحافظ هكذا في " التهذيب " ووصله الطحاوي (1/ 133) وابن سعد في الطبقات (6/ 272) وأبو زرعة في " تاريخ دمش " (2/ 121) بسند صحيح عنه. قلت: وهذا الأثر قد قال فيه إبراهيم: " قال عبد الله " فقد تلقاه عنه من طريق جماعة، وهم أصحاب ابن مسعود، فالنفس تطمئن لحديثهم، لأنهم جماعة وإن كانوا غير معروفين، لغلبة الصدق على التابعين، وخاصة أصحاب ابن مسعود - رضي الله عنه -. (¬3) في مصنفه (2/ 59). (¬4) كذا في المخطوط ولكنه في " المصنف " سالم بن أبي الجعد.

الطاقات. وأخرج أيضًا (¬1) عن أبي ذر قال: " إن من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح في المساجد "، وأخرج (¬2) أيضًا عن علي - عليه السلام -: " أنه كره الصلاة في الطاق "، وأخرج وأخرج (¬3) أيضًا عن إبراهيم: " أنه كان يكره الصلاة من الطاق "، وأخرج (¬4) أيضًا عن سالم بن أبي الجعد قال: " لا تتخذوا المذابح في المساجد "، وأخرج (¬5) أيضًا عن كعب: " أنه كره المذابح في المسجد "، نقل السائل - عافاه الله - بعد هذا كلاما فيه بعض اختلاط فتر كناه. وأقول: الجواب عن هذا من وجوه: الوجه الأول [1أ]: في بيان ما يتعلق بالحديث الأول الذي نقله السائل - كثر الله فوائده - من الجامع الصغير (¬6) فنقول: في إسناده عبد الرحمن بن مغراء، وقد اختلف أئمة الحديث في الاحتجاج به، ووثقه جماعة منهم: ابن حبان (¬7)، وضعفه آخرون (¬8) منهم: علي بن المديني، لكن من ضعفه لم يضعفه مطلقا، بل جعل التضعيف مقيدا بما يرويه عن الأعمش، وليس هذا الحديث مما يرويه عن الأعمش. وقال السيوطي (¬9): إنه حديث ثابت صحيح على رأي أبي زرعة، وحسن على رأي ابن عدي انتهى. ¬

(¬1) أي ابن أبي شيبة في " المصنف " (2/ 60). (¬2) في " المصنف " (2/ 59). (¬3) في " المصنف " (2/ 59). (¬4) في " المصنف " (2/ 59) بسند صحيح. (¬5) في " المصنف " (2/ 59). (¬6) الحديث رقم (153). (¬7) في " الثقات " (7/ 92). (¬8) انظر " الكاشف " (2/ 162 رقم 3363): قال الذهبي: " وثقه أبو زرعة الرازي وغيره ولينه ابن عدي. وقال الذهبي في " الميزان " (2/ 592رقم 4980) ما به بأس وقال في " المعني " (2/ 388رقم 3641): وثقه أبو زرعة وقال: ابن المديني ليس بشيء، ولينه ابن عدي ". (¬9) في " إعلام الأريب بحدوث بدعة المحاريب " (ص16) تحقيق: محمد صبحي حلاق حسن.

وأقول: أما الحكم بصحة الحديث فغير مسلم، فإن عبد الرحمن بن مغراء ليس من رجال الصحيح، وأما الحكم بأن الحديث حسن فإن كان المراد بذلك أنه من قسم الحسن لغيره باعتبار ورود الحديث من طرق أخر كما سنوضحه فمسلم، وإن كان المراد أنه من قسم الحسن لذاته ففيه إشكال؛ فإنه لا فرق بين الحسن لذاته، والصحيح إلا مجرد كمال الضبط وتمامه في الثاني دون الأول، فهو مجرد وجود الضبط المتصف بكونه خفيفا فقط، فإن حد الصحيح هو ما اتصل إسناده بنقل عدل تام الضبط من غير شذوذ ولا علة قادحة (¬1)، وحد الحسن لذاته هو ما اتصل إسناده بنقل عدل ضابط ضبطا غير تام، من غير شذوذ ولا علة قادحة (¬2). وهذا الحديث لا ينتهض لإدراجه في حد الصحيح، ولا في حد الحسن لذاته، ولهذا قال الحافظ الذهبي في المهذب (¬3) على البيهقي ما لفظه: قلت: هذا خبر منكر تفرد به عبد الرحمن بن مغراء وليس بحجة. انتهى. قال: المناوي (¬4) بعد أن نقل كلام الذهبي: إن ثبات الحكم بصحته لا يصار إليه انتهى. قلت أنا: وهكذا أيضًا إثبات الحكم بكونه حسنا لذاته لا يصار إليه [1ب]، لما تقرر عند أهل الفن من أن حديث من ليس بحجة لا يصح وصفه بكونه لذاته، فمن أي قسم يكون؟ هل من قسم الحسن لغيره، أم من قسم الضعيف؟ قلت هو لو لم يرد في معناه غيره من قسم الضعيف، فلما ورد في معناه حديث (¬5) موسى الجهني مرفوعًا كما ذكره السائل، وكذلك سائر ما حكاه عن الصحابة في السؤال، وهو مما ليس للاجتهاد فيه ¬

(¬1) انظر " تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي " (1/ 47 - 58). (¬2) انظر " شرح ألفية السيوطي في الحديث " (1/ 63 - 67). (¬3) أي " المهذب في اختصار السنن الكبير " (2/ 400 رقم 3124). (¬4) في " فيض القدير شرح الجامع الصغير " (1/ 145). (¬5) تقدم تخريجه وهو حديث ضعيف.

مسرح، بل له حكم الرفع كان الحديث من قسم الحسن لغيره. وقد تقرر عند علماء الفن أن الحسن لغيره هو مما تقوم به الحجة، ويجب العمل عليه، فإن قلت: هذه الأحاديث التي ذكرها السائل - عافاه الله - ناسبا لها: إلى حاشية وجدها، هل تعرف من ذكرها من أهل العلم في كتبهم المعتبرة؟ قلت: نعم، ذكرها بحروفها الحافظ السيوطي في " الدر المنثور في تفسير القرآن بالمأثور " (¬1) عند تفسيره لقوله تعالى: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ) (¬2) فالحاشية التي وقف عليها السائل منقولة من الدر المنثور لفظا وترتيبا، لا تفاوت بين ما نقله السائل، وما بين ما في الدر المنثور إلا في أن السائل يقول: وأخرج أيضًا يعني ابن شيبة، وصاحب الدر يقول: وأخرج ابن أبي شيبة، فيصرح بلفظه من تلك الطرق جميعها. الوجه الثاني: إذا تقرر لك أن الحديث من قسم الحسن لغيره، وهو مما يجب العلم به، فما هي هذه المذابح المذكورة في الحديث؟ قلت: أما الحافظ [2أ] السيوطي فقد فسرها في الجامع الصغير (¬3) بالمحاريب كما ذكره السائل في السؤال، فإنه كذلك في الجامع مفسرا بالمحاريب، وقد فسره بذلك صاحب مسند الفردوس وغيره. وروى عبد الرزاق (¬4) عن إبراهيم النخعي، وصرح بأن الصلاة فيمها مكروهة، وصرح أيضًا النووي (¬5) بالكراهة. وقد ذكر السيوطي في موضع آخر غير الجامع في تفسير هذا الحديث أنه نهى عن اتخاذ المحاريب في المساجد، والوقوف فيها. وقال: خفي على قوم كون المحراب بالمسجد ¬

(¬1) (2/ 188). (¬2) [آل عمران: 39]. (¬3) الحديث رقم (153). (¬4) في مصنفه (2/ 412). (¬5) في " المجموع شرح المهذب " (3/ 201).

بدعة، وظنوا أنه كان في زمن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يكن في زمنه، ولا زمن أحد خلفائه، بل حدث بعد المائة الثانية، مع ثبوت النهي عن اتخاذه، هكذا نقل هذا الكلام عن السيوطي المناوي، في شرح الجامع (¬1)، ثم قال: وتعقب قول الزركشي (¬2) المشهور أن اتخاذه جائز لا مكروه، ولم يزل عمل الناس عليه بلا نكير، بأنه نقل في المذهب فيه. وقد ثبت النهي عنه. قال المناوي (¬3) متعقبا للسيوطي: وهذا بناء منه على ما فهمه من لفظ الحديث أنه مراده بالمذابح المحاريب، وهي غير ما هو المتعارف في المسجد الآن، ولا كذلك، فإن الإمام الشهير المعروف بان الأثير (¬4) قد نص على أن المردا بالمحاريب في الحديث صدور المجالس [فالزومية] (¬5) حديث أنس كان يكره المحاريب، أي لم يكن يحب أن يجلس في صدور المجالس، ويترفع على الناس انتهي. قال المناوي: واقتفاه، أي: ابن الأثير في ذلك جمع جازمين به، ولم يحكوا خلافه، منهم: الحافظ الهيثمي وغيره (¬6) فقد قال الحراني: المحراب صدور البيت ومقدمه الذي لا يكاد يوصل إليه إلا بفضل مؤنة أو قوة وجهد. وفي الكشاف (¬7) في تغيير: (كُلَّمَا ¬

(¬1) " فيض القدير شرح الجامع الصغير" (1/ 144). (¬2) في " إعلام الساجد بأحكام المساجد " (ص364). (¬3) في " فيض القدير شرح الجامع الصغير " (1/ 144). (¬4) في " النهاية " (1/ 359). (¬5) كذا في المخطوط ولعله [فالذي فيه]. (¬6) قال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (11/ 84 - 85) قوله تعالى: " فخرج على قومه من المحراب: أي أشرف عليهم من المصلى، والمحراب أرفع المواضع وأشرف المجالس، وكانوا يتخذون المحاريب فيما ارتفع من الأرض ". واختلف الناس في اشتقاقه، فقالت فرقة: هو مأخوذ من الحرب كأنه ملازمه يحارب الشيطان والشهوات، وقالت فرقه: هو مأخوذ من الحرب (بفتح الراء) كأن ملازمه يلقى منه حربا وتعبا ونصبا. (¬7) ي (1/ 187).

دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ) (¬1) ما نصه: قيل بنى لها زكريا محرابا في المسجد، أي غرقة تصعد (¬2) إليها بسلم. وقل: المحراب [2ب]: المجالس ومقدمها، كأنها وضعت من أشرف موضع في بيت المقدس. وقيل: كانت مساجدهم تسمى المحاريب انتهى. وقال في تفسير قوله تعالى: (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ) المحاريب: المساكن والمجالس الشريفة؛ سميت به لأنه يحامى عليها، ويذب عنها. وقيل المساجد. انتهى (¬3). وفي الأساس (¬4) للزمخشوي: مررت بمذبح النصارى، ومذابحهم، وهي محاريبهم ومواضع كتبهم، ونحوها المناسط [للتعبدات] (¬5) وهي في الأصل المذابح. انتهى. وفي الفائق (¬6) له أيضا: المحراب الأسد مأواه، وسمي القصر والغرفة المنفية محرابا. انتهى. وفي القاموس (¬7) المذابح المحايب، والمقاصير، وبيوت النصارى. والمحراب الغرفة وصدر البيت، أكرم مواضعه، ومقام الإمام في المسجد، والموضع، الذي ينفرد به ¬

(¬1) [آل عمران: 37]. (¬2) وقال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (4/ 71): قوله تعالى: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ) المحراب في اللغة أكرم موضع في المجلس، وجاء في الخبر: إنها كانت في غرفة كان زكريا يصعد إليها بسلم. وقال وضاح اليمن: ربه محراب إذا جئتها ... لم ألقها حتى أرتقي سلما (¬3) كلام الزمخشري في " الكشاف " (1/ 187). (¬4) " أساس البلاغة " (1/ 294). (¬5) كذا في المخطوط وفي " أساس البلاعة " للمتعبدات. (¬6) (1/ 273). (¬7) " القاموس المحيط " (ص 93، 278 - 279).

الملك. انتهى. في النهاية (¬1) المذبح واحد المذابح وهي المقاصير، وقيل المحاريب. وقال الكمال بن الهمام في الفتح (¬2) بعدما نقل كراهة صلاة الإمام في المحراب، لما فيه من التشبه بأهل الكتاب، والامتياز على القوم ما نصه: " لا يخفى أن امتياز الإمام مقرر مطلوب في الشرع في حق المكان، حتى كان التقدم واجبا عليه، وغاية ما هنا كونه في خصوص مكان، ولا أثر لذلك، فإنه بني في المساجد المحاريب من لدن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، ولو لم تبن لكانت السنة أن يتقدم في ذلك المكان، لأنه يحاذي وسط الصف، وهو المطلوب، إذ لم قيامه في غير منحاذاته مكروه، وغايته اتفاق الملتين في بعض الأحكام ولا بدع فيه، على أن أهل الكتاب إنما يخصون الإمام بالمكان المرتفع كما قيل فلا تشبه " انتهى. وأقول [3أ]: لا يخفى أنه لا ملازمة بين تقدم الإمام وكونه في محراب، فالمحراب هو بناء مخصوص، على هيئة مخصوصة، في مكان مخصوص، وليس مشروعية تقدم الإمام على المؤتمين (¬3) يستلزم أن يكون ذلك في المكان المخصوص بل المراد تقدمه بني يدي الصف، وهو ممكن دخوله في ذلك البناء الموضوع على تلك الهيئة، فلا يتم قول الكمال ابن الهمام: وغاية ما هنا كونه في خصوص مكان، ولا أثر لذلك، بل نقول لذلك أثر وهو التشبه بأهل الكتاب، ومخالفتهم مطلوبة بنص الشارع. وأما قوله: فإن بني في المساجد المحاريب من لدن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فباطل، فإنه لم يبن في زمنه (¬4)، ولا في زمن الصحابة شيء من ذلك كما تقدمت ¬

(¬1) (1/ 359). (¬2) (1/ 425). (¬3) انظر الرسالة رقم (83). (¬4) قال الشيخ محفوظ في كتابه " الإبداع في مضار الابتداع " (ص 184): " وأما اتخاذ المحاريب فلم يكن في زمانه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محراب قط، ولا زمان الخلفاء الأربعة فمن بعدهم، وإنما حدث في آخر المائة

الإشارة إليه. وأما المحراب المبني في مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقال الواقدي: حدثنا هلال بن محمد قال: أول من أحدث المحراب الجوف عمر بن عبد العزيز ليالي بنى مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كذا حكاه المقريزي في الخطط والآثار (¬1)، وأما قول الكمال بن الهمام: ولو لم بين لكانت السنة أن يتقدم في ذلك المكان المجوف المخصوص. وأما قوله وغايته اتفاق الملتين في بعض الأحكام إلخ، فلا يخفى أن هذا الحكم الذي هو محل النزاع قد ورد النهي بخصوصه، فلا ينفع التعليل باتفاق الملتين. فإن قلت: فعلام تحمل ما رواه عمر بن أبي شيبة أن عثمان بن مظعون تفل في القبلة ¬

(¬1) (2/ 247).

فأصبح مكتئبا، فقالت له امرأته: ما لي أراك مكتئبا؟ قال: لا شيء إلا إني تفلت في القبلة وأنا أصلي، فعمدت إلى القبلة [3 ب] فغسلتها، ثم عملت خلوقا فخلقتها، فكانت أول من خلق القبلة (¬1). قلت: لا ملازمة بين القبلة والمحراب المجوف، والقبلة هي الموضع الذي يتقبلة الإمام في الموضع الذي تختص به، ولا يلزم أن يكون ذلك مكانا مجوفا معمولا على هئية مخصوصة، وأيضا قد ورد ما يؤيد كراهة الصلاة في مكان مخصوص لا يتجاوزه المصلي إلى غيره. فوري عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " النهي عن إيطال المكان المسجد " (¬2) أي اتخاذ مكان منه مخصوص يصلي فيه الإنسان، أو يتلو، ولا يتجاوزه إلى غيره. وهذا حديث معروف موجود في دواوين الإسلام، فهو من المؤيدات للنهي عن اتخاذ المحاريب المعروفة الآن، لأنها صارت مختصة بصلاة الإمام يتجاوزها إلى غيرها. ¬

(¬1) أخرجه ابن شيبة (14، 2/ 362): عن ابن عباس بن عبد الله الهاشمي قال: أول ما خلقت المساجد أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأي بالقبلة نخامة فحكها، ثم أمر بالخلوق فلطخ به مكانها، فخلق الناس المساجد. وانظر: " الأوائل " لأبي هلال العسكري (ص180). (¬2) ذكره ابن الأثير في " النهاية " (5). وأخرج أحمد (3/ 428، 444) وابن ماجه رقم (1429) والحاكم (1/ 229) وابن خزيمة رقم (1319) والبغوي في " شرح السنة " رقم (666) والدارمي (1) وابن أبي شيبة في " المصنف" (2) من طرق عن عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، عن تميم بن محمود، عن عبد الرحمن بن شبل، قال: نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ثلاث: عن نقرة الغراب، وعن فرشة السبع، وأن يوطن الرجل المكان الذي يصلي فيه كما يوطن البعير ". وأخرجه أحمد (5 - 447) وفي سنده مجهول وهو عبد الحميد هذا. وهو حسن لغيره والله أعلم. وقال ابن الأثير في " النهاية " (5): " معناه أن يألف الرجل مكانا معلوما من المسجد مخصوصا به يصلي فيه كالبعير لا يأوي من عطن إلا مبرك دمث قد أوطنه واتخذه مناخا ". وقال القاسمي في " إصلاح المساجد " (ص185): " يهوى بعض ملازمي الجماعات مكانا مخصوصا أو ناحية من المسجد، إما وراء الإمام أو جانب المنبر أو أمامه أو طرف حائطه اليمين أو الشمال أو الصفة المرتفعة في آخره بحيث لت يلذ له التعبد ولا الإقامة إلا بها وإذا أبصر من سبقه إليها فربما اضطره إلى أن يتنحى له عنها لأنها محتكرة أو يذهب عنها مغضبا أو متحوقلا أو مسترجعا وقد يفاجئ الماكث بها بأنها مقامه من كذا كذا سنة وقد يستعين بأشكاله من جهلة المتنسكين على أن يقام منها إلى غير ذلك من ضروب الجهالات التي ابتليت بها أكثر المساجد ولا يخفى أن محبة مكان من المسجد على حده تنشأ من الجهل أو الرياء أو السمعة وأن يقال أنه يصلي إلا في الكان الفلاني، أو أنه من أهل الصف الأول مما يحيط العمل ملاحظته ومحبته نعوذ بالله. وهب أن هذا المتوطن لم يقصد ذلك فلا أقل أنه يفقد لذة العبادة بكثرة الإلف والحرص على هذا المكان بحيث لا يدعوه إلى المسجد إلى موضعه وقد ورد النهي عن ذلك - كما في الحديث الحسن وقد تقدم.

والوجه الثالث: من وجه الجواب بيان ما هو الذي يتوجه في حمل الأحاديث الواردة في المنع من المحاريب، على أن التفاسير للمحراب والذابح قد اختلف كما تقدم، والواجب حمل النهي على معنى مناسب لمقصود الشارع، ولا شك أن صدور المجالس محل للنهي عنها، لأن التنافس فيها، والتدافع دونها هو من محبة الشرف الذي ورد الحديث الصحيح بأنه يفسد دين المؤمن ويهلكه، وهو أيضًا صنع أهل الكبر والخيلاء والترفع، ومحبة العلو المخالف لقوله سبحانه: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا) [4أ] (¬1) وهكذا إذا حمل النهي على المذابح التي هي بيوت النصارى، أو المواضع التي يصلون فيها، لأن قربانها ربما يكون ذريعة إلى الفتنة، أو الوقوع في الشبة، أو التلوث بشيء من النجاسات. وهكذا إذا فسرت المذابح بمحاريب المساجد المجوفة، لأن في ذلك نوع تشبه بأهل الكتاب؛ إذ ذلك مختص بهم، لم يفعله نبينا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ولا أحد من أصحابه الراشدين. والمخالفة لأهل الكتاب مقصد من مقاصد الشرع عظيم، ومطلب من مطالب الدين قويم، فهذه المعاني ¬

(¬1) [القصص: 83].

الثلاثة قد وقعت في تفسير المذابح كما عرفت، وتفسير الحديث بها مناسب لمقصود الشارع، لأن في كل واحد منها معنى يقتضي المخالفة لمقصوده، ويحلق بذلك ما وقع في تفسير المذابح المذكورة في الحديث بالموضع الذي يقعد فيه الملك، ويختص به، فإنه مظنة للزهو والكبر، والعجب، والخيلاء إذا قعد فيه الملك، فكأنه قال: اتقوا المواضع المعدة لقعود الملوك لما في ذلك من المفاسد. فإن قلت: وأي هذه المعاني المناسبة لمقصود الشارع يحمل الحديث عليه؟ قلت: إنما عند من قال من أهل الأصول أنه يجوز حمل المشترك (¬1) على جميع معانيه المناسبة، وأما عند من منع من استعمال المشترك في جميع معانيه فيجعل [4ب] الحديث كالمجمل المتردد بينها، كما صرح بذلك جماعة من المحققين، وهذا بعد ثبوت كون كل واحد منهما، معنى حقيقيا، وأما إذا كان بعضها حقيقة وبعضها مجازا فالواجب الحمل على المعنى الحقيقي دون المجاز (¬2) بالمصير إلى عموم المجاز هذا، فهذا ما يناسب القواعد الأصولية المقررة في مواضعها. وأما ما يناسب الورع فهو اجتناب جميع هذه ¬

(¬1) قال صاحب " الكوكب المنير " (3): يصح إطلاق جمع المشترك على معانيه: ومثناه على معنييه معا لـ إطلاق مفرده على كل معانيه. أما إرادة المتكلم باللفظ المشترك أحد معانيه، أو أحد معنييه فهو جائز قطعا وهو حقيقة لأنه استعمال اللفظ فيما وضع له. وأما إرادة المتكلم بالفظ المشترك استعمال في كل معانيه وهي مسألة المتن ففيه مذاهب. والصحيح: أنه يصح استعمال اللفظ المشترك في كل معانيه كقولنا: العين مخلوقة ونريد جميع معانيها. انظر: جمع الجوامع " (1)، " التبصرة " (184). قال ابن الحاجب في " شرح المفصل " كما في " البحر المحيط " (2): المشترك: وهو اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفين أو أكثر دلالة على السواء، عند أهل تلك اللغة. سواء كانت الدلالتان مستفادتين من الوضع الأول أو من كثرة الاستعمال. وهو في اللغة على الأصح. (¬2) انظر " الكوكب المنير " (1/ 195 - 197).

المعاني المناسبة لمقصود الشارع، فمن أراد الخروج من الشبهة، الأخذ بالعزيمة (¬1)، والعمل بالأحوط فلا ينافس في صدور المجالس، ولا يدخل في بيوت النصارى، ولا يغشى مساجدهم، ولا يجعل محرابا مجوفا في مسجد بينيه، ولا يقعد في المقاعد المعدة لقعود الملوك فيها، ولا يأخذ في مقدمات ما يوصله إلى ذلك المقعد. ¬

(¬1) تقدم توضيح معناها.

السؤال الثاني عن كلام أهل المذهب في إيجا ب الاستبراء للأمة على البائع، سواء كان صغيرا أو كبيرا، ثم استثنى الحامل والمزوجة، والمتعدة، قال السائل - عافاه الله -: فما وجه الاستثناء، وما الفرق، فإنهم أو جبوا الاستبراء، وعللوا ذلك بأنه تعبد، ولم يوجبه في الثلاث المستثنيات، بل ظاهر كلامهم أن الاستبراء لمعرفة خلو الرحم، وأن ذلك هو الملاحظ بالأمارات مثل الخروج من أيام النفاس، أو أيام العدة، فهلا جعلوا العلة واحدة في حق الجميع؟ أما التعبد أو معرفة خلو الرحم، ويأتي التفصيل [5 أ] في حق من هي كبيرة، ومن هو صغير وغير ذلك، فهذا الموضع أشكل (¬1)، فهل هو بدليل خاص، أم رجوع إلى قاعدة قد بنوا عليها؟ فتفضلوا بالإيضاح - جزيتم خيرا - انتهى مضمون السؤال. وأقول: أعلم أن هذا السؤال قوي الإشكال، عظيم الإعضال، حقيق ببسط المقال. والسبب في ذلك ما وقع في كلام بعض أهل العلم في تعليل الاستبراء بالتعبد، وهو عند التحقيق دعوى مجرده عن الدليل، لأن التعبد هو أن يتعبد الله عباده بحكم من الأحكام، ولا يعرف ذلك إلا بنص من كتاب الله، أو سنة رسوله، أو ما يرجع إليها، وليس الأمر كذلك كما ستعرف الكلام على أطراف هذا المقام، والكلام على هذا السؤال ينحصر في أبحاث. البحث الأول: إيجاب الاستبراء على البائع، اعلم أنه لا دليل يدل على ذلك أصلا إلا مجرد ما استدل به صاحب البحر (¬2) وغيره من القياس فقال: إنه يجب على البائع الاستبراء للبيع، وهو مالك للوطء ولا يملكه غيره إلا بعد الاستبراء كالزوجة، ثم قال: بعد ذلك قلنا:. ............................. ¬

(¬1) لعل الجملة " موضع إشكال ". (¬2) (3).

والقياس (¬1) دليل شرعي. انتهى. ¬

(¬1) القياس لغة: التقدير والمساواة. فالقياس في اللغة يدل على معنى التسوية على العموم، لأنه نسبة وإضافة بين شيئين ولهذا يقال: فلان يقاس بفلان، أي يساوي فلانا، ولا يساوي فلانا. انظر: " معجم مقاييس اللغة " (5/ 40)، " لسان العرب " (6). القياس اصطلاحا: هو رد فرع إلى أصل بعلة جامعة. وقيل: هو تحصيل حكم الأصل في الفرع لا شتباههما في علة الحكم. انظر: " اللمع " (ص53)، " المستصفى " (2/ 288). *انقسم العلماء في حجة القياس إلى قسمين: 1 - القسم الأول المثبتون لحجية القياس: أي يتعبد به عقلا وشرعا وهؤلاء يستدلون به على إثبات الأحكام الفقهية بعد الكتاب والسنة والإجماع وهو مذهب جمهور العلماء من السلف والخلف. 2 - القسم الثاني النافون للقياس وهم القائلون: إن القياس ليس بحجة ولا يعتبر دليلا من أدلة الشرع وهؤلاء انقسموا إلى فرق: أ-القائلون بأنه يجوز التعبد بالقياس عقلا ولم يرد في الشرع ما يدل على العمل به، وبعضهم استدل بورود الشرع على منعه وهم الظاهرية. ب-الفرقة الثانية: القائلون بأن القياس يجب العمل به في صورتين فقط وهما: 1 - أن تكون علة حكم الأصل منصوصا عليها إما بصريح اللفظ أو بإيمائه كما في تحقيق الماط وتنقيح المناط. 2 - أن يكون الفرع أولى بالحكم من الأصل أو مساويا له وقد نسب ذلك إلى الفاشاني والنهرواني، ونسب هذا إلى داود الظاهري ولكن ابن حزم نفاه في " الإحكام ". 3 - الفرقة الثالثة: القائلون بأن القياس يمنع من التعبد به عن طريق العقل وبالتالي لا يصح شرعا. وقد ذهب إلى ذلك الشيعة الأمامية، وجماعة من معتزلة بغداد وسواء كان المنع بطريق العقل، أو بطريق الشرع أو بطريق الشرع والعقل معا فإن أصحاب هذا القسم ينكرون القياس، ولا يعتبرونه دليلا من أدلة الشرع. " البحر المحيط " (5)، " الإحكام " لا بن حزم (7)، " الكوكب المنير " (4 - 214).

وأقول: لا أدري كيف كان هذا القياس دليلا شرعيا! فإن الزوجة تجب العدة عليها، وهذا فيه إيجاب الاستبراء على الرجل، ثم إن العدة إنما تكون بعد الطلاق، وهذا الاستبراء قبل البيع، ثم إن العدة إنما تجب على المرأة بعد دخول أو خلوة. وقد أوجبوا الاستبراء [5ب] على البائع مطلقا، ثم لا يخفى تنافي أحكام النكاح والملك في كثير من الأمور لو لم يكن منها إلا أنه لا يصح الجمع بين الأحقين في النكاح، ويصح الجمع بينهما في الملك إجماع، فكيف يصح إلحاق الملك بالنكاح! مع احتلاف الأحكام وتنافيها، وعدم الجامع الذي هو أحج أركان القياس المعتبرة، ولو كان هذا القياس صحيحا لكان الأولى أن يقال: إنه يجب على الأمة إذا أعتقها سيدها بعد دخول أوخلوة أن تعتد كعدة الزوجة، ولا يجب عليها قبل الدخول أو الخلوة أن تعتد، كما لا يجب ذلك على الزوجة، ثم كان يجب على مقتضى هذا القياس الذي عولوا عليه أن يجب الاستبراء على بائع الأمة وواهبها، ولو كانت حاملا، أو مزوجة، أو معتدة، كما تجب العدة على الزوجة إذا طلقها زوجها. والحاصل أن هذا القياس ليس فيه شيء من الأركان الأربعة (¬1) المعتدة عن أهل الأصول، لأن العلة الجامعة إذا لم توجد بطلت دعوى الأصلية والفرعية، ثم بطل الحكم المترتب على ذلك، فلم يبق حينئذ شيء مما ينبغي التعويل عليه. فإن قلت: قد حكى البخاري في صحيحه (¬2) عن ابن عمر أنه قال: " إذا وهبت الوليدة التي توطأ، أو بيعت، أو أعتقت، فلتستبرئ بحيضة، ولا تستبرئ العذراء. قلت: ليس في هذا تصريح، فإن الإستبراء على البائع، بل ظاهره أنه يجب الاستبراء ¬

(¬1) أركان القياس " أصل، وفرع، وعلة، وحكم " وهذه الأركان ما لا يتم القياس إلا به ". انظر: " تيسير التحرير " (3/ 275)، " اللمع " (ص57). (¬2) (4) تعليقا. ووصله اليبهقي (7) وصححه الألباني في " الإرواء " رقم (2139). وأما قوله: " ولا تستبرأ العذراء " فقد وصله عبد الرزاق في " المصنف " (7 رقم 12906).

على المشتري أو المتزوج للمعتقة، وعلى تسليم احتماله لذلك فقد تقرر أن قول الصحابي ليس بحجة في مسائل الاجتهاد (¬1) وإذا تقرر لك هذا عملت أنه لا دليل يدل على وجول الاستبراء على البائع قبل اليبع كانت الأة موطؤة بالغة يجوز الحمل عليها، وأما إذا كانت صغيرة، أو المالك صغيرا، أو امرأة، أو كانت الأمة للخدمة فإيجاب الاستبراء على البائع من غرائب العلماء التي ينبغي الاعتبار بها، فإن الاستبراء إن كان لمعرفة خلو الرحم فكيف يصح تجويز عدم خلوه في الصغيرة، وفي الآيسة، وفي أمة المرأة، وأمة الصغير! بل هو خال عن القلوق بلا شك ولا شبهة عقلا، وشرعا، عادة، وتجريبا، وإن كان الاستبراء للتعد فأي دليل يدل على أن الله سبحانه تعبد الصغير باستبراء أمته، تعبد المرأة باستبراء أمتها، وتعبد الرجل باستبراء أمته الصغيرى والآيسة؟ وكيف كلف الله الصغيرة بهذا الحكم، ولم يكلفه بالصلاة والصيام! فليت شعري ما أصل هذا التكليف الذي تتنزه عنه هذا الشريعة المطهرة السمحة السهلة؟ وما هو الملجئ إليه؟ والحامل عليه؟ وبالجملة فليس في كتاب الله، ولا سنة رسول الله، ولا في إجماع الأمة، ولا في القياس الصحيح، ولا في مسالك الاجتهاد ما يدل على أنه يجب على البائع أن يستبرئ أمته مطلقا [6أ]، ومن زعم أن في شيء من ذلك دليلا يدل على وجوب الاستبراء على البائع فليهده إلينا تفضلا، فإنا لم نجده بعد البحث عنه في جميع ما وفقنا عليه من مؤلفا العلماء، ومجاميع الأدلة. البحث الثاني: في وجوب الاستبراء على من دخلت الأمة إلى ملكه، وفي ذلك أنواع: النوع الأول: المسبية وقد دل الدليل على أنه يجب على من صارت إليه استبراؤها، ¬

(¬1) تقدم توضيح ذلك.

فأخرج أحمد (¬1)، وأبو داود (¬2): في " السنن " رقم (2157). (¬3): في " المستدرك " (2) وصححه على شرط مسلم وأقره الذهبي. قلت: وأخرج الدرامي (2) والبيهقي (7/ 449) من طريق شريك، عن قيس بن وهب. وهو حديث صحيح. (¬4): (¬5)، وأحمد (¬6)، وأبو داود (¬7) عن أبي الدرداء أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " أتى على امرأة مجح (¬8) على باب فسطاط فقال: لعله يريد أن يلم بها. فقالوا: نعم فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه قبره، كيف يورثه وهو لا يحل له! كيف يستخدمه وهو لا يحل له! ". وأخرج الطبراني (¬9) من حديث ابن عباس بنحو حديث أبي سعيد، وأعل بالإرسال. وأخرج الطبراني (¬10) من حديث أبي هريرة نحوه بإسناد ضعيف، وأخرج أحمد (¬11)، ¬

(¬1) في " المسند " (3/ 62). (¬2) (¬3)، والحاكم (¬4) وصححه عن أبي سعيد أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في سبي أو طاس: " لا توطأ حاما حتى تضع، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة ". وأخرج مسلم (¬5) في صحيحه رقم (1456). (¬6) في " المسند " (21600 - الزين). (¬7) في " السنن " رقم (2156). (¬8) أي حامل المقرب وقال الخطابي مجحا: اسم فاعل من (أجحت المرأة) أي قرت ولا دتها. " معالم السنن " (2). (¬9) في " الكبير " رقم (3172) وفي " الصغير " (2). وأورده الهيثمي في " المجمع " (4): وفيه محمد بن عقبة السدوسي وثقه ابن حبان وضعفه، وتركه أبو زرعة. (¬10) في " الأوسط " رقم (2974) و" الصغير" (1) وأورده الهيثمي في " مجمع الزوائد " (5) وفيه بقية الحجاج بن أوطأة وكلاهما مدلس. (¬11) في " المسند " (4) بسند حسن.

والترمذي (¬1) من حديث العرباض بن سارية أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - " رحم وطء السبايا حتى يضعن ما في بطونهن ". وأخرج ابن أبي شيبة (¬2) من حديث علي - كرم الله وجهه - قال نهي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن توطأ حامل حتى تضع، ولا حامل حتى تستبرأ بحيضة، وفي إسناده ضعيف وانقطاع؛ فهذه الأدلة بمجموعها تفيد وجوب استبراء المسبية (¬3) إذا كانت حاملا بالوضع، وإذا كانت غير حامل بحيضة. وإلى ذلك الجمهور، وقد تمسك بقوله في الحديث: ولا غير حامل، وكذلك قوله في الحديث الآخر: ولا حامل. من قال: إنه يجب استبراء البكر المسبية؟ وأجاب عنه من قال بعدم [7أ] وجوب استبراء المسبية إذا كانت بكرا (¬4) بما وقع في بعض ألفاظ حديث رويفع: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ينكحن ثيبا من السبايا حتى تحيض " (¬5)، وهو مقيد لقوله في الحديث الأول: ولا غير حامل، وقوله: ولا حامل، أي: إذا كانت ثيبا لا بكرا، لأن وجه مشروعية استبراء المسبية إنما هو لأجل خلو رحمها كما يدل على ذلك قوله في الحديث السابق: " كيف يورثه ولا يحل له! كيف يستخدمه وهو لا يحل له! " (¬6) وهو الحق، ¬

(¬1) في " السنن " رقم (1564) وقال الترمذي: حديث غريب. قلت: وهو حديث صحيح لغيره. (¬2) في مصنفه (4/ 370) بسند ضعيف. (¬3) انظر " المغني " (11 - 285). (¬4) قال ابن عمر: لا يجب استبراء البكر، وهو قول داود، لأن الغرض بالاستبراء معرفة براءتها من الحمل وهذا معلوم في البكر فلا حاجه إلى الإسبتراء. " المغني " (11/ 247). (¬5) أخرجه أحمد (4 - 109) وأبو داود رقم (2158) والترمذي رقم (1131) وقال حديث حسن. وأخرجه ابن حبان رقم (1675 - موارد) وسعيد ين منصور رقم (2722) والدارمي (2/ 230) من طرق. هو حديث حسن. (¬6) وهو حديث صحيح لغيره وقد تقدم.

لأن البكر رحمها معلوم بسبب البكارة. ويؤيد ذلك ما أخرجه البخاري (¬1)، وأحمد (¬2) من حديث بريدة قال: " بعث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عليا - عليه السلام - إلى اليمن ليقبض الخمس، فاصطفى علي من سبيه، فأصبح وقد اغتسل، فلما قدمنا على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ذكرت ذلك له فقال: يا بريدة، إن له في الخمس أكثر من ذلك "، وللحديث ألفاظ هذا أحدها قيل: إن هذه السبية التي أصابها كانت بكرا (¬3)، وقيل كانت صغيرة، والمصير إلى التأويل بمثل ذلك واجب للجمع بينه وبين الأحاديث المتقدمة، فالحاصل أنه يجب استبراء المسبية إذا كانت حاملا، أو ثيبا، لا آيسة ولا صغيرة، وأما إذا كانت بكرا أو آيسة أو صغيرة فلا يجب استبراؤها، هذا هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه، ولا يحل المصير إلى غيره. البحث الثالث من أبحاث الجواب في استبراء الأمة التي تدخل في ملك الإنسان ببيع، أو هبة، أو نذر، أو صدقة أو وصية، أو ميراث، أو نحو ذلك. فقال الجمهور (¬4): إنه يجب، وقال داود الظاهري (¬5): [7 ب] والبتي أنه لا يجب، ¬

(¬1) في صحيحه رقم (4350). (¬2) في المسند (5/ 259) وهو حديث صحيح. (¬3) قال الحافظ في الفتح: ". .. لا حتمال أن تكون عذراء أو دون البلوغ أو أداه اجتهاده أن لا استبراء فيها. وعزاه للخطابي. " فتح الباري " (8/ 67). (¬4) انظر المغني (11/ 274 - 275): قال ابن قدامة: " أن من ملك أمة بسبب من أسباب الملك، كالبيع، والهبة، والإرث وغير ذلك لم يحل له وطؤها حتى يستبرئها. .. ". وانظر: " زاد المعاد " (5/ 711 - 745). (¬5) انظر " المحلى " (10/ 315 - 320 رقم 2011).

وقد استدل صاحب البحر (¬1) للجمهور بالقياس لهؤلاء الإماء على المسبية، وكذلك استدل بذلك لهم غيره. قال الإمام يحيى: والجامع بينهما تحدد الملك. ثم استدل لهم في البحر (¬2) أيضًا بقول علي - كرم الله وجهه - " من اشترى جارية فلا يقربها حتى تستبرئ بحيضة ". وأقول: في المقام من المدفوع إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ما فيه دلالة على ذلك، فمن ذلك ما أخرجه أحمد (¬3) والطبراني بإسناد ضعيف من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا يقعن رجل على امرأة وحملها لغيره ". وأخرج أحمد (¬4)، والترمذي (¬5)، وأبو داود (¬6) من حديث رويفع بن ثابت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماؤه ولد غيره ". وله ألفاظ، وقد أخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (¬7)، والدارمي (¬8)، والطبراني (¬9)، والبيهقي (¬10)، وأيضا المقدسي، وابن حبان (¬11) وصححه،. ............................... ¬

(¬1) (3). (¬2) (3). (¬3) في المسند (رقم 8799 - الزين). بإسناد ضعيف. وأورده الهيثمي في " المجمع " (4) وقال: " رواه أحمد وفيه وشدين بن سعد وقد وثق وهو ضعيف ". (¬4) في المسند (4). (¬5) في " السنن " رقم (1131) وقال: حديث حسن. (¬6) في " السنن " رقم (2158) وهو حديث حسن. (¬7) في مصنفه (4). (¬8) في السنن (2/ 230). (¬9) في الكبير رقم (4483، 4483، 4484، 4486، 4488، 4489) من طرق. (¬10) في السنن الكبرى (7/ 449). (¬11) رقم (1675 - موارد).

والبزار، وحسنه (¬1)، وأخرج الحاكم (¬2) عن ابن عباس مرفوعا: " لا يسق ماؤك زرع غيرك "، وأصله في النسائي (¬3)، وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا، فتنتهض للاحتجاج بها على وجوب استبراء الأمة التي يحدد الملك عليها، فلا رجه للتعويل على القياس معها، ولكن العلة هاهنا مذكورة في هذه الأحاديث، وهي أن يسقي ماؤه ولد غيره، أو زرع غيره، فلا يجب الاستبراء على المشتري إلا إذا كانت الأمة حاملا، أو حاملا ثيبا بالغة، وبالمشتري بالغا قاصدا بشرائه الوطء. وأما إذا كانت الأمة صغيرة (¬4)، أو آيسة، أو بكرا، أو كان [8 أ] المشتري صغيرا، أو امرأة فلا يجب الاستبراء، لأنه حينئذ لا يسقي بمائه زرع غيره. وما ورد من الأحاديث مطلقا عن التعليل بهذه العلة تقييده بالأحاديث التي ذكرت فيها هذه العلة كما هو المسلك الأصولي من حمل المطلق على المقيد، ولا محيص عن هذا لمن سلك بنفسه مسالك الإنصاف، مشى على القوانين الأصولية التي هي جسر الاجتهاد، وقتطرة أرباب الانقياد، فتلخص من هذه المباحث أنه لا يجب الاستبراء على البائع مطلقا، ويجب على من تحدد له ملكه بسبي أو غيره في الأمة الحامل والبالغة الثيب، ولا يجب لغير ذلك مطلقا. وقد ذكرت هذه المسألة في شرحي للمنتقى (¬5) بما فيه زيادة بسط، بذكر الخلاف وألفاظ الأحاديث المختلفة، واستيفاء طرقها. وفي هذا المقدار كفاية. والله ولي الهداية. ¬

(¬1) لم يطبع مسند رويفع بن ثابت من مسند البزار بعد؟!. (¬2) في المستدرك (2/ 137) وقال حديث حسن الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة ووافقه الذهبي. (¬3) في السنن (7/ 301 رقم 4645) وهو حديث صحيح. (¬4) انظر " المغني " (1/ 273 - 277). (¬5) " نيل الأوطار " (6/ 305 - 309). وانظر " المغني " (11/ 274 - 285).

السؤال الثالث قال السائل - كثر الله فوائده - إنه أشكل عليه ما صار الناس يتعاملون به من العمل بالرقومات في جمع المعاملات: البيوع، والإجارات، والمصادقات، والقبض، والإقباض، وهو أن يجعل ذلك في مرقوم باطلاع أحد القضاة [8 ب]، فيضع عليه علامته، ثم قد يحصل بعد ذلك بين الغريمين التناكر في ذلك، ويترافعان إلى حاكم آخر، فيقرر أحدهما المرقوم، فهل له أن يعمل به لمجرد الاطلاع في إسقاط حق أو إثباته من الأموال والحقوق على هذه الصفة أم لا؟ فإن قلتم يعمل؛ فهل هو بمنزلة الحكم، أو الشهادة، أو الإخبار؟ وإذا جعلناه كذلك فقد لا يوجد في المرقوم سوى خط كاتب واحد، والعلامة من القاضي، وتحتها لفظة مجملة، وإن قلتم قد جاء في الكتاب العزيز (¬1) وما يقتضي جواز العمل بالخط، وعمل بذلك الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وكثير من الأئمة وشيعتهم، ولولا ذلك لضاعت الأموال والحقوق، وأتنم قد أشرتم إلى العمل بالخط في كتابكم المبارك " إطلاع أرباب الكمال " (¬2)، وذكرتم مادة مفيدة قلت: لعل ذلك في العبادات وما يتبعها في العبادات وما يتبعها في العادات، وعلى صفة مشروطة، وهي معرفة الخط، والعدالة والشخص وشهرته، هذا عند غير أهل المذهب، وأما أهل المذهب فأجازوا العمل بالخط في الأموال إذا انضم إليه ثبوت اليد، كما ذلك هو المقرر في مواضعه؟ قلت: أما مع ثبوت اليد فالرجوع إليه أولي وأحرى وما بقي من فائدة فقد صار ¬

(¬1) يشير إلى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) [البقرة: 282]. (¬2) وهي رسالة للشوكاني لا تزال مخطوطة: وعنوانها الكامل: " إطلاع أرباب الكمال على ما في رسالة الجلال من الإضلال والاختلال " وقد وعدنا الدكتور هيكل بإرسالها من الولايات المتحدة الأمريكية. أثناء زيارته لصنعاء ونحن نطبع هذا الكتاب. والله الموفق.

المرقوم (¬1) مستغنى عنه بالرجوع إلى ما هو أقوى منه، فدل على عدم جواز العمل بالخط في الأموال والحقوق، ولو من خطوط المشاهير،؟ فتقبلوا بالجواب، انتهى السؤال [9أ]. وأقول: اعلم أن العمل بالخط ثابت بالكتاب (¬2) والسنة (¬3)،. ................................. ¬

(¬1) الرقم: يريد النقش والوشي والأصل فيه الكناية. " النهاية " (2/ 253). وقال صاحب لسان العرب (5/ 290) الرقم والترقيم: تعجم الكتاب ورقم الكتاب يرقمه رقما: أعجمه وبينه. وكتاب مرقوم أي قد بينت حروفه بعلاماتها من التنقيط. وقوله عز وجل (كِتَابٌ مَرْقُومٌ) كتاب مكتوب. وأنشد: سأرقم في الماء القراح إليكم ... على بعدكم، إن كان راقم أي سأكتب، وقولهم، وهو يرقم في الماء أي بلغ من حذقه بالأمور أن يرقم حيث لا يثبت الرقم. قال الجوهري في الصحاح (5/ 1935): " قال الرقم: الكتابة والختم " " والختم والخاتم " الخاتم هو من الخطط السلطانية والوظائف المملوكية. والختم على الرسائل معروف للملوك قبل الإسلام وبعده وقد ورد في الصحيحين. ... وفي كيفية نقش الخاتم والختم به وجوه: -أن الخاتم يطلق على الآلة التي تجعل في الإصبع ومنه تختم إذ لبسه. -ويطلق على النهاية والتمام ومنه ختمت الأمر، إذا بغت آخره. -ومنه خاتم النبيين وخاتم الأمر. فإذا صح إطلاق الخاتم على هذه كلها صح إطلاقه على أثرها الناشئ عنها وأول من أطلق الختم على الكتاب أي العلامة، معاوية لأنه أمر لعمر بن الزبير عند زياد بالكوفة بمائة ألف ففتح الكتاب وصير المائة مائتين ورفع زياد حسابه فأنكرها معاوية وطلب بها عمر وحبسه حتى قضاها عنه، واتخذ معاوية عند ذلك ديوان الختم، ذكره الطبري. أنظر: " مقدمة ابن خلدون " (2/ 643 - 644) ط 2. تحقيق على عبد الواحد. (¬2) تقدم ذكر الآية من سورة البقرة (282). (¬3) استعمل الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جميع المجالات، فكانت وسيلة لتبليغ الرسالة، وكتابة الأحكام الشرعية، وفي المعاهدات والصلح والأدمان وفي الإقطاع ومع الأمراء في البلدان البعيدة ومع القادة في السرايا والحروب كما استعملها في المعاملات كالبيع وفي الوصية وفي القضاء. . " وسائل الإثبات " (2/ 426)، " زاد المعاد " (1/ 24). انظر الرسالة رقم (149) بحث في العمل بالخط ومعاني الحروف العليمة النقطية.

والإجماع (¬1). وقد أوضحنا ذلك في الكتاب الذي أشار إليه السائل - دامت إفادته - فلا حاجة للتطويل بذلك هاهنا، وبالكتابة حفظ الله هذه الشريعة المطهرة، حتى علمها من تأخر، كما علمها من تقدم، ولولا ذلك لذهبت الشريعة لا سيما في العصور المتأخرة، فإن الحفاظ فيها في غاية القلة، ولم يبق من العلم إلا ما حوته بطون الدفاتر، وهكذا حفظ الله بالكتابة أخبار السلف، حتى عرفها الخلف، ولولا ذلك لذهب بها الأعصار، وصارت نسيا منسيا، وبهذا ظهرت الحكمة الإلهية في الأمر بالكتابة بنص القرآن الكريم، وما ذكره السائل - عافاه الله - في التفرقة بين العبادات والمعاملاة غير صحيح؛ فإنه لا فرق، بل الكتابة معمول بها في الجميع، وبذلك جاء القرآن الكريم؛ فإنه أمرنا بالكتابة إذا تداينا بدين، والمداينة معاملة محضة ليست من العبادات في شيء، وبهذا عمل أهل العلم قاطبة، فإنك إذا نظرت في الكتب الفقهية وجدت كثيرا من الأبواب المعقودة فيها قد ذكر فيه العمل بالكتابة كما تراه في الأزهار (¬2) وفضلا عن غيره من المؤلفات - الكتاب - ولكن هذه الكتابة المعمول بها ليست الكتابة المطلقة، بل الكتابة المقيدة بقيود منها [9 ب]: معرفة الكاتب، ومعرفة عدالته، ومعرفة خطه على وجه لا يلتبس بغيره، فإذا كان الخط جامعا لذلك، فالعمل به متعين، فإن كان كاتبه حاكما، وصرح فيه بالحكم كان ذلك منزلا منزلة أحكام الحكام وإن كان مفتيا كان ذلك بمنزلة الرواية لتلك المسألة، وإن كان لا حاكما ولا مفتيا بل حرر رقما في دين، أو بيع، أو هبة، أو نحوها كان ذلك بمنزلة الخبر من ذلك الكاتب، وحكم الخبر معروفا. ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة. (¬2) " الأزهار في فقه الأئمة الأطهار ". تأليف الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى الحسني. / وقد تقدم.

وأما إذا كان الخط غير معروف فهذا لا خلاف بين المسلمين أنه لايجوز العمل به في نقر ولا قطمير، ولكن ربما يلتبس بغيره لم يجز العمل به في شيء، وهكذا لو كان معروفا ولا يلبس بغيره، ولكن صاحبه ليس بعدل فإنه لا يجوز العمل بالكتابة، لما تقرر من أن عدم العدالة مسقط للشهادة، والرواية باللفظ، فضلا عن الكتابة، فإذا اجتمعت المقتضيات للعمل، وهي الثلاثة الأمور التي ذكرناها (¬1)، وعدم المانع وهو القادح في شيء منها فلا شك ولا ريب أن ذلك الخط معمول به على ذلك التفصيل الذي ذكرناه. فإن قلت: إذا كان الخط الموجود في شيء [10 أ] من المعاملات، مثلا لو أبرز شخص مرقوما يتضمن أن المتمسك به اشترى الدار الفلانية، أو الأرض الفلانية من فلان، وخط كاتبه معروف، وفيه شهود معروفون، ورقم حاكم من الحكام المعروفين في أعلاه لفظا مجملا، مثل ما جرى به عرف حكام الزمان أنهم يرقمون في ذلك لفظ يعتمد، ثم وقع النزاع بينه وبين آخر في زمان قد مات فيه الكاتب والشهود والحاكم؟ قلت: لا شك ولا ريب أن التحرير الكائن على هذه الصفة حيث لم يصرح الحاكم فيه بلفظ الحكم لا يكون له حكم الحاكم، وكذلك الكاتب والشهود لا يكون رقمهم منزلة الشهادة أو الأخبار إلا إذا ذكر الكاتب في كتابته، وذكر الشهود في شهادتهم أنهم يعرفون البائع، ويعرفون أنه مالك لما باعه، وثابت اليد عليه، فإذا قرروا في المرقوم هذا التقرير، وكانت خطوطهم أو خط الكاتب الذي رقم شهادتهم معروفة لا تلتبس كان ذلك كالإخبار منهم بأن فلان باع من فلان ما هو في مكله. ولا ريب أنه يجوز الاستثناء إلى هذا المرقوم، والعمل بما تضمنه فإن لم يأت المدعي لخلافه بحجة جاز [10ب] العمل بذلك المرقوم لأمرين: أحدهما: أن الأصل الأصيل عدم انتقال ذلك ¬

(¬1) وهي معرفة الكاتب، ومعرفة عدالته، ومعرفة خطه على وجه لا يلتبس بغيره.

الشيء عن ملك صاحب رقم، والثاني: أن الظاهر معه، فقد اجتمع هاهنا الأصل والظاهر، هما القتطرة التي يجري عليها غالب الأحكام الشرعية، وقد عمل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالظاهر في غير موطن، فمن ذلك أن عمه العباس قال في يوم بدر -: " ظاهرك علينا، ولم يغدره من الفدا " (¬1) فهذا عمل بالظاهر، وأما ما يروى من أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال " نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر " (¬2) فهذا لم يصح عنه، ولا ثبت أنه من قوله، وإن كان كلاما صحيحا، لأن معناه معنى قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - للعباس. وأما إذا كان المرقوم المتضمن للبيع مثلا لم يذكر فيه الكاتب والشهود أن البائع باع وهو مالك لذلك الشيء فهذا وإن كان لا يفيد ما أفاده الأول لجواز التواطؤ بين البائع ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صححه رقم (4018). (¬2) قال العراقي في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في " منهاج البيضاوي " رقم (178) " لا أصل له وسئل عنه المزي فأنكره ". وكذلك قال ابن كثير والسخاوي في " المقاصد الحسنة " رقم (178) وأيضا السيوطي كما في " كشف الخفاء " للعجلوني رقم (585) وانظر: " كوافقة الخبر الخبر " لابن حجر (1/ 181 - 183). قلت: وقد ورد في السنة ما يؤدي معناه. ففي الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (12/ 339 رقم 6967) ومسلم في صحيحه (3/ 1337 رقم 4/ 1713) عن أم سلمة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع. .. ". وأخرجه النسائي (8/ 323) وترجم له في باب الحكم بالظاهر. وأخرج ملسم في صحيحه (2/ 742 رقم 144/ 1064) من حدي ث أبي سعيد: " أني أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم ". وأخرج أيضًا البخاري رقم (3344) وأحمد (3/ 4). وأخرج البخاري في صحيحه رقم (5310) ومسلم في صحيحه رقم (12/ 1497) من حديث ابن عباس في قصة الملاعنة: " لو كنت راجما أحدا من غير بينة لرجمتها ".

والمشتري على بيع ملك (¬1) الغير، إلا أنه يفيد أصلا ضعيفا وظاهرا ضعيفا يجوز تعزيره إذا لم يأت الخصم بحجة راجحة عليه، وأما إذا جاء الخصم بحجة راجحة عليه لم يجز العمل به، وذلك كأن بأتي الخصم بمرقوم فيه التصريح من الكاتب والشهود أن البائع باع ذلك الشيء وهو يملكه؛ فإن هذا المرقوم أرجح من ذاك [11 أ]، فلا حكم للمرجوح مع وجود الراجح، وأما إذا تعارض المرقوم الواقع على الصفة المذكورة وثبوت اليد فهاهنا محل إشكال لا يعمله إلا القليل من الرجال، وأما الغالب من الحكام والمفتين فتراهم يرجحون الثبوت، ويصرحون في مراقيمهم وأحكامهم، فإن الثبوت من أعلا مراتب القوة، وهذه الكلمة ظاهرها علم، وباطنها جهل؛ فإن ثبوت اليد إنما هو من باب دليل الاستصحاب (¬2)، ودليل الاستصحاب هو من أحسن الأدلة كما يعرف ذلك ممن له خبرة ¬

(¬1) وجد في هامش المخطوط: " قوله: لجواز التواطؤ بين البائع والمشتري على بيع ملك الغير قد ظهر من هذا التعليل أنه إذا كان المرقوم مشتملا على المشتري مثلا من غير ثابت اليد اعتبر فيه تصريح الكاتب والشهود بملك البائع لم باعه لجواز التواطؤ إلخ. فأما إذا كان المرقوم مشتملا على المشتري مثلا ممن هو ثابت اليد أو ممن ثابت اليد بعد تاريخ الرقم الأول. فالظاهر عدم اشتراط التصريح من الكاتب والشهود وبملك البائع بل تكفي المصادقة هنا لعد وجود العلة المقتضية للاشتراط المذكور وهي التواطؤ إلخ وهذا هو الحق وإن أغفله المجيب دامت إفادته. تمت. كاتبه ". (¬2) الاستصحاب: قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص 774): أي استصحاب الحال لأمر وجودي أو عدمي عقلي أو شرعي. ومعناه: أن ما ثبت في الزمن الماضي فالأصل بقاءه في الزمن المستقبل مأخوذ من المصاحبة، وهو بقاء ذلك الأمر ما لم يوجد ولزم يظن عدمه قهو مظنون البقاء. وقال ابن القيم في " إعلام الموقعين " (1/ 339): " بأنه استدامة ما كان ثابتا، ونفي ما كان منفيا " أي بقاء الحكم نفيا وإثباتا على ما كان عليه. حتى يقوم دليل على تغيير الحال، فهذه الاستدامة لا تحتاج إلى دليل إيجابي، بل تستمر حتى يقوم دليل مغير، والأصل فيها البراءة الأصلية ومن ادعي خلافها فعليه الدليل. ومثال ذلك إذا ثبت الملكية في عين بدليل يدل على حدوثها: كشراء أو ميراث أو هبة أو وصية فإنها تستمر حتى يوجد دليل على نقل الملكية أو غيره، ولا يكفي احتمال البيع. ... أنظر: " أصول الفقه " للشيخ محمد أبو زهرة (ص 295 - 296). أنواعه الاستصحاب انظرها في " إرشاد الفحول " (ص 772 - 775). أما حجية الاستصحاب: هو حجة وهو رأي الأكثرية من أصحاب مالك والشافعي وأحمد والظاهرية. انظر: " إرشاد الفحول " (ص 774).

بعلم الأصول، فإن ثبوت اليد هو أضعف مراتب القوة، لا أوسطها، ولا أعلاها، فإذا اتفق التعارض الذي ذكرنا بين المرقوم الذي على تلك الصفة، وبين ثبوت، فإن كان المرقوم يشتمل على ما يفيد الحكم المعروفين دينا وعلما وعملا، وذلك كأن يقول: تقرر البيع أو صح، أو نحو ذلك، فهذا المرقوم لا شك أنه أرجح، وإن كان المرقوم المذكور ليس فيه لفظ يفيد الحكم وكان كاتبه معروفا، وشهوده معروفين، وصرحوا بأنهم يعرفون البائع ويعرفون (¬1) ملكه لما باعه، فهذا لا شك أنه أرجح من مجرد الثبوت، وإن كان المرقوم على الصفة التي توجد عليها المراقيم الآن من الترجمة لصدور البيع من دون تصريح الشهود والكاتب بما ذكرنا، وقد رقم حاكم في ذلك [11 ب] المرقوم رقما مجملا، فهذا محل نظر للحاكم المعتبر، لأن مجرد الكتابة قد أفادت ظاهرا ضعيفا، وأصلا أضعف منه، ومجرد الثبوت قد أفاد ظاهرا ضعيفا، وأصلا أضعف منه، والحاكم الموفق ينبغي له في مثل هذا أن يعول على القرائن إذا أعياه الأمر، ولم يجد إلى الحق سبيلا، ولم يأت ثابت اليد بمستند إلا مجرد الثبوت فيها، مثلا في حال ثابت اليد هل هو ممن يجوز منه الاغتصاب أم لا؟ فإن وجده كذلك كانت هذه قرينة تقوي حجة المتمسك بالرقم، وأن كان ليس له قدره على الاغتصاب كانت هذه قرينة تقوي الثبوت، ثم ينظر أيضًا في مدة الثبوت، فإن كانت متأخرة عن تاريخ الرقم كان ذلك موجبا لقوة حجة المتمسك بالرقم، وأن كانت متقدمة كان ذلك مقويا للثبوت، ثم ينظر في حال المتمسك بالرقم، هل هو باق في الموضع الذي وقع فيه الاختلاف والنزاع، أم هو غائب عنه؟ فإن كان غائبا عن المكان الذي فيه المبيع كان ذلك مقويا لحجة صاحب ¬

(¬1) في هامش المخطوط قوله: " ويعرفون لما باعه حيث يكون الثابت غير البائع إلى صاحب الرقم. .. المصادفة كما في الحاشية اليمني والله أعلم. تمت كاتبه ".

الرقم، وإن كان ذلك مقويا للثبوت، لا سيما مع طول المدة، ثم ينظر أيضًا في الجهة التي فيها البيع إذا كان أرضا أو دارا، فإن كانت جهة تجزي فيها الأحكام الشرعية، وينتصف [12 أ] المظلوم من الظالم كان ذلك مقويا للثبوت، وإن كان في جهة لا تجري فيها الأحكام الشرعية كان ذلك مقويا لحجة صاحب الرقم. وبالجملة فهذه المسألة هي من أشد الإشكالات التي ترد على القضاة، فمن كان منهم معانا من رب العزة فينبغي له أن يسأل ثابت اليد عن مستند ثبوته، ولا يتركه عن ذلك، فإن قال: إنه صار إليه مثلا بشراء أو هبة طلب منه المستند، فإن أبرز مرقوما يقتضي أنه شراه أو نحو ذلك بحث عن صحة ملك من باعه من هذا الذي قد صار ثابتا عليه، فربما يننتهي به البحث إلى شيء يزول معه الإشكال، فإن قال ثابت اليد: إنه تلقاه إرثا من مؤرثه تسأله أن يبرز المرقوم المشتمل على ذكر نصيبه من تركة والده، فإن أبرزه بحث عن وجه تملك والده لذلك الموضع، فإن أعياه الحال وصمم ثابت اليد على المتمسك بالثبوت المذكور، ولم يجد الحاكم إلى الإطلاع على الحقيقة مستدلا رجع إلى القرائن التي ذكرناها، فتقرر لك بهذا أن الخط إذا كملت شروط العمل به فهو معمول به، ما لم يعارضه معارض، فإن عارضه معارض كان الواجب البحث عن الراجح والمرجوح من المتعارضين، وهذه قاعدة كلية لأهل المذهب وغيرهم، ونصوصهم قاضية بها [12 ب]. وقد صرحوا في مواضع عديدة بالعمل بالخط، ولم يشترطوا سوى ما ذكرنا من الشروط الراجعة إلى الخط، من كون كاتبه معروفا، وعدالته ثابتة، وخطه معروف، ولكن العمل به متفاوت كما قدمنا، فليس العمل بما كان إخبارا كالعمل بما كان حكما. وقد وقع في كلام أهل المذهب في مواطن يسيرة ما يفيد أنه يعتبر في العمل بالخط غير ما ذكرناه، وذلك كما ذكروه في كتاب حاكم (¬1) إلى مثله، من أنه لا بد أن يكتب إليه، ¬

(¬1) أنظر " تبصرة الحكام " (2/ 11)، " المبسوط " (16/ 96، 101). ومن شروط ذلك: 1 - أن يذكر فيه اسم القاضي الكاتب واسم المدعى عليه والمدعي والشهود، ويحدد فيه المدعي به صفاته لتمييزه تمامًا عن غيره. .. 2 - أن تكون الكتابة مستبينة أي ظاهرة مقروءة تفيد المعنى وتؤدي المقصود من كتابة الشهادة أو كتابة الحكم بحيث يستطيع القاضي المكتوب إليه العمل بموجب الكتاب، كما يجب على القاضي المكتوب إليه أن يتأكد من عدالة القاضي الكاتب وأنه أهل للقضاء ومعرفة الأحكام. " تبصرة الحكام " (2/ 15). 3 - أن يكون الكاتب مختوما بخاتم القاضي الكاتب وموقعا بتوقيعه عند جمهور الفقهاء لأنه أدعى للقبول والاحتياط، ولضمان عدم الزيادة فيه أو النقص منه، ولأنه أبعد عن تزوير الخط ومحاكاته.

ويشهد أنه كتابه إلى آخر ما ذكروه هناك، وكما ذكروه في الحاكم أنه لا يعمل بما وجد في ديوانه (¬1) إن لم يذكر، ولكنهم عللوا ذلك بعلة تفيد أن الخط في هذين الموضعين ¬

(¬1) أن الاعتماد على ديوان القاضي وكتابته وخطه مقبول، وكذلك ديوان القاضي الذي سلفه إذا وثق بالخط وأمن التحريف والتغيير وبتعدت الريبة والشك، وإن لم يتذكر خطه وكتابته وإن لم تقم البينة عليها، كما يعتبر الصك الذي في يد أحد المتخاصمين، والمسجل في دواوين القضاة دليلا في الإثبات وبرهانا على الحق لصاحبه إن كان محفوظا. واستدلوا على ذلك بما يلي: 1 - أن القاضي قد أخذ الاحتياط بالكتابة والحفظ بحسب وسعه وإذا لم يعمل بكتابته تاهت الحقوق بطلت الأحكام وكانت كتابته سدى، ولأن سجل القاضي لا يزور عادة، لأنه محفوظ عند الأمناء، والظاهر من الديوان أنه خطه واجب. 2 - أن العمل بديوان القاضي مستفيض وقد ارتفع عنه الإنكار. 3 - قياس الحكم في الديوان على الرواية في الأحكام الشرعية إذا وثق بصحة كتابته. 4 - أن الغلط فيه نادر، وأثر التغيير يمكن الاطلاع عليه ومعرفته وقلما يشتبه الخط من كل وجه. 5 - إن اشتراط التذكر يؤدي إلى الصعوبة، وفيه مشقة وحرج الغين وإن القاضي يعجز عن حفظ كل حادثة لكثرة اشتغاله وخاصة في مثل هذه الأيام فإن الدعاوي والأحكام تبلغ الآلاف وليس وسع القاضي التحرز عن النسيان فإنه طبيعة في الإنسان فالنسيان جبلة فيه، وما سمي الإنسان إنسانا إلا لأنه نيسي. وانظر " تبصرة القضاة " (ص 42)، " المبسوط " (16/ 92).

لم تجتمع فيه الشروط التي ذكرنا، فإنهم قالوا: إنه ربما جوز الزيادة والنقصان والتغيير والتبديل، ولا شك أن الخط إذا كان يدخله التجويز المذكور غير معمول به، لأن شرط العمل به هو ما قدمنا من كونه معروفا على وجه لا يلتبس بغيره، ولا يدخله التجويز، فإذا كان هكذا فأهل المذهب يقولون: إنه معمول به من غير تلك الشروط المذكورة في كتاب حاكم إلى مثله، ومن غير ما ذكروه من اشتراط الذكر لما وجده في ديوانه (¬1)، فتقرر بهذا أن الخط إذا كملت شروطه معمول به [13 أ] عند أهل المذهب وغيرهم، من غير خلاف. وأما ما ذكره السائل - دامت إفادته - من أن أهل المذهب ذكروا أن من شرط العمل بالخط في الأموال أن ينضم إليه الثبوت فهذا غير مسلم، فإن أهل المذهب لم يشترطوا هذا الشرط، ولا أظنه يوجد في كتبهم المعتبرة المتقنة، وربما ذكره بعض المتأخرين الذين لا يعرفون سوى التفريعات، وكيف يقول عالم: إن من شروط العمل بالخط الجامع للشروط أن ينضم إليه ما هو دونه بمراحل أو مثله في نادر الأحوال! وذلك الثبوت الذي هو من جنس الاستصحاب الكائن في أدني منازل الاستدلال! وكيف يقول عارف إن الثبوت للذي هو مجرد استصحاب معمول به من غير شرط! والخط الذي هو تارة يتصمن الحكم، وتارة يتصمن الإخبار من العدول والشهادة من الثقات لا يعمل به إلا مع الثبوت! فإن هذا عكس لغالب الاستدلال، غفلة عن الحقائق، حيث يكون العمل بالأقوى مشروطا بانضمام الأضعف إليه، والعمل بالأضعف غير مشرط بشرط. وأما ما ذكره السائل - عافاه الله - من المراقيم المتضمنة للمصادقة، مثلا بدين إذا وقع ¬

(¬1) واعلم أن " الديوان "، جريدة الحساب ثم أطلق على الحساب ثم أطلق على موضع الحساب. وقال في القاموس: الديوان مجتمع الصحف وهو معرب والكتاب يكتب فيه أهل الجيش وأهل العطية، وأول من وضعه عمر بن الخطاب. " القاموس " (ص 1545)، " الصحاح " (5/ 2115).

الإنكار من الذي عليه الدين [13 ب] بعد ذلك متقول: إعلم أن المرقوم المتضمن للمصادقة إن كان جامعا للشروط المعتدة المذكورة سابقا فأقل أحواله وأدني منازله أن يكون القول قول حامله، لأنه يفيده ظاهرا قويا. وقد تقرر أن القول قول من معه الظاهر مع يمينه، ويكلف المدعي لما يخالف ما اشتمل عليه الرقم البرهان، فإن جاء البرهان راجحا على الرقم وجب الانتقال إليه عن الظاهر، وإن لم يأت بذلك وجب البقاء على ما يقتضيه الظاهر ووهذا هو الحق المطابق للقوانين الأصولية، والقواعد الفرعية، وأهل المذهب قد صرحوا به في غير موضع لو لم يكن من ذلك إلا ما ذكروه في كتاب الدعاوي، فإنهم قالوا: إن المدعي من معه أخفى الأمرين، والمدعي عليه من معه أظهرها (¬1)، وهذا هو معنى ما ذكرنا من أن القول قول من معه الظاهر مع يمينه، لأن قد صار بالرقم المذكور معه أظهر الأمرين. ومن جملة ما عملوا فيه بالظاهر قولهم: الثوب للابس، والعزم للأعلى، والفرس للراكب، والجدران لمن ليس إليه توجيه البناء. وقولهم: يحكم لكل من ثابتي اليد الحكمية بما يليق به، قولهم من فعل في شيء ما ظاهره السبيل خرج عن ملكه إلى غير ذلك من المواضع التي يصعب تعدادها. وفي هذا المقدار كفاية. والله ولي التوفيق. حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما - في شهر جمادي الآخرة سنة 1215هـ. ¬

(¬1) وجد في هامش المخطوط: " إن قيل: إذا كان الثبوت مع أحد الخصمين، والرقم مع الآخر فمن ذا يكون المدعي؟ فإن قيل هو الثابت لأنه الذي معه أخفى الأمرين ففيه نظر، لأنه لا يسمي مدعيا لغة ولا عرفا ولا شرعا، ولعله يجاب بأن المدعي هو صاحب الرقم قد يعزون رقمه إليه فيصدق عليه في تلك الحال مع أحق الأمرين. والله أعلم. تمت.

الصلاة على من عليه دين

الصلاة على من عليه دين تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: (الصلاة على من عليه دين). 2 - موضوع الرسالة: فقه الصلاة. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. وبعد: فأنه سأل الأخ القاضي العلامة البارع. ... 4 - آخر الرسالة:. كل ذلك معلوم كما لا يخفى، وإلى هنا انتهى الجواب وفيه كفاية، والله ولي التوفيق. كتبه المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني. 7 - عدد الصفحات: (10) صفحات. 8 - عدد الأسطر في الصفحة: 30 سطرا ما عدا الصفحة الأخيرة (5) أسطر. 9 - عدد الكلمات في الصفحة: 12 كلمة. 10 - الرسالة من المجلد الثالث من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني). ملحوظة: نقص صفحتين من صورة المخطوط. والله أعلم.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وآله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن سأل الأخ القاضي العلامة البارع المعنن المتقن، فرد أرباب الذكاء وقريع أبناء الفهم وجيه الإسلام العلامة عبد الرحمن بن يحيى الآنسي (¬1) - كثر الله فوائده - سؤالا يحق الجواب عليه، ويتوجيه العناية إليه، فقال: - لا زال محروسا بالعناية من ذي الجلال - ما هذا نصه. حديث: كان إذا أتي بجنازة سأل: هل على صاحبها دين؟ فإن قيل لا. صلى عليها، وإن قيل: نعم لم يصل عليها وقال: صلوا على صاحبكم " الحديث، لا كلام في التشديد في الدين بهذا الحديث وبحديث: إنه يغفر للشهيد ما عداه. والمسؤول فيه عن طرفين: الطرف الأول: وفيه أسئلة: (الأول): ما حكم الحديث نفسه؟ ومن خرجه من الحفاظ؟. (الثاني): هل هو منسوخ على قلة النسخ في الشريعة حتى حصره السيد ابن الوزير (¬2) في مائة حكم إلا واحد ا عد المجمع عليه منها ثلاثين حكما إلا واحدا، وسبعين حكما مختلف فيها لترددها بين النسخ والتخصيص والمعارضة؟ ولم أره ذكر هذا الحديث ¬

(¬1) عبد الرحمن بن يحيى الآنسي ثم الصنعاني ولد في شهر ذي العقدة سنة 1168. أخذ علم العربية والفقه والحديث وأكب على المطالعة واستفاد بصافي ذهنه الوقاد ووافي فكره النقاد علوما جمة. قال الشوكاني في ترجمته لـ عبد الرحمن بن يحيى رقم (334) فقال وكتب إلي رسالة مشتملة على عشرة أسئلة أجبت عليها برسالة سميتها (طيب النشر في جواب المسائل العشر). توفي (سنة 1250 هـ). انظر " البدر الطالع " رقم (334)، " نبل الوطر " (2/ 43 - 44). (¬2) ذكره ابن الوزير في " الروض الباسم " (1/ 201 - 203).

وعهدته في النقل على كتاب الاعتبار في ناسخ الحديث ومنسوخه للحافظ المعتبط شأنا أبي بكر الحازمي (¬1). قال السيد (¬2): وهو أصح وأجمع ما في الباب، أعني كتاب الاعتبار (¬3)، وقد طالعته استقصاء فلم أر أنا فيه هذا الحديث. (الثالث): إن قلنا: هو منسوخ بحديث أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال بعد فتح خيبر، والبحرين، واليمن، إيعاب العرب في الإسلام وسوقها صدقاتها " من ترك دينا فعلي قضاؤه وماله لورثته أو كما قال " (¬4): ففيه أسئلة (¬5): الأول: وهو الرابع من الطرف الأول ما حكمه في نفسه ومن خرجه من الأئمة؟. الثاني: وهو الخامس من الطرف الأول هل هذا التحمل خاص بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم متعد إلى من بعده من خلفائه؟. الثالث: وهو السادس من الطرف الأول؟ إن قلنا هو عام فهل تسقط التبعة عن المدين وتلحق السلطان؟. السابع من الطرف الأول إذا كان حديث الامتناع من الصلاة على المديون ثابتا غير منسوخ هل يختص بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم يعم ويخرج حمله قوله: صلوا على صاحبكم مخرج ¬

(¬1) هو الإمام أبو بكر محمد بن موسى بن عثمان الحازمي الهمداني (ت 584 هـ) وله ست وثلاثون سنة. (¬2) أي ابن الوزير في " الروض الباسم " (1/ 205): وأحسن كتاب صنف في ناسخ الحديث ومنسوخه كتاب " الاعتبار " للحافظ الحازمي وهو مبسوط كثير الفوائد وليس يخرج منه إلا منسوخ القرآن الكريم، وكثير منه معلوم ضرورة لا يحتاج إلى ذكر مثل: نسخ شرب الخمر، واستقبال بيت المقدس ونحو ذلك. (¬3) مطبوع في مجلد واحد. انظر: " سير أعلام النبلاء " (21/ 167). (¬4) أي ابن الوزير. (¬5) انظر الإجابة.

التهديد مثلها في لا أشهد على جور، أشهد غيري عند من يوجب المساواة في الزائد على الفريضة. الثامن: ثم لم يشفع إلى رب المال بحطه عن هذا بحطه عن هذا المقهور بالموت وهو الشفيع العريض الجاه دنيا وآخرة عند الخالق وخلقه. التاسع: هل يخص الامتناع عن الصلاة بمن لم يترك قضاء دينه أم يعم على ظاهره؟ ويكون موته مديونا مقتضيا تاما لعدم الصلاة عليه مطلقا. العاشر: حديث من ادان ما لم ينو قضاءه لقي الله سارقا، ومن ادان ما ينوي قضاءه أداه الله [1] عنه " أو كما قال. وفي معناه أحاديث لكنها في تيسير قضاء دينه له نفسه في الدينا لا في الآخرة. فما حكم هذا الحديث؟ ومن أخرجه منهم؟. الحادي عشر: كيف الجمع بينه وبين حديث الامتناع من الصلاة؟. الطرف الثاني هل تمتنع الصلاة على الظالم الناس يأخد أموالهم تجبرا على نظيره، وتهاونا فهي حالقة بقياس الأولى؟ أو يقال: الأصل مبني على سبب، ولا قياس في الأسباب، أفيدونا بما عندكم من غير نظر إلى اختلال في السؤال من عدم حسن سياق، أو ضعف تركيب، أو سوء ترتيب. انتهى السؤال. وأقول - مستعينا بالله عز وجل - مجيبا على قوله: وفيه أسئلة: الأول: ما حكم الحديث نفسه، ومن خرجه من الحفاظ؟ إن الحديث صحيح أخرجه أحمد (¬1)، والبخاري (¬2)، والنسائي (¬3) من حديث سلمة بن الأكوع. قال: كنا عند رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأتي بجنازة فقالوا: يارسول الله، صل عليها، قال: هل ترك شيئا؟ قالوا: لا. فقال: هل عليه دين؟ قالوا: ثلاثة دنانير، قال: صلوا على ¬

(¬1) في المسند (4/ 47). (¬2) صحيحه رقم (2289) و (2295). (¬3) في السنن (4). وهو حديث صحيح.

صاحبكم. فقال أبو قتادة: صل عليه يا رسول الله، وعلي دينه، فصلى عليه. وأخرجه أيضًا أحمد (¬1)، وأبو داود (¬2)، والترمذي (¬3)، والنسائي (¬4) وابن ماجه (¬5). فقال أبو قتادة وصححه الترمذي (¬6). قال الترمذي والنسائي وابن ماجه. فقال أبو قتادة: أنا أتكفل به. وأخرج أحمد (¬7)، وأبو داود (¬8)، والنسائي (¬9)، وابن حبان (¬10) والدارقطني (¬11)، والحاكم (¬12) عن جابر قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يصلي على رجل مات عليه دين، فأتي بميت فسأل: أعليه دين؟ قالوا: نعم ديناران. قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: هما علي يا رسول الله، فلما فتح الله على رسوله قال: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه؛ فمن ترك دينا فعلي، ومن ترك مالا فلورثته ". وأخرج الدارقطني (¬13)،. ............................................. ¬

(¬1) المسند (5/ 297، 302، 304). (¬2) لم أجده. (¬3) في " السنن " رقم (1069). (¬4) في " السنن " (4/ 65) و (7/ 317). (¬5) في " السنن " رقم (2407) وهو حديث صحيح. (¬6) في " السنن " (4/ 180). (¬7) في المسند (3/ 269). (¬8) في " السنن " رقم (3343). (¬9) في السنن (4/ 65). (¬10) في صحيحه (رقم 1162 - موراد). (¬11) في السنن (3/ 79 رقم 293). (¬12) في المستدرك للحاكم (2/ 58) وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وهو حديث صحيح. (¬13) في السنن (3/ 78 رقم 292).

والبيهقي (¬1) عن أبي سعيد قال: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جنازة فلما وضعت قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل على صاحبكم من دين؟ قالوا: نعم. درهمان. قال: صلوا على صاحبكم. قال علي - رضي الله عنه - يا رسول الله، هما علي، وأنا لهما ضامن، فقام يصلي، ثم أقبل على علي فقال: جزاك الله عن الإسلام خيرا، وفك رهنك كما فككت رهان أخيك. ما من مسلم فك وقان أخيه إلا فك الله رهانه يوم القيامة، فقال بعضهم: هذا لعلي خاصة أم للمسلمين عامة؟ فقال بل للمسلمين عامة. وفي إسناده مقال. وأخرج أحمد (¬2)، وأبو داود (¬3)، والنسائي (¬4)، والدارقطني (¬5)، وصححه ابن حبان (¬6)، والحاكم (¬7) من حديث جابر: قال: توفي رجل فغسلناه، كفناه ثم أتينا به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلنا نصلي عليه، فخطا خطوة، ثم قال: أعليه دين؟ فقلنا: ديناران، فانصرف فتحملهما أبو قتادة: الديناران علي فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قد أوفي الله حق الغريم، وبرمنه الميت. قال نعم، فصلى عليه، ثم قال بعد ذلك بيوم: ما فعل الديناران؟ قال: إنما مات أمس قال: فعاد إليه من الغد فقال: قد قضيتها فقال النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الآن بردت عليه جلده. فقد بين بهذا الجواب ما سأل عنه السائل - عافاه الله -. من قال الحديث ومن أخرجه [2] وأنه قد ورد من هذه الطرق التي تقوم الحجة ¬

(¬1) في السنن (6/ 73). بسند ضعيف. (¬2) في المسند (3/ 269). (¬3) في " السنن " رقم (3343). (¬4) في السنن (4/ 65). (¬5) في السنن (3/ 79 رقم 293). (¬6) في صحيحه (رقم 1162 - موارد). (¬7) في المستدرك (2/ 58). وهو حديث صحيح.

ببعضها. وأما قوله الثاني هل هو منسوخ؟ إلخ. فأقول: نعم هو منسوخ بأحاديث منها: حديث أبي هريرة عند البخاري (¬1) ومسلم (¬2) وغيرهما (¬3) أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في خطبته: " من خلف مالا أو حقا فلورثته، ومن خلف كلا أو دينا فكله إلى. ودينه علي ". وفي لفظ للبخاري (¬4) وغيره من حديثه: " ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (¬5) فأيما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه ". وأخرج أحمد (¬6)، وأبو يعلى (¬7) من حديث أنس: " من ترك مالا فلأهله، ومن ترك دينا فعلى الله وعلى رسوله ". وأخرج ابن ماجه (¬8) من حديث عائشة: " من حمل من أمتي دينا فجهد في قضائه، فمات قبل أن يقضيه فأنا وليه ". وأخرج ابن سعيد (¬9) من حديث جابر يرفعه: " أحسن الهدي هدي محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ¬

(¬1) في صحيحه رقم (5371 و2298 و2398 و4781 و2399 و6745 و6763 و6731). (¬2) في صحيحه رقم (14، 15، 16، 17/ 1619). (¬3) كالترمذي رقم (1070) والنسائي (4/ 66). وهو حديث صحيح. (¬4) في صحيحه رقم (478). (¬5) [الأحزاب: 6]. (¬6) في المسند (3/ 215). (¬7) في مسنده (7 رقم 1588/ 4343). وأورده الهيثمي في المجمع (4/ 227) وقال: " رواه أحمد وأبو يعلى وفيه أعين البصري ذكره ابن أبي حاتم ولم يجرحه ولم يوثقه، وبقية رجاله الصحيح. وهو حديث صحيح لغيره. (¬8) لم أعثر عليه؟!. (¬9) في " الطبقات " (1/ 2 / 98) ط: التحرير.

وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة. من مات فترك مالا فلأهله، ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلي ". وفي حديث آخر أخرجه مسلم (¬1)، والنسائي (¬2)، وابن ماجه (¬3) وفي الباب أحاديث، فيما ذكرناه ما يعني، وقد ثبت التصريح في بعض هذه الأحاديث، بأنه قال هذه المقالة بعد أن كان يمتنع من الصلاة على المديون، فلما فتح الله عليه البلاد، وكثر الأموال صلى على من كان مديونا، وقضى عنه دينه. ومن ذلك حديث أبي قتادة (¬4) المتقدم في جواب السؤال الأول، فإنه قال فيه بعد أن ذكر أمتناعه من الصلاة على من عليه دين: فلما فتح الله على رسوله (¬5) إلى آخر ما قاله. وهذا يدل على النسخ أبين دلالة (¬6)، ويفيده أوضح مفاد، ومن لم يذكره ممن صنف في الناسخ والمنسوخ فهو مما يستدرك به عليه، فقد ذكروا أحاديث وجعلوها من قبيل الناسخ والمنسوخ، ¬

(¬1) في صحيحه رقم (867). (¬2) في " السنن " (3/ 188). (¬3) في " السنن " رقم (45). قلت: وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه رقم (1785) والبيهقي (3/ 213، 214) وأبو يعلى في مسنده رقم (346/ 2111). وهو حديث صحيح. (¬4) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح. (¬5) انظر " زاد المعاد " (1/ 485) و" فتح الباري " (12/ 10). وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (5317) ومسلم رقم (1619) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: " أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين، فيسأل: هل ترك لدينه فصلا؟ فإن حدث أنه ترك وفاء صلى، وإلا قال للمسلمين: صلوا على صاحبكم. فلما فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي من المؤمنين فترك دينا فعلي قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته ". (¬6) انظر: " رسوخ الأحبار في منسوخ الأخبار " (ص 326 - 327). للجعبري. تحقيق د. حسن محمد مقبولي الأهدل.

وليس فيها ما يقارب هذا التصريح، بل قد يعولون في النسخ في مواضع كثيرة على مجرد القرائن الواهية، وقد يجعلون مجرد تأخر العام نسخا مع ما في ذلك من الخلاف المعروف في الأصول. وقد يختلط عليهم النسخ بالتخصيص، وقد يضطرب عليهم البحث فيجعلون كثيرا من المباحث التي يمكن فيها الجمع بوجه من وجوهه من باب الناسخ والمنسوخ، فكيف يغفلون عن مثل هذا الذي وقع التصريح فيه بما يدل على الناسخ دلالة أوضح من شمس النهار!. قوله الأول، وهو الرابع من الطرف الأول: ما حكمه في نفسه ومن خرجه من الأئمة؟. أقول: قد أوضحنا في البحث الذي قبل هذا من خرجه من الأئمة، وأنه ثابت في الصحيحين (¬1) وغيرهما من تلك الطرق. قوله: هل هذا التحمل خاص بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم متعد إلى من بعده خلفائه؟. أقول: قد قدمنا أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما قال تلك المقالة للعلة المتقدم ذكرها، وهي قوله: فلما فتح الله على رسوله إلخ (¬2). وهذا يدل [3] دلالة ظاهرة أن ذلك التحمل إنما هو لمصير أموال الله إليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ومعلوم أنها قد صارت إلى من بعده من خلفائه (¬3) ومن بعدهم كما صارت إليه، بل صار إليهم أكثر مما صار إليه، فإن الله سبحانه لم يفتح غالب البلاد إلا بعد موته، فهم متحملون لديون المديونين يقضونها نم أموال الله سبحانه، يصرفون منها في هذا المصرف كما يصرفون إلى غيره من المصارف منهما وجد بأيديهم من أموال الله - عز وجل - ما يمكن ذلك منه. إما كلا أو بعضا لا يجوز لهم الإخلال به بحال من الأحوال. ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) ذكر ذلك ابن حجر في " الفتح " (12/ 10). (¬3) قال الحافظ في " الفتح " (12/ 10) وهل كان ذلك من خصائصه أو يجب على ولاة الأمر بعده؟ والراجح للاستمرار، لكن وجوب الوفاء إنما هو من مال المصالح.

فهذه شريعة ثابتة غير منسوخة. وقد احتجوا لأنفسهم فأخذوا ما كان لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فعليهم أن يلزموا أنفسهم (¬1) بما التزمه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن قالوا: هذا خاص برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنقول: وقوله - سبحانه -: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) (¬2) الخطاب لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحو هذه الآية مما يكثر تعداده من الآيات ¬

(¬1) قال الحافظ في " الفتح " (4): أن أبا بكر لما قام مقام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تكفل بما كان عليه من واجب أو تطوع، فلما التزم ذلك لزمه أن يوفي ما عليه من دين أو عدة، كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجب الوفاء بالوعد فنفد أبو بكر ذلك. وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم (11/ 60 - 61): قيل إنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقضيه من مال مصالح المسلمين وقيل من خاص مال نفسه وقيل كان هذا القضاء واجبا عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقيل تبرع منه. وقال القرطبي في " المفهم " (4/ 575): وقال بعض أهل العلم: بل يجب على الإمام أن يقضي من بيت المال دين الفقراء اقتداء بالنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنه قد صرح بوجوب ذلك عليه. حيث قال: " فعلي قضاؤه " ولأن الميت الذي عليه الدين يخاف أن يعذب في قبره على ذلك الدين كما صح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث دعي ليصلي على ميت، فأخبر: أن عليه دينا لم يترك وفاء فقال: " صلوا على صاحبكم " فقال أبو قتادة: صل عليه يا رسول الله! وعلي دينه فصلي عليه، ثم قال له: " قم فأده عنه " فلما أدى عنه قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الأن حين بردت عليه جلدته " تقدم تخريجه. وكما على الإمام أن يسد رمقه ويراعي مصلحته الدنيوية كان أحرى، وأولى أن يسعى فيما يرفع عنه العذاب الأخروي. و (المولى): الذي يتولى أمور الرجل بالإصلاح والمعونة على الخبر، والنصر على الأعداء، وسد الفاقات ورفع الحاجات. (¬2) [التوبة: 103]. قال ابن كثير في تفسيره (4/ 207): أمر الله تعالى رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم ويزكيهم بها، وهذا عام وإن أعاد بعضهم الضمير في " أموالهم " إلى الذين اعترفا بذنوبهم وخلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، ولهذا اعتقد بعض مانعي الزكاة من أحياء العرب أن دفع الزكاة إلى الأمام لا يكون وإنما كان هذا خاصا برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولهذا احتجوا بقوله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) وقد رد عليهم هذا التأويل والفهم الفاسد الصديق أبو بكر وسائر الصحابة، وقاتلوهم حتى أدوا الزكاة إلى الخليفة. كما كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى قال الصديق والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأقاتلنهم على منعه. أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7284 و7285).

القرآنية، وفي السنة المطهرة الكثير من ذلك نحو قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما أخرجه أحمد (¬1)، وابن ماجه (¬2)، وسعيد بن منصور (¬3)، والبيهقي (¬4) من طرق: " أنا وراث من لا وارث له أعقل عنه وأرثه "، وهم لا يقولون: إن ميراث من لا وراث له مختص برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والحاصل أنه يقال لمن لم يتحمل بما تحمله رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ديون المديونين، زاعما أن ذلك خاص برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اترك قبض الصدقات ونحوها من أموال الله، واترك قبض ميراث من لا وارث له، وسيوجد الله من عباده من يقضي ديون المديونين من أموال الله - سبحانه -، على أنه قد ورد ما يدل على حل النزاع بخصوصه، وهو ما أخرجه الطبراني (¬5) من حديث سلمان بنحو حديث أبي هريرة المتقدم. وزاد فيه: " ومن ترك دينا فعلي وعلى الولاة من بعدي من بيت مال المسلمين " وهذا الحديث وإن كان في إسناده عبد الله بن سعيد الأنصاري، وهو ضعيف لكنه يشد من عضده ما أخرجه ابن حبان في ثقاته (¬6) من حديث أبي أما أبي أمامة بنحوه ¬

(¬1) في " المسند " (4/ 31، 133). (¬2) في " السنن " رقم (2738). (¬3) في " السنن " رقم (172). (¬4) في " السنن الكبرى " (6). قلت: وأخرجه أبو داود رقم (2899) والحاكم (4/ 344) وقال صحيح على شرط الشيخين رتعقبه الذهبي بأن علي بن طلحة أحد رجاله، وقال أحمد: له أشياء منكرات ولم يخرجه البخاري. وخلاصة القول أن الحديث حسن. (¬5) في " المعجم الكبير " (6/ 240 رقم 6103). وأورده الهيثمي في " المجمع " (5/ 332) وقال: فيه عبد الغفور أبو الصباح وهو متروك. (¬6) عزاه إليه ابن حجر في " الفتح " (3/ 48).

وعلى كل حال فليس التعويل على هذا، بل التعويل على ما قدمنا مما لا محيص لولاة الأمر في هذه الأمة منه. قوله: إن قلنا هو عام فهل تسقط التبعة عن المديون، وتلحق السلطان؟. أقول: إنه لا بد في هذا من تفصيل يدل عليه ما سنذكره من الأدلة، فيقال: لا يخلو هذا المديون إما أن يكون له مال أو لا، وعلى الثاني إما أن يكون في حال حياته مهتما بقضائه مريدا له، ولم يمنعه منه إلا عدم وجوده له وإعوازه عليه أولا. فهذه ثلاث مسائل (¬1). الأولى: من وله مال. الثانية: من مات ولا مال له، وكان مهتما في حال حياته بقضاء مريدا له عازما عليه، ولم يتمكن منه، ولا تيسر له. الثالثة: من لا مال له ولم يكن مهتما بقضائه مع تمكنه من القضاء في حال حياته، ولو بالسعي في وجوه المكاسب، وإتعاب نفسه في أسباب التحصيل. أما المسألة الأولى وهي: من مات وله مال يمكن القضاء منه [4]، وثم سلطان للمسلمين، بيده أموال الله على وجه يتمكن به من قضاء دين ذلك المديون منها كلا أو بعضا، فقد دل قوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأحاديث المتقدمة: " من خلف مالا أو حقا فلورثته، ومن خلف كلا أو دينا فكله إلي ودينه علي " (¬2) أن السلطان قد صار مكلفا بقضاء دين هذا المديون الذي مات وترك مالا، وأن ذنب الترك عليه. خطاب الله - سبحانه - متوجه إليه، وعقوبته نازله عليه. ولا ينافي هذا قوله في حديث سلمة بن الأكوع المتقدم أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " هل ترك شيئا؟ قالوا: لا. فقال: هل عليه دين؟ قالوا: ثلاثة دنانير، قال: صلوا على صاحبكم " لأن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما امتنع من الصلاة على المديون الذي لا مال له قبل أن يفتح الله عليه، لكونه لم يترك وفاء لدينه، ثم لما فتح الله ¬

(¬1) انظر " فتح الباري " (4/ 467). (¬2) تقدم تخرجه.

عليه قال: " من خلف مالا أو حقا فلورثته "؛ فجعل ديون المديونين إليه وعليه، من غير فرق بين من ترك مالا ومن لم يترك مالا. وأما هذا المديون الذي ترك مالا، فإن فرط في قضائه حال حياته، وتساهل مع تمكنه من ذلك وقدرته عليه فلا شك ولا ريب أنه مخاطب بذلك، معاقب عليه. وعليه يحمل حديث أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه ". أخرجه أحمد (¬1)، وابن ماجه (¬2)، والترمذي (¬3) وحسنه، ورجال أسناده ثقات إلا عمر ابن أبي سلمة فهو صدوق يخطئ، فلا يخرج حديثه عن كونه حسنا بذلك. وأما إذا كان غير متمكن من القضاء، ولا قادر عليه بأن يحول بينه وبين ماله حائل من غضب عاضب، أو حجر من حاكم، أو نحو ذلك مع اهتمامه بالقضاء وكونه راغبا إليه، فهذا لا خطاب عليه من جهة الله - سبحانه -، بل الخطاب على السلطان، وعلى من حال بين هذا المديون وبين ماله في حال حياته بغير موجب شرعي يقتضي تلك الحيلولة، لأنه قد صار بعدم تمكنه من القضاء في حكم من لا مال له. وقد أخرج الطبراني (¬4) عن أبي أمامة مرفوعا: " من دان بدين في نفسه وفاؤه، ومات تجاوز الله عنه، وأرضى غريمه بما شاء، ومن دان بدينٍ، وليس في نفسه وفاؤه ومات اقتضى الله لغريمه يوم القيامة ". ¬

(¬1) في " المسند " (2/ 440)، (2/ 475). (¬2) في السنن رقم (2413). (¬3) في " السنن " رقم (1078) ورقم (1079) وقال حديث رقم (1079) حسن وهو أصح من حديث رقم (1078). وهو حديث صحيح. (¬4) في " الكبير " (8/ 290 رقم 7949). وأورده الهيثمي في " المجمع " (4) وقال: رواه الطبراني وفيه جعفر بن الزبير وهو كذاب. وأخرجه الحاكم (2/ 23) وتعقبه الذهبي فقال: بشر بن نمير متروك.

وأخرج (¬1) أيضًا من حديث ابن عمر: " الدين دينان. فمن مات وهو ينوي قضاءه فأنا وليه، ومن مات ولا ينوي قضاءه فذلك الذي يؤخذ من حسناته ليس يومئذ دينار ولا درهم ". وأخرج (¬2) أيضًا من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر بلفظ: " يؤتى بصاحب الدين يوم القيامة فيقول الله: فيم أتلفت أموال الناس؟ فيقول: يارب إنك تعلم أنه أتى على إما حرق وأما غرق، فيقول: فإني سأقضي عنك اليوم، فيقضي عنه ". وأخرج أحمد (¬3) وأبو نعيم في الحلية (¬4)، والبزار (¬5)، والطبراني (¬6) بلفظ: " ويدعى بصاحب الدين يوم القيامة حتى يقف بين يدي الله فيقول: يا بن آدم، فيم أخذت هذا الدين، وفيم ضعيت حقوق الناس؟ فيقول: يارب إنك تعلم [5] أني أخذته فلم آكل ولم أشرب ولم أضيع ذلك، ولكن أتي علي إما حرق، وإما سرق، وإما وضيفة، فيقول الله: صدق عبدي، وأنا أحق من قضى عنه، فيدعو الله بشيء فيضعه في كفة ميزانه فترجح حسناته على سيئاته، فيدخل الجنة بفضل رحمته ". وأخرج البخاري (¬7) وغيره (¬8) عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " من أخذ أموال الناس يريد أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله ". ¬

(¬1) الطبراني كما عزاه إليه الهيثمي في " المجمع " (4/ 132) وقال: رواه الطبراني في " الكبير "، فيه محمد ابن عبد الرحمن بن البيلماني وهو حديث ضعيف. وأخرجه ابن ماجه في " السنن " رقم (2414) وهو حديث صحيح. (¬2) الطبراني كما أورده الهيثمي في " المجمع " (4/ 133) وقال رواه أحمد والبزار والطبراني في " الكبير " وفيه صدقة الدقيقي، وثفه مسلم بن إبراهيم وضعفه جماعة. (¬3) في " المسند " (1) بسند ضعيف. (¬4) في الحلية (4/ 141). (¬5) في مسنده (2 - 115 رقم 1332 - كشف). (¬6) الطبراني كما أورده الهيثمي في " المجمع " (4/ 133) وقال رواه أحمد والبزار والطبراني في " الكبير " وفيه صدقة الدقيقي، وثفه مسلم بن إبراهيم وضعفه جماعة. (¬7) في صحيحه رقم (2387). (¬8) كابن ماجه في " السنن " رقم (2411).

وأخرج ابن ماجه (¬1)، وابن حبان (¬2)، والحاكم (¬3) من حديث ميمونة بلفظ: ما من مسلم يدان دينا يعلم الله أنه يريد أداءه إلا أدى الله عنه في الدنيا والآخرة ". والاحاديث في هذا الباب كثيرة فيندرج تحتها من مات وله مال، وهوغير متمكن من القضاء منه إلا الحيلولة بينه وبين ماله في حال حياته. وأما المسألة الثالثة، وهي من لا مال له، ولم يكن مهتما بقضائه، ولم يتمكن منه، ولا تيسر له فهو داخل تحت هذه الأحاديث دخولا أوليا، فلا يخاطب بذلك الدين، بل يقضيه الله عنه. وأما المسألة الثالثة، وهي من لا مال له، ولم يكن مهتما يقضائه مع تمكنه من القضاء حال حياته. فهذا غير داخل تحت هذه الأحاديث فلا يؤدى عنه، بل يخاطبه ويعاقبه بالتفريط بها في القضاء، وعدم الاهتمام به فقط. وأما نفس الدين فالخطاب فيه من الله، والعقاب عليه هو على سلطان المسلمين المتمكن من القضاء منها. ولكن ههنا دقيقة، وهي أن هذا المديون الذي لم يترك مالا، ولم يهتم بالقضاء مع تمكنه منه إن كان ذلك المال الذي استدانه تلف عليه في غير سرق ولا معصية، أو بأمر لا يقدر على دفعه فلا يبعد أن لا يخاطبه الله على تفريطه بعد الاهتمام بالقضاء مع تمكنه منه كما يشير إليه بعض ما تقدم من الأحاديث. وههنا مسألة رابعة، وهي من كان لا مال له يتمكن من القضاء منه، ولا كان قادرا ¬

(¬1) في " السنن " رقم (2408). (¬2) في صحيحه رقم (5041) وهو حديث حسن. (¬3) في " المستدرك " (2). وهو حديث صحيح دون قوله " في الدنيا والآخرة ". انظر: " الصحيحة " (1029).

على القضاء بوجه من الوجوه، ولكنه لم يهتم بالقضاء بحال من الأحوال، فهذا لا شك أن الخطاب في دينه على السلطان. وأما هو فإن أتلف ذلك المال الذي استدانه في غير سرف ولا معصية، فإذا لم يقض عنه السلطان قضى الله عنه، ولا خطاب عنه إلا بترك اهتمامه بالقضاء فقط، لعدم تمكنه من القضاء. ويحتمل أن لا يخاطب بذلك لما تقدم. واعلم أن العادم الذي ليس بقادر على القضاء هو من لا يجد مالا أصلا إلا ما يستر عورته وعورة من يعول، وما يكنه ويكنهم، ويسد فاقته وفقتهم، وأما من كان له عقار، أو دار، أو عروض فالخطاب عليه بالقضاء منها، متضيق أشد تضيق ومتحتم أبلغ تحتم، فإن زعم والحال هذا أنه مهتم بالقضاء، مريد له، وحريص عليه فهو كاذب على نفسه، مروح لها بالأباطيل، معلل لها بالعلل الزائفة، مطمع له بالشبه الداحضة عند الله، مخادع لها لاخدع التي لا تسمن ولا تغني من جوع [6] (¬1). ما ورد من الأدلة الكثيرة في إيجاب قضاء الدين، وأنه لا حق للوارث في التركة حتى يقضى. وليس كلامنا هذا إلا في تعلق خطاب الله - سبحانه - هل يكون بالسلطان الذي لم يقض دين المديون، أو بالمديون؟ وقد قدمنا إيضاحه بما لا مزيد عليه. قوله: حديث " من ادان ما لم ينو قضائه. ... " (¬2)، ومن أخرجه منهم (¬3)؟. أقول: قد قدمنا ما ورد من الأحاديث في هذا المعنى، ومن أخرجها، ويغني عن ذلك كله الحديث الثابت في صحيح البخاري (¬4) وغيره (¬5) بلفظ: " من أخذ أموال الناس ¬

(¬1) نقص صفحتين من صورة المخطوط. (¬2) تقدم تخريجه وهو حديث ضعيف. (¬3) الطبراني في " الكبير " (8/ 290 رقم 7949). والحاكم في " المستدرك " (2). وقد تقدم. (¬4) في صحيحه رقم (2387). (¬5) كابن ماجه رقم (2411).

يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله ". قوله الحادي عشر: كيف الجمع بينه وبين حديث الامتناع من الصلاة؟. أقول: لا منافاة بين كون الله يقضي دينه لا هتمامه بالقضاء، وعدم إنفاقه في سرف ولا معصية، وبين الامتناع من الصلاة عليه، فإن الامتناع هو لحق صاحب الدين الثابت على المديون في الدنيا، المتعلق ببدنه وماله. ومع هذا فقد قدمنا أن هذا الحكم قد نسخ، ومل يبق وجه للامتناع من الصلاة على مديون قط لما قررناه سابقا. قوله: الطرف الثاين: هل تمتنع الصلاة على الظالم الناس بأخذ أموالهم تجبرا. .. إلخ؟ أقول: لو لم ينسخ هذا الحكم، أعني الامتناع من الصلاة على المديون لكان هذا أحق بالامتناع من الصلاة عليه من المديون، لكنه قد نسخ الامتناع من الصلاة على المديون فلا وجه للامتناع من الصلاة على هذا، ولا على سائر العصاة إلا ما يتخيله بعض الجامدين على التقليد من أنه لا يصلى على فاسق، وليس على ذلك آثارة من علم، ولا يصح الاستدلال لمن قال: إنه لا يصلى على قاسق بأي وجه فسق بامتناع من الصلاة على المديون لوجهين: الأول: أنه منسوخ كما سبق. الثاني: أنه لو كان ثابتا ولم يكن منسوخا فليس فيه أنه لا يصلى على المديون. فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " صلوا على صاحبكم " فدل على أنه يصلى عليه ويتحتم على غير النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن قام مقامه من خلفاء الرشد، وأئمة العدل أن يصلي على المديون، وأنه كسائر المسلمين في وجوب الصلاة عليه، هكذا سائر العصاة (¬1) من المسلمين؛ فإنهم ¬

(¬1) قال ابن قدامة في " المغني " (3/ 508): ويصلى على سائر المسلمين من أهل الكبائر والمرجوم في الزنا وغيرهم. قال أحمد: من استقبل قبلتنا، وصلى بصلاتنا، نصلى عليه وندفنه ويصلى على ولد الزنا والزانية، والذي يقاد منه في القصاص، أو يقتل في حد، وسئل عمن لا يعطي زكاة ماله، فقال: يصلى عليه ما يعلم أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترك الصلاة على أحد، إلا قاتل نفسه والغال وهذا قول عطاء والنخعي والشافعي وأصحاب الرأي إلا أن أبا حنيفة قال: لا يصلى على البغاة ولا المحاربين لأنهم باينوا أهل الإسلام، وأشبهوا أهل دار الحرب. وقال ابن حزم في " المحلى " (5/ 169) ويصلى على كل مسلم بر، أو فاجر، مقتول في حد أو في حرابة أو في بغي، ويصلي عليهم الإمام وغيره وكذلك على المبتدع ما لم يبلغ الكفر، وعلى من قتل نفسه، وعلى من قتل غيره ولو أنه شر من على ظهر الأرض إذا مات مسلما لعموم أمر النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقوله: " صلوا على صاحبكم " والمسلم صاحب لنا، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10] وقال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [التوبة: 71] فمن منع من الصلاة على مسلم فقد قال قولا عظيما، وإن الفاسق لأحوج إلى دعاء إخوانه المؤمنين من الفاضل المرحوم. وقد قال بعض المخالفين: أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصل على ماعز. قلنا: نعم، ولم نقل إن فرضا على الإمام أن يصلي على من رجم، إنما قلنا: له أن يصلي عليه كسائر الموتى، وله أن يترك كسائر الموتى، ولا فرق وقد أمرهم عليه السلام بالصلاة عليه ولم يخص بذلك من لم يرجمه ممن رجمه.

من جملتهم، وهم أحق بالصلاة عليهم من المطيعين، لأنهم المحتاجون إلى الشفاعة إلى الله من عباده بالصلاة عليهم. ولم يرد ما يمنع من هذا لا من شرع، ولا من عقل. والمسلمون وإن تفاوتت أقدامهم في العمل بأحكام الإسلام فقد جمعتهم كلمة الإسلام [7]، وشملتهم دعوته، فلكل واحد منهم ما لسائر المسلمين، وعليه ما عليهم، وحساب العاصي منهم على الله - عز وجل - إن شاء غفر له، وقبل شفاعة الشفعاء فيه، وإن شاء عذبه. لا يسال عم يفعل وهم يسألون، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وإنما الذي نهى الله - سبحانه - عن الصلاة عليه هو الكافر والمنافق (¬1) كل ذلك معلوم كما لا يخفى. وإلى هنا انتهى الجواب، وفيه كفاية، والله ولي التوفيق. كتبه المجيب: محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما -. ¬

(¬1) يشير إلى قوله تعالى: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ) [التوبة: 84].

شرح الصدور في تحريم رفع القبور

شرح الصدور في تحريم رفع القبور تأليف محمد بن علي الشوكاني حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه محفوظة بنت على شرف الدين أم الحسن [شرح الصدور مفيد ... لما عن الضمير أملاه هدم القباب كما جاء ... عنه وبالقول أنهاه فالمرتضى سار قصدا ... لهدمها طاب مسعاه والله قال تعالى ... إن المساجد لله] (¬1) ¬

(¬1) من صورة غلاف النسخة (أ).

وصف المخطوط (أ): 1 - عنوان الرسالة: (شرح الصدور في تحريم رفع القبور). 2 - موضوع الرسالة: فقه. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله المطهرين، وصحبه المكرمين. وبعد: فاعلم أنه وقع الخلاف بين المسلمين في كون هذا الشيء بدعة. ... 4 - آخر الرسالة: ... تحليل المحرمات وفعل المنكرات وفعل المنكرات اللهم غفران. كمل منقولا من تحريم مؤلفه العلامة البدر محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما آمين. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 14 صفحة + صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 28 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 12 - 14 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الرابع من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

وصف المخطوط (ب): 1 - عنوان الرسالة: (شرح الصدور في تحريم رفع القبور). 2 - موضوع الرسالة: فقه. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله المطهرين وصحبه المكرمين. وبعد: فاعلم أنه إذا وقع الخلاف بين المسلمين في كون هذا الشيء بدعة. .. 4 - آخر الرسالة:. .. تحليل المحرمات وفعل المنكرات اللهم غفرا. والحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا طيبا مباركا وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم آمين. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 24 صفحة + صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 20 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات. 9 - الرسالة من المجلد الرابع من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله المطهرين، وصحبه المكرمين. وبعد: فاعلم أنه إذا وقع الخلاف بين المسلمين في كون هذا الشيء بدعة، أو غير بدعة (¬1)، أو مكروه، أو محرم أو غير محرم، أو غير ذلك فقد أتفق المسلمون أجمعون سلفهم وخلفهم من عصر الصحابة إلى عصرنا هذا، وهو القرن الثالث عشر منذ البعثة المحمدية أن الواجب عند الاختلاف (¬2) في أي أمر من أمور الدين بين الأئمة المجتهدين ¬

(¬1) تقدم تعريفها. (¬2) أعلم - أن أصول الشريعة وأركانها لا خلاف فيها في الجملة عند من يعتد بقوله. -إن الحق واحد، ومصيبه واحد، والمخطئ بعد الاجتهاد معذور مأجور. -إن المختلفين إذا وضح لهم الحق من كتاب وسنة يجب عليهم الرجوع إليهما وترك أرائهم. -إن اجتماع المسلمين وتوحد كلمتهم وتقاربهم وتعاونهم واحترام بعضهم لبعض أمر حث عليه الإسلام. -واعلم أن الاختلاف المذموم، هو الاختلاف عن هوى وتعصب بعد وضوح الحق. وهذا لم يحصل للأئمة المجتهدين الأتقياء، فكانوا يتركون أقوالهم للدليل ويقولون لأتباعهم: إذا خالف قولي قول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاضربوا بقولي عرض الحائط. ولا يجوز لمسلم أن يتعصب لقول في مذهبه مخالف لكتاب الله وسنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بل يجب الرد والرجوع إليهما، فالاختلاف الناجم عن الهوى والتعصب هو بلا شك شر على الأمة، وقد حصل بسببه آثار سيئة ومفاسد كبيرة فالتخلص من الاختلاف الذي من هذا النوع واجب ورحمة للأمة كما قال تعالى: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال: 46]. انظر: " الإحكام في أصول الأحكام " (5/ 647). " الأحاديث الضعيفة والموضوعة " (1/ 76 - 48). وانظر: - " أسباب اختلاف الفقهاء "، للدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي. -" آثار اختلاف الفقهاء في الشريعة ". أحمد بن محمد عمر الأنصاري.

هو الرد إلى كتاب الله - سبحانه -، وسنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، كما نطق بذلك الكتاب العزيز (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (¬1). ومعنى الرد إلى الله - سبحانه - الرد إلى كتابه، ومعنى الرد إلى رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الرد إلى سنته بعد موته، وهذا مما لا خلاف فيه بين جميع المسلمين. فإذا قال مجتهد من المجتهدين: هذا حلال، وقال الآخر: هذا حرام، فليس أحدهما أولى بالحق من الآخر، وإن كان أكثر منه علما، أو أكبر منه سنا، أو أقدم منه عصرا، لأن كل واحد منهما فرد من أفراد عباد الله، متعبد بما جاء من الشريعة في كتاب الله، وسنة رسوله، ومطلوب منه ما طلبه الله من غيره من العباد. وكثرة علمه، وبلوغه درجة الاجتهاد، أو مجاوزته لها لا تسقط عنه شيئا من الشرائع التي شرعها الله لعباده، ولا يخرجه من جملة المكلفين من العباد، بل العالم كلما كان تكيلفه زائدا على تكليف غيره، ولو لم يكن من ذلك إلا ما [أوجبه] (¬2) الله عليه من البيان للناس، وما كلفه به من الصدع بالحق، وإيضاح ما شرعه الله [1] لعباده (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) (¬3)، (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا ¬

(¬1) [النساء: 59] (¬2) في [ب] أوجب. (¬3) [آل عمران: 187]. قال ابن كثير في تفسيره (2/ 180 - 181): هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب، الذين أخد عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأن ينوهوا بذكره في الناس ليكونوا على أهبة من أمره، فإذا أرسله الله تابعوه فكتموا ذلك وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الضعيف والحظ الدنيوي السخيف، فبئست الصفقة صفقتهم وبئست البيعة بيعتهم. * وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم، ويسلك بهم مسلكهم، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع الدال على العمل الصالح، ولا يكتموا منه شيئا فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " من سئل عن علم فكتمه الجم يوم القيامة بلجام من نار ". أخرجه البخاري رقم (6105 و6652) ومسلم رقم (110) من حديث ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه -. وقال ابن جرير في جامع البيان (3 / ج 4/ 203): هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم، فمن علم شيئا فليعلمه وإياكم، وكتمان العلم، فإن كتمان العلم هلكة، ولا يتكلفن رجل مالا علم له به، فيخرج من دين الله، فيكون من المتكلفين، كأن يقال مثل علم لا يقال به كمثل كنز لا ينفق منه ومثل حكمة لا تخرج كمثل صنم قائم لا يأكل ولا يشرب، وكان يقال: طوبي لعالم ناطق، وطوبي لمستمع واع، هذا رجل علم علما فعلمه وبذله ودعا إليه، ورجل سمع خيرا فحفظه ودعاه، واتنفع به.

أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (¬1)، فلو لم يكن لمن رزقه الله طرفا من العلم إلا كونه مكلفا بالبيان للناس لكان كافيا فيما ذكرناه من كون العلماء لا يخرجون عن دائرة التكليف، بل يزيدون بما علموه تكليفا. وإذا أذنبوا كان ذنبهم أشد من ذنب الجاهل، وأكثر عقابا كما تراه فيما حكاه الله - سبحانه - عمن عمل سوءا بجهالة (¬2) حيث أقدموا على مخالفة ما ¬

(¬1) [البقرة: 159]. قال ابن جرير في " جامع البيان " (2/ 53): وهذه الآية وإن كانت نزلت في خاص من الناس، فإنها معنى بها كل كاتم علما فرض الله تعالى بيانه للناس وذلك نظير الخبر الذي روى عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " من سئل عن علم يعلمه فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار ". (¬2) (منها) قوله تعالى: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة: 75]. إلى قوله تعالى: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) [البقرة: 79]. (ومنها) قوله تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [النساء: 17 - 18]. (ومنها): (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) [النساء: 46]. (ومنها): قوله تعالى: (كتب ربكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأنعام: 54]. (ومنها): قوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل: 119].

شرع الله لهم، مع كونهم يعلمون [1 أ] الكتاب ويدرسونه. ونعى ذلك عليهم في مواضع متعددة، وبكتبهم أشد تبكيت. وكما ورد في الحديث الصحيح أن أول من تسعر به نار جهنم (¬1) العالم الذي كان ¬

(¬1) في حاشية المخطوط: الذي ورد أن أول (أ) من تسعر به نار جهنم هو القارئ المرائي، والعالم المرائي، والمجاهد المرائي، وأما الذي أشار إليه شيخنا دامت إفادته فهو الذي ورد أنه يلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور في النار كما يدور الحمار بالرحا. ... الحديث (ب). (أ): انظر ما أخرجه الترمذي رقم (2382) من حديث أبي هريرة الصحيح في التعليقة الأولى في الصفحة التالية. (ب): أخرج البخاري في صحيحه رقم (3267) ومسلم في صحيحه رقم (51/ 2989) من حديث أسامة بن زيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتنزلق أقتابه في النار، فيدور كما الحمار برحاه، فيجمتع أهل النار عليه فيقولون أي فلان ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه ". قال القرطبي في " المفهم " (6/ 621): وإنما اشتد عذاب هذا، لأنه كان عالما بالمعروف وبالمنكر، وبوجوب القيام عليه بوظيفة كل واحد منهما ومع ذلك فلم يعمل بشيء من ذلك، فصار كأنه مستهين بحرمات الله تعالى، ومستخف بأحكامه، ثم إنه لم يتب عن شيء من ذلك وهذا من جملة من لم ينتفع بعلمه الذي قال فيهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أشد الناس عذابا يوم القيامة: عالم لم ينفعه الله بعلمه " أخرجه الطبراني في " المعجم الصغير " (1/ 182 - 183) والبيهقي في " شعب الإيمان " رقم (1778).

يأمر الناس، ولا يأتمر، وينهاهم ولا ينتهي (¬1) وبالجملة فهذا أمر معلوم أن العلم وكثرته وبلوغ حامله إلى أعلى درجات العرفان لا يسقط عنه شيئا من التكاليف الشرعية، بل يزيد عليها شدة، ويخاطب بأمور لا يخاطب بها الجهل، ويكلف بتكاليف غير تكاليف الجاهل، ويكون ذبنه أشد، وعقوبته أعظم. وهذا لا ينكره أحد ممن له أدني تمييز لعلم الشريعة. والآيات والأحاديث الواردة في هذا المعني لو جمعت لكانت مؤلفا مستقلا، ومصنفا حافلا، وليس ذلك من غرضنا في هذا البحث، بل غاية الغرض من هذا، ونهاية القصد وبيان أن العالم كالجاهل في التكاليف [2] الشرعية، والتعبد بما في الكتاب والسنة، مع ما أوضحناه لك من التفاوت ¬

(¬1) أخرج الترمذي في سننه رقم (2382) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أن الله تعالي إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ، ألم أعلمك ما أنزلت علي رسولي؟ قال بلي يا رب قال فماذا علمت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار فيقول الله له كذبت، وتقول الملائكة كذبت، ويقول الله له: بل أردت أن يقال فلان قارئ، فقد قيل ذلك، ويؤتى بصاحب المال فيقول الله: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب. قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال كنت أصل الرحم وأتصدق، فيقول الله له كذبت، وتقول الملائكة له كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال فلان جواد وقد قيل ذلك. ويؤتي بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له: في ماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت: فيقول الله له كذبت وتقول الملائكة كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذلك ". ثم ضرب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ركبتي فقال: يا أبا هريرة: أولئك الثلاثة أول خلق تسعر بهم النار يوم القيامة ". وأخرجه أيضًا ابن خزيمة في صحيحه (4 رقم 2482) والحاكم في " المستدك " (1 - 419). وقال: حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وقال: الترمذي حديث حسن غريب. قلت: وهو حديث صحيح.

بين الرتبتين: رتبة العالم، ورتبة الجاهل في كثير من التكاليف، واختصاص العالم منها بما لا يجب على الجاهل. وبهذا يتكرر لك أنه ليس لأحد من العلماء المختلفين، أو من التابعين لهم والمقتدين بهم أن يقول: الحق ما قاله فلا ن دون فلان، أو فلان أولى بالحق من فلان، بل الواجب عليه إن كان ممن له فهم وعلم وتمييز أن يرد ما اختلفوا فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله، فمن كان دليل الكتاب أو السنة معه فهو المحق، وهو الأولى بالحق. من كان دليل الكتاب والسنة عليه لا له كان هو المخطئ ولا ذنب عليه في هذا الخطأ إذا كان [قد] (¬1) وفى الاجتهاد حقه، بل هو معذور، بل مأجور كما ثبت في الحديث الصحيح (¬2) أنه " إذا اجتهد فأصاب فله أجران، إن اجتهد فأخطأ فله أجر ". فناهيك بخطأ يؤجر عليه فاعله. ولكن هذا إنما هو للمجتهد نفسه إذا أخطأ، ولا يجوز لغيره أن يتبعه في خطئه، ولا بعذر كعذره، ولا يؤجر كأجره، بل واجب على من عداه من المكلفين أن يترك الاقتداء به في الخطأ، ويرجع إلى الحق الذي دل عليه [دليلا] (¬3) والكتاب أو السنة. وإذا وقع الرد لما اختلف فيه أهل العلم إلى الكتاب والسنة كان من معه دليل الكتاب والسنة [هو] (¬4) الذي أصاب الحق ووافقه، وإن كان مقصرا أن واحد، والذي لم يكن معه دليل [1ب] (¬5) الكتاب [و] (¬6) السنة هو الذي لم يصب الحق، بل أخطأه، وإن كانوا عددا كثيرا فليس لعلم ولا لمتعلم ولا لمن يعهم وإن كان مقصرا أن يقول: إن الحق بيد من يقتدي به من العلماء (¬7) إن كان دليل الكتاب والسنة بيد غيره؛ ¬

(¬1) زيادة من [ب]. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7352) ومسلم رقم (1716) من حديث عمرو بن العاص. وقد تقدم مرارا. (¬3) في [ب] دليل. (¬4) زيادة من [أ]. (¬5) في [ب]. (¬6) في [ب] أو. (¬7) انظر مناقشة ذلك فيما تقدم من رسائل رقم (59) و (60) و (61) من كتابنا هذا.

فإن ذلك [3] جهل عظيم، وتعصب شديد، وخروج من دائرة الإنصاف بالمرة، لأن الحق لا يعرف بالرجال، بل الرجال يعرفون بالحق. وليس أحد من العلماء المجتهدين، والأئمة المحققين بمعصوم. ومن لم يكن معصوما فهو يجوز عليه الخطأ كما يجوز عليه الصواب، فيصيب تارة، ويخطئ أخرى. ولا يتبين صوابه من خطئه إلا بالرجوع إلى دليل الكتاب والسنة، فإن واقفهما فهو مصيب، وإن خالفهما فهو مخطئ. ولا خلاف في هذه الجملة بين جميع المسلمين أولهم وآخرهم، سابقهم ولا حقهم، كبيرهم وصغيرهم، وهذا يعرف كل من له أدني حظ من العلم، وأحقر نصيب من العرفان، ومن لم يفهم هذا، ويعترف به فليتهم نفسه، ويعلم أنه قد جني على نفسه بالخوض فيما ليس من شأنه، والدخول فيما لا تبلغ إليه قدرته، ولا ينفد فيه فهمه، وعليه أن يمسك قلمه ولسانه، ويشتغل بطلب العلم، ويفرغ نفسه لمعرفة علوم الاجتهاد التي يتوصل بها إلى معرفة الكتاب والسنة، وفهم [معانيها] (¬1) والتمييز بين دلائلهما، ويجتهد في البحث عن السنة وعلومها (¬2) حتى يتميز له صحيحها من سقيمها، ومقبولها من مردودها، ¬

(¬1) في [ب] معانيها. (¬2) من أسس الاجتهاد وقواعده: 1 - العلم بنصوص الكتاب والسنة المتعلقة بالأحكام. 2 - القدرة على استنباط الأحكام. 3 - معرفة الناسخ والمنسوخ. 4 - الإلمام باللغة العربية. 5 - معرفة ما أجمع عليه من الأحكام. 6 - عرفة القياس. 7 - العلم بأصول الفقه وقواعده. 8 - العلم بمقصد الشريعة. 9 - معرفة أحوال العصر. انظر " نهاية السول " (3) وقد تقدم تعريف الاجتهاد.

وينظر في كلام الأئمة الكبار من سلف هذه الأمة وخلفها، حتى يهتدي بكلامهم إلى الوصول إلى مطلوبه، فإنه إن فعل هذا وقدم الاشتغال بما ذكرنا ندم على ما فرط منه قبل أن يتعلم هذه العلوم غاية الندم، وتمني أنه أمسك عن التكلم بما لا يعنيه، وسكت عن الخوض فيما لا يدريه. وما أحسن ما أدبنا به رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فيما صح عنه من قوله: " رحم الله امرءا قال خيرا أو صمت " (¬1) [4] وهذا الذي تكلم ¬

(¬1) أخرجه القضاعي في " مسند الشهاب " (1 رقم 581) و (1 رقم 582) من طريقين عن الحسن مرفوعًا ومرسلا. وأورده السيوطي في " حسن السمت في الصمت " (ص42رقم 21) و (ص44، 45، 30) وأخرجه اين أبي الدنيا في كتاب "الصمت " رقم (41) وأحمد في " الزهد " منسوبا إلى الحسن البصري (277). وأورده السيوطي في " الجامع الصغير" (4 رقم 4426 - مع الفيض) وعزاه لأبي الشيخ من حديث أبي أمامة ورمز لضعفه. وأورده السيوطي في "الجامع الصغير " (4 رقم 4427 - مع الفيض) وعزاه لابن المبارك في الزهد رقم (380) من حديث خالد بن أبي عمران مرسلا ورمز لحسنه. وحسن المحدث الألباني" الحديث "في " صحيح الجامع " رقم (3496) ورقم (3497) وكذلك في " الصحيحة "رقم (855). أخرج البخاري في صحيحه رقم (6018) ومسلم في صحيحه رقم (47). من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ". وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (6019) ومسلم رقم (48) من حديث أبي شريح العدوي. قال ابن كثير في تفسيره (7) قوله تعالي: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18]. ما يتكلم ابن آدم بكلمة إلا ولها من يراقبها معتد لذلك يكتبها. لا يترك كلمة ولا حركة. ثم قال واختلف العلماء: هل يكتب الملك كل شيء من الكلام؟ وهو قول الحسن وقتادة أو إنما يكتب ما فيه ثواب وعقاب كما هو قول ابن عباس، وظاهر الآية الأول لعموم قوله تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18]. وعن ابن عباس قال: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى إنه ليكتب قوله: " أكلت، شربت، ذهبت، جئت، رأيت ".

في العلم أن يفتح الله عليه بما لا بد منه، وشغل نفسه بالتعصب للعلماء، تصدي للتصويب والتخطئة في شيء لم يعلمه، ولا فهمه حق فهمه لم يقل خيرا ولا صمت، فلم يتأدب بالأدب الذي أرشد إليه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وإذا قد تقرر لك بمجموع ما ذكرناه وجوب الرد إلى كتاب الله، وسنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بنص الكتاب العزيز وإجماع المسلمين أجمعين عرفت أن من زعم من الناس أنه يمكن معرفة المخطئ والمصيب من العلماء من غير هذه [الطريق] (¬1) عند [2أ] اختلافهم في مسألة من المسائل فهو مخالف لنص كتاب الله، ومخالف لإجماع المسلمين أجمعين. فانظر - أرشدك الله - أي جناية جني على نفسه بهذا الزعم الباطل! وأي مصيبة وقع فيها بهذا الخطأ الفاحش! وأي بلية جلبها عليه القصور! أي محنة شديدة ساقها إليه التكلم فيما ليس من شأنه!. وها نحن نوضح لك مثال ما ذكرناه من الاختلاف بين أهل العلم، ومن كيفية الرد إلى كتاب الله، وسنة رسوله، ليتبين المصيب من المخطئ، ومن بيده الحق، ومن بيده غيره، حتى تعرف ذلك حق معرفيه، ويتضح لك غاية الاتضاح، فإن الشيء إذا ضربت له الأمثلة، وصورت له الصور بلغ من الوضوح والجلاء إلى غاية لا تخفى على من له فهم صحيح، وعقل رجيح، فضلا عمن له في العلم نصيب، وفي العرفان حظ. ولنجعل هذه المسألة التي جعلناها مثالا لما ذكرناه، وإيضاحا لما أمليناه في المسألة التي لهج بالكلام فيها أهل عصرنا ومصرنا، خصوصا هذه الأيام لأسباب لا تخفى، وفي مسألة رفع القبور، والبناء عليها كما [5] يفعله الناس من بناء المساجد والقباب وعلى القبور فتقول ¬

(¬1) في [ب] الطريقة.

اعلم أنه قد اتفق الناس سابقهم ولا حقهم، وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة - رضي الله عنهم - إلي هذا الوقت أن رفع القبور، والبناء عليها بدعة من البدع التي ثبت النهي عنها، واستد وعيد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لفاعلها كما سيأتي بيانه. ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين أجمعين، لكنه وقع للإمام يحيي بن حمزة (¬1) مقالة تدل على أنه لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء، ولم يقل بذلك غيره، ولا روي عن أحد سواه. ومن ذكره من المؤلفين في كتب الفقه من الزيدية فهو جرى على قوله، واقتدي به، ولم نجد القول لذلك لأحد ممن عاصره، أتقدم عصره عليه، لا من أهل البيت، ولا من غيرهم. وهكذا اقتصر صاحب البحر (¬2) الذي هو مدرس كبار الزيدية، ومرجع مذاهبهم، ومكان البيان لخلافهم في ذات بينهم، وللخلاف بينهم وبين غيرهم، بل قد اشتمل على غالب أقوال المجتهدين وخلافهم في المسائل الفقهية، صار هو [المرجوع] (¬3) إليه في هذه الأعصار وهذه الديار لمن أراد معرفة الخلاف في المسائل وأقوال القائلين بإثباتها أو نفيها من المجتهدين، فإن صاحب هذا الكتاب الجليل لم ينسب هذه المقالة - أعني جواز رفع القباب والمشاهد على قبور الفصلاء - إلا إلى الإمام يحيى وحده فقال [2ب] ما نصه (¬4): " مسألة: قال الإمام يحيى: ولا بأس بالقباب والمشاهد على الفضلاء في الملك لا ستعمال المسلمين ولم ينكر " انتهى. فقد عرفت من هذا أنه لم يقل بذلك إلا الإمام يحيى، وعرفت دليله الذي استدل به، وهو استعمال المسلمين مع عدم النكير، ثم ذكر صاحب البحر (4) هذا الدليل الذي استدل ¬

(¬1) هو المؤيد بالله يحيي بن حمزة علي بن إبراهيم. ولد بصنعاء سنة 669 هجريه. توفي سنة 749 هجريه. انظر: " أعلام المؤلفين الزيدية " (ص 1124) وقد تقدم. (¬2) (2 - 132). (¬3) في [ب] المرجع. (¬4) من " البحر الزخار" (2).

به الإمام يحيى في الغيث (¬1) واقتصر عليه، ولم يأت بغيره. إذا عرفت هذا تقرر لك أن [هذا] (¬2) خلاف واقعا بين الإمام يحيى وسائر العلماء من الصحابة والتابعين. ومن المتقدمين من أهل البيت والمتأخرين، ومن أهل المذاهب الأربعة وغيرها، ومن جميع المجتهدين أولهم وآخرهم. ولا يعترض هذا بحكاية من حكى قول الإمام يحيى في مؤلفه ممن جاء بعده من المؤلفين؛ فإن مجرد حكاية القول لا تدل على أن الحاكي يختاره ويذهب إليه، فإن كان وجدت قائلا بما جاء من أهل العلم يقول بقول هذا، ويرجحه فإن وجدت قائلا بما قاله الإمام يحيى ذاهبا إلى ما ذهب إليه بذلك الدليل الذي استدل به، وإن كان مجتهد فلا اعتبار بموافقته، لأنه إنما تعتبر أقول المجتهدين (¬3)، لا أقوال المقلدين. [وإذا] (¬4) أردت أن تعرف هل الحق ما قاله الإمام يحيى أو ما قاله عيره من أهل العلم، فالواجب عليك رد هذا الاختلاف إلى ما أمرنا الله بارد إليه، وهو كتاب الله، وسنة رسوله. فإن قلت: بين لي العمل في هذا الرد حتى تتم الفائدة، ويتضح [المحق] (¬5) من غيره، والمصيب من المخطئ في هذه المسألة. قلت: افتح لما أقوله سمعا، واشحذ له فهما، وأرهف له ذهنا. وها أنا أوضح لك الكيفية المطلوبة، وأبين لك مالا يبقي عندك بعده [7] ريب، ولا يصاحب ذهنك ¬

(¬1) " الغيث المدرار المفتح لكمائم الأزهار " نأليف الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضي الحسني. شرح على كتاب المؤلف: " الأزهار في فقه الأئمة الأطهار " في أربع مجلدات وقد تحدث فيه عن كل المسألة وردت في الأصل مع ذكر الأدلة والأقوال. " مؤلف الزيدية " (2 رقم 3330). (¬2) في (أ) لهذا. (¬3) تقدم مناقشة ذلك. (¬4) في (ب) فإذا. (¬5) في (ب) الحق.

وفهمك عنده لبس. فأقول: قال الله - سبحانه -: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا): (¬1) فهذه الآية فيما الإيجاب على العباد بالائتمار [لما] (¬2) أمر به رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والأخذ به، لما نهى عنه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتركه. وقال الله سبحانه: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (¬3) ففي هذه الآية تعليق محبة الله الواجبة على كل عند من عباده باتباع رسول [وأن] (¬4) ذلك هو المعيار الذي نعرف به محبة العبد لربه على الوجه المعتبر. وأنه أيضًا السبب الذي يستحق به العبد أن يحبه الله. وقال الله سبحانه: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) (¬5) ففي هذه الآية أن طاعة الرسول طاعة الله. وقال [تعالى] (¬6): (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (¬7) فأوجب هذه السعادة لمن أطاع الله ورسوله، وهي أن يكون مع هؤلاء أرفع العباد درجة، وأعلاهم منزلة. ¬

(¬1) [الحشر: 7]. (¬2) في (ب): (بما). (¬3) [آل عمران:31]. (¬4) في (ب) فإن. (¬5) [النساء: 80]. (¬6) زيادة من (ب). (¬7) [النساء: 69]

وقال [عز وجل] (¬1): (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) (¬2) وقال سبحانه: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (¬3). وقال سبحانه [وتعالى]: (¬4) (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (¬5). وأمر الله سبحانه رسوله أن يقول: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) (¬6) والآيات الدالة على هذا المعنى والجملة أكثر من ثلاثين: (¬7) آية، [ويستفاد] (¬8) من [8] جميع ما ذكرناه أنما أمر به رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. أو نهى عنه كان الأخذ به واتباعه واجبا بأمر الله - سبحانه -، وكانت الطاعة لرسول الله [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (¬9) في ذلك طاعة لله، وكان الأمر من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أمرا من الله. ¬

(¬1) زيادة من (ب). (¬2) [النساء 13: 14] (¬3) [النور: 52] (¬4) زيادة من (ب). (¬5) [النور: 54] (¬6) [آل عمران: 50] (¬7) (منها): قوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [آل عمران: 132]. (ومنها): قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء: 59]. (ومنها): قوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الأنفال: 1] (ومنها) قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) [الأنفال: 20] (¬8) في (ب) مستفاد. (¬9) زيادة من (ب).

وسنوضح لك ما صح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في غير حديث النهي عن رفع القبور، والبناء عليها، ووجوب تسويتها، وهدم ما ارتفع منها. ولكنا ها هنا نبتدي بذكر أشياء في حكيم التوطية والتمهيد لذلك، ثم ننتهي- أن شاء الله - إلى ذكر ما هو المطلوب حتى يعلم من اطلع على هذا البحث أنه إذا وقع الرد لما قاله الإمام يحيى، وما قاله غيره في القباب والمشاهد إلى ما أمر الله بالرد إليه، وهو كتاب الله - سبحانه -، وسنة رسول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان في ذلك ما يشفي ويكفي، ويقنع ويغني ذكر بعضه فضلا عن ذكر جميعه. وعند ذلك يتبين لكل من له فهم ما في رفع القبور من الفتنة العظيمة لهذه الأمة، ومن المكيدة البالغة التي كان همزة الشيطان بها، وقد كاد بها من كان قبلهم من الأمم السالفة كما حكى الله - سبحانه وتعالى - ذلك في كتانه العزيز. وكان أول ذلك قوم نوح. قال الله - سبحانه -: (قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا) (¬1) قال جماعة من السلف الصالح (¬2): أن يعوق ويغوث ونسرا كانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم قوم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم [9]- الذين كانوا يقتدون بهم -: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم: (¬3) فلما ماتوا وجاء آخرون [3ب] دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم [وهم] (¬4) يسقون المطر فعبدهم، ثم العرب بعد ذلك. وقد حكى ¬

(¬1) [نوح 21: 24] (¬2) انظر " تفسير القرآن العظيم " (8) لابن كثير. " جامع البيان " لابن جرير الطبري (14 /ج29 - 100). " تفسير القرآن العظيم " لأبي حاتم (10 - 3376). (¬3) (انظر الرسالة رقم (172) بعنوان " بحث في التصوير " من " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني ". (¬4) في (ب) وبهم.

معنى هذا في الصحيح البخاري (¬1) عن ابن عباس. وقال قوم السلف (¬2) إن هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدهم، ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين: (¬3) وغيرهما (¬4) وهو حديث صحيح. عن عائشة - رضي الله عنها - أن أم سلمة - رضي الله عنها - ذكرت لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كنيسة وأتها بأرض الحبشة، وذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - " أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح، أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله ". وأخرج ابن جرير في تفسير (¬5) قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) (¬6) قال: " كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره ". وفي صحيح ....................................... ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4920) عن ابن عباس رضي الله عنهما: " صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ود فكان لكلب بدومة الجندل، أما سواع فكانت لهذيل، أما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبا، أما يعوق فكانت لهمدان، أما نسرا فكانت لحمير لآل ذي الكلاع أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت ". (¬2) أخرجه ابن كثير في تفسيره (8). وابن جرير الطبري في جامع البيان (14 /ج29 - 99). كلاهما عن محمد ابن قيس. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1341) وأطرافه (427، 434، 3873) ومسلم في صحيحه رقم (528). (¬4) كالنسائي (2 رقم 2704) وأبو عوانة (1 - 401) (¬5) (13 /ج27). (¬6) [النجم: 19]

مسلم (¬1) عن جندب بن عبد الله البجلي قال: رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يموت بخمس يقول: " ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخدوا القبور مساجد؛ فإن أنهاكم عن ذلك ". وفي الصحيحين (¬2) من حديث عائشة [رضي الله عنها] (¬3) قالت: لما نزل برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - طفق يطرح [10] خميصة (¬4) على وجهه، فإذا اغتم كشفها فقال - هو كذلك -: " لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. يحذر ما صنعوا ". وفي الصحيحين (¬5) مثله أيضًا من حديث ابن عباس. وفيهما (¬6) أيضًا من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " قاتل الله واليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ". وفي الصحيحين (¬7) من حديث عائشة -رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله ¬

(¬1) رقم (23). قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (5): إنما نهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجدا خوفا من المبالغة في تعظيمه والافتتان به فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (435، 346) وأطرافه (5816، 5815، 4444، 4443، 4441، 3454، 3453، 1390، 1330). ومسلم في صحيحه رقم (22). (¬3) زيادة من (أ). (¬4) قال في النهاية (2): الخميصة ثوب خز أو صوف معلم، وقيل لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة، وكانت من لباس قديما وجمعها الخمائص. وقال القرطبي في " المفهم " (2) الخميصة: كساء له أعلام. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (436، 435) ومسلم رقم (22). (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه وقم (437) ومسلم رقم (530). (¬7) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1330) ومسلم رقم (19). قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3227) والنسائي (4 رقم 2074) وأحمد (2) وأبو عوانة (1) والبيهقي (4).

- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في مرضه الذي لم يقم منه -:" لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "ولولا ذلك لبرز قبره] صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ] (¬1)، غير أنه خشي أن يكون مسجداً (¬2) وأخرج الإمام أحمد في مسنده (¬3) بإسناد جيد من حديث عبد الله بن مسعود أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " إن شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد ". وأخرج أحمد (¬4) وأهل ............................................. ¬

(¬1) زيادة من (أ) (¬2) قال القرطبي في"المفهم" (2) ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأعلوا حيطان تربته، وسدوا المداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة، إذ كان مستقبل المصلين - فتتصور الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشمالين وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلث من ناحية الشمال، حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره. كان ذلك قديما فقد طرأ عليه تغيير وتعديل في العصر المملوكي ثم العثماني بحيث أصبح القبر حجرة مربعة تعلوه القبة الخضراء، فمن صلى خلف الحجر لم يكن مستقبلا القبر لوجود الساتر. وهو الآن كذلك. (¬3) في المسند (1، 435). قلت: أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (3) وابن خزيمة في صحيحه (2 - 7 رقم 789) والطبري في الكبير (10 رقم 10413) من طرق عاصم عن شقيق بن سلمة عن عبد الله بن مسعود، وعاصم صدوق. فالحديث حسن. وأخرجه أحمد (1) وفي سنده " قيس بن الربيع " لا بأس به في الشواهد والمتابعات. وأصل الحديث في البخاري رقم (7067) بدون الزيادة وهي " والذين يتخذون القبور مساجد ". (¬4) في المسند (186، 184). وأورد الهيثمي في " المجمع " (2) وقال: رواه الطبري في الكبير (5 رقم 4907) ورجاله موثقون. ولم يعزن للإمام أحمد. وتعقب بأن في سند " عقبة بن عبد الرحمن وهو ابن أبي معمر " وهو مجهول. انظر " التقريب " (2 رقم 244). وهو حديث حسن بشواهده.

السنن (¬1) من حديث زيد بن ثابت أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها مساجد والسرج ". وفي صحيح مسلم (¬2) وغيره (¬3) عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب -رضي الله عنه -[4أ]: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن لا أدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته ". وفي صحيح مسلم (¬4) أيضًا عن ثمامة بن صفي نحو ذلك. وفي هذا أعظم دلالة على أن تسوية كل قبر مشرف بحيث يرتفع زيادة على القدر المشروع واجبة متحتمة، فمن إشراف القبور أن [يرتفع] (¬5) [11] سمكها، أو تجعل عليها القباب، أو المساجد؛ فإن ذلك من المنهي عنه بلا شك ولا شبهة. ولهذا أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بعث لهدمها أمير المؤمنين - رضي الله عنه -، ثم إن أمير المؤمنين لهدمها أبا الهياج الأسدي ¬

(¬1) أخرجه أبو داود رقم (3236) والترمذي رقم (320) وقال حديث حسن. والنسائي (4 رقم 2043) من حديث ابن عباس وهو حديث حسن بشواهده ما عدا لفظ (السرج). انظر الإرواء (3) والضعيفة رقم (225) (¬2) رقم (93). (¬3) كأبي داود رقم (3218) والترمذي رقم (1049) والنسائي (4 رقم 2031) وأحمد (1/ 89). وهو حديث صحيح. (¬4) رقم (92). وأخرجه أبو داود رقم (3219) والنسائي (4 رقم 2030) وأحمد (1) وهو حديث صحيح. (¬5) في (ب) يرفع.

في أيام خلافته. وأخرج أحمد (¬1)، ومسلم (¬2)، والترمذي (¬3)، الترمذي (¬4) وصححه، النسائي (¬5)، وابن حبان (¬6) من حديث جابر قال: " نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن يجصص القبر، وأن يبني عليه، وأن يوطأ " وزاد هؤلاء المخرجون لهذا الحديث غير مسلم: " وأن يكتب عليه "، قال الحاكم (¬7): النهي عن الكتابة على القبور، وهو يصدق على من بنى على جوانب حفرة القبر كما يفعله كثير من الناس من رفع قبور، وهو يصدق على من بنى على جوانب حفرة القبر كما يفعله كثير من الناس من رفع قبور الموتى ذراعا فما فوقه، ويصدق على من بنى قريبا من قتة، أو مسجد ا، أو مشهدا ويصدق أيضًا على من بنى بعيدا من جانب القبر كذلك كما في القباب والمسجد (¬8) والمشاهد الكبيرة على وجه يكون القبر في وسطها، أو في جانب منها؛ فإن هذا بناء على القبر، لا يحفى ذلك على من له أدنى فهم كما يقال: بنى السلطان على مدينة كذا، أو على قرية كذا سورا، وكما يقال بنى فلا ن في المكان الفلاني مسجدا، مع أن ¬

(¬1) في المسند (3). (¬2) في صحيحه رقم (94) (¬3) في "السنن" رقم (3226، 3225). (¬4) في "السنن" رقم (1052). (¬5) في "السنن" رقم (2029). (¬6) في صحيحه رقم (3164، 3163و3162) وهو حديث صحيح. قال القرطبي في " المفهم " (2) ووجه النهي عن البناء والتجصيص في القبور. أن ذلك مباهاة واستعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة، وتشبه بمن كان يعظم القبر ويعبدها وباعتبار هذه المعاني، وبظاهر هذا النهي ينبغي أن يقال: هو حرام. (¬7) في المستدرك (1). (¬8) في هامش (أ) ما نصه: " ولأنه لا يمكن أن يجعل نفس القبر مسجدا بذلك مما يدل على أن المراد ما يقربه مما يتصل به.

سمك البناء لم يباشر إلا جوانب المدينة أو القرية أو المكان. ولا فرق بين أن تكون تلك الجوانب التي وقع وضع البناء عليها [12] قريبة من الوسط كما في المدينة الكبيرة والقرية الكبيرة والمكان الواسع. ومن زعم أن في لغة العرب (¬1) ولا يمنع من هذا الإطلاق فهو لا يعرف لغة العرب، ولا يفهم لسانها، ولا يدري [بما] (¬2) استعمله في كلامها. وإذا تقرر لك هذا علمت أن رفع القبور، ووضع القباب والمساجد والمشاهد عليها قد لعن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فاعله تارة كما تقدم، وتارة قال: [4ب] " اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " فدعى عليهم بأن يشتد غضب الله عليهم بما فعلوه من هذه المعصية، وذلك ثابت في الصحيح (¬3)، وتارة نهى عن ذلك، وتارة بعث من يهدمه، وتارة جعله من فعل اليهود والنصارى، وتارة قال: " لا تتخذوا قبري وثنا " (¬4) وتارة قال: "لا تتخذوا قبري عيدا " أي موسما يجتمعون فيه كما صار [يفعله كثير] (¬5) من عباد القبور، يجعلون لمن يعتقدونه من الأموات أقاتا معلومة يجتمعون عند قبورهم، ويعكفون عليها كما يعرف ذلك كل أحد من الناس من أفعال هؤلاء المخذولين الذين تركوا عبادة الله الذي خلقهم ورزقهم، ثم يميتهم ويحييهم، وعبدوا عبدا من عباد الله قد صار تحت أطباق الثرى، لا يقد على أن يجلب لنفسه نفعا، ولا يدفع عنها ضرا كما قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فيما أمره الله أن يقول: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا) (¬6). فانظر ¬

(¬1) انظر تفصيل ذلك في " الخصائص " لابن جني (2 - 313). (¬2) في (ب) ما. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) في (ب) كثير يفعله. (¬6) [الأعراف: 188]

كيف [13] قال سيد البشر، وصفوة الله من خلقه في أنه لا يملك لنفسه لا ضرا ولا نفعا، وكذلك قال في صح (¬1) عنه: " يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئا " فإذا كان هذا قول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في نفسه، وفي أخص قرابته به، وأحبهم إليه، فما ظنك بسائر الأموات الذين لم يكونوا أنبياء معصومين، ولا رسلا مرسلين! بل غاية ما عند أحدهم أنه فرد من أفراد هذه الأمة المحمدية، وواحد من أهل هذه الملة الإسلامية، فهو أعجز وأعجز عن أن ينفع نفسه، أو يدفع عنها ضررا. وكيف لا يعجز عن شيء قد عجز عنه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وأخبر أمته كما أخبر الله عنه، وأمره بأن يقول للناس بأنه لا يملك لنفسه [شيئا من ضر ولا نفع] (¬2)، وأنه لا يغني عن أخص قربيه من الله شيئا! فيا عجبا كيف يطمع من له أدنى نصيب من علم، وأقل حظ من عرفان أن ينفعه أيضره أنه فرد من التابعين له، المقتدين [يشرعه] (¬3)، فهل سمت أذناك أرشدك الله بضلال عقل أكبر من هذا الضلال الذي وقع فيه أهل القبور!؟ (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (¬4). وقد أوضحنا هذا أبلغ إيضاح في رسالتنا سميناها " الدر النضيد في إخلاص التوحيد " (¬5) وهي موجودة بأيدي الناس، [فلا] (¬6) شك ولا ريب أن السبب الأعظم الذي نشأ عنه هذا الاعتقاد في الأموات هو ما زينه الشيطان للناس من رفع القبور، ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4771) ومسلم رقم (348) من حديث أبي هريرة وهو جزء من حديث طويل. (¬2) في (ب) لا ضرا ولا نفعا. (¬3) في (ب) بشريعته. (¬4) [البقرة: 156] (¬5) انظرها فهي ضمن " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني " رسالة رقم (4). (¬6) في (ب) ولا.

ووضع الستور عليها وتجصيصها وتزيينها بأبلغ زينة، وتحسينها بأكمل [14] تحسين. فإن الجاهل إذا وقعت عينه على قبر من القبور قد بنيت عليه قبة فدخلها ونظر على القبر الستور الرائعة، والسرج المتلألئة، وقد صدعت حوله مجامير الطيب، فلا شك ولا ريب أنه يمتلئ قلبه تعظيما لذلك القبر، ويضيق ذهنه عن تصور ما لهذا الميت من المنزلة، ويدخله من الروعة والمهابة ما يزرع في قلبه من العقائد الشيطانية التي هي من أعظم مكايد الشيطان للمسلمين، وأشد وسائله إلى إضلال العباد ما يزلزله عن الإسلام قليلا قليلا، حتى يطلب من صاحب [ذلك] (¬1) القبر (¬2) مالا يقد عليه إلا الله - سبحانه - فيصير في عداد المشركين. وقد يحصل له هذا الشرك بأول رؤية لذلك القبر الذي صار على تلك الصفة، وعند أول زورة له (¬3)، لأنه يخطر بباله أن هذه العناية البالغة من الأحياء [بمثل] (¬4) هذا الميت لا يكون إلا لفائدة يرجونها منه، إما دنيوية أو أخروية، ويستصغر نفسه بالنسبة إلى من يراه زائرا لذلك القبر، وعاكفا عليه، [ومتمسحا] (¬5) بأركانه. وقد يجعل الشيطان طائفة من إخوانه من بني آدم يقفون على ذلك القبر (¬6) ليخادعوا ¬

(¬1) زيادة من (أ). (¬2) انظر الرسالة رقم (1) بعنوان " أسئلة وأجوبة عن قضايا التوحيد والشرك " ضمن " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني ". (¬3) انظر: " مظاهر الانحرافات العقدية " (3 وما بعدها). تأليف: إدريس محمود إدريس. " إغاثة اللهفان " (1) لا بن القيم. (¬4) في (ب) لمثل. (¬5) في (ب) ومقيما. (¬6) لذلك نقدم تلخيص وفوائد من الأحاديث التي تقدمت في البحث: 1 - تحريم الغلو في الصالحين، وأن هذا الغلو هو سبب الشرك في بني آدم من عصر نوح عليه السلام إلى يوم القيامة. 2 - أن من أعظم أسباب الغلو في الصالحين والعظماء تصويرهم وإقامة المشاهد والمساجد على قبورهم. 3 - تحريم بناء المساجد على القبور ولو كانت قبور أنبياء أو صالحين توقيعا للوقوع في الشرك. 4 - أن اتخاذ القبور مساجد من فعل اليهود والنصارى الملعونين. 5 - أن ذلك من الفعل موجب للعنة الله عليهم وعلى من حذا حذوهم وفعل مثل فعلهم من هذه الأمة. 6 - تحذير النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمته من الوقوع فيما وقع فيه اليهود لئلا يفعلوا كفعلهم. 7 - إخباره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن الذين يتخذون القبور مساجدهم شرار الخلق عن الله يوم القيامة. 8 - أن السبب في عدم إظهار قبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو خشية أن يتخذ مسجدا. 9 - أن من توخى الصلاة عند قبور الأنبياء والصالحين أو إليها أو الدعاء عندها ونحو ذلك فقد اتخذها مساجد ووقع في المحظور. 10 - وجوب هدم كل قبر مشرف وكل مشهد مرفوع وكل أثر مقدس يفضي إلى الغلو وتعدي حدود الله. 11 - أن نصب الخيام والفساطيط على القبور بدعة من البدع المحدثة في الإسلام وكان المقصود منها نفع الميت لا انتفاع الأحياء منه أو بواسطته خلافا لما حدث بعد ذلك نم الافتتان بالقبور وقصدها بالصلاة والطواف والتوسل والاستعاثة والدعاء، لأن الصحابة أنكروا ذلك على من فعله من العامة وبينوا لهم أن الميت إنما ينفعه عمله وليس لتظليله بالخيام أية فائدة. 12 - أن الحكم بتحريم اتخاذ القبور مساجد حكم محكم باق غير منسوخ إلى يوم القيامة، حيث ورد في هذه الأحاديث ما يفيد أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينطق بذلك النهي وهو في اللحظات الأخيرة من حياته المباركة: - تقدم في حديث " قال في مرضه الذي لم يقم منه " - وفي حديث آخر - تقدم - أنه نهى عن ذلك" قبل أن يموت بخمس ". وقال الحافظ في " الفتح " (1 أثناء شرح الحديث رقم 435): " وكأنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم أنه مرتحل من ذلك المرض فخاف أن يعظم قبره كما فعل من مضى، فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذم من يفعل فعلهم ". وانظر: " مجموع الفتاوى " (27) لابن تيمية. " مجموعة الرسائل).

من يأتي إليها من الزائرين، ويهولون الأمر، ويصنعون أمورا من أنفسهم [5ب] وينسبونها إلى الميت وجه لا يفطن لها من كان من المغفلين. وقد يضعون أكاذيب

مشتملة على أشياء يسمونها كرامات لذلك الميت، ويبثونها في الناس، ويكررون ذكرها في [15] مجالسهم، وعند اجتماعهم بالناس، فتشيع وتستفيض، يتلقاها من يحسن الظن بالأموات، زيقبل عقله ما يروى عنهم من الأكاذيب، فيرويها كما سمعها، ويتحدث بها في مجالسه، فيقع الجهال في بلية عظيمة من الاعتقاد، وينذرون على ذلك الميت بكرائم أموالهم، ويجسون على قبره من أملاكهم ما هو أحبها إلى قلوبهم، لاعتقادهم أنهم ينالون بذلك يجاه ذلك الميت خيرا عظيما، وأجرا بليغا. ويعتقدون أن ذلك قربة عظيمة، وطاعة بالغة، وحسنة متقبلة، فيحصل بذلك مقصود أولئك الذين جعلهم الشيطان من إخوان من بني آدم على ذلك القبر، فإنهم إنما فعلوا تلك الأفاعيل، وهولوا على الناس بتلك التهاويل، وكذبوا لينالوا جانبا من الحطام من أموال الطغام الأغنام. وبهذه الذريعة الملعونة، والوسيلة الإبليسية تكاثرت الأوقاف على القبور، وبلغت مبلغا عظيما، حتى بلغت غلات ما يوقف على المشهورين منهم ما لو جمعت لقامت بما يقتاته أهل قرية كبيرة من قرى المساكين (¬1)، ولو بيعت تلك الحبائس الباطلة لأغنى الله بها طائفة عظيمة من الفقراء، وكلها من النذر في معصية الله. (¬2) وقد صح عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لا نذر في معصية الله " (¬3) وهى أيضًا من النذر الذي لا يبتغى به وجه الله. وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " النذر ما ابتغي به وجه الله " (¬4) بل كلها من النذور التي يستحق بها فاعلها ¬

(¬1) نعم النذر للأضرحة إضاعة المال ووضع له في غير موضعه، وذلك وجه آخر من أوجه تحريمه ومقتضى من مقتضياته. (¬2) نعم النذر للأضرحة إضاعة المال ووضع له في غير موضعه، وذلك وجه آخر من أوجه تحريمه ومقتضى من مقتضياته. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1641) وأبو داود رقم (3316) والنسائي رقم (3840) وابن ماجه رقم (2124) كلهم من حديث عمران - رضي الله عنه - وهو حديث صحيح. وأخرجه أبو داود رقم (3292) والترمذي رقم (1524) والنسائي رقم (3833) من حديث عائشة - رضي الله عنها - وهو حديث صحيح. (¬4) أخرجه أحمد (14 رقم 71 - الفتح الرباني) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وأخرجه أيضًا أبو داود رقم (3273) بإسناد حسن.

غضب الله وسخطه، لأنها تفضي بصاحبها في الغالب إلى ما به الاعتقاد [16] في الأموات من تزلزل قدم الدين إذ لا يسمح [بأحب] (¬1) أمواله إليه، وألصقها بقلبه، إلا وقد زرع الشيطان في قلبه من محبة ذلك القبر وصاحبه، والمغالاة في الاعتقاد فيه مالا يعود به إلى الإسلام سالما - نعوذ بالله من الخذلان- ولا شك أن غالب هؤلاء المغرورين المخدوعين لو طلب منه طالب أن ينذر بذلك الذي نذر به لقبر [6 أ] الميت على ما هو طاعة من الطاعات، وقربة من القربات لم يفعل، ولا كاد (¬2) فانظر إلى أين بلغ تلاعب الشيطان بهؤلاء! وكيف رمى بهم في هوة بعيدة القعر، مظلمة الجوانب! فهذه مفسدة من مفاسد رفع القبور، وتشييدها، وزخرفتها، وتجصيصها. ومن المفاسد البالغة إلى حد يرمي بصاحبه إلى وراء حائط الإسلام، ويلقيه على أم رأسه من أعلى مكان من الدين أنه يأتي كثير منهم بأحسن ما يملكه من الأنعام، ويجوزه من المواشي، فينحره عند ذلك القبر (¬3)، مقتربا به إليه، راجيا ما يضمر حصوله له منه، فيهل به لغير الله، ويتعبد به لوثن من الأثان، فإنه لا فرق بين نحر النحائر كحجر منصوبة يسمونها وثنا، وبين قبرلميت يسمونه قبرا. ومجرد الاختلاف في التسمية لا يغني من الحق شيئا، ولا يؤثر تحليلا ولا تحريما، فان من أطلق على الخمر غير اسمها وشربها ¬

(¬1) في (ب) (بلعب). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6608) ومسلم رقم (2) وأبو داود رقم (3287) والنسائي (7 رقم 3801) وابن ماجه رقم (2122). عن ابن عمر قال: " نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن النذر، وقال: إنه لا يرد شيئا وإنما يستخرج به من مال بخيل ". قال ابن تيمية في " مجموع فتاوى " (11): أما النذر للموتى من الأنبياء والمشايخ وغيرهم أو لقبورهم أو المقيمين عند قبورهم فهو نذر شرك ومعصية لله تعالى سواء كان النذر نفقة أو ذهبا أو غير ذلك وهو شبيه بمن ينذر للكنائس والرهبان وبيوت الأصنام ". (¬3) انظر الرسالة: " كنت قبوريا " (ص15 - 28).

كان حكمه حكم من شربها وهو يسمها بلا خلاف بين المسلمين أجمعين، ولا شك أن النحر نوع من أنواع العبادة (¬1) التي تعبد الله بها كالهدايا، والفدايا، والضحايا، فالمتقرب بها إلى القبر، الناحر لها عنده لم يكن له غرض بذلك إلا تعظيمه وكرامته، واستجلاب الخير منه، واستدفاع الشر به (¬2). وهذه عبادة وكفاك من شر سماعه. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (¬3). وبعد [17] هذا كله أن ما سقناه من الأدلة، وما هو كالتوطئة لها، وما هو كالخاتمة التي تختم بها البحث يقضي أبلغ قضاء، ويدل أوضح دلالة ويفيد أجلى مفاد أن ما رواه صاحب البحر (¬4) عن الإمام يحيى غلط من أغاليط العلماء، وخطأ من جنس ما يقع المجتهدين، وهذا شأن البشر، والمعصوم من عصمه الله (¬5) وكل عالم يؤخذ من قوله ويترك مع كونه - رحمه الله - من أعظم الأئمة إنصافا، ¬

(¬1) "في هامش (أ): والنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " لا عقر في الإسلام " قال عبد الرزاق - في مصنفه (3 رقم 6690) - كانوا يعقرون عند القبر يعني بقرة أو شياها. رواه أبو داود في " السنن (3222) بإسناد صحيح من حديث أنس. (¬2) قال الغزالي في " عقيدة المسلم " (ص77): " أليس من المضحك أن تستنجد بقوم يطلبون لأنفسهم النجدة وأن تتوسل بمن يطلب هو كل وسيلة ليستفيد خيرا أو ليدفع شرا؟ قال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ) [الإسراء: 57]. (¬3) [البقرة: 156] (¬4) (2 - 132). (¬5) عن مالك قال: " ليس أحد بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا يؤخذ من قوله ويترك ألا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أخرجه ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " (2) وابن حزم في " الإحكام " (6 - 146) من قول الحكم بن عتيبة ومجاهد. وقيل أنه من قول ابن عباس أخذها مجاهد. وأخذها مالك - رضي الله عنه - منها. "الفتاوى" السبكي (1).

وأكثرهم تحريا للحق، وإرشادا إليه، وتاثيرا له، ولكنا لما رأنياه قد خالف من عداه بما قاله من جواز بناء القباب على القبور ردنا هذا الاختلاف إلى ما أوجب الله الرد إليه، وهو كتاب الله وسنة رسوله، [فوجنا] (¬1) في ذلك ما قدمنا ذكره من الأدلة الدالة أبلغ [6ب] دلالة، والمنادية بأعلى صوت بالمنع من ذلك، والنهي عنه، واللعن لفاعله، والدعاء عليه [واشتداد] (¬2) غضب الله عليه مع ما ذلك من كونه ذريعة إلى الشرك، ووسيلة إلى الخروج من الملة كما أوضحنا. فلو كان القائل بما قال الإمام يحيى بعض الأمة أو أكثرها لكان قولهم رد عليهم كما قدمناه في أول هذا البحث، فكيف والقائل به فرد من أفرادهم! وقد صح عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد " (¬3) ورفع القبور وبناء القباب عليها ليس عليه أمر رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كما عرفناك بذلك، رد على قائلة، أي مردود عليه. والذي شرع للنا س هذه الشريعة الإسلامية هو الرب -سبحانه - بما أنزل في كتابه، وعلى لسان رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فليس لعالم وإن بلغ من العلم إلى أرفع رتبة وأعلى منزل -أن يكون بحيث يقتدي به فيما خالف الكتاب والسنة أو أحدهما، بل ما وقع منه الخطأ بعد توفية الاجتهاد حقه يستحق به أجرا، ولا يجوز لغيره أن يتابعه [عليه] (¬4). وقد أوضحنا هذا في أول البحث بما لا يأتي التكرار له بمزيد فائدة. وأما ما استدل به الإمام يحيى - رحمه الله -[حيث قال] (¬5): لا ستعمال المسلمين ¬

(¬1) في (ب) فوجد. (¬2) في (ب) باشتداد. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2697) ومسلم رقم (1718) عن عائشة مرفوعًا بلفظ: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ". وقد تقدم مرارا. (¬4) زيادة من (ب). (¬5) في (ب) من قوله.

ولم ينكروه. فاعلم أن هذا الاستدلال مدفوع؛ فإن هذه الأدلة التي سقناها على ما فيها نم التكاثر والتوفر ما زالت مروية في مجامع المسلمين، ومدارسهم، مجالس حفاظهم، ويرويها الآخر عن الأول، والصغير عن الكبير، والمتعلم عن العالم من لدن أيام الصحابة إلى هذه الغاية، وأوردها المحدثون في كتبهم المشهورة من الأمهات والمسندات والمصنفات. وأوردها المفسرون في تفاسيرهم (¬1)، وأهل الفقه في كتبهم الفقهية (¬2) وأهل الأخبار والسير في كتب الأخبار والسير، فكيف يقال إن المسلمين لم ينكروا على من فعل ذلك! وهم يرون أدلة النهي عنه، وللعن لفاعله [والدعاء عليه] (¬3) خلفا عن سلف في كل عصر، ومع هذا فلم يزل علماء الإسلام منكرين لذلك، مبالغين في النهي عنه. وقد حكى ابن القيم (¬4) عن شيخه شيخ الإسلام [7أ] تقي الدين، وهو الإمام المحيط بمذاهب سلف هذه الأمة وخلفها أنه قد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد على القبور. ثم قال ك وصرح أصحاب أحمد (¬5) ومالك (¬6) ............................. ¬

(¬1) انظر" روح المعاني" للآلوسي (15 - 238). (¬2) " المجموع " للنووي (5 - 317). " تحذير الساجد من اتخاذ السرج مساجد " للمحدث الألباني " مجموع الفتاوى " لابن تيمية (10) و (11). (¬3) زيادة من (ب). (¬4) انظر " إغاثة اللهفان " (1). " زاد المعاد " (3). (¬5) قال ابن قدامة في " المغني " (2 - 388): ولا يجوز اتخاذ السرج على القبور لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر الحديث. ثم قال: " ولو أبيح لم يلعن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من فعله، ولأن فيه تضييعا للمال في غير فائدة وإفراطا في تعظيم القبور، أشبه تعظيم الأصنام ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ". تقد الحديث متفق عليه. (¬6) قال في " المدونة " (1): وقال مالك: أكره تجصيص القبور والبناء عليها، وهذه الحجارة التي يبني عليها ". وقال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (10): فاتخاذ المساجد على القبور والصلاة فيها والبناء عليها إلى غير ذلك مما تضمنته السنة من النهي عنه ممنوع لا يجوز ". ثم (10): وقال علماؤنا: يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد ".

والشافعي (¬1) بتحريم ذلك، وطائفة أطلقت الكراهة (¬2) لكن ينبغي أن يحمل على كراهة التحريم إحسانا للظن بهم، وأن لا بهم أن يجوزا ما تواتر عنه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لعن فاعله، والنهي عنه انتهي. فانظر كيف حكى التصريح عن عامة الطوائف! وذلك يدل على أنه إجماع من أهل العلم على اختلاف طوائفهم، ثم بعد ذلك جعل أهل ثلاث مذاهب مصرحين بالتحريم، وجعل طائفة مصرحة بالكراهة، وحملها على كراهة التحريم، فكيف يقال بأن بناء القباب والمشاهد لم ينكره أحد!. ثم انظر كيف يصبح استثناء أهل الفضل برفع على قبورهم! وقد صح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كما قدمنا أنه قال: أولئك إذا مات فيهم العبد الصالح، أو الرجل الصالح [19] بنوا على قبره مسجد " (¬3) ثم لعنهم لهذا السبب ¬

(¬1) قال النووي في " المجموع " (5): " واتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على كراهة بناء مسجد على القبر سواء كان الميت مشهورا بالصلاح أو غيره لعموم الأحاديث. وقال الشافعي والأصحاب: وتكره الصلاة إلى القبور سواء كان الميت صالحا أو غيره ". (¬2) قال الإمام محمد ابن الحسن: " لا نر أن من يزاد على ما خرج من القبر ونكره أن يجصيص أو يطين أو يجعل عنده مسجد ". " كتاب الآثار " (ص45). وإذا أطلقت الكراهة عند المتقدمين فمعناه التحريم. وذكر عن أبي يوسف أنه كره رش القبر بالماء، لأنه يجري مجرى التطيين وهل هذا منهم إلا اتباع ما عليه السلف الصالح من ترك تعظيم القبور التي هي من أعظم الوسائل إلى الشرك. انظر: " النبذة الشريفة النفيسة " (ص138). (¬3) تقدم تخريجه.

فكيف يسوغ [من يستثنى] (¬1) أهل الفضل بفعل هذا المحرم الشديد على قبورهم! مع أن أهل الكتاب الذين لعنهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وحذر الناس مما صنعوا لم يعمروا المساجد إلا على قبور صلحائهم، ثم إن هذا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - سيد البشر، وخير الخليقة، وخاتم الرسل، وصفوة الله من خله ينهى أمته أن يجعلوا قبره مسجدا، أو وثنا، أو عيدا، وهو القدوة لأمته، لأهل الفضل القدوة به والتأسي بأفعاله وأقوال الحظ الأوفر، و [هم] (¬2) أحق الأمة بذلك وأولاهم به، وكيف يكون فضل بعض الأمة وصلاحه مسوغا لفعل هذا المنكر على قبره! وأصل الفضل ومرجعه هو رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. وأي ينسب إلى فضله أدني نسبة! أو يكون له بجنبه أقل اعتبار! [فإن] (¬3) كان هذا محرما منهيا عنه، ملعونا فاعله في قبر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فما ظنك بغيره من أمته! وكيف يستقم أن يكون للفضل مدخل في تحليل المحرمات، وفعل المنكرات! اللهم غفرا. [كمل منقولا من تحرير مؤلفه العلامة البدر محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما - آمين]. (¬4) [والحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا طيبا مباركا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم آمين] (¬5) ¬

(¬1) في (ب) استثناء. (¬2) زيادة من (أ). (¬3) في (ب) فإذا. (¬4) زيادة من (أ). (¬5) زيادة من (ب).

جواب سؤالات وردت من تهامة

جواب سؤالات وردت من تهامة تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب على غلاف الرسالة ما نصه: " هذه السؤالات أرسل بها إلينا سيدي العلامة يوسف بن إبراهيم الأمير -عافاه الله - وذكر أنها مرسلة من تهامة طالبه للجواب مني عليها فأجبت بهذا الجواب ".

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: (جواب سؤالات وردت من تهامة). 2 - موضوع الرسالة: فقه. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الأكرمين وبعد: فإنها وردت إلي هذه الأبحاث النفيسة، وها أنا أذكر كل بحث منها ثم أتبعه بجوابه بمعونة الله عز وجل. 4 - آخر الرسالة:. .. ومتمسكون بما هو خارج عن مطلوبهم خروجا أوضح من شمس النهار، وعلى نفسها براقش تحني. وفي هذا المقدر كفاية لمن له هداية. انتهى الجواب والله الموفق للصواب. 5 - نوع الخط: خط رقعة. 6 - عدد الأوراق: 6 ورقات = 12 صفحة + صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 31 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات. 9 - الرسالة من المجلد الرابع من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الأكرمين وبعد: فإنها وردت إلي هذه الأبحاث النفيسة، وها أنا أذكر كل بحث منها ثم أتبعه بجوابه بمعونة الله - عز وجل -. قال السائل - كثر الله فوائده -: المبحث الأول: ما حقيقة السفر (¬1) الذي يقصر (¬2) فيه الصلاة؟ فإن قيل: الضرب ¬

(¬1) السفر لغة: قال الأزهري في " تهذيب اللغة " (1/ 402): سمي المسافر مسافرا لكشفه قناع الكن عن وجهه، ومنازل الحضر عن مكانه، ومنزل الخفض عن نفسه وبروزه إلى الأرض الفضاء. وسمي السفر سفرا لأنه يسفر عن وجوه المسافرين وأخلاقهم، فيظهر ما كان خافيا منه. السفير: الرسول المصلح بين القوم. وأسفر الصبح إسفارا: أضاء. ونجد أن المتتبع لمادة " سفر " أنها ذات معان متعددة منها: إن من معانيها: قطع المسافات، فالسفر ضد الحضر وهو مشتق من ذلك لما فيه من الذهاب والمجيء كما تذهب الرياح بالسفير من الورق وتجيء، أي بما أسقط من ورق الشجر وتحات. والجمع أسفار، ورجل سافر، ذو سفر، وقوم سافرة وسفر وأسفار وسفار بمعنى، وقد يكون السفر للواحد، قال الشاعر: عوجي علي فإنني سفر انظر: " لسان العرب " (4 - 368) " تاج العروس " (2) " مختار الصحاح " (ص300 - 301). السفر شرعا: اتفقت كلمة الفقهاء على أن السفر معناه شرعا: " قطع المسافات بنية السفر ". (¬2) والأصل في قصر الصلاة الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقد قال تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [النساء: 101] وأما السنة: فقد تواترت الأخبار، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقصر في الصلاة في أسفاره حاجا ومعتمرا، وغازيا. - سيأتي منها خلال الرسالة -. الإجماع: فقد أجمع أهل العلم على أن من سافر سفرا تقصر في مثله الصلاة في الحج، أو عمرة، أو جهاد، أن له أن يقصد الرباعية فيصليها ركعتين. " المغني " (3 - 105) " الأوسط " لابن المنذر (4) " الإجماع " (ص42 رقم 58) لابن المنذر.

المستوي فيه القصير والطويل كما نقل عن كثير من السلف فما حقيقته في عرفهم؟ هل إذا جاوز البنيان يسمى مسافرا عندهم يقصر ولو إلى بستانه القريب من العمران؟ وهل حكايتهم ذلك عن على - رضي الله عنه - فيما يروى عنهم صحيحة أم لا؟ وإن قيل له مسافة لا يجوز القصر فالمراد تحقيقها بالأدلة؟ وهل حقيقة السفر في القصر والصوم وسير المرأة واحد حتى يستدل لكل بما ورد في الآخرة؟ وفي البخاري (¬1) وسمى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - السفر يوما وليلة (¬2)، فهل سماه في غير سفر المرأة؟ فإن كان المراد إنما ¬

(¬1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري وقم (1088) ومسلم رقم (421) عن أبي هريرة قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة ". (¬2) فتح الباري (2 الباب رقم 4) في كم يقصر الصلاة؟ وسمى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوما وليلة سفرا. (منها): ما أخرجه البخاري في صحيحه (1087) و (1086) ومسلم رقم (413) وأبو داود رقم (1727). عن ابن عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تسافر المرأة ثلاثا إلا مع ذي محرم " وفي رواية " لا تسافر المرأة ثلاثا أيام إلا ومعها ذي محرم ". وفي رواية لمسلم (2 رقم 414): " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها ذو محرم ". وفي رواية لمسلم في صحيحه رقم (419) وأبو داود رقم (1723): لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو محرمة منها ". وفي رواية لمسلم في صحيحه رقم (420) وابن ماجه رقم (2899): " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر بسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم". وفي رواية لمسلم في صحيحه رقم (422): " لا يحل لامرأة أن تسافر ثلاثا إلا ومعها ذو محرم منها ". وأخرج البخاري في صحيحه رقم (1864) و (1197، 1995) ومسلم (415) و (416) عن قزعة مولى زياد، قال: سمعت أبا سعيد الخدري - وقد غزا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثنتي عشرة غزوة، قال: أربع سمعتهن من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوقال يحدثهن عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأعجبني وأتقنني: " أن تسافر امرأة مسيرة يومين ليس معها زوجها، أو ذو محرم. .. ".

هو في سفر المرأة الذي يشترط فقد سماه بغير ذلك انتهى. أقول: قد وقع الخلاف الطويل بين علماء الإسلام في مقدار المسافة التي يقصر فيها، وحكى ابن المنذر (¬1) في ذلك نحو عشرين قولا، أقل ما قيل في ذلك يوم وليلة، هكذا حكى. وفيه أنه ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن مسافة القصر يوم، وذهب آخرون إلى أنها بريد (¬2)، وذهب جماعة منهم ابن عمر كما روى ذلك عنه ابن أبي شيبة (¬3) بإسناد صحيح إلى أن أقل مسافة القصر ميل. وإلى ذلك ذهب ابن حزم (¬4)). (¬5): (5 (¬6) من أقوال الصحابة والتابعين والأئمة والفقهاء مذاهب كثير ة جدا. لا حاجة لنا هاهنا إلى تعداد المذاهب، لأن غرض السائل بيان ما هو الراجح في المسألة. ¬

(¬1) عزاه إليه الحافظ في " الفتح " (2). (¬2) ذكره ابن قدامة في " المغني " (3 - 106). البريد: أربعة فراسخ، وقيل فرسخان، وأصل الكلمة فارسية. وقيل: اثنا عشر ميلا، كل ثلاثة أميال فرسخ فيكون كما سبق أربعة فراسخ. وقدم تقديم تفصيل ذلك انظر " جامع الأصول " لابن الأثير (5 - 25) (¬3) انظر أقوال ابن عمر في " المصنف " (2 - 445). (¬4) في " المحلى " (5/ 8). (¬5) وذهب قوم إلى أنها ثلاثة أميال. وذهب آخرون إلى أنها ثلاثة فراسخ. فعلى هذا تكون الأقوال في هذه المسألة أكثر من عشرين قولا. وقد حكى ابن حزم في المحلى. (¬6) -10).

فاعلم أن بعض أهل العلم استدل على تقدير مسافة القصر - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في أسفاره، وبعضهم استدل بقوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا يحل لامرأة بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم " أخرجه الجماعة إلا النسائي (¬1). وفي رواية للبخاري (¬2): " لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذو محرم ". وفي رواية للبخاري (¬3): لا تسافر المرأة بريدا ". ولا حجة في جميع ذلك. (¬4) أما اقصره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في أسفاره فلعدم استلزام فعله لعدم الجواز فيما دون المسافة التي قصر فيها. وأما حديث: نهى المرأة عن أن تسافر ثلاثة أيام بغير ذي محرم، فغاية ما فيه إطلاق اسم السفر على مسيرة ثلاثة أيام، وهو غير مناف للقصر فيما دونها، وكذلك نهيها عن سفر اليوم والليلة والبريد، فالبريد لا ينافي جواز القصر في ثلاثة [ا أ] فراسخ، أو ثلاثة أميال، أو ميل. وأيضا هذا الحديث مسوق لبيان حكم آخر هو المقدار الذي يجب على المرأة أن تستصحب المحرم فيه، ويحرم عليها أن تسافر ذلك المقدار بدونه. ولا ملازمة بين هذا وبين مسافة القصر، لا عقلا، ولا شرعا، ولا عادة. وأما استدلال من استدل بحديث ابن عباس عن الطبراني (¬5) أنه - صلى الله عليه وآله ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1088) ومسلم رقم (421) وأبو داود رقم (1724) والترمذي رقم (1170) وقال حديث حسن صحيح ومالك في الموطأ (2 رقم 37) من حديث أبي هريرة وقد تقدم. (¬2) في صحيحه رقم (1087) ومسلم في صحيحه رقم (413) من حديث ابن عمر وقد تقدم. (¬3) في السنن رقم (1725) وهو حديث شاذ. (¬4) انظر " المحلى " (5 - 17). "المغني " (3 - 109). (¬5) في الكبير (1 رقم 1162). وأورده الهيثمي في " المجمع " (2) وقال الطبراني في الكبير من رواية ابن المجاهد عن أبيه وعطاء لم أعرفه وبقية رجاله ثقات. قلت: وأخرجه الدارقطني في السنن (1 رقم 1) والبيهقي في " السنن الكبرى " (3) وهو حديث ضعيف.

وسلم - قال: " يا أهل مكة، لا تقصروا في أقل من أربعة برد، من مكة إلى عسفان " (¬1) فلو ثبت لكان حجة قوية رافعة للخصام، لكن في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبير (¬2) وهو متروك. وقد نسبه بعض أهل العلم إلى الوضع. وقال الأذردي: لا تحل الرواية عنه. الراوي عنه إسماعيل بن عياش (¬3)، وهو ضعيف في الحجازيين وعبد الوهاب المذكور حجازي، والصحيح أنه موقوف على ابن عباس كما أخرجه عنه الشافعي (¬4) بإسناد صحيح، ومالك في الموطأ. (¬5) وقد استدل على تقدير مسافة القصر بما أخرجه أحمد (¬6)، مسلم (¬7) وأبو داود (¬8) عن ¬

(¬1) عسفان: بضم أوله، وسكون تائبه ثم فاء، وآخر نون، فعلان من عسفت المغازة، وهو يعسفها وهو قطعها بلا هداية ولا قصد. .. قال أبو منصور: عسفان منهلة من مناهل الطريق، بين الجحفة ومكة. وقال غيره: عسفان بين المسجدين. وهي من مكة على مرحلتين. " معجم البلدان " (4 - 122). (¬2) انظر: " الميزان " (2) " المجروحين " (2). (¬3) انظر: " تهذيب التهذيب " (1 رقم 164). (¬4) كما في بدائع المنن (1 رقم 338). (¬5) (1 رقم 9). (¬6) في المسند (3). (¬7) في صحيحه رقم (12). (¬8) في السنن رقم (1201). وهو حديث صحيح. الميل = 1848م. الفرسخ = 5544م.

شعبة، عن يحيى بن سويد الهنائي قال: سالت أنسا عن قصر الصلاة فقال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين. والذي وقع منه الشك هو شعبة الراوي للحديث، والمتيقن من هذا الحديث هو ثلاثة فراسخ، لأن الحديث متردد بينها وبين ثلاثة أميال، والثلاثة الأميال مندرجة في الثلاثة الفراسخ، فتوجه بالأكثر احتياطا. وهذا الحديث أصح ما ورد في التقدير وأصرحه (¬1) وقد حمله من خالفه على أن المراد المسافة التي يبتدأ منها القصر لا غاية السفر. أوجيب (¬2) عنه بأن يحيى بن يزيد الواوي عن أنس إنما سأله عن جواز القصر في السفر، لا عن الموضوع الذي يبتدأ القصر منه، فيكون هذا الحديث مقيدا لإطلاق اسم السفر في القرآن، ولسائر ما ورد من قصر - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في المواطن التي سافر إليها. ويؤيده أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج إلى البقيع لزيارة الموتى، وإلى مواطن خارجة عن المدينة، إما للإصلاح بين قوم أو نحو ذلك، ولم يقصر هو، ولا من خرج معه. وقد وري سعيد بن منصور (¬3) عن أبي سعيد قال: كان رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إذا سافر فرسخا يقصر الصلاة، فان صح هذا كان مقدما على حديث أنس المتقدم، وتكون مسافة القصر فوسخا. ولا أدري الآن كيف إسناده لعدم وجود مسند ¬

(¬1) قاله الحافظ في " الفتح " (2). (¬2) ذكره الحافظ في " الفتح " (2). ثم قال بعد ذلك " ثم أن الصحيح في ذلك أنه لا يتقيد بمسافة بل بمجاوزة البلد الذي يخرج منها ". ورده القرطبي في " المفهم " (2): بأنه مشكوك فيه فلا يحتج به. (¬3) غير مطبوع فيما أعلم. وعزاه إليه ابن حجر في " التلخيص " (2). قلت: أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (2، 442). عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سافر فرسخا قصر الصلاة.

سعيد بن منصور لدي. وإذا تبين لك مقدار السفر الذي يقصر في مثله فاعلم أن هذا المسافر إذا حضرته الصلاة بعد خروجه من مدينته أو قريته قصر، ولو لم يكن بينه وبينها وإلا مقدار رمية حجر، لأنه قد صدق عليه اسم السفر الشرعي باعتبار قصره لتلك الغاية التي هي ثلاثة فراسخ فما فوقها. وهكذا لا يزال يقصر في [1ب] رجوعه إلى وطنه حتى يدخل مدينته أو قرية. ولا اعتبار بما قيل إنه لا يقصر حتى يخرج من ميل وطنه، ويتم إذا دخل ميل وطنه، فإن ذلك لم يدل عليه دليل صحيح. فإن قلت: هلا اعتبرت مجرد الضرب (¬1) في الأرض المذكور في الآية مع صحة تسميته مسافرا لغة (¬2)، وذلك بأن يشد رحله، أو يحمل عصاه على عاتقه قاصدا للسفر، وحينئذ يفيد مطلق الضرب في الأرض بما تسمه العرب سفرا. قلت: المسألة شرعية (¬3) لا لغو. وقد ورد الشرع بما قدمنا. يرد عن الشارع من وجه صحيح الصر فيما دون ذلك، فوجب التوقف على ذلك. ولو سلمنا أن المسألة لغوية. أن الاعتبار بما يصد عليه اسم المسافر لغة لم يكن في ذلك حجة لمن قال: أن من كان سفره مسافة ميل (¬4) أو الميلين، أو ثلاثة ¬

(¬1) قال ابن القيم في " زاد المعادن " ولم يحدد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأمته مسافة محدودة للقصر والفطر، بل أطلق لم ذلك في مطلق السفر والضرب في الأرض كما أطلق لهم التيمم في سفر وأما ما يروى عنه من التحديد باليوم واليومين والثلاثة فلم يصح عنه شيء البتة والله اعلم ". (¬2) تقدم في بداية الرسالة. (¬3) تقدم في بداية الرسالة. (¬4) قال النووي: الميل ستة آلاف ذراع والذراع أربعة وعشرون أصبعا معترضة معتدلة والإصبع ست شعيرات معترضة معتدلة. قال الحافظ في " الفتح " (2) وهذا الذي قاله هو الأشهر. . ثم إن الذراع الذي ذكره النووي تحديده قد حرره غيره بذراع الحديد المستعمل الآن في مصر والحجاز في الأعصار فوجده ينقص عن ذراع الحديد بقدر الثمن، فعلى هذا فالميل بذراع الحديد على القول المشهور خمسة آلاف ذراع ومائتان وخمسون ذراعا.

فرسخين، أو ثلاثة فراسخ يقصر الصلاة، فإن القاصد لمثل هذه المقادير لا تسميه العرب مسافرا. ولم نسمع عنهم أنهم أطلقوا عليه اسم المسافر (¬1)، ولو شد رحله، أو وضع عصاه على عاتقة. وقد طانوا يتزاورون، ويذهب بعضهم إلى محلة بعض، ولا يسمون الفاعل لذلك مسافرا. وبالجملة فالإحالة لمحل النزاع على السفر اللغوي (¬2) إحالة على مجهول، أو إحالة على ما يدل على خلاف مطلوب قابله، فوجب الرجوع إلى ما ثبت في الشرع. وقد ثبت فيه أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان يقصر إذا خرج في ثلاثة فراسخ. وثبت عنه أنه صلى الظهر بالمدينة أربعا، وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين كما في حديث أنس عند أحمد (¬3)،. ............................ ¬

(¬1) قال صاحب المصباح المنير (1/ 425): يقال ذلك إذا خرج للارتحال أو قصد موضع فوق مسافة العدوى، لأن العرب لا يسمون مسافة العدى سفرا. ثم قال في مادة عدى - بالمهلة - والعدوى - بالفتح قال ابن فارس والجوهري - في الصحاح (6/ 2421) - هي طلبك إلى وال ليعديك على من ظلمك أي ينتقم منه باعتدائه عليك. والفقهاء يقولون مسافة العدوى كأنهم استعارها من هذه لأن صاحبها يصل فيها الذهاب والعود بعدو واحد لما فيه من القوة والجلد. وقال السياغي في " الروض النضير " (2/ 365): " ومراده بالعرف عرف أهل اللغة الذي قرره العرف الشرعي، ويفهم منه أن السفر لا يطلق إلا على التي لا يمكن صاحبها أن يجمع فيها بين الذهاب والعود بمشي واحد وهو ما تدرك به المشقة ويتكلف له المؤنة ولذا قال أهل اللغة: كأن مأخوذ من سفرت الشيء إذا كشفته فأوضحته لأنه ما ينوب فيه ويكشفه، ومن المعلوم أنهم لا يسمون من خرج من بيته وسار أدنى سير مسافرا، ثم نظرنا ما هو الأنسب من تقديرات الشارع - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرف أهل الشرع المتلقي عن أهل اللغة، فلم نجد حديثا سالما عن المطاعن إلا حديث أنس وعملنا بالأحوط منه وهو ثلاثة افواسخ وهو أشد مناسبة بذلك العرف منه بالثلاثة أميال " اه. (¬2) قال صاحب المصباح المنير (1/ 425): يقال ذلك إذا خرج للارتحال أو قصد موضع فوق مسافة العدوى، لأن العرب لا يسمون مسافة العدى سفرا. ثم قال في مادة عدى - بالمهلة - والعدوى - بالفتح قال ابن فارس والجوهري - في الصحاح (6/ 2421) - هي طلبك إلى وال ليعديك على من ظلمك أي ينتقم منه باعتدائه عليك. والفقهاء يقولون مسافة العدوى كأنهم استعارها من هذه لأن صاحبها يصل فيها الذهاب والعود بعدو واحد لما فيه من القوة والجلد. وقال السياغي في " الروض النضير " (2/ 365): " ومراده بالعرف عرف أهل اللغة الذي قرره العرف الشرعي، ويفهم منه أن السفر لا يطلق إلا على التي لا يمكن صاحبها أن يجمع فيها بين الذهاب والعود بمشي واحد وهو ما تدرك به المشقة ويتكلف له المؤنة ولذا قال أهل اللغة: كأن مأخوذ من سفرت الشيء إذا كشفته فأوضحته لأنه ما ينوب فيه ويكشفه، ومن المعلوم أنهم لا يسمون من خرج من بيته وسار أدنى سير مسافرا، ثم نظرنا ما هو الأنسب من تقديرات الشارع - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرف أهل الشرع المتلقي عن أهل اللغة، فلم نجد حديثا سالما عن المطاعن إلا حديث أنس وعملنا بالأحوط منه وهو ثلاثة افواسخ وهو أشد مناسبة بذلك العرف منه بالثلاثة أميال " اه. (¬3) في " المسند " (3/ 177و 186).

والبخاري (¬1)، ومسلم (¬2). وبين المدينة وذي الحليفة ستة أميال (¬3). فإن قلت: هذا الحديث يفيد أن القصر يكون دون ثلاثة فراسخ، فيكون أقل مسافة السفر ستة أميال. قلت: نعم لولا أن الحليفة في هذا السفر لم يكن منتهى سفره، وإنما خرج إليها وقصر بها في سفر إلى مكة. وأما حديث الثلاثة الفراسخ (¬4) فلم يكن فيه ما يدل على أنها ابتداء سفره، بل فيه ما يدل على أن القصر عند إرادته لمثل هذه المسافة كان عادة له كما يدل عليه لفظ كان على ما تقرر في الأصول (¬5). ولولا التردد في الرواية بين الثلاثة الأميال، والثلاثة الفراسخ لكان الواجب الأخذ بالأقل، وهو الثلاثة الأميال (¬6)، لكنه مع التردد يجب الأخذ بالأحوط المتيقن وهو الثلاثة الفراسخ. ¬

(¬1) في صحيحه رقم (1089). (¬2) في صحيحه رقم (10/ 690). قلت: وأخرجه أبو داود رقم (1202) والترمذي رقم (546) والنسائي (1). (¬3) ذكره القرطبي في " المفهم " (2). (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) قال السيوطي في " معترك الأقران في إعجاز القرآن " (2/ 245): وتأتي كان بمعنى الدوام والاستمرار. (¬6) تقدم تحويلها إلى المقاييس العصرية.

قال السائل - عافاه الله - المبحث الثاني ما المعتمد الذي لا وجه بخلافه كون القصر في السفر رخصة (¬1)؟ فإن قيل: إنه رخصة، فما الجواب عن حديث عائشة - رضي الله عنها -الذي اتفق على ¬

(¬1) الرخصة لغة: مشتقة من الرخص وهو السير والسهولة يقال: " رخص الشارع في كذا ترخيصا " و" أرخص إرخاصا ": إذا يسره وسهله. وهو مشتق من اللين يقال: " قضيب رخص " أي طري لين. فالرخصة في الجملة هي عبارة عن السهولة واليسر والمسامحة واللين. وقيل خرصة بتقديم الخاء حكاها الفارابي. كما ذكره الزركشي في " البحر المحيط " (1). وانظر: " الصحاح " للجوهري (3)، " للقاموس المحيط " (ص321)، لسان العرب (5). الرخصة في الاصطلاح: لقد اختلفت عبارات الأصوليين في تعريف الرخصة اصطلاحا. ونجد أنها كلها تتفق في معناها والمقصود منها. الرخصة: " الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر ". فاعلم أنه لا بد للأخذ بالرخصة من الأمور التالية: 1 - لابد من دليل يدل عليها للأخذ بها. 2 - أنه لا بد من وجود العذر في المكلف حتى يستطيع به أن يعدل عن الحكم الأصلي - الذي هو حكم العزيمة - إلى حكم الرخصة. 3 - أن أحكام الرخصة ليست في الأحكام الأصلية، بل أحكام وضعها الشارع للتخفيف عن المكلفين ولرفع الحرج والضيق عنهم فالرخصة تسهيل وتيسير من الشارع للمكلفين. قال السبكي في تعريفه للرخصة: " الحكم الشرعي الذي تغير من صعوبة إلى سهولة لعذر مع قيام لسبب للحكم الأصلي. انظر: " حاشية البناني على شرح المحلى على جمع الجوامع (1)، " الأشباه والنظائر " (ص650) للسيوطي. وقيل: أن الرخصة: ما وسع على المكلف فعله بعذر مع كونه حراما في حق من لا عذر له، أو وسع على المكلف تركه مع قيام الوجوب في حق غير المعذور. انظر: " كشف الأسرار عن أصول البزدوي " (2) لـ (عبد العزيز النجاري) ط. 1394 هـ - بيروت.

إخراجه الشيخان (¬1): " أول ما فرضت الصلاة ركعتين. .. إلخ "، وما روي عن ابن عمر [2أ] موقوفا: " صلاة السفر ركعتين نزلتا من السماء، فإن شئتم فردهما " أخرجه الطبراني في " الصغير " (2) وقال: لم يرو أبو الكنود عن ابن عمر حديث غير هذا، ولا رواه الطبراني إلا قيس بن وهب تفرد به شريك. وأورده الهيثمي في " المجمع " (2) وقال رواه الطبراني في الصغير ورجاله موثقون. قال الهيثمي في " المجمع " (2/ 154 - 155) وعن مورق قال سألت ابن عمر عن الصلاة في السفر فقال ركعتين ركعتين من خالف السنة كفر ". رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح. (¬2): العزيمة لغة: مشتقة من العزم وهو القصد المؤكد يقال " عزم على الشيء " إذا عقد ضميره على فعله وأكده قال تعالى: (نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه: 115] أي قصدا بليغا متأكدا في العصيان. قال الجوهري في " الصحاح " (5): " عزمت على كذا عزما وعزما بالضم وعزيمة وعزيما: إذا أردت فعله ". ويطلق العزم على القطع ومنه قوله تعالى (فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) [آل عمران: 159]. انظر: " لسان العرب ط (15)، " المصباح المنير " (2). العزيمة اصطلاحا: الحكم الثابت بدليل شرعي خال عن معارض. قوله: الحكم الثابت: أي الذي ثبت، واحترز بذلك عن الحكم غير الثابت وهو المنسوخ فلا يسمى عزيمة. لأنه لم يبق مشروعا أصلا. قوله: بدليل شرعي: أحترز به عن الثابت بدليل عقلي فإن ذلك لا تستعمل فيه الرخصة ولا العزيمة. قوله: " الحكم الثابت بدليل شرعي " يتناول جميع الأحكام الخمسة - الواجب، المندوب، الحرام، المكروه، المباح، فإن لكل واحد منها حكم ثابت بدليل شرعي. قوله: " خال عن معارض " احترز عما ثبت بدليل لكن لذلك الدليل معارض، مساو أو راجح حيث إن العزيمة تنتفي هنا. انظر: " نهاية السول " (1/ 70)، " البحر المحيط " (1) للزركشي، " الكوكب المنير " (1). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1090) " ومسلم رقم (3). قيل: دليل على وجوب القصر في السفر لأن فرضت بمعنى وجبت ووجوبه عند مذهب الهادوية والحنفية وغيرهم. انظر: " الروض النضير " للسياغي (2) " التاج المذهب " للعنسي (1). قال القرطبي في " المفهم " (2): واختلف في حكم القصر في السفر: فروي عن جماعة أنه فرض، وهو قول عمر بن عبد العزيز، والكفيين، وإسماعيل القاضي وهو مشهور مذهب مالك وجل أصحابه. .. ". ثم قال: أكثر العلماء من السلف والخلف: أن القصر سنة، وهو قول أصحاب الشافعي ثم اختلف أصحاب التخيير: في أيهما أفضل؟ فقال بعضهم: القصر أفضل وهو قول الأبهري من أصحابنا وأكثرهم وقيل: إن الإتمام أفضل. .. ". (¬2) وما نقله ابن سيد الناس أحمد ابن يحيى جابر البلاذري عند ذكر مسجده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: فنزل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - على أبي أيوب - رضي الله عنه - إلى أن قال -: ونزل عليه تمام الصلاة بعد مقدمه بشهر "؟ انتهى. وإن قيل: إنه عزيمة

الجواب عن حديث عائشة الذي نقل (¬1) سيدي محمد الأمير (¬2) - رحمة الله - عن الدراقطني (¬3) تصحيحه " كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقصر في السفر، ويتم، ويصوم ويفطر " وحديثها أيضًا الذي أخرجه البيهقي (¬4) أنها اعتمرت معه - صلى الله عليه ¬

(¬1) في " سبل السلام " (3). بتحقيقي. (¬2) أي محمد إسماعيل الأمير الصنعاني. (¬3) في " السنن " (2/ 189 رقم 44) وقال: هذا إسناد صحيح. (¬4) في " السنن الكبرى " (3) وقال: إسناد صحيح. وذكر صاحب " التنقيح " أن هذا المتن منكر. فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعتمر في رمضان قط ". قلت: وهو حديث ضعيف. قال ابن القيم في " زاد المعاد " (1) وقد روى: كان يقصر وتتم " وكذلك يفطر وتصوم أي: تأخد في بالعزيمة في الموضعين قال شيخنا ابن تيمية: وهذا باطل ما كانت أم المؤمين لتخالف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجمع أصحابه فتصلي خلاف صلاتهم وفي الصحيح عنها رضي الله عنها: "إن الله فرض الصلاة ركعتين وركعتين فلما هاجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة زيد في الصلاة الحصر وأقرت صلاة السفر " -تقدم - فكيف يظن بها مع ذلك أنها تصلي خلاف صلاته وصلاة المسلمين معه. قلت: وقد أتمت عائشة بعد موته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ابن عباس وغيره. إنها تأوله كما تأول عثمان. أخرجه مسلم في صحيحه رقم (685): قال الزهري: فقلت لعروة: ما بال عائشة تتم في السفر؟ قال: إنها تأولت ما تأول عثمان. قال القرطبي في " المفهم " (2/ 327): وأولى ما قيل في ذلك - التأويل - أنهما تأولاً: أن القصر رخصة غير واجبة.

وآله وسلم - إلى أن فالت لرسول الله: بأبي أنت وأمي أتممت وقصرت، وأفطرت وصمت؟ فقال: " أحسنت ياعائشة "، وحديث القشيري الذي رواه سيد الناس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بعث خيلا - إلى أن قال -: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " تعال أحدثك عن ذلك، إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة والصيام. .. إلخ ". قال ابن سيد الناس: قالوا: وضعه لا يكون إلا من فرض ثابت. وقال أيضا: ولم يقصر - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - آمنا إلا بعد نزول آية القصر في الخوف، وكان نزولها بالمدينة، وفرض الصلاة بمكة، فظاهر هذا أن القصر صار على الإتمام انتهى. وعن معنى قوله: (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ) (¬1) ونفي الجناح (¬2) في آلاية انتهى. أقول: ذهب إلى القول بوجوب القصر كثير من السلف والخلف. قال الخطابي في ¬

(¬1) [النساء: 101]. (¬2) قال القرطبي في " المفهم " (2) " الجناح " الحرج وهذا يشعر أن القصر ليس واجبا لا في السفر ولا في الخوف، لأنه لا يقال في الواجب: لا جناح في فعله.

المعالم (¬1) كان مذاهب أكثر علماء السلف، وفقهاء الأمصار أن القصر هو الواجب في السفر، وهو قول علي، وعمر، وابن عباس، وروى ذلك عن عمر بن عبد العزيز، وقتادة، والحسن. وقال حماد بن سلميان: يعيد من يصلي في السفر أربعا. وقال مالك: يعيد ما دام في الوقت. وقد نسب القول بالوجوب إلى النووي (¬2) إلى كثير من أهل العلم. ذهب إلى القول بأن القصر رخصة عائشة، وعثمان. وروي عن ابن عباس، والشافعي، وأحمد ونسبه النووي (¬3) إلى أكثر العلماء. احتج القائلون بالوجوب بحجج: الأولى: ما ثبت في الصحيحين (¬4) وغيرهما (¬5) من حديث ابن عمر قال: صحبت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر وعمر وعثمان. ويجاب عن هذا الاستدلال بأن مجرد الملازمة لا تفيد الوجوب. الحجة الثانية: حديث عائشة المتفق عليه (¬6) بألفاظ منها: " فرضت الصلاة ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر ". وهذا دليل ناهض على الوجوب، لأن صلاة السفر لما كانت مفروضة ركعتين لم تجز الزيادة عليها في الرباعية، كما أنها لا تجوز الزيادة على أربع في الحضر. وقد أجيب عن هذه الحجة بأنها من قول عائشة، وأنها لم تشهد زمان فرض الصلاة. وأجيب عن ذلك بأن مثل هذا مما لا مجال للاجتهاد فيه، فله حكم الرفع. وأما كونها لم تشهد زمان فرض الصلاة فليس ذلك بعلة ¬

(¬1) " معالم السنن " (2). (¬2) في " المجموع " (4/ 220 - 222). وفي شرح لصحيح مسلم رقم (5). (¬3) في " المجموع " (4/ 220). (¬4) أخرجه البخاري وصحيحه رقم (1101) ومسلم رقم (8). (¬5) كابي داود رقم (1233) والترمذي رقم (544) والنسائي (3/ 122و124) وابن ماجه رقم (1071). (¬6) تقدم تخريجه.

قادحة، لأنه يمكن أن تأخذ ذلك عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بعد زمان فرض الصلاة، وبمكن أن تأخذ عن صحابي آخر، ومراسيل الصحابة حجة. ومن الجملة (¬1) ما قيل في الكلام على حديث عائشة هذا أنه معارض بحديث ابن عباس [2ب] عن مسلم (¬2): " فرضت الصلاة في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين "، ويجاب عن هذا بأن الجمع (¬3) ممكن بأن يقال: أن الصلاة فرضت ليلة الإسراء ركعتين ركعتين، إلا المغرب، ثم زيدت بعد الهجرة إلا الصبح كما رواه ابن خزيمة (¬4)، وابن حبان (¬5)، والبيهقي (¬6) عن عائشة قالت: " فرضت صلاة الحضر ركعتين ركعتين، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة، وصلاة المغرب لأنها وتر النهار ". ومما أجاب به القائلون بأن القصر رخصة عن حديث عائشة أن المراد بقولها: " فرضت " أي قدرت (¬7)، وهو تأويل متعسف لا ينبغي التعويل عليه، ويدفعه قولها في الحديث: " فأقرت في السفر، وزيدت في الحضر ". ومنها قول النووي (¬8): أن المراد بقولها " فرضت " يعني لمن أراد الاقتصار عليه، وهذا أشد تعسفا من الوجه الذي قبله. الحجة الثالثة: ما في الصحيح. ...................................... ¬

(¬1) ذكره الحافظ في " الفتح " (1/ 464). (¬2) في صحيحه (5). قلت: وأخرجه أحمد (1) وأبو داود رقم (1247) والنسائي (3 - 119) وابن ماجه رقم (1072). وهو حديث صحيح. (¬3) ذكره الحافظ في " الفتح " (1/ 464). (¬4) في الصحيحه رقم (305). (¬5) في صحيحه رقم (2738). (¬6) في " السنن الكبرى " (3) وقال المحدث الألباني في تعليقه على الصحيح ابن خزيمة: " في إسناده ضعيف. .. وقد أخرجه أحمد (6، 265) من طريقين عن داود به منقطعا " اهـ. (¬7) في شرحه لصحيح مسلم (2/ 570). (¬8) في شرحه لصحيح مسلم (5).

مسلم (¬1) عن ابن عباس: " إن الله - عز وجل - فرض الصلاة على لسان نبيكم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - على المسافر ركعتين، وعلى المقيم أربعا، والخوف ركعة " وهذا الصحابي الجليل قد صرح بما هو المطلوب للقائلين بوجوب القصر، لأن صلاة المسافر إذا كانت مفروضة ركعتين لم يحل له أن يخالف ما فرضه الله عليه. الحجة الرابعة: حديث عمر عند النسائي (¬2) صلاة الأضحى ركعتين، وصلاة الفجر ركعتين، وصلاة السفر ركعتين، تمام غير قصر، على لسان محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - " وأخرجه أيضًا أحمد (¬3) وابن ماجه (¬4)، ورجال الحديث رجال الصحيح، إلا يزيد بن أبي الجعد فقد وثقه أحمد وابن معين (¬5). وقد روي من طريق أخر بأسانيد رجالها رجال الصحيح، وفيه التصريح بأن صلاة السفر مفروضة كذلك، وأنها تمام غير قصر. والحجة الخامسة: ما أخرجه النسائي (¬6) عن ابن عمر قال: " أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر. ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) في " السنن " (3 رقم 1566). من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عمر. قال النسائي: لم يسمعه من عمر، وكان شعبة ينكر سماعه منه. قال الحافظ في " التلخيص " (2): وسئل ابن معين عن رواية جاء فيها في هذا الحديث عنه سمعت عمر؟ فقال: ليس بشيء. وقد رواه البيهقي بواسطة بينهما وهو كعب بن عجزة، وصححها ابن السكن. (¬3) في " المسند " (1). (¬4) في " السنن " رقم (1064) وهو صحيح. (¬5) ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (4/ 412). (¬6) لعله في السنن الكبرى للنسائي في " السنن الصغرى " (3) بمعناه من حديث أمية بن عبد الله بن أسيد. بسند صحيح.

واحتج القائلون بأن القصر رخصة بحجج: الحجة الأولى: قوله تعالى: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ) (¬1) قالوا: ورفع الجناح لا يدل على العزيمة، بل يدل على الرخصة. (¬2) وأجيب بأن الآية وردت في قصر الصفة في صلاة الخوف، لا في قصر العدد، وهي أيضًا قد اقتضت قصرا يتناول قصر الأركان بالتجفيف، وقصر العدد بنقصان ركعتين. وقيد ذلك بأمرين: الضرب في الأرض، والخوف، فإذا وجد الأمران أبيح القصران، فيصلون صلاة الخوف بقصور عددها وأركانها، وإن انتفى الأمران وكانوا آ منين مقيمين انتفى القصران فيصلون صلاة تامة كاملة، وإن وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده، فإن وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان، واستوفي العدد، وهذا نوع قصر، وليس بالقصر المطلق في الآية، وإن وجد السفر والأمن قصر العدد، واستوفيت الأركان، وصليت صلاة أمن. وهذا أيضانوع قصر وليس بالقصر المطلق. وقد تسمى هذه الصلاة مقصورة باعتبار نقصان العدد، وقد تسمى تامة [3أ] باعتبار إتمام أركانها، وأنها لم تدخل في الآية كذا قال المحقق ابن القيم (¬3) وما أحسن ما قال!. والحجة الثانية لهم: ما أخرجه مسلم (¬4) وأهل السنن (¬5) غيرهم (¬6) من حديث يعلى ابن أمية قال: قلت لعمر ابن الخطاب: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) فقد أمن الناس! فقال عجبت مما ¬

(¬1) [النساء: 101]. (¬2) ذكره الحافظ في " الفتح " (1). (¬3) في " زاد المعاد " (1/ 128). (¬4) في صحيحه رقم (4/ 686). (¬5) كأبي داود رقم (1199) والترمذي رقم (3037) والنسائي (3/ 116). (¬6) كأحمد (1/ 25).

عجبت منه، فسألت رسول الله فقال: " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقتة " قالوا: فقوله: " صدقة " يدل على عدم الوجوب. ويجاب عن هذا بأن محل النزاع هو وجوب القصر، وقد قال: فاقبلوا صدقته " ومعنى الأمر الحقيقي الوجوب، فالحديث عليهم لا لهم. الحجة الثالثة: ما روي أن الصحابة كانوا يسافرون مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فمنهم القاصر، ومنهم المتم، ومنهم الصائم، ومنهم المفطر؛ لا يعيب بعضهم على بعض. كذا قال النووي في شرح مسلم (¬1) وقد عزي هذا إلى صحيح مسلم (¬2) ولم نجده فيه (¬3). ويجاب عنه بأن لم يكن فيه أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - اطلع على ذلك وقررهم عليه. وقد نادت أقواله وأفعاله بخلاف ذلك. وقد أنكر جماعة منهم على عثمان لما أتم بمنى (¬4). والحجة الرابعة لهم: ما أخرجه النسائي (¬5)، والدارقطني (¬6)، البيهقي (¬7)، عن عائشة قالت: خرجت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في عمرة في رمضان فأفطر ¬

(¬1) (7 - 237). (¬2) بل أخرجه مسلم في صحيحه رقم (99/ 1118). (¬3) قلت: وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (1947): عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كنا نسافر مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم. وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (97) من حديث أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله. (¬4) انظر " فتح الباري " (2). (¬5) في " السنن " (3). (¬6) في " السنن " (2 رقم 44) وقال: هذا إسناد صحيح. وأخرجه (2 رقم 39، 40) وقال: الأول متصل وهو إسناد حسن وعبد الرحمن قد أدرك عائشة ودخل عليها وهو مراهق وهو مع ابيه وقد سمع منها. وقد تقدم وهو حديث ضعيف. (¬7) في " السنن الكبرى " (3/ 142) وقال إسناده صحيح.

وصمت، وقصر وأتممت، فقالت: بأبي وأمي أفطرت وصمت وقصرت وأتممت فقال: " أحسنت يائشة " قال الدارقطني (¬1): وهذا إسناده حسن. ويجاب عنه بأن في إسناده العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن يزيد، والأسود النخعي عنها، والعلاء بن زهير قال فيه ابن حبان (¬2) كان يروي عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات فبطل الاحتجاج به فيما لم يوافق الأثبات، وقال ابن معين (¬3): ثقة. وقد اختلف في سماع عبد الرحمن منها. قال الدارقطني: أدرك عائشة ودخل عليها وهو مراهق، وقال أبو حاتم (¬4): أدخل عليها وهو صغير، ولم يسمع منها. قال أبو بكر النيسابوري: من قال فيه عن عائشة فقد أخطأ، ومع هذا فقد اختلف قول الدارقطني (¬5) فيه، فقال في السنن: إسناده حسن، وقال في العلل: المرسل أشبه (¬6) وقال البدرالمنير (¬7) إن في متن هذا الحديث نكارة وهو كون عائشة خرجت معه في رمضان للعمرة، والمشهور أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لم يعتمر (¬8) إلا أربع عمر ليس منهن شيء في رمضان، بل كلهن في ذي القعدة، إلا التي مع حجته فكان إحرامها في ذي القعدة، وفعلها في ذي الحجة قال: هذا هو المعروف في الصحيحين (¬9) ¬

(¬1) في " السنن " (2/ 188). (¬2) في " المجرحين " (2). (¬3) انظر " الميزان " (3 رقم 5731). (¬4) في " المراسيل " (ص129 رقم 464). (¬5) تقدم ذكره. (¬6) ذكره الحافظ في " التلخيص " (2/ 92). (¬7) ذكره النووي في " المجموع " (4/ 218). (¬8) ذكره النووي في " المجموع " (4/ 218). (¬9) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1778) ومسلم رقم (217) عن قتادة أن أنسا- رضي الله عنه - أخبره أن رسول الله اعتمر أربع عمر: كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته. عمرة من الحديبية أو زمن الحديبية في ذي القعدة وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة وعمرة من جعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجته.

وغيرهما. وقد وجه ذلك بعض أهل العلم بتوجيهات متعسفة لا ينبغي الاعتماد عليها، خصوصا مع مخالفة هذا الحديث لأقوال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الصريحة، وأفعاله الصحيحة. وقال ابن حزم (¬1): هذا الحديث لا خير فيه، وطعن فيه، ورد عليه ابن النحوي بما لا يصلح للرد. قال في الهدي (¬2) بعد ذكر لهذا الحديث: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هذا حديث كذب على عائشة. الحجة الخامسة لهم: ما أخرجه الدارقطني (¬3) عن عائشة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان يقصر في السفر، ويتم، ويفطر ويصوم. قال بعد أخراجه: إسناده صحيح. ويجاب عنه بأن الإمام أحمد استنكره كما حكى ذلك صاحب التلخيص (¬4) وقال: وصحته بعيدة، فإن عائشة كانت تتم يعني بعد موت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -[3ب]- كما ذكر عروة أنها تأولت كما تأول عثمان كما في الصحيح (¬5)، فلو كان عندها عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - رواية لم ينقل عروة أنها تأولت ما تأول عثمان. قال في الهدي (¬6): وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هو كذب على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. وبالجملة فهذا الحديث وأشباهه لا يقوى على معارضة بعض حجج القائلين بوجوب ¬

(¬1) في " المحلى " (4/ 299). (¬2) " زاد المعاد " (1). (¬3) تقدم وهو حديث ضعيف. (¬4) " تلخيص الحبير " (2/ 92 - 93). (¬5) تقدم تخريجه. (¬6) (1/ 472).

القصر فضلا عن كلها، فالحق أن القصر عزيمة لا رخصة، وأنه متعين على كل مسافر إذا وجد المقتضى وفقد المانع.

قال السائل - عافاه الله -: المبحث الثالث: عن مدة الإقامة التي إذا عزم المسافر عليها هل حد كما قال ابن عباس (¬1): " من أقام سبعة عشر يوما، ومن أقام أكثر من ذلك أتم " وكذلك ما روي عن ابن عمر (¬2): " كان إذا أجمع المكث، وإذا كان اليوم إذا قصر "!. وهل إباحته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - للمهاجر أن يقيم بمكة أيام يكون حدا بين السفر والإقامة كما قد قال به من قال، أو لا حد لها، لأنه لم يعلم منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد زاد على سبعة عشر أو عشرين كما في حديث جابر (¬3) في غزوة تبوك أتم؟ وهل هناك فرق بين إذا كانت الإقامة لحرب كما نقله أن ابن عمر في أيام حصار أذربيجان قصر ستة أشهر (¬4)، ولما أراد الجوار بمكة أتم أم لا فرق؟ وهل جاور بمكة؟ وهل القصر بمنى وعرفات للسفر أو للنسك، وما حال سكان منى وعرفات أقصر صلاتهم في حجهم مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أم أتموا؟ وهل ورد عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لأهل منى وعرفات: " أتموا " كما قال في مكة لأهلها (¬5) أم ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في " السنن " رقم (1230) وهو حديث صحيح. (¬2) انظر " المغني " (3 - 149). (¬3) أخرجه أبو داود في " السنن " وهو حديث صحيح. عن جابر- رضي الله عنه -: أقام بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة. (¬4) أخرجه البيهقي في " المعرفة " (4/ 274 رقم 6148) وفي " السنن الكبرى " (3) عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: " ارتح علينا الثلج ونحن بأذربيجان ستة أشهر في غزاة، قال ابن عمر: فكنا نصلى ركعتين ". قال النووي: وهذا سند على شرط الصحيحين كما في " نصب الراية " للزيلعي (2). (¬5) أخرجه أبو داود رقم (1229) بإسناد ضعيف فيه زيد ابن جدعان. ضعيف. عن عمران ابن حصين قال: شهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشر ليلة لا يصلي إلا ركعتين ويقول " يا أهل البلد صلوا أربعا فإنا قوم سفر ".

لم يكن فيها مستوطن؟ انتهى. أقول: قد اختلفت أقوال السلف ومن بعدهم في قدر المدة المعتبرة للمسافر مع تردده، فذهب قوم إلى أنها شهر، وذهب آخرون إلى أنها عشون يوما، وذهب البعض إلى أنها ستة أشهر. وذهب البعض إلى أنها أربعة أشهر. وذهب قوم إلى أنها أربعة أيام، وليس لكل من هذه الأقوال متمسك ينبغي الكلام عليه حتى نسوقه ونسوق الجواب عليه، وأرجحها قول من اعتبر العشرين، ووجه ذلك أن المسافر إذا أقام ببلده وحط رحله، وذهب عنه وعثاء السفر فهو بالمقيم أشبه منه بالمسافر، ولولا أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قصر الصلاة عند إقامته في مكة (¬1)، وعند إقامته في تبوك (¬2) لكان الأصل التمام، فينبغي أن يقتصر على المقدر الذي قصر فيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ويتم المسافر الصلاة إذا زاد عليه مع التردد لا القصر، فقال: ومن أين لنا أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لو أقام في ذينك الموطنين زيادة على المقدار أتم، لأنا نقول: التمام مع الإقامة هو الأصل فلما قصر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - شرع لنا القصر مع الإقامة إلى ذلك المقدر، والأصل عدم جواز القصر بعد تلك المدة، ولم يدل دليل على جوازه بعدها فيجب الاقتصار على ما وقع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من القصر في ذينك الموطنين، ويرجع فيما زاد إلى الأصل لعدم الدليل الدال على الجواز. وقد أخرج أحمد (¬3)، وأبو داود (¬4)، وابن حبان (¬5)،. ......................... ¬

(¬1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (1080) عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: أقام النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسعة عشر يوما يقصر وفي لفظ: بمكة تسعة عشر يوما. (¬2) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح. (¬3) في " المسند " (3). (¬4) في " السنن " (1235). (¬5) في صحيحه رقم (2738).

والبيهقي (¬1)، وابن حزم (¬2) والنووي (¬3) عن جابر: أقام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة. وقد أعل بما لا يقدح في الاحتجاج به. وأخرج أبو داود (¬4)، والترمذي (¬5) وحسنه البيهقي (¬6) عن عمران بن حصين قال: غزوت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وشهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين يقول: " يا أهل مكة، صلوا أربعا، فإنا سفر " في إسناده علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف. وأخرج أحمد (¬7) [4 أ]، والبخاري (¬8)، وابن ماجه (¬9) عن ابن عباس قال: لما فتح النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مكة أقام فيها تسع عشرة يصلى ركعتين قال: " فنحن إذا سافرنا فأقمنا تسعة عشر ليلة قصرنا، وإن زدنا أتممنا " ورواه أبو داود (¬10) بلفظ سبع عشرة بتقديم السين. وقد روي أنه أقام خمس عشرة أخرجه النسائي (¬11)، وأبو داود (¬12)،. .... ¬

(¬1) في " السنن الكبرى " (3) وهو صحيح. (¬2) في " المحلى " (5/ 25 - 26). (¬3) في " المجموع " (4/ 240). (¬4) في " السنن " رقم (1229). (¬5) في " السنن " رقم (545). (¬6) في " السنن الكبرى " رقم (3/ 151). وقد تقدم وهو حديث ضعيف. (¬7) في " المسند " (1). (¬8) في صحيحه رقم (1080). (¬9) في " السنن " رقم (1075). (¬10) في " السنن " رقم (1230). وهو حديث صحيح. (¬11) في " السنن الكبرى " رقم (3/ 151). (¬12) في " السنن " رقم (1231). قال أبو داود: روى هذا الحديث عبدة بن سلميان وأحمد بن خالد الوهبي، وسلمة عن ابن إسحاق، لم يذكروا فيه ابن عباس.

وابن ماجه (¬1)، والبيهقي (¬2) عن ابن عباس. قال البيهقي: أصح الروايات في ذلك رواية البخاري (¬3)، وهي رواية تسع عشرة بتقديم التاء: ولا يخفاك أن هذه الرواية وإن كانت أصح من غيرها فذلك لا ينافي وجود الصحة المعتبرة في رواية العشرين (¬4). وقد صححها من قد بينا في ذلك، وهي مشتملة على الزيادة، فالاعتبار بها على أن الترجيح بين الروايات إنما وقع للحفاظ في الإقامة بمكة. وقد جاء في الإقامة بتبوك ما فيه الزيادة التي لم تقع منافية لما دونها، فكان المصير إلى ذلك محتما. والأخذ به لازما، فالحق أن المقيم متردد لا يزال يقصر إلى عشرين يوما ثم يتم، لما قدمنا. ولا يجوز التمسك بما روي عن بعض الصحابة من القصر مع الإقامة أكثر من عشرين، فليس في ذلك حجة. ولا فرق بين الإقامة لحرب وأغيره لما عرفت. وما ذكره السائل بقوله: وما حال سكان منى وعرفات. .. إلخ. فيقال: حالهم كحال أهل مكة يلزمهم التمسك بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لأهل مكة: " أتموا يا أهل مكة فإنا قوم سفر " (¬5) فقد ثبت بهذا حكم غير أهل مكة كما ثبت حكم أهل مكة، ولا يحتاج إلى أن يطلب هل قال لهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مثل ما قال لأهل مكة أم لا؟ ¬

(¬1) في " السنن " رقم (1076). (¬2) في " السنن الكبرى " (3/ 151). وهو حديث ضعيف. انظر " الإرواء " (3 - 27). (¬3) في صحيحه رقم (1080). (¬4) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح. (¬5) تقدم تخريجه.

قال السائل - عافاه الله -: المبحث الرابع: إذا قلنا بفرضية صلاة المسافر ركعتين، فهل يجوز له أن يصليها أربعا كما عن الطبري أنه قال: يحتمل أن قول عائشة فرضت الصلاة ركعتين في السفر يعني إن اختار المسافر أن يكون فرضه ركعتين فله ذلك، وإن اختار أن يكون أربعا فله ذلك، وشبهه بتأخر الحاج وتعجله في منى قال: إن تأخر فعن فرضه أقام، وإن تعجل فعن فرضه نفر. وأي ذلك فعل فعل صوابا، وهل قوله هذا صحيح وله وجه تسلى النفس إليه أم لا؟ انتهي. أقول: قد عرفناك فيما تقدم أن القصر عزيمة بالأدلة الصحيحة التي لا تحتمل التأويل، وهذا التأويل الذي ذكره الطبري ليس بشيء، ولم تلجئ إليه ضرورة، ولا دعت إليه الحاجة.

قال السائل - عافاه الله -: المبحث الخامس: لو اقتدى قاصر بمنتم أيلزم كما نقل عن ابن عباس أنه سئل ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد، وأربعا إذا ائتم بمقيم؟: " إن ذلك من السنة " (¬1) أن القصر لأنه باق في سفره؟ وهل هناك دليل على واحد منهما غير ما ذكر؟ انتهى. أقول: إذا ثبت وجوب القصر بأدلته المتقدمة كان تخصيص بعض الأزمنة أو الأمكنة أو الأحوال أو الأشخاص بأنه يتم محتاجا إلى دليل يصلح للتخصيص، ولم يبلغنا أنه اقتدى مسافر بمقيم في حضرته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ولا ثبت لنا أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - سئل عن ذلك فأجاب. ولكن الخبر أن ابن عباس أعلم بسنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فإذا ثبت عنه أنه قال: إتمام المسافر بعد المقيم من السنة، ¬

(¬1) أخرجه أحمد (1). قال ابن قدامة في " المغني " (3/ 143 - 144): " إذا دخل مع مقيم، وهو مسافر أتم ". وجملة ذلك أن المسافر متى ائتم بمقيم لزمه الإتمام، سواء أدرك جميع الصلاة أو ركعة، أو أقل. قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن المسافر، يدخل في تشهد المقيمين؟ قال: يصلي أربعا. وروي ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وجماعة من التابعين، وبه الثوري، والأوزاعي، والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. .. ثم قال: ولا نعرف لهم في عصرهم مخالفا. وقد أخرج البخاري في صحيحه رقم (1082) ومسلم رقم (17) والنسائي (3) عن ابن عمر قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنى ركعتين وأبو بكر بعده، وعمر بعد أبي بكر وعثمان صدرا من خلافته، ثم إن عثمان صلى بعد أربعا، فكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلى أربعا وإذا صلاها وحده صلى ركعتين. قال القرطبي في " المفهم " (2 - 336): فإن عمر وابن مسعود كانا يصليان معه، ويتمان مع اعتقادهما: أن القصر أولى وأفضل، لكنهما اتبعاه لأن الإتمام جائز، ومخالفة الإمام فيما رآه مما يسوغ ممنوعة ويحتمل: أن يريد بالإمام هنا: أي إمام اتفق من أئمة المسلمين، ويعني به، أن ابن عمر إذا صلى خلف مقيم أتم تغليبا لفضلة وبحكم الموافقة فيما يجوز أصله.

فالتمسك بذلك واجب، وبه تخصيص أدلة وجوب [4 ب] القصر، ولا بد من تصحيح هذا الحديث حتى يبلغ إلى درجة الاعتبار، وينتهض للتخصيص، فهاهنا جسر عظيم هو أدلة وجوب القصر التي قدمنا ذكرها، ولا يجوز أن يجوزه أحد إلا بحقه، والبقاء على ما تقتضيه الأدلة الصحيحة متحتم حتى يرد ما نصه لتخصيصها، وأين ذاك؟ ولا سيما مع احتمال لفظ السنة. وعلى كل حال فينبغي للمسافر أن يتجنب الائتمام بالمقيم، لأنه يدخل نفسه في أحد الخطرين، إما مخالفة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن الاختلاف على الأئمة، وأوجب علينا الاقتداء بهم وقال: " إنما جعل الإمام ليؤتم به. .. " (¬1) الحديث، فإن وقع في مثل ذلك اقتدى به في الركعتين الآخرتين من صلاته. ولا يدخل معه في الأوليين، فإن دخل معه فيهما فقد عرض نفسه للاختلاف على إمامه أو مخالفة أدلة وجوب القصر، فليوازن بين الخطرين بما يؤدي إليه اجتهاده. ¬

(¬1) تقدم تخريجه. انظر الرسالة رقم (83).

قال السائل - عافاه الله -: المبحث السادس: ما المقرر في الجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، أهو خاص بعرفات ومزدلفة كما ذهب إليه طائفة منهم الحسن، وابن سيرين، ونقل عن ابن القيم أنه قال: لم ينقل عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الجمع وهو [نازل] (¬1) إلا بعرفة ومزدلفة. أم وهو جائز فيهما، وفيما إذا كان على ظهر سير، وفيما إذا جد به السير كما في الرواية البخاري عن ابن عباس، وابن عمر، أو مطلقا كما في روايته عن أنس؟ وهل هو خاص بالسفر كما في هذه الروايات، أو فيه وفي الحضر كما في رواية أبي داود (¬2) وغيره (¬3) عن ابن عباس - رضي الله عنه -: " جمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر " فقيل لابن عباس: ما أدرك إلى ذلك قال: " لا أراد ألا يحرج أمته " ولذلك جمعه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بعرفة ومزدلفة إن جمع معه مستوطنوهما يصدق عليه أنه جمع بحضر إلا أن يثبت أنه نبه عليهم في ترك الجمع كما قال لأهل مكة في القصر: " أتموا " (¬4)؟ وهل هناك فرق ثابت بدليل بين جمع التقديم وجمع التأخير حتى يقال: أن حديث ابن عباس لا يحتج به، لأنه غير معين لجمع تأخير ولا تقديم؟ فإن وجد الدليل على أن أهل عرفة ومزدلفة لم يجمعوا، وإلا فما الجواب عن ما أخرجه الترمذي (¬5) عن ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: ¬

(¬1) في الأصل بياض ولعل ما أثبتناه يتم العبارة. (¬2) في " السنن " رقم (1208، 1206). (¬3) كمسلم في صحيحه (52) و (51) والترمذي رقم (553، 554) والنسائي (1) وابن ماجه رقم (1070) وقد تقدم وهو حديث صحيح. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) في " السنن " رقم (188) قال الترمذي هذا هو أبو على الرحبي وهو " حسين بن قيس " وهو ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه أحمد وغيره. وهو حديث ضعيف جدا. انظر " الضفيعة " رقم (4581).

" من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر "؟ وهل تأول حديث ابن عباس في الجمع في الحضر بأنه الصوري (¬1) مطابق لقول ابن عباس: أواد ألا يحرج أمته؟ فإن وإن كان أيسر من حيث أنه يكفي للصلاتين تأهب واحد إلا أنه من حيث مراقبة آخر وقتي الظهر والمغرب، وأول وقتي العصر والعشاء لا يخلو فيما يظهر عن حرج والله اعلم. أفتونا بالأدلة الساطعة، والبراهين القاطعة التي تطمئن إليها القلوب، ويدان بها علام الغيوب، والتحقيق الذي تخمد به نار الخلاف - أن شاء الله - مأجورين من فضل الله. والسلام. أقول: أما الجمع بمزدلفة فقد ثبت بالأدلة الصحيحة، وكذلك الجمع للسفر فقد ثبت تأخيرا بالأدلة الصحيحة (¬2) في الصحيحين وغيرهما، وثبت تقديما بالأدلة الحسنة الثابتة فيما عدا الصحيحين من دواوين الإسلام، وكذلك الجمع للمطر (¬3) [5أ] ثبت. .............................. ¬

(¬1) انظر تفصيل ذلك في الرسالة رقم (84) انظر " الضعيفة " رقم (4581). (¬2) (منها) ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1092) ومسلم (42) وأبو داود رقم 1207، 1217) والترمذي رقم (555) والنسائي (1، 289) من حديث ابن عمر قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا عجل به السير جمع بين المغرب والعشاء وفي رواية قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أعجله السير في السفر يؤخر صلاة المغرب، حتى يجمع بينها وبين صلاة العشاء. ومنها ما أخرجه البخاري رقم (1111) ومسلم رقم (46، 48/ 704) وأبو داود رقم (1218، 1219) والنسائي (1، 258). من حديث أنس بن مالك قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما. فإن زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب. وفي رواية: يؤخر الظهر إلى أول وقت العصر. (¬3) انظر " المغني " (3) قال ابن قدامة: ويجوز الجمع لأجل المطر بين المغرب والعشاء ويروى ذلك عن ابن عمر وفعله أبان بن عثمان في أهل المدينة وهو قول الفقهاء السبعة ومالك والأوزاعي والشافعي وإسحاق ويروى عن مروان، وعمر ابن عبد العزيز، ولم يجوزه أصحاب الرأي.

بأدلته (¬1). وأما الجمع من غير عذر ولا مطر ولا سفر فقد أطال أهل العلم الكلام فيه، وألفوا في ذلك رسائل في كل عصر خصوصا هذه العصور القريبة، وإلى عصرنا الآن. فالمسوعون للجمع مطلقا تمسكوا بما في الصحيحين (¬2) وغيرهما من حديث ابن عباس: " أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - صلى بالمدينة سبعا وثمانيا الظهر والعصر والمغرب والعشاء ". وأخرج أحمد، ومسلم (¬3)، وأهل السنن إلا ابن ماجه عنه بلفظ: " جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر " قيل لابن عباس: ما أراد بذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته " وفي لفظ من غير خوف ولا سفر. وقد أجاب الجمهور القائلون بعدم جواز الجمع لغير عذر عن هذا الحديث بأجوبة منها: أن الجمع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان لعذر المرض وقواه النووي (¬4). وليس هذا الجواب صحيح ولا قوي، فإنه لو كان الجمع لعذر المرض لبينه راوي الحديث، ولما صلى معه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلا من كان له مثل ذلك العذر. وقد وقع التصريح في بعض الروايات بأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - جمع بأصحابه. ومن جملة (¬5) ما أجابوا به أنه كان في غيم ثم انكشف الغيم فبان أن وقت العصر قد دخل. وهذا جواب متعسف، فإن مثل هذا ما كان يخفى على الراوي ولا كان لقوله: لئلا يحرج أمته " معنى. ومما أجابوا به بأن الجمع المذكور صوري بأن يكون آخر الأولى إلى آخر وقتها، وقدم ¬

(¬1) انظر هذه الآثار في " المغني " (3 - 133). (¬2) تقدم تخريجه. وانظر الرسالة رقم (84). من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني). (¬3) تقدم تخريجه. وانظر الرسالة رقم (84). من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني). (¬4) في شرحه لصحيح مسلم (5/ 281). (¬5) في شرحه لصحيح مسلم (5/ 281).

الثانية في أول وقتها. قال النووي (¬1): وهذا احتمال ضعيف أو باطل، لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل. قال الحافظ ابن حجر (¬2): وهذا الذي ضعفه قد استحسنه القرطبي (¬3)، ورجحه إمام الحرمين، وجزم به من القدماء ابن الماجشون، والطحاوي، قواه ابن سيد الناس بأن الشعثاء وهو راوي الحديث عن ابن عباس قد قال به انتهى (¬4). ومما يؤيد حمل هذا الجمع على الجمع الصوري ما أخرجه النسائي (¬5) عن ابن عباس بلفظ: " صليت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الظهر والعصر جمعا، والمغرب والعشاء جمعا، أخر الظهر، وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء " فهذا تفسير ابن عباس الراوي لحديث الجمع، وكفى به حجة على بيان ماهية هذا الجمع الذي أطال الناس الكلام فيه، وغلا فيه من غلا حتى أخرجوا الصلوات عن أوقاتها المضروبة لها المبينة بتعليم جبريل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وتعليم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه كما ثبت بذلك الأحاديث الصحيحة، وخالفوا ما كان عليه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - منذ بعثه الله - سبحانه - إلى أن قبضه من الإتيان لكل صلاة في وقتها المضروب لها، وكذلك أصحابه في حياته وبعد موته. ومما يؤيد ذلك ما أخرجه البخاري (¬6) ومسلم (¬7) وغيرهما (¬8) عن عمرو بن دينار أنه قال ¬

(¬1) في شرحه لصحيح مسلم (5). (¬2) في " الفتح " (2). (¬3) في " المفهم " (2). (¬4) أي كلام ابن حجر في " الفتح " (2). (¬5) في " السنن الكبرى " (1 رقم 1573). (¬6) في صحيحه رقم (1174). (¬7) في صحيحه رقم (55). (¬8) كأبي داود رقم (1210 - 1214). والترمذي رقم (187) والنسائي (1).

يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء. قال: وأنا أظنه. وأبو الشعثاء هو راوي الحديث عن ابن عباس. ومما يؤيد ذلك ما أخرجه البخاري (¬1)، ومالك في الموطأ (¬2)، وأبو داود (¬3)، والنسائي (¬4)، عن ابن مسعود قال: " ما رأيت لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -[5ب]- صلى لغير ميقاتها إلا صلاتين جمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة " ففي هذا من ابن مسعود التصريح بأنه لم يقع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الجمع الحقيقي إلا بالمزدلفة، وقد كان أكثر الصحابه ملازمة لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فأفاد ذلك أن الجمع غير الحقيقي بل صوري جمعا بين حديث ابن عباس، وحديث ابن مسعود هذا. ويزيد هذا تأكيدا أن ابن مسعود أحد رواة حديث الجمع كما بينت ذلك في غير هذا الموضع، فلا بد من الجمع بين روايتيه بما ذكرنا. ومن المؤيدات لذلك ما أخرجه ابن جرير عن ابن عمر قال: " خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فكان يؤخر الظهر ويعجل العصر فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب ويعجل العشاء فيجمع بينهما " وهذا هو الجمع الصوري. وابن عمر ممن روى جمعه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة كما أخرج ذلك عبد الرزاق عنه. فهؤلاء الصحابة الذين رووا ذلك الجمع فسروه بالصوري، وكذلك فسره بعض الرواة عنهم فلم يبق حينئذ ما يشكل في المقام. فإن قلت: قد زعم بعضهم أن الجمع الصوري لم يرد عن الشارع ولا عن أهل الشرع. قلت: ما ذكرناه هاهنا يرد زعم هذا الزاعم، وقد ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه قال للمستحاضة: " وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر ¬

(¬1) في صحيحه رقم (1682) ومسلم في صحيحه رقم (1289). (¬2) لم يخرجه مالك في الموطأ من رواية يحيى بن يحيى الليثي، ولا من رواية محمد بن الحسن الشيباني. (¬3) في " السنن " رقم (1934). (¬4) في " السنن " رقم (1 - 292 رقم 608) وهو حديث صحيح.

فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين " (¬1) ومثله في المغرب والعشاء، وهو ثابت في الأمهات من حديث ابن عباس، وابن عمر. وهذا هو الجمع الصوري بلا شك ولا شبهة. وقد زعم الخطابي (¬2) أنه لا يصح حمل الجمع المذكور على الجمع الصوري، لأنه يكون أعظم ضيقا من الإتيان بكل صلاة في وقتها، لأن أوائل الأوقات وأوخرها مما لا يدركه الخاصة فضلا عن العامة. ويجاب عنه بأن الشارع قد بين أوقات الصلوات بعلامات حسية مشترك في العلم بها الخاصة والعامة، ومعلوم أن الخروج إلى الصلاتين مرة واحدة أخف من الخروج مرتين والضوء لها مرة واحدة أخف من التأهب لهما مرتين، فمن هذه الحيثية ظهر التخفيف وعدم الحرج، لأنه فعله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - المستمر الدائم طول حياته من بعد أن بعثه الله إلى أن قبضه هو فعل كل صلاة في أول وقتها، وخفف عن امته بتشريع الجمع الصوري مع كونه فعلا لكل صلاة في وقتها المضروب لها، لكن الصلاة الأولى فعلت في آخر وقتها، والصلاة الأخرى فعلت في أول وقتها، وليس في ذلك إخراج يدل على شيء من الصلوات عن وقتها المضروب لها، ولا ورد عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - شيء يدل على ذلك دلالة مطلقة تستلزم إخراج إحدى الصلاتين المجموعتين عن وقتها المضروب لها إلا في جمع مزدلفة (¬3)، وفي جمع السفر والمطر، فليعض الجامعون بين الصلوات على بنانهم، وليبكوا على تفريطهم ¬

(¬1) أخرجه أحمد (6، 381 - 382، 439 - 440) وأبو داود في " السنن " رقم (287) والترمذي رقم (128) وابن ماجه رقم (627). قال الترمذي في " السنن " (1) سألت محمدا -البخاري- عن هذا الحديث فقال: هو حديث حسن. وهو كما قال. (¬2) ذكره الحافظ في " الفتح " (2). (¬3) تقدم ذكره.

في صلواتهم التي كانت على المؤمنين كتابا موقوتا، وليعلموا دخولهم تحت قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -[6 أ]-: " ليس التفريط في النوم، وإنما التفريط في اليقظة، وذلك بأن تؤخر الصلاة حتى يدخل وقت أخرى " (¬1) ودخولهم تحت قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " من جمع بين الصلاتين فقد أتى بابا من أبواب الكبائر " (¬2) كما روي ذلك مرفوعا. وليعلموا أيضًا أنهم من القوم الذين يميتون الصلاة وقد ذمهم الشارع بما هو معروف. والحاصل أنهم مخالفون لهديه الدائم المستمر منذ ثلاث وعشرين سنة، ومتمسكون بما هو خارج عن مطلوبهم خروجا أوضح من شمس النهار، وعلى نفسها براقش تجني. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. انتهى الجواب والله الموفق للصواب [6ب]. ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (881) وأبو داود رقم (437) و (441) وأحمد (5) والترمذي رقم (177) والنسائي (1) وابن ماجه في صحيحه رقم (989) من طرق عن قتادة قال: قال سول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ليس في النوم تفريط إنما على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت صلاة أخرى ". وهو حديث صحيح. (¬2) تقدم تخريجه وهو حديث ضعيف جدا.

سؤال عن لحوق ثواب القراءة المهداة من الأحياء إلى الأموات

سؤال عن لحوق ثواب القراءة المهداة من الأحياء إلى الأموات تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: (سؤال عن لحوق ثواب القراءة المهداة من الأحياء إلى الأموات). 2 - موضوع الرسالة: فقه. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله، سألتم كثر الله فوائدكم ونفع بعلومكم عن لحوق ثواب القراءة المهداة من الأحياء. .. 4 - آخر الرسالة:. .. وفي هذا المقدار كفاية لمن هداية، والله ولي التوفيق كمل من تحرير جامعه القاضي البدر محمد بن علي الشوكاني حفظه الله ووفقه لما يرضاه، بحق محمد الأمين، وآله الأكرمين، وصحبه الراسين. في تاريخ صبح الخميس أحد أيام شهر ربيع الأول سنة 1208 هـ. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 6 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 28 سطر ما عدا الصفحة الأخيرة سبعة أسطر. 8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الأول من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله. سألتم - كثر الله فوائدكم - ونفع بعلومكم، عن لحوق ثواب القراءة المهداة من الأحياء إلى الأموات، وهل الراجح لحوق أولا؟ وأمرتم المحب بتحرير بحث في ذلك، فأقول: قد اختلف أهل العلم في اللحوق. فذهب الشافعي (¬1) وجماعة والمعتزلة (¬2) إلى أنه لا يلحق الميت ثواب القراءة المهداة له بدون وصية. وذهب أحمد بن حنبل (¬3) وجماعة من الشافعية، وحكاه صاحب زهرة الحقائق من الحنفية عن أهل السنة إلى أنه يلحق، وحكاه ابن الصلاح عن أكثر الناس، وجعله ابن النحوي المشهور، والمختار عند الشافعية. احتج الأولون بقوله تعالى (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) (¬4)، ووجه الاستدلال بها ما فيها من العموم المشعور به من الصيغة الحصرية القاضية بأنه لا يكون للإنسان إلا سعيه، وينفي ما عداه عنه بطريق المفهوم على ما زعمه الجمهور، أو المنطوق على ما زعمه آخرون، وقد أجاب الآخرون عن هذه الآية بأجوبة: الأول: أنها منسوخة (¬5) بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ) كذا في شرح الكنز، ويجاب عن ذلك بأن النسخ إنما يثبت بعد العلم بتأخر الناسخ، لا بمجرد ¬

(¬1) انظر " المغني " (3). (¬2) ذكره الآلوسي في تفسيره " روح المعاني " (27). (¬3) ذكره الآلوسي في تفسيره " روح المعاني " (27). (¬4) [النجم: 39]. (¬5) ذكره القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (17) وقال رواه ابن عباس. كذلك الرازي في تفسيره (29).

الاحتمال بالإجماع، وذلك غير حاصل ههنا. وأيضا الآية الثانية لا تصلح لنسخ جميع ما دلت عليه الأولى، على تسليم تأخرها، لأنها اشتملت على ما هو أخص مما اشتملت عليه مطلقا، والخاص لا ينسخ العام (¬1)، وغايتة أنها تصلح لنسخ ما تناولته على فرض تأخرها تأخرا متراخيا على ما ذهب إليه بعض أهل الأصول. والجواب الثاني: أنه أريد بالإنسان (¬2) الكافر، ذكره أيضًا صاحب الكنز، ويجاب عن هذا الجواب بأن الإنسان يشتمل الكافر والمسلم لغة وشرعا وعرفا، فتخصيصه بالكافر إن كان بالسبب، أو بالسياق على فرض دلالتهما، أو أحدهما على ذلك، فهما لا يصلحان له لأن العام لا يقصر على سببه، ولا على ما دل عليه السياق كما تقرر في الأصول (¬3)، وإن كان الدليل آخر فما هو؟. الجواب الثالث: أن ذلك ليس للإنسان من طرق العدل، وهو له من طريق الفضل، ذكره صاحب شرح الكنز أيضا، ويجاب عنه بأن الآية تقضي بعمومها على أن ذلك ليس للإنسان من غير فرق بين العدل والفضل، فالتخصيص بأحدهما لا بد له من دليل فما هو؟. الرابع: أن اللام في قوله: " للإنسان " لمعنى على كما في قوله تعالى: (ولَهُمُ اللَّعْنَةُ)، أي: عليهم، ذكره أيضًا صاحب شرح الكنز، ويجاب بأن ورود اللام بمعنى على قليل نادر كما صرح بذلك أئمة اللغة (¬4) والإعراب، والتنازع فيه [1] يحمل ¬

(¬1) انظر " الكوكب المنير " (3). (¬2) قال الربيع بن أنس: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) يعني الكافر وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره. وقال الرازي في تفسيره (29) قيل: المراد من الإنسان الكافر دون المؤمن وهو ضعيف. (¬3) انظر " الكوكب المنير " (3/ 187) " تيسير التحرير " (1). (¬4) انظر " مغني اللبيب " (1 - 213).

على ما هو الأعم، لا على ما هو الأغلب، لا على ما قل ونذر باتفاق أهل العلم. ومن جملة ما احتج به الأولون ما أخرجه مسلم (¬1)، وأهل السنن (¬2) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له " ووجه الاستدلال به التصريح بانقطاع عمل الإنسان، وهو عام لأنه مصدر مضاف. ويرشد إلى عمومه في خصوص المقام الاستثناء فأنه لا يكون إلا من العام، فدل على انقطاع كل عمل ما عدا الثلاث، كائنا ما كان. ومما يستدل به للأولين قوله تعالى: (لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى)؛ فإن الجزي أعم من الثواب والعقاب، ولكنه لا يخفى أن التنصيص على أنها تجزى كل نفس بما عملت لا يستلزم أنها لا تجرى بغيره، إذا تقرر لك عدم انتهاض ما أسلفناه من الأجوبة على الآية فاعلم أنه يمكن الاستدلال للحوق بأدلة تصلح لتخصيص ذلك العموم. الأول: حديث ابن عباس عند البخاري (¬3) أن نفرا من أصحاب النبي - صلى الله ¬

(¬1) في صحيحه رقم (1631). (¬2) أبو داود في " السنن " رقم (2880) والترمذي رقم (1376) والنسائي (6) وأحمد (2) والبيهقي في " السنن " (6). قال القرطبي في " المفهم " (4) هذه الثلاث الخصال إنما جرى عملها بعد الموت على من نسبت إليه، لأنه تسبب في ذلك، وحرص عليه، ونواه، ثم إن فوائدها متجددة بعده دائمة فصار كأنه باشرها بالفعل، وكذلك حكم كل ما سنه الإنسان من الخير، فتكرر بعده، بدليل قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ". - أخرجه أحمد (4، 358) ومسلم رقم (1017) والترمذي رقم (2675) والنسائي (5/ 75 - 76) وابن ماجه رقم (203). (¬3) في صحيحه رقم (2537) وأطرافه (5007) و (5736) و (5749).

عليه وآله وسلم -: " مروا بماء فيهم لديغ، فعرض لهم رجل من أهل الماء، فقال: هل فيكم من راق؟ فإن في الماء رجلا لديغا، فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء، فجاء بالشاء إلى أصحابه فكرهوا ذلك، وقالوا: أخذت على كتاب الله أجرا، حتى قدموا المدينة، فقالوا: يا رسول الله، أخذ على كتاب الله أجرا، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله ". وقد أخرج هذه القصة الشيخان (¬1)، وأهل السنن (¬2)، وأحمد (¬3) من حديث أبي سعيد بأطول من هذا. ووجه الاستدلال بهذا الحديث أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - سوغ أخذ الأجرة على تلاوة القرآن؛ فدل على أنه يحصل للمتلو له بتلاوة التالي نفع، ويناله منها حظ، ولو كان أجرها للتالي فقط ما جوز له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أخذ الأجرة على التلاوة، لأنه يكون من أكل أموال الناس بالباطل، كيف، وقد جعل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - التلاوة أحق الأمور التي يؤخذ عليها الأجور، والأجر إنما يكون في مقابلة عمل انتفع به المؤجر كسائر الإجارات. ولا سبب يوجب مصير ثواب التلاوة إلى لمستأجر، ويثبت به انفصاله أو بعضه عن التالي إلا النية من التالي، ولا يصلح أن يكون غيرها عند من يعرف مسلك السير والتقسيم. وإذا كانت النية مؤثرة فلا فرق بين أن ينوي التالي أن نكون ثوابه لحي أو لميت بأجر أو بغير أجر، كما هو حق العمل بتنقيح المناط. ¬

(¬1) " البخاري رقم (2276) ومسلم في صحيحه رقم (2201). (¬2) أبو داود رقم (3418) والترمذي رقم (2064) والنسائي " عمل اليوم والليلة " رقم (1028) في. وابن ماجه رقم (2506). (¬3) في " المسند " (3). وهو حديث صحيح. قال الحافظ في " الفتح " (4): واستدل الجمهور به في جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن وخالف الحنفية فمنعوه في التعليم وأجازوه في الرقى كالدواء قالوا لأن تعليم القرآن عبادة والأجرة فيه على الله.

فإن قلت: ربما كان سبب مصير [2] الثواب إلى المستأجر مجموع النية من التالي والأجرة. قلت: لا شك أنه إذا جاز للإنسان تصيير هذا العمل إلى غيره بعوض جاز له تصييره إلى غيره بغير غوض، والأشباه والنظائر متفقة على ذلك، فإن لم يكن ذلك من باب فحوى الخطاب فهو من باب لحن الخطاب. فإن قلت: ربما كان ما في الحديث مختصا بالرقية التي هي السبب في ذلك. قلت: لا يشك من له علم بأساليب كلا م العرب أن قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أحق ما أخذتم إلخ (¬1) يدل على جواز ما هو أعم من القصة، والعبرة بما يستفاد من اللفظ، لا بما يقتضيه السبب من الخصوص، كما تقرر في الأصول. فإن قلت: قد زعم بعض الحنفية (¬2) أن الأجر المذكور في الحديث هو الثواب. قلت: يرد هذا الزعم سياق القصة، فإنهم لم يسألوا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن الثواب الذي هو النفع الأخروي. إنما سألوه عن حل ما أخذوه من الأجرة. الدليل الثاني: ما أخرجه. ............................................................... ¬

(¬1) وهذه زيادة في رواية البخاري عن ابن عباس رقم (2537). (¬2) قال القرطبي في " المفهم " (5): وقد حرم أبو حنيفة أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وكذلك أصحابه تمسكا بأمرين: أحدهما: أن تعلم القرآن وتعليمه واجب من الواجبات، التي تحتاج إلى التقرب والإخلاص فلا يؤخذ عليها أجر كالصلاة والصيام. ثانيهما: ما رواه أبو داود رقم (3416) من حديث عبادة بن الصامت قال: علمت ناسا من أهل الصفة الكتاب والقرآن، وأهدى إلي رجل منهم قوسا فقلت: ليست بمال، وأرمي عليها في سبيل الله. فلآتين رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلأ سألنه فأتيته فسألته فقال: " إن كنت تحب أن تطوق قوسا من نار فاقبلها " وهو حديث صحيح.

الشيخان (¬1) وغيرهما (¬2) عن سهل بن سعد أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - جاءته امرأة فقال: يا رسول الله، زرجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - هل عندك شيء تصد قها إياه؟ فقال: ما عندي إلا إزاري هذه. فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك، فالتمس شيئا فقال: ما أجد شيئا، فقال: التمس ولو خاتما من حديد "، فالتمس فلم يجد شيئا فقال له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - هل معك من القرآن شيء؟ " فقال: نعم، سورة كذا، وسورة كذا، وسورة كذا، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " قد زوجتكها بما معك من القرآن "، وفي رواية (¬3): " قد ملكتكها بما معك من القرآن ". ولمسلم (¬4): " زوجتكها تعلمها من القرآن ". وفي رواية لأبي داود (¬5): "علمها عشرين آية، وهي امراتك " ووجه الاستدلال بهذا الحديث أن الرجل المذكور أحل له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن يطلب بتلاوته تفعا دنيويا لنفسه، ويلحق به طلب النفع لغيره بتنقيح المناط، إما بأجر، أو بغير أجر يلحق الخطاب أو بفحواه. فإن قلت: التعليم إنما يحصل بتكرير التلاوة، فليس هو أمرا غيرها، ولا فرق بين تلاوة المرة والمرات. فإن قلت: قد زعم بعض أهل العلم أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لم يزوجه ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5087) ومسلم رقم (77). (¬2) كأبي داود رقم (2111) والترمذي رقم (1114) والنسائي (6). (¬3) أخرجها البخاري رقم (5030) ومسلم رقم (76). (¬4) في صحيحه رقم (77). (¬5) في " السنن " رقم (2112) وهوحديث ضعيف.

بها على ما ظننت من التعليم، بل زوجه بها لأجل المزية التي استحقها بحفظ ذلك المقدار من القرآن، إكراما له، ولم يجعل التعليم الصداق (¬1). قلت: يكفي في رد هذا الزعم ما قدمناه من قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " زوجتكها [3] تعلمها من القرآن "، وقوله: " عملها عشرين آية ". ¬

(¬1) قال الحافظ في الفتح (9/ 212): قال المازري: " هذا ينبني أن الباء للتعويض كقولك بعتك ثوبي بدينار وهذا هو الظاهر، وإلا لو كانت بمعنى اللام على معنى تكريمه لكونه حاملا للقرآن فصارت المرأة بمعنى الموهوبة والموهوبة خاصة بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ". قال القرطبي: في " المفهم " (4): قوله " علمها " نص في الأمر بالتعليم والمساق يشهد بأن ذلك لأجل النكاح. ولا يلتفت لقول من قال: إن ذلك كان إكراما للرجل بما حفظه من القرآن فإن الحديث يصرح بخلافه. وقول المخالف: إن الباء بمعنى اللام ليس بصحيح لغة ولا مساقا وكذلك لا يعول على قول الطحاوي والأبهري إن ذلك كان مخصوصا بالنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما كان مخصوصا بجواز الهبة في النكاح لأمور منها: 1 - مساق الحديث وهو شاهد لنفي الخصوصية. 2 - قوله الرجل، زوجنيها ولم يقل هبها لي. 3 - قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اذهب، فقد زوجتكها بما معك من القرآن، فعلمها. 4 - إن الأصل التمسك بنفي الخصوصية في الأحكام. ثم قال: قال الجمهور على جواز كون الصداق منافع وهذا الحديث رد أبي حنيفة في منعه أخذ الأجر على تعليم القرآن ويرد عليه أيضًا قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله " - وقد تقدم. ثم قال: وقول الرجل: معي سورة كذا، وسورة كذا - عددها فقال: " اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن فعلمها " يدل: على أن القدر الذي انعقد به النكاح من التعليم معلوم، لأن قوله: " بما معك " معناه: بالذي معك وهي السور المعددة المحفوظة عنده، التي نص على أسمائها، قد تعينت المنفعة، وصح كونها صداقا وليس جهالة. وانظر " فتح الباري " (9 - 213).

الدليل الثالث: ما أخرجه أبو داود (¬1)، وابن ماجه (¬2)، والنسائي (¬3)، وأحمد (¬4)، وابن حبان (¬5)، وصححه من حديث معقل بن يسار قال: قال رسول الله - صلى الله ¬

(¬1) في " السنن " رقم (3121). (¬2) في " السنن " رقم (1448). (¬3) في " عمل اليوم والليلة " رقم (1074) (¬4) في " المسند " (5). (¬5) في صحيحه رقم (3002). قلت: أخرجه الحاكم (1) والبيهقي (3) والطيالسي (ص126 رقم 931). قال الحاكم: " أوقفه يحيى بن سعيد وغيره عن سليمان التيمي، والقول فيه ابن المبارك، إذ الزيادة من الثقة مقبوله ". ووافقه الذهبي. ووافقها الألباني - رحمه الله - في " الإرواء " (3)، وقال: " ولكن للحديث علة أخرى قادحة أفصح عنها الذهبي في الميزان (4 رقم 10404) فقال في ترجمة أبي هذا: " عن أبيه، عن أنس، لا يعرف. قال ابن المديني: لم يرو عنه غير سليمان التيمي. قلت: أما النهدي فثقة إمام ". قلت: وتمام كلام ابن المديني: " وهو مجهول " وأما ابن حبان فذكره في الثقات (8) على قاعدته في تعديل المجهولين. ثم إن الحديث له علة أخرى. وهي الاضطراب. فبعض الرواة يقول: وعن أبي عثمان عن أبيه عن معقل وبعضهم: " عن أبي عثمان عن معقل " لا يقول " عن أبيه " وأبوه غير معروف أيضا. فهذه ثلاث علل: 1 - جهالة أبي عثمان. 2 - جهالة أبيه. 3 - الاضطراب. وقد أعله ابن القطان كما في " تلخيص الحبير " (2). وقال: " ونقل أبو بكر بن العرب عن الدارقطني أنه قال: هذا حديث ضعيف الإسناد، مجهول المتن. وأما في مسند أحمد (4) من طريق صفوان: حدثني المشخية أنهم حضروا غضيف بن الحارث الثمالي حين اشتد سوقه، فقال: هل منكم من أحد يقرأ " يس" قال: فقرأها صالح بن شريح السكوني، فلما بلغ أربعين منها قبض، قال فكان المشيخة يقولون: إذا قرئت عند الميت خفف عنه بها. قال صفوان: " وقرأها عيسى بن المعتمر عند ابن معبد ". قال المحدث الألباني - رحمه الله - في " الإرواء " (3): " فهذا سند صحيح إلى غضيف بن الحارث - رضي الله عنه -، ورجاله ثقات غير الشيخة، فإنهم لم يسمعوا، فهم مجهولون، لكن جهالتهم تنجبر بكثرتهم لا سيما وهم من التابعين، وصفوان هو ابن عمرو وقد وصله ورفعه عنه بعض الضعفاء بلفظ: "إذا قرئت. .. " فضعيف مقطوع، وقد وصله ورافعه عنه بعض المتروكين والمتهمين: " ما من ميت يموت فيقرأ عنده (يس) إلا هون الله عليه ". رواه أبو نعيم في " أخبار أصبهان " (1) عن مروان بن سالم عن صفوان بن عمرو عن شريح عن أبي الدرداء مرفوعًا به. ومروان هذا قال أحمد والنسائي: " ليس ثقة " وقال الساجي وأبو عروبة الحراني: " يضع الحديث " [الميزان (4) والمجروحين (3)] ومن طريقه رواه الديلمي إلا أنه قال: " عن أبي الدرداء وأبي ذر قالا: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما في " تلخيص الحبير " (2). وخلاصة القول أن الحديث ضعيف والله أعلم.

عليه وآله وسلم -: " اقرءوا يس على موتاكم " ووجه الاستدلال به أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لا يأمر إلا بما فيه نفع للميت؛ فلو كانت التلاوة غير نافعة له لكان الأمر ضائعا، ولم يقيد ذلك بوقوع وصية من الميت، فدل على أنه يلحق الميت ما يقرب به إليه من القرآن من غير فرق بين أن يكون التالي ولدا، أو غير ولد. وإذا نفع الميت تلاوة بعض من القرآن تفعه تلاوة البعض الآخر، والتنصيص على هذه السورة إنما هو لمزيد فضلها وشرفها، لكون ماله مزيد فضل وشرف أدخل في باب النفع بما هو دونه؛ وذلك لا يوجب نفي أصل النفع عن المشارك للأفضل إلا شرف في أصل الفضل، والشرف، وبهذا يتبين أن تخصيص هذه السورة بالذكر لا يدل على نفي هذه المزية عن غيرها، وهذا واضح. وغاية الأمر أن هذا الحديث يخصص عموم مفهوم تلك الآية والحديث بالنص في البعض، والقياس في الباقي، والتخصيص بالقياس مذهب فحول أئمة الأصول، ومجرد الأفضلية في الأصل لا يمنع الإلحاق، لأن أصل الفضل وصف جامع صالح لذلك.

فإن قلت: قد قيل أن المراد بالأموات في الحديث هم الأحياء الذين حضرتهم المنية. قلت: هذا مجاز لا يجوز المصير إليه إلا لعلاقة وقرينة، فأين هما؟ حتى يخرج عن المعنى الحقيقي للفظ الأموات، على أنه يدفع دعوى ذلك المجاز ما أخرجه في مسند (¬1) الفردوس من طريق مروان بن سالم عن صفوان بن عمرو، عن شريح، عن أبي الدرداء، وأبي ذر قالا: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " ما من ميت، فيقرأ عنده يس إلا هون الله عليه ". وأخرج أبو الشيخ (¬2) عن أبي ذر وحده في فضل القرآن، وقال أحمد في مسنده (¬3): حديثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان قال: كانت المشيخة يقولون: إذا قرئت يعني: يس لميت خفف الله عنه بها. الدليل الرابع: القياس على ما ورد في الحج عن الميت من غير الولد، كما في حديث المحرم عن شبرمة (¬4)، ولم يستفصله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - هل أوصى شبرمة أم لا؟ والجامع كون الجميع قربة بدنية. الدليل الخامس: القياس على الحديث الصحيح المتفق عليه (¬5): " من مات وعليه صيام، صام عنه وليه " والولي أعم من الولد، والجامع ما تقدم. الدليل السادس: القياس على الدعاء، فإنه يلحق الميت من غير وصية، [4] ومن الولد وغيره بنص قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا. .................................. ¬

(¬1) (4» رقم 6099). (¬2) عزاه إليه السيوطي في " الدر المنثور " (7). (¬3) (4) وقد تقدم آنفا. (¬4) أخرجه أبو داود رقم (1811) وابن ماجه رقم (2093) وابن الجارود رقم (499) والبيهقي (4) والطبراني في الكبير رقم (12419). وهو حديث صحيح. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1952) ومسلم رقم (1147). قلت: وأخرجه أبو داود رقم (2400) وأحمد (6/ 69).

بِالْإِيمَانِ) (¬1)، وبحديث: " استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل " أخرجه أبو داود (¬2)، والبزار (¬3)، والحاكم (¬4)، وصححه من حديث عثمان. ولحديث فضل الدعاء للأخ بظهر الغيب (¬5)، ولما ثبت من الدعاء للميت عند الزيارة، كحديث بريدة عند مسلم (¬6)، وأحمد (¬7)، وابن ماجه (¬8) قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لا حقون، نسأل الله لنا ولكم العافية ". وقد حكى النووي في شرح مسلم (¬9) والإجماع على وصول الدعاء إلى الميت، وكذا حكى الإجماع أيضًا على أن الصدقة تقع عن الميت، ويصله ثوابها (¬10). وحكى (¬11) أيضًا الإجماع عن لحوق قضاء الدين. وقد ورد في الصدقة، وفي قضاء الدين (¬12) من الولد وغيره أحاديث. ......................................................... ¬

(¬1) [الحشر: 10]. (¬2) في " السنن " رقم (3221). (¬3) في " مسنده " (2 رقم 445). (¬4) في " المستدرك " (1/ 270) وهو حديث صحيح. (¬5) سيأتي تخريجه. (¬6) في صحيحه رقم (975) قلت: وأخرجه النسائي في " السنن " (4 رقم 2040) وهو حديث صحيح. (¬7) في " المسند " (5، 360). (¬8) في " السنن " رقم (1547). (¬9) (7). (¬10) في " المجموع " (5). (¬11) في شرحه لصحيح مسلم (8). (¬12) انظر الرسالة رقم (93).

كثيرة (¬1) لا يتسع لها المقام، فينبغي أن يجعل القياس عليهما هو الدليل السابع والثامن بجامع القربة. وقد خصص عموم مفهوم الآية والحديث بمخصصات كثيرة، منها ما ذكرنا، ومنها غيره. وقد بسطتها بأطول من هذا في شرح المنتقى (¬2). ولا يخفى على ¬

(¬1) منها ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1630) والنسائي (6) عن أبي هريره - رضي الله عنه -: " أن رجلا قال للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن أبي مات وترك مالا ولم يوص فيه، فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه؟ قال: نعم ". ومنها ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2760) ومسلم رقم (112) وأبو داود رقم (2881) والنسائي (6). عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا أتي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال يا رسول الله إن أمي افتلتت نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال نعم. (¬2) في (2/ 784 - 786). قال الشوكاني في " يبل الأوطار " (2 - 786): " وأحاديث الباب تدل على أن الصدقة من الولد تلحق الوالدين بعد موتهما بدون وصية منهما، ويصل إليها ثوابها، فيخصص بهذه الأحاديث عموم قوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) ولكن ليس في الباب إلا لحوق الصدقة من الولد، وقد ثبت أن ولد الإنسان من سعيه فلا حاجة إلى دعوى التخصيص، وأمام من غير الولد فالظاهر من العمومات القرآنية أنه لا يصل ثوابه إلى الميت، فيوقف عليها، حتى يأتي دليل يقتضي تخصيصها. قال الألباني في " أحكام الجنائز ": " وهذا هو الحق الذي تقضيه القواعد العلمية، أن الآية على عمومها وأن ثواب الصدقة وغيرها يصل من الولد إلى الوالد لأنه من سعيه بخلاف غير الولد، لكن قد نقل النووي وغيره الإجماع على أ، الصدقة تقع عن الميت ويصله ثوابها. هكذا قالوا: " الميت " فأطلقوه، ولم يقيدوه بالوالد فإن صح هذا الإجماع كان مخصصا للعمومات التي أشار إليها الشوكاني فيما يتعلق بالصدقة، ويظل ما عداها داخلا في العموم كالصيام وقراءة القرآن ونحوهما من العبادات، ولكنني في شك كبير من صحة الإجماع المذكور، وذلك لإمرين: الأول: أن الإجماع بالمعنى الأصولي لا يمكن تحققه في غير المسائل التي علمت من الدين بالضرورة، كما حقق ذلك العلماء الفحول، كابن حزم في أصول الأحكام والشوكاني في " إرشاد الفحول " والأستاذ عبد الوهاب خلاف كتابه " أصول الفقه " وغيرهم. الثاني: أنني سبرت كثيرا من المسائل التي نقلوا الإجماع فيها، فوجدت الخلاف فيها معروفا بل رأيت مذهب الجمهور على خلاف دعوى الإجماع فيها. ..... ثم قال الألباني رحمه الله: وذهب بعضهم إلى قياس غير الولد على والوالد، وهو قياس باطل من وجوه: الأول: أنه مخالف للعموميات القرآنية كقوله تعالى: (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) [فاطر: 18] وغيرها من الآيات التي علقت الفلاح ودخول الجنة بالأعمال الصالحة ولا شك أن الوالد يزكي نفسه بتربيته لولده وقيامه عليه فكان له أجره بخلاف غيره. الثاني: أنه قياس مع الفارق إذا تذكرت أن الشرع جعل الولد من كسب الوالد كما سبق في حديث عائشة فليس هو كسبا لغيره، والله عز وجل يقول: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) ويقول سبحانه (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ). وقال ابن كثير في تفسيره قوله تعالى ((وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى): أي كما لا يحمل عليه وزر غيره، كذلك لا يحصل من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه، ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي رحمه الله ومن اتبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم ولهذا لم يندب إليه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمته ولا حثهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - ولو كان خيرا لسبقونا إليه وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء. وقال العز بن عبد السلام في " الفتاوى " (2): " ومن فعل طاعة لله تعالى ثم أهد ثوابها إلى حي أو ميت، لم ينتقل ثوابها إليه إذ (لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) فإن شرع في الطاعة ناويا أن يقع عن الميت لم يقع عنه إلا فبما استثناه الشرع كالصدقة والصوم والحج " وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في " الاختيارات العلمية " (ص 54): " ولم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعا أو صاموا تطوعا أو حجوا تطوعا أو قرؤوا القرآن يهدون ثواب ذلك إلى أموات المسلمين، فلا ينبغي العدول عن طريق السلف فإنه أفضل وأكمل ". وانظر تفصيل ذلك في " أحكام الجنائز " (ص218 - 225).

عارف أن دلالة العموم من أصلها ظنية، وفي الاحتجاج بالظنيات خلاف، فكيف إذا كان ذلك العموم مفهوما فإنها قد ذهب طائفة من أهل أنه لا يجوز العمل

بالمفهوم، ولا تثبت به الحجة، فكيف إذا كان ذلك المفهوم العام قد دخله التخصيص بما هو مخصص له بالإجماع في البعض، وعلى الخلاف في بعض آخر، فإن طائفة من أئمة الأصول لا يرون العام بعد التخصص جحة، وهذه المباحث، ونشر الخلاف فيها، وبسط الكلام في أدلتها مستوفي في الأصول. وإنما أشرنا إلى هذا لأن مخالفة ما أطبق عليه السلف والخلف في كل عصر، وكل قطر من التقرب بالتلاوة إلى أرواح الموتى، حتى صار إجماعا فعليا يستحسنه جميع المسلمين (¬1)، ويرونه من أعظم القرب، لا ينبغي تأييد ذلك الإجماع بما أسلفناه في هذا البحث. قال ابن النحوي في شرح المنهاج: إنه ينبغي الجزم بوصول ثواب القراءة المهداة إلى الأموات، لأنه دعاء، فإذا جاز للميت بما ليس للداعي فلان يجوز بما هو له أولى. ويبقى الأمر موقوفا على استجابة الدعاء، وهذا المعنى لا يختص بالقرآن، بل يجري في سائر الأعمال. قال: والظاهر أن الدعاء متفق عليه أنه ينفع الميت والحي، القريب والبعيد، بوصية وغيرها (¬2). وعلى ذلك أحاديث كثيرة، بل كان [5] أفضل الدعاء أن يدعو لأخيه بظهر الغيب. وأما سائر أنواع القرب فقد دلت على أكثرها ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة. (¬2) ينتفع الميت من عمل غيره بأمور منها: 1 - دعاء المسلم له. إذا توافرت فيه شروط القبول لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر: 10]. وأما الأحاديث منها: قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير، قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل ". أخرجه مسلم رقم (88) وأبو داود رقم (1534) وأحمد (6452) عن أبي الدرداء. 2 - قضاء ولي الميت صوم النذر عنه. عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من مات وعليه صيام، صام عنه وليه ". تقدم تخريجه وهو حديث صحيح. وعن ابن عباس قال: " أن سعد بن عبادة - رضي الله عنه - استفتى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن أمي ماتت وعليها نذر؟ فقال: اقضه عنها. وهو حديث صحيح. 3 - قضاء الدين من أي شخص ولي كان غيره. انظر أحاديثه في الرسالة (93). 4 - ما يفعله الولد الصالح من الأعمال الصالحة فإن لوالديه مثل أجره دون أن ينقص من أجره شيء لأن الولد من سعيهما وكسبهما والله عز وجل يقول (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) [النجم: 39]. وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه ". 5 - ما خلفه من بعده من آثار صالحة وصدقات جارية، لقوله تبارك وتعالى: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) [يس: 12]. فيه أحاديث: 1 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به أو لد صالح يدعو له ". تقدم تخريجه. 2 - وعن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: في حديث طويل وفيه: " من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سنة في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ثم تلى هذه الآية (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) [يس: 12]. أخرجه أحمد (4، 358) ومسلم رقم (1017) والترمذي رقم (2675) والنسائي (5 - 77) وابن ماجه رقم (203).

أحاديث صحيحة. وظاهرها من دون وصية. قال: ويقاس ما لم يرد فيه نص على ما ورد، والجامع موجود، ولا وجه للاقتصار انتهى.

وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. والله ولي التوفيق. كمل من تحرير جامعه القاضي البدر محمد بن علي الشوكاني حفظه الله، ووفقه لما يرضاه، بحق محمد الأمين، وآله الأكرمين، وصحبه الراسين، في صبح الخميس أحد أيام شهر ربيع الأول سنة 1208هـ[6].

إفادة السائل في العشر المسائل

إفادة السائل في العشر المسائل تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: "إفادة السائل في العشر المسائل ". 2 - موضوع الرسالة: فقه. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين. وبعد: فإنه ورد هذا السؤال من الوالد العارف الطالب الراغب الصالح صالح بن محمد بن عبد الله العنسي. ... 4 - آخر الرسالة: انتهى جواب شيخنا أدام الله إفادته، وحرس شريف ذاته، وأسعد آماله وأوقاته بقلم السائل الحقير صالح بن محمد العنسي - غفر الله لهما - وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم بتاريخ شهر الحجة الحرام سنة (1225هـ). 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد 6 - الناسخ: صالح بن محمد العنسي. 7 - عدد الصفحات: 11+ صفحة العنوان. 8 - عدد الأسطر في الصفحة: 28 - 29 سطرا. 9 - عدد الكلمات في السطر: 13 - 14 كلمة. 10 - الرسالة من المجلد الرابع من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين وبعد: فإن ورد هذا السؤال من الولد العارف الطالب الراغب الصالح صالح بن محمد بن عبد الله العنسي (¬1) - فتح الله عليه بالعلم والعمل وإياي -، ولفظه: ما يقول علماء الإسلام، وحفاظ حديث سيد الأنام في أربع سنن علمها السلف ومشي عليها بعدهم الخلف، لم نقف فيما اشتهر من كتب الحديث على دليل منها، هل عليها نص من الشارع لم نقف عليه حتى يجب المشي عليها، أو هي محض عرف ليس في مخلفته بأس؟ أولها: تشيع الجنازة بالتهليل والذكر، ثانيًا: إكرام الحبوب المأكولة وما خبز منها، ثالثها: المشي في السكك والأسواق بدون إزار، رابعها: التنحي عن صدور المجالس لمن كانت فيه خصلة فضل، هذا ونسألكم عن حديث: " أيام التشريق أيام شرب وأكل وبعال " هل لزيادة لفظ وبعال صحة وورود من طريق محفوظ أم لا؟ وأيضا حديث: " رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه " هل له ثبوت أم لا؟ وأيضا نحن نسمع الخطيب يقوم على رأس المنبر في صوم شهر رجب أنه بمزيد الأجر مخصوص، وأن فضل صومه في حديث المختار لمنصوص، ولم تقف فيما اشتهر من كتب الحديث على ذلك النص فبينوه، بل قد قيل: إنه ورد في الحديث النهي عن صيام رجب. ¬

(¬1) صالح بن محمد عبد الله العنسي ثم الصنعاني. ولد تقريبا على رأس القرن الثاني عشر، وأخذ العلم عن جماعة من أهل العلم. وقال الشوكاني في " البدر الطالع " رقم (202): وله قراءة علي في الصحيحين وسنن أبي داود وفي بعض مؤلفاتي. توفي 1274هـ بمدينة إب. " البدر الطالع " رقم (202) و" التقصار " (ص368).

وأيضا ما قولكم في صلاة المغرب في السفر، هل ورد فيها أثر عن الشارع من قول أو فعل أنها صليت ثلاث أم لا؟ وأيضا رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، هل ورد فيه نص من الشارع قولي غير مجرد فعله أم لا؟ أفيدونا بما يزيح الإشكال - لا عدمناكم على كل حال - والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله انتهى. أقول: أما تشييع الجنازة بالتهليل والذكر على الصفة التي تقع في مدينة صنعاء وجهاتها من رفع الأصوات على سبيل المناوبة بين المشيعين، يرفع بعضهم حوته قائلا: لا إله إلا الله مرات ثم يسكت، ويرفع البعض الآخر كذا لا. .. إلخ فلم يكن في زمن النبوة من ذلك شيء، بل ولا في القرون الثلاثة التي في خير القرون (¬1)، بل ولا فيما بعد ¬

(¬1) قال ابن تيمية: لا يستحب رفع الصوت مع الجنازة لا يقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك هذا مذهب الأئمة الأربعة وهو المأثور عن السلف من الصحابة والتابعين ولا أعلم فيه مخالفا. وقال أيضا: وقد اتفق أهل العلم بالحديث والآثار أن هذا لم يكن على عهد القرون المفضلة وبذلك يتضح لك أن رفع الصوت بالتهليل الجماعي مع الجنائز بدعة منكرة وهكذا ما شابه ذلك من قوله وحدوه أو اذكروا الله أو قراءة بعض القصائد كالبردة. ثم قال: " وأما كون أهل البلد، أو بلدين، أو عشر: تعودوا ذلك فليس هذا إجماعا بل أهل مدينة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي نزل فيها القرآن والسنة، وهي دار الهجرة والنصر والإيمان والعلم، لم يكونوا يفعلون ذلك، بل لو اتفقوا في مثل زمن مالك وشيوخه على شيء، ولم ينقلوه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو خلفائه، لم يكن إجماعهم حجة عند جمهور المسلمين، وبعد زمن مالك وأصحابه ليس إجماعهم حجة، باتفاق المسلمين فكيف بغيرهم من أهل الأمصار. وأما قول القائل: إن هذا يشبه بجنائز اليهود والنصارى، فليس كذلك، بل أهل الكتاب عادتهم رفع الأصوات في الجنائز وقد شرط عليهم في شرط أهل الذمة أن لا يفعلوا ذلك. ثم إنما نهينا عن التشبه بهم فيما ليس من طريق سلفنا الأول، وأما إذا اتبعنا سلفنا كنا مصيبين، وإن شاركنا في بعض ذلك نم شاركنا كما أنهم يشاركوننا في الدفن في الأرض، وغير ذلك. أنظر: " مجموع فتاوى ابن تيمية " (24 - 295).

ذلك من أيام السلف الصالح، ولكن لا حرج في ذلك، فإنه [1 أ] من الذكر المندوب إليه في كل حال من غير فرق يبن شخص وشخص، وزمن وزمان، ومكان ومكان. وأما مجرد كونه بأصوات مرتفعة فليس في ذلك ما يوجب الكراهة، كان خلاف الأولى قد جمع بعض المتأخرين رسالى مستقلة في جواز رفع الصوت بالأذكار، وقد يكون في هذا الرفع بخصوصه فائدة، وهي تذكير الناس بأمر الموت الذي أمر الشارع بالاستكثار من ذكره، وتنشيط السامع إلى القيام إلى تشييع الجنازة، فإن تشييعها سنة صحيحة، وفيه من الأجر العظيم ما تضمنته الأحاديث الواردة في ذلك (¬1)، وهي معروفة، وأولى من هذا الشعار في هذه الديار عند حمل الجنائز ما صار يفعله أهل الحرمين الشريفين من قول المشيعين للجنازة: كان من أهل الخير - رحمه الله -، فإن في هذا من الخير للميت والبر به ما هو معروف فيما صح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في حديث: " من شهد له أربعة، أوثلاثة أو اثنان دخل الجنة " والحديث صحيح (¬2). ¬

(¬1) في الهامش ما نصه: وأخرج الديملمي عن أنس أكثروا في الجنازة قول لا إله إلا الله. فضل تشييع الجنازة: (منها): ما أخرج البخاري في صحيحه رقم (47 و1325) ومسلم رقم (945) وأبو داود رقم (3168) والترمذي رقم (1040) وابن ماجه رقم (1539) والنسائي (4). عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " شهد الجنازة حتى يصلي عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان، قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين ". وفي رواية للبخاري: " من اتبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا، وكان معه حتى يصلى عليها، ويفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن يرجع بقيراط ". (ومنها): ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (946) وابن ماجه رقم (1540) من حديث ثوبان - رضي الله عنه -. (¬2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (3168) و (2643) من حديث أبي الأسود قال: قدمت المدينة فجلست إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فمرت بهم جنازة فأثنوا على صاحبها خيرا، فقال عمر- رضي الله عنه - وجبت ثم مر بأخرى فأثنوا على صاحبها خيرا، فقال عمر: وجبت، ثم مر بالثالثة فأثنوا على صاحبها شرا، فقال عمر: وجبت، قال أبو الأسود فقلت: وما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أيما مسلم شهد له أربعة نفر بخير أدخله الله الجنه " قال: فقلنا: وثلاثة؟ فقال: وثلاثة، فقلنا: واثنان؟ قال: وأثنان. ثم لم نسأله عن الواحد.

ومثله قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عند سماعه لمن يثني على الميت بخير: وجبت، ولمن يثني عليها بشر: وجبت. وفي الباب أحاديث في الصحيح (¬1) وخارجه مما هو صحيح أو حسن (¬2). فصنع أهل الحرمين، وإن لم يكن ثابتا في عصر النبوة، وما بعده على هذه الصفة الكائنة الآن عندهم لكنه قد سوغ ذلك الشارع في الجملة، وأخبرنا بما يترتب عليه من النفع للميت الذي صار المشيعون له في حكم الشفعاء إلى ربه أن يغفر له ذنوبه، ويتغمده برحمته. ولهذا ورد فيمن صلى عليه ثلاثة صفوف (¬3) وفيمن صلى عليه. ............................... ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة. (¬2) أخرج أبو داود في " السنن " رقم (3233) وابن ماجه رقم (1492) وأحمد (2، 498) وابن حبان رقم (3024). من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: مروا على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجنازة فأثنوا عليها خبرا، فقال: " وجبت " ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال " وجبت " ثم قال: " إن بعضكم على بعض شهيد ". وهو حديث حسن. وأخرج البخاري في صحيحه رقم (1367) ومسلم رقم (949) والترمذي رقم (1058) والنسائي (4 - 50) وابن ماجه رقم (1491) وأحمد (3، 245) من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: مر بجنازة فأثنى عليها شر فقال نبي الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وجبت، وجبت، وجبت " ومر بجنازة فأثني عليها شر فقال نبي الله وجبت، وجبت، وجبت. فقال عمر: فداك أبي وأمي. مر بجنازة فأثني عليها خير فقلت: " وجبت، وجبت، وجبت " ومر بجنازة فأثني عليها شر فقلت: " وجبت، وجبت، وجبت؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض ". (¬3) أخرج أحمد (4) وأبو داود رقم (3166) والترمذي رقم (1028) وابن ماجه رقم (1490) من حديث مالك بن هبيرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما من ميت يموت فيصلى عليه أمة من المسلمين يبلغون أن يكون ثلاثة صفوف إلا غفر له ". وهو حديث ضعيف.

أربعون (¬1)، وفيمن صلى عليه مائة أنه يكون سببا لمغفرة له (¬2). والأحاديث في ذلك معروفة فلا نطيل بذكرها. ¬

(¬1) أخرج مسلم في صحيحه رقم (948) وأبو داود رقم (3170) وابن حبان (3082) وأحمد (1). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه ". وهو حديث صحيح. (¬2) أخرج مسلم في صحيحه رقم (58/ 947). والترمذي رقم (1029) والنسائي (4/ 75 - 76) عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما من ميت يصلى عليه أمة من المسلمين بيلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا ". وهو حديث صحيح.

وأما السؤال عن وجه إكرام الحبوب المأكولة، وما خبز منها فلا أحفظ في ذلك دليلا يدل على مشروعية إكرامها دلالة صريحة، وأما ما يستفاد منه ذلك ولو بوجه بعيد، فيمكن أن يقال: حديث النهي عن الاستنجاء بالعظم والبعرة، وهو من حديث جابر عند مسلم (¬1) وغيره (¬2) وأخرجه البخاري (¬3) بلفظ: " ولا تأتني بعظم ولا روث " وفي لفظ له في المبعث من الصحيح: " أنهما من طعام الجن "، وأخرج مسلم (¬4) وغيره (¬5) من حديث ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " أتاني داعي الجن، فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن قال: فانطلق بنا فأراهم آثارهم، وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه، يقع في أيديكم أو فر ما يكون لحما، وكل بعرة علف لداوبكم " فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - " فلا تستنجوا بهم؛ فإنهما طعام إخوانكم ". وفي الباب أحاديث كثيرة متضمنة للنهي عن الاستنجاء بالعظم والبعر، وفي بعضها التصريح بأن العلة في ذلك هو كونها [1ب] طعام الجن، فزعم بعض أهل العلم أن النهي عن الاستجمار بذلك والتعليل بكونه من طعام الجن يدل على أن له حرمة، فيكون طعام الإنس أولى بالحرمة، وهو مردود بأن العلة هي أنه لما كان طعاما لهم كان الاستنجاء به يقذره عليهم، يمنعهم من أكله، لا يكونه ذا حرمة، فلم يكن في هذه الأحاديث التي وقع التصريح فيها بعلة المنع من الاستجمار بالعظم والبعر أو الروث، وهي أنه طعام الجن دليل على كون الأطعمة تكرم، أو أنها تحترم. ¬

(¬1) في صحيحه رقم (85). (¬2) كأبي داود رقم (38) وأحمد (3) من حديث جابر: " نهى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتمسح بعظم ". (¬3) في صحيحه رقم (3860). (¬4) في صحيحه رقم (150). (¬5) كالبخاري في صحيحه رقم (773).

وأما ما يروى مرفوعًا أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بلفظ: " أكرموا الخبز " فهو حديث لا أصل له (¬1)، بل صرح بعض الأئمة بأنه موضوع (¬2) باطل. وقد أخرجه ابن أبي حاتم (¬3) من حديث موسى الطائفي قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " أكرموا الخبز " فإن الله أنزله من بركات السماء، وأخرج له من بركات الأرض "؛ وأخرجه البزار (¬4) والطبراني (¬5) بأسناد ضعيف من حديث عبد الله ين أم حرام قال: صليت القبلتين مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وسمعته يقول: أكرموا الخبز، فإن الله أنزله من بركات السماء، سخر له بركات الأرض ومن يتبع ما يسقط من السفرة غفر له " وأخرج ابن [ ...... ] (¬6) أوسع الله عليهم حتى كانوا يستنجون بالخبز، فبعث الله عليهم الجزع، حتى إنهم كانوا يأكلون ما يقعدون به " (¬7). ¬

(¬1) بل الصواب: أن الحديث ضعيف كما سيأتي لا حقا. (¬2) كابن الجوزي في " الموضوعات رقم (1317) من حديث ابن أم حرام. (¬3) أخرجه البخاري في " التاريخ الكبير " (4/ 12). وقال الألباني في "الضعيفة " (6): وهذا إسناد ضعيف مرسى الطائفي لم أجد له ترجمة، وليس صحابي، فإن معانا الرواي عنه ذكروا أنه روى عن أبي حرة عن ابن سيرين عن أبي هريرة فهو تابعي أو تابع تابعي، ومعان أبو صالح ذكره العقيلي في الضعفاء وقال: حديثه غير محفوظ ولا يتابع عليه. (¬4) في مسنده (3 رقم 2877 - كشف). وأورده الهيثمي في " المجمع " (5) وقال: رواه البزار والطبراني وفيه عبد الله بن عبد الرحمن الشامي، ولم أعرفه وصوابه عبد الملك بن عبد الرحمن، وهو ضيعف. وهو حديث ضعيف. (¬5) انظر التعليقة السابقة. (¬6) كلمات غير واضحة في المخطوط. (¬7) لم أجده بهذا اللفظ. وقد ذكر عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليمني في تعليقه على " الفوائد في الأحاديث الموضوعة " الشوكاني (ص162) التعليقة رقم (5): " وقد ثبت النهي عن الاستنجاء بالعظام لأنها طعام الجن فطعام الإنسان أولى ".

وربما يستفاد حرمة الأطعمة من حديث أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بلعق الأصابع والصفحة، وقوله معللا لذلك: إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة. وهو في صحيح مسلم (¬1) وغيره من حديث جابر، ووجه الاستدلال بهذا الحديث على مطلق الإكرام، وتعليل اللعق للأصابع والقصعة بتلك العلة يشعر بأن كل جزء من أجزاء الطعام يحتمل أن تكون البركة فيه، سواء كان كثيرا أو قليلا، وبركة الله - سبحانه وتعالى - لا ينبغي أن تمتهن، بل هي حقيقة بالإكرام والاحترام، ومثله ما أخرجه مسلم (¬2) وغيره (¬3) من حديث أنس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أكل طعاما لعق أصابعه الثلاث، وقال: " إذا وقعت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذي، وليأكلها، ولا يدعها للشيطان ". وأمرنا أن نسلت القصعة، وقال: " إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة ". وفي الأمر بلعق الأصابع، وسلت القصعة ما يشير إلى ما ذكرناه من أن المقصود من ذلك الظفر ببركة الله، لا مجرد التنظيف، ولو كان المقصود مجرد التنظيف لكان المسح بمنديل ونحوه كافيا. وقد نهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك كما في الصحيحين (¬4) وغيرهما (¬5) من حديث ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ¬

(¬1) في صحيحه رقم (133) عن جابر قال: أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بلعق الأصابع والصحفة، وقال: " إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة ". وهو حديث صحيح. (¬2) في صحيحه رقم (136). (¬3) كالترمذي رقم (1803) وأبو داود رقم (3845). وهو حديث صحيح. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5456). وهو حديث صحيح. (¬5) كأبي داود في " السنن ط (3847) وابن ماجه رقم (3269).

قال: " إذا أكل أحدكم طعاما فلا يمسح يده يلعقها أو يلعقها " وأدل على المقصود من هذه الأحاديث ما أخرجه أحمد (¬1)، والترمذي (¬2)، وابن ماجه (¬3) عن نبيشة الخير أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " من أكل في قصعة ثم لحسها استغفرت له القصعة " قال الترمذي: (¬4): هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث المعلى بن راشد، وقد روى يزيد بن هارون وغير واحد من الأئمة عن المعلى بن راشد هذا الحديث انتهى. قلت: والمعلى بن راشد (¬5) مقبول، وهذا الحديث فيه أن القصعة تستغفر لمن لحسها، وذلك يشير إلى أن في ذلك قربة يثاب عليها فاعلها، والعلة إما الحرص على بركة الله - سبحانه - وإكرام ما بقي فيها من آثار الطعام بأكله، وعدم تركه للشيطان كما سبق في اللقمة، وفي النهي عن ترك اللقمة للشيطان دليل على أن العلة تشريف اللقمة الساقطة وإكرامها عن أن تترك للشيطان، فيكون في ذلك إرشاد إلى تكريم الطعام، وعدم [2أ] وضعه في مواضع الإهانة. ¬

(¬1) في " المسند " (5/ 76). (¬2) في " السنن " رقم (1804). (¬3) في " السنن " رقم (3271). (¬4) في " السنن " رقم (4/ 260). (¬5) معلى بن راشد الهذلي، أبو اليمان النبال البصري. قال النسائي: ليس به بأس. انظر: تهذيب التهذيب " (ص122). والخلاصة أن الحديث ضعيف والله أعلم.

وأما سؤال السائل - عافا الله - عن المشي في السكك والأسواق بدون إزار. فإن أراد بالإزار الإزار الذي يستر به الإنسان عورته، وأن الماشي المسؤول عنه يمشي متعربا فهذا حرام بلا شك ولا شبهة، ومنكر يجب على كل مسلم إنكاره على فاعله، وقد أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بستر العورة، وبالغ في ذلك حتى قال لمن قال له: فالرجل يكون خاليا؟ فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " الله أحق أن يستحى منه " والحديث معروف صحيح (¬1)، فإذا كان ستر العورة الخلوة مما أرشد إليه الشارع، ومنع فاعلة من فعله، فكيف بمن برز للناس كاشفا عورته، ومشي في السكك! فإن هذا شيطان من شياطين الإنس، مبارز بمعصية الله، مجاهر بها. ولا نعرف أحدا من المسلمين يعتاد هذا الذي سأل عنه السائل، فكيف تكون عادة لجميعهم كما يدل عليه سياق السؤال!. وأراد بمشية في السكك والأسواق بغير إزار معنى آخر غير هذا المعنى الظاهر، كأن يريد أن يترك الإزار التي كانت شعار الصحابة - رضي الله عنهم - ويلبس غيرها كالسراويل فلا إنكار في مثل هذا، فإنه قد ستر عورته بما هو أبلغ في الستر من الإزار، وقد فعل ذلك جماعة من الصحابة منهم الخليفة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وإن لم يصح أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لبسه، من طريق صحيحة، لكنها قد وردت أحاديث أنه اشتراه، وليس هذا موطن ذكرها، وإن أراد بالسؤال معنى آخر غير هذين المعنيين كأن يريد بالإزار الثوب الذي يجعله الإنسان على رأسه، أو على أحد جنبيه، ¬

(¬1) أخرجه أحمد في " المسند " (5) وأبو داود رقم (4016) وابن ماجه رقم (1920) والترمذي رقم (2769) وقال: هذا حديث حسن. كلهم من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده. وأخرجه البخاري معلقا (1). وقال الحافظ في " الفتح " (1/ 386) فالإسناد إلى بهز صحيح، ولهذا جزم البخاري وأما بهز وأبوه فليسا من شرطه. وهو حديث حسن.

فإنه قد يسمى ذلك في أعراف الناس اليوم إزارا إذا كان منسوجا من الصوف، فليس في هذا بأس، ولا ورد ما يدل على أن المشي بغير رداء، أو بغير قناع، أو بغير طيلسان بدعة، أو يوجب إثم من تركه إذا كان قد ستر عورته. وأما المحافظة على المروءات فذلك باب آخر، وهو يختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة والأشخاص فقد يعتاد الناس لباسا في بعض الأمكنة يكون لبس ما يخالفه مخالفا للمروءة. وقد يعتادون في بعض الأزمنة لبس ثياب تخالف ما يعتاده في زمن آخر. وقد يعتاد بعض هذا النوع الإنساني لبس ثياب تخالف ما يعتاده النوع الآخر، وتكون المحافظة من كل طائفة على الثياب المعتادة له ولأبناء جنسه هي المروءة، ولبس غيرهما هو الخروج عن المروءة ولسنا بصدد الكلام على المروءات والعادات.

وأما سؤال السائل - عافاه الله - عن التنحي عن صدور المجالس لمن فيه خصلة فضل. فنقول: قد كان هدي السلف الصالح من الصحابة [2ب] فمن بعدهم أن يقعد الواصل منهم إلى مجلس من المجالس حيث ينتهي به المجلس، وورد الأمر في الكتاب العزيز بأن يتفسح الجالسون لمن ورد إليهم إذا لم يبق له مجلس فيه. قال تعالى: (إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ) (¬1) وقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فيما صح عنه: " لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ويجلس فيه، بل تفسحوا أو توسعوا " وهو في الصحيحين (¬2) وغيرهما (¬3) من حديث ابن عمر، والمنهي ¬

(¬1) [المجادلة: 11]. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6270) ومسلم رقم (2177). (¬3) كأحمد (2/ 89) وأبو داود رقم (4828) والترمذي رقم (2749). قال القرطبي في " المفهم " (5/ 510 - 511): نهيه عن أن يقام الرجل من مجلسه إنما كان ذلك لأجل: أن السابق قد اختص به إلى يقوم بأختيار عند فراغ غرضه، فكأنه قد ملك منفعة ما اختص به من ذلك، فلا يجوز أن يحال بينه وبين ما يملكه، وعلى هذا فيكون على ظاهره من التحريم. وقيل: هو على الكراهة. والأول أولى. ويستوي في هذا المعنى أن يجلس فيه بعد إقامته، أو لا يجلس، غير أن هذا الحديث خرج على أغلب ما يفعل من ذلك. فإن الإنسان في الغالب إنما يقيم الآخر من مجلسه ليجلس فيه، وكذلك يستوي فيه يوم الجمعة - كما قال في رواية مسلم رقم (2178) - عن جابر عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا يقيمن أحدكم أحاه يوم الجمعة ثم ليخالف إلى مقعده فيقعد فيه، ولكن يقول: افسحوا " لأنه اليوم الذي يجتمع الناس فيه، ويتنافسون في المواضع القريبة من الإمام فليحق بذلك ما في معناه، ولذلك قال ابن جريج: في يوم الجمعة وغيرها. ومن أدب التفسح في المجالس: قال القرطبي في " المفهم " (5): هذا أمر للجلوس بما يفعلون مع الداخل وذلك: أنه لما نهى عن أن يقيم أحدا من موضعه تعين على الجلوس أن يوسعوا له ولا يتركوه قائما، فإن ذلك يؤذيه، وربما يخجله. وعلى هذا: فمن وجد من الجلوس سعة تعين عليه أن يوسع له. وظاهر ذلك أنه على الوجوب تمسكا بظاهر الأمر، وكأن القائم يتأدى بذلك، وهو مسلم، وأذى المسلم حرام ويحتمل أن يقال: إن هذه آداب حسنة، ومن مكارم الأخلاق، فتحمل على الندب. وقد اختلف العلماء في قوله تعالى: (إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ) [المجادلة: 11]. فقيل: هو مجلس النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يزدحمون تنافسا في القرب من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقيل: هو مجلس الصف من القتال. وقيل: هو عام في كل مجلس اجتمع فيه المسلمون للخير، والأجر، وهذا هو الأولى إذا المجلس للجنس على ما أصلناه في الأصول. وأنظر: " فتح الباري " (11/ 63 - 64).

عنه إنما هو أن يقيم الرجل الرجل مجلسه ويجلس فيه. وأما القيام ممن كان في صدر المجلس لمن يريد إليه بعده إكراما له لكونه من أهل الفضل، أو العلم، أو كان أبا له، أو جدا أو عما، أو أسن منه فليس في هذا بدعة، ولا مكروه، ولا إثم على القائم، ولا على الذي كان القيام له، بل هو من الآداب الحسنه، والعادات المستحسنة. وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقد الأكبر سنا في أمور: منها: التكلم كما ثبت في الصحيح (¬1) أنه لما جاء إليه خريصة ومحيصة يكلمانه في شأن المقتول بخيبر، فأراد الأصغر منهما أن يبتدي بالكلام فقال له: " كبر، كبر " والقصة مشهورة معروفة، فهذا إرشاد منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلى تأدب الصغير للكبير، وقد كان السلف الصالح من الصحابه ومن بعدهم يقدمون كبارهم وساداتهم وأمراءهم في كثير من الأمور ويقتدون بهم، ويكلون ما ينوبهم إليهم، فلا ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2702، 3173، 6134، 6898، 7192) ومسلم رقم (1، 2، 3، 4، 5، 6/ 1669) ومالك في " الموطأ " (2/ 877 - 878 رقم 1) وأبو داود رقم (4520، 4521، 4523) والترمذي رقم (1422) وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي (8 - 12) من حديث سهل بن أبي حثمة.

يكون القيام من المجلس لمن له الفضلة غير موجودة في من قام له كراهة ولا إثم قام طيبة بذلك نفسه، غير مكره ولا محمول على ذلك. فإن فعل هذا كان متأدبا بأدب حسن، وإن ترك فهو أحق بمجلسه الذي سبق إليه، لا يجوز لأحد أن يقعد فيه، وقد صح عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه: " إذا قام من مجلسه ورجع إليه فهو أحق به " كما في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم (¬1) غيره (¬2) من حديث أبي هريرة مشروط بأن لا يكون وقع التأثير له بصدر المجلس راغبا في ذلك، ومحبا له، فإن كان كذلك فهو غير ناج من الإثم، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " من أحب أن يتمثل الناس له صفوفا فليتبوأ مقعده من النار "، وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضا " أخرجه أبو داود (¬3)، ¬

(¬1) في صحيحه رقم (2179). (¬2) كأبي داود رقم (48 53) وابن ماجه رقم (3717) وهو حديث صحيح. (¬3) في " السنن " رقم (5230). قلت: وأخرجه الترمذي رقم (2915) وأحمد (4، 100) من حديث معاوية وهو حديث صحيح. قال ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (1 - 376): لم تكن عادة السلف على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائه الراشدين: أن يعتادوا القيام كلما يرونه عليه السلام كما فعله كثير من الناس، بل قد قال أنس بن مالك: لم يكن شخص أحب إليهم من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له، لما يعلمون من كراهته لذلك، ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقيا له، كما روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قام لعكرمة وقال للأنصار لما قدم سعد بن معاذ: " قوموا إلى سيدكم " وكان قد قدم ليحكم في بني قريظة لأنهم نزلوا على حكمه. والذي ينبغي للناس: أن يعتادوا اتباع السلف على ما كانوا عليه على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنهم خير القرون، وخير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلا يعدل أحد عن هدي خير الورى. وهدي خير القرون إلى ما هو دونه، وينبغي للمطاع أن لا يقر بذلك مع أصحابه، بحيث إذا رأوه لم يقوموا له إلا في اللقاء المعتاد. وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام ولو ترك أعتقد أن ذلك لترك حقه أو قصد خفضه ولم يعلم العادة الموافقة للسنة فالأصلح أن يقام له، لأن ذلك أصلح لذات البين، وإزالة التباغض والشحناء وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة: فليس في ترك إيذاء له. وليس هذا القيام المذكور في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من سره أن يتمثل له الرجل قياما فليتبوأ مقعده من النار " فإن ذلك أن يقوموا له وهو قاعد ليس هو أن يقوموا المجيئه إذا جاء ولهذا فرقوا بين أن يقال قمت إليه وقمت له، والقائم للقادم ساواه في القيام بخلاف القائم للقاعد. ... ". وقال النووي في " الترخيص في الإكرام بالقيام " (ص 67): الأصح والأولى والأحسن بل الذي لا حاجة إلى ما سواءه أنه ليس فيه دلالة، وذلك أن معناه الصريح الظاهر منه الزجر الأكيد والوعيد الشديد للإنسان أن يحب قيام الناس له وليس فيه تعرض للقيام، بنهي ولا غيره وهذا متفق عليه وهو أن لا يحل للآني أن يحب قيام الناس له، والمنهي عنه هو محبته للقيام، ولا يشترط كراهته لذلك، وحضور ذلك بباله، حتى إذا لم يخطر بباله ذلك فقاموا له أو لم يقوموا فلا ذم عليه. وإذا كان معنى الحديث ما ذكرناه فمحبته أن يقام له محرمة، فإذا أحب فقد ارتكب التحريم سواء قيم له أو لم يقم، فمدار التحريم على المحبة ولا تأثير بقيام القائم ولا نهي في حقه بحال، فلا يصح الاحتجاج بهذا الحديث. .". ونقل الحافظ ابن حجر في " الفتح " (11 - 54) جواب ابن الحاج على النووي فقال: واعترضه ابن الحاج بأن الصحابي الذي تلقى ذلك من صاحب الشرع قد فهم منه النهي عن القيام الموقع الذي يقام له في المحذور، فصوب فعل من أمتنع من القيام دون من قام، وأقروه على ذلك. وكذا قال ابن القيم في " حواشي السنن ": في سياق حديث معاوية رد على من زعم أن النهي إنما هو في حق من يقوم الرجال بحضرته، لأن معاوية إنما روى الحديث حين خرج فقاموا له، ثم ذكر ابن الحاج من المفاسد التي تترتب على استعمال القيام أن الشخص صار لا يتمكن فيه من التفصيل بين من يستحب إكرامه وبره كأهل الدين والخير والعلم. أو يحوز كالمستورين. وبين من لا يجوز كالظالم المعلن بالظلم أو جر ذلك إلى ارتكاب النهي لما صار يترتب على الترك من الشر، وفي الجملة حتى صار ترك القيام يشعر بالاستهانة أو يترتب عليه مفسدة امتنع. وإلى ذلك أشار ابن عبد السلام. ونقل ابن كثير في تفسيره عن بعض المحققين التفصيل فيه فقال: المحذور أن يتخذ ديدنا كعادة الأعاجم كما دل حديث أنس، وأما كان القادم من سفر أو لحاكم في حمل ولا يته فلا بأس به. قلت: - ابن حجر - ويلتحق بذلك ما تقدم في أجوبة ابن الحاج كالتهنئة لمن حدثت له نعمة أو لإعانة العاجز أو لتوسيع المجلس أو غير ذلك والله أعلم. وقال الغزالي: القيام على سبيل الإعظام مكروه وعلى سبيل الإكرام لا يكره ".

وهذا القيام الذي تقومه الأعاجم هو قيامهم على رؤوس ملوكهم وأكابرهم، فالنهي منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن هذا القيام، ووعيد من أحبه وتكالب عليه ليس إلا لكونه (¬1) نوع من محبه الشرف والترفع والتكبر، ومن أحب القعود في صدور المجالس وتنحي الناس له عنها، هو لا يكون منه ذلك إلا لهذه الأغراض الفاسدة التي زجر الشارع عنها، وتوعد فاعلها. وقد أخرج مسلم (¬2) عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه كان إذا قام له رجل من مجلسه لم يجلس ¬

(¬1) في المخطوط (لكون في) ولعل الصواب ما أثبتناه. (¬2) بل أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6270) ومسلم في صحيحه رقم (2177) وقد تقدم. قال النووي في شرح لصحيح مسلم (14 - 161): وأما نسب إلى عمر فهو ورع منه، وليس قعوده فيه حراما إذا كان ذلك برضا الذي قام ولكنه تورع منه لاحتمال أن يكون الذي قام لأجله استحيى منه فقام عن غير طيب قلبه فسد الباب ليسلم من هذا أو رأى أن الإيثار بالقرب مكروه أوخلاف الأولى، فكان يمتنع لأجل ذلك لئلا يرتكب ذلك أحد بسببه، قال علماء وإنما يحمد الإيثار بحظوظ النفس وأمور الدنيا. قال ابن القيم في " حاشية السنن ": والقيام يتقسم إلى ثلاث مراتب: قيام على رأس الرجل وهو فعل الجنابرة. وقيام إليه عند قدومه ولا بأس به. وقيام له عند رؤيته وهو في المتنازع فيه. ذكره الحافظ في " الفتح " (11/ 51). ثم نقل الحافظ في " الفتح " (11): عن أبي الوليد بن رشد أن القيام يقع على أربعة أوجه: الأول: محظور: وهو أن يقع لمن يريد أن يقام إليه تكبرا وتعاظما على القائمين. الثاني: مكروه: وهو أن يقع لمن لا يريد تكبرا وتعاظما على القائمين ولكن يخشى أن يدخل نفسه بسبب ذلك ما يحذر. ولما فيه من التشبه بالجبابرة. الثالث: جائز: وهو أن يقع على سبيل البر والإكرام لمن لا يريد ذلك ويؤمن معه التشبه بالجبابرة. الرابع: مندوب وهو أن يقوم لمن قدم من سفر فرحا بقدمه ليسلم عليه أو إلى من تجددت له نعمة فيهنئه بحصولها أو مصيبة فيعزيه بسببها.

فيه. وهذا باب من ورعه - رضي الله عنه - ولا يلزم غيره.

وأما السؤال عن حديث: أيام التشريق أيام أكل وشرب، هل في هذا الحديث زيادة لفظ " وبعال " أم لا؟. فأقول: أخرحه بزيادة لفظ " بعال " الدارقطني [3أ] (¬1) من حديث عبد الله ابن حذافة بإسنا فيه الواقدي وهو ضعيف، وأخرجه (¬2) أيضًا من حديث أبي هريرة، وفي إسناده سعيد بن سلام وهو ضعيف (¬3)، أخرجه ابن ماجه (¬4) من حديث أبي هريرة أيضًا من وجه آخر. وأخرجه ابن حبان (¬5) الطبراني (¬6) من حديث ابن عباس وفي إسناده إسماعيل ابن أبي حبيبة وهو ضعيف، وأخرجه أيضًا من حديثه أبو يعلى (¬7)، وعبد بن حميد (¬8)، وابن أبي شيبة (¬9)، إسحاق بن راهويه (¬10) في مسانيدهم، وأخرجه أيضًا النسائي (¬11) من طريق مسعود بن الحكم عن أمه مرفوعا، وأخرجه أيضا. ................................ ¬

(¬1) في " السنن " (2 رقم 32) ولفظ: " لا تصوموا في هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب، بعال يعني أيام منى ". (¬2) أي الدارقطني في " السنن " (2 رقم 33). (¬3) انظر: " ميزان الاعتدال " (3/ 206 - 207 رقم 3198/ 3724). (¬4) في " السنن " رقم (1719). بإسناد حسن. (¬5) في صحيحه (8 - 368). (¬6) في " الكبير " (11/ 232 رقم 11587). عن ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرسل أيام منى صائحا يصيح: أن لا تصوموا هذا الأيام، فإنها أيام أكل وشرب وبعال - البعال: وقاع النساء. (¬7) في مسنده (10/ 320 رقم 5913 رقم 6024). (¬8) عزاه إليه ابن حجر في " التلخيص " (2). (¬9) في مصنفه (3/ 104). (¬10) عزاه إليه ابن حجر في " التلخيص " (3). (¬11) في " السنن " (2/ 166 رقم 2879): " عن أمة رأت وهي بمنى في زمان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راكبا يصيح يقول: " يا أيها الناس إنها أيام أكل وشرب، ونساء، بعال، وذكر الله " قالت: فقلت: من هذا؟ قالوا علي بن أبي طالب ".

البيهقي (¬1) عنها، وذكر أنها جدته، وأخرجه ابن يونس (¬2) في تاريخ مصر عم عمرو بن سليمان الرقي، عن أمه مرفوعا، وأخرجه الدارقطني (¬3) عن سعيد بن المسيب مرسلا، فهذه سبعة أحاديث يقوي بعضها بعضا. وأما أصل الحديث بدون ذكر " بعال " فهو في صحيح مسلم (¬4) وغيره (¬5). ¬

(¬1) في " السنن الكبرى" (4). (¬2) ذكره ابن حجر في " التلخيص " (2). (¬3) في " السنن " (2). (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1141). (¬5) كأحمد (5، 76) وأبو داود رقم (2813) والنسائي (7) من حديث نبيشة الهذلي.

وأما السؤال عن حديث: رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه، هل له ثبوت أم لا؟ فقد قال جماعة من الحفاظ: إنه لا أصل له بهذا اللفظ، وقد روي من حديث ابن عباس عند ابن ماجه (¬1)، وابن حبان (¬2) والدارقطني (¬3)، والطبراني (¬4)، والحاكم (¬5)، والبيهقي (¬6). وقد روي من حديث ابن عمر (¬7) ' ومن حديث عقبة بن عامر (¬8)، قال أحمد بن حنبل (¬9): هذه أحاديث منكره كأنها موضوعة، وجزم بأنه لا يروى إلا عن الحسن مرسلا. وقال محمد بن نصر (¬10): ليس له إسناد يحتج به، وقال. ............................................. ¬

(¬1) في " السنن " رقم (2045). (¬2) في صحيحه رقم (1498 - موارد). (¬3) في " السنن " (4/ 170 رقم 33). (¬4) في " الكبير " (11/ 133 رقم 11274). (¬5) في " المستدرك " (2/ 198). (¬6) في " السنن الكبرى " (7). عن ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ". وفي لفظ: " تجاوز الله لي عن أمتي الخطأ والنسيان ". وفي لفظ آخر: " إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان ". قال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين " ووافقه الذهبي. وصححه المحدث الألباني في " الإرواء رقم (82). (¬7) أخرجه الطبراني في " الأوسط " رقم (8275). (¬8) أخرجه الطبراني في " الأوسط " رقم (8276). (¬9) انظر " طبقات الشافعية الكبرى " (3). ذكره ابن حجر في " التلخيص " (1). (¬10) ذكره ابن حجر في " التلخيص " (1/ 510).

البيهقي (¬1): ليس بمحفوظ، وقال الخطيب (¬2): منكر، وقد ورواه ابن ماجه (¬3) من حديث أبي ذر، وفي إسناده شهر بن حوشب وهو ضعيف، ورواه الطبراني (¬4) من حديث أبي الدرداء، وفي إسناده شهر أيضا، ورواه الطبراني (¬5) أيضًا من حديث ثوبان، وفي إسناده يزيد ين ربيعة، وهو منكر الحديث. وهؤلاء جميعا رووه بدون زيادة " وما استكرهوا عليه " وقد قيل: إنها زيادة مدرجة من قول هشام بن عمار، وقد تكلم عليه الحافظ في التلخيص (¬6) بزيادة على ما هنا، وقد حسنه النووي (¬7) وتعقب في ذلك. والظاهر أن لهذا الحديث أصلا في الجملة لكثرة طريق من طرقه لا يصح أن يكون من قسم الحسن لغيره. ولعل النووي أراد هذا لأن كل طريق من طرقه لا يصح أن يكون بمجردها من قسم الحسن لذاته، وأما من جزم بأنه لا أصل له فقد أبعد. وعلى كل حال فمعناه صحيح. وقد قال - سبحانه -: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (¬8) وثبت في صحيح مسلم (¬9) وغيره (¬10) في تفسير هذه الآية أن الله - سبحانه - قال: (قد فعلت) ومن ¬

(¬1) في " السنن الكبرى " (3)، (4، 325)، (6، 57)، (7)، (8 - 265)، (10). (¬2) في كتاب الرواة عن مالك، في ترجمة سوادة إبراهيم عنه وقال: سوادة مجهول، والخبر منكر عن مالك. كما في " التلخيص " (1). (¬3) في " السنن " (2043). (¬4) ذكره ابن حجر في " التلخيص " (1). (¬5) في " الكبير " (2 رقم 1230). (¬6) (1). (¬7) في "الأربعين " الحديث التاسع والثلاثون. (¬8) [البقرة: 286]. (¬9) رقم (200). (¬10) كأحمد (2). وهو حديث صحيح.

حديث أبي هريرة في الصحيح (¬1) أيضًا أن الله - سبحانه - قال: (نعم)، وأخرج سعيد ابن منصور (¬2)، وابن جرير (¬3)، وابن أبي حاتم (¬4) عن حكيم بن جابر قال -: لما نزلت: (آمَنَ الرَّسُولُ. ... .) قال جبريل للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: إن الله قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك، فسل تعطه " فقال (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.) حتى ختم السورة. وإذا قد ثبت بالقرآن، بالحديث الصحيح (¬5) في تفسير أن الله - سبحانه - قال عقب كل دعوة من هذه الدعوات (قد فعلت)، أو قال (نعم) فمغفرة [3ب] النسيان والخطأ مستفادة من قوله تعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) ومن مغفرة ما استنكره الإنسان عليه مأخوذة من قوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) ومن قوله: (وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) ومن قوله: (وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) ووجه كونه مأخوذ من ذلك أن المستكره لو كلف بما استكره عليه كان مكلفا بغير وسعه، وكان قد حمل إصرا عظيما، وكان قد كلف بما لا طاقه له به، ومما يؤيد ذلك في كتاب الله - سبحانه - قول الله - عز وجل -: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (¬6) وقال: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ¬

(¬1) مسلم في " صحيحه " رقم (199). (¬2) في "سننه " (3 رقم 478). (¬3) في "جامع البيان " (3ج3/ 153 - 154). (¬4) في " تفسيره " (2 رقم 3070). (¬5) أنظر: الحديث رقم (199) و (200) عند مسلم وقد تقدم. وانظر تفسير ابن كثير (1 - 738). (¬6) [الحج: 87].

الْعُسْرَ) (¬1) وقال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (¬2) ومن السنة ما ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من مثل قوله: " إن هذا الدين يسر " (¬3)، وقوله: " يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا " (¬4)، وقوله " أمرت بالحنيفية السمحة السهلة " (¬5) فإن قلت: قد زعمت أن حديث: " رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه " يصلح لإدرجه في قسم الحسن لغيره، وما قدمته لا يفيدني، ولا يفيدني أيضًا ما ذكره الحافظ ابن حجر في تلخيصه (¬6)، فإنه لم يبسط كل طريق منفردة ويذكر من خرجها، بل جاء بالكلام جملة واحدة، راعيا فيما نقله عمن تقدم أنه لا أصل له بذلك اللفظ. وقد اقتصر في النقل السابق على محصول كلامه في التلخيص، فأبن لي كل طريق على حدة حتى تتم لي الفائدة. قلت: أخرج ابن ماجه، وابن المنذر، وابن حبان في صحيحه، والطبراني، الدارقطني والحاكم، والبيهقي في سننه عن ابن عباس (¬7) أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه ". ¬

(¬1) [البقرة: 185] (¬2) [التغابن: 16]. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (39) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبة، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والرواح، وشيء من الدلجة ". (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (69) ومسلم رقم (1734). (¬5) أخرجه أحمد (6/ 116) والحميدي في " مسنده " (1 - 124 رقم 254). من حديث عائشة قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يومئذ لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني أرسلت بحنيفية سمحة ". (¬6) (1/ 510 - 513). (¬7) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.

وأخرجه ابن ماجه (¬1) من حديث أبي ذر مرفوعا. والطبراني (¬2) من حديث ثوبان مرفوعًا أيضا. وأخرجه أيضًا الطبراني (¬3) من حديث ابن عمر، ومن حديث عقبة بن عامر. وأخرجه البيهقي (¬4) أيضًا من حديثه. وأخرجه ابن عدي في الكامل (¬5)، وأبو نعيم (¬6) من حديث أبي بكرة. وأخرجه ابن أبي حاتم (¬7) من حديث أبي الدرداء. وأخرجه سعيد بن منصور (¬8)، وعبد بن حميد (¬9) من حديث الحسن مرسلا. وأخرجه أيضًا عبد بن حميد (¬10) من حديث الشعبي مرسلا. فهذه سبعة أحاديث عن سبعة صحابة، أحدها صححه ابن حبان، وحديثان مرسلان، ولم يقدح في حديث أبي ذر وأبي الدرداء، إلا لكون في اسنادهما شهر بن حوشب، وقد أخرج له مسلم وأهل السنن، وهشام بن عمار من رجال البخاري، إذا لم تكن هذه من الحسن لغيره على فرض عدم الاعتداد بتصحيح ابن حبان لما عارضه من تضعيف غيره بطل كثير من المتون المعدودة من الحسن لغيره كما يعرف ذلك من يعرفه. ¬

(¬1) في " السنن " رقم (2043) وهو حديث صحيح. (¬2) في " المعجم الكبير " (2 رقم 1430). (¬3) في " الأوسط " (8275) عن أبن عمر. ورقم (8276) عن عقبة بن عامر. (¬4) في " السنن الكبرى " (3/ 83) وقد تقدم. (¬5) في الكامل " (2) في الترجمة جعفر بن جسر بن فرقد. (¬6) في " التاريخ " كما في " الدر المنثور " (2/ 134). (¬7) ذكره ابن حجر في " التلخيص " (1). (¬8) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور " (2/ 135). (¬9) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور " (2/ 135). (¬10) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور " (2/ 135).

وأما سؤال السائل - عافاه الله - عما ورد في فضل صوم رجب بخصوصه، هل صح منه شيء أم لا؟. فنقول: قد روي في ذلك أحاديث سنوردها ها هنا ونتعقبها: فمنها: ما أخرجه الشيرازي في الألقاب (¬1)، والبيهقي في الشعب (¬2) من حديث أنس عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إن في الجنة نهرا يقال له رجب [4أ] أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، من صام يوما من رجب سقاه الله من ذلك النهر ". ومنها: ما أخرجه الخلال في فضائل رجب من حديث ابن عباس بلفظ: " صوم أول يوم من رجب كفارة ثلاث سنين، والثاني كفارة سنتين، والثالث كفارة سنة، ثم كل يوم كفارة شهر ". ومنها: ما أخرجه أبو نعيم (¬3)، وابن عساكر (¬4) من حديث ابن عمر بلفظ: " من صام أول يوم من رجب عدل ذلك بصيام سنة، ومن صام سبعة أيام أغلق عنه سبعة أبواب النار، ومن صام رجب عشرة أيام نادى مناد من السماء أن سل تعطه ". ومنها: ما أخرجه. ........................................................ ¬

(¬1) ذكره الزبيدي في " الإتحاف " (10). (¬2) (3 - 368 رقم 3800). قلت: وأخرجه الأصبهاني في " الترغيب والترهيب " رقم (1820) وابن الجوزي في " العلل المتناهية " (2/ 555) وقال: هذا لا يصح وفيه مجاهيل لا ندري من هم. وقال ابن حجر في " لسان الميزان " (9) بعد أن رواه من نفس الطريق في ترجمة " منصور بن يزيد ": منصور بن يزيد حدث عنه محمد بن المغيرة في فضل رجب: لا يعرف والخبر باطل. وأخرجه الحافظ ابن حجر في " تبيين العجب " (ص15). وهو حديث ضعيف. (¬3) في " أخبار أصبهان " (2). (¬4) عزاه إليه صاحب " كنز العمال " رقم (24262). وهو حديث ضعيف.

الخطيب (¬1) من حديث أبي ذر بلفظ: " من صام يوما من رجب عدل صيام شهر، ومن صام منه سبعة أيام علقت عنه أبواب الجحيم السبعة، ومن صام منه ثمانية أيام فتحت له أبواب الجنة الثمانية، ومن صام منه عشرة أيام بدل الله سيآته حسنات، ومن صام من ثمانية عشر يوما نادي مناد أن الله غفر لك ما مضي فاستأنف العمل ". ومنها: ما أخرجه البيهقي في الشعب (¬2) من حديث أنس بلفظ: " من صام يوما من ¬

(¬1) في تاريخه (8) بسند ضعيف جدا. وأخرجه ابن الجوزي في " الموضوعات " (2/ 207) عن الخطيب من طريقه وقال: هذا حديث لا يصح. " قال يحيى بن معين الفرات ابن السائب ليس بشيء. وقال البخاري والدارقطني. متروك ". أخرجه ابن حجر في " تبيين العجب " (ص29) من طريق فضالة بن حصين عن رشدين، به. وقد تعقب السيوطي، وابن الجوزي فيما ذهب إليه من الحكم على الحديث بالوضع فقال في " اللآلئ المصنوعة " (2/ 116): " هذا الحديث أورده الحافظ ابن حجر في " آماليه " ولم يسمه بوضع، قال: هذا حديث غريب اتفق على ورايته عن ابن السائب وهو ضعيف. رشدين بن سعد والحكم بن مروان وهما ضعيفان أيضا. لكن اختلفا عليه في اسم الصحابي، ففي رواية رشدين عن أبي ذر، وفي رواية الحكم عن ابن عباس، فلا أدري هل الخطأ من أحدهما أو من شيخهما، وميمون بن مهران قد أدرك ابن عباس ولم يدرك أبي ذر " ا هـ. قلت: ولا قيمة لهذا التعقب لأن الحافظ أورد الحديث ضمن الأحاديث التي نبه على بطلانها في " تبيين العجب ". (¬2) (3 رقم 3801). قلت: وأخرجه الأصبهاني في " الترغيب " رقم (1822) والطبراني في " الكبير " (6/ 96 رقم 5388) من طريق عثمان بن مطر، به. وأورده الهيثمي في " المجمع " (3) وقال: وفيه عبد الغفور وهو متروك. قلت: وفيه عثمان بن مطر وهو الشيباني البصري الرهاوي المقرئ ضعفه أبو داود وقال البخاري منكر الحديث. وقال النسائي ضعيف وقال ابن حبان كان عثمان بن مطر ممن يروي الموضوعات عن الإثبات. " ميزان الاعتدال " (3/ 35). ذكره الحافظ ابن حجر في " تبيين العجب " (ص 29) وقال: رويناه في فضائل الأوقات للبيهقي - رقم (9) - و" فضائل رجب " لعبد العزيز الكتاني، وفي " الترغيب والترهيب " لأبي القاسم التيمي من طريق عثمان بن مطر، عن عبد الغفور، عن عبد العزيز بن سعيد، عن أبيه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من صام يوم من رجب. .. الحديث وعثمان أبن مطر كذبه ابن حبان وأجمع الأئمة على ضعفه. فهو حديث موضوع.

رجب كان كصيام سنة، ومن صام سبعة أيام غلقت عنه سبعة أبواب جهنم، ومن صام ثمانية أيام فتحت له ثمانية أبواب الجنة، ومن صام عشرة أيام لم يسأل الله شيئا إلا أعطاه، ومن صام خمسة عشر يوما نادي مناد من السماء قد غفرت لك ما سلف فاستأنف العمل، قد بدلت سيآتك حسنات، ومن زاد زاده الله، وفي رجب حمل نوح في السفينة فصام نوح وأمر من معه أن يصوموا، وجرت بهم السفينة ستة أشهر ". ومنها: أخرجه الطبراني من حديث بن أبي راشد بنحو حديث أنس السالف. ومنها: ما أخرجه الخلال (¬1) من حديث أبي سعيد بلفظ: " رجب من شهور الحرم، وأيامه مكتوبة على باب السماء السادسة، فإذا صام الرجل منه يوما وجدد صومه بتقوى الله نطق اليوم وقالا: يا رب أغفر له، وإذا لم يتم صومه بتقوى الله لم يستغفرا له، وقيل له خدعتك نفسك ". وأخرج أبو الفتح بن أبي الفوارس في أماليه عن الحسن مرسلا أنه قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي " (¬2). ¬

(¬1) كما في " كنز العمال " رقم (53165). قلت: وأخرجه الأصبهاني في " الترغيب " رقم (1850). وهو حديث ضعيف. (¬2) أخرجه البيهقي في " فضائل الأوقات " رقم (10) وقال: هذا منكر بمرة. وقال ابن حجر في " تبيين العجب " (ص24) تعقيبا على كلام البيهقي: بل هو موضوع ظاهر الوضع، بل من وضع نوح الجامع، وهو أبو عصمة الدين، قال عنه ابن المبارك، لما ذكره لو كيع: عندنا شيخ يقال به: أبو عصمة، كان يضع الحديث. وهو الذي كانوا يقولون فيه: نوح الجامع جمع كل شيء إلا الصدق، وقال الخليلي: أجمعوا على ضعفه. وأوره الشوكاني في " الفوائد المجموعة " (47 - 48) وقال: موضوع ورجال مجهولون.

هذا جملة ما ورد في صيام رجب مما يختص به، وكلها أحاديث باطلة لا أصل لها. وقد ذكرنا أكثرها في " الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة " (¬1) وحكى ابن السبكي عن محمد بن نصر السمعاني أنه قال: لم يرد صوم شهر رجب على الخصوص سنة ثابتة، والأحاديث التي تروى فيه واهية لا يفرح بها عالم انتهى. وكما لم يصح الترغيب (¬2) في صوم رجب على الخصوص لم يصح النهي عن صومه كما روى [4ب] ابن ماجه (¬3) من حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وآله ¬

(¬1) للشوكاني (ص47، 48، 100 - 439). (¬2) قال ابن حجر في "تبيين العجب " لم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه، ولا صيام شيء منه - معين. ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه. حديث صحيح يصلح للحجة. وقد سبقني إلى الجزم بذلك الإمام أبو إسماعيل الهروي الحافظ، رويناه عنه بإسناد صحيح، وكذلك رويناه عن غيره، لكن اشتهر أن أهل العلم يتسمحون في إيراد الأحاديث في الفضائل وإن كان فيها ضعف، ما لم تكن موضوعة وينبغي مع ذلك اشتراط أن يعتقد العامل كون ذلك الحديث ضعيفا، وأن لا يشهر ذلك، لئلا يعمل المرء بحديث ضعيف، فيشرع ما ليس بشرع، أو يراه بعض الجهال فيظن أنه سنة صحيحة. ثم قال: وليحذر المرء من دخوله تحت قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من حديث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين ". فكيف بمن عمل به ولا فرق في العمل بالحديث في الأحكام، أو في الفصائل. وإذا الكل شرع. وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم (8/ 39): ولم يثبت في صوم رجب نهي ولا ندب لعينه ولكن أصل الصوم مندوب إليه وفي " سنن أبي داود " أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ندب إلى الصوم من الأشهر الحرم ورجب أحدها والله أعلم. (¬3) في " السنن " (1743). قلت وأخرجه الطبراني في " الكبير " (10/ 348) والبيهقي في " الشعب " (3/ 375 رقم 3714) والجوزقاني في " الأباطيل " (3) وقال: هذا حديث باطل لم يروه عن زيد بن عبد الحميد إلا داود بن عطاء وهو منكر الحديث وأخرجه ابن الجوزي في "العلل المتناهية " (2) وقال: لا يصح عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكره ابن القيم في " المنار المنيف " (ص97). وذكره السيوطي في"الجامع الصغير " (6) ورمز لضعفه. وأخرجه ابن حجر في " تبيين العجب " (ص47) وذكر كلام البيهقي: " رواه داود بن عطاء، وليس بالقوي وإنما الرواية عن ابن عباس من فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما قدمنا ذكره، فحرف الفعل إلى النهي، ثم، وإن صح فهو محمل على التنزيه، والمعنى فيه القديم قال: وأكره أن يتخذ الرجل صوم شهر يكمله من بين الشهور كما يكمل شهر رمضان، إنما كرهت هذا، لئلا يتأسى جاهل فيظن أن ذلك رجب ". وهو حديث ضعيف جدا.

وسلم - " نهى عن صيام رجب " فإن هذا الحديث في إسناده ضعيفان: زيد بن عبد الحميد (¬1)، وداود بن عطاء (¬2). وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (¬3) أن عمر كان يضر أكف الناس في رجب، حتى يضعوها في الجفان، ويقول: كلوا فإنما هو شهر تعطمه الجاهلية. وأخرج ابن أبي. .............................................. ¬

(¬1) زيد بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب العدوي المدني، مقبول، من السابعة. " التقريب " (1/ 275). " التهذيب " (3). (¬2) داود بن عطاء المزني مولا هم أبو سليمان المدني أو المكي، قال البخاري: منكر الحديث، وقال أحمد: ليس بشيء، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي ضعيف الحديث منكره وقال الذهبي، ضعيف، وقال الحافظ ضعيف، من الثامنة. " التقريب " رقم (2144)، و" التهذيب " (3). (¬3) في مصنفه (4). وأخرجه ابن حجر في " تبيين العجب " (ص48): وقال عقبه: فهذا النهي منصرف إلى من يصومه معظما لأمر الجاهلية، أما أن صامه لقصد الصوم في الجملة، من غير أن يجعله حتما، أو يخص منه أياما معينة يواظب على صومها أو ليال معينة يواظب على قيامها، بحيث يظن أنها سنة، فهذا من فعله مع السلام مما استثنى، فلا بأس به، فإن خص ذلك، أو جعله حتما فهذا محظور.

شيبة (¬1) أيضًا من حديث زيد بن أسلم قال: سئل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن صوم رجب؟ فقال: " أين أتنم عن شعبان؟ ". وأخرج (¬2) أيضًا عن ابن عمر ما يدل على أنه يكره صوم رجب. وأقول: يكفي في أستحباب صوم رجب أنه من الشهور الحرم، وقد أخرج أحمد (¬3)، وأبو داود (¬4)، والنسائي (¬5)، ابن ماجه (¬6) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل من باهلة لما قال له: إنه ما أكل طعاما بالنهار: " من أمرك أن تعذب نفسك؟ " فقال الباهلي: يا رسول الله، إني أقوى، قال: " صم شهر الصبر- يعني رمضان - ويوما بعده " قال: إني أقوى، قال: " صم شهر الصبر وثلاثة أيام بعده، وصم أشهر الحرم "، وقد ضعف هذا الحديث بعضهم للاختلاف في إسناده، فإن الراوي له عن هذا الرجل الباهلي نجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها، يعني هذا الرجل كما في سنن أبي داود، وقال النسائي (¬7): " مجيبة الباهلي عن عمه، فجعل الراوي وجلا، وأنت خبير بأن مثل هذا ¬

(¬1) في مصنفه (4). (¬2) في مصنفه (4). (¬3) في " المسند " (5). (¬4) في " السنن " رقم (2428). (¬5) في " السنن الكبرى " رقم (2743). (¬6) في " السنن " رقم (1741) وهو حديث ضعيف. (¬7) قال المنذري في " مختصر السنن " (3/ 306): أخرجه النسائي وابن ماجه إلا أن النسائي قال فيه عن بجيبة الباهلي عن عمه، وقال ابن ماجه عن أبي مجيبة الباهلي عن أيبه أو عمه، وذكره أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة وقال فيه: عن مجيبة - يعني الباهلي - قالت حدثني أبي أو عمي وسمي أباهد: عبد الله بن الحارث، وقال: سكن البصرة ورى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حديثا وقال في موضع آخر أبو مجيبة الباهلية، أو عمها سكن البصرة وروى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يسمه وذكر هذا الحديث وذكره ابن قانع في " معجم الصحابة " (2) وقال فيه: عن مجيبة عن أبيها أو عمها وسماه أيضا: عبد الله بن الحارث هذا آخر كلامه، وقد وقع فيه هذا الاختلاف كما تراه.

الاختلاف لا يعد قادحا، وجهالة الصحابي لا تضر لما تقرر في علم الاصطلاح، وأيضا قد قال أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة (¬1)، وأيضا فالصوم مندوب إليه في كل وقت غير الأوقات المستثناة، ورجب ليس من المستثناة ". وأما سؤال السائل - عافاه الله - عن صلاة المغرب هل ورد عن الشارع أنها صليت ثلاثا أم لا؟ فأقول: مشروعية القصر إنما هي في الصلاة الرباعية إلى اثنتين، ولم يرد عن الشارع، ولا عن غيره من الأمة أن صلاة المغرب ........................................................................ ¬

(¬1) (2 رقم 853) وقد ذكره مسندا. قلت: وأخرجه ابن حجر في " تبيين العجب " (ص13): وقال: ففي هذا الخير وإن كان في إسناده من لا يعرف، ما يدل على استحباب صيام بعض رجب لأنه أحد الأشهر الحرم. فائدة: قال أبو بكر الطرطوشي في كتاب " الحوادث والبدع " (ص282 - 284) وفي الجملة إنه يكره صومه على أصل ثلاثة وجوه: أنه إذا خصه المسلمون بالصوم في كل عام حسب العوام ومن لا معرفة له بالشريعة مع ظهور صيامه: 1 - إما أنه فرض كرمضان. 2 - وإما أنه سنة ثابتة، وقد خصه الرسول بالصوم كالسنن الراتبة. 3 - وإما لأن الصوم فيه مخصوص بفضل ثوابه على سائر الشهور جرى مجرى صوم عاشوراء وفضل آخر الليل على أوله في الصلاة. فيكون من باب الفضائل لا من باب السنن والفرائض، ولو كان من باب الفضائل، لنبه عليه السلام عليه أو فعله ولو مرة واحدة في العمر كما فعل في صوم عاشوراء، وفي الثلث الآخر من الليل، ولما لم يفعل ذلك بطل كونه مخصوصا بالفضيلة ولا هو فرض ولا سنة باتفاق. فلم يبق لتخصيصه بالصيام وجه فكره صيامه والدوام عليه حذرا من أن يلحق بالفرائض أو بالسنن الراتبة عند العوام، وإن أحب امرؤ أن يصومه على وجه يؤمن فيه الذريعة وانتشار الأمر حتى لا يعد فرضا أو سنة فلا بأس.

تقصر (¬1)،، ولا يحتاج إلى نقل في مثل هذا، فهو أمر مجمع عليه، معلوم لكل الأمة. وهذا في صلاة السفر من غير خوف. وأما في صلاة الخوف فقد ورد ما يدل على جواز الاقتصار على ركعة واحدة كما هو معروف في مواطنه من كتب السنة (¬2). وأما السؤال عن رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، هل ورد فيه نص من قول الشارع غير مجرد فعله أم لا؟. فأقول: أخرج البارودي، والطبراني في. ................................ ¬

(¬1) قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن لا يقصر في صلاة المغرب والصبح وأن القصر إنما هو في الرباعية. أنظر: " المعني " (13). (¬2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (944) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " قام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقام الناس معه فكبر وكبروا معه، وركع وركع ناس منهم، ثم سجد وسجدوا معه، ثم قام للثانية فقام الذين سجدوا وحرسوا إخوانهم وأتت الطائفة الأخرى فركعوا وسجدوا معه، والناس كلهم في صلاة ولكن يحرس بعضهم بعضا ". وقال ابن حجر في " الفتح " (2): وهذا كالصريح في اقتصارهم على ركعة ركعة ثم قال ويشهد له ما رواه مسلم في صحيحه رقم (5) وأبو داود رقم (1247) والنسائي (3 - 119) عن ابن عباس قال: "فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة ". ثم قال ابن حجر: ". .. وبالاقتصار في الخوف على ركعة واحدة يقول إسحاق والثوري ومن تبعهما ". وقال به أبو هريرة وأبو مرسى الأشعري وغير واحد من التابعين، ومنهم من قيد ذلك بشدة الخوف. وقال الجمهور: قصر الخوف قصر هيئة لا قصر عدد، وتأولوا رواية مجاهد - عن ابن عباس - على أن المراد به ركعة مع الإمام وليس فيه نفي الثانية، وقالوا! يحتمل أن يكون قوله في الحديث - عند النسائي (3) -: " لم يقضوا " أي لم يعبدوا الصلاة بعد الأمن. ثم قال ابن حجر في " الفتح " (2): " وقال جماعة من الصحابة والسلف: يصلي في الخوف ركعة، يومئ فيها إيماء ".

الكبير (¬1) من حديث الحكم بن عمير (¬2) الثمالي مرفوعا: " إذا قمتم إلى الصلاة فارفعوا أيديكم، ولا تخالف آذانكم ". وأخرج الطبراني في الكبير (¬3) من حديث وائل بن حجر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال له: " يا وائل بن حجر، إذا صليت فاجعل يديك حذو أذنيك، والمرأة تجعل يديها حذو ثدييها ". وأخرج الطبراني في الأوسط (¬4) من حديث ابن عمر مرفوعًا " إذا استفتح أحدكم فليرفع يديه، وليستقبل بباطنهما القبلة، فإن الله تعالى أمامه ". هذا ما وفقنا عليه من قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في رفع اليدين عند تكبيرة [5أ] الإحرام، وهذه السنة قد ثبتت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ثبوتا متواترا تواترا كليا عن خمسين صحابيا، منهم العشرة المبشرون بالجنة كما قال العراقي (¬5) وغيره. وقال الحسن وحميد بن هلال (¬6): كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يرفعون أيديهم من غير استثناء. حكى ذلك البخاري في. .................................. ¬

(¬1) (3/ 218 رقم 3190). وأورده الهيثمي في " المجمع " (2) وقال: فيه يحيى بن يعلى الأسلمي وهو ضعيف. (¬2) في المخطوط [عميرة] والصواب ما أثبتناه. (¬3) (22 - 20 رقم 374). وأورد الهيثمي في " المجمع " (2 و9) وقال: رواه الطبراني من طريق ميمونه بنت حجر عن عمتها أم يحيى بيت عبد الجبار ولم أعرفها وبقية رجاله ثقات. (¬4) (2 رقم 7801) وأورد الهيثمي في " المجمع " (2) وقال: فيه عمير بن عمران وهو ضعيف. (¬5) في " فتح المغيث " (4): حيث قال " وقد جمعت رواته فبلغوا نحو الخمسين ولله الحمد ". وقال في " تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد " (ص18): " واعلم أنه روي رفع اليدين من حديث خمسين من الصحابة منهم العشرة ". (¬6) ذكره البخاري في جزء " رفع اليدين " (ص31 رقم 10).

جزء (¬1) " رفع اليدين " وقال البخاري أيضا: لم يثبت عن أحد م أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه لم يرفع يديه، وقال الشافعي (¬2): روى الرفع جمع من الصحابة، لعله لم يرو حديث قط بعدد أكثر منهم. وقال البيهقي في الخلافيات (¬3): سمعت الحاكم يقول: اتفق على رواية هذه السنة يعني رفع اليدين عند التكبيرة العشرة المشهود لهم بالجنة، ومن بعدهم من أكابر الصحابة، قال البيهقي (¬4): وهو كما قال. قال الحاكم (¬5) واليبهقي (¬6) أيضا: ولا نعلم سنة اتفق على رواتها العشرة فمن بعدهم من أكابر الصحابة على تفريقهم في الأقطار الشاسعة غير هذه السنة. قال النووي في شرح مسلم (¬7): إنها أجمعت الأمة على ذلك عن تكبيرة الإحرام، وإنما اختلفوا فيما عدا ذلك. وحكى النووي (¬8) أيضًا عن الظاهري أنه واجب عند تكبيرة الإحرام. قال: وبهذا قال الإمام أبو الحسن أحمد بن سيار، والنيسابورى من أصحابنا، وهكذا حكى الحافظ في الفتح (¬9) عن ابن عبد البر (¬10) أنه حكى إجماع العلماء على ذلك، قال الحافظ: وممن قال بالوجوب الأوزاعي، والحميدي شيخ البخاري، وابن خزيمة. وحكى ذلك القاضي ¬

(¬1) (ص129رقم 135). (¬2) انظر " الطبقات " للسبكي (2/ 100). " الأم " (1). (¬3) في " مختصر خلافيات البيهقي " (2). وفي " المعرفة " (2/ 416 - 417). (¬4) في " مختصر خلافيات البيهقي " (2/ 72). و"السنن الكبرى " (2 - 76). وانظر: " نصب الراية " (1، 418). (¬5) انظر المصادر السابقة. (¬6) في " مختصر خلافيات البيهقي " (2/ 72). و"السنن الكبرى " (2 - 76). وانظر: " نصب الراية " (1، 418). (¬7) (3). (¬8) في شرحه لصحيح مسلم (3). (¬9) (2). (¬10) وانظر " الاستذكار " (2).

حسين عن الإمام أحمد. إذا عرفت هذا فاعلم أن سنة نقلها عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - خمسون صحابيا منهم العشرة المبشرون بالجنة، وأجمع على فعلها جميع الصحابة في حياته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وبعد موته، واتفق علماء الإسلام على ثبوتها، وقال قائل منهم بوجوبها لحقيقة بأن لا يسال عنها، وخليقة بأن لا يبحث عنها. وفعله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - سنة بإجماع المسلمين، ولكن السائل - أرشده الله - أراد أن يسأل عن ورود خصوص القول، ويبحث عنه مع علمه بأنها ثابتة ضمن الفعل على هذه الصفة التي أشرنا إليها.

وأما سؤال السائل - عافاه الله - عن حديث: " من كان له أما فقراءة الإمام له قراءة ". هل يصح مرفوعًا أم لا؟. أقول: أخرجه الدارقطني (¬1) في سننه عن عبد الله بن شداد أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة " وقال (¬2) بعد إخراجه: لم يسنده عن موسى بن أبي عائشة غير أبي حنيفة، والحسن بن عمارة، وهما ضعيفان، قال (¬3): وروى هذا الحديث سفيان الثوري، شعبة، إسرائيل، وشريك، وأبو خالد الدالاني، وأبو الأحوص، وسفيان بن عيينة، وجرير بن عبد الحميد وغيرهم [5ب] عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد مرسلا عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وهو الصواب انتهى. وقال المجد ابن تيمية في المنتقى (¬4): قد روى مسندا من طرق كلها ضعاف، والصحيح أنه مرسل. وقال الحافظ ابن حجر (¬5): وهو مشهور من حديث جابر، وله طرق عن جماعة من الصحابة كلها معلولة. وقال في الفتح (¬6): إنه ضعيف عند جميع الحفاظ، وقد استوعب طرقه وعلله الدارقطني. انتهى. فهذا الحديث كما ترى قد علله الحافظ، وجزموا بأنه مرسل، والمرسل من قسم الضعيف، وعلى فرض أنه ينتهض لكثرة طرقه فهو عام، لأن المصدر المضاف هو من ¬

(¬1) في " السنن " (1 رقم 1). (¬2) في " السنن " رقم (1). (¬3) في " السنن " (1 رقم 5). (¬4) (1 - 790). (¬5) في " الفتح " (2). (¬6) (2).

صيغ العموم (¬1) كما تقرر في الأصول، وقراءة الإمام مصدر مضاف فيعم جميع قراءة الإمام. وقد خصص هذا العموم بأحاديث صحيحة كحديث عبادة بن الصامت قال: صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الصبح فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: " إني أراكم تقرؤون وراء إمامكم " قال: قلنا: يارسول الله، إي والله، قال: " فلا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإن لا صلاة لمن لم يقرأ بها " أخرجه أبو داود (¬2)، والترمذي (¬3)، والنسائي (¬4)، وأحمد (¬5)، والبخاري في جزء القراءة (¬6)، والدارقطني (¬7) وصححه البخاري (¬8)، وابن حبان (¬9)، والحاكم (¬10)، وله شواهد كثيرة (¬11). وفي معناه أحاديث أخر لا حاجة لنا ببسطها هنا. وقد استوفينا في شرح المنتقى (¬12)، فعرفت بمجموع ما ذكرنا أنه لا بد من قراءة الفاتحة (¬13) خلف الإمام في الصلاة التي يجهر فيها الإمام، ويسمعه المؤتم. وأما في السرية ¬

(¬1) انظر " إرشاد الفحول " (ص398)، " اللمع " (ص16)، " التبصرة " (ص105). (¬2) في " السنن " رقم (823). (¬3) في " السنن " (311) وقال: حديث حسن. (¬4) في " السنن " (2/ 142) (¬5) في " المسند " (5/ 316). (¬6) في جزء القراءة رقم (258). (¬7) في " السنن " (1/ 319). (¬8) انظر جزء القراءة رقم (258). (¬9) في صحيحه رقم (1792). (¬10) في " المستدرك " (1/ 238) وهو حديث ضعيف. (¬11) انظر الرسالة رقم (79). (¬12) (1/ 784). (¬13) تقدم ذكر الأحاديث التي تشير إلى وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام. وانظر الرسالة رقم (97).

فالمؤتم يقرأ لنفسه. والبحث على الوجه الذي ينبغي أن يكون تحريره وتقريره عليه يطول جدا. وقد أفردناه برسالة مستقلة (¬1). وفي هذا المقدر كفاية. والله ولي التوفيق. حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما، حامدا الله، مصليا ومسلما على رسوله وآله -. انتهى جواب شيخنا - أدام الله إفادته، وحرس شريف ذاته، وأسعد آماله وأوقاته - بقلم السائل الحقير صالح بن محمد العنسي - غفر الله لهما - وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم بتاريخ شهر الحجة الحرام سنة 1225 هـ. ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (79).

تم ولله الحمد والمنة المجلد الثالث ... من كتاب الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني ويليه المجلد الرابع إن شاء الله

بحث في لزوم الإمساك إذا علم دخول شهر رمضان أثناء النهار

بحث في لزوم الإمساك إذا علم دخول شهر رمضان أثناء النهار تأليف محمد بن علي الشوكاني

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين: وبعد: فإنه لما وقع الإشعار بدخول شهر رمضان سنة 1204 هـ وقت الضحى، سألني جماعة من الخاصة عن وجوب الإمساك؛ هل هو مذهب راجح أو مرجوح؟ وعما تقضي به الأدلة؟ فأجبت أن الحق يحتم الإمساك على من أفطر، وعلى من لم يفطر، فاستنكر ذل جماعة منهم، حتى زعم بعضهم أن الأدلة مصرحة بخلاف ذلك، وزعم آخر أن وجوب الإمساك لا دليل عليه، وآخر أن عدم الوجوب مذهب الجمهور، وأنه لم يقل به إلا أهل المذهب، وآخر بلغني عنه أنه أفطر بعد شعوره بالإشعار، فحملني ذلك على إعادة النظر في المسألة، ومراجعة البحث، فلم أجد لهم في تلك الجدعاوي متمسكا، ثم إن بعض العلماء الأماثل أعاد علي المذاكرة، وأدار في المسألة كؤوس المناظرة، فأمليت عليه ما أمليته، منتهضا على الوجوب، وألقيت إليه ما ظننته وافيا بالتحتم المطلوب، فسألني زبر ذلك وتحريره، لتكون عين المتمسك به قريرة، فأجبته إلى ذلك، راجيا الاستفادة منه، لا الإفادة له. وقد اختصرت في المقام الذي يليق به التطويل، علما مي أن نقل أقوال الرجال ليس على مثله عند المتأهلين تعويل، ولكني أحكي في هذه البياضة ما يسود دعوى مننزعم أن عجم الوجوب قد مال إليه الجمهور، لا سيما منن تأخر عصره من علماء اليمن، ولا بد قبل ذكر الأدلة من تقديم مقدمة أصولية لينتفع بها المتأهل للنظر. اعلم أنه قد تقرر في الأصول أن النقص في العبادة نسخ للقدر الذي أزيل حكمه اتفاقا (¬1). وأما أنه نسخ للجميع ففيه خلاف قد استوفاه ابن الحاجب في المختصر (¬2) ¬

(¬1) ذكره الزركشي في " البحر المحيط ". (¬2) (2/ 201) " شرح العضد على مختصر ابن الحاجب ".

وشراح كتابه، والإمام المهدي في شرح المعيار (¬1)، وابن الإمام في الغاية (¬2) وشرحها. وقد جعله في شرح المعيار إطلاقين وتفصيلا فقال ما لفظه: (الأول لأبي رشيد، وأبي عبد الله البصري (¬3)، وأبي الحسن الكرخي (¬4) أن النقص ليس ¬

(¬1) انظر " مؤلفات الزيدية " (2/ 184 - 185). (¬2) انظر " مؤلفات الزيدية " (2/ 293). (¬3) انظر " نهاية السول " (2/ 608 - 610). (¬4) ذكره صاحب " المعتمد " (1/ 414 - 415). وكذلك ذكره الأسنوي في " نهاية السول " (2/ 608). وقال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص 650): لا خلاف في أن النقصان من العبادة نسخ لما أسقط منها لأنه كان واجبا في جملة العبادة ثم أزيل وجوبه، ولا خلاف أيضًا في أن ما لا يتوقف عليه صحة العبادة لا يكون نسخه نسخا لها كذا نقل الإجماع الآمدي - في " الإحكام " (3/ 192) والفخر الرازي في " المحصول " (3/ 373) - وأما نسخ ما يتوقف عليه صحة العبادة سواء كان جزءا لها كالشطر أو خارجا كالشرط فاختلفوا فيه على مذاهب: الأول: أن نسخه لا يكون نسخا للعبادة بل يكون بمثابة تخصيص العام، قال ابن برها،: وهو قول علمائنا وقال ابن السمعاني إليه ذهب الجمهور من أصحاب الشافعي واختاره الفخر الرازي والآمدي قال الأصفهاني: إنه الحق وحكاه صاحب " المعتمد " عن الكرخي. الثاني: أنه نسخ للعبادة، وإليه ذهب الحنفية كما حكاه عنهم ابن برهان وابن السمعاني. الثالث: التفصيل بين الشرط فلا يكون نسخه نسخا للعبادة وبين الجزء كالقيام والركوع في الصلاة فيكون نسخه نسخا لها وإليه ذهب القاضي عبد الجبار ووافقه الغزالي وصححه القرطبي. قالوا: لأن الشرط خارج عن ماهية المشروط بخلاف الجزء وهذا في الشرط المتصل أما الشرط المنفصل فقيل: لا خلاف في أن نسخه ليس بنسخ للعبادة لأنهما عبادتان منفصلتان، وقيل: إن كان مما لا تجزئ العبادة قبل النسخ بدونه فلا يكون نسخه نسخا لها وهذا هو المذهب الرابع. حكاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في " اللمع " (ص 34). وانظر مزيد تفصيل " جمع الجوامع " (2/ 93)، " البحر المحيط " (4/ 150 - 151). " تنقيح الفصول " (ص 317)، و" المسودة " (ص 213).

بنسخ للجميع مطلقا، سواء نقص ركن أم شرط متصل، أم منفصل. ومن ثمة ذكروا أن نسخ صوم يوم عاشورا لا ينسخ معه إجزاء النية للصوم م بعد الفجر (¬1)، بل يبقى ¬

(¬1) قال في " المعتمد " (2/ 427 - 428): اعلم أن الصلاة لما كانت واجبة إلى بيت المقدس، كانت واجبة في كل مكان على البدل، وكان يجب على المصلي أن يتوجه في المكان الذي يصلي فيه إلى بيت المقدس. فالتوجه في المكان إلى بيت المقدس هو هيئة من هيئات الصلاة في المكان فنسخ التوجه إلى بيت المقدس إنما يتناول هذه لهيئة، فلم يكن نسخا للصلاة في المكان. كما أنا لو أمرنا بصوم يوم عاشوراء على صفة، وهي أن نكون في ذلك اليوم متوجهين إلى بيت المقدس، ثم نسخ عنا التوجه فقيل " لا تتوجهوا إلى بيت المقدس " فإن ذلك لا يكون نسخا للصوم في ذلك اليوم. على أن النسخ للتوجه ورد على وجه فيه تثبت لجملة الصلاة. لأن المروي في ذلك هو " ألا إن القبلة قد حولت " وفي ذلك تثبيت للصلاة وكذلك ما ورد في القرآن من ذلك وهو قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144، 150]. وهذا هو النسخ للتوجه إلى بيت المقدس، لأن ذلك يقتضي وجوب التوجه إلى الكعبة ولا يصح الجمع بين التوجه إلى بيت المقدس وإلى الكعبة معا، فوجوب: أحدهما في كل صلاة يصليها ينفي وجوب الآخر. فأما صوم عاشوراء، فإنه ما وجب إلا في ذلك اليوم، فنظيره أن لا تجب الصلاة إلا مكان مخصوص. فلو قيل: " لا تصلوا في ذلك المكان " لكان قد انتفت جملة الصلاة، لأنها لم تجب إلا في ذلك لمكان. ألا ترى أنا نحتاج في وجوبها في مكان آخر إلى دليل آخر؟ وكذلك إذا قيل لنا: " صوموا يوم عاشوراء " ثم قيل لنا بعد حين " لا تصوموا في يوم عاشوراء " فإن ذلك ينفي جملة الصوم، لأنه لم يجب في زمان آخر، وإنما وجب في هذا الزمان فقط، فنفيه فيه نفي لجملته. فإن قيل كون ذلك نسخا لجملة الصلاة لا يمنع مما نريده، وهو أنه إذا كان يجوز صوم عاشوراء بنية بعد الفجر، جاز في الصوم الواجب فيما بعد، وهو صوم شهر رمضان، أن يجب بنية بعد الفجر، لأنه قد ثبت أن الشرع قد صحح الصوم بنية بعد الفجر. فإذا لم تغير الشريعة ذلك , وجب أن يبقى على ما كان عليه، قيل: إنما كان يجب ذلك لو ورد في ذلك لفظ عموم، نحو أن يقال: " كل صوم شرعي فإنه يصح بنية بعد الفجر، وقبل الزوال ". فأما إذا قيل: هذا الصوم الواقع في صوم عاشوراء يصح بنية بعد الفجر ... فإنه لا يجب مثله في صوم زمان آخر، لأن ذلك عبادة أخرى، ولا يجب أن تتفق العبادات في شرائط صحتها، بل ذلك موقوف على دليل زائد على ما دل. على أن النية بعد الفجر لا تمنع من صحة صوم عاشوراء.

إجزاؤها في شهر رمضان كما كانت في صوم عاشوراء، لأنه إنمانسخ صوم اليوم لا أحكام صومه من النية وغيرها إلخ). انتهى بلفظه. قلت: وقد ذهب إلى هذا المنصور بالله بن حمزة (¬1)، والإمام يحيى بن حمزة (¬2)، والرازي (¬3) والشيخ الحسن الرصاص (¬4). قال المحقق ابن الإمام في الغاية (¬5) أنه المختار، وعليه الجمهور. وقال المهدي في شرح المعيار أنه الصحيح، وصدره ابن الحاجب في المختصر (¬6). وقد احتجوا على ذلك بحجج منها أن لنقض لو كان نسخا لما بقي لكان مبطلا لوجوبه أو صحته، وافتقر إلى دليل آخر، لذلك قال ابن الحاجب: (¬7).: وهو خلاف الإجماع، إذا تقرر لك أن هذا مذهب جمهور الأصوليين، ومختار أئمة المحققين فاعلم أن حديث العوالي الذي فيه الأمر بالإمساك يوم عاشوراء من الأحاديث المتفق على صحتها. وقد اتفق على الاحتجاج به أهل البيت، وأهل الحديث، فأخرجه الإمام زيد بن علي في مجموعه (¬8) عن أبيه، عن جده، عن علي - عليه السلام - عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخرجه أيضًا في شرح التجريد (¬9)، وأصول الأحكام (¬10)، والشفا (¬11)، والاعتصام (¬12)، وغير هذه ¬

(¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) تقدمت ترجمته. (¬3) ذكره الرازي في " المحصول " (3/ 373). (¬4) تقدمت ترجمته. (¬5) انظر " مؤلفات الزيدية " (2/ 293). (¬6) انظر شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 201). (¬7) انظر شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 201). (¬8) (3/ 62 - 62) " الروض النضير ". (¬9) تقدم التعريف به. (¬10) انظر " مؤلفات الزيدية " (1/ 126). (¬11) (1/ 625). (¬12) " الاعتصام " تأليف الإمام المنصور القاسم بن محمد الحسني الصنعاني جمع فيه بين ما في كتب الحديث للأئمة الزيدية والأمهات الست ونحوها للسنة ورجح في كل مسألة ما يقتضيه اجتهاده، وبلغ فيه إلى كتاب الصيام ولم يتمه، فأكمله من كتاب الحج إلى آخر كتاب " السير " السيد أحمد بن يوسف زبارة (1252) ويسمى " أنوار التمام ". اسمه الكامل كما في بعض الفهارس " الاعتصام بحبل الله المتين القاضي بإجماع المتقين وألا يتفرقوا في الدين ". انظر: " مؤلفات الزيدية " (1/ 134).

الكتب، وأخرجه البخاري (¬1) من حديث سلمة بن الأكوع، ومسلم (¬2) من حديث بريدة واتفقا عليه (¬3) من حديث الربيع بنت معوذ بألفاظ منها أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بعث رجلا ينادي في الناس يوم عاشوراء أن من أكل فليتم أو فليصم، ومن لم يأكل فلا يأكل " وله ألفاظ أخر. ومنها: " فإن اليوم يوم عاشوراء ". وأخرجه النسائي (¬4) من حديث سلمة. وقد ثبتت الأدلة الصحيحة أن صوم عاشوراء كان قبل نزول (صوم) رمضان واجبا. وخالفت في ذلك الشافعية مع موافقتهم على لزوم الإمساك في يوم الانكشاف. وقد جاءوا في مقابل الأدلة الناصة على الوجوب بما لا طائل تحته. وقد استوفى ذلك ابن حجر في الفتح (¬5)، والنووي في شرح مسلم (¬6)، فراجعهما. والحق أنه كان واجبا كما ذهب إلى ذلك أئمتنا والجمهور لما ثبت عند البخاري (¬7)، ........................ ¬

(¬1) في صحيحه رقم (2007) عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: " أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلا من أسلم أن أذن في لناس أن من كان أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم، فإن اليوم يوم عاشوراء ". (¬2) لم أجده في صحيحه. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1960) ومسلم في صحيحه رقم (136، 137، / 1136). (¬4) في " السنن " (4/ 192 رقم 2321). (¬5) (2/ 245 - 248). (¬6) (8/ 11 - 13). (¬7) في صحيحه رقم (2004).

ومسلم (¬1)، وأبي داود (¬2) من حديث ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بصيامه، ولما ثبت عند مالك (¬3)، والبخاري (¬4)، ومسلم (¬5) والترمذي (¬6)، وأبي داود من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: " كانت عاشوراء تصام قبل رمضان، فلما نزل رمضان كان من شاء صام، ومن شاء أفطر " وترتيب التخيير على نزول رمضان يدل على أنه كان قبل متحتما، ومثله من حديث قيس بن سعد عند النسائي (¬7). ويدل عليه أيضًا ما سلف من الأوامر بالإمساك في حديث العوالي، لا سيما بعد تعليل ¬

(¬1) في صحيحه رقم (128/ 1130). (¬2) في " السنن " رقم (2444). عن ابن عباس، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدم المدنية فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرق فرعون وقومه فصامه موسى شكرا، ونحن نصومه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فنحن أحق وأولى بموسى منكم " فصامه رسول الله وأمر بصيامه. وعن ابن عباس، وسئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: ما علمت أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صام يوما يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم، ولا شهر اإلا هذا الشهر. يعني رمضان. أخرجه البخاري رقم (2006) ومسل رقم (1132). وعن ابن عباس، قال: حين صام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم عاشوراء، وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله إنه يوم يعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فإذا كان لعام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع " قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أخرجه أحمد (1/ 225، 236) ومسلم رقم (133، 134) وابن ماجه رقم (1736). (¬3) في " الموطأ (1/ 299 رقم 33). (¬4) في صحيحه رقم (3831). (¬5) في صحيحه رقم (113/ 1125). (¬6) في السنن رقم (753). (¬7) في السنن الكبرى (2/ 158 رقم 2842/ 9).

ذلك بما ثبت في بعض ألفاظ الحديث بلفظ: " فإن اليوم يوم عاشوراء ". إذا عرفت هذا فاعلم أن أحاديث وجوب الإمساك واردة في جنس الصوم الواجب المؤدى، فشمولها لرمضان من باب شمول النص، لا من باب القياس كما أشعر بذلك قول من سلف ذكره من أهل الأصول. ومثل هذا الوصية للوارث، فإن إيجابها لها اقترن بأحكام، وهي كونها بالمعروف (¬1)، وكون التبديل فيها محرما، والجنف ممنوعا، فنسخ وجوبها لا يوجب انتفاء ثبوت هذه الأحكام وغيرها من الوصايا بالنص، ولذلك نظائر كثيرة. وهكذا لو فرض أن الصوم الواجب كان عشرا فجعل ثلاثين، فإن الأحكام الثابتة في العشر ثابتة في الثلاثين بالنص، لأنها أشياء معتبرة في ماهية الصوم، المتصفة بالوجوب، والتأدية والماهية واحدة لا تختلف. وهكذا إذا كان الواجب يوما ثم صار ثلاثين، وإلا لزم أن ما ثبت من الأحكام المتعلقة بالصوم في يوم مثلا من أيام رمضان يخص ذلك اليوم، وليس في جميع الشهر لأيام زيادة على جمع السنة لأيامها التي عاشوراء من جملتها. وقد تقرر في الأصول أن زيادة صلاة سادسة (¬2) لا يكون نسخا بالإجماع، إلا ما يحكى عن العراقيين (¬3) من الحنفية. ¬

(¬1) يشير إلى قوله تعالى: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180]. (¬2) انظر " الكوكب المنير " (3/ 583 - 584). نهاية السول (2/ 189). " الإحكام " للآمدي (3/ 170). قال الرازي في " المحصول ": " اتفق العلماء على أن زيادة عبادة على العبادات لا تكون نسخا للعبادات ". ومعلوم أنه لا يخالف في مثل هذا أحد من أهل الإسلام لعدم التنافي. قاله الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص 645) وانظر: " اللمع " (ص 35). (¬3) قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص 645) " ... وإما أن يكون من جنسه كزيادة صلاة على الصلوات الخمس فهذا ليس بنسخ على قول الجمهور وذهب بعض أهل لعراق إلى أنها تكون نسخا لحكم المزيد عليه كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] لأنها تجعلها غير الوسطى وهذا قول باطل لا دليل عليه ولا شبهة دليل فإن الوسطى ليس المراد بها المتوسطة في لعدد بل المراد بها الفاضلى. ولو سلمنا أن المراد بها المتوسطة في العدد لم تكن الزيادة مخرجة لها عن كونها مما يحافظ عليه، فقد علم توسطها عند نزول الآة وصارت مستحقة لذلك الوصف وإن خرجت عن كونها وسطى.

وهكذا زيادة عشرين في حد القذف , وزيادة التغريب عند جمهورهم. وقد نقح البحث السعد في تلويحه (¬1)، فجعل الزيادة إن كانت عبادة مستقلة فلا نزاع بين الجمهور في أنها لا تكون نسخا (¬2)، وإنما النزاع في غير المستقل. قال: واختلفوا فيه على مذاهب ستة (¬3)، ثم ذكرها. ¬

(¬1) (2/ 36 - 37). (¬2) قال الشوكاني في " الإرشاد " (ص 646): الذي لا يستقل كزيادة ركعة على الركعات وزيادة التغريب على الجلد وزيادة وصف الرقبة بالإيمان وقد اختلفوا فيه على أقوال. (¬3) وهي: الأول: أن ذلك لا يكون نسخا مطلقا وبه قالت الشافعية والمالكية والحنابلة وغيرهم من المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم وسواء اتصلت بالمزيد عليه أو لا، ولا فرق بين أن تكون هذه الزيادة مانعة من إجزاء المزيد عليه بدونها أو غير مانعة. وانظر: " المسودة " (ص 207)، " التبصرة (ص 276). الثاني: أنها نسخ وهو قول الحنفية قل شمس الأئمة السرخسي الحنفي في أصوله (2/ 28): وسواء كانت الزيادة في السبب أو الحكم. الثالث: إن كان المزيد عليه ينفي الزيادة بفحواه فإن تلك الزيادة نسخ كقوله: " في سائمة الغنم الزكاة " فإنه يفيد نفي الزكاة عن المعلوفة وإن كان لا ينفي تلك الزيادة فلا يكون نسخا حكاه ابن برهان وصاحب " المعتمد " (1/ 405). وانظر: " البحر المحيط " (4/ 144). الرابع: أن الزيادة إن غيرت المزيد عليه تغيرا شرعيا حتى صار لو فعل بعد الزيادة على حد ما كان يفعل قبلها لم يعتد به وذلك كزيادة ركعة كانت نسخا وإن كان المزيد عليه يصح فعله بدون الزيادة لم تكن نسخا، كزيادة التغريب على الجلد وإليه ذهب عبد الجبار كما حكاه عنه صاحب " المعتمد " (2/ 405) وابن الحاجب في مختصره (2/ 201). الخامس: التفصيل بين أن تتصل به فهي نسخ وبين أن تننفصل عنه فلا تكون نسخا، حكاه ابن برهان عن عبد الجبار واختاره الغزالي في " المستصفى " (2/ 70). السادس: إن تكن الزيادة مغيرة لحكم المزيج عليه في المستقبل كانت نسخا وإن لم تغير حكمه في المستقبل بأن كانت مقارنة لم تكن نسخا حكاه ابن فورك عن أصحاب أبي حنيفة قال صاحب " المعتمد " (1/ 405) وبه قال شيخنا أبو الحسن الكرخي وأبو عبد الله البصري. وانظر: " إرشاد الفحول " (ص 647)، " المحصول " (3/ 365).

ومما يرشدك إلى صحة هذه الطريقة التي ذكرناها أعني: أن حديث العوالي كالنص في رمضان وقوع الإجماع الذي سنبينه على لزوم الإمساك. ولو كان دلالته على ذلك بالقياس فقط لوقع الاختلاف فيه على حد الاختلاف في العمل بالقياس والتخصيص به. ولو سلمنا عدم ثبوت هذا الحكم في رمضان بالنص بل قلنا أنه بالقياس كما صرح به الأكثر لما كان ذلك قادحا في رجحان هذا المذهب؛ فإن التعبد بالقياس عقلا (¬1) وسمعا، أو سمعا فقط، أو عقلا فقط، مذهب جميع الأمة إلا الإمامية، وتابعهم شذوذ من معتزلة بغداد (¬2). وناهيك أن الظاهرية المشهورين بنفي القياس قائلون بالتعبد به عقلا (¬3)، ولا يشك عارف أن حديث: " لا صيام لمن لم يبيت النية " (¬4) عام لصوم الفرض، والنفل، ¬

(¬1) انظر " البحر المحيط (5/ 16)، " اللمع " (ص 53 - 54)، " إرشاد الفحول (ص 659). (¬2) انظر " المحصول " (5/ 23) " البحر المحيط " (5/ 16). (¬3) انظر " التبصرة " (ص 419)، " إرشاد الفحول " (ص 662). (¬4) أخرجه أبو داود رقم (2454) والترمذي رقم (730) والنسائي (4/ 196 رقم 2334) واللفظ له. وابن ماجه رقم (1700) وابن خزيمة رقم (1933) والدارقطني (2/ 172) والدارمي (2/ 6 - 7) والبيهقي في " السنن الكبرى " (4/ 202) والطحاوي في " شرح معاني الآثار " (2/ 54) وأحمد (6/ 287) كلهم من حديث حفصة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأورده النووي في " المجموع " (6/ 289) وقال: " والحديث حسن يحتج به اعتمادا على رواية الثقات الرافعين والزيادة من الثقة مقبولة ". قلت: وهناك فرق خلاف بين العلماء في رفع الحديث ووقفه، فذهب فريق إلى أنه مرفوع وبه قال الحاكم، والدارقطني، وابن خزيمة وابن حزم وابن حبان. وذهب فريق إلى أنه موقوف ولا يصح رفعه وبه قال البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وأحمد. انظر " فتح الباري " (4/ 142) وتلخيص الحبير (2/ 200). والخلاصة أن الحديث حسن والله أعلم.

والأداء والقضاء والنذر والكفارة؛ لأن لفظ صيام نكرة في سياق النفي (¬1) ولا نزاع في عمومها. والقياس صحيح على يوم عاشوراء يخصص هذا العموم. والتخصيص بالقياس مذهب مشهور ذهب إليه أئمتنا (¬2) - عليهم السلام - والجمهور، والفقهاء الأربعة (¬3) والأشعري، وأبو هاشم، وأبو الحسين (¬4) والرازي (¬5) والآمدي (¬6)، والكرخي (¬7) هكذا في شرح الغاية. وقال ابن الحاجب في المختصر (¬8): مسألة: الأئمة الأربعة، والأشعري، وأبو هاشم، وأبو الحسين جواز تخصيص العموم بالقياس إلخ ... على أن حديث: " لا صيام لمن لم يبيت النية " (¬9) قال فيه أبو داود (¬10): لا يصح رفعه. وقال الترمذي (¬11) الموقوف أصح. ونقل في العلل (¬12) عن البخاري أنه قال: هو خطأ، وفيه ¬

(¬1) انظر البحر المحيط (3/ 122) و" إرشاد الفحول " (ص 420 - 422). (¬2) ذكره الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص 525). (¬3) ذكره الرازي في " المحصول " (3/ 96). (¬4) في " المعتمد " (2/ 275). (¬5) في " المحصول " (3/ 96). (¬6) في " الإحكام " (2/ 360). (¬7) ذكره الرازي في " المحصول " (3/ 96). (¬8) (2/ 153). (¬9) تقدم تخريجه وهو حديث حسن. (¬10) في " السنن " (2/ 824). (¬11) في " السنن " (3/ 108). (¬12) " العلل الكبير " (ص 119 - 120) رقم (204).

اضطراب، والصحيح عن ابن عمر أنه موقوف كما ثبت عنه في الموطأ (¬1) والنسائي (¬2) وقال أحمد: ما له عندي ذلك. وقال النسائي: الصواب عندي موقوف، ولم يصح رفعه. وقال ابن أبي حاتم (¬3) عن أبيه: الموقوف أشبه. وقد روى أبو داود عن معمر بن راشد , والزبيدي , وابن عيينة، ويونس، كلهم عن الزهري أنه موقوف على حفصة. وقال البيهقي (¬4): رواته ثقات، إلا أنه روي موقوفا , وفي رجاله في حديث عائشة مجهول، وفي حديث حفصة الواقدي، وتصحيح الحاكم (¬5) له لا ينافي الوقف، وكون الرفع زيادة مقبولى لا يتم عند جماعة من أهل الحديث، بل هو علة قادحة عندهم، كما ذكره الزين في شرح المنظومة (¬6)، وعلى تسليم قبولها فالاضطراب مانع منه. فهذا هو الحديث الذي بنيت حوله القناطر، وردت به الأدلى الصحيحة، وهو كما ترى ن والنزاع في غير النفل لا فيه؛ فإنه مخصوص من وجوب التبييت بما أخرجه مسلم (¬7)، وأبو داود (¬8) والترمذي (¬9)، والنسائي (¬10)، ........................................ ¬

(¬1) (1/ 288 رقم 5). (¬2) في " السنن " (4/ 197 - 198). (¬3) ذكره ابن حجر في " التلخيص " (2/ 362). (¬4) في " السنن الكبرى " (4/ 202). (¬5) في الأربعين كما في " التلخيص " (2/ 361). وانظر " فتح الباري " (2/ 144) " والإرواء " (2/ 25 رقم 914). (¬6) في ألفية الحديث (ص 93 - 95). (¬7) في صحيحه رقم (170/ 1154). (¬8) في (السنن) رقم 2455. (¬9) في " السنن " رقم (733، 734) وقال: حديث حسن. (¬10) في " السنن " (194 - 195).

والدارقطني (¬1)، والبيهقي (¬2) من حديث عائشة قالت: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم: " هل عندكم شيء؟ قلت: لا، قال: فإن صائم، فلما خرج أهديث لنا هدية فلما جاء قلت: يا رسول الله، أهديث لنا هدية، وقد خبأت لك شيئا، فقال هاتيه، فجئت به فأكل " وفي لفظ: أنه كان يدخل على أهله فيسألهم عن الغداء، فإن لم يجده قال: إني صائم. وهو ظاهر في إنشاء الصوم. وقد رد بأنه لا يدل على عدم التبييت. وفي المقام نزاع لا يتسعه البحث. قال ابن حجر في الفتح (¬3) عند الكلام على حديث سلمى السابق لما قهرته حجته: وكل ذلك لا ينافي أمرهم بالقضاء، بل قد ورد ذلك صريحا في حديث أخرجه أبو داود (¬4)، والترمذي (¬5) من طريق قتادة عن عبد الرحمن بن سلمة، عن عمه أن أم سلمة أتت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " صمتم يومكم هذا؟ " قالوا: لا، قال: فأتموا بقية يومكم واقضوه. وهكذا قال النووي في شر مسلم (¬6). وأنت إن أنصفت علمت أن الأمر بالقضاء مرتب على إخبارهم بعدم الصوم. ولا نزاع في وجوب القضاء على من أمسك بعد الإفطار، وإنما النزاع فيمن لم يأكل قبل الشعور بأن ذلك اليوم من رمضان؛ فالشافعية أوجبوا عليه الإمساك والقضاء لوجوب التبييت، وهكذا عن المؤيد بالله (¬7). ومذهب الجمهور صحة صوم ذلك اليوم، وعدم وجوب القضاء إن لم يأكل فيه وهو الحق. ¬

(¬1) في " السنن " (2/ 176 - 177 رقم 21). (¬2) في " السنن الكبرى " (4: 274 - 275) وهو حديث صحيح. (¬3) (4/ 142). (¬4) في " السنن " رقم (2447). (¬5) في " السنن " (3/ 126). (¬6) (8/ 13). (¬7) انظر " البحر الزخار " (2/ 237).

إذا تصفحت ما سلف فنحن نزيده تأكيدا، ونقول: لم نقف بعد البحث في كثير من الكتب التي هي مجاميع الخلاف على قول عالم أن الإمساك في اليوم الذي ينكشف من رمضان غير واجب، وليس من قال بوجوب التبييت يقول بعدم وجوب الإمساك في يوم الانكشاف، بل يوافق في وجوبه. إما لأنه يخص مثل هذه الصورة لو وقعت كما صرح بذلك ابن القيم (¬1)، وصاحب المنار (¬2)، وضوء النهار (¬3)، ومنحة الغفار (¬4)، أو لا يخصص، ولكنه يوافق في الوجوب، ونقول بفساد الصوم، وعدم إجزائه، ووجوب القضاء كالمؤيد بالله، والشافعية. وناهيك أن ابن حزم (¬5) من الظاهرية قد وافق على وجوب الإمساك، وجزم بإجزاء النية في النهار، وإجزاء الصوم، مستدلا بحديث سلمة , روى ذلك عنه ابن حجر في الفتح (¬6)، وهذا مما يرشدك إلى أن التمسك في المسألة ليس بمجرد القياس كما أوضحناه، ولو كان كذلك لما ذهب ابن حزم (¬7) الظاهري مع نفيه للقياس مطلقا، وتأليفه في إبطاله إلى الجزم باللزوم، والاستدلال بحديث سلمة إن فرضنا أنه لم يدل على ذلك بغير القياس. ومما يؤيد ذلك ما ثبت في أمالي (¬8) أحمد بن عيسى (¬9) بلفظ: قال أبو جعفر: من صام يوم الشك نوى أنه من شعبان، فإن تبين أنه من شهر رمضان قضاه ... إلى أن قال: ¬

(¬1) انظر " زاد المعاد " (2: 37)، (المنار المنيف) (1/ 38 - 41). (¬2) أي المقبلي في " المنار في المختار " (1/ 348). (¬3) (2/ 434 - 435). (¬4) حاشية " ضوء النهار " للأمير الصنعاني (2/ 434 - 435). (¬5) في " المحلى " (6/ 160 - 164). (¬6) (4/ 141 - 142). (¬7) انظر " المحلى" (6/ 160 - 164). (¬8) ويسمى " علوم آل محمد " و" بدائع الأنوار ". انظر " مؤلفات الزيدية " (1/ 153). (¬9) تقدمت ترجمته.

فإنه يتم صومه ويقضيه، لا يعلم فيه اختلاف. فهذا الإمام الجليل قد حكى الإجماع على وجوب الإمساك، وهذه مجاميع الخلاف لم نر فيها خلافا، فمن أهدى إلينا في المسألة قول قائل فأجره على الله. نعم قد وقع الخلاف في مسألة من زال عذره في النهار، هل يلزمه الإمساك، أو يندب له أو لا أيهما، وهي مسألة أخرى، وقد التبس على البعض فخلط المسألتين، وجعل الخلاف راجحا، وهو محض الغلط. قال شيخ الإسلام رحمه الله: انتهى في شعر رمضان سنة 1204 هـ.

بلوغ السائل أمانيه بالتكلم على أطراف الثمانية

بلوغ السائل أمانيه بالتكلم على أطراف الثمانية تأليف محمد بن على الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديث محمد صبحي بن حسن خلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: (بلوغ السائل أمانيه بالتكلم على أطراف الثمانية). 2 - موضوع الرسالة: فقه. 3 - أول الرسالة: هذا لفظ السؤال الوارد - من نجد - بسم الله الرحمن الرحيم. ما قول العلماء أثابهم الله الجنة: متي تحل الزكاة للفقير إذا كان عليه وعنده خمسون درهما أو أكثر ... 4 - آخر الرسالة:. وقد أوضحت هذا المعني، وقررته في مؤلفاته تقريرا بالغا، لأنه يخفى على كثير من المشتغلين بالعلم، ومثل هذا المقام لا يتسع لبسط ذلك كما ينبغي، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. والله ولي التوفيق كتبه المجيب / محمد بن على الشوكاني غفر الله لهما. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - الناسخ: المؤلف: محمد بن على الشوكاني. 7 - عدد الصفحات: 10 صفحات + صفحة العنوان. 8 - عدد الأسطر في الصفحة: 21 - 25 سطرا. 9 - عدد الكلمات في السطر: 10 - 11 كلمة. 10 - الرسالة من المجلد الرابع: (من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

هذا لفظ السؤال الوارد (¬1). بسم الله الرحمن الرحيم ما قول العلماء - أثابهم الله الجنة - متى تحل الزكاة للفقير إذا كان ذا عيلة، وعنده خمسون جرهما أو أكثر، ولا يكفي عائلته ربع سنته، فهل يحل له أن يطلب ما يكفيه جميع سنته من الزكاة أم لا؟. فإن قلتم: لا يحل له أن يطلب فهل إذا جاءه شيء بلا طلب يحل له أخذه، أم لا؟. وإذا كان في الحديث أنه لا يسأل إلا من الإمام الذي عنده بيت المال. فهل الأمير الذي في البلدان مثله أم لا؟. وإذا اجتمع أموال كثيرة من بلدان مغصوبة، نقد أو بر أو غيره من المأكول، وفيه شيء قدر الخمس من الزكاة مختلط به، وهذه الأموال مجهولة أربابه أو لم تجهل، وتعذر رده إليهم لعدم تميزه أو غير ذلك، فهل يحل أخذه للغني، أو لا يحل للغني ويحل للفقير أو يحرم على الجميع؟. فإن قلتم: يحل لهما أو لأحدهما، فهل يحل طلبه من الأمير الذي هو في يده إذا كان مأيوسا من رده إلى أربابه أم لا؟ وهل لين الإمام وغيره فرق إذا كان في يده شيء من هذه الأموال المذكورة أم لا؟. ابسطوا لنا القول؛ لأن هذه الأمور عامة البلوى بها، وهل الصلاة في هذه المغصوبة وفي بيوتها تصلح أم لا؟ - شكر الله سعيكم وعظم أجركم - انتهى. ¬

(¬1) علق المؤلف مقابل هذا في الحاشية فقال: " هذا وصل من نجد ".

وأقول بعد حمد الله والصلاة على رسوله وآله: إن هذا السؤال قد اشتمل على أطراف ثمانية: الطرف الأول: متى تحل الزكاة للفقير؟. وأقول: قد اختلف في ذلك على أقوال: الأول: للحنفية (¬1) والزيدية - أنها تحل الزكاة لمن لم يملك النصاب لا لمن يملكه واستدلوا بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح المروي عن معاذ مرفوعًا بلفظ: " تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم " (¬2). قالوا: فوصف من تؤخذ منه الزكاة بالغني وقد قال: " لا تحل الصدقة لغني " (¬3) وفي لفظ: " لا حظ فيها لغني " (¬4) وهو حديث صحيح. ¬

(¬1) انظر " المغني " (4/ 120 - 121). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1458) ومسلم رقم (29/ 19) وأبو داود رقم (1584) والترمذي رقم (625) والنسائي (5/ 2 - 4 رقم 2435) وابن ماجه رقم (1783). عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث معاذا إلى اليمن قال له: " إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم الزكاة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم، فإذا أطاعوك فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس ". (¬3) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لعامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غاز في سبيل الله، أو مسكين تصدق عليه منها فأهدى منها لغني ". خرجه أحمد (3/ 56) وأبو داود رقم (1636) وابن ماجه رقم (1841) والحاكم (1/ 407 - 408) وعبد الرزاق (4/ 109 رقم 7151) وابن الجارود رقم (365) والدارقطني (2/ 121 رقم 3، 4) والبيهقي (7/ 15) وابن خزيمة (4/ 71 رقم 2374). وهو حديث صحيح. (¬4) عن عبيد الله بن عدي بن الخيار رضي الله عنه أن رجلين حدثاه أنهما أتيا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسألانه من الصدقة فقلب فيهما النظر، فرآهما جلدين فقال " إن شئتما أعطيتكما , ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب ". أخرجه أحمد في المسند (4/ 224) وأبو داود رقم (1633) والنسائي (5/ 99 - 100 رقم 2598) والدارقطني (2/ 119 رقم 7) والبيهقي (7/ 14). وهو حديث صحيح.

والقول الثاني: للثوري وابن المبارك وأحمد، وإسحاق، وجماعة من أهل العلم (¬1) أن الغني من كان عنده خمسون درهما أو قيمتها، واستدلوا بحديث ابن مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت يوم القيامة خدوشا أو كدوشا في وجهه " قالوا: يا رسول الله وما غناه؟ قال: " خمسون درهما أو حسابها من الذهب " أخرجه أحمد (¬2) وأبو داود (¬3)، والترمذي (¬4) والنسائي (¬5)، وابن ماجه (¬6)، وحسنه الترمذي (¬7). القول الثالث: قول أبي عبيد القاسم بن سلام (¬8) أن الغني الذي تحرم عليه الصدقة من وجد أربعين درهما. واستدل بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف " أخرجه أحمد (¬9)، وأبو داود (¬10)، .......................................... ¬

(¬1) ذكره ابن قدامة في " المغني " (4/ 118). (¬2) في " المسند " (1/ 441، 446). (¬3) في " السنن " رقم (1626). (¬4) في " السنن " رقم (650). وقال: حديث ابن مسعود حديث حسن وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير من أجل هذا الحديث. (¬5) في " السنن " رقم (2593). (¬6) في " السنن " رقم (1840). (¬7) في " السنن " (3/ 41). وهو حديث صحيح. (¬8) في " الأموال " (ص 492 - 493). (¬9) في " المسند ". (¬10) في " السنن " (رقم 1628).

والنسائي (¬1) من حديث أبي سعيد، ورجال إسناده ثقات، وقد تكلم في عبد الرحمن بن محمد أبي الرجال (¬2) ولكن وثقه أحمد والدارقطني، وابن معين. وذكره ابن حبان في الثقات (¬3) وقال: " ربما أخطأ "، ووجه استدلاله لما قاله بهذا الحديث أن الأوقية قيمتها أربعون درهما (¬4). القول الرابع: للشافعي (¬5) وجماعة أنه يكون غنيا بالدرهم مع الكسب ولا يغنيه الألف مع ضعفه في نفسه وكثرة عياله، ويمكن الاستدلال له بالحديث الصحيح من قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب " (¬6). القول الخامس: ما حكاه الخطابي (¬7) عن بعض أهل العلم أن الغني الذي تحرم عليه الصدقة: من وجد ما يغديه أو يعشيه، واستدل القائلون بهذا بما أخرجه أحمد (¬8)، وأبو داود (¬9)، وابن حبان (¬10) وصححه من حديث سهل لن الحنظلية عن رسول الله - صلى ¬

(¬1) في " السنن " رقم (2596) ولحديث أبي سعيد شاهد عند أحمد (4/ 36) و (5/ 430) والنسائي (5/ 99) عن رجل من بني أسد. وآخر عند النسائي (5/ 98) عن عبد الله بن عمرو بن العاص. والخلاصة أن الحديث صحيح لغيره. (¬2) انظر " تهذيب التهذيب " (6/ 154 رقم 351). وهو حسن الحديث ليس به بأس. (¬3) (7/ 91 - 92). (¬4) ذكره ابن قدامة في " المغني " (4/ 118). (¬5) في " الأم " (4/ 264). (¬6) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح. (¬7) في " معالم السنن " (2/ 381 - مع السنن). (¬8) في مسنده. (¬9) في " السنن " رقم (1629). (¬10) في صحيحه رقم (844 - موارد). وهو حديث صحيح.

الله عليه وسلم - قال: " من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم " قال: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: " ما يغديه أو يعشيه ". القول السادس: لأبي طالب والمرتضى (¬1): أن الغني الذي تحرم عليه الصدقة من كان له غلة أرض تكفيه للسنة، ولعل وجه ذلك أنه لا يستغني عن الناس إلا بما يكفيه عن سؤالهم، وهو ضعيف. وأرجح هذه الأقوال القول الثاني، لاشتماله على الزيادة المقبولة التي وقعت غير مخالفة للمزيد، وبذلك يجمع بين الأحاديث المختلفة، فمن كان له خمسون درهما أو قيمتها فهو الغني الذي يحرم عليه أخذ الصدقة ما دام كذلك. الطرف الثاني من أطراف السؤال قوله: إذا كان ذا عيلة، وعنده خمسون درهما، أو أكثر , ولا يكفي عائلته ربع سنته فهل له أن يطلب ما يكفيه جميع سنته من الزكاة أم لا؟. أقول: أما هو فلا يحل له أن يطلب لنفسه، لأنه قد صار غنيا، ولا تحل الصدقة لغني، وأما عائلته فلهم أن يأخذوا من الزكاة القدر الذي لا يصيرون به أغنياء، فإن ذهبت النفقة بما في أيديهم جاز لهم أن يأخذوا من الزكاة، ثم كذلك، وهوة إذا ذهبت النفقة بما في يده جاز له أن يأخذ من الصدقة، وليس المراد هنا إلا أن يصير من كان مالكا للخمسين الدرهم مالكا لدونها. فإذا نقص من الخمسين درهما درهم جاز له أن يأخذ من الزكاة. وليس المراد أنه لا يجوز له الأخذ حتى يستنفق جميع الخمسين الدرهم. الطرف الثالث من أطراف السؤال قوله: " فإن قلتم لا يحل له أن يطلب، فهل إذا جاءه شيء بلا طلب يحل له أخذه أم لا؟ ". ¬

(¬1) انظر " البحر الزخار " (2/ 175).

أقول: قد ثبت جواز أخذ ما يعطاه الرجل من بيت المال بلا سؤال منهم. لما ثبت في الصحيحين (¬1) وغيرهما (¬2) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعطيني العطاء فأقول:: اعطه من هو أفقر مني إليه، فقال: " خذه، إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك ". وظاهر هذا أنه يجوز قبول العطاء من بيت المال، وإن كان غنيا؛ لأن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال (¬3) - ولا سيما بعد قول عمر الراوي للحديث: " اعطه من هو أفقر إليه مني "، ويوضح ذلك ما وقع في رواية شعيب بلفظ: " خذه فتموله " - وقد حكى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري الخلاف هل يجب قبوله أم يندب؟ وفي ذلك ثلاثة مذاهب، وذلك بعد أن حكى ابن جرير الإجماع على أن القبول مندوب. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1473) ومسلم رقم (1045). (¬2) كالنسائي (5/ 105 رقم 2608) والبغوي في " شرح السنة " (6/ 128 رقم 1629) وابن خزيمة (4/ 67 رقم 2366). (¬3) قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص 452): قال الإمام الشافعي: ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتما ينزل منزلة العموم في لمقال. قال في " المحصول " (2/ 386 - 387): مثاله أن ابن غيلان أسلم عن عشر نسوة فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أمسك أربعا منهن وفارق سائرهن " أخرجه أحمد (2/ 44) وابن ماجه رقم (1953) والترمذي رقم (1128) من حديث ابن عمر وهو حديث صحيح. ولم يسأل عن كيفية ورود عقده عليهن في الجميع والترتيب فكان إطلاقه القول دالا على أنه لا فرق بين أن تتفق تلك العقود معا أو على الترتيب، وهذا فيه نظر لاحتمال أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرف عرف خصوص الحال فأجاب بناء على معرفته ولم يستفصل " اهـ. ويجاب عنه بأن هذا الاحتمال إنما يصار إليه إذا كان راجحا. وليس بمساو، فضلا عن أن يكون راجحا. وانظر: " المسودة " (ص 109)، " الفروق " (2: 88، 90).

قال النووي (¬1) الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور أنه مستحب - ويؤيد هذا ما أخرجه أحمد (¬2)، وأبو يعلى (¬3)، والطبراني في الكبير (¬4) من حديث خالد بن عدي الجهني قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " من بلغه معروف عن أخيه عن غير مسألة ولا إشراف نفس فليقبله ولا يرده، فإنما هو رزق ساقه الله إليه " قال في مجمع الزوائد (¬5): رجال أحمد رجال الصحيح. وظاهره أنه لا فرق بين لعطية من بيت مال المسلمين وبين ما يعطيه الأخ لأخيه من غير بيت المال، وهذا الحديث يدفع قول من قال: إن القبول مندوب في عطية السلطان دون غيره. الطرف الرابع من أطراف السؤال قوله: وإذا كان في الحديث أنه لا يسأل إلا من الإمام الذي عنده بيت المال. فهل الأمير الذي في البلدان مثله أم لا؟. أقول: ثبت عند أبي داود (¬6)، والنسائي (¬7)، والترمذي (¬8) وصححه، وابن حبان (¬9) ¬

(¬1) في شرحه لصحيح مسلم (7/ 135). (¬2) في " المسند " (4: 220 - 221). (¬3) في مسنده (2/ 226 رقم 1/ 925). (¬4) (4/ 196 رقم 4124). (¬5) (3/ 100). وقال الحافظ في " الإصابة " (1/ 409) إسناده صحيح. (¬6) في " السنن " (1639). (¬7) في " السنن " (5/ 100). (¬8) في " السنن " رقم (681) وقال: حديث حسن صحيح. (¬9) في صحيحه رقم (3388). وهو حديث صحيح.

وصححه من حديث سمرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إن المسألة كد يكد بها الرجل وجهه إلا أن يسأل الرجل سلطانا أو في أمر لا بد له منه ". فهذا الحديث يدل على أنه يجوز السؤال لغير السلطان في الأمر الذي لا بد منه، فيكون هذا الحديث مقيدا لحديث النهي عن مطلق السؤال، وأيضا قد ثبت عند أحمد (¬1) وأبي داود (¬2)، والترمذي (¬3) وحسنه من حديث أنس عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " المسألة لا تحل إلا لثلاثة، لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع ". فهذا الحديث فيه جواز المسألة لهؤلاء الثلاثة من غير تقييد بكون ذلك السؤال لذي سلطان. وإذا تقرر هذا فسؤال الأمير المتولي على بلد من البلدان جائز على كل حال، لأنه إن كان مفوضا من الإمام فيده كيد الإمام، وإن لم يكن مفوضا فهو من جملة من عنده من أموال الله التي وزعها بين عباده كما يقتضيه نص القرآن بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} (¬4) الآية. الطرف الخامس من أطراف السؤال قوله: وإذا اجتمع أموال كثيرة من بلدان مغصوبة، نقد أو بر أو غيره من المأكول، وفيه شيء قدر الخمس من الزكاة مختلط به، وهذه الأموال مجهولة أربابه أو لم تجهل، وتعذر رده إليهم لعدم تميزه أو غير ذلك، فهل يحل أخذه للغني أو لا يحل للغني، ويحل ¬

(¬1) في " المسند " (3/ 114، 126، 127). (¬2) في " السنن " رقم (1641). (¬3) في " السنن " رقم (1218) وقال: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث الأخضر بن عجلان. إسناده ضعيف لجهالة حال أبي بكر الحنفي، وللقطعة المذكورة هنا وهي قوله: " المسألة .... " شواهد تصح بها. . (¬4) [التوبة: 60].

للفقير أو يحرم على الجميع؟. أقول: هذه الأموال المغصوبة باقية على ملك أهلها، معصومة بعصمة الإسلام، لا يحل لأحد أن يأخذ منها شيئا؛ لأن ذلك من أكل أموال الناس بالباطل، والله - سبحانه - يقول: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (¬1) وصح عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في الصحيحين (¬2) وغيرهما (¬3) أنه قال: " إن دماءكم وأموالك عليكم حرام " وصح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه " (¬4). فهذه الأموال مهما كان أهلها معروفين كأهل قرية معينة، أو مدينة معروفة وجب دفعها إليهم، فمن عرف حقه وأقام عليه البينة أخذه، وإذا اختلط ببعض أخذ كل واحد قدر ملكه الذي ص له بالقسمة، ولا تخرج الأموال بالاختلاط أو بعدم معرفة نصيب كل واحد من المالكين على التعيين عن ملك أهلها، وهذا مما لا أظن أنه يقع فيه حلاف بين أهل العلم. ¬

(¬1) [النساء: 29]. (¬2) البخاري في صحيحه رقم (67) ومسلم رقم (1679). (¬3) كأبي داود رقم (1948). كلهم من حديث أبي بكرة. (¬4) أخرجه الدارقطني (3/ 26 رقم 91) وفيه الحارث بن محمد الفهري مجهول قاله الحافظ في " التلخيص " (3/ 46). وأخرجه أيضًا الدارقطني (3/ 25 رقم 88) وفيه داود بن الزبرقان وهو متروك الحديث وقال الحافظ في " التلخيص " (3/ 46). وأخرجه أحمد (5/ 72 - 72) والدارقطني (3/ 26 رقم 92). وأورده الهيثمي في " المجمع " (3: 265 - 266) وقال: " رواه أحمد , وأبو حرة الرقاشي , وثقه أبو داود، وضعفه ابن معين، وفيه علو بن زيد وفيه كلام ". وقال الحافظ في " التلخيص " (3/ 46) وفه علي بن زيد بن جدعان وفيه ضعف. وأخرجه الدارقطني في " السنن " (3، 25 رقم 87) عن ابن عباس.

وإذا وقع في كتب الفقه ما يوهم خلاف هذا فالسبب عدم فهم الكلام على ما ينبغي فهمه عليه، فإن حصل الجهل للمالك على التعيين، ولكنه يعلم أن هذه الأموال هي أموال أهل القرية الفلانية فالواجب التخلية لينها وبين أهل تلك القرية - وعلى المتولي أمورهم، ومن كان من أهل العلم فيهم أن يجعلها - حيث لا مدعي على التعيين يدعيها في مصالحهم الدينية أو الدنيوية، أما إذا جهل مالك تلك الأموال جهلا كليا فلا يعرف شخصه ولا نوعه، ولاا ممن هو، ولا تبين أن تلك الأموال من أموال أهل المحلة الفلانية، ولا وجد من يدعي أنها له أو لقومه على وجه صحيح، فهذه الأموال هي التي يقال لها المظالم الملتبسة وهي من جملة أموال الله - سبحانه ه- ومن جملة بيت مال المسلمين والواجب على إمام المسلمين أو من كان صالحا منهم حيث لا إمام عندهم أن يصرف تلك الأموال في محاويج المسلمين، وإذا لم يكن ثم محاويج صرفها فيما يصلح أحوالهم من مصلح دينهم ودنياهم، وأهم المصالح وأحقها وأقدمها، وأولاها الجهاد في سبيل الله - عز وجل - وإذ تبين للإمام أو لمن هو صالح للقيام بأمور المسلمين مع عدم الإمام أن في تلك الأموال شيئا من الزكاة صرفه في مصارف الزكاة، وله أن يصرف في نفسه ما يجوز له تناوله. وبالجملة فقد تبين بنصوص الشريعة مصرف كل نوع من أنواع الأموال، والعارف بموارد الشرع لا يخفى عليه مثل ذلك. الطرف السادس من أطراف السؤال قوله: فإن قلتم يحل لهما أو لأحدهما، فهل يحل طلبه من الأمير الذي هو في يده إذا كان مأيوسا من رده إلى أربابه أم لا؟. أقول: جواب هذا الطرف قد تبين من جواب الطرف الذي قبله، ولا شك أن كل من يستحق الصرف إليه من نوع من أنواع الأموال يجوز ل أن يطلب ما يستحقه من الإمام، أو من الأمير الذي يتولى العمل من جهة الإمام، أو من الرجل الذي يصلح

للولاية حيث لا إمام ولا أمير من جهة الإمام، فلم يرد ما يدل على منع طلب ما هو حق أثبته الشرع، وإنما الممنوع السؤال من غير ذلك، أو سؤال من ليس لمستحق لذلك النوع، كسؤال الغني ونحوه أن يصرف إليه نوع من أنواع الزكاة، فإنه: " لا حق فيها لغني ولا لقوي مكتسب (¬1) ولا لهاشمي " (¬2)، وأما سائر أموال الله فمصارفها معروفة فقد كان العطاء في أيام اصحابة والتابعين وتابعيهم يصرف في المسلمين على اختلاف أنواعهم، ويأخذون منه على قدر منازلهم في القيام بأمور الدين (¬3)، وفي استحقاقهم ¬

(¬1) تقدم ذكر الحديث وتخريجه. (¬2) أخرج مسلم في صحيحه رقم (168/ 1072) وأبو داود رقم (2985) والنسائي (5/ 105 - 106 رقم 2609) وأبو عبيد في " الأموال " رقم (842) والطحاوي في " شرح معاني الآثار " (2/ 7) والبيهقي (7/ 31) وأحمد (4/ 166) عن المطلب بن ربيعة بن الحارث قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هن أوساخ الناس ". وفي رواية " وإنها لا تحل لمحمد ولآل محمد ". وانظر: الرسالة رقم (100) من " الفتح الرباني ". (¬3) منها الخمس، الفيء، الخراج، الجزية، وعشر تجارة الكفار إذا دخلوا دار الإسلام، ومن مات من غير وارث، ومال من أيس من معرفته. وقال القاضي بدر الدين بن جماعة في الأمور التي هي أصول بيت المال: جهات بيت المال سبعتها ... في بيت شعر حواها فيه كاتبه خمس وفيء خراج جزية عشر ... وارث فرد ومال ضل صاحبه وهناك الزكاة والتبرعات، والوقف، والوصايا، والتعزيرات المالية. انظر " الأشباه والنظائر " للسيوطي (ص 564). " الأحكام السلطانية " للماوردي (ص 193 - 194). قال أبو عبيد في " الأموال " (ص 21 - 22): حكم الفيء والخراج والجزية واحد ويلتحق به ا يؤخذ من مال أهل الذمة من لعشر إذا اتجروا فيبلاد الإسلام وهو حق المسلمين يعم به الفقير والغني وتصرف منه أعطية المقاتلة وأرزاق الذرية وما ينوب الإمام من جميع ما فيه صلاح الإسلام والمسلمين. وقال أبو عبيد في " الأموال " (ص 21): فأما الصدقة فزكاة أموال المسلمين من الذهب والورق، والإبل، والبقر والغنم، والحب والثمار فهي للأصناف الثمانية الذين سماهم الله تعالى، لا حق لأحد من الناس فيها سواهم، ولهذا قال عمر: هذه لهؤلاء. وانظر: " فتح الباري " (6/ 269).

في أنفسهم، حتى كان يعطى كثير من أكابر الصحابة مائة ألف وأكثر من ذلك، وقد كان يخذ مثل الحسن بن علي، والحسين بن علي، وعبد الله بن جعفر، وأمثالهم من ذلك ما هو معروف فيما صح من كتب التاريخ والسير. الطرف السابع من أطراف السؤال قوله: وهل بين الإمام والأمير المفوض من جهته، وبين المتولي من جهة الصلاحية، مع عدم الإمام، فإنه يجوز لكل واحد منهم أن يصرف كل نوع من أنواع الأموال في مصارفه التي ورد الشرع بإثبات كونها مصارف، وإن كان ثم فرق بينهم من حيث كون ولاية الإمام أصلية صارت ثابتة له ببيعة المسلمين له، وكون ولاية الأمير مستفادة من الإمام , وكون ولاية الصالح للولاية من جهة الصلاحية مع عدم الإمام، ولكن اختلاف ولايتهم من هذه الحيثية لا يوجب اختلاف حالهم فيما يجب أن يضعوه في مواضعه، ويصرفوه في مصارفه. الطرف الثامن من أطراف السؤال قوله: وهل الصلاة في هذه المغصوبة، وفي بيوتها تصح أم لا؟. أقول: الكلام في الصلاة بالمغصوب - كالثوب - وفي المغصوب - كالدار - قد طال الكلام فيه، وحرره أئمة الأصول وأئمة الفروع بما لا يخفى على عارف، وتحقيق الحق في مثل ذلك يطول، ويخرج بنا الكلام إلى مباحث لها ذيول. والحق الحقيق بالقبول: أن على الغاصب إثم غصبه. وأما كون صلاته لا تصح

فلم يرد من الشرع ما يدل على ذلك (¬1)، أو يفيده؛ لأن عدم الصحة الشرعية لا يثبت إلا لفقد شرط، أو انخرام ركن، أو وجود مانع دل الشرع على أنه يمنع من الصحة، وفرق بين كون الشيء ممنوعا منه، وبين كون وجوده يؤثر في عدم الشيء، أو كون عدمه يؤثر في عدم الشيء، ثم الدليل المفيد ذلك لا يكون إلا بلفظ يفيد عدم صحة ذلك الشيء عند عدم ما هو معتبر فيه. كأن يقول الشارع: لا تصح صلاة من فعل كذا، أو لا تصح صلاة من لم يفعل كذا، أو لا يقبل الله صلاة من فعل كذا - على ما في نفي القبول من النزاع المعروف بين أهل العلم - وحاصله: هل نفي قبول الشيء يدل على نفي صحته أم لا (¬2)؟ كقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار " (¬3). ونحو ذلك مما يكثر تعداده. ¬

(¬1) قال ابن قدامة في " المغني " (2/ 476 - 477): وفي الصلاة في الموضع المغصوب روايتان: إحداهما، لا تصح، وهو أحد قولي الشافعي، والثانية، تصح. وهو قول أبي حنيفة، ومالك، والقول الثاني، للشافعي، أن النهي لا يعود إلى الصلاة، فلم يمنع صحتها. وانظر: " المجموع " (3/ 169). (¬2) انظر: " الكوكب المنير " (3/ 91 - 93)، " الإحكام " للآمدي (2/ 188، 192)، " التبصرة " (ص 103). (¬3) أخرجه أحمد (6/ 150) وأبو داود رقم (641) والترمذي رقم (377) وقال: حديث حسن. وابن ماجه رقم (655) وابن خزيمة في صحيحه رقم (755) والحاكم في " المستدرك " (1/ 251) وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه كلهم من حديث عائشة. وهو حديث صحيح. قال الشوكاني في " وبل الغمام " (1/ 251 - 252) إذا انتهض للاستدلال به على الشرطية فهو خاص بالمرأة، وقد عرفت مما سلف أن الذي ييتلزم عدمه عدم الصلاة أي بطلانها، هو الشرط أو الركن، لا الواجب فمن زعم أن من ظهر شيء من عورته في الصلاة، أو صلى بثياب متنجسة كانت صلاته باطلة فهو مطالب بالدليل، ولا ينفعه مجرد الأوامر بالستر أو التطهير، فإن غاية ما يستفاد منها الوجوب.

والظاهر من لغة العرب، ومن اصطلاح الشرع أن ما صرح الشارع بنفي صحته، أو بنفي جوازه، أو بنفي قبوله، فهو غير معتد به , ولا عتبر، ولا مسقط للطلب، وهكذا ما صرح الشارع بنفيه كقوله مثلا " لا صلاة لمن فعل كذا، أو لا صلاة لمن ترك كذا " إذا لم يرد ما يفيد صرف ذلك النفي إلى الفضيلة والكمال، فإن الظاهر أن هذا النفي يتوجه إلى الذات الشرعية، ولا اعتبار بالذات الموجودة في الخارج، لأنها ذات غير شرعية. وبهذا يتضح لك عدم صحة قول من قال: إن النفي لا يصح أن يتوجه إلى الذوات، لأنها قد وجدت في الخارج، بل إنما يتوجه إلى الصحة أو إلى الكمال، وهما مجازان، وأقرب المجازين توجهه إلى الصحة، لأنه يلزم من عدمها عدم صحة الذات، وإنما قالوا هكذا لأنهم ظنوا أن الذات إذا قد وجدت في الخارج لم يصح نفيها. ونحن نقول: ليس هذا النفي متوجها إلى مطلق الذات حتى ينافي وجود الذات في الخارج. بل هو متوجه إلى الذات الشرعية وهي لم توجد في الخارج، وإنما وجد في الخارج ذات غير شرعية. نعم ومن جملة ما يفيد عدم الصحة الشرعية النهي عن فعل الشيء إذا كان النهي متوجها إلى ذاته، أو إلى جزئه، لا إذا كان متوجها إلى أمر خارج عنه، فإن ذلك لا يفيد عدم صحة تلك الذات ... وإذا عرفت هذا كما ينبغي، عرفت ما يوجب بطلان العبادة من الأدلة، وما لا يوجبها. وقد أوضحت هذا المعنى، وقررته في مؤلفاتي (¬1) تقريرا ¬

(¬1) انظر " نيل الأوطار " (2/ 132 - 140). " وبل الغمام " (1/ 251 - 252). وقال الشوكاني في " السيل الجرار " (1/ 158): " لأن مجرد الأوامر فغاية ما يدل عليه الوجوب، والواجب ما يستحق فاعله الثواب بفعله والعقاب بتركه، وذلك يستلزم أن يكون ذلك الواجب شرطا، بل يكون التارك آثما، وأما أنه يلزم من عدمه العدم فلا. وهكذا يصح الاستدلال على الشرطية بالنهي الذي يدل على الفساد والمرادف للبطلان إذا كان النهي عن ذلك الشيء لذاته. أو لجزئه، لا لأمر خارج عنه، إذا عرف هذا علمت أن طهارة البدن من الحدثين الأصغر والأكبر شرط لصحة الصلاة لوجود الدليل المقيد للشرطية، وأما طهارته من النجس فإن وجد دليل يدل على أنه لا صلاة لمن صلى وفي بدنه نجاسة , أو لا تقبل صلاة من صلى وفي بدنه، أو وجد نهي لمن في بدنه نجاسة أن يقرب الصلاة وكان ذلك النهي يدل على الفساد المرادف للبطلان، صح الاستدلال بذلك عن كون طهارة البدن عن النجاسة شرطا لصحة الصلاة، وإلا فلا، وليس في المقام ما يدل على ذلك ". ثم قال الشوكاني في " السيل الجرار " (1/ 377): " لا شك أم من صلى في مكان مغصوب أو استعمل شيئا مغصوبا فقد فعل محرما ولزمه إثم لحرام، وأما كون ذلك يمنع من صحة الصلاة فلا بد فيه من دليل خاص كما قدمنا ... وما قيل من أنه عصى بنفس ما به أطاع فغير مسلم، ولو سلم لم يكن دليلا على عدم صحة الصلاة المفعولة في المكان المغصوب ".

بالغا، لأنه يخفى على كثير من المشتغلين بالعلم، ومثل هذا المقام لا يتسع لبسط ذلك كما ينبغي، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. والله ولي التوفيق. كبته المجيب محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما -. اهـ.

بحث في تحريم الزكاة على الهاشمي

بحث في تحريم الزكاة على الهاشمي تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: (بحث في تحريم الزكاة على الهاشمي). 2 - موضوع الرسالة: فقه الزكاة. 3 - أول الرسالة: " الحمد لله - سبحانه - وصلى الله على سيدنا محمد وأله وسلم. حفظكم الله تعالى , وكثر فوائدكم، وأعاد على منجلي العلم الشريف عوائدكم، وجعل الأعمال والأقوال خالصة لوجهه، فهو ولي التوفيق، وهو حسبي ونعم الوكيل ... ". 4 - آخر الرسالة: بما يستخرج من أصوله المستورة بالتراب وفي هذا المقدار كفاية والله ولي التوفيق، كتبه المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما. 5 - عدد الصفحات: 26 صفحة. 6 - عدد الأسطر في الصفحة: 13 سطرا. 7 - عدد الكلمات في السطر: 8 - 9 كلمات. 8 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 9 - الأسئلة بخط السائل، أما الجواب فبخط المؤلف. 10 - ملحوظة: في نهاية الرسالة فائدة بخط العلامة الحسين بن يحيي الديلمي. 11 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله - سبحانه - وصلى الله على سيدنا محمد وأله وسلم. حفظكم الله تعالى , وكثر فوائدكم، وأعاد على منجلي العلم الشريف عوائدكم، وجعل الأعمال والأقوال خالصة لوجهه، فهو ولي التوفيق، وهو حسبي ونعم الوكيل، وأتحفكم بسلامه الجزيل. مسألة الزكاة المفروضة فيما وجبت فيه، رأينا كثيرا في زماننا وأغلب ما رأيناه في عامة العوام في مثل بلاد القبائل الطغام من حاشد (¬1) وبكيل (¬2) وغيرها من جهات القبلة وغيرها، رأينا من قد لا يصلي إلا نادرا، أو لئلا يقال: إنه قاطع صلاة، ولا يصوم إلا لمثل هذا. وقد يتجاسر على تركه ظاهرا، والحج لا يخطر له ببال، وشهادة لحق مشوبة بالشرك عنده بالعقائد الملعونة في الأولياء وغيرهم. ومع هذا فالأكثر متجاسر على الطاغوت، ونهب المساكين، وقطع السبل، وقتل ¬

(¬1) حاشد: إحدى كبريات قبائل همدان تنسب إلى حاشد بن جشم بن حبران بن نوف بن همدان بن مالك بن زيد بن أوسله بن ربيعة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ. وهي قبيلة عظيمة، وتشمل أراضيها جبال الأهنوم وظليمة وعذر والعصيمات وخارف وغيرها وتنقسم " حاشد " إلى أربعة أقسام: صريمي وخارفي وعصيمي وعذري. انظر: " معجم البلدان والقبائل اليمنية " (ص 143 - 144). (¬2) بكيل: قبيلة مشهورة من همدان من ولد بكيل بن جشم أخو حاشد بن جشم بن خيوان بن نوف بن همدان بن مالك لن زيد بن أوسله .... وتنقسم إلى أربعة فروع: أرحب، نهم، مرهبة، شاكر ... وبالتالي فإن قبيلة بكيل تحتل الجزء الشمالي الشرقي من صنعاء. وبكيل: قبيل بآنس ديارهم شمال ضوران. وبكيل: قبيل ووطن في سارع من أعمال المحويت. وبكييل المير: نحية من قضاء وشحة أعمال حجة. " معجم البلدان اليمنية " (ص 83 - 84).

النفس لا يمنعه إلا عدم الإمكان، وغير ذلك من تعدي حدود لله، وأما الزكاة فيتجرأ فيها، ويصرح أن ذلك لئلا يخلف ماله في المستقبل، أو يقع عليه جائحة بسببها في أهل، أو مال، ولا يريد بما أداه منها أداء الفريضة التي افترضها الله عليه، ولا القربة، وقليلا جدا من رأيناه منهم يسلمها ويقول: هي فريضة واجبة، ونحو هذا، لكن أما أنه يسلم من شائبة مما ذكر , ولو كان سالما من الأكثر، فلا يخلو من مثل خيفة خلف المال. فهل مثل هذه الزكاة ممن ذكر حكمها حكم الزكاة في مصيرها في مصرفها الشرعي؟ وتحريمها على الهاشمي والغني أو لا؟ ولها حكم غير ذلك. أما ما أخذه المصدق، وذو الولاية، ومن له شوكة وبيده الأمر، فلعله يصير المفترض منها حكمه حكم الزكاة، لكن كيف وبما يعلم أنه راد على مقدار الزكاة، كما ينفق ذلك فهذا الزائد ما حكمه؟. ثم زكاة الهاشمي للفقير الهاشمي، ما المتقرر عندكم؟ وقد علم الخلاف في ذلك، غنما المراد ما يرجح لديكم. ثم ما قيل من حل زكاة غير الهاشمي للهاشمي كذلك، قد عرف، وما عندكم في ذلك، والسائل معتقده التحريم. وثمة أعجوبة لمن تصفحها، وقد تصفحناها أنك ترى التشديد الكلي من كل أخذ على الهاشمي، وأنها محرمة عليه؛ لورود الدليل، وهو الحق. وأما الغني فقل من تسمع، من تنقم ذلك عليه، أو يتوجع، مع أن تحريمها عليه ما نعلم بخلاف فيما أظن، وإن شاع للإمام إنالة أحد الأغنياء كثيرا من يقبض الزكاة مثل أهل القطع، ويجري عليه من أولي الأمر عادته من ذلك، ويقال: قد كان هذا من إمام سابق لمن سبق آثار هذا القابض إجراء للعادة فقط، ولا يدري أو يدري، لكن لا ينظر كيف ترجيح الإمام

الأول لذلك، ولا أنه جعل ذلك لوجه قد بطل في الآخر، فيقضي العجب من عدا غايته. والزكاة هل في الحبوب فقط؟ فما يقال في العنب والزبيب، أو في كل ما أنبتت الأرض، وحملت الأشجار، فتكون في مثل البرقوق، والفرسك، وسائر الفواكه. ومن الفوائد العائدة على أهلها شيء لا ينبت، وإنما يبقى تحت الأرض، ويستخرج منها، فما حكمه؟ وذلك كالهرد، فإنا رأيناه في بلاد الشرف ما يحسب أن في البقعة شيئا، إنما هو تحت التراب، ويبقى مدة معروفة عندهم، ويباع بأثمان نفعه، فهل مثل هذا له زكاة كزكاة المنبت أم لا؟. - والله لا خلى عنكم - آمين.

الحمد لله رب العالمين: الجواب - وبالله الثقة، وعليه التوكل، ومنه استمداد الإعانة - أن الزكاة المفروضة قد جاء القرآن الكريم بتعيين مصارفها، بصيغة تقتضي الحصر، وهي (¬1) إنما التي وقع الاتفاق بين أئمة البيان والأصول والنحو على اقتضائها لذلك، ثم وردت السنة المطهرة المتواترة تواترا معنويا يجب على كل مسلم العمل به، ويحرم عليه مخالفته: " أن الصدقة لا تحل لمحمد وآل محمد " (¬2)، فكان هذا النص المتواتر مقيدا للآية الكريمة المصرحة بمصارف الزكاة، فتكون الصدقات الواجبة مصروفة في الفقير الذي ليس من آل محمد، وكذلك ¬

(¬1) قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (168: 1072) وأبو داود رقم (2985) والنسائي (5/ 105 - 106 رقم 2609) وأبو عبيد في " الأموال " رقم (842) عن المطلب بن ربيعة بن الحارث. وهو حديث صحيح وقد تقدم. ومنها ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1491، 1485) ومسلم في صحيحه رقم (1069) عن أبي هريرة مرفوعا، وفيه: " إنا لا نأكل الصدقة " وفي لفظ: " إنا لا تحل لنا الصدقة ". ومنها ما أخرجه أحمد في " المسند " (6/ 8 - 9) وأبو داود رقم (1650) والنسائي (5/ 107 رقم 2612) والترمذي رقم (657) وقال: حديث حسن صحيح. وابن خزيمة في صحيحه رقم (2344) من حديث أبي رافع: " أن الصدقة لا تحل لنا، وإن مولى القوم من أنفسهم ". ومنها: ما أخرجه أحمد (9/ 73 رقم 1120 - الفتح الرباني) والطحاوي في " شرح معاني الآثار " (2/ 6) من حديث الحسن بن علي: " لا تحل لآل محمد الصدقة ". ومنها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2055) ومسلم رقم (1071) عن أنس رضي الله عنه قال: مر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتمرة مسقوطة، فقال: " لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها ". ومنها: ما أخرجه الترمذي رقم (656) والنسائي (5/ 107 رقم 2613) من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: " كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا أتي بشيء سأل عنه: أهدية أم صدقة. فإن قيل: صدقة، لم يأكل وإن قيل هدية، بسط يده ". وهو حديث حسن.

بقية المصارف، لأن نفي لحل لآل محمد ورد تارة عاما، وتارة مطلقا؛ فيفيد أنها لا تحل لهم على كل حال، فلا بد أن يكون كل صنف من الأصناف التي لم يأت فيها تخصيص، ليس بمتصف بوصف كونه من آل محمد. ومن ادعى أنها تحل لمن كان من آل محمد إذا كان مثلا عليلا، ومؤلفا فهو مطالب بالدليل الصحيح المفيد لتخصيص دليل التحريم المتواتر، ولم يكن في شيء من الأمهات والمسانيد والمجاميع الموضوعة لجمع الأحاديث النبوية ما يفيد ذلك، ذلك فيما أعلم بل فيها التصريح بما يقوي تعميم التحريم، وهو امتناعه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من تولية المطلب بن ربيعة بن الحارث، والفضل بن العباس على الصدقات، بعد أن سألاه ذلك، كما في الصحيح معللا ذلك بقوله: " إنما هذه الصدقات أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد وآل محمد " (¬1). فالحاصل أن تحريم الزكاة على آل محمد قطعي من قطعيات الشريعة، ولم يأت من رام القدح في قطعيته بشيء يصلح للتمسك به. وقد أطال العلامة الجلال في رسالته " المقال "، ولكنه في غير طائل، وهكذا جاء في شرحه للأزهار بطرف من ذلك (¬2)، والكل منهار، وليس هذا موضع بيان تزييفه (¬3). وقد تعقبه في ذلك من تعقبه من المعاصرين له (¬4)، فمن بعدهم بما فيه كفاية، مع احتمال تلك المقامات والمقالات التي أدخل نفسه في مضايقها ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر " ضوء النهار " (2: 333 - 334). (¬3) قال الشوكاني في " السيل الجرار " (1: 810): الأدلة المتواترة تواترا معنويا قد دلت على تحريم الزكاة على آل محمد، وتكثير المقال وتطويلي الاستدلال في مثل هذا المقام لا يأتي بكثير فائدة وقد تكل الجلال في " ضوء النهار " (2/ 333 - 334) في شرحه في هذا الموضع بما يضحك منه تارة ويبكى له أخرى وجمع بين المتردية والنطيحة وما أكل السبع، وبحثه في رسالته التي أشار إليها من جنس كلامه الذي أورده هنا، وكل ذلك لا يسمن ولا يغني من جوع. (¬4) انظر تعقيب الصنعاني في " منحة الغفار على ضوء النهار ".

الرد عليه، وتزييف كلامه، وتبيين فساده. وإذا تقرر ما ذكرناه من كون التحريم قطعيا فاعلم أن كون من عليه الزكاة مخلا بشيء مما أوجب الله عليه، أو تاركا لفرض من فرائض الإسلام، أو لركن من أركانه لا يوجب تحويل المصرف الذي جعل صرف الزكاة إليه إلى مصرف آخر، ولا يحلل الزكاة لمن حرمها الله عليه؛ فإن الله - سبحانه - قد أوجب على من عصاه بذنب عقوبات معروفات، منها ما هي دنيوية، ومنها ما هي أخروية، فمن مثلا متساهلا في الصلاة فالواجب على كل مسلم أن يأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر، ويحمله على القيام بما أوجب الله عليه طوعا أو كرها، وليس لمن كان غير مصرف للزكاة كالأغنياء، وبني هاشم أن يقولوا به، ونخون الله في بعض ما حرمه علينا، فنأكل زكاة هذا المتساهل في بعض الصلاة، فإن هذا من تشفيع معصية بمعصية، وذنب بذنب، وبلية ببلية. وما مثل هذا الغني أو الهاشمي لذي أقدم على أكل زكاة من عصى الله بذنب أو ذنوب إلا مثل بعض أعوان سلاطين الدنيا إذا عثر على خيانة للسلطان من بعض الأعوان فخانه مثل تلك الخيانة قائلا: قد سبقه إلى الخيانة فلان فاقتدى به، والكل معصية للسلطان، وخيانة له، وجناية عليه، وهكذا ما نحن بصدده هو خيانة لله، ومعصية له، وتعد لحدوده، فإن زكاة ذلك العاصي قد جعلها الله لمصارف معروفة معينة، فهي حق لهم، وليست بحق للعاصي، فمن أكلها ممن لا تحل له فقد أكل أموال مصارف الزكاة وظلمهم، وجنى عليهم، ولم يأكل مال ذلك العاصي التارك لبعض ما أوجبه الله عليه، فما ذنب هؤلاء المصارف حتى يأكل أموالهم من منعه إليه من أكلها، فإن قال من حرم الله عليه الزكاة أنه استحل هذه الزكاة عقوبة لمعصية المزكي، فيقال له: هذا باطل من وجوه: الأول: إن هذه العقوبة بالمال واردة على خلاف الأصول الشرعية، فبقر حيث وردت، وذلك في جزئيات معروفة

الوجه الثاني: أن المعاقبة بالمال ليست إلى كل فرد من أفراد المسلمين، بل هي إلى أئمة المسلمين، ولو كانت مفوضة لكل فرد لأكل الناس أموال بعضهم البعض بهذه الذريعة، وهتكوا حرمة الأملاك المملوكة بهذه الوسيلة الشيطانية. الوجه الثالث: أن هذا الذي لا تحل له الزكاة لو فرضنا أن له ولاية تسوغ التأديب بالمال , وفرضنا أن الذي عليه الزكاة قد افترق ذنبا من الذنوب التي جاءت الشريعة بجواز التأديب فيها بالمال، فغاية ما هناك أن له تأديب العاصي على تلك المعصية بأخذ شيء من ماله، وأما تأديبه بأخذ مال غيره، وهم المصارف الذين جعل الله هذه الزكاة لهم فليس ذلك من هذا الباب، بل من باب الظلم البحت، والطاغوت المتيقن. فإن قال المستحل لهذه الزكاة: إن صاحبها لما عصى الله بذنب أو ذنوب صارت زكاته غير زكاة شرعية، فيقال له: ليس هذا إليك، ولا أمرك الله به، بل الذي أمرك الله به هو أن تأخذ على يد هذا العاصي، وتحول بينه وبين عصية الله، وتأمره بالقيام بما أوجب الله عليه وفاء بما أوجبه الله عليك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تعمد إلى ما قد قام به مما أوجبه الله عليه، فتضعه في غير موضعه الذي وضعه الله فيه، وتصرفه في غير مصرفه الذي صرفه الله إليه، فإن هذا منكر، معاونة للشيطان، لأنه أوقعه في بعض الذنوب ففعلها، أو سول له ترك بعض الواجبات فتركها، وأنت عمدت إلى ما قد قام به مما أوجبه الله عليه فوضعته في غير موضعه، فظلمته بوضع زكاته في غير موضعها، وظلمت المصارف، وحلت بينه وبين ما جعله الله لهم، فكنت عاصيا من جهات: الأولى: بمخالفة التحريم القطعي. الثانية: بظلم المزكي. الثالثة: بظلم المصارف. فانظر ما صنعت بنفسك، وفي أي هوة وقعت يا مسكين، فإن كنت تظن أن

الله إنما حرم عليك أوساخ المؤمنين، ولم يحرم عليك أوساخ الفسقة والعصاة المتلوثين بالذنوب، فقد ركبت شططا، وسلكت غلطا، ولو فرضنا أن هذا الذي أخرج الزكاة قد ارتكب من المعاصي ما يوجب انسلاخه عن الدين بإجماع المسلمين، وصار في عداد المرتدين، فالذي يجب علينا حينئذ أن نعامله معاملة المرتدين في النفس والمال، فنطالبه بالإسلام، فإن قبل فذاك، وإن أبى فالسيف هو الحكم العدل، وهذ هو الذي أوجبه الله علينا، وطلبه منا، وليس لنا أن نعمد إلى ما قد أخرجه من ماله باسم الزكاة فنأخذه ونقرره على كفره، ونوهمه أن ذلك الذي أخرجه زكاة، وأنه من المسلمين، فإن هذا الذي أخرجه على فرض أنه ليس بزكاة شرعية هو تمليك منه لمصارف الزكاة، أو إباحة لهم، والتمليك من الكافر والإباحة صحيحان بإجماع المسلمين، فكيف يحل لنا أن نظلمهم بأخذ ما قد استحقوه بالتمليك، أو الإباحة، وهذا إنما هو على طريقة التنزل، وإرخاء العنان في المناظرة وإلا فنحن نعلم أن هؤلاء العصاة لو خبطوا بأسواط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لقاموا بجميع ما أخلوا به، فضلا عن يمدوا أعناقهم للسيف، ويصروا على الكفر بعد الاستتابة، بل لو وجدوا من يعلمهم معالم الدين، ويبذل نفسه للهداية، ويصبر نفسه معهم، ويقرعهم بالقوارع التي في كتاب الله، وسنة رسوله، ويرغبهم برغائب الوعد للمطيعين، ويرهبهم بالترهيبات التي رهب الله بها العصاة لما شذ عن الإجابة إلا القليل، لأنهم يثبتون لأنفسهم الإسلام، وينفون عنها الكفر من نسبة ذلك إليه، وينفرون عنه، فليسوا ممن شرح بالكفر صدرا، بل لو قيل لأحدهم إنه كافر لقامت عليه القيامة، وقابل من رماه بذلك بكل حجر ومدر. وهذه المقامات التي هن مقامات التكفير، هو مزالق الأقدام، ومزلات أنظار الأعلام، فمن أقام نفسه فيها، وحكم على بعض من ينتمي إلى الإسلام بالكفر، فقد تعرض لأمر عظيم، وأدخل نفسه في مدخل وخيم، فإن أسباب الكفر بعيدة المدارك مظلمة المسالك، ومن دخل في شيء من هذه القوانين التي يتعامل بها البدو المسماة عندهم تارة بالمنع، وتارة بالشرع لا يكفر بمجرد الدخول في ذلك، حتى يعلم أن تلبسه

بذلك يخرجه عن الإسلام، ويلحقه بالكفار الحربيين الذي كفرهم أشد من كفر اليهود والنصارى، فلا بد ههنا من أمرين: الأول: أن تتيقن أن ذلك الذي دخل فيه سبب من أسباب الكفر. الثاني: علمه بذلك حتى يكون ممن شرح بالكفر صدرا، ودون الأمرين مهمامه، فيح تتعثر فيها أقدام المحققين، وتخرس عن وصف بلاقعها ألسن المبرزين. وهكذا من كان متلبسا من العوام بالعقائد الباطلة في حي أو ميت، فلا بد من الأمرين المتقدمين، ودونهما ما وصفنا من صعوبة المدرك، وفظاعة المعترك، ولو قام أهل العلم بما أخذه الله عليهم من البيان، وقام أهل الأمر بما أوجبه الله عليهم في محكم القرآن، وقام سائر المسلمين بما أمرهم الله له من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لما وجد على ظهر الأرض الإسلامية من يتلبس بسبب من أسباب الكفر، فإن لعوام أقرب الناس إلى قبول الهداية، ومن كان منهم غير قابل لها باللسان فهو يقبلها بالسنان. وإذا تبين لك صعوبة مسلك الكفر، وحزونة أسبابه , واشتراط العلم الذي لا يكون شرح الصدر بدونه، ولا يتحقق إلا بعد وجوده لاح لك أن أولئك المسئول عن حكم زكاتهم ليسوا إلا من عصاة المسلمين، ولكن معاصيهم مختلفة في كون بعضها أشد من بعض، وكل شيء مما يفعلونه من أسباب الكفر على فرض مباشرتهم لشيء منها ليس من الكفر المتفق عليه، بل من قال إنه سبب يوجب الكفر فهو يشرطه بشروط يبعد كل البعد وجودها في من ينتمي إلى الإسلام، ويدعي أنه من أهله، فإن من خالف قطعيا من قطعيات الشريعة كقطع ميراث بعض من ثبت توريثه بدليل قطعي لا يكفر عند من قال بكفره إلا بعد أن يعلم تلك القطعية، ويصر على مخالفتها، إما استحلالا، أو استخفافا. وأين من يعلم قطعية الدليل من هؤلاء البدوان، فضلا عن ما وراء ذلك. فتلخص من هذا أن المزكي من أهل المعاصي يجب صرف زكاته إلى المصارف الشرعية، ولا يحل لأحد ممن لا تحل له أن يتناول شيئا منها. وهكذا من فعل سببا من أسباب الكفر المختلف فيها لا يحل لأحد أن يحكم بكفره إلا بعد قيام ........................

البرهان على الكفر (¬1)، ولا بد بعد قيام البرهان على أن ذلك سبب من أسباب الكفر أن ¬

(¬1) قال الشوكاني في " السيل " (3/ 783 - 785): اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار، فإن ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة أن: " من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما " أخرجه البخاري رقم (6103). وفي لفظ آخر في الصحيحين وغيرهما: " من دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا خار عليه " أي رجع - البخاري رقم (6045) ومسلم رقم (112/ 61) من حديث أبي ذر - ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن السراع في التكفير. وقد قال عز وجل: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل: 106]. فلا بد من شرح الصدر بالكفر وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه، فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشرك لا سيما مع الجهل بمخالفته لطريقة الإسلام. ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر، ولا اعتبار بلفظ يلفظ به المسلم يدل على الكفر وهو لا يعتقد معناه. فإن قلت: قد ورد في السنة ما يدل على كفر من حلف بغير ملة الإسلام، وورد في السنة المطهرة ما يدل على كفر من كفر مسلما كما تقدم. وورد ي السنة المطهرة إطلاق الكفر على من فعل فعلا يخالف الشرع كما في حديث: " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " - أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6785) ومسلم رقم (66) - ونحوه مما ورد مورده وكل ذلك يقيد أن صدور شيء من هذه الأمور يوجب الكفر وإن لم يرد قائله أو فاعله به الخروج من الإسلام إلى ملة الكفر. قلت: إذا ضاقت عليك سبل التأويل ولم تجد طريقا تسلكها في مثل هذه الأحاديث فعليك أن تقرها كما وردت وتقول من أطلق عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسم الكفر فهو كما قال , ولا يجوز إطلاقه على غير من سماه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المسلمين كافرا إلا من شرح بالكفر صدرا، فحينئذ تنجو من معرة الخطر وتسلم من الوقوع في المحنة. فإن الإقدام على ما فيه بعض البأس لا يفعله من يشح على دينه ولا يسمح به فيما لا فائدة فيه ولا عائدة، فكيف إذا كان يخشى على نفسه إذا أخطأ أن يكون في عداد من سماه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كافرا. فهذا يقود إليه العقل فضلا عن الشرع، ومع هذا فالجمع بين أدلة الكتاب والسنة واجب، وقد أمكن هنا بما ذكرنا، فتعين المصير إليه، محتم على كل مسلم أن لا يطلق كلمة الكفر إلا على من شرح صدرا ويقصد ما ورد مما تقدم على موارده وهذا الحق ليس به خفاء فدعني من بنيات الطريق: يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ومنهج الحق له واضح

يكون المرتكب له عالما بأنه كفر، شارحا به صدره، مصرا على البقاء عليه، غير راجع عنه، وبعد أن يتقرر كفره لا يحل لأحد أن يعمد إلى ما قد أخرجه من ماله، وخرج ملكه إلى مصارفه الشرعية، فإن تلك القطعة من ماله قد أخرجها باسم الزكاة لمصارفها، فإذا لم يكن زكاة لمانع فيه كانت إباحة لمصارف الزكاة دون غيرهم، وذلك منه صحيح لا مانع عنه، فمن أخذها فقد ظلم المصارف؛ لأن الإباحة لهم لا لغيرهم. وقد خرجت عن ملك مالكها. وعلى فرض أنه يصح الرجوع عن الإباحة فالذي يجوز له الرجوع فيها هو مخرجها لا غيره. ولا يقدح في ذلك كون الذي أخرجها إنما أخرجها لغرض دنيوي، كاعتقاده أنه لا يأتي له ثمرة كاملة في ماله إلا بإخراج الزكاة، فإنه إنما أخرجها هاهنا إلى قوم هم أهلها ومصارفها، لأن ما يعتقده من كمال الثمرة، وحصول البركة إنما يكون بالصرف إلى المصارف، لا إلى غيرهم , وهذا أعني: التعويل على أنها كالإباحة لقوم معينين إنما هو بعد تسليم الكفر الصراح، والردة البحت، وانتفاء الشبهة، وارتفاع حكم الإسلام بالمرة. وأما مع عدم كذلك فهي زكاة بلا شك، ولا شبهة، وإن كان كثير المعاصي، مسرفا على نفسه كلية الإسراف. وما ذكره السائل - كثر الله فوائده - في الغني فهو كما قال، ودليل تحريم الزكاة على الغني قطعي في الأصناف التي ورد اعتبار الفقر فيها بنص الكتاب، أو بصحيح السنة، أو بإجماع المسلمين , وأما الأصناف التي لم يعتبر فيها الفقر فمن كان من أهلها فهي حلال له من تلك الحيثية التي سوغها الشارع له، كالعامل عليها، والمؤلف منها، والغارم. وبالجملة فجميع ما قدمنا من الكلام ليس بخاص ببعض من تحرم عليه الزكاة دون

بعض، بل هو كلام من كل من تحرم عليه الزكاة. وقد حاول جماعة من علماء السوء وشياطين المتفيهقين تحلي هذه الصدقة التي تولى الله - سبحانه - تعيين مصارفها؛ فجعلوا فيها نصيبا لغير من عينه الله بدسائس إبليسية، ووسائل طاغوتية، والكل من التقول على الله بما لم يقل , وحسبنا الله ونعم الوكيل. وأما ما ذكره السائل - كثر الله فوائده - من زكاة الهاشمي للهاشمي، هل تحل أم لا؟. فأقول: لا شك أنه يصدق عليها اسم الصدقة، وقد قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الثابت في الصحيح، بل المتواتر: " إنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة " (¬1)، وفي لفظ: " إن الصدقة لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد " (¬2)، وفي لفظ: " إنا لا نأكل الصدقة " (¬3)، وكلها ثابتة في الصحيح , ولا شك أيضًا أن بني هاشم من الناس. وقد علل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - تحريمه الصدقة عليهم بأنها أوساخ الناس (¬4) فلا تحل صدقة هاشمي لهاشمي؛ لأن العلة موجودة، وهي كون تلك الصدقة من أوساخ الناس. وأما ما استدل به القائل بجواز زكاة الهاشمي للهاشمي من حديث العباس الذي أخرجه الحاكم في النوع السابع والثلاثين (¬5) من علوم الحديث، بإسناد جميع رجاله من بني هاشم العباسيين، أن العباس بن عبد المطلب قال: قلت ت: يا رسول الله، إنك حرمت علينا صدقات الناس، هل تحل لنا صدقات بعضنا لبعض؟ قال: " نعم ". فهذا الحديث لو صح لكان دليلا واضحا صالحا لتخصيص ذلك العموم، ولكنه لم يصح (¬6)، بل قد اتهم به ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح. (¬3) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح. (¬4) تقدم ذكره وتخريجه وهو حديث صحيح. (¬5) بل في التاسع والثلاثين (ص 175). (¬6) قال الشوكاني في " السيل الجرار " (1/ 812): فهذا الحديث قد اتهم به بعض رواته كما ذكره الذهبي في " الميزان " وفيهم من لا يعرف فلا يصلح للتخصيص.

بعض رواته. وقد أطال الكلام على ذلك صاحب الميزان، ومن الغرائب أن الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير (¬1) - رحمه الله - قال - بعد سياقه لهذا الحديث - ما لفظه: وأحسب له متابعا لشهرة القول به، قال: والقائل به جماعة وافرة من أئمة العترة، وأولادهم، وأتباعهم، بل ادعى بعضهم أنه إجماعهم , ولعل توارث هذا بينهم يقوي الحديث. انتهى. وصدور هذا الكلام من مثل هذا الإمام من أعجب ما يطري الأسماع، فإنه بعد اعترافه بأنه اتهم به بعض رواته عول على مجرد الحسبان بأن لذلك الراوي متابعا، وهذا الحسبان لا يجوز التعويل عليه، ولا التمسك به بإجماع المسلمين، بل لو كوشف هذا العلامة - رحمه الله - عن هذا لما خالف، فإن الحسبان لو كان حجة ومستندا لقال من شاء ما شاء، فما يعجز من جاء بحديث في إسناده كذاب أو وضاع قد اتهم به أن يقول: أحسب أن له متابعا، ويكون هذا الحسبان حجة له على الناس، وهذا من غرائب التعسفات، وعجائب الكبوات. وأما تعليل هذا الحسبان بأن القائل به كثير فليست الكثرة دليلا على الحق بإجماع المسلمين، على أنه لا كثرة هاهنا، بل القائل بذلك بالنسبة إلى المخالفين له نزر يسير، وعدد حقير، ولم أسمع إلى الآن من جعل ذهاب طائفة من الناس إلى قول من الأقوال دليلا على أن ذلك القول حق، وأن دليله صحيح، فاعتبر بهذا من مثل هذا الإمام، واجعله زاجرا لك عن التقليد، وليس مقصودنا من هذا الإزراء عليه - رحمه الله - فهو إمام الناس في التبحر في جميع المعارف، والوقوف على الدليل، وعدم التعويل على ما يخالفه من القال والقيل. وقد نفع الله به من جاء بعده، ولكن المعصوم من عصمه الله، وكل واحد يؤخذ من قوله ويترك، وما أردت بهذا التنبيه إلا تحذير أهل العلم عن إحسان الظن بعالم من العلماء، حتى يفضي هذا الإحسان إلى تقليده في كل ما يأتي ويذر، واعتقاد أنه محق في كل إيراد وإصدار، فهذه رتبة ما فاز بها إلا المعصومون ¬

(¬1) عزاه إليه الأمير الصنعاني في " منحة الغفار " (2/ 341).

فحسب. ومن العجائب أيضًا ما ذكره - رحمه الله - في آخر كلامه السابق من أن بعضهم قد ادعى أنه إجماع أئمة العترة، ولا شك أن هذه الدعوى من أبطل الباطلات، فإن القائل بذلك بالنسبة إلى من لم يقل به هو القليل النادر، وكيف يصح دعوى إجماع العترة، والقاسم، والهادي، والناصر، والمؤيد بالله وأتباعهن، وهم جمهور العترة خارجون عنه، وهذه كتب العترة وأتباعهم موجودة على ظهر البسيطة، وأعجب من هذا قول العلامة محمد بن إسماعيل الأمير - رحمه الله - في المنحة (¬1) أنها سكنت نفسه إلى هذا الحديث بعد وجدان سنده، وما عضده من دعوى الإجماع، فيا الله العجب من مثل هذا السكون لمجرد وجدان السند، ودعوى الإجماع! فإن وجدان السند يكون في الموضوع كما يكون في الصحيح، وليس من وجد سند حديث من دون بحث عن حاله، وكشف عن رجاله، وجد نفسه ساكنة إليه عاملة به، فإن هذا ليسم من الاجتهاد في شيء، بل من الوساوس الفاسدة، والتشهيات الباطلة، وهكذا قوله: ودعوى الإجماع؛ فقد جعله جزء علة السكون، ويالله العجب كيف تجري بمثل هذا أقلام العلماء المتقيدين بالدليل! فإن الدعاوي إذا لم تعضد بالبراهين فهي أكاذيب، وهذه الدعوى من بينها، أوضح كذبا وأظهر بطلانا، وأبين اختلالا. وأما ما ذكره السائل - كثر الله فوائده - من زكاة الخضروات. فأقول الأدلى العامة من الكتاب والسنة قد دلت على وجوب الزكاة فيها، كقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (¬2) فإن الأموال تعم، وما خص من هذا العموم خرج، وذلك كحديث: " ليس على المرء في عبده، ولا في بيته صدقة " (¬3)، ونحو ذلك. ¬

(¬1) في " منحة الغفار على ضوء النهار " (2/ 341 - 342). (¬2) [التوبة: 103]. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (1436) و (1464) ومسلم رقم (8 - 9/ 982) وأبو داو رقم (1595) والترمذي رقم (628) والنسائي (5/ 35). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ومن جملة العمومات حديث: " فيما سقت الأنهار والغيم العشر وفيما سقي بالسانية نصف العشر " (¬1) وهو في الصحيح، وفي لفظ: " فيما سقت السماء والعيون، أو ما كان عثريا العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر " (¬2)، وهو أيضًا في الصحيح، وقد قال من لم يوجب الزكاة في الخضروات أنها مخصصة من العموم بحديث عطاء بن السائب قال: أراد عبد الله بن المغيرة أن يأخذ من أرض موسى بن طلحة من الخضروات صدقة، فقال له موسى بن طلحة: ليس لك ذلك، إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان يقول " ليس في ذلك صدقة ". رواه الأثرم في سننه، وأخرجه الدارقطني (¬3) والحاكم (¬4) من حديث إسحاق بن يحيى بن طلحة عن عمه موسى بن طلحة، عن معاذ بلفظ: " وأما القثاء، والبطيخ، والرمان، والقضب فعفو عفا عنه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ". قال ابن حجر (¬5): وفيه ضعف وانقطاع. وروى الترمذي (¬6) بعضه من حديث عيسى بن ¬

(¬1) أخرجه أحمد (3/ 341، 3/ 353) ومسلم رقم (981) والنسائي (5/ 41 - 42) وأبو داود رقم (1597) من حديث جابر وهو حديث صحيح. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1483) من حديث سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه. قلت: وأخرجه أبو داود رقم (1596) والترمذي رقم (640) والنسائي في " السنن " (5/ 41) وابن ماجه رقم (1817). (¬3) في " السنن " (2/ 97 رقم 9). (¬4) في " المستدرك " (1/ 401) وقال: حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وقال صاحب التنقيح: وفي تصحيح الحاكم لهذا الحديث نظر؛ فإنه حديث ضعيف. وإسحاق بن يحيى تركه أحمد والنسائي، وقال أبو زرعة: موسى بن طلحة بن عبيد الله عن عمر مرسل. ومعاذ توفي في خلافة عمر، فرواية موسى بن طلحة عنه أولى بالإرسال " التعليق المغني. (¬5) في " التلخيص " (2/ 321). (¬6) في " السنن " رقم (638).

طلحة عن معاذ، وهو ضعيف، قال الترمذي (¬1): ليس يصح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - شيء يعني في الخضروات، وإنما يروى عن موسى بن طلحة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مرسلا. وذكره الدارقطني في العلل (¬2)، وقال: الصواب مرسل، وروى البيهقي (¬3) بعضه من حديث موسى بن طلحة قال: عندنا كتاب معاذ، ورواه الحاكم (¬4) وقال: موسى تابعي كبير لا ينكر أنه لقي معاذا، وقال ابن عبد البر (¬5): لم يلق معاذا ولا أدركه، وكذلك قال أبو زرعة، وروى البزار (¬6) والدارقطني (¬7) من طريق الحارث بن نبهان، عن عطاء بن السائب، عن موسى بن طلحة، عن أبيه مرفوعا: " ليس في الخضروات صدقة " قال البزار لا نعلم أحدا قال فيه عن أبيه إلا الحارث بن نبهان. وقد حكى ابن عدي (¬8) تضعيفه عن جماعة، والمشهور عن موسى مرسل. ورواه الدارقطني (¬9) من طريق مروان بن محمد السنجاري، عن جرير، عن عطاء بن السائب، فقال: عن أنس بدل قوله: عن أبيه، ومروان ضعيف جدا. وروى الدارقطني (¬10) من الحديث علي - كرم الله وجهه (¬11) - مثله، وفيه الصفر بن حبيب، وهو ¬

(¬1) في " السنن " (3/ 30). (¬2) عزاه إليه الحافظ في " التلخيص " (2/ 321). (¬3) في " السنن الكبرى " (4/ 129). (¬4) في " المستدرك " (1/ 401). (¬5) عزاه إليه ابن حجر في " التلخيص " (2/ 321). (¬6) (¬7) في " السنن " (2/ 96). (¬8) في " الكامل " (2/ 191) ترجمة الحارث بن نبهان. (¬9) في " السنن " (2/ 96). (¬10) في " السنن " (2/ 95). (¬11) تقدم التعليق عليها.

ضعيف جدا. وفي الباب عن جماعة، وفي أسانيدها مقال، وقد استوفيت ذلك في شرح المنتقى (¬1)، ويشد من عضد هذا الحديث الأحاديث الواردة في أن الصدقة لا تؤخذ إلا من أربعة: الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر، وهي مروية من طريق جماعة من الصحابة، منها من حديث أبي موسى ومعاذ عند الحاكم (¬2)، والبيهقي (¬3)، والطبراني (¬4)، قال البيهقي (¬5): رواته ثقات، وهو متصل، ومن حديث عمر عند الطبراني (¬6)، ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده عند ابن ماجه (¬7) والدارقطني (¬8)، وروي ذلك من طرق غير هذه يقوي بعضها بعضا. وهذا الحصر في الأربعة هو بالنسبة إلى ما تنبته الأرض، وإلا فقد وجبت في الذهب والفضة والسوائم بالأدلة الصحيحة، وبإجماع المسلمين. وقد أخرج البيهقي (¬9) من طريق الحسن قال: لم تفرض الصدقة إلا في عشرة، فذكر ¬

(¬1) (4/ 141 - 142). (¬2) في " المستدرك " (1/ 401) وقال: " إسناده صحيح ووافقه الذهبي وأقره الزيلعي في " نصب الراية " (2/ 389) " إلا أنه قال: قال الشيخ الإمام وهذا غير صريح في الرفع. ورجح لمحدث الألباني في " الإرواء " (3/ 278) رفعه، وذكر له مرسل صحيح السند عن موسى بن طلحة قال: أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن أن يأخذ الصدقة والشعير والنخل والعنب ". أخرجه أبو عبيد في " الأموال " رقم (1174)، (1175). (¬3) في " السنن الكبرى " (4/ 125). (¬4) في " الكبير " كما قال في " مجمع الزوائد " (3/ 75): وقال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح. وهو حديث حسن. (¬5) في " السنن الكبرى " (4/ 125). (¬6) لم أجده. (¬7) في " السنن " رقم (1815) بإسناد واه. (¬8) في " السنن " (2/ 94). وهو حديث ضعيف جدا. انظر " الإرواء " (801). (¬9) في " السنن الكبرى " (4/ 129).

الأربعة المتقدمة، والذرة، والإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والفضة، وأخرج ابن ماجه (¬1) الحديث السابق، وذكر خامسة، وهي الذرة، ولكن في إسنادها محمد بن عبد الله العرزمي، وهو متروك، وأخرج البيهقي (¬2) عن مجاهد قال: لم تكن الصدقة في عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلا في خمسة، فذكر الذرة، وقد روى عدم وجوب الزكاة في الخضروات عن علي عن البيهقي (¬3) موقوفا، وكذلك عن عمر عنده (¬4) أيضًا موقوفا، وعن عائشة عند الدارقطني (¬5) موقوفا أيضا، وفي إسناده صالح بن موسى، وفيه ضعف، وعن محمد بن جحش عن الدارقطني (¬6) أيضا، وفي إسناده عبد الله بن شبيب، وهو ضعيف. وقد اختلف من بعد الصحابة في ذلك من العلم اختلافا طويلا. والذي أقول به هو عدم وجوبها في الخضروات، لانتهاض جميع ما ذكر لتخصيص تلك العمومات التي قد دخلها التخصيص بالأوساق، والبقر العوامل، والعبد، والفرس، ونحوها. وقد تقرر الخلاف في الأصول في حجية العام المخصص، فذهب بعضهم إلى أنه ليس بحجة، وذهب البعض الآخر إلى أنه حجة، فما بقي وهو الراجح لدي. ويدخل في الخضروات ما أشار إليه السائل - كثر الله فوائده - ي آخر سؤاله من ذلك الشيء الذي لا ينتفع إلا بما يستخرج من أصوله المستورة بالتراب. وفي هذا المقدار كفاية. والله ولي التوفيق. كتبه المجيب محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما -. ¬

(¬1) في " السنن " رقم (1815) بإسناد واه. (¬2) في " السنن الكبرى " (4/ 129). (¬3) في " السنن الكبرى " (4/ 129). (¬4) في " السنن الكبرى " (4/ 125 - 126). (¬5) في " السنن " (2/ 95 رقم 2). (¬6) في " السنن " (2/ 95 رقم 3).

بسم الله الرحمن الرحيم هذا خط سيدي العلامة الحسين بن يحيى الديلمي (¬1) - حفظه الله - لعله رقم هذا هنا مزيدا لمباحثة الحقير فيه. الحمد لله: فائدة: الذي حفظناه في تخصيص العام العمل بما بقي من العموم بعد المخصص، وإنما الخلاف في كونه في الباقي، هل حقيقة أو مجاز؟ والخلاف معروف في تقدمه على الخاص وتأخره، والتباسه، لكن في عبارة الجلال (¬2) ما يفهم أنه لا يبقى دليلا بعد التخصيص، ولعله مع قرينة تقتضيه، وذلك كما في حديث: " فيما سقت السماء العشر " (¬3) هكذا لفظه أو معناه، وفي لفظ: " فيما سقت الأنهار والعيون والغيم العشور " (¬4)، وعند الجماعة من حديث ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " فيما سقت السماء والعيون، أو كان عثريا العشر " (¬5) إلخ. ¬

(¬1) الحسين بن يحيى بن إبراهيم الديلمي الذماري ولد سنة 1149 هـ ونشأ بذمار وأخذ عن علمائها، ثم ارتحل إلى صنعاء وقرأ العربية وله قراءة في الحديث على السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير، ثم عاد إلى ذمار واستقر بها. له مؤلف جمع فيه الأدلة على " متن الأزهار " من كتب الحديث وكتب أهل البيت سماه " العروة الوثقى في أدلة مذهب ذوي القربى " وله " الإمتاع في الرد على من أحل السماع " ومنظومة في الأسماء الحسنى نحو مائة بيت، ونظم " نخبة الفكر " لابن حجر وشرحها. توفي سنة 1249 هـ. " نيل الوطر " (1/ 402)، " البدر الطالع " رقم (155). (¬2) قال الجلال في " ضوء النهار " (2/ 310): قالوا عمومات مخصوصة بالأوساق والعموم بعد تخصيصه ليس بحجة فيما بقي وإن سلم ففي محل النزاع. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح. (¬5) تقدم تخريجه آنفا وهو حديث صحيح.

فتخصصت هذه العمومات بحديث الأوسق (¬1)، ثم تخصص حديث الأوسق بأحاديث أخر، منها ما قد انحصر كحديبث الشعبي: كتب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلى اليمن: " إنما الصدقة في الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب " قال البيهقي (¬2): هذه الأحاديث توكد بعضها بعضا. قلت: لأن في الباب غير هذا، كحديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: " إنما سن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الزكاة في الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب " (¬3) زاد ابن ماجه (¬4) (والذرة)، وفيه العرزمي متروك، ورواه البيهقي (¬5) من طريق مجاهد، ومن طريق الحسن: لم يفرض النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الصدقة إلا في عشرة، فذكر الخمسة، وساق الحديث. قال الجلال (¬6): قلت: وهي كافية في تخصيص العمومات، للأدلة، ثم قال ما معناه: إن المخصصات لم تبق معها للتعميم رمقا، فمن هذا يؤخذ أن الخاص قد رفع العموم، وأنه بمنزلة النسخ في نقص الأحوال، ولا يسلم أن تكون كلية، والله أعلم (¬7). ¬

(¬1) منها: ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (980) والنسائي (5/ 36) وابن خزيمة (4/ 34 - 35 رقم 2298، 2299) عن جابر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة ". وهو حديث صحيح. (¬2) في " السنن الكبرى " (4/ 126). (¬3) تقدم تخريجه وهو حديث ضعيف جدا. (¬4) في " السنن " رقم (1815) ولفظ الذرة منكرة. انظر: " الإرواء " (801). (¬5) في " السنن الكبرى " (4/ 126). (¬6) في " ضوء النهار " (2/ 310). (¬7) قال الأمير الصنعاني في " سبل السلام " (4 - 33 - 34) فالجمهور أن حديث الأوساق مخصص لحديث سالم - تقدم تخرجه وهو حديث صحيح - وأنه لا زكاة فيما لم يبلغ لخمسة الأوساق، وهب جماعة منهم زيد بن علي وأبو حنيفة إلى أنه لا يخص بل يعمل بعمومه، فيجب في قليل ما أخرجت الأرض وكثيره، والحق مع أهل القول الأول لأن حديث الأوساق حديث ورد لبيان القدر الذي تجب فيه الزكاة كما ورد حديث مائتي الدرهم لبيان ذلك مع ورود: " في الرقة ربع العشر ". وهو حديث صحيح. ولم يقل أحد: إنه يجب في قليل الفضة وكثيرها الزكاة، وإنما الخلاف هل يجب في القليل منها إذا كانت قد بلغت النصاب كما عرفت، وذلك لأنه لم يرد حديث: " في الرقة ربع العشر " إلا لبيان أن هذا الجنس يجب فيه الزكاة، وأما بيان ما يجب فيه فموكول إلى حديث التبيين له بمائتي درهم، فكذا هنا قوله: " فيما سقت سقت السماء العشر " أي في هذا الجنس يجب لعشر، وأما بيان ما يجب فيه فموكول إلى حديث الأوساق، وزاده إيضاحا قوله في الحديث: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " كأنه ما ورد لدفع ما يتوهم من عموم: " فيما سقت سقت السماء ربع العشر " كما ورد ذلك في قوله: " وليس فيما دون خمسة أواقي من الورق صدقة " ثم إذا تعارض العام والخاص كان العمل بالخاص عند جهل التاريخ كما هنا، فإنه أظهر الأقوال في الأصول. قال صحب " الكوكب المنير " (3/ 382) إذا ورد عن الشارع لفظ عام ولفظ خاص، قدم الخاص مطلقا، أي سواء كانا مقترنين، مثل ما لو قال في كلام متواصل: اقتلوا الكفار، ولا تقتلوا اليهود، أو يقول: زكوا البقر، ولا تزكوا العوامل، أو كانا غير مقترنين، سواء كان الخاص متقدما أو متأخرا، وهذا هو الصحيح لأن تقديم الخاص عملا بكليهما، بخلاف العكس فكان أولى. وانظر مزيد تفصيل في " البحر المحيط " (3/ 407 - 410)، " اللمع " (ص 20)، " إرشاد الفحول " (ص 536 - 540). وقد تقدم ذكر شروط بناء العام على الخاص.

الجواب المنير على قاضي بلاد عسير

الجواب المنير على قاضي بلاد عسير تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " الجواب المنير على قاضي بلاد عسير ". 2 - موضوع الرسالة: " فقه الزكاة ". 3 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم " " الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على بدر الكمال الآمر بالسؤال وعلى آله وصحبه خير صحب وآل وبعد فهذه أسئلة يحتاج السائل الى المبادرة بجوابها مصدرة إلى من يؤمل فيه قلع حجابها ... ". 4 - آخر الرسالة: ودم نهج حق تنتحيه وتسلكه على مر الليالي كمل من تحرير المجيب وجمعه القاضي فخر الدين محمد بن علي الشوكاني حفظه الله ومتع المسلمين بحياته وحرسه بعينه بحق محمد وآله وصحبه. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - عدد الصفحات: 19 صفحة. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 25 سطرا ما عدا الصفحة الأولى فعدد أسطرها 8 أسطر والأخيرة 7 أسطر. 8 - عدد الكلمات في السطر: 11 - 12 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

[الأسئلة] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على بدر الكمال الآمر بالسؤال وعلى آله وصحبه خير صحب وآل. وبعد: فهذه أسئلة (¬1): يحتاج السائل إلى المبادرة بجوابها مصدرة إلى من يؤمل فيه قلع حجابها متع الله بحياته والسلام عليه ورحمة الله وبركاته. السؤال الأول عن عوائد في بعض الجهات الخالية عن سلطنة الولاة وهي أن أهل كل قرية أو قبيلة يتواطئون على توظيف قواعد ينتظم بها لهم الحال ويلمون بها شعث تلك لمحال، ثم تارة يتعاهدون على ذلك وعلى الوفاء بما تضمنته تلك القواعد أخذ وعطاء وتارة يكتفون بالمواطأة والرضا ثم يتراضون على نصب قبيلة أخرى يضمنونهم عرفا في تنفيذ تلك القواعد والأخذ بيد الناقض لتلك لعوائد ويشرطون لهم احتمال تعزيراتهم بالأموال ويأخذون منهم أجرا على القيام بتنفيذ تلك الأحوال. منها أن ما صدر منهم من قتل أو جرح عمدا أو خطأ فإنهم يشتركون في غرمه، وما وقع فيهم كذلك يتقاسمون في غنمه على قانون معروف بينهم مع خروجهم عن دائرة الانتساب وضابط العاقلة فكيف لو أراد من وقع له أرش - أو دية - بعد هذه المعاهدة أو المواطأة ونصب المنفذ لذلك أن ينفرد بها أو أراد من لم يصدر منه جناية أن لا يغرم ما تواطأوا عليه هل يجوز ذلك ويخرج من لعهدة فيما هنالك أم هو كالمطارحات في العرس ونحوه يجب الوفاء بمثل ما أخذ ويجوز النقض إن لم يكن قد حصل منهم اشتراك، وهل ¬

(¬1) في هامش المخطوط ما نصه: " هذه الأسئلة وجهها إلي العلامة محمد بن أحمد بن عبد القادر عالم الحجاز وابن عالمه وهو شافعي المذهب ولكنه يميل إلى الإنصاف في المسائل ".

يفرق بين أن يكون الاشتراك فيها للمانع وعليه وبين غيره؟ وهل يحل أخذ الأجر المسمى الضمانة أم لا، نعم، هل يدخل في هذا المولودون بعد أم لا. هذه مقدمة السؤال فيما بين المتواطئين، والقصد حال أولئك القبيلة المنصوبين كالدولة في تنفيذ ما مر آنفا إذا أخذوا بيد المانع وعزروه بأخذ ماله لهم، أو لأهل المواطأة أو أخذوا بقرة مثلا أو ذبحوها وأكلوها وغرموه الثمن تعزيرا ولولا هذا ما انتظمت الكلمة وكانوا فوضى وانشقت بالعصا وربما يحصل عند النزاع والمطالبة خصام وسب لبعضهم بعضا أو للقبيلة المنفذة فيغرمون الساب مالا تعزيريا أو يكرهونه على تسليمه ولولاه لتطاول بعضهم على بعض وعاد كل معزول إلى النقض وهذا كله بناء على جواز التعزير بالمال. المطلوب بيان قائليه ومن اختاره عند خلو الجهة من الإمام لأن الضرب والحبس ونحوه لا يقدر عليه في البلاد المذكورة، الجواب مطلوب جزيتم خيرا آمين. السؤال الثاني إن بعض القبائل لهم سوق يجتمع فيه الناس في يوم معروف فمن مشى إليه فهو في أمانهم وخفارتهم ذهابا وإيابا من غرمائه وأعدائه فإذا حصل في ذلك جناية حمل أهل السوق على الجاني للقتال إلا أن يلتزم لهم مالا كثيرا لأنفسهم، والجناية بحالها لأهلها، فهل يحل ويجب على الجاني تسليمه ويلحق قبيلته غرمه حسبما تواطؤا عليه كما هو مذكور في السؤال الأول، فلولا أهل السوق لتهالك الناس بالمقاتلة وانحبس كثير من المعايش والمعاملة. تتمة: ومثل أهل السوق من خرج من بيت شخص أو بعد أكله لديه فهو في خفارته حتى يصل بيته وعلى من خفر الذمة منها كذا وكذا فتفضلوا أوضحوا لنا هذه الأشياء لعل قائلا يقول بها عند خلو الجهة من الإمام ولحفظ بيضة الإسلام، وإلا فنصوص أهل المذهب في المتون ظاهرة وأفيدوا أين مصرف هذا المال المعزر به هل هي المصالح

العامة أم المخفور ذمته والضمين مثلا، وكذا المسبوب. والقوانين الفقهية في هذا معلومة، إنما السؤال هل لهذه الجمل في قواعد الشرع محل فالتفسير به بحسب ما تفسره عند بعض أهل العلم والشرع مبني على جلب المصالح ودرء المفاسد، الجواب مطلوب. جزاكم الله خير الدارين بحق محمد وآله. السؤال الثالث فيمن وجد مالا مغصوبا أو مسروقا فعرف مالكه ففداه له هل يلزم المالك ذلك أم هو كالشراء يرده ويرجع بما بذل على أخيه؟ أفيدوا جزيتم الجنة آمين. السؤال الرابع في رجل فاضل ظهرت عليه الولاية ووصل إلى بلادنا وادعى الإمامة فيها وأجابوه جملة وحصل منه الرغب والرهب وألزمهم الأحكام الشرعية والتزموها ثم وصل إلى بعض القرى وغدروه وقتلوه خذلهم الله ونصره، وكان قد جمع أموالا بعضها أخذها على أهل الربا ونحوهم كالتعزير وبعضها نهبها العسكر من الناس وأمرهم بجمعها لديه فجمعوها وردوها له ومال أهل الربا بيده ثم قتل وقد أودع الكل في بعض القرى فيقول المودع لا أردها إلا بالحكم الشرعي فلكم الفضل بإيضاح الحكم في هذا المال وتقسيمه. والإمام رحمه الله لا يعلم له وارث ولا ندري من أين خرج وطولوا النفس في هذا مأجورين. بحق النبي الأمين وآله الأكرمين وصحابته الراشدين. السؤال الخامس في تفسير الجلالين أن مريم بنت ناموسا دلت على عظام يوسف عليه السلام مع قولهم إن الأنبياء عليهم السلام أحياء في قبورهم يصلون ويصومون ما المراد وكيف الجمع. أفيدوا وجزيتم خيرا بالجواب الشافي.

السؤال السادس إذا كان لقبيلة أرض موات يدعونها ولا منازع لهم فيها ولا بينة إلا اليد الحكمية مع نقصان الإحياء المشروط، فهل يقال إنها حمة ولا تجوز للآحاد أم ما ذا؟. ثم السؤال لو أعمر بعضهم بعضها وأحياه للزراعة وأرادوا نزعها منه أو قسمتها وقد غمرها هل يرجع بالغرامة عليهم وتقسم أم يكون أحق بها والله يرعاكم ومتع بحياتكم والسلام عليه ورحمة الله.

وهنا أسئلة تضمنتها أبيات جرت على لسان الفقير إلى الله عفا الله عنه، المطلوب من سيدي العلامة تولى الله معونته الإجابة عليها بما فتح به الفتاح: جمال الدين قاموس الآلئ ... وبدر التم في داجي الليالي وفاتح قفل مغلاق المعاني ... ومغلق باب أرباب الجدال وكشاف العويص وروض مجد ... بأزهار وأثمار الأمالي عليك سلام ربي كل حين ... ورحمته تعمك بالنوال ومن مأسور ودك ألف ألف ... من التسليم كالتسنيم حالي ويا مولاي قد لاحت أمور ... على ذهني ستبدو في مقالي فحرر لي جوابا مستطيلا ... ووشحه بأخبار غوالي ... فأولها المذاهب والتزام ... لها ما ذا ترى في ذا المجال وآيات الكتاب لها وضوح ... وأخبار الأدلة كالهلال فهل لي أن أسير إلى دليل ... أراه أم أخيم في جلالي وهل لي أن أقلد في جواز ... لتقليد الرجال ذوي الكمال وإن كان الصحاب ذوي اجتهاد ... فما وجه العدول ولا تبالي وأعراب البوادي كيف كانوا ... أقلدوا للصحابة بالمقال وما وجه الألى منعوا اجتهادا ... وطأطأ ذلك الشم العوالي وقالوا بعد ست من مئين ... تغلق بابه دون الرجال وقولهم العقائد ليس نرضى ... لها التقليد أو ربط العقال وينتسب الكثير إلى إمام ... فهذا أشعري (¬1) في نضال ¬

(¬1) تقدم التعريف بها.

وهذا ما تريدي (¬1) وهذا ... يميل إلى عقيدة الاعتزال (¬2) وذا العدلي (¬3) لا يرضى سواه ... وهذا فيه تقليد الرجال كذا خبر الحدود وما يليه ... يكون إلى الإمام أخي المعالي فهل هذا دليل ترتضيه ... يكون خفيرنا يوم المآل فإن الجمعة الغراء عيد ... وحج فيه أرباح غوالي وهل في ذا الزمان لنا إمام ... يقوم بمقتضى ذاك المقال فإن قلتم نعم صحت أمور ... تعاطاها نحارير الرجال وإلا كان تجميع البرايا ... إذا فقد الشرط كالضلال وقول إمامنا زيد ويحيى ... يكون مؤولا في ذا المقال فإن إمامة الداعين منهم ... هي الحق الصواب بلا جدال ولكن زاحمتهم آل هند ... وقوم آخرون على التوالي فقل لي هل أقاموها وأحيوا ... شريعة جدهم بدر الكمال أم اتكلوا على جور المولى ... وصار وجوده مثل الزوال نعم لا زلت في نعم توالي ... وللتقوى وللآيات تالي أفدني عن مقال مستفيض ... بأن المصطفى بدر الكمال هو الأصل الأصيل لكل شيء ... فهل هذا العموم تراه خالي عليه صلاة ربي كل حين ... صلاة لا تؤول إلى زوال تعم الآل والأصحاب طرا ... وتغشى من أجاب على سؤالي ¬

(¬1) تقدم التعريف بهما. (¬2) تقدم التعريف بهما. (¬3) تقدم التعريف بها.

ومن هنا - الجواب على قاضي بلاد عسير - (¬1) الحمد لله رب العالمين وبه أستعين: الجواب [الأول] عن السؤال [الأول] وهو قوله عن عوائد بعض الجهات إلخ. الحمد لله رب العالمين وبه أستعين إلخ. إن التواطؤ من أهل القرى على توظيف قواعد تندفع بها عنهم مفاسد وتحصل لهم عندها فوائد ينبغي أولا الاستفسار عن هذه القواعد هل هي مما له انتظام في سلك الأحكام المشروعة للأنام من سيد الأنام عليه الصلاة والسلام وعلى آله الكرام وصحبه الفخام أم لا. فالأول لا ريب أن ذلك من المستحسنات الداخلة تحت عموم قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (¬2) و: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ¬

(¬1) قاضي عسير: هو الشريف حمو د بن محمد بن أحمد بن أبي مسمار، الحسني، التهامي (1170 - 1233 هـ). كان نائبا لإمام صنعاء المنصور علي بن المهدي عباس على منطقة أبي عريش والمخلاف السليماني (بلاد عسير) وقد انضم إلى سلطان نجد عبد العزيز بن سعود في زحفه على تهامة، بعد أن وسع سيطرته واستولى على اللحية والحديدة وزبيد وحيس، وتجددت حروبه مع ابن سعود في سنة 1224 هـ. وكان ابن الإمام المنصور المتوكل أحمد، قد جهز لحربه قبل خلافته في هذا العام، ثم جرى بينهما صلح كان باطلاع شيخ الإسلام الشوكاني، ثم انتقض هذا الصلح ... وقامت حروب بينهما سنة 1229 هـ ولكن ضعف صنعاء كان بالغا ولم تعد سيطرتها على تهامة إلا في عهد خلفه (المهدي عبد الله) سنة 1233 بمساعدة قوات محمد علي والي مصر. وقد عرف الشريف حمود بالبطولة والكرم والعلم، ووضع القاضي عبد الرحمن البهكلي سيرة له سماها " نفح العود بسيرة الشريف حمود ". وانظر: " البدر الطالع " (1/ 240)، " نيل الوطر " (1/ 408 - 414). (¬2) [المائدة: 2].

أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} (¬1) وغير ذلك من الآيات الكريمة. وفي السنة من دلائل هذا ما لا يأتي عليه الحصر: " الدين النصيحة " (¬2)، " انصر أخاك ظالما أو مظلوما " (¬3)، " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه " (¬4)، " المؤمنون كالبنيان " (¬5) ¬

(¬1) [النساء: 114]. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (55) والنسائي (7/ 156) وأبوا داود رقم (4944) والترمذي رقم (1926) وقال: حديث حسن صحيح. وهو حديث صحيح. عن تميم الداري رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الدين النصيحة " قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: " لله وكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ". وأخرج البخاري في صحيحه رقم (7204) ومسلم رقم (55/ 99) عن جرير رضي الله عنه قال: بايعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على السمع والطاعة، فلقنني ما استطعت - والنصح لكل مسلم. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم " 6952 " والترمذي رقم (2255) عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " انصر أخاك ظالما أو مظلوما "، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوما أفرأيت إن كان ظالما كيف أنصره؟ قال: " تحجزه عن الظلم فإن ذلك نصره ". (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2564) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله ولا يحقره، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، ونشير إلى صدره بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وعرضه، وماله ... ". وأخرجه أحمد (2/ 68) وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (8/ 184). رواه أحمد وإسناده حسن عن ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: " المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، يقول: والذي نفسي بيده ما تواد اثنان فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما ". ومنها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2442) ومسلم رقم (2580) وأبو داود رقم (4893) والترمذي رقم (1426) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة ". (¬5) أخرج البخاري في صحيحه رقم (481) ومسلم رقم (2585) عن أبي موسى قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا ".

بل هذا داخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المكر فما دل عليهما دل على هذا من كتاب وسنة فلا نطيل ببسط ذبك، وإنما قلنا كذلك لأن الواجبات الرعية المتعلقة بالأبدان والأموال لا يقوم بها غالب المكلفين من قبل نفسه إلا إذا خاف النكير عليه وإنزال الضرر به من سلطان أو رئيس من رؤساء المسلمين وهذا مشاهد محسوس معلوم فكل بلاد لا حكم فيها لسلطان من سلاطين المسلمين لو خلا كل فرد من الأفراد الساكنين بها وشأنه لما قام ببعض ما أوجب الله عليه إلا النادر، وقليل ما هم، ولهذا يقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العرافة حق ولا بد للناس من عريف ثم قال عند أن عزم على إرجاع السبي من هوازن وقد سمع الناس يقولون إنهم قد طابوا أنفسا بإرجاع ما في أيديهم. فقال: لا نعلم من رضي ممن لم يرض ثم أمر الرؤساء أن يعرفوا حقيقة ذلك من كل فرد، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تفد عليه قبيلة من القبائل ولا بطن البطون للإسلام إلا جعل عليهم واحدا منهم ينظر في أمورهم، وهذا وقد تلقوا أحكام الشريعة بالقبول ونفذت فيه الأوامر والنواهي من الرسول فكيف بمن لا ينفذ فيهم أمر آمر ولا ينفق لديهم نهي ناه، فتقرر بهذا أن لتواطؤ على تلك القواعد ونصب من يقوم بها من أعظم الواجبات الشرعية ولهذا كان حلف الفضول الواقع من أولئك الرؤساء الفحول ممدحا على تعاقب العصور وتوارد الدهور، مع أنه واقع من قوم لم يرح أحدهم رائحة الإسلام على قوم من الجاهلية الطغام، ولكنه لما كان مشتملا على مكارم الأخلاق التي أحدها الانتصاف للمظلوم من الظالم كان بذلك المكان المكين عند المسلمين والكافرين فكيفي لا يحسن عقلا وشرعا التواطؤ بين ثلة من المسلمين الذين لا سبيل عليهم لأحد من السلاطين على نصب جماعة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فإن هذا من أعظم شعائر الدين. وليس من شرط حسن هذا القانون أن يكون القيام من أولئك بجميع الأمور الشرعية، بل الفرد منها كاف في الحسن إذا خلصت هذه المصلحة عن أن تشاب بمفسدة تساويها أو

ترجح عليها مثلا لو لم يكن نصب أولئك المنصوبين إلا لزجر أهل بلدهم عن معصية الربا فقط فهذا نوع من أنواع الأمر بالمعروف (¬1) والنهي عن المنكر المعلوم وجوبها كتابا وسنة، لأن هذه مصلحة خالصة متضمنة لدفع مفسدة قبيحة فإن كان ذلك التواطؤ والنص لذلك مثلا وللإجبار على معاملات الربا فلا شك أن لهذا التواطؤ والنصب جهتين إحداهما حسنة والأخرى قبيحة، فإذا جرد النظر إلى جهة الحسن فهو، وإن جرد النظر إلى جهة القبح فهو قبيح، فإن كان القيام بجهة الحسن لا يمكن إلا مع انضمام جهة القبح إليها فينبغي النظر من جهة أخرى وهي: هل المعاملات الربوية متروكة فيلزم قبل هذا النصب ومع عدمه أم لا؟ فالأول لا ريب أن النصب قد اشتمل على مفسدة منضمة إلى تلك المصلحة، ودفع المفاسد (¬2) أهم من تأسيس المصالح فيكون هذا النصب معصية ويتوجه تركه. والثاني لا شك أن المفسدة لم تحدث لمجرد النصب بل هي كائنة مع عدمه كوجوده فيكون هذا النصب قد طاعة لأن تلك المصلحة خالصة لم تعارض بمفسدة راجحة إذ هي في تحريم لربا تقليل المعاصي وانضمام ذلك المعارض حيث كان حاصلا مطلقا لا يوجب الترك للكل ولا يسوغه. ¬

(¬1) أخرج مسلم في صحيحه رق (49) والترمذي رقم (2172) وقال: حديث حسن صحيح وابن ماجه رقم (1275، 4013) والنسائي (8/ 111، 112). عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ". (¬2) قول الفقهاء: " درء المفاسد أولى من جلب المصالح ودفع أعلاها " أي أعلى المفاسد بأدناها. يعني أن الأمر إذا دار بين درء مفسدة وجلب مصلحة، كان درء المفسدة أولى من جلب المصلحة، وإذا دار الأمر أيضًا بين درء إحدى مفسدتين، وكانت إحداها أكثر فسادا من الأخرى، فدرء العليا منهما أولى من درء غيرها وهذا واضح يقبله كل عاقل، واتفق عليه أهل العلم. انظر: " الكوكب المنير " (4/ 447).

وأما إذا كان النصب مشتملا على القيام بأمور مخالفة للشريعة المطهرة فهذا هو الطرف الثاني من طرفي الاستفسار، ونقول: لا مرية في أن ذلك التواطؤ والنصب من أعظم المعاصي الموجبة للهلاك، ويجب على كل مسلم الجهاد لمن كان كذلك، وإذا لم يقدر فالهجرة محتمة لأن هذا إظهار شعار لمعاص محضة وإبراز قانون لمنكرات خالصة وقيام وقعود في محرمات متيقنة، وبين العصيان على هذه الصورة وعصيان كل فرد فرد بدون ذلك كما بين السماء والأرض، وذلك كما يقع من جماعة من طغام البداوة، يحملون؟ جماعة من شياطينهم على تنفيذ الأحكام الطاغوتية ويسلطونهم على أنفسهم، إن حادوا عن شيء منها فهذا من أشد الكفر بالله وبشريعته، والراضي بذلك كافر والقاعد عن الهجرة داخل تحت قوله تعالى: {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (¬1) والتارك لجهاد هؤلاء مع القدرة تارك للجهاد في سبيل لله عز وجل فهذا جواب على الإجمال. ولنتكلم على الصور التي ذكرها السائل كثر الله فوائده فنقول: قوله ويأخذون منهم أجرا على القيام بتنفيذ تلك الأحوال، الجواب عنه مفتقر إلى النظر في صفة ما قاموا به فإن كان داخلا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حل لهم ما يحل لسلاطين المسلمين من أموالهم وقد كان الخلفاء الراشدون يأخذون من الأموال المجموعة عند الحاجة ما يقوم به بالكفاية والجهة واحدة، فإن قيام المسؤول عنهم هو النفس ما قام به الخلفاء. وإن كان القيام والنصب لمفسدة خالصة كما أشرنا إليه فأخذ الأجرة ظلمات بعضها فوق بعض، لأن أصل القيام والمباشرة حرام وانضم إليها أكل أموال الناس بالباطل. قال كثر الله فوائده: إن ما صدر منهم من قتل أو جرح عمدا إلخ أقول هذا وإن لم يكن في باب من أبواب الشريعة على الخصوص فهو غير ممنوع شرعا لأن ما كان هذا ¬

(¬1) قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140].

سبيله فهو مسوغ باعتبار التراضي على التعاون بالأموال ومواساة من نابته نائبة، لكن هذا مع الرضا المحقق في دفع ما يخص الغارم من المغرم اللازم لغيره. وكذلك عدم الاختصاص بالمغنم لمن هو له على الخصوص فمن دخل في ذلك وأراد الرجوع عن التواطؤ الواقع بينه وبين أهل قريته فهو غير ممنوع من ذلك لكن بشرط أن لا يكون الأمر الذي خرج عنه مما لا يقوم به إلا الجميع، وذلك مثل ما يلزم من الغرامات في حفظ نفوس الساكنين وأموالهم إما بمصالحة العدو أو بدفع جانب من المال لمن هو أقدر على الدفع منهم أو من غيرهم. وكذلك لوازم الضيافة المشروعة فإن الضيف في غالب القرى لا يقصد فردا معينا بل ينزل المسجد أو النادي فيقوم بما يحتاج إليه من كان الدول عنده لأنهم يوزعون ذلك بينهم مثلا يقسمون القرية أرباعا أو أثمانا فيكون القائم بالضيف الوارد أهل الربع أو الثمن الأول ثم الثاني ثم كذلك، وأهل الربع أو الثمن يتناوبون ذلك فيما بينهم على قانون صحيح لأنهم ينظرون في عدد الأشخاص وفي مقدار ما يملكه كل واحد فينزلون ذلك عليه، ولو لم يفعلوا كذلك لبطل القيام بالضيافة المشروعة لأن كل فرد يحيل على سائر أهل القرية. ومثل ذلك ما يقع في البلاد التي فيها سلطان كالاستعانة من أموالهم لمايدهم مما لا طاقة لهم به وغير ذلك. والحاصل أن الانفراد إن استلزم مفسدة أو فوت مصلحة فلا يجاب طالبه إليه وإن كان لا يستلزم وجبت الإجابة. ومن اطلع على أسرار الشريعة المطهرة علم أنها بأسرها مبنية على مراعاة جلب المصالح ودفع المفاسد ومما يستأنس به في اعتبار القواعد الممهدة بين من يجمعهم مكان أو أمكنة - أن الشارع صلوات الله عليه كان يغزو القبيلة [أو بعضها إذا بلغه عدم تمسكم بشريعته المطهرة] (¬1) فيسفك دماءهم ويسلب أموالهم ¬

(¬1) زيادة من نسخة أخرى.

ويسترق نساءهم وأطفالهم من دون أن يسأل كل فرد فرد أو ينقل له ذلك عن كل شخص شخص، وليس ذلك إلا لأن الاعتبار بما ظهر من دون معارضة ولا مفارقة، وإذا اعتبر الشارع مثل هذا في ترتيب إباحة الدماء والأموال عليه وليس هو إلا مجرد اتحاد كلمتهم في الظاهر لجري القوانين بمثل ذلك فجواز ما هو أخف من ذلك بالأولى، وهذا وإن كان يرى في الظاهر أجنبيا عن محل السؤال فهو نافع عند من يعقل المناطات الشرعية، وقد ثبت أن العباس يوم بدر لما قال للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه خرج مع القوم مكرها فقال له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إن ظاهرك كان علينا (¬1) ثم لم يعذره من تسليم الفداء فانظر يف ألحقه بالقوم الذين خرج معهم ورتب على ذلك أخذ الفداء منه. ومثل ذلك ما ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه هم بصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة (¬2) وفيهم من يملك الكثير وفيهم من لا يملك القطمير ما ذاك إلا لأنهم ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) قال ابن هشام في " السيرة " (3/ 310 - 311) " فلما اشتد على الناس البلاء بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة ومن لا أتهم، إلى عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر، وإلى الحارث بن عوف بن أبي خارثة المري، وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار الدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى بينه وبينهما الصلح، حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إلا المراوضة في ذلك، فلما أراد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يفعل، بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فذكر ذلك لهما، واستشارهما فيه فقالا له: يا رسول الله، أمرا تحبه فنصنعه، أم شيئا أمرك الله به، لا بد لنا من لعمل به، أم شيئا تصنعه لنا؟ قال: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنك من شوكتهم إلى أمر ما، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فأنت وذاك فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا ". " السيرة النبوية " (3/ 310 - 311). " الطبقات " لابن سعد (2/ 73).

مجتمعون في اللوازم العامة وهو لا يهم إلا بالجائز، فمن أراد من أهل القرية أن ينفرد بما حصل له من غنم من دية أو أرش فإن كانت هذه الإرادة إنما هي عند أن عرف أن له نفعا في الانفراد ولو كان عليه مغرم ثقيل لما طلب ذلك ولا أحب أن يطلبه غيره، وإن كان انتفع الاجتماع بدفع أمور ينفرد بغرمها لولا مشاركة قومه له ي ذلك لاجتاحت ماله أو لم تف بها ذات يده فلا يجاب إلى ما يطلبه من الانفراد عند غنمه دون غرمه، اللهم إلا أن يغرم لقومه ما قد استفاده باجتماعهم في دفع ما يرد علي وجلب ما وصل إليه بسبب اجتماع الكلمة ويكون انفراده غير مستلزم لمفسدة لاحقة بالكل وبالبعض فلا بأس أن يجاب إلى الانفراد في غير الأمور التي لا تقوم إلا بالجمع كما سلف. نعم: إذا طلب المفارقة لقومه بمفارقة محلهم من دون أن يبقى له فيها نشب ينتفع به كأن يبيع جميع ما يملكه هنالك ويرحل بنفسه وأهله فلا بأس بذلك لأن البقاء عليه لديهم ليس بمحتم شرعا. قال كثر الله فوائده: ولقصد حال أولئك المنصوبين كالدولة في تنفيذ ما مر إذا أخذوا بيد المانع وعزره إلخ. أقول: قدر عرف مما تقدم أن بعض الأمور لا يجاب فيها طالب الانفراد لأنه يريد الخروج عن أمور شرعية أو حاجية أو ضرورية عامة، فهذا يسوغ للمنصوبين أن يأخذوا بيد من أراد الانفراد ويكرهونه على ذلك ولكن ينبغي تقديم الأخف فالأخف وتقديم الليونة على الخشونة، فإن أعيا الأمر وأعضل الدواء فلا يحل الإضرار ببدن الممتنع بل يؤخذ من ماله مقدار ما عليه حيث كان ذلك لازما له شرعا مثل ما فيه دفع مفسدة أو جلب مصلحة لا ما كان من اللوازم الجاهلية التي لا ترجع إلى منفعة دينية ولا دنيوية كما يقع في كثير من البدو من اللوازم الطاغوتية، وإذا عرض لازم آخر بعد ذلك اللازم الذي وقع الإجبار أو التغريم بمقداره، جاز للمنصوبين أن يأخذوا من ماله مثل م هو لازم، ثم كذلك حتى يدخل فيم دخل فيه قومه أو يفارقهم على الصفة

المذكورة سابقا. وأما التعزير وأخذ المال لمجرد العقوبة للممتنع فلا يحل لأن أخذ ما عليه ممكن، فإن امتنع من تسليم ما يلزم شرعا جاز للمنصوبين مقاتلته حيث تعذر عليهم استعمال ما هو دون ذلك أو لم ينفع ويكون ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما واجبان على كل فرد فرد. قال كثر الله فوائده: وهذا كله بناء على جواز التعزير بالمال إلخ. أقول: هذه المسألة طويلة الذيول، متشعبة الطرق، ولا يعرف الصواب فيها إلا بعد تحرير أدلتها، فمن جملة الأدلة الدالة على جواز العقوبة بالمال ما رواه أحمد (¬1) والنسائي (¬2) وأبو داود (¬3) من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " في كل إبل سائمة وفي كل أربعين لبون لا تفرق إبل عن حسابها، من أعطاها مؤتجرا فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها وشطر إبله، عزمة من عزمات ربنا تبارك وتعالى لا يحل لآل محمد منها شيء ". وأخرجه أيضًا الحاكم (¬4) والبيهقي (¬5). قال يحيى بن معين (¬6): إسناده صحيح إذا كان من دون بهز ثقة. وقد اختلف في بهز فقال: أبو حاتم (¬7): لا يحتج به. وروي عن الشافعي أنه قال: ليس بهز حجة لا يثبته أهل العلم بالحديث، ولو ثبت لقلنا به، وكان قال به في لقديم ثم رجع. وسئل أحمد (¬8) عن هذا الحديث فقال: ما أدري ما وجهه. وسئل عن إسناده فقال: ¬

(¬1) في " المسند " (5/ 2 - 4). (¬2) في " السنن " (5/ 15 - 16 رقم 2444). (¬3) في " السنن " رقم (1575). (¬4) في " المستدرك " (1/ 398) وصححه ووافقه الذهبي. (¬5) في " السنن الكبرى " (4/ 105). (¬6) ذكره ابن حجر في " التلخيص " (2/ 160). (¬7) انظر " الميزان " (1/ 353 - 354 رقم 1325). (¬8) انظر " الميزان " (1/ 353 - 354 رقم 1325).

صالح الإسناد، وقال ابن حبان (¬1): لولا هذا الحديث لأدخلت بهزا في الثقات. وقال ابن حزم (¬2): إنه غير مشهور العدالة. وقال (ابن الطلاع) إنه مجهول، وتعقب بأنه قد وثقه جماعة من الأئمة. وقال ابن عدي (¬3) لم أر له حديثا منكرا وقال الذهبي (¬4): ما تركه عالم قط وقد تكلم فيه أنه كان يلعب بالشطرنج. قال ابن القطان (¬5): وليس ذلك بضائر له فإن استباحته مسألة فقهية مشتهرة. قال الحافظ (¬6): وقد استوفيت الكلام فيه في تلخيص التهذيب. وقال البخاري (¬7) بهز بن حكيم مختلفون فيه. وقال ابن كثير: الأكثر لا يحتجون به. وقال الحاكم (¬8): حديثه صحيح، وقد حسن له الترمذي عدة أحاديث، ووثقه. واحتج به أحمد وإسحاق والبخاري خارج الصحيح وعلق له فيه. وروي عن أبي داود أنه حجة عنده. ومن جملة الأدلة على جواز المعاقبة بالمال ما ثبت في دواوين الإسلام أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم بتحريق بيوت المتخلفين عن الجماعة (¬9). ¬

(¬1) في " المجروحين " (1/ 194). (¬2) انظر " الميزان " (1/ 353 - 354). (¬3) في " الكامل " (2/ 501). (¬4) في " الميزان " (1/ 353 - 354). (¬5) ذكره الذهبي في " الميزان " (1/ 353 - 354). (¬6) في " التلخيص " (2/ 160). (¬7) ذكره الذهبي في " الميزان " (1/ 353). (¬8) ذكره الذهبي في " الميزان " (1/ 354). (¬9) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (644) ومسلم رقم (251/ 651). ومالك (1/ 129رقم 3) وأحمد (2/ 244) وأبو داود رقم (548، 549) والنسائي رقم (2/ 107) وابن ماجه رقم (791) والبيهقي (3/ 55). عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا سمينا أم مرماتين حسنتين لشهد العشاء ".

ومنها ما أخرجه أبو داود (¬1) من حديث عمر قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا وجدتم لرجل قد غل فأحرقوا متاعه وفي إسناده صالح بن محمد بن زائدة المديني (¬2) قال [البخاري (¬3): عامة أصحابنا يحتجون به وهو باطل. وقال الدارقطني] (¬4): أنكروه على صالح ولا أصل له، والمحفوظ أن سالما أمر بذلك في رجل غل في غزاة مع الوليد بن هشام قال أبو داود: وهذا أصح. ومنها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند أبي داود (¬5) والحاكم (¬6) والبيهقي (¬7) أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر وعمر أحرقوا متاع الغال ضربوه. وفي إسناده زهير بن محمد قيل هو الخراساني (¬8) وقيل غيره، وهو مجهول. ولكن للحديث شاهد. ومنها أن سعد بن أبي وقاص سلب عبدا وجده يصيد في حرم المدينة , وقال: سمعت ¬

(¬1) في " السنن " رقم (2713). قلت: وأخرجه أحمد (14/ 93 رقم 275 - الفتح الرباني) والترمذي رقم (1461) وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. والحاكم في " المستدرك " (2/ 127) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي والبيهقي في " السنن الكبرى " (9/ 103). (¬2) انظر "المجروحين " (1/ 367) و" الجرح والتعديل " (4/ 411). (¬3) في " التاريخ الكبير " (4/ 291). وهو حديث ضعيف. (¬4) زيادة من نسخة أخرى. (¬5) في " السنن " رقم (2715). (¬6) في " المستدرك " (2/ 131) وقال: حديث غريب صحيح ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. (¬7) في " السنن الكبرى " (9/ 102). (¬8) قال البخاري: عن أحمد: كان زهير الذي يروي عنه الشاميون آخر. وقال أبو حاتم: حدث بالشام من حفظه، فكثر غلطه. انظر " التقريب " (1/ 264 رقم 80) و" الجرح والتعديل " (3/ 589) و" الميزان " (2/ 84). وهو حديث ضعيف.

رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " من وجدتموه يصيد فيه فخذوا سلبه " أخرجه مسلم (¬1). ومنها ما أخرجه أبو داود (¬2) وسكت عنه هو والمنذري من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن التمر المعلق فقال: " من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه , ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئا بعد أن تؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع. ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة ". وأخرج نحوه النسائي (¬3) والحاكم (¬4) وصححه. ومن الأدلة قضية المددي الذي أغلظ لأجله الكلام عوف بن مالك على خالد بن الوليد لما أخذ سلبه فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا ترد عليه سلبه " أخرجه مسلم (¬5). ومنها تغريم كاتم الضالة أن يردها ومثلها وهو في الأمهات (¬6). ومن المؤيدات لجواز التأديب بالمال إحراق علي عليه السلام لطعام المحتكر (¬7) ودور قوم ¬

(¬1) سيأتي تخريجه. (¬2) في " السنن " رقم (1710) وهو حديث حسن. (¬3) في " السنن " (8/ 84، 85، 86). (¬4) في " المستدرك " (4/ 381). قلت: وأخرجه الترمذي رقم (1289) وقال: حديث حسن. وابن ماجه رقم (2596) وابن الجارود رقم (827) والدارقطني (4/ 236) والبيهقي (8/ 278) وهو حديث حسن. (¬5) في صحيحه رقم (43/ 1753). (¬6) أخرجه أبو داود رقم (1718) عن أبي هريرة قال: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ضالة الإبل المكتومة غرامتها ومثلها معها " وهو حديث صحيح. قال الخطابي في " معالم السنن " (2/ 339): " إنما هو زجر وردع، وكان عمر رضي الله عنه يحكم به، وإليه ذهب أحمد بن حنبل، وأما عامة الفقهاء فعلى خلافه ". (¬7) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (6/ 103) عن عبد الرحمن بن قيس قال: قال حبيش: أحرق لي علي بن أبي طالب بيادر بالسواد كنت أحتكرها. لو تركتها لربحت فيها مثل عطاء الكوفة.

يبيعون الخمر (¬1) وهدمه دار جرير بن عبد الله (¬2) ومشاطرة عمر لسعد بن أبي وقاص في ماله الذي جاء به من العمل الذي بعثه إليه (¬3)، وتضمينه لحاطب بن أبي بلتعة [مثلي قيمة الناقة التي غصبها عبيده وانتحروها (¬4): زيادة من نسخة أخرى. وتغليظه هو وابن عباس الدية على من قتل في الشهر الحرام (¬5) في البلد الحرام، فبهذه الأدلة استدل القائلون بجواز التأديب بالمال. قال الإمام المهدي أحمد بن يحيى في الغيث (¬6) لا أعلم خلافا في ذلك بين أهل البيت وإلى ذلك ذهب الشافعي في القديم من قوليه ثم رجع عنه، وقال: إنه منسوخ. ¬

(¬1) ذكره أبو عبيد في " الأموال " (ص 96 - 98): أن عليا نظر إلى زرارة، فقال: ما هذه القرية؟ قالوا: قرية تدعى زرارة يلحم فيها، تباع فيها الخمر، فقال: أين الطريق إليها؟ فقالوا: باب الجسر، فقال قائل: يا أمير المؤمنين نأخذ لك سفينة تجوز مكانك، قال: تلك سخرة، ولا حاجة لنا في السخرة، انطلقوا بنا إلى باب الجسر، فقام يمشي حتى أتاها فقال: على بالنيران، أضرموها فيها فإن الخبث يأكل بعضه بعضا. قال فاحترقت من غربيها حتى بلغت بستان خواستا بن حبرونا ". (¬2) لم أجده. (¬3) ذكره أبو عبيد في " الأموال " (ص 269). وانظر: " موسوعة فقه عمر بن الخطاب " (ص 145). (¬4) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10/ 239): " عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن غلمة لأبيه عبد الرحمن بن حاطب، سرقوا بعيرا فانتحروه، فوجد عندهم جلده ورأسه، فرفع أمرهم إلى عمر، فأمر بقطعهم، فمكثوا ساعة، وما نرى إلا أن فرغ من قطعهم، ثم قال: علي بهم، ثم قال لعبد الرحمن: والله إني لأراك تستعملهم ثم تجيعهم وتسيء إليهم، حتى لو وجدوا ما حرم الله عليهم لحل لهم، ثم قال لصاحب البعير: كم كنت تعطى لبعيرك؟ قال: أربعمائة درهم. قال لعبد الرحمن: قم فاغرم لهم ثمانمائة درهم ". وانظر: " المحلى " (8/ 157).] (¬5) أخرج البيهقي في " السنن " (8/ 77) عن مجاهد قال: قضى عمر فيمن قتل في الشهر الحرام أو في الحرم أو هو محرم بالدية وثلث الدية، فإن قتل رجل آخر في البلد الحرام وفي الشهر الحرام غلظت عليه الدية، ثلث للشهر الحرام، وثلث آخر للبلد الحرام، فتمت الدية عشرين ألفا لأن أصل الدية اثنا عشر ألف درهم في تقدير عمر (¬6) تقدم التعريف به.

وهكذا قال البيهقي وأكثر الشافعية. وتعقبه النووي، فقال: الذي ادعوه من كون العقوبة كانت بالأموال في الإسلام ليس بثابت ولا معروف، ودعوى النسخ غير مقبولة مع الجهل بالتاريخ. وقد نقل الطحاوي والغزالي الإجماع على نسخ العقوبة بالمال وهي دعوى ساقطة. وزعم الشافعي أن الناسخ حديث ناقة البراء لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكم عليه بضمان ما أفسدت ولم ينقل أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تلك القضية أضعف الغرامة. ولا يخفى أن تركه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمعاقبة بأخذ المال في هذه القضية لا يستلزم الترك مطلقا ولا يصلح للتمسك به في مجرد عدم الجواز فضلا عن جعله ناسخا. وقد أجاب المانعون عن الأدلة التي قدمناها بأجوبة: أما عن حديث بهز فبما فيه من المقال , وبما رواه ابن الجوزي في جامع المسانيد (¬1) والحافظ في التلخيص (¬2) عن إبراهيم الحربي أنه قال في سياق هذا المتن ما لفظه، وهم فيها الراوي: وإنما قال فإنا آخذوها من شطر ماله أي يجعل ماله شطرين ويتخير عليه المصدق ويأخذ الصدقة من خير الشطرين عقوبة لمنعه الزكاة، فأما ما لا يلزمه فلا، وبما قال بعضهم إن لفظة وشطر ماله بضم الشين المعجمة وكسر الطاء المهملة فعل مبني للمجهول ومعناه جعل مله شطرين بأخذ المصدق الصدقة من أي الشطرين أراد. ويجاب عن القدح بما في الحديث (¬3) من المقال بأنه مما لا يقدح بمثله وكلام الحربي وما بعده بأن الأخذ من خير الشطرين صادق عليه اسم العقوبة بالمال لأنه زايد على الواجب، وأيضا الرواية على خلاف ذلك وأئمة الحديث هم المرجع في ذلك وقد رووه كما في الباب وأجابوا أيضًا عن حديث ............................. ¬

(¬1) لا يزال مخطوط فيما أعلم. وهو عدة أجزاء ولدي ثلاثة أجزاء مخطوطة منه. (¬2) (2/ 160). (¬3) تقدم تخريجه وهو حديث حسن.

عمر (¬1) بما فيه من المقال المتقدم وكذلك أجابوا عن حديث ابن عمرو (¬2) ويجاب عنهم بمثل ما سلف. وأجابوا عن حديث الهم (¬3) بالإحراق بأن السنة أقوال وأفعال وتقريرات والهم ليس من الثلاثة، ويرد بأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لا يهم إلا بالجائز وأجابوا عن حديث سعد (¬4) بأنه من باب الفدية كما يجب على من تصيد صيد مكة، وإنما عين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - نوع الفدية هنا بأنها سلب العاضد فيقتصر على السبب لقصور العلة عن التعدية. ويجاب بأن هذا إنما يصح بعد تسليم شجر المدينة كمكة وهو ممنوع. وأما حديث تغريم كاتم الضالة (¬5) والمخرج (¬6) غير ما يأكل من التمر، وقضية المددي (¬7) فهي واردة على سبب خاص فلا يجاوز بها إلى غيره لأنها وسائر أحاديث الباب مما ورد على خلاف القياس لورود الأدلة كتابا وسنة بتحريم مال الغير. ويجاب بأن أدلة جواز التأديب بالمال (¬8) مخصصة لعموم أدلة التحريم ولا تعارض بين عام وخاص، وإلحاق غير المنصوص عليه من المواضع التي تسوغ التأديب بالمال بالمواضع المنصوص عليها بعدم الفارق، والورود على خلاف القياس ممنوع وأجابوا على أفعال الصحابة السابقة بعدم الحجية وعلى فرض التسليم فذلك من قطع ذرائع الفساد كهدم مسجد الضرار (¬9) وتكسير المزامير، وعلى كل حال فالتأديب بالمال لا يحل إلا لذي ولاية ¬

(¬1) تقدم تخريجه وهو حديث ضعيف. (¬2) تقدم تخريجه وهو حديث ضعيف. (¬3) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) تقدم تخريجه. (¬6) تقدم تخريجه وهو حديث حسن. (¬7) تقدم تخريجه. (¬8) وانظر الرسالة رقم (130) السؤال التاسع. (¬9) تقدم ذكر ذلك.

عامة مع اجتماع خصال فيه، منها سعة العلم ووضع ذلك المأخوذ في مواضع من مصالح المسلمين لا من كان مقصرا في العلم أو كان يأخذ ذلك لمصلحة نفسه أو مصلحة من يلوذ به فهذا حرام لا يسوغه شرع ولا عقل. [انتهى جواب السؤال الأول]

[السؤال الثاني] قال السائل كثر الله فوائده: إن بعض القبائل لهم سوق يجتمع فيه الناس في يوم معروف فمن مشى إليه فهو في أمانهم، فإذا حصل في ذلك جناية حمل أهل السوق على الجاني للقتال إلا أن يلتزم لهم بمال كثير لأنفسهم، والجناية بحالها إلى آخر كلامه. أقول: قيام هؤلاء الجماعة في حفظ السوق الذي يجتمع فيه جماعة من المسلمين ومنع من أراد أن يجني فيه على غيره لا شك أنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن بشرط أن تكون الجناية في ذلك المحل واقعة على المنهج الشرعي، أما إذا كانت واقعة على قانون الشرع مثل من يجني على غيره مدافعة أو قصاصا مستحقا عليه فهذا لا يسوغ المنع منه، نعم يسوغ إذا كان من باب سد الذرائع مثل أن يؤدي السكوت للجاني إلى أن يجني غيره بالباطل وكان ذلك أمرا معلوما بحيث يتعذر أن يقتصر على الحق دون الباطل فيه، كما هو معروف في كثير من الأسواق التي يجتمع إليها جماعة من البدو، فهذا من باب المعارضة بين جلب المصلحة الخاصة ودفع المفسدة العامة، ولا خلاف أن دفع المفسدة العامة أرجح فيكون المنع على العموم قربة والأعمال بالنيات. وأما الأخذ من مال الجاني لمن قام بالحفظ والمنع فإن كان ذلك المأخوذ بالعدل لا بالجور يصير إلى مصلحة لا يتم الحفظ الموصوف بدونها فلا بأس، وإن كان على خلاف ذلك فهو من باب أكل أموال الناس بالباطل.

[السؤال الثالث] قال كثر الله فوائده فيمن وجد مالا مغصوبا أو مسروقا فعرف مالكه ففداه له هل يلزم المالك ذلك أم هو كالشراء يرده ويرجع بما بذل على أخذه. أقول: مال المسلم (¬1) لا يحل إلا بإذنه أو بحق شرعي مأذون به من طريق الشرع ولم يأت عن الشارع الإذن للغير باستفداء مال غيره المغصوب أو المسروق فيما أعلم، نعم إذا تبرع بالاستفداء وسلم ما استفدى به جهة نفسه فهو من باب المعاونة على البر امأمور به بل من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنما الشأن في رجوعه بما سلم فهذا هو الذي لم يأب به إذن من الشارع فلم يبق إلا اعتبار إذن مالك المال فإن أذن رجع عليه وإلا فلا. ¬

(¬1) قال تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29]. وأخرج البخاري في صحيحه رقم (67) ومسلم رقم (1679) وأبو داود رقم (1948) من حديث أبي بكرة: " .... إنما أموالكم ودماؤكم عليكم حرام ".

[السؤال الرابع] قال عافاه الله في رجل فاضل ظهرت عليه الولاية وصل إلى بلادنا وادعى الإمامة فيها وأجابوه جملة وحصل منه الرغب والرهب وألزمهم الأحكام الشرعية وقد كان جمع أموالا أخذها على أهل الربا ونحوهم ثم قتل. والمراد من السؤال أن الأموال محفوظة، ومن هي بيده يقول: لا أردها إلا بحكم شرعي لأن الرجل لا يعلم له وارث. أقول: يتوجه صرف هذا المال إلى بيت مال المسلمين مع إمكان إيصال ذلك إليه إن علم أن سيصرف في مصارفه الشرعية إن وصل إليه وإذا تعذر الإيصال أو أمكن ولكن غلب على الظن أنه لا يصرف في المصارف الشرعية فالمتوجه دفعه إلى أصلح رجل من الساكنين بذلك المحل بشرط أن يكون ذا دين متين، وله حظ من العلم يعرف مهمات الشريعة، وهو يتوجه عليه أن يصرفه في مصالح المسلمين العامة إن أمكن أن يتيسر له ذلك، فإن تعذر لانسداد أبواب ذلك أو اختلاط المعروف بالمنكر فعليه أن يصرفه في فقراء المسلمين القائمين بواجبات الإسلام لا من كان منهم مرتكسا في مهاوي الحرام مرتكبا لما يرتكبه سائر الطغام من موجبات الآثام.

[السؤال الخامس] قال نفع الله به: إن مريم بنت ناموس (¬1) على عظام يوسف عليه السلام مع قولهم إن الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون ويصومون. ما المراد وكيف الجمع؟. أقول: حديث الأنبياء أحياء في قبورهم صححه البيهقي وألف فيه جزءا (¬2)، ويؤيد ذلك ما ثبت أن الشهداء أحياء (¬3) يرزقون في قبورهم وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأس الشهداء. قال الأستاذ أبو منصور البغدادي (¬4): قال المتكلمون من أصحابنا: إن نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حي بعد وفاته (¬5) انتهى. ويعكر على هذا أمور: ¬

(¬1) ستأتي قريبا. (¬2) وهو كتاب " حياة الأنبياء في قبورهم " (ص 69 - 74). ط 1 سنة 1414 هـ / مكتبة العلوم والحكم المدينة. (¬3) تقدم تفصيل ذلك في الرسالة رقم (14). (¬4) قال ابن رجب الحنبلي في " أهوال القبور " (ص 160) أما الأنبياء عليهم السلام فليس فيهم شك أن أرواحهم عند الله في أعلى عليين وقد ثبت في الصحيح أن آخر كلمة تكلم بها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند موته: " اللهم الرفيق الأعلى " وكررها حتى قبض. أخرجه البخاري رق م (3669) ومسلم رق م (2191) وقال رجل لابن مسعود: قبض رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأين هو؟ قال: في الجنة. انظر: " شرح العقيدة الطحاوية " (ص 454). (¬5) وقد ثبت نقلا وعقلا أن الأنبياء من الأموات. قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]. قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144]. وإن ورد في أخبار صحيحة أن الأنبياء في قبورهم أحياء، فتلك حياة برزخية لا تماثل الحياة الدنيوية ولا تثبت لها حكمها. انظر " فتح الباري " (6/ 44).

الأول: ما ورد في الصحيح (¬1) في حديث الإسراء أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقي جماعة من الأنبياء في السماوات. أن الأنبياء لا يتركون في قبورهم فوق ثلاث. ورني فوق أربعين يوما إن صح ذلك والله أعلم. وقد تكلم عن ذلك أهل العلم فأطالوا وأطابوا فبعضهم ضعف حديث الأنبياء أحياء في قبورهم وبعضهم جمع بينه وبين ما عارضه بأنه لا مانع من رفعهم إلى السماء ثم عودهم. وبعضهم جزم بأنهم باقون في قبورهم، وفي السماء ملائكة على صورهم. والحاصل أن المقام من المجازات لا باعتبار القصة (¬2) المسؤول عنها فهي لا تنتهض ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (263/ 163) من حديث أنس بن مالك. قال ابن تيمية في " مجموع فتاوى " (4/ 328 - 329): " وأما رؤيته الأنبياء ليلة المعراج في السماء لما رأى آدم في السماء الدنيا، ورأى يحيى وعيسى في السماء الثانية، ويوسف في الثالثة، وإدريس في الرابعة وهارون في الخامسة، وموسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة أو العكس، فهذا رأى أرواحهم مصورة في صور أبدانهم. وقال: بعض الناس: لعله رأى نفس الأجساد المدفونة في القبور، وهذا ليس بشيء، لكن عيسى صعد إلى السماء بروحه وجسده وكذلك قد قيل في إدريس، وأما إبراهيم وموسى وغيرهما فهم مدفونون في الأرض ... ". وانظر: " فتح الباري " (6/ 444) و (7/ 212) (¬2) أخرج أبو يعلى في مسنده رقم (13/ 7254) بسند ضعيف. وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 170) وقال: رواه أبو يعلى. ورجال أبي يعلى رجال الصحيح، وهذا الذي حملني على سياقها. قلت: فيه محمد بن يزيد أبو هشام الرفاعي، قال البخاري عنه: رأيتهم مجمعين على ضعفه، قاله ابن حجر في " التقريب " رقم (6402). عن أبي موسى قال: أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعرابيا فأكرمه فقال له: " ائتنا " فأتاه، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " سل حاجتك " فقال: ناقة نركبه وأعنزا يحلبها أهلي، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " عجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل " فقال: " إن موسى لما سار ببني إسرائيل من مصر ضلوا الطريق فقال: ما هذا؟ فقال علماؤهم: إن يوسف لما حضره الموت أخذ علينا موثقا من الله لا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا. قال: فمن يعلم موضع قبره؟ قال: عجوز من بني إسرائيل، فبعث إليها فأتته فقال: دليني على قبر يوسف. قالت: حتى تعطيني حكمي. قال: وما حكمك؟ قالت: أكون معك في الجنة، فكره أن يعطيها ذلك فأوحى الله إليه أن أعطها حكمها، فاطلقت بهم إلى بحيرة موضع مستنقع ماء فقالت: أنضبوا هذا الماء، فأنضبوه، قالت: احتفروا واستخرجوا عظام يوسف، فلما أقلوها إلى الأرض إذا الطريق مثل ضوء النهار ".

لمعارضة ما ثبت عن الشارع ولا تستشكل الأحاديث باعتبارها فكثيرا ما وقع من الأكاذيب في كتب التفسير لا سيما المشتملة على حكاية القصص المطولة فهي متلقاة من أهل الكتاب المنصوص على أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه ويبدلون القول، بل كثير من الحكايات المدونة في كتب التفسير (¬1) لا مستند لها إلا ما يعتاده القصاص من تطويل ذيول المقال بالأكاذيب الحرية بالإبطال، فما كان كذلك لا ينبغي أن يلتفت إليه أو يعتقد صحته على فرض عدم معارضته لشيء مما ورد عن الشارع فكيف إذا عارض ما ورج وإن كان قاصرا عن رتبة الصحة. والحاصل أن التفسير الذي ينبغي الاعتداد به والرجوع إليه هو تفسير كتاب الله جل جلاله باللغة العربية حقيقة ومجازا إن لم تثبت في ذلك حقيقة شرعية فإن ثبتت فهي مقدمة على غيرها، وكذلك إذا ثبت تفسير ذلك من الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو أقدم من كل شيء، بل حجة متبعة لا تسوغ مخالفتها لشيء آخر، ثم تفاسير علماء الصحابة المختصين برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يبعد كل البعد أن يفسر أحدهم كتاب الله ولم يسمع في ذلك شيئا عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى فرض عدم السماع فهو أحد العرب الذين عرفوا من اللغة دقها وجلها. وأما تفسير غيرهم من التابعين ومن بعدهم فإن كان من طريق الرواية نظرنا في صحتها سواء كان المروي عنه الشارع أو أهل اللغة وإن كان بمحض الرأي فليس ذلك بشيء، ولا يحل التمسك له ولا جعله حجة، بل الحجة ما قدمناه. ولا يظن بعالم من علماء الإسلام أن يفسر القرآن برأيه، فإن ذلك مع كونه من الإقدام على ما لا يحل [بما لا ¬

(¬1) انظر " الرسالة " رقم (14).

يحل] (¬1) قد ورد النهي عنه في حديث: " من فسر القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ، ومن فسر القرآن برأيه فأخطأ فقد كفر " (¬2) أو كما قال، إلا أنا لم نتعبد بمجرد هذا الإحسان للظن على أن نقبل تفسير كل عالم كيفما كان (¬3)، بل إذا لم نجده مستندا إلى ¬

(¬1) زيادة من نسخة أخرى. (¬2) أخرجه الترمذي في " السنن " رقم (2952) وهو حديث ضعيف. (¬3) قال ابن تيمية في " مقدمة في أصول التفسير " أحسن طرق التفسير (ص 92 - 93): 1 - أن يفسر القرآن بالقرآن، فم أجمل في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر. 2 - فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: كل ما حكم به رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو مما فهمه من القرآن، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105]. وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه " أخرجه أبو داود رقم (4604) وأحمد (4/ 131) وهو حديث صحيح. 3 - وحينئذ إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة، رجعت في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدون من القرآن والأحوال التي اختصوا بها ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح لا سيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة والخلفاء الراشدين والأئمة المهديين. وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس. وإذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر فإنه كان آية في التفسير وكسعيد بن جبير، وعكرمة مولى ابن عباس وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري. وأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام، قل أبو بكر الصديق رضي الله عنه: " أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لم أعلم ". وانظر " تفسير ابن كثير " (4/ 273). " فتح القدير " (5/ 376). وعندما سئل ابن تيمية عن أي التفاسير أقرب إلى الكتاب والسنة فقال: " الحمد لله، أما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها " تفسير محمد بن جرير الطبري " فإنه يذك مقالات السلف بالأسانيد الثابتة وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين كمقاتل بن بكير، والكلبي ". انظر: " مقدمة ابن تيمية في أصول التفسير " (ص 103).

الشارع ولا إلى أهل اللغة لم يحل لنا العمل به مع التمسك بحمل صاحبه على السلامة، ونظير ذلك اختلاف العلماء في المسائل العلمية، فلو كثر الله فوائده كان إحسان الظن مسوغا للعمل بما ورد عن كل واحد منهم لوجب علينا قبول الأقوال المتناقضة في تفسير آية واحدة أو في مسألة علمية، واللازم باطل فالملزوم مثله، وكثيرا ما نسمع من أسراء التقليد الذين يعرفون الحق بالرجال لا بالاستدلال إذا قال لهم القائل: الحق في هذه المسألة كذا أو الراجح قول فلان، قالوا: لست أعلم من فلان، يعنون القائل من العلماء بخلاف الراجح في تلك المسألة، فنقول لهم: نعم لست أعلم من فلان، ولكن هل يجب علي اتباعة والأخذ بقوله، فيقولون: لا ولكن الحق لا يفوته ومن يشابهه من العلماء، فنقول لهم: لا يفوته وحده لخصوصية فيه أم لا يفوته هو وأشباهه ممن بلغ إلى الرتبة التي بلغ إليها في العلم، فيقولون: نعم لا يفوته هو وأشباهه ممن هو كذلك، فيقال لهم: من الأشباه والأنظار في علماء السلف والخلف آلاف مؤلفة بل فيهم أعداد متعددة يفضلونه ولهم في المسألة الواحدة الأقوال المتقابلة، فربما كانت العين الواحدة عند بعضهم حلالا وعند الآخر حراما، فهل تكون العين حلالا حراما لكون كل واحد منهم لا يفوته الحق كما زعمتم، فإن قلتم: نعم، فهذا باطل، ومن قال بتصويب المجتهدين (¬1) إنما يجعل قول كل واحد منهم صوابا لا إصابة، وفرق بين المعنيين أو يقول القائل في جواب مقالتهم فلان أعرف منك بالحق لكونه أعلم إذا كان الأسعد بالحق الأعلم فما أحد إلا وغيره أعلم منه، ففلان الذي يعنون غيره أعلم منه فهو أسعد منه بالحق فلم يكن الحق حينئذ بيده ولا بيد أتباعه، وهذه المحاورات إنما يحتاج إليها من ابتلي بمحاورة المقصرين الذين لا يعقلون الحجج ولا يعرفون أسرار الأدلة ¬

(¬1) تقدم مناقشة ذلك مرارا.

ولا يفهمون الحقائق فيحتاج من ابتلي بهم وبما يرد عليه من قبلهم إلى هذه المناظرات التي لا يحتاج إلى مثلها من له أدنى تمسك بأذيال العلم، فإن كان عارف يعرف أن وظيفة المجتهد ليست قبول العالم المختص بمرتبة من العلم فوق مرتبته إنما وظيفته فبول حجته، فإذا لم تبرز الحجة لم يحل للمجتهد الأخذ بذلك القول الخالي عن الحجة في علمه، وإن كان في الواقع ربما له حجة لم يطلع عليها العالم الأول، وحمله على السلامة لا أنه يجوز التمسك به في أن المقالة حق يجوز التمسك به كما يجوز التمسك بها كما يجوز التمسك بالدليل فهذا لا يقوله إلا من لا حظ له من العلم ولا نصيب له من العقل

[السؤال السادس] قال عافاه الله: السؤال السادس: إذا كان لقبيلة أرض موات يدعونها ولا منازع لهم فيها ولا بينة إلا اليد الحكمية إلخ. أقول: ينظر في مستند دعوى كونها ملكا لهم هل هو صدور إحياء في زمان سابق (¬1)، أو شراء من محي أو نوع من أنواع التمليك أو كان المستند هو كونها انصباب السيل إلى أملاكهم أو مواطن رعي أنعامهم: فإن كان الأول فلا شك أن دعوى الملك صحيحة واليد الحكمية يثبت بها الأصل والظاهر، فلا يقبل من الغير دعوى تخالف ذلك إلا ببرهان شرعي، وإن كان المستند ما ذكرنا آخرا فمثل الانصباب والمراعي ليست بأملاك في نفسها لمجرد ذلك فلا تقبل دعوى الملك لأن غاية ما تفيده اليد على الانصباب والمراعي هو ثبوت الحق لا الملك، وعلى الأول إذا عمرها غيره أو نحو ذلك كان له نزعها منه ولا يرجع بما غرم فيها إلا بإذن، وعلى الثاني ليس له نزعها منه ويكون أحق بها إلا أنه إذا حصل الضرر على الأول لعدم انصباب السيول إلى أرضه أو عدم رعي ماشيته في ذلك المحل فالظاهر أن له منعه، ويأثم إن لم يمتنع. والحاصل أن الأسباب المقتضية (¬2) للملك معروفة وقد جود أئمة العلم الكلام في ¬

(¬1) أخرج أحمد (3/ 304، 338) والنسائي في " الكبرى " كما في " تحفة الأشراف " (2/ 387 رقم 31229)، والترمذي رقم (1379) وقال: حديث حسن صحيح. من حديث جابر " أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال من أحيا أرضا فهي له ". وأخرج البخاري في صحيحه رق (2335) من حديث عائشة قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من عمر أرضا ليست لأحد فهو أحق بها ". (¬2) منها: البيع، والهبة، والحيازة بالإحياء للموات، ونحوه، كالإرث والإقطاع. وهذه الأسباب إذا نظرنا إليها مجردة فمنها ما هو جبري كالإرث ومنها ما هو اختياري كالبيع وغيره. وإذا نظرنا إليها من قبيل الشخص الذي ستؤول إليه، فهي إما أن تكون بعلمه الشرعي كالبيع والإحياء، أو بحكم شرعي كالإرث أو بإرادة الغير وعمله كالهبة والإقطاع. انظر: " المدخل الفقهي العام " لمصطفى الزرقا (1 / في تقسيم الملك).

الإحياء (¬1) والتحجر (¬2) وفرقوا بينهما بما يشفي فليراجع كلامهم في مواطنه (¬3). ¬

(¬1) الأرض الموات: الأرض الداشرة المنفكة عن الاختصاصات وعن ملك معصوم. إحياء الموات: أن لعمران حياة، والتعطيل موت، فشبهت الأرض المعمورة بالحي، وشبهت الأرض المعطلة بالميت، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 9 - 11]. انظر: المغني (5/ 563). (¬2) التحجير: الشروع في الإحياء ووضع علامة تدل عليه وهو للشافعية. قال النووي في " روضة الطالبين " (5/ 286): الشارع في إحياء الموات متحجر ما لم يتمه، وكذا إذا علم عليه علامة للعمارة من نصب أحجار، أو غرز خشبات أو قصبات، أو جمع تراب، أو خط خطوط، وذلك لا يفيد الملك بل يجعله أحق به من غيره. أنواع التحجير: الأغراض التي يتصور أن يكون التحجير لها ثلاثة، وهي: 1 - أن يكون التحجير في موات لقصد عمارته بزراعة أو نحوها. 2 - أن يكون التحجير لمنفعة مؤقتة كارتفاق في سوق للبيع. 3 - أن يكون التحجير لنفع عام، كمجلس عالم في مسجد لتعليم الناس، ونحوه. (¬3) الفرق بين الإحياء والتحجير: 1 - من جهة القائم بذلك بنفسه في الإحياء والتحجير وقصده، ففي الإحياء يمكن أن يقترن به إرادة النفع لعام لأنه لا ينطلق من منطلق الذاتية، فقط فالإحياء جهد منه يعود عليه وعلى المجتمع بالخير والإنتاج. أما التحجير للنفس فمنطلقها الأنانية الخاصة بالشخص على حساب غيره من حيث تعلق حقوقهم بما تحجر أو حمى وليس له ذلك. 2 - من جهة الإحياء والتحجير وتعريفهما: فالإحياء المشروع: هو تعمير موات ليس له مالك ولا يتعلق به مصلحة أحد بأي وسيلة من وسائل التعمير. والتحجير: هو حيازة الأرض بما لم يكن إعمارا أو حجزه عن الآخرين. انظر: " شرح الهداية " (2/ 232 - 233) و" نيل الأوطار " للشوكاني (5/ 348). ومن صور الإحياء: 1 - البنيان، ويشمل بناء السكن السقف، الإحاطة والتسوير، ويكفي فيه مجرد الإحاطة بجدار، وإن لم يسقف وإن لم ينصب له باب. 2 - الغرس، الزرع. وفيه تفصيل. 3 - إزالة العوائق: يمنع الانتفاع بالأرض أو الغرس أو الزرع عوائق، فإذا أزيلت صلحت للإحياء، مثل إزالة الأحجار، وقطع الأشجار وصرف الماء والرمال وبها تملك الأرض. انظر: " الأحكام السلطانية " للماوردي (ص 177). " المغني " (5/ 566).

وهذا النظم جواب السائل عافاه الله: نظام يا ابن ودي أم لآلي ... منظمة بأسلاك السؤال يقول إذا الأسير أراد سيرا ... إلى ربع الكمال مع الكمال ولام بأن يدين بما حوته ... نصوص كتاب ربي ذي الجلال وما في سنة للطهر طه ... مسلسلة بأسناد الرجال فهل غير الأدلة من سبيل ... لمن رام الوصول إلى الوصال وهل خير القرون ومن يليه ... سعوا يوما إلى قيل وقال فقل لي أي فرد منهم قد ... تلبس بانتساب وانتحال فما عرفوا التمذهب في رجال ... ولا صحبوه يوما في ارتحال بإسلام وإيمان تداعوا ... وصدوا عن مراء أو جدال ومن قصرت يداه عن مساع ... سعى نحو الأكابر للسؤال فيسرب من معين النص حتى ... يقول لقد رويت بما روى لي ولم ينسب إلى المسؤل شخص ... ولم يخطر لهم هذا ببال إذا ما لم يسعك سبيل قوم ... هم خير القرون بلا جدال فقد ضاقت عليك الأرض طرا ... ودافعت الحقيقة بالخيال فمن يعلم فإن له مثيلا ... من الصحب الكرام بلا مثال

ومن يجهل فإن له نظيرا ... من الأصحاب لاذوا بالسؤال فقد كانوا على قسمين: قسم ... مجل قد تحلى بالجلال وقسم ما له في العلم حظ ... وكان له حظوظ في النزال كلا القسمين قد سلكوا طريقا ... وما دانوا بتقليد الرجال وما نسب امرؤ منهم لبكر ... ولا عمرو على مر الليالي فهذا عالم يروي لهذا ... وهذا قاصر يحفي السؤال وإنك أيها الحبر المفدى ... حقيق أن تميل إلى المعالي كذاك أبوك وهو الفذ فيما ... يحبر من بديعات المقال فكونا تابعين لكل نص ... صحيح واشردوا عن كل خال ولا تتهيبا جمهور قوم ... فمن وجد الدليل فما يبالي وقيسوا في الصدور ذوي جلال ... لديكم من جلالة ذي الجلال إذا ما قال " قال الله " شخص ... تطأطأ عند ذا شم الجبال وإن قال " الرسول يقول هذا " ... فقد طاحت أقاويل الرجال ومن وجد الحقيقة وهي حق ... فقد بطل التمسك بالخيال ومن رام الجدال فقد تولت ... لك الويلات أوقات الجدال وإن قال البغيض بلا احتشام ... فلان منك أعرف بالمقال فقد برح الخفاء فلا تجبه ... فإن الجهل كالداء العضال وأما من غدا ينفي اجتهادا ... ولم يستحي من قول المحال فقل لا در درك أي نص ... أتى يقضي بتخصيص الكمال وإن الفائزين به رجال ... ومحروم كثير من رجال وهل خص الإله بفضله من ... يعد مقدما من دون تالي مقال لم يقله غير قزم ... تقاعس عند معترك النزال مقال صان عنه الله قوما ... كراما صافحوا كف المعالي

مقال من يكشفه يراه ... حديث خرافة في كل حال لعمرك إن بعد الست قوما ... هم أبطال معترك الجدال لعمرك إن بعد الست جيلا ... يجل على المخصص بالجلال وقلت وفي العقائد ليس يرضى ... لها التقليد أو ربط العقال فتلك لها اندراج في عموم ... هو المنع المعمم في المقال وما خبر الحدود حديث صدق ... ولكن عد في قيل وقال إلى البصري (¬1) ينسبه أناس ... ومنصور بن زاذان (¬2) يغالي وجمعة ربنا شرعت ليسر ... ولم تشرع مقيدة بوالي ودم في نهج حق تنتحيه ... وتسلكه على مر الليالي كمل من تحرير المجيب وجمعه القاضي فخر الدين محمد بن علي الشوكاني حفظه الله ومتع المسلمين بحياته وحرسه بعينه، بحق محمد وآله وصحبه. ¬

(¬1) هو الحسن، البصري، تابعي من مشاهير الثقات، وعنه اعتزل واصل بن عطاء الذي غدا رأس المعتزلة (توفي الحسن البصري سنة 110 هـ). (¬2) منصور بن زاذان الواسطي الثقفي، ثقة ثبت عابد. توفي سنة 129 هـ.

بحث في جواز امتناع الزوجة حتى يسمى لها المهر

بحث في جواز امتناع الزوجة حتى يسمى لها المهر تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " بحث في جواز امتناع الزوجة حتى يسمى لها المهر ". 2 - موضوع الرسالة: " النكاح ". 3 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم ". الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين وبعد: فإنه ورد السؤال من بعض الأعلام نفع الله بهم المسلمين الإسلام عن ما وقع من كتب الفقه: أنه يجوز للمرأة أن تمتنع من تمكين الزوج حتى يسمي لها مهرا. 4 - آخر الرسالة: فإن ذلك ليس من شأنه، لأنه لم يتعقل الحجج الشرعية فضلا عن أن يصلح للاحتجاج بها. هو بخط المجيب المولى شيخ الإسلام رضي الله عنه، وإنما ضرب على اسمه لكون أول البحث ليس بخطه جزاه الله خيرا. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - عدد الصفحات: 6 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 19 سطرا ما عدا الأخيرة فهي ستة أسطر. 8 - عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات. 9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

صورة جواب نقل من خط المجيب سيدي المالك، الصنو، العلامة، البدر، عز الإسلام، محمد بن علي بن محمد الشوكاني - أطال الله مدته - لفظه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين، وبعد: فإنه ورد السؤال من بعض الأعلام - نفع الله بهم المسلمين والإسلام - عن ما وقع في كتب الفقه: من أنه يجوز للمرأة أن تمتنع من تمكين الزوج حتى يسمي لها مهرا، ثم حتى يعين، ثم حتى يسلم، وكان مضمون السؤال هو عن ما يذهب إليه راقم الأحرف - غفر الله له -. فأقول: اعلم أنه لا يخفى على من يعلم بما كان عليه أهل الإسلام، في أيام النبوة فما بعدها، أن المهور (¬1) كان يسلمها الأزواج قبل الدخول، ويسوقون ذلك إلى نسائهم، أو ¬

(¬1) الأصل في مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24]. وقال تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4]. قال أبو عبيد: يعني عن طيب نفس، بالفريضة التي فرضها الله تعالى. وقيل: النحلة: الهبة، والصداق في معناها، لأن كل واحد من الزوين يستمتع بصاحبه، وجعل الصداق للمرأة، فكأنه عطية بغير عوض. وقيل: نحلة من الله تعالى للنساء، وقال تعالى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً}. وأما السنة: فروى أنس، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى على عبد الرحمن بن عوف درع زعفران فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مهيم؟ " فقال: يا رسول الله، تزوجت امرأة. فقال: " ما أصدقتها؟ " قال: وزن نواة من ذهب، فقال: " بارك الله لك، أولم ولو بشاة ". - أخرجه البخاري رقم (5148) ومسلم رقم (79/ 1427) -. وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعتق صفية وجعل عتقها صداقها. أخرجه البخاري رقم (371) ومسلم رقم (84/ 1365). وأجمع المسلمون على مشروعية الصداق في النكاح. فائدة: وللصداق تسعة أسماء: الصداق، والصدقة، والمهر، والنحلة، والفريضة، والأجر، والعلائق، والعقر، والحباء، روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " أدوا العلائق " قيل: يا رسول الله، وما العلائق؟ قال: " ما تراضى به الأهلون ". - أخرجه الدارقطني (3/ 244) والبيهقي (7/ 239) وسعيد بن منصور في سننه (1/ 170) وقال الحافظ في " التلخيص " (3/ 190 رقم 1550) إسناده ضعيف جدا. ويقال: أصدقت المرأة ومهرتها. ولا يقل: أمهرتها. انظر " المغني " (10/ 97)، " تهذيب اللغة " (5/ 266). وقال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (5/ 24): قال تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}. الآية تدل على وجوب الصداق للمرأة، وهو مجمع عليه ولا خلاف فيه. وقال ابن كثير في تفسيره (2/ 213): " ... أن الرجل يجب عليه دفع الصداق إلى المرأة حتما، وأن يكون طيب النفس بذلك، كما يمنح المنيحة ويعطي النحلة طيبا بها، كذلك يجب أن يعطي المرأة صداقها طيبا بذلك. فإن طابت هي له به بعد تسميته أو عن شيء منه فيأكله حلالا طيبا، ولهذا قال تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} ".

إلى أولياء النساء، وهذا معلوم بالنقل الذي تضمنته الوقائع المتعددة، والحكايات المدونة في كتب الحديث والتواريخ والسير. وقد كان الرجل إذا أراد نكاحا سعى في تحصيل المهر حتى يحصله، ثم يدفعه إلى من يريد نكاحها، ويدخل بها بعد ذلك، ومن جملة ما يفيد ما ذكرناه ما أخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2)، وغيرهما (¬3) من حديث سهل بن سعد أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ¬

(¬1) في صحيحه رقم (5135). (¬2) في صحيحه رقم (76/ 1425). (¬3) كمالك (2/ 526 رقم 8) وأحمد (5/ 330، 336) والدارمي (2/ 142) وأبو داود رقم (2111) والنسائي (6/ 123) والترمذي رقم (1114) وابن ماجه رقم (1889) والدارقطني (3/ 247 رقم 21) والبيهقي (7/ 236).

جاءته امرأة فقالت: إني قد وهبت نفسي لك، فقامت قياما طويلا، فقام رجل فقال: يا رسول الله، زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " هل عندك من شيء تصدقها؟ " قال: ما عندي إلا إزاري، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك، فالتمس شيئا "، فقال: ما أجد شيئا، فقال: " التمس ولو خاتما من حديد " فالتمس فلم يجد شيئا، فقال له رسول [الله]- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " هل معك شيء من القرآن؟ " فقال: نعم، سورة كذا وسورة كذا، لسور سماها، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " قد زوجتها بما معك من القرآن "، وللحديث ألفاظ وروايات (¬1). والمراد من هذا أنه قدم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - سؤاله عن وجود المهر لديه، ثم ما زال ينتقل معه إلى خاتم الحديد (¬2)، ثم إلى تعليمها ما يحفظه من القرآن (¬3)، فأفاد ذلك أن تعجيل المهر وتقديمه على النكاح هو الثابت ................................... ¬

(¬1) تقدم ذكرها. (¬2) قال القرطبي: في " المفهم " (4/ 131): وفيه دليل على جواز كون الصداق منافع، وبه قال الشافعي وإسحاق والحسن بن حي ومالك في أحد قوليه وكرهه أحمد. وقال مالك في القول الثاني: ومنعه أبو حنيفة في الحر، وأجازه في العبد إلا أن يكون جواز الإجارة على تعليم القرآن، فلا يجوز بناء على أصله في أن تعليم القرآن لا يؤخذ عليه أجر. والجمهور على جواز ذلك. أي على جواز كون الصداق منافع، وهذا الحديث رد على أبي حنيفة في منعه أخذ الأجر على تعليم القرآن ويرد عليه أيضًا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله " أخرجه البخاري رقم (5737). (¬3) وفيه ما يدل على أن المهر الأولى فيه أن يكون معجلا مقبوضا. وهو الأولى عند العلماء باتفاق. ويجوز أن يكون مؤخرا على ما يدل عليه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اذهب فقد زوجتكها بما معك من القرآن، فعلمها " فإنه قد انعقد النكاح وتأخر المهر الذي هو التعليم. وهذا على الظاهر من قوله: " بما معك من القرآن " فإن الباء للعوض، كما تقول: خذ هذا بهذا، أي عوضا عنه. وقوله: صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " علمها " نص في الأمر بالتعليم، والمساق يشهد بأن ذلك لأجل النكاح. " المفهم " (4/ 130 - 131).

في الشرع (¬1)، هذا على فرض عدم وقوع التضييق من الزوجة، والامتناع من الدخول إلا بالمهر، كما وقع في هذه القصة. أما لو طلبت تعجيله، وامتنعت عن الدخول بها إلا بتسليمه فلا شك، ولا شبهة أن لها ذلك، لأنه ثم بضعها، وبه يستحل فرجها. وقد ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " أن أحق ما يلزم الوفاء به ما استحلت به الفروج " (¬2)، فلو كان التأجيل للمهر (¬3) وبقاؤه دينا على الزوج لازما للزوجة، رضيت أم كرهت، لكان في هذه القصة المتقدمة لذلك الفقير فرجا ومخرجا، فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان سيقول له: زوجتكها على مهر هو كذا، يكون دينا عليك حتى يرزقك لله، وبالجملة فنقل الواقعات الدالة على أن الثابت عنه ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة. (¬2) أخرجه البخاري رق (2721) ومسلم رقم (63/ 1418) عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إن أحق الشرط أن يوفى به، ما استحللتم به الفروج ". (¬3) قال ابن قدامة في " المغني " (10/ 115): ويجوز أن يكون الصداق معجلا، ومؤجلا، وبعضه معجلا وبعضه مؤجلا، لأنه عوض في معاوضة، فجاز ذلك فيه كالثمن، ثم إن أطلق ذكره اقتضى الحلول كما لو أطلق ذكر الثمن، وإن شرط مؤجلا إلى وقت، فهو إلى أجله. وإن أجله ولم يذكر أجله، فقال القاضي: المهر صحيح، محله الفرقة فإن أحمد قال: إذا تزوج على العاجل والآجل، لا يحل الآجل إلا بموت أو فرقة، هذا قول النخعي والشعبي. وقال الحسن وحماد بن أبي سليمان، وأبو حنيفة، والثوري، وأبو عبيد: يبطل الأجل، ويكون حالا. وقال إياس بن معاوية وقتادة: لا يحل حتى يطلق، أو يخرج من مصرها أو يتزوج عليها. وعن مكحول، والأوزاعي، والعنبري: يحل إلى سنة بعد دخوله بها ".

- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وعن أهل عصره هو تسليم المهر للنساء قبل الدخول (¬1) بهن يحتاج إلى بسط طويل، ومن رام استيفاء ذلك فليبحث [في] (¬2) الأمهات والمسانيد، وما يلتحق بذلك، وعندي أنه يجوز للمرأة أن تمنع نفسها من زوجها بعد دخوله بها حتى يسلم مهرها، على فرض أنه لم يسلمه قبل الدخول، لأنها تطلبه بدين عليه استحل به فرجها، أو هو يطلبها بما يجب له عليها من التمكين، وحقها مقدم على حقه، لأنه عوض بضعها الذي يطلبه منها، فلا حرج عليها إن منعت منه ما لم يوفها بعوضه، ومن لم يسوغ لها الامتناع بعد الدخول لم يحتج عليه بما يقوم به حجة، بل لمجرد رأي ومناسبة حاصلة، رعاية ما يجب للزوج بعد الدخول، وإهمال ما يجب للزوجة قبله وبعده. ولم يرد ما يوجب هذه الرعاية في جانب الزوج، ويسوغ الإهمال في جانب الزوجة، بل ورد ما يفيد خلاف ذلك، وهو أنعليه الوفاء بمهرها الذي استحل به بضعها، وحسن عشرتها. ومن أهم ما يجب عليه من حسن العشرة، وأقدم ما يلزم من المعروف الذي أمر الله به في محكم كتابه بقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ .................... ¬

(¬1) أخرج أبو داود في " السنن " رقم (2125) من حديث ابن عباس: " أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منع عليا أن يدخل بفاطمة حتى يعطيها شيئا، ولما قال: ما عندي شيء، قال: فأين درعك الحطمية؟ فأعطه إياها " وهو حديث صحيح. ومنها حديث سهل بن سعد وقد تقدم. قال ابن قدامة: ويجوز الدخول بالمرأة قبل إعطائها شيئا، سواء كانت مفوضة أو مسمى لها. وبهذا قال سعيد بن المسيب، والحسن، والنخعي، والثوري، والشافعي. وروي عن ابن عباس، وابن عمر، والزهري، وقتادة، ومالك: لا يدخل بها حتى يعطيها شيئا. قال الزهري: مضت السنة أن لا يدخل بها حتى يعطيها شيئا، قال ابن عباس: يخلع إحدى نعليه ويلقيها إليها. قيل: يحمل هذا - قول ابن عباس - على الاستحباب، أي يستحب أن يعطيها قبل الدخول شيئا. (¬2) زيادة يقتضيها السياق.

بِالْمَعْرُوفِ} (¬1) هو تسليم مهرها , ولا سيما إذا كانت مطالبة له به، مصبقة عليه فيه، بل مطلها من أعظم أنواع الضرار التي نهى الله عنها بقوله تعالى: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ} (¬2). وبالجملة فالهدي النبوي، والقانون المصطفوي هو تسليم مهر النساء قبل استحلال فروجهن، والدخول عليهن، من غير نظر إلى وقوع الطلب منهن. أما إذا وقع الطلب منهن فقد تعين ذلك على الزوج، فإن قدر عليه سلمه، وإن لم يقدر عليه فهو قبل الدخول بالخيار بين تسريحها أو إمساكها، غير مطالب لها بحقه قبل الوفاء منه بحقها، وإن كان قد دخل بها وطالبته بتسليمه وهو متمكن فلا شك ولا شبهة أنه يجب عليه ذلك، فإن لم يفعل كان لحكام المسلمين أن يأخذوا من ماله بقدر ذلك، شاء أم أبى، كما يفعلون ذلك في سائر الديون، فإن هذا دين من أهم الديون وأحقها بالوفاء. وليس له ولا لغيره من ولي , أو صحب ولاية أن يجبرها على تسليم حقه حتى تستوفي منه حقها. وأما إذا كان فقيرا فلا حرج عليها في الامتناع حتى يذهب، فيتكسب ما يقوم بمهرها. وقد يقال: إن هذا الدين وإن كان من أهم الديون فقد دخل تحت قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (¬3) ولما كان الزوج ذا عسرة كان عليها إنظاره إلى ميسرة، ولكن هذا الدليل وإن أفاد وجوب الإنظار فلا يفيد وجوب التمكين منها له. والأدلة الدالة على وجوب الطاعة والانقياد وإن تناولت التمكين من الوطء تناولا أوليا، لكن لا يبعد أن يقال: إن لها أن تمنع منه ما مطلها بعوضه، حتى تحصله ¬

(¬1) [النساء: 19]. (¬2) [الطلاق: 6]. (¬3) [البقرة: 280].

وقد قال الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬1) , وكون الفقر عذرا له بقابله بأن نطلها في عوض بضعها عذر لها في منعه منه. فإن قيل: ما نزل به من الفقر صيره غير واجد، وكان ذلك عذرا له عن وجوب التعجيل، والزوجة لم يكن مطلها من مهرها عذرا لها في ترك التمكين لأنها متمكنة من ذلك، وليس من تعذر عليه تسليم ما يجب عليه كمن لم يتعذر عليه ذلك. فيقال: لم ينسد على الزوج طرق المكاسب، وأسباب المعاش التي يتوصل بها إلى تسليم ما يجب عليه بها، وهي لم تطلب منه التسليم في الحال، إنما طلبت منه السعي في التحصيل، ومنعته من شيء لم يسلم ما يجب عليه فيه، وبعد اللتيا والتي (¬2) فلو كان الامتناع من تمكين الزوج (¬3) الفقير بعد الدخول ¬

(¬1) [البقرة: 228]. قال ابن كثير في تفسيره (1/ 609): " أي ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن، فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف كما ثبت في صحيح مسلم رقم (1218) عن جابر أن رسول الله - قال في خطبته في حجة الوداع: " فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ". وفي حديث بهز بن حكيم عن معاوية بن حيدة القشيري، عن أبيه، عن جده أنه قال: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا؟ قال: " أن تطعمها وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت " أخرجه أبو داود بسند حسن ". (¬2) قيل: اللتيا تصغير التي، وهي الداهية الصغيرة. والتي هي الداهية الكبيرة. ويقال: وقع فلان في اللتيا والتي، وهما اسمان من أسماء الداهية. وقيل: تصغير لتي واللاتي: اللات اللتيا واللتيا، بالفتح والتشديد. انظر: " لسان العرب " (12/ 234). (¬3) قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، أن للمرأة أن تمتنع من دخول الزوج عليها، حتى يعطيها مهرها. وإن كان معسرا بالصداق امتنعت لأن امتناعها بحق. وإن كان الصداق مؤجلا، فليس لها منع نفسها قبل قبضه، لأن رضاها بتأجيله رضى بتسليم نفسها قبل قبضه، كالثمن المؤجل في البيع. فإن حل المؤجل قبل تسليم نفسها، لم يكن لها منع نفسها أيضا، لأن التسليم قد وجب عليها واستقر قبل قبضه، فلم يكن لها أن تمنع منه. وإن كان بعضه حالا وبعضه مؤجلا، فلها منع نفسها قبل العاجل دون الآجل، ثم لو أرادت منع نفسها حتى تقبضه، فقد توقف أحمد عن الجواب فيها , وذهب أبو عبد الله ابن بطة، وأبو إسحاق بن شاقلا إلى أنها ليس لها ذلك. وهو قول مالك والشافعي، وأبي يوسف ومحمد، لأن التسليم استقر به العوض برضى المسلم فلم يكن لها أن تمتنع بعد ذلك. كما لو سلم البائع المبيع. وذهب أبو عبد الله ابن حامد إلى أن لها ذلك، وهو مذهب أبي حنيفة، لأنه تسليم يوجبه عليها عقد النكاح. فملكتت أن تمتنع منع قبل قبض صداقها، كالأول. فأما إن وطئها مكرهة، لم يسقط به حقها من الامتناع لأنه حصل بغير رضاها، كالمبيع إذا أخذه المشتري من البائع كرها. وإن أخذت الصداق فوجدته معيبا، فلها منع نفسها حتى يبدله، أو يعطيها أرشه. لأن صداقها صحيح، وإن لم تعلم عيبه حتى سلمت نفسها، خرج على الوجهين فيما إذا سلمت نفسها قبل صداقها ثم بدا لها أن تمتنع. انظر: " المغني " (10/ 171 - 172).

غر جائز، لكونه غير واجد، وقد أوجب الله إنظاره لم يكن الامتناع من الغني الممكن من التسليم غير جائز، بل لا شك في جوازه. أما قبل الدخول فظاهر، وأما بعد الدخول فلتعادل ما قدمنا ذكره من أدلة وجوب الوفاء من كل منهما بحق الآخر، وعدم المرجح لأحد الحقين على الآخر لا شرعا ولا عقلا. وإذا تقرر ما ذكرناه سابقا من أن تقديم تسليم المهر على الدخول هو المنهج الشرعي، والمهيع النبوي فقد اختلف في كونه واجبا منجما أم لا؟. فاستدل من أوجبه بما قدمنا في حديث الواهبة نفسها (¬1)، ومن أوجب تسليم بعضه استدل بما أخرجه أبو داود (¬2)، والنسائي (¬3)، وصححه الحاكم (¬4) من حديث ابن عباس، قال: لما تزوج على فاطمة - رضي الله عنهما - قال له رسول الله - صلى الله عليه وآله ¬

(¬1) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح. (¬2) في " السنن " رقم (2125). (¬3) في " السنن " (6/ 129 رقم 3375). (¬4) لم أجده في المستدرك وهو حديث صحيح وقد تقدم.

وسلم -: " أعطها شيئا " قال: ما عندي شيء. قال: " أين درعك الحطمية؟ "، وفي لفظ لأبي داود (¬1) أنه أراد أن يدخل بها فمنعه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - حتى يعطيها شيئا، فقال: يا رسول الله، ليس لي شيء، فقال له: " أعطها درعك " فأعطاها درعه، ثم دخل بها. واستدل من لم يجعل ذلك واجبا بما أخرجه أبو داود (¬2)، وابن ماجه (¬3) من حديث عائشة قالت: أمرني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن لا أدخل امرأة على زوجها قبل أن يعطيها شيئا، وقد سكت على هذا الحديث أبو داود، والمنذري. ويمكن الجمع بين الحديثين بوجوه: منها: أنه يجب تقديم التسليم مع الطلب من الولي، أو المرأة , ولا يجب مع عدم ذلك، وإن كان هو الباعث على عهد النبوة، الشائع الذائع، فأقل الأحوال أن يكون سنة مؤكدة مع عدم الطلب , واجبا منجما معه، فهذا حاصل ما ينبغي أن يقال به في هذه المسألة، وإن كان المقام يحتمل التطويل والبسط (¬4). ¬

(¬1) في " السنن " رقم (2126). (¬2) في " السنن " رقم (2128). (¬3) في " السنن " رقم (1992) وهو حديث ضعيف. (¬4) قال الماوردي في " الحاوي الكبير " (2/ 162 - 165): إذا امتنعت المرآة من تسليم نفسها لقبض صداقها لم يخل خاله من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون جميعه حالا. والثاني: أن يكون جميعه مؤجلا. والثالث: أن يكون بعضه حالا وبعضه مؤجلا. القسم الأول: وهو أن يكون جميعه حالا، إما بإطلاق العقد، أو بالشرط فيكون حالا بالعقد، والشرط تأكيد، فلها أن تمتنع من تسليم نفسها على قبض صداقها، كما كان لبائع السلعة أن يمتنع من تسليمها على قبض ثمنها. فإن تطوعت بتسليم نفسها قبل قبض الصداق، ثم أرادت بعد التسليم أن تمتنع عليه لقبض الصداق فهذا على ضربين: الأول: أن لا يكون قد وطئها، فلها أن تمتنع عليه، وإن سلمت نفسها إليه إذا لم يكن قد وطئها، لأن القبض في النكاح يكون بالوطء الذي يستقر به كمال المهر دون التسليم، وهذا متفق عليه. الثاني: أن يكون قد وطئها بعد التسليم، فليس لها عندنا أن تمتنع عليه. وقال أبو حنيفة: لها الامتناع بعد الوطء، كما كان لها الامتناع قبله احتجاجا بأن الصداق في مقابلة كل وطء في النكاح لأمرين: أحدها: أنه لو كان في مقابلة الأول لوجب للثاني مهر آخر. الثاني: أنه لو كان في مقابلة كل وطء، لم يكن تسليمها لبعض الحق مسقطا لحقها في منع ما بقي، كمن باع عشرة أثواب فسلم أحدها قبل قبض الثمن، كان له حبس باقيها، كذلك هاهنا. قال: ولأنها لم تستوف مهرها مع استحقاق المطالبة، فجاز لها أن تمتنع من تسليم نفسها قياسا على ما قبل الوطء. وقد تقدم مناقشة ذلك. القسم الثاني: وهو أن يكون صداقها مؤجلا، فيجوز إذا كان الأجل معلوما لأن كل عقد صح بعين وبدين، صح أن يكون معجلا ومؤجلا، كالبيع، وإذا كان الصداق مؤجلا، فعليها تسليم نفسها، وليس لها الامتناع لقبض الصداق بعد حلول الأجل، لأنها قد رضيت بتأخير حقها وتعجيل حقه، فصار كالبيع بالثمن المؤجل يجب على البائع تسليم المبيع قبل قبض الثمن. فعلى هذا لو تأخر تسليمها لنفسها حتى حل الأجل، فأرادت الامتناع من تسليم نفسها حتى تقبض الصداق، لم يكن ذلك لها، وإن حل، لأنها لم تستحق الامتناع عليه بالعقد. القسم الثالث: وهو أن يكون بعض صداقها حالا وبعضه مؤجلا، فيصح إذا كان قدر الحال منه معلوما وأجل المؤجل معلوما. ولها أن تمتنع من تسليم نفسها لقبض الحال، وليس لها أن تمتنع من تسليم نفسها لقبض المؤجل، فيكون حكم الحال منه كحكمه لو كان جميعه حالا، وحكم المؤجل منه كحكمه لو كان جميعه مؤجلا، فلو تراخى التسليم حتى حل المؤجل كان لها منع نفسها على قبض المعجل دون ما حل من المؤجل. وانظر: " المغني " (10/ 115).

وأما احتجاج من يحتج على مطل النساء في مهورهن بأنه قد جرى العرف بذلك، فليست الأعراف المخالفة للمنهج الشرعي بحجة على أحد، بل هي معصية لله ولرسوله، فكيف نجعل المعاصي أدلة شرعية! فإن من بلغ به القصور إلى جعل معاصي الله - سبحانه - ومخالفة شرعه، وتعدي حدوده أدلة شرعية على عباد الله حقيق بأن يطلب العلم، ويستفيد من أهله , ويدع الاستدلال بما ليس بدليل، فإن ذلك ليس من شأنه لأنه لم يتعقل الحجج الشرعية فضلا عن أن يصلح للاحتجاج بها. هو بخط المجيب المولى شيخ الإسلام رضي الله عنه. وإنما ضرب على اسمه لكون أول البحث ليس بخطه - جزاه الله خيرا.

بلوغ المنى في حكم الاستمنى

بلوغ المنى في حكم الاستمنى تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " بلوغ المني في حكم الاستمني ". 2 - موضوع الرسالة: " فقه النكاح ". 3 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم. إياك نستعين والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وبعد، فإنه سأل الشيخ العلامة محمد عابد مراد السندي ... ". 4 - آخر الرسالة: " واعلم أن الكلام في المرأة كالكلام في جميع ما أسلفنا لأن الحكم واحد، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية والله ولى التوفيق. بخط المؤلف العلامة بدر الإسلام محمد بن علي الشوكاني ". 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 14 صفحة. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 23 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 9 - 10 كلمة ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها 8. 9 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني. 10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم وإياك نستعين، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله. وبعد: فإنه سأل الشيخ العلامة: " محمد عابد مراد السندي " - دامت فوائده، ومت موائده - بما لفظه: " ما قولكم - أدام الله فوائدكم، وأمتع بحياتكم - في الاستمناء بالكف أو التفخيذ، أن نحوهما، أو شيء يخالف جسد الإنسان، كالحك في شيء يحصل به الاستمناء هل ذلك محرم أم لا؟ معاقب عليه أم لا؟ مثاب فيه عند ضرورة، توجهت له تكاد توجب الزنا، أم لا. بينوا لنا بجواب شاف، مشتمل على الدلائل الشافية الصريحة في المقصودة، جزيتم خيرا " انتهى.

أقول: الجواب عن هذا السؤال، بمعونة الملك المتعال ينحصر في بحثين. " البحث الأول " في النقل عن أهل العلم " البحث الثاني " في الكلام على ما تمسكوا به، وعلى ما أشار إليه السائل في السؤال من الاستفهامات. أما البحث الأول: فنقول: حكى ابن القيم (¬1) في كلام له عن ابن عقيل (¬2) أنه قال: إذا قدر الرجل على التزويج حرم عليه الاستمناء بيده، قال: وأصحابنا - أي الحنابلة - وشيخنا أين (ابن تيمية) لم يذكروا سوى الكراهة، ولم يطلقوا التحريم، قال ابن عقيل أيضا: وإن لم يكن له زوجة، ولا أمة، ولم يجد به كره ولم يحرم، والفقير إذا خشي العنت فإنه جائز له، نص عليه أحمد (¬3)، وروي أن الصحابة كانوا يفعلونه في غزواتهم ¬

(¬1) في " بدائع الفوائد " (4/ 96 - 97). (¬2) هو قاضي القضاة علي بن محمد بن عقيل الفقيه البغدادي كان مولده سنة 432 هـ وتوفي يوم الجمعة سنة 513 هـ. وكنيته أبو الفداء. انظر: " طبقات الحنابلة " (3/ 359). (¬3) والعبارة كما ذكرها ابن القيم في " بدائع الفوائد " (4/ 96 - 97): قال ابن عقيل: " وإذا لم يقدر على زوجة ولا سرية، ولا شهوة له تحمله على الزنا، حرم عليه الاستمناء؛ لأنه استمتاع بنفسه، والآية تمنع منه. يعني آية المؤمنون {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 5 - 7]. قال: وإن كان متردد الحال بين الفتور والشهوة، ولا زوجة له، ولا أمة كره ولم يحرم، وإن كان مغلوبا على شهوته، يخاف العنت، كالأسير والمسافر والفقير جاز له لك، نص عليه أحمد ".

وأسفارهم ... إلى أن قال: وإذا استمنى وصور في نفسه شخصا، أو دعا باسمه، فإن كان زوجة أو أمة فلا بأس، وإن كان غائبا عنهما، فإن الفعل جائز، ولا يمنع من توهمه أو تخيله، وإن كان غلاما أو أجنبية كره له ذلك، لأنه يكون أغرى لنفسه بالحرام، وحث عليه، قال: فإن أولج في بطيخة، أو عجين فهو أسهل من استمنائه بيده. فتلخص من كلامه هذا أن الإمام أحمد بن حنبل وأصحابه يجوزون الاستمناء مع خشية العنت، ويجعلونه مكروها مع عدمها، ولو صور في نفسه صورة ويجعلون الكراهة في الاستمناء بالكف أشد من الكراهة في استخراج المني بشيء من الجمادات، كالبطيخ والعجين ونحوهما. وفي منتهى الإرادات (¬1) في فقه الحنابلة ما يدل على أنه لا يحل مع عدم الحاجة، فإنه قال: ومن استمنى لغير حاجة من ورجل أو امرأة حرم، وإن فعله خوفا من الزنا فلا شيء عليه. وقد حكى الرخصة عبد الرزاق في جامعه (¬2) عن جماعة، فذكر بإسناده عن مجاهد قال: كان من مضى يأمرون شبابهم بالاستمناء يستعفون، وذكره معمر عن أيوب عن مجاهد. وأخرج عبد الرزاق (¬3) أيضًا عن ابن جريج قال: قال لي عمرو بن دينار: ما أرى بالاستمناء بأسا. وأخرج (¬4) أيضًا بإسناد متصل عن ابن عباس ما يدل على أنه يجوزه، وقد حكى ذلك عنه البيهقي (¬5)، فإنه قال في سننه: أخبرنا أبو طاهر الفقيه، وأبو بكر ¬

(¬1) (5/ 143 - 144). (¬2) في مصنفه (7/ 391 رقم 13593). (¬3) في مصنفه (7/ 392 رقم 13594). (¬4) أي عبد الرزاق في مصنفه (7/ 390 - 391 رقم 13588). (¬5) في " السنن " (7/ 199).

القاضي، قالا: أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي: حدثنا عبد الرحيم بن منيب، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا سفيان الثوري عن عمار الدهني، عن مسلم البطين، عن ابن عباس أنه سئل عن الخضخضة أي نكاح اليد. فقال: نكاح الأمة خير منه، وهو خير من الزنا. هذا مرسل موقوف. أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق المزكي قال: أخبرنا أبو عبد الله بن يعقوب، حدثنا محمد بن عبد الوهاب، أخبرنا جعفر بن عون، أخبرنا الأجلح عن أبي الزبير عن ابن عباس [رضي الله عنه] (¬1) أن رجلا أتاه فجعل القوم يقومون، والغلام جالس، فقال له بعض القوم: قم يا غلام، فقال ابن عباس [رضي الله عنه] (¬2): دعوه، شيء ما أجلسه، فلما خلى سبيله قال: يا ابن عباس إني غلام شاب أجد غلمة شديدة، فأدلك ذكري حتى أنزل، قال ابن عباس: هو خير من الزنا، ونكاح الأمة خير منه (¬3). انتهى. وقال ابن نجيم (¬4) من الحنفية: إن الاستمناء لتسكين الشهوة صغيرة. وقال السيد المهودي في فتاوية؛ نقل ابن كج أن فيه توقفا في القديم. قال: وفي تحرير المجد لابن تيمية: إنه مباح لمن خشي العنت أن يستمني بيده، فإن لم يخش حرم عليه، وعن أحمد يكره تنزيها، مقتضاه عند أحمد الجواز مع كراهة التنزيه حالة عدم الضرورة بأن لا يخشى العنت. قال السمهودي: ويحتمل حمل ما أطلقه الأصحاب من الجزم بالتحريم على هذه الحالة. انتهى. فتقرر بهذا أنه ذهب إلى الجواز أعم من أن يكون مع كراهة، أو مع عدمها ابن ¬

(¬1) زيادة يستلزمها السياق. (¬2) زيادة يستلزمها السياق. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (7/ 391 رقم 13590). (¬4) انظر " بدائع الفوائد " (4/ 96 - 97).

عباس، ومجاهد، وعمرو بن دينار، وابن جريج، وأحمد بن حنبل وأصحابه، وبعض الحنفية، وبعض الشافعية، فما حكاه السيد العلامة هاشم بن يحيى الشامي - رحمه الله - في جواب له من أن الاستمناء باليد أو نحوها مجمع على تحريمه إذا قدر الرجل على التزوج، أو التسري، أو كان لا يخشى العنت والضرر يخالف ما قدمناه عن أحمد وأصحابه، ويؤيد ذلك أن صاحب البحر (¬1) حكى الخلاف من غير تقييد يقيد فقال: مسألة: الأكثر ويحرم استنزال المني بالكف، ثم قال حاكيا عن أحمد بن حنبل، وعمرو بن دينار: إنه مباح، فأفاد هذا أنه منعه الأكثرون مطلقا، وأباحه الأقلون مطلقا، وقد اقتصر البيهقي في السنن (¬2) على حكاية المنع عن الشافعي فقال: قال الشافعي (¬3): لا يحل العمل بالذكر إلا في زوجة، أو ملك يمين ولا يحل الاستمناء. انتهى. ¬

(¬1) " البحر الزخار " (5/ 146). (¬2) " في السنن الكبرى " (7/ 199). (¬3) في " الأمم " (10/ 324). وانظر " المهذب في فقه الإمام الشافعي " للشيرازي (5/ 387).

البحث الثاني في الكلام على ما تمسك به المختلفون من المانعين والمجوزين. استدل المانعون بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (¬1). وتقرير الاستدلال ما يقيده قوله تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} فإن الإشارة إلى قوله: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} فما غاير ذل فهو من الورى الذي لا يبتغيه إلا العادون، ويمكن أن يقال إنه لا عموم لهذه الصيغة ما هو مغاير للأرواح، وملك اليمين مغايرة أي مغايرة، وإلا لزم تحريم كل ما يبتغيه الإنسان، وهو مغاير لذلك، وإن كان الابتغاء لمنفعة من المنافع التي لا تتعلق بالنكاح، كالأكل والشرب. واللازم باطل بالإجماع، فلا بد من تقييد ذلك الابتغاء للورى، ومع ¬

(¬1) [المؤمنون: 5 - 7] قال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (12/ 105 - 106): قال محمد بن عبد الحكم: سمعت حرملة بن عبد العزيز قال: سألت مالكا عن الرجل يجلد عميرة، فتلا هذه الآية: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} إلى قوله: {الْعَادُونَ} وهذا لأنهم يكنون عن الذكر بعميرة، وفيه يقول الشاعر: إذا حللت بواد لا أنيس به ... فاجلد عميرة لا داء ولا حرج ويسميه أهل العراق الاستمناء، وهو استفعال من المني، وأحمد بن حنبل على ورعه يجوزه، ويحتج بأنه إخراج فضلة من البدن فجاز عند الحاجة أصله الفصد والحجامة، وعامة العلماء على تحريمه، وقال بعض العلماء: إنه كالفاعل بنفسه، وهي معصية أحدثها الشيطان وأجراها بين الناس حتى صارت قيلة، وياليتها لم تقل. ولو قام الدليل على جوازها لكان ذو المروءة يعرض عنها لدناءتها. فإن قيل: إنها خير من نكاح الأمة، قلنا: نكاح الأمة ولو كانت كافرة على مذهب بعض العلماء خير من هذا، وإن كان قد قال به قائل أيضا، ولكن الاستمناء ضعيف بالدليل عار بالرجل الدنيء، فكيف بالرجل الكبير.

تقييده بذلك، فلا بد من تقييده بكونه في فرج من قبل أو دبر، فيكون ما في الآية في قوة: فمن ابتغى نكاح فرج غير فرج الزوجات والمملوكات فأولئك هم العادون. فإن قلت: هذا إنما يتم إذا كان التقدير: والذين هم لفروجهم حافظون إلا على فروج أزواجهم، أو فروج ما ملكت أيمانهم حتى يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، وذلك يستلزم أن يكون الاستمتاع بغير الفرج من الزوجات، وملك اليمين من الورى، فلا يحل، واللازم باطل فالملزوم مثله. قلت: جواز الاستمتاع بغير الفرج من الزوجات والمملوكات ورد به الدليل، كالأحاديث الواردة في جواز الاستمتاع منهما بغير الفرج (¬1)، وكقوله {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (¬2) فلا يلزم بطلان اللازم، ولا بطلان الملزوم، فإن قلت: تقييد ما في الآية بالنكاح في فروج الزوجات والمملوكات غير ظاهر، بل المتبادر ما هو أعم من ذلك. قلت: هذا وإن كان هو الظاهر لكن صدق اسم النكاح على الاستمتاع من الزوجات والمملوكات بغير الفرج غير ظاهر، وقد عرفت أنه لا بد من تقييد ما في الآية به، وإلا لزم الباطل بالإجماع كما قدمنا؛ فإن قلت أنت لا يقدر النكاح بل يكفيك بمجرد ما في الآية من ذكر الحفظ، قلت: حفظ الفرج باعتبار مدلوله اللغوي أعم من حفظه عن النكاح وعن غيره، كالبول والمماسة للثبات، والجمادات، فلا بد من تقييد ما في الآية بالنكاح، وكما لا يصدق على الاستمتاع بغير الفرج من الزوجات والمملوكات اسم النكاح، وكذلك لا يصدق على الاستمناء بالكف ونحوه اسم النكاح، فتدبر هذا. وقد قيل: إن الآية مجملة، والمجمل لا يحتج به إلا بعد بيانه، وقد بين الله سبحانه في ¬

(¬1) أخرج مسلم في صحيحه رقم (16/ 302) عن أنس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اصنعوا كل شيء إلا النكاح ... ". (¬2) [البقرة: 223].

كتابه (¬1)، وكذلك رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سنته (¬2) ما يحرم نكاحهم مثل الزنى الذي أوجب الله فيهم الحد. واحتجوا ثانيًا: بحديث: " ملعون من نكح يده " ولم أجده بهذا اللفظ، لكنه أورده ابن حجر في التلخيص (¬3) فقال: رواه الأزدي في الضعفاء (¬4)، وابن الجوزي (¬5) من طريق الحسن بن عرفة (¬6) في جزئه المشهر من حديث أنس بلفظ: " سبعة لا ينظر الله إليهم، فذكر منهم: الناكح يده "، وإسناده ضعيف. ولأبي الشيخ في كتابه: الترهيب (¬7) من طريق أبي عبد الرحمن الحبلي، وكذلك رواه جعفر الفريابي من حديث عبد الله بن عمر، وفي إسناده ابن لهيعة، كذا في تلخيص ابن حجر (¬8). وأخرجه البيهقي في الشعب (¬9)، وروى السيوطي في مسند أبي هريرة من جمع ¬

(¬1) قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68]. (¬2) أخرج البخاري في صحيحه رق (4477) ومسلم رقم (86) من حديث عبد الله: سألت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الذنب أعظم؟ قال: " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " قال: قلت: ثم أي؟ قال: " أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك " قال: قلت: ثم أي؟ قال: " أن تزاني حليلة جارك ". وانظر " الكبائر " للذهبي (ص 26 - 30). (¬3) (3/ 381 رقم 1666). (¬4) عزاه إليه ابن حجر في " التلخيص " (3/ 381). (¬5) ذكره ابن حجر في " التلخيص " (3/ 381). (¬6) كما في " الكنز " رقم (44040). (¬7) عزاه إليه ابن حجر في " التلخيص " (3/ 381). (¬8) (3/ 381). (¬9) (4/ 378 رقم 5470).

الجوامع: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن نكاح اليمين. قال: أخرجه ابن عساكر. ويجاب بأن مثل هذه الروايات الواهية لا تنتهض للاحتجاج بها. وعلى فرض أنه يقوي بعضها بعضا، فيحمل مطلقها على مقيدها، ويكون الممنوع منه الاستمناء باليمين لا باليساء، ولا بشيء من الجمادات. ومن جملة ما تمسك به المانعون ما علم من محافظة الشرع وعنايته بتحصيل مصلحة التناسل (¬1). ويجاب بأن هذا مسلم إذا استمنى من له زوجة، أو أمة حاضرتان لا من كان أعزب، أو كان في بلاد بعيدة عن من يحل له نكاحه، ولا سيما إذا كان ترك ذك يضره، كمن يكون قوي الباءة، كثير الاحتياج إلى إخراج ما ببدنه من فضلات المني، فإن هذا باب من أبواب التداوي التي أباح الشارع جنسها من غير تعيين لنوعها، ولا لشخصها. وليس هذا من التداوي بالحرام حتى يقال أن الله (¬2) لم يجعل شفاءنا فيما حرمه علينا، لما عرفت أنه لم ينتهض الدليل القاضي بالتحريم. ومن جملة ما تمسكوا به أنه ينافي ما ورد في الشرع من الترغيب في النكاح (¬3)، ¬

(¬1) عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تزوجوا الودود الولود، فإن مكاثر بكم الأمم ". أخرجه أبو داود رقم (2050) والنسائي (6/ 65) والحاكم (2/ 62) وصححه ووافقه الذهبي. وهو حديث صحيح. (¬2) عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ". أخرجه البخاري في صحيحه (9/ 87) معلقا ووصله ابن حجر في " الفتح " (9/ 79). وأخرج أبو داود رقم (3874) من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تداووا بحرام ". وهو حديث حسن بشواهده. (¬3) أخرج البخاري في صحيحه رقم (5066) ومسلم رقم (1400) وأبو داود رقم (2046) والترمذي رقم (1081) والنسائي (6/ 58). عن عبد اله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء ". قال الحافظ في " الفتح " (9/ 112): واستدل به بعض المالكية على تحريم الاستمناء لأنه أرشد عند العجز عن التزويج إلى الصوم الذي يقطع الشهوة، فلو كان الاستمناء مباحا لكان الإرشاد إليه أسهل.

ويجاب عن ذلك بأن هذا الذي هو محل النزاع، فعل ما فعله من الاستمناء للحاجة، وعدم القدرة على زوجة أو أمة، أما لو كان قادرا عليهما، وأراد أن يعدل عنهما إلى الاستمناء فلا شك أن فعله هذا يخالف ما ورد من الترغيب في النكاح، بل مجرد ترك التزوج مع القدرة عليه، يخالف ما ورد في الشرع من الترغيب في النكاح، ولو لم يقع منه الاستمناء أو نحوه. ومن جملة ما تمسكوا به، قياس الاستمناء على اللوطية (¬1)، يجامع قطعهما للنسل، ومنعهما منه، ويجاب بأن هذا قياس مع الفارق؛ فإن التلوط هو في فرج محرم شرعا، وليس الاستمناء في فرج. وأيضا يجاب بالمعارضة، وهو أن هذا القياس يجري في الاستمتاع فيقال: الاستمتاع من الزوجة بغير الفرج قد سوغه الشارع مع كونه يجامع اللوطية في قطع النسل، فلو كان ذلك موجبا للتحريم لكان الاستمتاع المذكور حراما، واللازم باطل فالملزوم مثله، والجواب الجواب، وأيضا بالنقض فيقال: لو كان هذا القياس صحيحا لكان الحد واجبا على من استمنى، كما يجب على من تلوط، وليس بواجب بإجماع المسلمين. ومن جملة ما تمسكوا به قياس الاستمناء بالكف ونحوه على العزل (¬2)، ويجاب بأن ¬

(¬1) عن ابن عباس قال قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ". أخرجه أحمد (1/ 300) وأبو داود رقم (4462) وابن ماجه رقم (2561) والترمذي رقم (1456) والحاكم (4/ 355) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. والبيهقي (8/ 232). وهو حديث صحيح. وانظر " الكبائر " للذهبي (ص 81 - 82) الكبيرة السابعة عشرة. (¬2) قال في " المسوي " (2/ 193): " اختلف أهل العلم في العزل، فرخص فيه غير واحد من الصحابة والتابعين، وكرهه جمع منهم، ولا شك أن تركه أولى ". أخرج مسلم رقم (141/ 1442) ومالك (8/ 607 - 608) وأبو داود رق (3882) والترمذي رقم (2077) والنسائي (6/ 106 - 107) وابن ماجه رقم (2011). عن جذامة بنت وهب الأسدية قالت: " أنهم سألوا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن العزل فقال: ذلك الوأد الخفي ". وهو حديث صحيح. وقد استدل على جواز العزل بحديث جابر في صحيح البخاري رقم (5209) ومسلم رقم (1440) قال: " كنا نعزل على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والقرآن ينزل ". ويمكن الجمع بحمل الأحاديث القاضية بالمنع على مجرد الكراهة فقط دون التحريم. وانظر تفصيل ذلك في " الفتح " (9/ 307 - 310).

الأصل مختلف في تحريمه لاختلاف أدلته (¬1)، فلا يصح القياس لمحل النزاع على ما هو متنازع فيه، وأيضا يجاب بالمعارضة بمثل الاستمتاع من الزوجة والأمة بغير الفرج، فإن كل ما فرض مانعا الاستمناء فهو مانع من الاستمتاع. وقد صح الدليل في جواز الثاني، ولم يصح الدليل في تحريم الأول. ومن جملة ما تمسكوا به أن الاستمناء بالكف استمتاع بالنفس، ويجاب بأن هذا إن كان استدلالا على عدم جواز الاستمتاع بالكف فهو مصادرة على المطلوب؛ لأنه استدلال بمحل النزاع، فمن يقول بإباحة الاستمناء بالكف يجوز الاستمناء بحك الذكر مثلا بالفخذ والساق ونحوهما، وأيضا لو صح أن يكون أصلا يقاس عليها الاستمناء بالكف لكان دليل التحريم في الأصل ممنوعا، فالفرع مثله، وأيضا لو خلى العقل وشأنه لكان للإنسان الانتفاع بنفسه في دفع الضرر عنه، ورفع الحاجة منه، بما لا يحرم عليه، كما أن له أن ينتفع بها في طلب المعاش والكسب العائد نفعه عليه، وفي الرياضة ونحوها من أسباب الصحة، ودفع المرض، وفي إكراهها على استعمال الأدوية التي تكرهها، والأدوية المسهلة والاستفراغات التي لا تتم إلا بتأليم للبدن بوجه من الوجوه كالفصد، والحجامة، والحقنة، واللدود، ونحو ذلك. ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة.

ومن جملة ما تمسكوا به أن المستمني بالكف ونحوه قد يتصور (¬1) شخصا ممن يحرم عليه، وفي ذلك إغراء للنفس بالحرام، وتهوينه عليها، ويجاب بأن هذا التصور على فرض وقوعه، ما الدليل على تحريمه؟ إن كان ما ذكرتم من الإغراء للنفس، فإن كان هذا صحيحا كان مجرد التفكير في النكاح وخطوره بالبال، أو تصور صورة لا تعرف، ولا يعلم المتصور وجودها حراما، وهو باطل بالإجماع، وما استلزم الباطل باطل، ثم يلزمكم جواز الاستمناء بالكف عند عدم تصور الصورة المحرمة أو عند صور من يحل نكاحه، وأنتم لا تقولون به. والجواب الجواب، ثم ما ذكرتم من كون ذلك إغراء للنفس، وذريعة إلى الحرام، وتوصلا إليه ممنوع، بل الأمر بالعكس، فإن من ترك إخراج فضلات المني تزايد شبقه، وتضاعفت دواعي شهوته، ووقع في الحرام اضطرارا لا اختيارا، فلو كان مجرد مظنة الإغراء للنفس مسوغا للأحكام الشرعية لكان ذلك حجة عليكم لا لكم. ومن جملة ما تمسكوا به أن في الاستمناء بالكف مضارا يذكرها أهل الطب، منها فتور الذكر، ويجاب بأن النزاع ههنا في الأحكام الشرعية، لا في الأحكام الطبية (¬2)، ¬

(¬1) ذكره ابن القيم في " بدائع الفوائد " (4/ 97). (¬2) ثبت في علم الطب أن الاستمناء يورث عدة أمراض، منها: 1 - يضعف البصر، ويقلل من حدته المعتادة إلى حد بعيد. 2 - يضعف عضو التناسل، ويحدث فيه ارتخاء جزئيا أو كليا، بحيث يصير فاعله أشبه بالمرأة لفقده أهم مميزات الرجولة. 3 - يؤثر ضعفا في الأعصاب عامة، نتيجة الإجهاد الذي يحصل من تلك العملية. 4 - يؤثر اضطرابا في آلة الهضم، فيضعف عملها ويختل نظامها. 5 - يضعف نمو الأعضاء، خصوصا الإحليل والخصيتين، فلا تصل إلى حد نموها الطبيعي. 6 - يؤثر التهابا منويا في الخصيتين، فيصير صاحبه سريع الإنزال. 7 - يورث ألما في فقار الظهر، وهو الصلب الذي يخرج منه المني، وينشأ عن هذا الألم تقويس في الظهر وانحناء. 8 - يورث رعشة في بعض الأعضاء كالرجلين. 9 - يورث غما في الصدر. 10 - أنه يحل ماء فاعله، فبعد أن يكون غليظا ثخينا، كما هو المعتاد في مني الرجل، يصير بهذه العملية رقيقا، فيتكون منه جنين ضعيف. انظر: - كتاب " الضعف التناسلي عند الرجال والنساء ". الدكتور حسين الهرادي. بع / دار الكتب المصرية. - " الاستمناء " للدكتور. هـ فورتيه، ترجمة الدكتور مقصود. طبع / الآداب والمؤيد. فقال: حيث إن الاستمناء يورث هذه الأمراض، فهو حرام لأن القاعدة المقررة في أصول الفقه: أن الأصل في المضار التحريم، ودليل هذه القاعدة قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا ضرر ولا ضرار " وهو حديث صحيح. تقدم تخريجه مرارا. الوقاية خير من العلاج. 1 - لا بد من استشعار الرقابة الإلهية. قال تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 218 - 219]. قال تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}. [الحديد: 4]. وقال سبحانه وتعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19]. وأخرج مسلم في صحيحه رقم (1/ 8) عن عمر بن الخطاب أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن الإحسان؟ فقال: " أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ". من حديث أبي هريرة عند البخاري رقم (50) ومسلم رقم (5/ 9). 2 - الصبر والاستعانة بالله سبحانه وتعالى: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]. وأخرج البخاري في صحيحه رق (1469) ومسلم رقم (1053) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: " ومن يتصبر يصبره الله، ومن يستعفف يعفه الله، وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر ". 3 - مجاهدة النفس ..... النوافل، قيام الليل، الصوم. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها , وإن سألني أعطيته ولئن استعاذني لأعيذنه ". أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6502). وأخرج البخاري في صحيحه رقم (6487) ومسلم رقم (2823) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " حجبت النار بالشهوات وحجبت الجنة بالمكاره ". 4 - حسن اختيار الإخوان، المجالس. قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 27 - 29]. وأخرج البخاري في صحيحه رقم (2101) ومسلم رق (2628) عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا خبيثة ". 5 - الزواج المبكر. تقدم حديث ابن مسعود: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ". 6 - المحافظة على الصحة لتأدية الرسالة التي خلق الله من أجلها الإنسان. قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن ". 7 - الاشتغال بالعبادة وذكر الله والدعاء، وهذا واسع كثير. أخرج البخاري في صحيحه رقم (7405) ومسلم رقم (2675) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يقول الله: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلى شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة " وليتذكر الإنسان قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58]. 8 - البعد والحذر من الوسائل التي تثير الشهوة وتوقع في الحرام .... أ - مصافحة النساء. ب - الأغاني. جـ - وسائل الإعلام. د - عض البصر. هـ - الخلوة. أخرج البخاري في صحيحه رقم (6343) ومسلم رقم (2657) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا، مدرك ذلك لا محالة، العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه ". وأخرج البخاري في صحيحه رقم (5232) ومسلم رقم (2172) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إياكم والدخول على النساء " فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو؟ قال: " الحمو الموت ". وليتذكر المؤمن قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 - 41].

ثم هذه المضار لا يمكن تقديرها في الاستمناء دون الاستمتاع بما عدا الفرج م الزوجة والأمة، والجواب لجواب، ثم لو كان مجرد ما يؤثر فتور الذكر موجبا للتحريم، لكان جميع الأطعمة والأغذية المؤثرة لذلك حراما، واللازم باطل بالإجماع والملزوم مثله، ثم قد وقع الإجماع على جواز الاستمناء بيد الزوجة، وكل ما يفرض من المضار الطبية في الاستمناء بكف لإنسان نفسه فهو موجود في الاستمناء بكف الزوجة، والجواب الجواب.

ومن جملة ما تمسكوا به المانعون ما قاله الشيخ هاشم بن يحيى في جوابه المشار إليه سابقا، ولفظه: وأقول مما يؤيد التحريم ما أخرجه البخاري (¬1) عن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله، إني رجل شاب وأخاف العنت، ولا أجد ما أتزوج به، ألا أختصي؟ فسكت عني، ثم قلت: فسكت عني، ثم قال: " يا أبا هريرة، من القدر (¬2) ¬

(¬1) في صحيحه رقم (5076). قال الحافظ في " الفتح " (9/ 120): فإن قيل لم لم يؤمر أبو هريرة بالصيام لكسر شهوته كما أمر غيره، فالجواب أن أبا هريرة كان الغالب في حاله ملازمة الصيام لأنه كان من أهل الصفة. قلت - أي البخاري - ويحتمل أن يكون أبا هريرة سمع: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج " تقدم تخريجه. لكنه إنما سأل عن ذلك في حال الغزو كما وقع لابن مسعود، وكانوا في حال لغزو يؤثرون الفطر على الصيام للتقوي على القتال، فأذاه اجتهاده إلى حسم مادة الشهوة بالاختصاء كما ظهر لعثمان فمنعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك، وإنما لم يرشده إلى المتعة التي رخص فيها لغيره لأنه ذكر أنه لا يجد شيئا، ومن لم يجد شيئا أصلا لا ثوبا ولا غيره، فكيف يستمتع؟ والتي يستمتع بها لا بد لها من شيء " - كان نكاح المتعة مرخصا فيه في حال الضرورة كالغزو، ثم حرم نهائيا في غزوة خيبر، وفيها أسلم أبو هريرة، فلذلك لم يأذن له به. واعلم أن الحكمة من عدم الاختصاء إرادة تكثير النسل ليستمر جهاد الكفار، وإلا لو أذن في ذلك لأوشك تواردهم عليه فينقطع النسل فيقل المسلمون بانقطاعه ويكثر الكفار، فهو خلاف المقصود من البعثة المحدية. وقال الحافظ في " الفتح " (9/ 119) قوله: " فنهانا عن ذلك " - عند البخاري في الحديث رقم (5075) هو نهي تحريم بلا خلاف في بني آدم. وفيه أيضًا من المفاسد تعذيب النفس والتشويه مع إدخال الضرر الذي قد يفضي إلى الهلاك، وفيه إبطال معنى الرجولة وتغيير خلق الله وكفر النعمة؛ لأن خلق الشخص رجلا من النعم العظيمة، فإذا أزال ذلك فقد تشبه بالمرأة واختار النقص على الكمال. (¬2) قال الحافظ في " الفتح " (9/ 119): ومحصل الجواب أن جميع الأمور بتقدير الله في الأزل، فالخصاء وتركه سواء، فإن الذي قدر لا بد أن يقع. وقوله: " على ذلك " هي متعلقة بمقدر؛ أي اختص حال استعلائك على العلم بأن كل شيء بقضاء الله وقدره , وليس إذنا في الخصاء بل فيه إشارة إلى النهي عن ذلك، كأنه قال: إذا علمت أن كل شيء بقضاء الله فلا فائدة في الاختصاء وقد تقدم أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عثمان بن مظعون لما استأذنه في ذلك - الحديث رق م (5073، 5074) - وكانت وفاته قبل هجرة أبي هريرة بمدة.

بما أنت لاق، فاختص على ذلك أو ذر ". ولو كان الصحابة يفعلون ذلك لما عدل عنه أبو هريرة إلى طلب الترخيص في أن يختصي، ولو كان إلى جواز ذلك سبيل لأرشده من هو بالمؤمنين رؤوف رحيم، الذي ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، ولم يعدل إلى ذلك الجواب القاطع للطمع عن كل رخصة في حق من بلغ في المشقة إلى تلك الغية. انتهى. وأقول: ليس في الحديث شيء من الدلالة التي زعمها، أو التأييد لذي ذكره. أما قوله: لو كان الصحابة يفعلون ذلك لما عدل عنه، فليس كل مباح كان الصحابة يفعلونه، ولم يقل أحد من أهل الإسلام: إن ما لم يفعله الصحابة حرام، وإلا لزم تحريم كثير من الأطعمة والأشربة والأدوية والملبوسات التي كان الصحابة لا يفعلونها، واللازم باطل بالإجماع، فالملزوم مثله. وأما كون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرشد أبا هريرة إلى الاستمناء، فلم يقل أحد من علماء الإسلام أن كل ما لم يرشد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه يكون حراما، وإنما السنة قوله وفعله، وتقريره، وليس منها ترك إرشاده، وغاية ما في الحديث أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر أبا هريرة أن ما يلاقيه من شدة الحاجة إلى النكاح هو بقدر الله (¬1)، عز وجل. والحاصل أن هذا الاستمناء إن لم يستلزم ما ذكره الله - عز وجل - في كتابه العزيز من قوله: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} (¬2) ولا كان فيه مباشرة لقدر كما علله الله به اعتزال الحائض: {قُلْ هُوَ أَذًى} (¬3)، بل كان عند الضرورة، والحاجة وعدم الزوجة، والأمة، أو البعد عنهما، فلا وجه لتحريمه، وغاية ما فيه أن يقال: هو ¬

(¬1) تقدم ذكره. (¬2) [الشعراء: 166]. (¬3) [البقرة: 222].

من المشتبهات التي لم تكن من الحلال البين (¬1)، ولا من الحرام البين، والمؤمنون وقافون عند الشبهات (¬2)، ولو صح الحديث المتقدم في نكاح اليد، أو كان حسنا لتبين به التحريم، وهكذا لو صحت دلالة الآية عليه بوجه من وجوه الدلالات، ولا شك أن في هذا العمل هجنة، وخسة وسقوط نفس، وطرح حشمة، وضعف همة، وكن الشأن في تحريمه، فإن من حرم شيئا لم ينتهض الدليل على تحريمه كان من المتقولين على الله ما لم يقل، وقد جاءت العقوبة لفاعله بالأدلة الصحيحة، وبهذا يتضح جواب ما سأل عنه السائل - كثر الله فوائده - حيث قال: ما قولكم في الاستمناء بالكف أو التفخذ أو نحوها؟. وأما قوله: أو شيء يخالف جسد الإنسان كالحك في شيء يحصل به الاستمناء، هل ذلك محرم أم لا معاقب عليه، مثاب فيه عند ضرورة توجهت له تكاد توجب الزنا , أم لا؟. انتهى. فأقول: ليس في كتاب الله , ولا في سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دليل صحيح، ولا ضعيف يقتضي تحريم ما ذكره، بل هو عند الضرورة إليه مباح (¬3)، وإذا تعاظمت الضرورة، ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (58). (¬2) تقدم في الرسالة رقم (58). (¬3) انظر " بدائع الفوائد ". قال الحافظ في " الفتح " (9/ 112): وقد أباح الاستمناء طائفة من العلماء وهن عند الحنابلة وبعض الحنفية لأجل تسكين الشهوة. قال ابن حزم في " المحلى " (11/ 392): " فلو عرضت فرجها شيئا دون أن تدخله حتى تنزل فيكره هذا، ولا إثم فيه، وكذلك الاستمناء للرجال، سواء بسواء؛ لأن المسلمين الرجل ذكره بشماله مباح ومس المرأة فرجها كذلك مباح، بإجماع الأمة كلها. فإذا هو مباح، فليس هنالك زيادة على المباح، إلا التعمد لنزول المني، فليس ذلك حراما أصلا لقول الله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119]. وليس هذا مما فصل لنا تحريمه، فهو حلال، لقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]. إلا أننا نكرهه لأنه ليس من مكارم الأخلاق ولا من الفضائل.

وتزايدت الحاجة، وخشي أن يفضي ذلك إلى الإضرار ببدنه فهو بمنزلة الأدوية واستعمالها، ويزداد ذلك جوازا وإباحة إذا خشي الوقوع في المعصية إن لم يفعله. وهذا إذا لم يمكنه دفع الضرورة، وكسر سورة الباءة، وقمع هيجان الغلمة، وتسكين غليان الشبق بشيء من الأمور التي هي طاعة محضة، كالصوم، وكثرة العبادة، والاشتغال بطلب العلم، والتفكر في أمور المعاد، أو بشيء من الأطعمة أو الأشربة، أو الأدوية (¬1) , أو مزاولة الأعمال التي يستقيم بها معاشه، ويرتفق بها حاله. واعلم أن الكلام في المرأة (¬2) كالكلام في الرجل في جميع ما أسلفنا، لأن الحكم واحد. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. والله ولي التوفيق. بخط المؤلف شيخنا العلامة بدر الإسلام محمد بن علي الشوكاني. ¬

(¬1) قال الحافظ في " الفتح " (9/ 111): واستدل الخطابي - يا معشر الشباب - على جواز المعالجة لقطع شهوة النكاح بالأدوية، وحكاه البغوي في " شرح السنة " وينبغي أن يحمل على دواء يسكن الشهوة دون ما يقطعا أصالة، لأن قد يقدر بعد فيندم لفوات ذلك في حقه، وقد صرح الشافعية بأنه لا يكسرها بالكافور ونحوه. والحجة فيه أنهم اتفقوا على منع الجب والخصاة، فيلحق بذلك ما في معناه من التداوي بالقطع أصلا. (¬2) انظر التعليقة السابقة. قال ابن القيم في " بدائع الفوائد " (4/ 96 - 97) نقلا عن ابن عقيل: " وإن كانت امرأة لا زوج لها واشتدت غلمتها فقال بعض أصحابنا: يجوز لها اتخاذ الأكرنبج، وهو شيء يعمل من جلود عن صورة الذكر، فتستدخله المرأة، أو ما أشبه ذلك من قثاء وقرع وصغار ". قال ابن القيم: " والصحيح عندي أنه لا يباح لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما أرشد صاحب الشهوة إذا عجز عن الزواج إلى الصوم، ولو كان هناك معنى غيره لذكره ". وقال صاحب " منتهى الإرادات " (5/ 143): ومن استمنى من رجل أو امرأة لغير حاجة حرم، وعزر، وإن فعله خوفا من الزنا فلا شيء عليه، فلا يباح إلا إذا لم يقدر على نكاح ولو لأمة. .

جواب على الأسئلة الواردة من العلامة أحمد بن يوسف زبارة، وتتضمن الأبحاث التالية: 1 - بحث في نفقة الزوجات. 2 - بحث في الطلاق المشروط. 3 - بحث في الصوم لي وأنا أجزي به. 4 - بحث في اختلاف النقد المتعامل به.

جواب على الأسئلة الواردة من العلامة أحمد بن يوسف زبارة، وتتضمن الأبحاث التالية: 1 - بحث في نفقة الزوجات. 2 - بحث في الطلاق المشروط. 3 - بحث في الصوم لي وأنا أجزي به. 4 - بحث في اختلاف النقد المتعامل به. تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " جواب على الأسئلة الواردة من العلامة أحمد بن يوسف زبارة وتتضمن الأبحاث التالية: 1 - بحث في نفقة الزوجات. 2 - بحث في الطلاق المشروط. 3 - بحث في الصوم لي وأنا أجزي به. 4 - بحث في اختلاف النقد المتعامل به. 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم " " الحمد لله وحده، وبعد: فإنه وصل من سيدي العلامة صفى الإسلام أحمد بن يوسف زبارة - كثر الله فوائده - ونفع بعلومه سؤالات ... ". 4 - آخر الرسالة: " ... وفي هذا كفاية ... حرره في النصف الأول من ليلة سادس وعشرين شهر الحجة سنة 1213 هـ المجيب محمد الشوكاني. 5 - عدد الصفحات: 17 صفحة. 6 - عدد الأسطر في الصفحة: 21 سطرا. 7 - عدد الكلمات في السطر: 9 - 10 كلمات. 8 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 9 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني. 10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، وبعد: فإنه وصل من سيدي العلامة صفي الإسلام أحمد بن يوسف زبارة - كثر الله فوائده ونفع بعلومه - سؤالات. [بحث في نفقة الزوجات] الأول: منها لفظه: الفرض للزوجة ونحوها ما حكمه حتى يجعل لها قد ونحوه، كيف يجزم في اليوم بنصف صاع مثلا، وإذا قلنا بهذا فهو معارض لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " خذي ما يكفيك وولدك " (¬1)، وإذا ألزمنا بذلك في هذا الزمان أنها تأخذ ما يكفيها، فهل تصدق في أنه لا يكفيها إلا زائد على ما يعتاد، وإذا صدقناها ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5364) ومسلم رقم (1714) من حديث عائشة " إن هندا بنت عتبة قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ". قال ابن القيم في " إعلام الموقعين " (4/ 358 - 359): في حديث هند المتقدم تضمنت هذه الفتوى أمورا: 1 - أن نفقة الزوجة غير مقدرة، بل المعروف لنفي تقديرها، وإن لم يكن تقديرها معروفا في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا الصحابة، ولا التابعين , ولا تابعيهم. 2 - أن نفقة الزوجة من جنس نفقة الولد كلاهما بالمعروف. 3 - انفراد الأب بنفقة أولاده. 4 - أن الزوج والأب إذا لم يبذل النفقة الواجبة عليه، فللزوجة والأولاد أن يأخذوا قدر كفايتهم بالمعروف. 5 - أن المرأة إذا قدر على أخذ كفايتها من مال زوجها لم يكن لها إلى الفسخ سبيل. 6 - أن ما لم يقدره الله تعالى ورسوله من الحقوق الواجبة فالمرجع فيه إلى العرف. 7 - أن من منع الواجب عليه، وكان سبب ثبوته ظاهرا، فلمستحقه أن يأخذ بيده إذا قدر عليه كما أفتى به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فهل يكون التصديق داخلا في النهي، وهو قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} (¬1)، فقد ورد في كثير من التفاسير (¬2) بأنه تمكين المرأة مال الرجل؟ أفيدوا فالمسألة كثيرة الورود، وما ذا يكون الاعتماد؟ انتهى. والجواب أنهال قد اختلفت المذاهب في تقدير النفقة الواجبة بمقدار معين، وعدم التقدير، فذهب جماعة من أهل العلم، وهم الجمهور إلى أنه لا تقدير للنفقة إلا بالكفاية (¬3). وقد اختلفت الرواية عن الهادي، فروي عنه ما تقدم، وجزم في الفنون بالتقدير بمدين لكل يوم، ولكل شهر درهمان للإدام، وجزم في المنتخب (¬4) بأنه يجب على الموسر ثلاثة أمداد لكل يوم، سوى الإدام، وعلى المعسر مد ونصف. قال في الغيث (¬5): وليس هذا بتحقيق، لأن الهادي قد قال: أو أقل من ذلك على ما يراه الحاكم، وقال الشافعي (¬6): على المسكين والمتكسب مد، وعلى الموسر مدان، وعلى المتوسط مد ونصف، وقال أبو حنيفة (¬7): على الموس سبعة دراهم إلى ثمانية في الشهر، والمعسر أربعة دراهم إلى خمسة. قال بعض أصحابه (¬8): هذا التقدير في وقت رخص الطعام، وأما في غيره فتعتبر بالكفاية. انتهى. ¬

(¬1) [النساء: 5]. (¬2) ستأتي ذكره. (¬3) قال ابن قدامة في " المغني " (11/ 349) والنفقة مقدرة بالكفاية، وتختلف باختلاف من تجب له النفقة في مقدارها. وبهذا قال أبو حنيفة ومالك. (¬4) " المنتخب " جمعه محمد بن سليمان الكوفي وهو تلميذ الإمام الهادي يحيى بن الحسين اهاشمي ايمني. وعلى هذا الكتاب اعتماد الهادويين من الزيدية في الفقه. " مؤلفات الزيدية " (3/ 61). (¬5) تقدم التعريف به. (¬6) في " الأم " (10/ 304 رقم 16524، 16534). (¬7) ذكره النووي في " المجموع " (20/ 146). (¬8) ذكره النووي في " المجموع " (20/ 146).

والحق ما ذهب إليه القائلون بعدم التقدير (¬1)، لاختلاف الأزمنة، والأمكنة، والأحوال، والأشخاص؛ فإنه لا ريب أن بعض الأزمنة قد يكون أدعى للطعام من بعض، وكذبك الأمكنة، فإن في بعضها قد يعتاد أهله أن يأكلوا في اليوم مرتين، وفي بعضها ثلاثا، وفي بعضها أربعا، وكذلك الأحوال؛ فإن حالة الجدب تكون مستدعية لمقدار من الطعام أكثر من لمقدار الذي تستدعيه حالة الخصب، وكذلك الأشخاص، فإن بعضهم قد يأكل الصاع فما فوقه، وبعضهم قد يأكل نصف صاع، وبعضهم ربع صاع، وبعضهم دون ذلك. وهذا الاختلاف معلوم بالاستقراء التام، ومع العلم بالاختلاف يكون التقدير على طريقة واحدة ظلما وحيفا، ثم إنه لم يثبت في هذه الشريعة المطهرة التقدير بمقدار معين قط، بل كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يحيل على الكفاية مقيدا لذلك بالمعروف، كما في حديث عائشة عند البخاري (¬2)، ومسلم (¬3) وأبي داود (¬4)، والنسائي (¬5) وأحمد بن حنبل (¬6)، وغيرهم (¬7) أن هندا قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ". فهذا الحديث الصحيح فيه الإحالة على الكفاية (¬8) مع التقييد ¬

(¬1) انظر " المغني " (11/ 349 - 350). (¬2) في صحيحه رقم (5364). (¬3) في صحيحه رقم (7/ 1714). (¬4) في " السنن " رقم (3532). (¬5) في " السنن " (8/ 246). (¬6) في " المسند " (6/ 39، 50). (¬7) كابن ماجه رقم (2293). (¬8) قال القرطبي في " المفهمم " (5/ 161): ويعني بالمعروف: القدر الذي عرف بالعادة أنه كفاية، وهذه الإباحة وإن كانت مطلقة لفظا فهي مقيدة معنى، فكأنه قال: إن صح أو ثبت ما ذكرت فخذي. قال الحافظ في " الفتح " (9/ 509): واستدل بهذا الحديث على: 1 - جواز ذكر الإنسان بما لا يعجبه إذا كان على وجه الاستفتاء والاشتكاء ونحو ذلك، وهو أحد المواضع التي تباح فيها الغيبة. 2 - جواز ذكر الإنسان بالتعظيم كاللقب والكنية، كذا قيل، وفيه نظر؛ لأن أبا سفيان كان مشهورا بكنيته دون اسمه، فلا بدل لقولها ": إن أبا سفيان " على إرادة التعظيم. 3 - جواز استماع كلام الأجنبية عند الحكم والإفتاء عند من يقول أن صوتها عورة، ويقول: جاز هنا للضرورة. 5 - وفيه أن القول قول الزوجة في قبض النفقة. 6 - وفيهوجوب نفقة الزوجة وأنها مقدرة بالكفاية، وهو قول أكثر العلماء.

بالمعروف، والمراد به الشيء الذي يعرف، وهو خلاف الشيء الذي ينكر، وليس هذا المعروف الذي أرشد إليه الحديث شيئا معينا معلوما، ولا المتعارف بين أهل جهة معينة، بل هو في كل جهة باعتبار ما هو الغالب على أهلها المتعارف بينهم. مثلا أهل صنعاء المتعارف بينهم الآن أنهم ينفقون على أنفسهم وأقاربهم الحنطة والشعير والذرة، ويعتادون الإدام سمنا ولحما، فلا يحل أن يجعل طعام من تجب نفقته من طعام غير الثلاثة الأجناس المتقدمة، كالعدس، والفول، ولا من الشعير والذرة فقط، ولا بدون إدام، ولا بإدام غير المعتاد كالزيت والتلبينة، ونحو ذلك؛ فإن ذلك جميعه وإن كان يصدق عليه لفظ الكفاية لا يصدق عليه معنى المعروف، والعمل بالمطلق وإهمال قيده لا يحل. وأما أهل البوادي المتصلة بصنعاء والقريبة منها بمقدار بريد (¬1) ودونه وفوقه فالمعروف عندهم هو الكفاية من أي طعام كان، من غير سمن ولا لحم إلا في أندر الأحوال، بل يكتفون تارة بالتلبينة (¬2)، وتارة بما يقوم مقامها، فالمتوجه شرعا على من وجبت عليه ¬

(¬1) تقدم تقديره مرارا. (¬2) التلبينة: حساء يعمل من دقيق أو نخالة ويجعل فيها عسل، سميت تلبينة تشبيها باللبن لبياض ورقتها. " لسان العرب " (12/ 230).

أن يدفع إلى من كان في مثل صنعاء ما هو المعروف لديهم مما قدمنا، وإلى من كان في البوادي ما قدمنا مما هو المعروف لديهم، ويعتبر في كل محل ما يعرف أهله، ولا يحل العدول عنه إلا مع التراضي، وكذلك الحاكم يجب عليه مراعاة المعروف بحسب الأزمنة والأمكنة، والأحوال والأشخاص، مع ملاحظة حال الزوج من اليسار والإعسار؛ لأن الله تعالى يقول: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} (¬1). وإذا تقرر لك أن الحق عدم جواز تقدير الطعام بمقدار معين فكذلك لا يجوز تقدير الإدام بمقدار معين، بل المعتبر الكفاية بالمعروف. وقد حكى صاحب (¬2) البحر (¬3) أنه قد قدر في اليوم أوقيتان دهنا من الموسر، ومن المعسر أوقية، ومن المتوسط أوقية ونصف. وفي شرح الإرشاد أنه يعتبر في الإدام تقدير القاضي باجتهاده عند التنازع، فيقدر في المد من الإدام ما يكفييه، ويقدر على الموسر ضعف ذلك، وعلى المتوسط بينهما، ويعتبر في اللحم عادة البلد للموسرين والمتوسطين كغيرهم. قال الرافعي (¬4): وقد تغلب الفاكهة في أوقاتها فتجب، ثم قال: وإنما يجب ما ذكر لزوجته إن لم تؤاكله حال كونها رشيدة، فإن واكلته وهن رشيدة سقطت نفقتها، ثم ذكر كلاما طويلا. وأقول: المرجع ما هو معروف عند أهل البلد في الإدام جنسا، ونوعا، وقدرا، وكذلك في الفاكهة لا يحل الإخلال بشيء مما يتعارفون به إن قدر من تجب عليه النفقة على ذلك، وكذلك ما يعتاد من التوسعة في الأعياد ونحوها. ويدخل في ذلك مثل القهوة والسليط (¬5). وبالجملة فقد أرشد الشارع إلى ما هو معروف من الكفاية، وليس بعد هذا الكلام الجامع المفيد شيء من ................................. ¬

(¬1) [البقرة: 236]. (¬2) الإمام المهدي أحمد بن يحيى بن المرتضى (ت / 840 هـ). (¬3) (3/ 272). (¬4) ذكره صاحب " الروضة الندية " (2/ 160). (¬5) أي الزيت.

البيان (¬1). وأما ما أجاب به عن الحديث بعض من لم يتمرن بعلم الأدلة، ويتدرب بمسالك الاجتهاد من أنه لم يكن منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - على طريقة الحكم بل على طريقة الإفتاء (¬2)، فهذه غفلة كبيرة، وبعد عن الحقيقة، لأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لا يفتي إلا بما هو حق وشرع، وقد تقرر أن السنة أقواله وأفعاله وتقرياته، لا مجرد أحكامه فقط، أي التي تكون بعد الخصومة، وحصول المتخاصمين، ولو كانت السنة ليست إلا الأحكام الكائنة على تلك الصفة لم يبق منها حجة على العباد إلا أقل من عشر معشارها؛ لأن صدور الحكم منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - على تلك الصفة إنما وقع في قضايا محصورة كقضية الحضرمي، والزبير (¬3)، وعبد بن زمعة (¬4)، .................... ¬

(¬1) انظر " المغني " (11/ 349)، " المجموع " (20/ 145). (¬2) قال المازري (2/ 265): نبه الناس في هذا الحديث على فوائد، منها: وجوب نفقة الزوجة ونفقة البنين. ومنها: أن الإنسان إذا أمسك آخر حقه وعثر له على ما يأخذ منه، فإنه يأخذه لأنها ذكرت أنها تأخذ بغير علمه. ومنها: جواز إطلاق الفتوى، والمراد تعليقها بثبوت ما يقول الخصم؛ لأنها ذكرت أنه يمنعها حقها فقال لها: " خذي " وهذه إباحة على الإطلاق ولم يقل: " إن ثبت ذلك " ولكنه هو المراد، ولهذا لا يقول كثير من المفتين في جوابهم: " إذا ثبت ذلك " ويحذفونه اختصارا. (¬3) أخرج البخاري رقم (2359، 2360) ومسلم رقم (2357) من حديث عبد الله بن الزبير عن أبيه " أنه اختصم هو أنصاري فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للزلير: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى أخيك، فغضب الأنصاري، ثم قال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله ثم قال: اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ". (¬4) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2218، 2533، 4303، 6765، 7182) ومسلم رقم (36/ 1457) من حديث عائشة قالت: " اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال سعد: يا رسول الله ابن أخي عتبة بن أبي وقاص، عهد إلي أنه ابنه، انظر إلى شبهه، وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي، فنظر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى شبهه فرأى شبها بينا بعتبة، وقال: هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش، وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة.

والمتلاعنين (¬1). فإن قلت: ما وجه ما فعله كثير من القضاة في هذه الأزمنة من تقدير النفقة بقدح من الطعام متنوعا. قلت: هو من تقدير الكفاية بالمعروف؛ لأن القدح يكفي غالب الأشخاص شهرا لا سيما في مثل صنعاء، فيكون للشخص في كل يوم نصف صاع يأتي المجموع في ثلاثين يوما خمسة عشر صاعا، وهي قدح ينقص صاعا، فهذا فيه ملاحظة للمعروف باعتبار الغالب، ولكن إذا انكشف أنه لا يكفي بأن يكون الشخص أكولا فلا يحل العمل بذلك الغالب؛ لأن فيه إهمالا لما أرشد إليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من الكفاية، وهذا ليس فيه كفاية. فالحاصل أنه لا بد من ملاحظة أمرين: أحدهما الكفاية، والثاني كونها بالمعروف، فإذا علم مقدار الكفاية كان المرجع في صفاتها إلى المعروف، وهو الغالب في البلد (¬2)، وإذا لم يعلم حال الشخص في مقدار ما يكفيه، أو وقع الاختلاف (¬3) بينه وبين من يجب عليه إنفاقه كان القول قول من يدعي ما هو المتعارف به، مثلا إذا قال من له النفقة لا يكفيه إلا قدحان، وقال من عليه النفقة: بل يكفيه قدح، كان القول قول من عليه ¬

(¬1) انظر " فتح الباري " (8/ 449) و (9/ 361). (¬2) انظر " المجموع " (20/ 145). (¬3) قال ابن قدامة في " المغني " (11/ 352): ويرجع في تقدير الواجب إلى اجتهاد الحاكم أو نائبه، إن لم يتراضيا على شيء، فيفرض للمرأة قدر كفايتها من الخبز والأدم، فيفرض للموسرة تحت الموسر قدر حاجتها من أرفع خبز البلد الذي يأكله أمثالهما. وللمعسرة تحت المعسر قدر كفايتها من أدنى خبز البلد، وللمتوسطة تحت المتوسط من أوسطه لكل أحد على حسب حاله على ما جرت به العادة في حق أمثاله.

النفقة، لكونه مدعيا لما هو الغالب في العادة، وإذا تبين حال من له النفقة وجب الرجوع إلى ذلك لما عرفناك من أنه لا يحل الوقوف على مقدار معين على طريق القطع والبت، ثم الظاهر من قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " خذ ما يكفيك بالمعروف " (¬1) أن ذلك غير مختص بمجرد الطعام والشراب، بل يعم جميع ما يحتاج إليه، فيدخل تحته الفضلات (¬2) التي قد صارت بالاستمرار عليها مألوفة، بحيث يحصل التضرر بمفارقتها، أو التضجر، أو التكدر. ويختلف ذلك بالأشخاص والأزمنة والأمكنة والأحوال، ويدخل في الأدوية (¬3) ونحوها. وإليه يشير قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) وتجب عليه كسوتها بإجماع أهل العلم، ولأنها لا بد منها على الدوام فلزمته كالنفقة، وهي معتبرة بكفايتها وليست مقدرة بالشرع. ويرجع في ذلك إلى اجتهاد الحاكم فيفرض لها كفايتها على قدر يسرهما وعسرهما وما جرت عليه عادة أمثالهما به من الكسوة. وعليه لها ما تحتاج إليه للنوم، من الفراش واللحاف والوسادة، كل على حسب عادته. ويجب لها مسكن، بدليل قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6]. فإذا وجبت السكنى للمطلقة فللتي في صلب النكاح أولى. قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]. ومن المعروف أن يسكنها في مسكن، ولأنها لا تستغني عن المسكن لاستتار عن العيون، وفي التصرف والاستمتاع، وحفظ المتاع، ويكون المسكن على قدر يسارهما وإعسارهما، لقوله تعالى: {مِنْ وُجْدِكُمْ}. ولأنه واجب لها لمصلحتها في الدوام، فجرى مجرى النفقة والكسوة. ويجب للمرأة ما تحتاج إليه، من المشط، والدهن لرأسها، والسدر أو نحوه مما تغسل به رأسها، وما يعود بنظافتها؛ لأن ذلك يراد للتنظيف فكان عليه، كما أن على المستأجر كنس الدار وتنظيفها. فإن كانت المرأة ممن لا تخدم نفسها، لكونها من ذوي الأقدار أو مريضة، وجب لها خادم لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ومن العشرة بالمعروف أن يقيم لها خادما , ولأنه مما تحتاج إليه في الدوام ويحصل ذلك بواحد. " المغني " (11/ 352 - 356). (¬3) سيأتي ذكر ذلك.

وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬1)؛ فإن هذا نص في نوع من أنواع النفقة أن الواجب على من عليه النفقة رزق من عليه إنفاقه، والرزق يشمل ما ذكرناه، وقال في الانتصار (¬2): ومذهب الشافعي (¬3): لا تجب أجرة الحمام، وثمن الأدوية، وأجرة الطبيب؛ لأن ذلك يراد لحفظ البدن، كما لا يجب على المستأجر أجرة إصلاح ما انهدم من الدار (¬4)، وقال في الغيث (¬5): الحجة أن الدواء لحفظ الروح، فأشبه النفقة. انتهى. قلت: وهو الحق لدخوله تحت عموم قوله: ما يكفيك، وتحت قوله {رِزْقُهُنَّ}، فإن الصيغة الأولى عامة باعتبار لفظ (ما)، والثانية عامة لأنها مصدر مضاف، وهو من صيغ العموم، واختصاصه ببعض المستحقين للنفقة لا يمنع من الإلحاق. وبمجموع ما ذكرناه يتقرر لك أن الواجب على من عليه النفقة لمن له النفقة هو ما يكفيه بالمعروف، وليس المراد تفويض أمر ذلك إلى من له النفقة، وأنه يأخذ ذلك بنفسه حتى يرد ما أورده السائل - دامت إفادته - من خشية السرف في بعض الأحوال، بل المراد تسليم ما يكفي على وجه لا سرف فيه بعد تبين مقدار الكفاية بأخبار المخبرين، الأنبياء, تجريب المجربين، كما ¬

(¬1) [البقرة: 223]. (¬2) انظر " مؤلفات الزيدية " (1/ 141). (¬3) (4/ 609). (¬4) قال المطيعي في تكملته " المجموع " (20/ 151 - 152): ولنا وقفة عند هذا الأمر الذي ينبغي النظر إليه من خلال ما طرأ على حياة الناس من تغير وليس هذا الفرع بالشيء الثابت الذي لا يتأثر بالعوامل الإنسانية السائدة، فإنه إذا كان الزوجان في مجتمع أو بيئة أو دولة تكفل للعامل والشغال قدرا من الرعاية الصحية تحت اسم إصابة العمل، أو المرض أثناء الخدمة، فيتكفل صاحب لعمل ببعض نفقات العلاج أو كلها، فإنه ليس من المعروف أن نضرب المثل هنا بإجارة الدار مع الفارق بين الزوجة، والدار، والأقرب إلى التشبيه أن يكون المثل إنسانيا، فيضرب المثل بالعامل فإنه أولى .... وهذا أمر مستحب يدخل في فضل المروءة وحسن المعاشرة والإيثار. وقد ذهبنا إلى استحبابه للإجماع على عدم وجوبه بلا خلاف، وفي هذا رد على من قال بعدم طلب تطيب الزوجة من زوجها ". (¬5) تقدم التعريف به.

سبق، وهو معنى قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " بالمعروف " أي لا يغير المعروف، وهو السرف والتقتير. نعم. إذا كان الرجل لا يسلم ما يجب عليه من النفقة جاز لنا الإذن لمن له النفقة بأن يأخذ ما يكفيه، إذا كان من أهل الرشد لا إذا كان من أهل السرف والتبذير، فإنه لا يجوز لنا تمكينه من مال من عليه النفقة، لأن الله تعالى يقول: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} (¬1) بل ورد ما يدل على عدم جواز دفع أموال من لا رشد لهم إليهم كما في قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (¬2) فجعل الرشد شرطا لدفع أمولهم إليهم، فكيف يجوز دفع أموال غيرهم إليهم مع عدم الرشد؟ ولكن يجب علينا إذا كان من عليه النفقة متمردا، ومن له النفقة ليس بذي رشد أن يجعل الأخذ إلى ولي من لا رشد له، أو إلى رجل عدل. وأما ما ورد في بعض التفاسير (¬3) من أن المراد بالسفهاء في قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا ¬

(¬1) [النساء: 5]. (¬2) [النساء: 6]. قال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (5/ 37): واختلف العلماء في تأويل " رشدا " فقال الحسن وقتادة وغيرهما: صلاحا في العقل والدين. وقال ابن عباس والسدي والثوري: صلاحا في العقل وحفظ المال. وقال ابن جرير الطبري في " جامع البيان " (3 جـ 4/ 253): وأولى الأقوال عندي بمعنى الرشد في هذا الموضع: العقل وإصلاح المال لإجماع الجميع على أنه إذا كان كذلك لم يكن لمن يستحق الحجر عليه في ماله وحوز ما في يده عنه. وإن كان فاجرا في دينه، وإن كان ذلك إجماعا من الجميع، فكذلك حكمه إذا بلغ، وله مال في يدي وصي أبيه، أو في يد حاكم قد ولي ماله لطفولته، واجب عليه تسليم ماله إليه، إذا كان عاقلا بالغا، مصلحا لماله غير مفسد ". (¬3) انظر " الجامع لأحكام القرآن " (5/ 29).

السُّفَهَاءَ (¬1) أَمْوَالَكُمُ} (¬2) تمكين المرأة (¬3) من مال الرجل، كما ذكره السائل - عافاه الله - ¬

(¬1) وأصل السفه في كلام العرب: الخفة والرقة. ويقال: ثوب سفيه، إذا كان رديء النسخ خفيفه أو كان باليا رقيقا , وتسفهت الرياح: اضطربت، وتسفهت الريح الغصون: حركتها واستخفهتا، وقال ذو الرمة: مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مر الرياح النواسم وتسفهت الشيء: استحقرته. وقيل: السفه: خفة الحلم، نقيض الحلم، وأصله الخفة والحركة. ويقال: إن السفه أن يكثر الرجل شرب الماء فلا يروى. ويجوز في همزتي السفهاء أربعة أوجه، أجودها أن تحقق الأولى وتقلب الثانية واو خالصة. وهي قراءة أهل المدينة، والمعروف من قراءة أبي عمرو. " اللسان " (6/ 287 - 289). . (¬2) [النساء: 5]. (¬3) قال ابن جرير في " جامع البيان " (3 جـ 4/ 245 - 248): اختلف أهل التأويل في السفهاء الذين نهى الله جل ثناؤه عباده أن يؤتوهم أموالهم، فقال بعضهم: هم النساء والصبيان. ثم قال بعد ذكر أقوال مختلفة في معنى " السفهاء ": والصواب من القول في تأويل ذلك عندنا أن الله جل ثناؤه عم بقوله: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} فلم يخصص سفيها دون سفيه، فغير جائز لأحد أن يؤتي سفيها ماله صبيا صغيرا كان أو رجلا كبيرا، ذكرا كان أو أنثى، والسفيه الذي لا يجوز لوليه أن يؤتيه ماله، هو المستحق الحجر بتضييعه ماله فسادا وإفساده، وسوء تدبيره ذلك. وإنما قلنا ما قلنا من أن المعنى بقوله: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ} هو من وصفنا دون غيره، لأن الله جل ثناؤه قال في الآية التي تتلوها: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} فأمر أولياء اليتامى بدفع أموالهم إليهم إذا بلغوا النكاح، وأونس منهم الرشد، وقد يدخل في اليتامى الذكور والإناث، فلم يخصص بالأمر بدفع ما لهم من الأموال، الذكور دون الإناث، ولا الإناث دون الذكور، وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الذين أمر أولياؤهم بدفعهم أموالهم إليه وأجيز للمسلمين مبايعتهم، ومعاملتهم، غير الذين أمر أولياؤهم بمنعهم أموالهم، وحظر على المسلمين مداينتهم ومعاملتهم، فإذا كان ذلك كذلك، فبين أن السفهاء الذين نهى الله المؤمنين أن يؤتوهم أموالهم هم المستحقون الحجر، والمستوجبون أن يولي عليهم، وهم من وصفنا صفتهم قبل، وأن من عدا ذلك فغير سفيه، لأن الحجر لا يستحقه من قد بلغ، وأونس رشده. وأما قول من قال: عنى بالسفهاء النساء خاصة، فإنه جعل اللغة على غير وجهها، وذلك أن العرب لا تكاد تجمع فعيلا على فعلاء إلا في جمع الذكور، أو الذكور والإناث، وأما إذا أرادوا جمع الإناث خاصة لا ذكران معهم، جمعوه على فعائل وفعيلات، مثل غريبة تجمع غرائب وغريبات، فأما الغرباء فجمع غريب. وقال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (5/ 28): روى سفيان عن حميد الأعرج عن مجاهد قال: هن النساء. قال النحاس وغيره: وهذا القول لا يصح، إنما تقول العرب في النساء: سفائه أو سفيهات؛ لأنه الأكثر في جمع فعيلة، ويقال: لا تدفع مالك مضاربة ولا إلى وكيل لا يحسن التجارة. وروي عن عمر أنه قال: من لم يتفقه فلا يتجر في سوقنا، فذلك قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} يعني الجهال بالأحكام. وانظر " إعراب القرآن " للنحاس (1/ 432).

فذلك إنما هو باعتبار أن غالب نوع النساء خال عن الرشد، وإلا فلا شك أن عدم الرشد يوجد في غيرهن، كالصبيان والمجانين، ومن يلتحق بهم من البله والمعتوهين، وكثير ممن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين. ولا شك أيضًا أن في النساء من لها من الرشد والكمال ما لا يوجد في أفراد الرجال، ومنهن هند بنت عتبة بن ربيعة المذكورة في الحديث، فإنها كانت من سروات نساء قريش المشهورات بحسن العقل، وكمال الفطنة، كما يعرف ذلك من عرف أخبارها ومحاوراتها لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عند مبايعته لها، فالحاصل أنه لا ملازمة بين القول بوجوب الكفاية في النفقة، وبين حصول السرف، بل الأمر كما قدمنا، والله أعلم.

[بحث في الطلاق المشروط] السؤال الثاني: قال - كثر الله فوائده - ما لفظه: المسألة الثانية: رجل قال لأمرأته: إن لم تطلع الشمس فأنت طالق، وقال بعد ذلك: إن طلعت الشمس فأنت طالق، هل يحل وطؤها بالليل قبل طلوع الشمس أم قد وقع الطلاق فلا تحل مداناتها ليلا؟ أفيدوا. انتهى. والجواب - بمعونة الوهاب - أنا نقول: قد تقرر في كتب الفقه أن مشروط الطلاق يترتب على الشرط نفيا وإثباتا، ولو مستحيلا، بل ثبت الترتب في الكتاب والسنة واللغة، وهو معلوم لا يجهل، بل ثبت الشرط المستحيل في الكتاب العزيز، قال الله تعالى: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} (¬1) الآية. وقد خالف في أصل لزوم الطلاق المشروط الإمامية، والناصر، وبعض الظاهرية، فقالوا: لا يقع المعلق بالشرط؛ لأن لفظ الطلاق قد عدم عند وقوع الشرط، وهذه حجة داحضة، وشبهة فاسدة. قد شذ من عضدها العلامة الجلال في ضوء النهار (¬2) بكلام ساقط قد أوضحت بطلانه في غير هذا الموضع (¬3)، فلا نطول بذكره. وإذا تقرر أن الحق وقوع الطلاق المعلق بالشرط، فنقول: هذا السؤال قد اشتمل على صورتين، الصورة الأولى: صورة النفي، وهي إن لم تطلع الشمس فأنت، والصورة الثانية صورة الإثبات، وهي إن طلعت الشمس فأنت طالق. فأما الصورة الثانية فلا ريب أن الطلاق لا يقع إلا عند طلوع الشمس. وأما الصورة الأولى، فإن قلنا: إن الصيغة للفور وقع الطلاق في الحال، وإن قلنا: إنها للتراخي لم تطلق. وقد صرح أئمة الفروع بأن هذه الصيغة للتراخي كما يشعر بذلك ما في .............. ¬

(¬1) [الأنعام: 35]. (¬2) (3/ 928 - 930). (¬3) انظر " السيل الجرار " (2/ 373).

الأزهار (¬1) من قول مؤلفه - رحمه الله -: ولا الفور إلا أن في التمليك (¬2)، وغير (أن)، و (إذا) مع لم. والصيغة المذكورة هاهنا هي أن مع لم فهي للتراخي، ولكن قد صرح صاحب الأثمار (¬3) بما يفيد أن مثل هذه الصيغة في المستحيلات للفور، ولفظ مختصر الأثمار هكذا: أولا الفور غالبا إلا نحو مني مع لم، وكلما مع لم، وأن في التمليك. قال شارحه العلامة ابن بهران: وقوله: غالبا أي في غالب الأحوال، وقد يكون للفر نادرا، وذلك في الشرط المستحيل المنفي نحو إن (¬4) لم تطلعي السماء فأنت طالق، ¬

(¬1) (2/ 374 - السيل الجرار). (¬2) قال الشوكاني في " السيل الجرار " (2 374):إن كان هذا الاقتضاء من هذا الحرف فهو محتاج إلى نقل عن أهل اللغة، وإن كان ذلك بخصوص كونها في التمليك فلا شك أنه لم يرد ما يدل على الفور في مثل قول الرجل لامرأته: طلقي نفسك إن شئت، فإن المشيئة كما يصح اعتبارها في الحال يصح اعتبارها في الاستقبال، وكذا قوله: " وغير " " إن " و" إذا " مع لم، فإنه لم يرد ما يدل على هذه الدعوى من شرع ولا لغة، وإن كان هذا الاقتضاء هو مجرد اصطلاح للمصنف وأهل محله، فلا مشاقة في الاصطلاحات. (¬3) تقدم التعريف به. (¬4) قال ابن قدامة في " المغني " (10/ 443 - 444): والحروف المستعملة للشرط وتعليق الطلاق بها سته: إن، وإذا، ومتى، ومن، وأي، وكلما. فمتى علق الطلاق بإيجاد فعل بواحد منها، كان على التراخي، مثل قوله: إن خرجت، وإذا خرجت، ومتى خرجت، وأي حين، وأي زمان، وأي وقت خرجت، وكلما خرجت، ومن خرجت منكن، وأيتكن خرجت فهي طالق. فمتى وجد الخروج طلقت، وإن مات أحدهمما، سقطت اليمين. فأما إن علق الطلاق بالنفي بواحد من هذه الحروف، كانت" إن " على التراخي، زمتى، وأي، ومن، وكلما، على الفور. لأن قوله: متى دخلت فأنت طالق يقتضي أي زمان دخلت فأنت طالق. وذلك شائع في الزمان كله، فأي زمن دخلت وجدت الصفة. وإذا قال: متى لم تدخلي فأنت طالق. فإذا مضى عقيب اليمين زمن لم تدخل فيه، وجدت الصفة؛ لأنها اسم لوقت الفعل، فيقدر به، ولهذا يصح السؤال فيه، وجدت، الصفة، لأنها لوقت الفعل، فيقدر، ولهذا يصح السؤال به، فيقال: متى دخلت؟ أي: أي وقت دخلت. وأما " إن " فلا تقتضي وقتا، فقوله: إن لم تدخلي. لا يقتضي وقتا إلا ضرورة أن الفعل لا يقع إلا في وقت، فهي مطلقة في الزمان كله، وأما إذا، ففيها وجهان، أحدهما على التراخي، وهو قول أبي حنيفة، ونصره القاضي؛ لأنها تستعمل شرطا بمعنى (إن) قال الشاعر: استغن ما أغناك ربك بالغنى ... وإذا تصبك خصاصة فتجمل فجزم بها كما يجزم بإن، ولأنها تستعمل بمعنى متى وإن، وإذا احتملت الأمرين فاليقين بقاء النكاح، فلا يزول بالاحتمال، والوجه الآخر أنها على الفور، وهو قول أبي يوسف، ومحمد، وهو المنصوص عن الشافعي لأنها اسم لزمن مستقبل، فتكون كمتى، وأما المجازاة بها فلا تخرجها عن موضوعها، فإن متى يجازى بها، ألا ترى إلى قول الشاعر: متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد و" من " يجازى بها أيضا، وكذلك " أي " وسائر الحروف، وليس في هذه الحروف ما يقتضي التكرار إلا كلما , وذكر أبو بكر في (متى) أنها تقتضي التكرار أيضًا لأنها تستعمل للتكرار بدليل قوله: متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد أي: في كل وقت، ولأنها تستعمل في الشرط والجزاء، ومتى وجد الشرط ترتب عليه جزاؤه، والصحيح أنها لا تقتضيه؛ لأنها اسم زمن بمعنى أي وقت وبمعنى إذا، فلا تقتضي ما لا يقتضيانه، وكونها تستعمل للتكرار في بعض أحيانها لا يمنع استعمالها في غيره، مثل إذا وأي وقت، فإنهما يستعملان في الأمرين، قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 54]. قوم إذا الشر أبدى ناجزيه لهم ... صاروا إليه زرافات ووحدانا وكذلك أي وقت وأي زمان فإنهما يستعملان للتكرار، وسائر الحروف يجازى بها، إلا أنها لما كانت تستعمل للتكرار وغيره، لا تحمل على التكرار إلا بدليل، كذلك (متى). وانظر " المجموع " (18/ 297 - 298).

فإنها تطلق في الحال، وكذلك إذا لم، ومتى لم، وكلما لم، وهذا من الزوائد، أعني ذكر التسوية بين كلمات الشرط في اقتضائها الفور إذا علقته بالشرط المستحيل نفيا. انتهى. إذا عرفت هذا علمت أن قوله: إن لم تطلع الشمس هو من التعليق بالمستحيل عادة (¬1) ¬

(¬1) فإن علق الطلاق على مستحيل فقال: أنت طالق إن قتلت الميت أو شربت الماء الذي في الكوز - ولا ماء فيه. أو جمعت بين الضدين، أو: كان الواحد أكثر من اثنين. أو على ما يستحيل عادة، كقوله: إن طرت، أو صعدت إلى السماء. أو قلبت الحجر ذهبا. أو شربت هذا النهر كله. أو حملت الجبل، ففيه وجهان: أحدهما: يقع الطلاق في الحال؛ لأنه أردف الطلاق بما يرفع جملته ويمنع وقوعه في الحال، وفي الثاني: فلم يصح كاستثناء الكل، وكما لو قال: أنت طالق طلقة لا تقع عليك. أو: لا تنقص عدد طلاقك. الثاني: لا يقع؛ لأنه علق الطلاق بصفة لم توجد، ولأن ما يقصد تبعيده يعلق على المحال، كقوله: إذا شاب الغراب أتيت أهلي ... وصار القار كاللبن الحليب أي لا آتيهم أبدا. وقيل: إن علقه على ما يستحيل عقلا. وقع في الحال؛ لأنه لا وجود له. فلم تعلق به الصفة، وبقي مجرد الطلاق. فوقع. وإن علقه على مستحيل عادة، كالطيران، وصعود السماء لم يقع؛ لأن له وجودا وقد وجد جنس ذلك في معجزات الأنبياء عليهم السلام وكرامات الأولياء، فجا تعليق الطلاق به. ولم يقع قبل وجوده. " المغني " (10 474 - 475).

إذا قال ذلك مثلا في وقت من أوقات الليل؛ لأن الشمس لا تطلع في ذلك الوقت، فهو باعتبار وقت الليل مثل قوله: إن لم تطلعي السماء (¬1) فأنت طالق. ولا اعتبار بكون أحدهما مستحيلا دائما، والآخر مستحيلا في وقت دون وقت؛ لأن وقت التعليق المقصود بالكلام الطلوع فيه مستحيل، وذلك هو المقصود، هذا ما يقتضيه الظاهر من كلام أهل الفروع، وهو يستلزم أنه لا يجوز له وطؤها في الليل، وعندي أن الاعتبار بنية المعلق للطلاق، فإن أراد بقوله: إن لم تطلع الشمس (¬2) عدم طلوعها في الحال، وكان في الليل، طلقت في الحال، وإن أراد إن لم تطلع في وقتها المعتاد لم تطلق (¬3)، لأنها طالعة فيه دائما ما دامت الدنيا حتى تقوم القيامة. ولا يصح الجزم بأن هذه الصورة من صور المستحيل حتى يدخل تحت صوره غالبا المذكورة في الأثمار، لأنا نقول: إنها لا ¬

(¬1) قال ابن قدامة في " المغني " (10/ 475): فأما إن علق طلاقها على نفي فعل المستحيل، فقال: أنت طالق إن لم تقتلي الميت. أو تصعدي السماء. طلقت في الحال؛ لأنه علقه على عدم ذلك، وعدمه معلوم في لحال. وفي الثاني فوقع الطلاق كما لو قال: أنت طالق إن لم أبع عبدي، فمات العبد. وكذلك لو قال: أنت طالق لأشربن الماء الذي في الكوز، ولا ماء فيه , أو لأقتلن الميت: وقع الطلاق في الحال. (¬2) انظر التعليقة السابقة. (¬3) انظر " المغني " (10/ 475).

تدخل تحت صوره غالبا إلا إذا كانت مستحيلة، وهي لا تكون مستحيلة إلا إذا أراد إن لم تطلع في جزء من أجزاء الليل، والإرادة ينافي الدخول تحت صوره غالبا؛ لأنها فيما كان مطلقا من الصيغ لا فيما كان معلقا بجزء معين، فإنه لا ثمرة في اقتضائه الفور. والتراخي أو التعبير بالإرادة والقصد موجب للعمل به، فإذا قال القائل لامرأته: إن لم تطلع الشمس فأنت طالق، وكان عند هذا القول في الليل لم يصح أن يحكم عليه بأن هذه الصيغة تقتضي الفور حتى تطلق في الحال، إلا بعد معرفة أن ذلك مستحييل، ولا نعرف أنه مستحيل إلا إذا علمنا أنه أراد عدم الطلوع في الليل، لا إذا لم يسلم ذلك، إذ من الجائز أن يكون أراد عدم طلوعها في الوقت المعتاد وليس ذلك بمستحيل، فقد توقف كونها للفور على كونها مستحيلة، كونها مستحيلة على إرادة جزء معين، وإرادة جزء معين تنافي كونها للفور، وهذا فيه دقة، ولهذا أوضحته بالتكرار. وإذا تقرر هذا فالمتوجه الرجوع إلى الإرادة كما أسلفنا، فإن أراد إن لم تطلع الشمس في الليل طلت زوجته (¬1)، وإن أراد إن لم تطلع في الوقت المعتاد لطلوعها لم تطلق؛ لأنها ستطلع لكنها تطلق بالشرط الآخر، وهو قوله: إن طلعت الشمس فأنت طالق. فالحاصل أن الصورة الأولى من صورتي الشرط المذكورتين في السؤال لا يقتضي عدم جواز الوطء في الليل، إلا إذا أراد إيقاع الطلاق إن لم يقع الطلوع في الليل، لا إذا لم يرد ذلك فلا يقع؛ لأنها طالعة في وقتها دائما (¬2). والصورة الثانية (¬3): تقتضي وقوع الطلاق عند طلوع الشمس في وقت طلوعها، ولا ¬

(¬1) تقدم ذكر ذلك. (¬2) في هامش المخطوط ما نصه " فإذا لم يكن له إرادة هل يكون الخلاف فيه لو علق الطلاق بطهارة ثوب، هل يرجع إلى الأصل أو إلى عدم وقوع وصفهم أو ما ذا يكون الحكم؟ ". (¬3) من السؤال: وهو قوله: إن طلعت الشمس فأنت طالق. قال ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (33/ 197): وأما التعليق المحض كقوله: إن طلعت الشمس فأنت طالق، ففيه قولان مشهوران لهم، ومذهب الشافعي وأصحاب أحمد في أحد الوجهين ليس بيمين كاختيار القاضي أبي يعلى، ومذهب أبي حنيفة وأصحاب أحمد في الوجه الآخر: هو يمين، كاختيار أبي الخطاب. وقال النووي في " المجموع " (18/ 296): إذا علق الطلاق بشطر لا يستحيل كدخول الدار ومجيء الشهر، تعلق به، فإذا وجد الشرط وقع، وإذا لم يوجد لم يقع. وقال المطيعي في " التكملة " (18/ 297): فإنه إذا علق طلاق امرأته بشرط غير مستحيل لم يقع الطلاق قبل وجود الشرط، سواء كان الشرط يوجد لا محالة، كقوله: إذا طلعت الشمس فأنت طالق، أو كان الشرط قد يوجد ولا يوجد، كقوله: إذا قدم القطار من الإسكندرية فأنت طالق، هذا مذهبنا وبه قال أبو حنيفة والثور. وقال الزهري وابن المسيب والحسن البصري ومالك: إذا علق الطلاق بشرط يوجد لا محالة كمجيء الليل والنهار والشمس والقمر وما أشبههما وقع الطلاق في الحال قبل وجود الشرط.

يقع قبل ذلك، فيحل الوطء في الليل؛ لبقاء النكاح، وعدم حصول شرط الطلاق، وليس هذا من التعليق بممكن ومستحيل حتى يكون الحكم للمكن على ذلك التفصيل المذكور في كتب الفقه، بل هذا باب آخر.

[بحث في الصوم لي وأنا أجزي به] السؤال الثالث: قال - حفظه الله -: المسألة الثالثة قوله: " الصوم لي وأنا أجزي به " (¬1) الحديث، كيف أنه اختص من بين سائر العبادات بالله؟ إن قلنا: كونه عبادة خفية، فالإيمان أخفى، وإن قلنا: أن فيه تصفية للقلب والعقل، فذكر الله تعالى في التصفية أبلغ، وكذلك تلاوة القرآن، وإن قلنا: عبادة لم يعبد بها غير الله، فأهل الملل الأخرى يصومون لاستخدام الأفلاك، وللارتياض ونحو ذلك مما لم يقصد به الباري؟ أفيدوا. انتهى. والجواب أنه قد اختلف في تفسير معنى هذا اللفظ الوارد في الحديث اختلافا طويلا، حتى بلغت الأقوال إلى خمسة وخمسين قولا، أقواها ستة. أحدها: أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصوم فإنه أكثر. هذا سياق الحديث، فإن لفظه في الأمهات (¬2) هكذا: عن أبي هريرة قال: قال رسول ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1904) ومسلم رقم (163، 164/ 1151) وأحمد (2/ 273) والنسائي (4/ 162 - 163) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يصخب. وفي رواية: ولا يجهل. فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة منريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه ". (¬2) أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه رقم (7492)، (5927) و (1894)، (7538) وابن ماجه رقم (16638) وأحمد (2/ 281) (2/ 443، 477) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كل حسنة يعملها ابن آدم بعشر حسنات إلى سبع مائة ضعف، يقول الله: إلا الصوم فهو لي وأنا أجزي به ...... " وله عندهم ألفاظ مختلفة. وقال الحافظ في " الفتح " (4/ 110): عن البيضاوي: والمعنى أن الحسنات يضاعف جزاؤها من عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فلا يضاعف إلى هذا القدر، بل ثوابه لا يقدر قدره ولا يحصيه إلا الله تعالى. ولذلك يتولى الله جزاؤه بنفسه ولا يكله إلى غيره. قال - البيضاوي -: والسبب في اختصاص الصوم بهذه المزية أمران: أحدهما: أن سائر العبادات مما يطلع العباد عليه. والصوم سر بين العبد وبين الله تعالى يفعله خالصا ويعامله به طالبا لرضاه، وإلى ذلك الإشارة بقوله: " فإنه لي ". الآخر: أن سائر الحسنات راجعة إلى صرف المال أو استعمال للبدن، والصوم يتضمن كسر النفس وتعريض البدن للنقصان، وفيه الصبر على مضض الجوع والعطش وترك الشهوات.

الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي ". الثاني: أنه يوم القيامة (¬1) يأخذ خصماؤه جميع أعماله إلا الصوم، فلا سبيل لهم عليه، قال بهذا ابن عيينة (¬2)، وهو محتاج إلى دليل. ¬

(¬1) قال القرطبي في " المفهم " (3/ 212): نقلا عن ابن العربي، قال القرطبي ردا على ذلك بقوله: وقد كنت استحسنته إلى أن فكرت في حديث المقاصة، فوجدت فيه ذكر الصوم في جملة الأعمال المذكورة للأخذ منها، فإنه قال فيه: " هل تدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: المفلس هو الذي يأتي يوم القيامة بصلاة وصدقة وصيام، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وضرب هذا وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من سيئاتهم فطرح عليه، ثم طرح في النار ". وهذا يدل على أن الصوم يؤخذ كسائر الأعمال. [أخرج الحديث احمد (2/ 303، 334) ومسلم رقم (2581) والترمذي رقم (2418). (¬2) قال ابن حجر في " الفتح " (4/ 109): إن ثبت قول ابن عيينة أمكن تخصيص الصيام من ذلك، فقد يستدل له بما رواه أحمد من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة رفعه: " كل العمل كفارة إلا الصوم، الصوم لي وأنا أجزي به ". ثم قال: ولكنه وإن كان صحيح السند فإنه يعارضه حديث حذيفة: " فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصيام والصدقة ..... ". أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1895). قال ابن حجر في الجمع بينهما: حديث حذيفة هذا لا يعارض حديث: " الأعمال كفارة إلا الصوم " لأنه يحمل في الإثبات على كفارة شيء مخصوص وفي النفي على كفارة شيء آخر. وقد حمله المصنف في موضع آخر على تكفير مطلق الخطيئة فقال في باب " الزكاة " باب الصدقة تكفر الخطيئة .: " ويؤيد الإطلاق ما ثبت عند مسلم منحديث أبي هريرة مرفوعا: الصلوات الخمس ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر .... ". وعلى هذا فقوله: " كل العمل كفارة إلا الصيام " يحتمل أن يكون المراد إلا الصيام فإنه كفارة وزيادة ثواب على الكفارة، ويكون المراد بالصيام الذي هذا شأنه ما وقع خالصا سالما من الرياء والشوائب.

الثالث: أن الصوم لم يعبد به غير الله (¬1)، وما عداه من العبادات قد تقرب به إلى غيره، ويعترض عليه بمثل ما ذكره السائل، عافاه الله. ويجاب عنه بأن ذلك ليس على طريقة العبادة، بل هو لقصد تخفيف الأخلاط وتقليلها، كما يفعله أهل الرياضيات، ويزعمون أن أثرا في إدراك الحقائق، ولم يكن في قصدهم التقرب بذلك إلى الكواكب ونحوها. الرابع: أن الصوم صبر (¬2)، فيدخل تحت قوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ ¬

(¬1) قال ابن حجر في " الفتح " (4/ 108): واعترض على هذا بما يقع من عباد النجوم وأصحاب الهياكل والاستخدامات، فإنهم يتعبدون لها بالصيام. وأجيب: بأنهم لا يعتقدون إلهية الكواكب وإنما يعتقد أنها فعالة بأنفسها، وهذا الجواب عندي ليس بطائل؛ لأنهم طائفتان: إحداهما كانت تعتقد إلهية الكواكب وهم من كان قبل ظهور الإسلام، واستمر منهم من استمر على كفره. والأخرى من دخل منهم في الإسلام واستمر في تعظيم الكواكب وهم الذين أشير إليهم. (¬2) ذكره ابن حجر في " الفتح " (4/ 108) وعزاه إلى ابن عيينة أنه قال ذلك، واستدل له بأن الصوم هو الصبر لأن الصائم يصبر نفسه عن الشهوات. قال القرطبي في " المفهم " (3/ 213): قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، وهم الصائمون في أكثر أقوال المفسرين , وهذا ظاهر قول الحسن، غير أنه قد تقدم، ويأتي في غير ما حديث: أن صوم اليوم بعشرة، وأن صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصيام رمضان صيام الدهر، وهذه نصوص في إظهار التضعيف، فبعد هذا الوجه، بل بطل. قال الحافظ ردا على قول القرطبي: " لا يلزم من الذي ذكر بطلانه، بل المراد بما أورده أن صيام اليوم الواحد يكتب بعشرة أيام، وأما مقدار ثواب ذلك فلا يعلمه إلا الله تعالى، ويؤيده أيضًا العرف المستفاد من قوله: " أنا أجزي به " لأن الكريم إذا قال: أنا أتولى الإعطاء بنفسي، كان في ذلك إشارة إلى تعظيم ذلك العطاء وتفخيمه ". انظر: " فتح الباري " (4/ 108) و" المفهم " (3/ 213).

أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬1). ويجاب عن هذا بأنه على تسليم ذلك يشاركه كل ما يصدق عليه أنه صبر. لخامس: أن هذه العبادة لا يمكن إطلاع الغير عليها (¬2)، إنما هي عبادة يؤتمن عليها ¬

(¬1) [الزمر: 10]. (¬2) قال القرطبي في " المفهم " (3/ 212): اختلف في معنى هذا على أقوال: أحدها: أن أعمال بني آدم يمكن الرياء فيها، فيكون لهم، إلا الصيام فإنه لا يمكن فيه إلا الإخلاص؛ لأن حال الممسك شبعا كحال الممسك تقربا، وارتضاه المازوري - في المعلم بفوائد مسلم (2/ 41) - ثم قال المازوري بعد ذلك: وإنما القصد وما يبطنه القلب هو المؤثر في ذلك والصلوات والج والزكاة أعمال بدنية يمكن فيها الرياء والسمعة، فلذلك خص الصوم بما ذكره دونها. ثانيها: أن أعمال بني آدم كلها لهم فيها حظ إلا الصيام، فإنهم لا حظ لهم فيه. قاله الخطابي. قال الحافظ في الفتح (4/ 107): معنى النفي في قوله " لا رياء في الصوم " أنه لا يدخله الرياء بفعله، وإن كان قد يدخله الرياء بالقول، كمن يصوم ثم يخبر، فإن الرياء قد يدخله الرياء من هذه الحيثية، فدخول الرياء في الصوم إنما يقع من جهة الإخبار، بخلاف بقية الأعمال فإن الرياء قد يدخله بمجرد فعلها. ثالثها: أن أعمالهم هي أوصافهم، ومناسبة لأحوالهم إلا الصيام، فإنه استغناء عن الطعام، وذلك من خواص أوصاف الحق سبحانه وتعالى: وذكره الحافظ في الفتح (4/ 108). رابعها: أن أعمالهم مضافة إليهم إلا الصيام، فإن الله تعالى أضافه إلى نفسه تشريفا، كما قال (بيتي، عبادي). قال الحافظ في الفتح (4/ 108): وقال الزين بن المنير: التخصيص في موضع التعميم في مثل هذا السياق لا يفهم منه إلا التعظيم والتشريف. خامسها: أن الأعمال كلها ظاهرة للملائكة، فتكتبها، إلا الصوم، وإنما هو نية وإمساك، فالله يعلمه ويتولى جزاءه، قاله أبو عبيد. قال الحافظ في الفتح (4/ 109): واستند قائله إلى حديث واه جدا أورده ابن العربي في " المسلسلات " ولفظه: " قال الله: الإخلاص سر من سري استودعته قلب من أحب، لا يطلع عليه ملك فيكتبه ولا شيطان يفسده " ويكفي في رد هذا القول الحديث الصحيح في كتابة الحسنة لمن هم بها، وإن لم يفعلها.

العبد بخلاف غيرها. السادس: أن هذه العبادة لا تحصل بها المباهاة لكونها غير ظاهرة الأثر (¬1). واعترض على هذين بما ذكره السائل - كثر الله فوائده - من أن الإيمان بالله أخفى من الصوم. ويجاب عنه بأن الإيمان فعل من أفعال القلوب، لا من أفعال الجوارح، والمقصود هاهنا أعمال الجوارح (¬2)، كما يدل عليه قوله في أول الحديث: " كل عمل ابن آدم " ولكن هذا الاعتراض إنما يتم بعد تسليم أنه لا يصدق على أفعال القلوب أنها أعمال، وفيه نزاع. وعندي جواب لم أجد من تعرض له (¬3)، وهو أن قوله تعالى: " الصوم لي " لا يدل على أن ما عداه من العبادات ليس له إلا بمفهوم اللقب (¬4) , ومفهوم اللقب غير ....... ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة. (¬2) انظر: " فتح الباري " (4/ 109). (¬3) في حاشية المخطوط (تحقيق بكر لم يسبق، جزى الله من أفادنا به خيرا، آمين). (¬4) مفهوم اللقب: هو تعليق الحكم بالاسم العلم نحو قام مزيد، أو اسم نوع، نحو في الغنم زكاة، فلا يدل على نفي الحكم عما عداه، وقد نص عليه الشافعي، كما قاله في البرهان، وقال الأستاذ أبو إسحاق: لم يختلف قول الشافعي وأصحابه فيه. وخالف فيه أبو بكر الدقاق، وبه اشتهر، وزعم ابن الرفعة وغيره أنه لم يقل به من أصحابنا غيره، وليس كذلك. فقد قال سليم في " التقريب ": صار إليه الدقاق وغيره من أصحابنا. قال إمام الحرمين: وقد سفه الأصوليون الدقاق ومن قال بمقالته، وقالوا هذا خروج عن حكم السان، فإن من قال: رأيت زيدا، لم يقتض أنه لم ير غيره قطعا، ولإجماع العلماء على جواز لتعليل والقياس، فهو يقتضي أن تخصيص الربا بالاسم لا يدل على نفيه عما عداه، ولو قلنا به بطل القياس. " البحر المحيط " (4/ 26 - 27).

معمول به (¬1) كما تقرر عند أئمة الأصول، ولم يخالف في ذلك إلا الدقاق (¬2)، والسؤال إنما يرد على فرض أنه يدل على أن سائر العبادات ليست له، وليس الأمر كذلك، فوزانه وزان قول من قال وله من أنواع المال أنواع كثيرة من غنم، وبقر، وخيل، وبغال، وغير ذلك، الغنم لي، أو البقر لي أبيعها كيف شئت، فإن ذلك لا يدل على أن ما عدا الغنم أو البقر لغير، إلا بمفهوم لقبه الساقط (¬3)، وحينئذ لا يحتاج إلى طلب النكتة في تخصيص الصوم بكونه لله، بل المراد أنه لما كان الصوم له تعالى كان له أن يجزي فاعله بأي جزاء شاء، وليس أمر ذلك إلينا كسائر الأمور المتعلقة بالعباد (¬4). ¬

(¬1) قال الزركشي في " البحر المحيط " (4/ 27): إطلاق أن مفهوم اللقب ليس بحجة مطلقا قد استشكل، فإن أصحابنا قد قالوا به في مواضع واحتجوا به. ثم قال: والتحقيق أن يقال: إنه ليس بحجة إذا لم يوجد فيه رائحة التعليل. (¬2) انظر التعليقة رقم (4) في الصفحة السابقة. قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص 602): والحاصل أن القائل به كلا أو بعضا لم يأت بحجة لغوية ولا شرعية ولا عقلية، ومعلوم من لسان لعرب أن من قال: رأيت زيدا، لم يقتض أنه لم ير غيره قطعا، وأما إذا دلت القرينة على العمل به فذلك ليس إلا للقرينة، فهو خارج عن محل النزاع. وانظر: " تيسير التحرير " (1/ 101)، " الكوكب المنير " (3/ 509). (¬3) تقدم التعليق على ذلك. (¬4) في حاشية المخطوط ما نصه: " هذا التوجيه غير منطبق على قوله في الحديث (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي .... ) الحديث. كما لا يخفى على من له أدنى فهم ".

[بحث في اختلاف النقد المتعامل به] السؤال الرابع: قال - حفظه الله - ما لفظه: المسألة الرابعة: ازدياد النقود (¬1)، فاليوم هذا دفع البيع بالقرش حجرا، وصرفه من كذا، واليوم الثاني كذا، فما حكم البيع مع إضمار البائع والمشتري أنه إذا سلم له صرف يوم التسليم، يزيد وإلا نص فهو راض بذلك، هل يكون جائزا، ويكون البيع فاسدا، وما زاد على يوم البيع في الثم هل يلزم الحاكم بالزيادة أم لا , أو يعتبر بيوم العقد أو بيوم التسليم، وهل يكون ذريعة للفسخ أم لا؟ فأفضلوا بالإفادة. انتهى. أقول: هذه المسألة قد عمت بها البلوى، والمخلص منها أن ينظر الحاكم في الثمن الذي وقع به البيع، هل هو قروش فرانصه (¬2)، أو قروش من غير تقييد بكونها فرانصه، ¬

(¬1) قال ابن قدامة في المغني (6/ 60): الجيد والرديء، والتبر والمضروب، الصحيح والمكسور سواء في جواز البيع مع التماثل وتحريمه مع التفاضل، وهذا قول أكثر أهل العلم. منهم، أبو حنيفة والشافعي. وحكي عن مالك جواز بيع المضروب بقيمته من جنسه، وأنكر أصحابه ذلك، ونفوه عنه، وحكى بعض أصحابنا عن أحمد رواية لا يجوز بيع الصحاح بالمكسرة، ولأن الصناعة قيمة، بدليل حالة الإتلاف، فيصير كأنه ضم قيمة الصناعة إلى الذهب. قال ابن قدامة: ولنا قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الذهب بالذهب مثلا بمثل، والفضة بالفضة مثلا بمثل " وهو حديث صحيح - وعن عبادة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " الذهب بالذهب تبرها وعينها، والفضة بالفضة تبرها وعينها " رواه أبو داود، وروى مسلم عن أبي الأشعث أن معاوية أمر ببيع آنية من فضة في أعطيات الناس، فبلغ عبادة فقال: إني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، وروى الأثرم عن عطاء بن يسار أن معاوية باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها. فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل، ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فذكر له ذلك، فكتب عمر إلى معاوية لا تبع ذلك إلا مثلا بمثل وزنا بوزن، ولأنهما تساويا في الوزن، فلا يؤثر اختلافهما في القيمة، كالجيد والرديء ". انظر المجموع (10/ 265). (¬2) المقصود العملة الفضية المعتمدة في ذلك الوقت محورة عن (الفرنسية).

أو قروش من هذه الضربة، فإن كان قروش فرانصه كان الواجب تسليمها فرانصه حسب البيع، ولا يجوز إجبار البائع على قبض ما يقابلها من هذه الضربة عرفا؛ لأنه ربما تعلق بالفرانصه غرض له لا يوجد في غيرها، اللهم (¬1) إلا أن يرضى بأن يأخذ عوضها من هذه الضربة، فالواجب له العوض في الوقت الذي يأخذ العوض فيه، وإن كان زائدا على قدر ما يقابل الفرانصه في وقت البيع؛ لأنه إنما باع بالفرانصه وقبض بعد ذلك ما يقابلها، والاعتبار بوقت القبض (¬2)؛ لأنه قد ثبت له في ذمة المشتري قروش فرانصه إلى وقت قبل العوض، فإذا زاد العوض في وقت القبض على وقت البيع لم يجز إجباره على قبض العوض في وقت البيع؛ لأن الثابت المعوض، لا العوض، فهو بمنزلة من باع دارا مثلا بدار أخرى، فكما أنه يستحق صاحب الدار الأخرى قيمتها وقت التراضي على قبض ¬

(¬1) في حاشية المخطوط ما نصه: " ينظر في المعاطاة، فقد حفظ عن المؤلف - كثر الله فوائده - هذا اللهم إلا أن يكون مع تيقن التساوي، ولعله المراد كما سيأتي إن شاء الله ". (¬2) إذا باع شيئا من مال الربا بغير جنسه، وعلة ربا الفضل فيهما واحدة لم يجز التفرق قبل القبض. فإن فعلا بطل العقد. وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يشترط التقابض فيهما كغير أموال الربا، وكبيع ذلك بأحد النقدين. وقال ابن قدامة في " المغني " (6/ 63 - 64): ولنا قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد ". رواه مسلم، وقال عليه السلام: " فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدا بيد ". وروى مالك بن أوس بن الحدثان، أنه التمس صرفا بمائة دينار قال: يقلبها في يديه، ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة. وعمر يسمع ذلك، فقال: لا والله لا تفارقه حتى تأخذ منه، قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير إلا هاء وهاء ". متفق عليه. والمراد به القبض، بدليل أن المراد به ذلك في الذهب والفضة، ولهذا فسره عمر به، ولأنهما حالان من أحوال الربا علتهما واحدة، فحرم التفرق فيهما قبل القبض كالذهب والفضة، فأما إن اختلفت علتهما كالمكيل بالموزون عند من يعلل بهما فقال أبو خطاب: يجوز التفرق قبل القبض رواية واحدة؛ لأن علتهما مختلفة، فجاز التفرق قبل القبض.

قيمتها، كذلك يستحق البائع بالقروش الفرانصه قيمتها وقت التراضي على قبض قيمتها، فلو قال قائل: إن صاحب الدار الأخرى يجبر على قبض قيمتها وقت البيع مع تيقن زيادة القيمة إلىوقت القبض كان ذبك ظلما بحتا، كذلك مسألة السؤال هذا، إذا كان البيع بالقروش مقيدا بكونها فرانصه، وأما إذا كان البيع بقروش من غير تقييد، فهذا يرجع فيه إلى الأعراف، فإن كان هذا المطلق ينصرف في العرف إلى القروش الفرانصه كأثمان الدور، والعقار، وكثير من المنقولات التي تجري العادة بأن أثمانها قروش فرانصه كان العرف مقيدا لذلك المطلق (¬1)، لما تقرر في الأصول من أن الأعراف صالحة لتقييد ما أطلق في المعاملات، وإن كان العرف جاريا بأن تلك العين التي وقع البيع لها إذا أطلقت القروش انصرفت إلى القروش من هذه الضربة، كما في كثير من المحقرات، وجب الرجوع إلى ذلك، ولا يلزم للبائع إلا قروش من هذه الضربة، فإن كانت القروش العددية من ¬

(¬1) انظر " البحر المحيط " (3/ 426)، " اللمع " (ص 280). والاستعمالات الفقهية للعرف تنحصر في أربعة استعمالات: 1 - العرف الذي يكون دليلا على مشروعية الحكم ظاهرا. 2 - العرف الذي يرجع إليه في تطبيق الأحكام المطلقة على الحوادث. 3 - العرف الذي ينزل منزلة النطق بالأمر المتعارف. 4 - العرف القولي. ضابط ما يعد نقدا بين الناس: معيار النقد بين الناس - على ما يقول علماء الاقتصاد - وهم هنا أهل الخبرة، المطلوب تحكيمهم في مجالهم ومداهم، قالوا: " إن للنقد خصائص متى توفرت في مادة ما اعتبرت هذه المادة نقدا: 1 - أن يكون وسيطا للتبادل. 2 - أن يكون مقياسا لقيم الأشياء. 3 - أن يكون مستودعا للثروة. وعلى ذلك أقرب ما يعرف به النقد هو: " كل شيء يلقى قبولا عاما في العرف واصطلاح الناس، بوصفه وسيطا للتبادل مهما كان ذلك الشيء، وعلى أي حال يكون ".

هذه الضربة مساوية لما تصرف به القروش الفرانصه منها، مثلا إذا جرى العرف بأن القرش العددي ثمانون بقشة، وكان صرف القرش الفرانصي ثمانون بقشة كان البائع مستحقا لما اشتمل عليه العقد من القروش، فيقبض كل قرش ثمانين بقشة، وليس له أن يطلب فرانصه، إلا إذا وقع التراضي، وإن كانت القروش من هذه الضربة عرفا تطلق على ثمانين بقشة مثلا، ولكن صرف (¬1) القرش الفرانصي منها زيادة على ثمانين بقشة كما ¬

(¬1) قال ابن المنذر في " الإجماع " (ص 92) أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد ". ويشترط لصحة الصرف - مع اتحاد الجنس - التماثل والتساوي بين النقدين. والمسائل التي لها بالعرف تعلق هنا في باب الصرف: 1 - ضابط القبض في الصرف. 2 - ضابط التفرق فيه. أما القبض في الصرف فيحصل بأن يسلم كل من المتصارفين البدل الذي بيده للآخر في مجلس العقد، قبل أن يتفرقا، ولو افترقا قبل التقابض بطل عقد الصرف. وأما التفرق فيه، فالمعتبر فيه هنا هو المعتبر في خيار المجلس في البيع، وهو: ما لم يتفرقا عرفا بأبدانهما من مكان التبايع. ومن الفروع المهمة على ذلك: 1 - متى افترق المتصارفان بأبدانهما قبل كل العوض المعقود عليه في الجانبين - جانب البائع وجانب المشتري - بطل العقد. ولو قبض بعض العوض في المجلس، وتفرقا قبل قبض الباقي صح فيما قبض، لوجود شرطه، وبطل في الباقي لفواته. 2 - لا يضر في صحة عقد الصرف طول المجلس قبل القبض، ما دام المتبايعان متلازمين، فلو مشيا مثلا إلى منزل أحدهما مصطحبين لم يتفرقا، فقابضا، أو مشيا إلى الصراف، فتقابضا عنده، صح الصرف؛ لأن المجلس هنا كمجلس الخيار في البيع وهما لم يتفرقا قبل القبض. 3 - إذا وكل عاقدي الصرف شخصا في القبض، صح العقد لأن قبض الوكيل كقبض موكله، لكن العبرة في التفرق لحال الموكل العاقد دون الوكيل، فلو افترق الموكل والعاقد الآخر قبل القبض بطل الصرف سواء فارق الوكيل المجلس أم لا. انظر: " المغني " (6/ 60 - 66، 266).

يتفق ذلك في كثير من الأوقات: كان الواجب الرجوع إلى ما جرى به العرف، وهو الثامنون البقشة لا إلى ما يقابل القروش الفرانصه، وهو الزائد على ذلك، فإن اختلف العرف في مثل المحقرات، فتارة تكون أثمانها قروشا فرانصه، وتارة تكون قروشا عدديةة من هذه الضربة، فلا يخلو إما أن يكون ثم غالب أولا، إن كان ثم غالب كان القول قول من وافقه، وإن لم يكن ثم غالب كان القول قول البائع قبل التسليم؛ لأن المشتري يريد إلزامه بزيادة جنس، أو نوع، أو صفة، أو قدر. وقد صرح بهذا في كتب الفقه كما وقع في الأزهار (¬1) في آخر البيع حيث قال: وفي الثمن لمدعي ما يتعامل به في البلد، ثم قال: وللبائع في قدره وجنسه ونوعه وصفته قبل تسليم المبيع لا بعده، فللمشتري، وأما إذا كان العقد على قروش من هذه الضربة انصرف إليها في العرف، وإذا اختلف العرف كان الأمر كما تقدم. وأما ما ذكره السائل - دامت إفادته - من فساد العقد (¬2)، فلا فساد لعدم وجود صورة من صوره فيما ذكرناه، وأما الفسخ فنعم، يثبت الفسخ لخيار معرفة مقدار الثمن إذا تقررت الجهالة له، وهو أحد الخيارات (¬3) الثلاثة عشر. وفي هذا كفاية. حرره في النصف الأول من ليلة الأحد لعلها ليلة سادس وعشرين شهر الحجة سنة 1213 هـ المجيب محمد الشوكاني. ¬

(¬1) في حاشية المخطوط ما نصه: " ينظر هل حكمه لو شرى بقيمة قدح حنطة ثوبا إلى أجل فإنه مجهول قد .... أم حكمه غير ذلك؟ ". (¬2) في حاشية المخطوط ما نصه: " ينظر هل حكمه لو شرى بقيمة قدح حنطة ثوبا إلى أجل فإنه مجهول قد. أم حكمه غير ذلك؟ ". (¬3) انظر الرسالة رقم (110) من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني هذا.

بحث في من أجبر على الطلاق

بحث في من أجبر على الطلاق تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديث محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " بحث في من أجبر على الطلاق ". 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: " ورد إلينا سؤال من بعض المحلات النائية في رجل أجبره العامل على التلفظ بالطلاق " .... 4 - آخر الرسالة: والمقام محتمل لبسط طويل، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. حرر من تحرير المجيب والمؤلف لهذه النسخة القاضي البدر عز الدين محمد بن علي الشوكاني، حفظه الله ومتع بحياته، وكلأه بعين عنايته. وكان التحرير والإجابة في سنة 1207 هـ. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - عدد الصفحات: 3 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 27 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 16 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

ثم قال حفظه الله ما لفظه: ورد إلينا سؤال من بعض المحلات النائية في رجل أجبره العامل على التلفظ بالطلاق، فتلفظ به بعد أن حبسه وقيده، هل يقع أم لا؟ ولم ينوه، وقد [قيل] (¬1) فيه جوابات مختلفة، وأدلة متباينة. فأجبت بما لفظه: الحمد لله، وقف الحقير محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما - على هذا السؤال، وما عليه من الأجوبة. وأقول: إن كان المسئول عنه كلام أهل المذهب؛ فهم مصرحون بأن الاختيار شرط لنفوذ الطلاق لا يلزم حكمه الآية، وهذا مدون في كتبهم الفقهية، كالأزهار (¬2)، والبيان (¬3)، والبحر (¬4). وهذه مدارس الزيدية في عصرنا الآن. وكذلك وقع التصريح بذلك في سائر كتب الآل وأتباعهم. وقال النخعي , وابن المسيب، والثوري، وعمر بن عبد العزيز، وأبو حنيفة وأصحابه أنه يقع الطلاق من المكره (¬5)، والمذهب الأول هو الراجح عندي (¬6)، لحديث: " لا طلاق في إغلاق " ¬

(¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) (2/ 359 مع السيل الجرار). (¬3) انظر " مؤلفات الزيدية " (1/ 222 - 223). (¬4) (3/ 165 - 166). (¬5) ذكره عنهم ابن قدامة في " المغني " (10/ 350): فقد قال: وأجازه أبو قلابة، والشعبي، والنخعي، والزهري والثوري، وأبو حنيفة وصاحباه؛ لأنه طلاق من مكلف، في محل يملكه فينفذ كطلاق غير المكره. وانظر " البناية في شرح الهداية " (5/ 25). (¬6) قال الشوكاني في " السيل الجرار " (2/ 362): الأقوال والأفعال الصادرة على وجه الإكراه قد دلت أدلة الشرع الكلية والجزئية على أنه لا يترتب عليها شيء من الأحكام؛ فإن الله سبحانه لم يجعل من كفر مكرها كافرا، فقال: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]. وإذا كان الإكراه مبطلا للكفر بالله والإشراك، فما ظنك بغيره. وقال سبحانه: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286]. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: لما دعاه عباده بهذه الدعوات، قال: " قد فعلت " وهو حديث صحيح تقدم. فالمكره لو كلف بما أكره به ويثبت عليه أحكامه لكان قد حمل ما لا طاقة له به، ومن هذا القبيل حديث: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " فإن له طرقا يشهد بعضها لبعض، ولذلك حسنه من حسنه - تقدم - والمراد بالرفع رفع الخطأ بذلك وترتب أحكامه عليه. وهذا المقدار يكفي في الاستدلال على عدم صحة طلاق المكره على تقدير عدم وجودها ما يدل عليه بخصوصه، فكيف وقد دل عليه خصوصا حديث: " لا طلاق ولا عتاق في إغلاق ".

أخرجه أحمد (¬1)، وأبو داود (¬2)، وابن ماجه (¬3) وأبو يعلى (¬4)، والحاكم (¬5) والبيهقي (¬6) من طريق صفية بنت شيبة عن عائشة مرفوعا، وصححه الحاكم (¬7). لا يقال في إسناده محمد بن عبيد بن أبي صالح، وقد ضعفه أبو حاتم الرازي (¬8)؛ لأنا نقول: قد رواه البيهقي (¬9) من طريق ليس هو فيها، وإنما جعلنا هذا الحديث حجة لنا، على ترجيح عدم وقوع طلاق المكره؛ لأن أئمة الغريب قد فسروا الإغلاق بالإكراه. وممن صرح بذلك ابن قتيبة (¬10)، والخطابي (¬11) وابن ................................... ¬

(¬1) في " المسند " (6/ 276). (¬2) في " السنن " رقم (2193). (¬3) في " السنن " (2046). (¬4) في مسنده (7/ 421 رقم 4444) و (8/ 52، 53 رقم 4570). (¬5) في " المستدرك " (2/ 198). (¬6) في " السنن الكبرى " (7/ 357). (¬7) في " المستدرك " (2/ 198). (¬8) في " العلل " (1/ 430 رقم 1292) و (1/ 432 رقم 1300). (¬9) في " السنن الكبرى " (7/ 357). وهو حديث حسن بمجموع طرقه. (¬10) لم أجده في غريب الحديث. (¬11) في " معالم السنن " (2/ 642) قال: الإغلاق: الإكراه، وكان عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم لا يرون طلاق المكره طلاقا.

السيد (¬1). وقال في النهاية (¬2): الإغلاق الإكراه، لأن المكره مغلق عليه في أمره، ومضيق عليه في تصرفه، كما يغلق الباب على الإنسان، وبمثل ذلك قال أبو عبيد (¬3) إمام الغريب. وقال في القاموس (¬4): الإغلاق الإكراه، وضد الفتح. وأما ما روي من أنه الجنون، فهو مع مخالفته لما عليه أئمة اللغة والغريب قد استبعده المطرزي (¬5)، وكذلك ما روي عن أحمد بن حنبل، وأبي داود أنه الغضب مخالف لما وقع به التصريح من أئمة اللغة المعتبرين. وقد رده أيضًا ابن السيد، فقال: لو كان كذلك لم يقع على أحد طلاق؛ لأن أحدا لا يطلق حتى يغضب. انتهى. ومراده بهذه الكلية ما هو الغالب، مبالغة في ذلك؛ لأن أكثر المطلقين يوقعونه في حال الغضب، لا أن كل مطلق كذلك، للقطع بأن الإنسان قد يطلق لحامل غير الغضب، كالكراهة للزوجة، ونحو ذلك. إذا تقرر أن الإغلاق هو الإكراه، فمعنى قوله: لا طلاق في إغلاق: لا طلاق صحيح؛ لأنه أقرب المجازين عن الذات، على أنه يمكن أن يقدر: لا ذات طلاق شرعية؛ لأن الذات الموجودة حال الإكراه غي شرعية، فوجودها كعدمها، وهذا التقدير هو الذي ترجح لدي. وظاهر هذا الحديث أنه لا فرق بين إكراه، بل الاعتبار بما صدق عليه اسم ¬

(¬1) عزاه إليه ابن حجر في " التلخيص " (3/ 425). (¬2) (3/ 379 - 380). (¬3) عزاه إليهما ابن قدامة في " المغني " (10/ 351). وانظر " لسان العرب " (2/ 80). و" المجموع " للنووي (18/ 209). (¬4) (ص 1182). (¬5) ذكره النووي في " المجموع " (18/ 209). وانظر: " تلخيص الحبير " (3/ 425).

الإكراه (¬1)؛ وهذا الدليل ينبغي التعويل عليه. ¬

(¬1) قال ابن قدامة في " المغني " (10/ 351): ولا يكون مكرها حتى ينال بشيء من العذاب، مثل الضرب أو الخنق أو عصر الساق وما أشبهه، ولا يكون التواعد إكراها. أما إذا نيل بشيء من العذاب، كالضرب والخنق، والعصر، والغط في الماء مع الوعيد؛ فإنه يكون إكراها بلا إشكال. لما روي أن المشركين أخذوا عمارا، فأرادوه على الشرك، فأعطاهم، فانتهى إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يبكي، فجعل يمسح الدموع عن عينيه ويقول: " أخذك المشركون فغطوك في الماء، وأمروك أن تشرك بالله، ففعلت، فإن أخذوك مرة أخرى، فافعل ذلك بهم ". انظر: " الطبقات " (3/ 249) و" جامع البيان " للطبري (8 / ج 14/ 181 - 182). وقال عمر رضي الله عنه: ليس الرجل أمينا على نفسه إذا أوجعته أو ضربته أو أوثقته، وهذا يقتضي وجود فعل يكون به إكراها. فأما الوعيد بمفرده، فعن أحمد فيه روايتان: إحداهما: ليس بإكراه لأن الذي ورد الشرع بالرخصة معه، هو ما ورد في حديث عمار، وفيه أنهم " أخذوك فغطوك في الماء " فلا يثبت الحكم إلا فيما كان مثله. الثانية: أن الوعيد بمفرده إكراه. قال في روايه ابن مصور: حد الإكراه إذا خاف القتل، أو ضربا شديدا. وهذا قول أكثر الفقهاء. وبه يقول أبو حنيفة والشافعي. شروط الإكراه: أحدها: أن يكون من قادر بسلطان أو تغلب، كاللص ونحوه. وحكي عن الشعبي: إن أكرهه اللص، لم يقع طلاقه، وإن أكرهه السلطان وقع. قال ابن عيينة: لأن اللص يقتله. قال ابن قدامة: وعموم ما ذكرناه في دليل الإكراه يتناول الجميع , والذين أكرهوا عمارا لم يكونوا لصوصا، وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمار: " إن عادوا فعد " ولأنه إكراه، فمنع وقوع الطلاق، كإكراه اللص. الثاني: أن يغلب على ظنه نزول الوعيد به، إن لم يجبه إلى ما طلبه. الثالث: أن يكون مما يستضر به ضررا كثيرا، كالقتل، والضرب الشديد والقيد، والحبس الطويل. فأما الشتم، والسب فليس بإكراه، رواية واحدة. وكذلك أخذ المال اليسير، فأما الضرب اليسير، فإن كان في حق من لا يبالي به فليس بإكراه، وإن كان في بعض ذوي المروءات على وجه يكون إخراقا بصاحبه، وغضا له، وشهرة في حقه فهو كالضرب الكثير في حق غيره. وإن توعد بتعذيب ولده، فقد قيل: ليس بإكراه لأن الضرر لاحق بغيره، والأولى أن يكون إكراها لأن ذلك عنده أعظم من أخذ ماله , والوعيد بذلك إكراه. " المغني " (10/ 352 - 353)، " المجموع " (18/ 209 - 210).

وأما الاحتجاج بقوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (¬1) وبقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " وما استكرهوا عليه " (¬2) كما وقع في البحر (¬3) وغيره، فمما لا ينبغي التعويل عليه في المقام (¬4)، لمناقشات ليس هذا محل بسطها. وقد ذهب إلى عدم الوقوع لطلاق المكره جماعة من الصحابة، منهم: علي - عليه السلام - وعمر، وابن عباس وابن عمر، وابن الزبير - رضي الله عنهم - وجماعة ممن بعدهم، منهم: الحسن البصري، وعطاء، ومجاهد وطاووي، والأوزاعي، والحسن بن صالح. ومن الفقهاء: مالك، والشافعي. ومن أهل البيت القاسمية، والناصر، والمؤيد بالله، وغيرهم (¬5). وقد احتج القائلون بأنه يقع بحجج، منها قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " ثلاث هزلهن جد (¬6) ..... " الحديث. وهو خارج عن محل النزاع , ومنها قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " كل طلاق واقع إلا طلاق المعتوه، والصبي " (¬7) ويجاب ¬

(¬1) [البقرة: 256]. (¬2) تقدم تخريجه مرارا وهو حديث صحيح. (¬3) (3/ 165 - 166). (¬4) تقدم تعليق الشوكاني على ذلك في " السيل الجرار " (2/ 362). (¬5) عزاه إليهم ابن قدامة في " المغني " (10/ 350) والنووي في " المجموع " (18/ 209). والعيني في " البناية في شرح الهداية " (5/ 25 - 26). وانظر: تفصيل ذلك في " الفتح " (9/ 388 - 391). (¬6) أخرجه أبو داود رقم (2194) والترمذي رقم (1184) وابن ماجه رق (2039) والحاكم في " المستدرك " (2/ 197 - 198). وقال: حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي بقوله: عبد الرحمن بن حبيب بن أردك: فيه لين. وهو حديث حسن. انظر " الإرواء " رقم (1826). (¬7) أخرجه الترمذي في " السنن " رقم (1191) وقال: هذا حديث لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث عطاء بن عجلان وعطاء بن عجلان ضعيف، ذاهب الحديث، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيرهم، أن طلاق المعتوه المغلوب على عقله لا يجوز، إلا أن يكون معتوها يفيق بعض الأحيان، فيطلق في حال إفاقته. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه والمغلوب على عقله ". وقال ابن حجر في " الفتح " (9/ 393): وفيه عطاء بن عجلان، ضعيف جدا. وأخرجه بلفظ المصنف ابن أبي شيبة في " المصنف " (5/ 31) و (5/ 48).

عنه بأن عمومه مخصص بحديث: " لا طلاق في إغلاق " (¬1) ومنها قصة المرأة التي أخذت المدية، ووضعتها في نحر زوجها، وقالت: إن لم تطلقني نحرتك، فسأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بعد إيقاعه للطلاق في تلك الحال، فقال له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا قيلولة " أخرجه العقيلي (¬2). ويجاب عنه أولا بأن في إسناده صفوان بن عمران (¬3) وقد تفرد به، وهو غير حجة إذا تفرد، وثانيا بأن الحديث على فرض صحته لا يقوى على معارضة حديث: " لا طلاق في إغلاق " (¬4) فيجمع بينهما بحمله على من نوى الطلاق عند الإكراه. وثالثا بأنه معارض بما أخرجه سعيد بن منصور (¬5)، وأبو عبيد القاسم بن سلام (¬6) أن ¬

(¬1) تقدم تخريجه آنفا، وهو حديث حسن. (¬2) في " الضعفاء " (2/ 211، 212). (¬3) ذكره ابن أبي حاتم في " العلل " (1/ 436 رقم 1312) عن أبي زرعة وأنه واه جدا. انظر: " تلخيص الحبير " (3/ 436). (¬4) تقدم تخريجه آنفا، وهو حديث حسن. (¬5) في سننه (1/ 274، 275). (¬6) في غريب الحديث (3/ 322). قال ابن قدامة في " المغني " (1/ 352): بعد أن تكلم عن حد الإكراه: لأن الإكراه لا يكون إلا بالوعيد، فإن الماضي من العقوبة لا يندفع بفعل ما أكره عليه، ولا يخشى من وقوعه، إنما أبيح له فعل المكره عليه دفعا لما يتوعده به من العقوبة فيما بعد، وهو في الموضعين واحد، ولأنه متى توعده بالقتل، وعلم أنه يقتله فلم يبح له الفعل، أفضى إلى قتله وإلقائه بيده إلى التهلكة، ولا يفيد ثبوت الرخصة بالإكراه شيئا، لأنه إذا طلق في هذه الحال، وقع طلاقه، فيصل المكره إلى مراده، ويقع الضر بالمكره، وثبوت الإكراه في حق من نيل بشيء من العذاب لا ينفي ثبوته في حق غيره، وبعد ذلك ذكر حديث عمر المتقدم.

رجلا على عهد عمر بن الخطاب تدلى ليشتار عسلا، فأقبلت امرأته فجلست على الحبل، فقالت: ليطلقها ثلاثا، وإلا قطعت الحبل، فذكرها الله والإسلام فأبت، فطلقها ثلاثا، ثم خرج إلى عمر، فذكر ذلك له فقال: ارجع إلى أهلك فليس هذا بطلاق، ولم ينقل أنه خالفه أحد من الصحابة، فكان قوله ذلك منزلا منزلة الإجماع، وليس هذا من معارضة المرفوع بالموقوف، بل من معارضة الحديث الضعيف بما يدل على الإجماع، ولو كان عند الصحابة سنة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ما خالفوها، ولا سكتوا عن ذلك. وقد أخرج البخاري (¬1) عن علي - عليه السلام - وابن عباس أنهما قالا: ليس على مكره طلاق. وكذا أخرج عنهما ابن أبي شيبة. ولكنه لا ينبغي قبول كل من قال: إنه مكره؛ فإن من الناس من إذا بانت منه زوجته جاء بالمعاذير الباطلة، وتطلب التحيلات الفاسدة. ومعظم مقصوده رجوعها إليه، على أي وجه كان، وإن ارتطم في الحرام، ثم ارتطم، فينبغي أن يبحث عن صحة دعواه، ولا يعمل بمجرد ما يظهر من فحواه، والمقام محتمل لبسط طويل، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. ¬

(¬1) في صحيحه (9/ 388 الباب رقم 11) تعليقا: باب الطلاق في الإغلاق والمكره والسكران والمجنون، وأمرهما والغلط والنسيان في الطلاق والشرك، وغيره، لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى ". تقدم تخريجه. قال ابن حجر في " الفتح " (9/ 389): " اشتملت هذه الترجمة على أحكام يجمعها أن الحكم إنما يتوجه على العاقل المختار العامد الذاكر، وشمل ذلك الاستدلال بالحديث لأن غير العاقل المختار لا نية له فيما يقول أو يفعل، وكذلك الغالط والناسي والذي يكره على الشيء .... ".

حرر من تحرير المجيب والمؤلف لهذه النسخة القاضي البدر عز الدين محمد بن علي الشوكاني، حفظه الله ومتع بحياته، وكلأه بعين عنايته. وكان التحرير والإجابة في سنة 1207 هـ.

بحث فيمن قال امرأته طالق ليقضين غريمه إن شاء الله، ولم يقضه

بحث فيمن قال امرأته طالق ليقضين غريمه إن شاء الله، ولم يقضه تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " بحث فيمن قال: امرأته طالق ليقضين غريمه إن شاء الله ولم يقضه ". 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: ورد إلي سؤال في شهر شوال سنة 1207 هـ حاصله: ما الراجح عنكم فيمن قال امرأته طالق .... 4 - آخر الرسالة: فهو فاسد الاعتبار لأن المنهي عنه لا يعتقد. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. وإن كان المقام بسط طويل. كتبه: محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 4 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 25 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة. 9 - الناسخ: المؤلف محمد بن علي الشوكاني. 10 - الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

[بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد له وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الراشدين، وبعد، فإنه:] (¬1). ورد إلي سؤال في شهر شوال سنة (1207 هـ) حاصله: " ما الراجح عندكم فيمن قال امرأته طالق ليقضين غريمه غدا - إن شاء الله - وحلف بالله ليقضينه غدا - إن شاء الله - ولم [يقضه] (¬2). فهل يقع الطلاق، ويحنث في يمينه، أم يكون التعليق بالمشيئة مقتضيا لمنع الكلام عن النفوذ، أم يكون التعليق بالمشيئة مرادا به مشيئة القسر والإلجاء، فمتى لم يقع لم يحنث، أم المراد بالتعليق بالمشيئة التسهيل من الله للأسباب ودفع العوائق، أم التعليق بذلك جار مجرى التعليق بسائر الشروط؟ فإن كان الأمر الذي تعلق به مما يعلم أن الله يريده ويشاؤه لزمه حكم الطلاق والحنث، وإلا فلا، فما هو الحق؟ وما الدليل على كل قول من هذه الأقوال؟ اهـ. ¬

(¬1) زيادة من المخطوط (ب). (¬2) في (ب): (يقض).

فأجبت بما لفظه: اعلم أن كلام أهل المذهب في كتبهم (¬1) الفروعية بأن الطلاق واليمين يتقيدان بالمشيئة الإلهية، ويعتبر ما يظهر للبشر من إرادته تعالى في مجلس الطلاق أو اليمين على حسب التفاصيل المذكورة في كتب الفقه. وفي مسألة التعليق بالمشيئة كلام طويل الذيول، وخلاف منتشر قد أشار السائل إلى طرف منه، فلنقتصر على بيان حجج ما ذكره السائل من الأقوال، فنقول: أما من قال: إن التعليق بالمشيئة يقتضي منع الكلام عن النفوذ فلا يقع طلاق ولا عتاق، فدليله عدم إمكان الوقوف على المشيئة الإلهية على التحقيق، فيتعين البقاء على الأصل حتى تظهر حقيقة الأمر، وهي لا تظهر إلا بإخبار الله لنا عن ذلك، وإخباره لنا لا يكون إلا على لسان نبي أو ملك، وذلك ممتنع بعد انسداد باب النبوة، ويدل أيضًا على عدم لزوم اليمين المعلقة بمشيئة الله على الخصوص ما أخرجه الأربعة (¬2)، وابن حبان (¬3) وصححه، من حديث ابن عمر قال: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله، فقد استثنى " (¬4) وفي رواية (¬5): " من حلف على يمين فاستثنى، فإن، فإن شاء فعل، وإن شاء ترك غير حنث ". ولفظ الترمذي (¬6): " من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله، فلا حنث عليه ". وأخرج .......................................................................... ¬

(¬1) انظر " البحر الزخار " (3/ 199) و" الأزهار " (2/ 373 مع " السيل الجرار "). (¬2) أخرجه الترمذي رقم (1542) وابن ماجه رقم (2104) والنسائي رقم (3855). (¬3) في صحيحه (10/ 183 رقم 4341). (¬4) عند النسائي في السنن (7/ 30). (¬5) من حديث أبي هريرة انظر التعليقة السابقة. (¬6) في السنن (1532).

الترمذي (¬1) والنسائي (¬2) من حديث أبي هريرة مرفوعا: " من حلف، فقال: إن شاء الله، لم يحنث ". وأخرج أبو داود (¬3) من حديث ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " والله لأغزون قريشا، ثم سكت ن ثم قال: إن شاء الله، ثم لم يغزهم ". فهذه الأحاديث تدل على أن اليمين المعلقة بمشيئة الله تعالى لا ينعقد، وإليه ذهب الجمهور (¬4)، وادعى القاضي أبو بكر ابن العربي (¬5) الإجماع على ذلك، فقال: أجمع المسلمون على أن قوله: إن شاء الله، يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلا ". وأما الاستثناء في الطلاق فذهب الجمهور (¬6) إلى أنه مانع منه، ومثله العتق والظهار، والنذر، والإقرار، ونحو ذلك. وقال مالك (¬7) والأوزاعي: لا ينفع الاستثناء إلا في الحلف بالله دون غيره، واستقواه ابن العربي. وذهب ................................................................. ¬

(¬1) في " السنن " رقم (1532). (¬2) في " السنن " (7/ 30). (¬3) في " السنن " رقم (3286) وهو حديث ضعيف. وقال أبو داود: أنه قد أسنده غير واحد عن ابن عباس وقد رواه البيهقي في السنن الكبرى (10/ 48) موصولا ومرسلا. ويؤيد هذه الأحاديث ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3424 و6639) ومسلم رقم (23/ 1654) من حديث " أن سليمان بن داود قال: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة " الحديث، وفيه: فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو قال: إن شاء الله، لم يحنث. (¬4) انظر: " المغني " (10/ 473) و" المجموع للنووي " (18/ 293). (¬5) انظر " تحفة الأحوذي " (7/ 13). (¬6) انظر: " المغني " (10/ 472). (¬7) ذكره النووي في " المجموع " (18/ 293).

أحمد (¬1): إلى أنه لا يمنع العتق، ويمنع غيره من الطلاق ونحوه، واحتج بما ورد في ¬

(¬1) قال أحمد في رواية جماعة: فإن قال: أنت طالق إن شاء الله تعالى، طلقت زوجته، وكذلك العتاق. وهو قول طاوس، والحكم وأبي حنيفة، والشافعي؛ لأنه علقه على مشيئة لم يعلم وجودها، فلم يقع، كما لو علقه على مشيئة زيد. وقد قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله، لم يحنث " رواه الترمذي وقال: حديث حسن. وذكره ابن قدامة في " المغني " (10/ 472). قال الشافعي: " لو قال: إن شاء الله، لم يقع، والاستثناء في الطلاق والعتق والنذور كما هو في الأيمان ". " مختصر المزني " (ص 194)، " الحاوي الكبير " (13/ 132). قال الماوردي: إذا علق طلاقه أو عتقه أو يمينه أو نذره أو إقراره بمشيئة الله تعالى، لم يلزمه شيء من ذلك، وكذلك جميع عقوده، وارتفع حكم الطلاق والعتق والأيمان والنذور والإقرار والعقود. " الحاوي الكبير " (13/ 123). وقال مالك: تقع بمشيئة الله حكم الأيمان بالله تعالى ولا يرتفع ما سوى الأيمان بالله من الطلاق والعتق والنذور والإقرار، وبه قال الزهري والليث بن سعد. " المجموع " للنووي (18/ 293)، " الحاوي الكبير " (13/ 123). قال الماوردي: في " الحاوي الكبير " (13/ 123): " .... فمشيئة الله ترفع حكم كل قول اتصل بها من طلاق وغيره، سواء تقدمت المشيئة أو تأخرت أو توسطت. فلو قال: أنت طالق إن شاء الله، أو: أنت إن شاء الله طالق، أو: إن شاء الله أنت طالق، فلا طلاق ". قال ابن قدامة في " المغني " (10/ 472 - 473): ولنا ما روى أبو جمرة قال: سمعت ابن عباس يقول: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن شاء الله. فهي طالق. رواه أبو حفص بإسناده، وعن أبي بردة نحوه، وروى ابن عمر وأبو سعيد ن قالا: كنا معاشر أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نرى الاستثناء جائزا في كل شيء إلا في العتاق والطلاق، ذكره أبو الخطاب. وهذا نقل للإجماع، وإن قدر أنه قول بعضهم فانتشر ولم يعلم له مخالف، فهو إجماع، ولأنه استثناء يرفع جملة الطلاق، فلم يصح، كقوله: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا، ولأنه استثناء حكم في محل، فلم يرتفع بالمشيئة كالبيع والنكاح، ولأنه إزالة ملك، فلم يصح تعليقه على مشيئة الله كما لو قال: أبرأتك إن شاء الله، أو تعليق على ما لا سبيل إلى علمه، فأشبه تعليقه على المستحيلات، والحديث لا حجة لهم فيه، فإن الطلاق والعتاق إنشاء، وليس بيمين حقيقة، وإن سمي بذلك فمجاز، لا تترك الحقيقة من أجله، ثم إن الطلاق إنما سمي يمينا إذا كان معلقا على شرط يمكن تركه وفعله، ومجرد قوله: أنت طالق. ليس بيمين حقيقة، ولا مجازا، فلم يمكن الاستثناء بعد يمين. وقولهم علقه على مشيئة لا تعلم. قلنا: قد علمت مشيئة الله الطلاق بمباشرة الآدمي سببه. قال قتادة: قد شاء الله حين أذن أن يطلق , ولو سلمنا أنها لم تعلم، لكن قد علقه على شرط يستحيل علمه، فيكون كتعليقه على المستحيلات، يلغو، ويقع الطلاق في الحال.

حديث مرفوع، من حديث ابن عباس عند البيهقي (¬1): " إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، لم تطلق. وإن قال لعبده: أنت حر إن شاء الله، فإنه حر ". قال البيهقي (¬2): تفرد به حميد بن مالك، وهو مجهول، واختلف عليه في إسناده، قال في " التلخيص " (¬3): وفي إسناده إسحاق ابن أبي يحيى الكعبي. وقال الحسن (¬4)، وقتادة، وابن أبي ليلى: إن الاستثناء يمنع الجميع إلا الطلاق. قالوا: لأن الطلاق لا تحله الكفارة، وهي أغلظ على الحالف من النطق بالاستثناء، وقد عرفت ما ذهب إليه أهل المذهب في أول البحث. وذهب المؤيد (¬5) بالله إلى أنه إذا قال: أنت طالق إن شاء الله، إن الطلاق يقع بكل ¬

(¬1) في " السنن الكبرى " (7/ 360). (¬2) في " السنن الكبرى " (7/ 361). (¬3) (3/ 40). (¬4) ذكره الماوردي في " الحاوي الكبير " (13/ 124) وابن قدامة في " المغني " (10/ 472). قال الماوردي في " الحاوي الكبير " (13/ 133): وأما الجواب عن استدلالهم، بأن الاستثناء بمشيئة الله كالكفارة في رفع اليمين بهما، فهو: أن الاستثناء رافع لليمين، والكفارة غير رافعة، لأن الاستثناء يمنع من انعقاد اليمين، والكفارة لا تجب إلا بالحنث بعد انعقاد اليمين، فافترقا. وانظر " الفتح " (11/ 604). (¬5) انظر " ضوء النهار " (3/ 917).

حال؛ لأن معناه إن بقاني الله وقتا أتمكن فيه من الطلاق. ثم اعلم أن الطلاق المسؤول عنه خارج مخرج اليمين، بدليل اللام في قوله: ليقضينه. وقد اختلف فيه أهل العلم على فرض عدم تعليقه بمشيئة الله تعالى، فذهب جماعة من أهل العلم، منهم الظاهرية، وبعض المالكية في بعض الصور، وبعض الشافعية في بعضها أيضًا إلى أنه لا يلزم الطلاق. وإلى ذلك ذهبت الإمامية. وقد روى عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد بن علي اليمني المعروف بابن بريدة في شرحه لأحكام عبد الحق عن علي (¬1) - عليه السلام - وشريح، وطاووس، أنه لا يلزم من حلف بالطلاق والعتاق والمشي وغير ذلك شيء، ولا يقضى بالطلاق على من حلف به فحنث، ولا يعرف لعلي - عليه السلام - مخالف في الصحابة ". انتهى. وحكى ابن القيم في أعلام الموقعين (¬2) " عن عليه - عليه السلام - أنه أفتى الحالف بالطلاق أنه لا شيء عليه؛ قال: ولا يعلم له من الصحابة مخالف ". انتهى. وروى عبد الرزاق (¬3) عن طاوس أنه قال: ليس الحلف بالطلاق شيئا. وصح عن عكرمة (¬4) من رواية سنيد في تفسيره أنه من خطوات الشيطان، لا يلزم به شيء. وصح عن ابن مسعود (¬5) وشريح أنه لا يلزم بها الطلاق، كما قال ابن القيم. ¬

(¬1) انظر " أعلام الموقعين " (3/ 58)، " فتح الباري " (11/ 603). (¬2) (3/ 58 - 59). (¬3) ذكره ابن القيم في " أعلام الموقعين " (3/ 60). (¬4) انظر: أعلام الموقعين " (3/ 60). وعزاه إليه الحافظ في " الفتح " (11/ 603). (¬5) ذكره ابن القيم في " أعلام الموقعين " (3/ 60). وانظر: " فتح الباري " (11/ 603).

في أعلام الموقعين (¬1) ما لفظه: " فصل:: ومن هذا الباب اليمين بالطلاق والعتاق، فإن إلزام الحالف بهما إذا حنث بطلاق زوجته وعتق عبده مما حدث الإفتاء به بعد انقراض عصر الصحابة، فلا يحفظ عن صحابي في صيغة القسم إلزام الطلاق أبدا ". انتهى. إذا تقرر لك هذا علمت أن أرجح المذاهب وأولاها عدم وقوع الطلاق الخارج مخرج اليمين على فرض تجرده عن التعليق بالمشيئة من الله، وأما مع التعليق بها فعدم الوقوع أولى لما سلف، وكذلك يظهر لك عدم لزوم حكم اليمين المعلقة بمشيئة الله تعالى للأدلة المتقدمة، فهذه حجج القول الأول، أعني قول من قال: إن التعليق بالمشيئة يمنع الكلام من النفوذ (¬2). وأما من قال: إن المشيئة المعلق بها هي مشيئة القسر والإلجاء، فإذا لم يقع ما حلف به لم يحنث، فاحتج بأن الله تعالى لو كان يشاء وقوع الطلاق أو اليمين لما منع عن وقوع ¬

(¬1) (3/ 59). (¬2) قال الشوكاني في " السيل الجرار " (2/ 373 - 374): قد جاءت لسنة الصحيحة بأن التقيد بالمشيئة يوجب عدم وقوع ما علق بها، كمن حلف ليفعلن كذا إن شاء الله، فإنه لا يلزمه حكم اليمين في هذا أو غيره، فالمعلق للطلاق بالمشيئة: إن أراد هذا المعنى لم يقع من الطلاق، وإن أراد الطلاق إن كان الله سبحانه يشاؤه في تلك الحال، فإن كان ممسكا بها بالمعروف وهي مطيعة له فالله سبحانه لا يشاء طلاقها. وإن كان غير ممسك بالمعروف فقد أراد الله سبحانه منه في تلك الحالة أن يسرحها بإحسان كما قال في كتابه العزيز، فمراده هو ما في كتابه من التخيير بين الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان. وإن أراد ما يريده غالب الناس من لفظ التقييد بالمشيئة، فإنهم يريدون تأكيد وقوع ما قيدوه بها في الإثبات وتأكيد عدم وقوع ما قيدوه بها في النفي - وقع الطلاق المقيد بالمشيئة لأنه قد أراد به الفرقة بعبارة مؤكدة. وقال الحافظ في " الفتح " (11/ 603): واتفقوا على ن من قال: لا أفعل كذا إن شاء الله، إذا قصد التبرك فقط ففعل، يحنث، وإن قصد الاستثناء فلا حنث عليه.

مشيئته مانع، فيلجأ المكلف إلى فعل سبب الطلاق والعتاق، فمهما لم يفعل الحالف السبب يعرف أن الله لا يشاء الوقوع، ولكن التخصيص بمشيئة القسر والإلجاء غير ظاهر، ويلزم منه حمل ما أطلق من مشيئته تعالى على ذلك، وهو باطل عقلا ونقلا. وأما من قال: إن التعليق بالمشيئة بمنزلة إرادة تسهيل الأسباب، ودفع العوائق، فحجته أن الله إذا كان مريدا للسبب يسره للعبد وسهله، وأزال الموانع، فإذا لم يحصل التسهيل والتيسير، وحالت دون السبب الموانع تبين أن الله لا يشاء ذلك الأمر المعلق بالمشيئة، وهذا يؤول إلى المذهب الذي قبله، وفيه ما فيه. نعم، إن أراد الحالف بالتقييد بالمشيئة هذا المعنى، أعني التسهيل عند التلفظ بها كان له وجه، وأما إذا أراد نفس المشيئة، واستدل بالتيسير والتعسير على الحصول وعدمه، فبعيد جدا. وأما قول من قال: إنه يعتبر في المشيئة وعدمها العلم بأن الله يريد ذلك أو لا يريده، فقال: يعرف ذلك بأدلة أخرى، مثلا إذا كان طلاق زوجته (¬1) محظورا أو مكروها، فالله - جل جلاله - لا يريد طلاقها، وإن كان واجبا أو مندوبا فالله - جل جلاله - يريد ذلك، وكذلك اليمين على فعل أمر أو تركه، إن كان الله مثلا مريدا لحصول ذلك الأمر، كأن يكون خيرا، وقعت اليمين على الفعل، ولم تقع على الترك، وإن كان شرا لم تقع ¬

(¬1) قال الحافظ في " الفتح " (9/ 346): الطلاق في اللغة حل الوثاق، مشتق من الإطلاق، وهو الإرسال والترك، وفلان طلق اليد بالخير، أي كثير البذل. وفي الشرع: حل عقدة التزويج فقط، وهو موافق لبعض أفراد مدلوله اللغوي. قال إمام الحرمين: هو لفظ جاهلي ورد الشرع بتقريره. ثم الطلاق قد يكون حراما أو مكروها أو واجبا أو مندوبا أو جائزا. أما الأول: ففيما إذا كان بدعيا، وله صور. وأما الثاني: ففيما إذا وقع بغير سبب مع استقامة الحال. وأما الثالث: ففي صور، منها: الشقاق، إذا رأى ذلك الحكمان. وأما الرابع: ففيما إذا كانت غير عفيفة. وأما الخامس: فنفاه النووي، وصوره غيره إذا كان لا يريدها ولا تطيب نفسه أن يتحمل مؤنتها من غير حصول غرض الاستمتاع.

على الفعل، وتقع على الترك. فهذا وإن كان أقوى من المذهبين اللذين قبله لكنه مرجوح باعتبار المذهب الذي سردنا أدلته لما قدمنا من الأحاديث المصرحة بأن اليمين إذا علقت بالمشيئة لم يكن لها حكم من الأصل؛ وهي أخص مطلقا من الأدلة القاضية بلزوم حكم الأيمان، فيبنى العام على الخاص. وأيضا نرد على هذا المذهب الأخير، أنا لو سلمنا إمكان الاستدلال على مشيئة الله تعالى فيما كان فعله راجحا كالواجب والمندوب، وما كان فعله مرجوحا كالمحظور والمكروه، لم يمكن معرفة المشيئة في المستوي، كالمباح، وكذلك الملتبس لأمر من الأمور، كتعارض الأدلة ونحوها، لا يقال: قد وقع الطلاق المشروط فيلزم وقوع الطلاق الخارج مخرج اليمين، لأنا نقول: أولاً: في وقوع الطلاق (¬1) المشروط نزاع طويل بين الصحابة والتابعين ومن بعدهم من العلماء. وثانيًا: إنه إنما وقع المشروط عند من قال به؛ لأن الشرط قيد للجزاء، والطلاق الخارج مخرج اليمين ليس كذلك، فإنه ليس قيدا لحكم جوابه، بل هو مؤكد له، فلو وقع لوقع قبل الجواب، لأنه مطلق لا مقيد، وكذا جوابه ليس قيدا له، بدليل وجوب الكفارة عند انتفاء جوابه. وثالثًا: إن قياس الطلاق الخارج مخرج اليمين على الطلاق المشروط (¬2) بعد تسليم ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (105) من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني هذا. (¬2) قال الماوردي في " الحاوي الكبير " (13/ 133): وأما الجواب عن قياسهم على تعليق طلاقها بصعود السماء، فهو: أن أصحابنا قد اختلفوا في وقوعه على وجهين: أحدهما: لا يقع، لأنه مقيد بشرط لم يوجد، فأشبه غيره من الشروط التي توجد، ألا تراه لو قال: أنت طالق إن شاء زيد، وزيد ميت، لم تطلق، وإن كان مقيدا بشرط لم يوجد، فعلى هذا يبطل الاستدلال به. الوجه الثاني: أن الطلاق يقع والشرط يلغى لاستحالته، وأنه في الكلام لغو وليست مشيئة الله مستحيل، ولا الكلام بها لغو، بل قد أمر الله تعالى بها وندب إليها، بقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24].

صحة القياس قياس في مقابلة النهي الصحيح عن الحلف بغير الله (¬1)، فهو فاسد الاعتبار؛ لأن المنهي عنه لا ينعقد. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، وإن كان المقام مقام بسط طويل. كتبه: محمد علي الشوكاني، غفر الله لهما. ¬

(¬1) منها: ما أخرجه البخاري رقم (6108) ومسلم رقم (3/ 1646) من حديث ابن عمر " أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع عمر وهو يحلف بأبيه فقال: إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله، أو ليصمت ". وأخرج مسلم في صحيحه رقم (4/ 1646): " ومن كان حالفا فلا يحلف إلا بالله ". وأخرج أبو داود رقم (3251) والترمذي رقم (1535) وقال: حديث حسن من حديث سعد بن عبيدة عن ابن عمر " من حلف بغير الله فقد كفر ". وانظر: " المغني " (10/ 473)، " الحاوي " (13/ 134).

بحث في الطلاق الثلاث مجتمعة هل يقع أم لا؟

بحث في الطلاق الثلاث مجتمعة هل يقع أم لا؟ تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد بن صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " بحث في الطلاق الثلاث مجتمعة هل يقع أم لا؟ ". 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن وقوع الثلاث التطليقات بكلمة واحدة أو كلمات من دون تخلل. 4 - آخر ما وجد من الرسالة: " قلنا حديث في غاية السقوط لأن يحيى بن العلاء ضعيف من المرتبة الرابعة ". 5 - نوع الخط: خط رقعة جيد. 6 - عدد الصفحات: صفحتان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 21 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة. 9 - حصلنا على هذا الجزء من الرسالة من الهند بواسطة الأخ الفاضل عادل حسن أمين جزاه الله خيرا. 10 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن وقوع الثلاث التطليقات بكلمة واحدة أو كلمات من دون تخلل. وقد اختلف أهل العلم فيها على أربعة أقوال: الأول: وقوع جميعها، وهو مذهب الأئمة (¬1) وجمهور العلماء، وكثير من الصحابة وفريق من أهل البيت. الثاني: عدم الوقوع مطلقا، لا واحدة , ولا ما فوقها؛ لأنه بدعة محرمة، وهذا المذهب حكاه ابن حزم (¬2)، وحكى الإمام أحمد (¬3) ما يكفي، وقال ك هو مذهب الرافضة. قلت: بل هو مذهب جماعة من التابعين (¬4) كما حكاه الليث، ومذهب ابن علية، وهشام بن الحكم، وجميع الإمامية. ومن أهل البيت - عليهم السلام - الباقر، والصادق، والناصر. وبه قال أبو عبيدة (¬5)، وبعض الظاهرية؛ لأن هؤلاء قالوا: إن الطلاق البدعي لا يقع والثلاث بلفظ واحد أو ألفاظ متتابعة لا يقع. الثالث: وقوع الثلاث إن كانت المطلقة مدخولة، وواحدة إن لم يكن كذلك، وهذا مذهب جماعة من أصحاب ابن عباس، وإسحاق بن راهوية (¬6). ¬

(¬1) ذكره ابن قدامة في " المغني " (10/ 334). (¬2) في " المحلى " (10/ 167). (¬3) انظر " المغني " (10/ 334 - 335). (¬4) انظر " مجموع الفتاوى " (33/ 8 - 9). (¬5) انظر " فتح الباري " (9/ 362 - 363). (¬6) عزاه إليه ابن حجر في " الفتح " (9/ 363).

الرابع: أنه يقع واحدة رجعية من غير فرق المدخول بها وغيرها، وهذا مذهب ابن عباس على الأصح (¬1)، وابن إسحاق (¬2)، وعطاء (¬3) وعكرمة، وأكثر أهل البيت عليهم السلام، وهو أصح هذه الأقوال. ولنشرع الآن في سرد أدلته، ونشير إلى أدلة الأقوال المتقدمة في أثناء المقاولة، إشارة تلم بجميعها ميلا إلى الاختصار. فنقول: من أدلة ذلك قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬4) أي الطلاق الذي لكم فيه رجعة بشهادة السبب، وهو ما أخرجه الترمذي (¬5) وابن مردويه (¬6)، والحاكم (¬7) وصححه، والبيهقي في سننه (¬8)، من طريق هشام عن عروة عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان الرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها، وهي امرأته إذا ارتجعها، وهي في العدة، وإن طلقها مائة مرة أو أكثر، حتى قال رجل: والله لأطلقنك فتلبثي، ولأوذينك، قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك، فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة، فأخبرتها، فسكتت، حتى جاء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته فسكت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى نزل القرآن: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬9) قالت عائشة - رضي الله عنها -: فاستأنف الناس الطلاق مستقبلا، من كان طلق ومن لم يطلق. ¬

(¬1) عزاه إليه ابن حجر في " الفتح " (9/ 363). (¬2) عزاه إليه ابن حجر في " الفتح " (9/ 363). (¬3) عزاه إليه ابن حجر في " الفتح " (9/ 363). (¬4) [البقرة: 229]. (¬5) في " السنن " رقم (1192) عن يعلى بن شبيب عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة. ورواه الترمذي عن أبي كريب عن ابي إدريس عن هشام عن أبيه مرسلا، وقال: هذا أصح من حديث يعلى بن شبيب. (¬6) عزاه إليه ابن كثير في تفسيره (1/ 611). (¬7) في " المستدرك " (2/ 279) وقال: صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي بأن يعقوب بن حميد ضعفه غير واحد. (¬8) في السنن الكبرى (7/ 338). (¬9) [البقرة: 229].

وخرجه (¬1) جماعات (¬2)، ولا يدل على المقصود منه. والظاهر أن الألف واللام في الطلاق للاستغراق (¬3)، فلا طلاق في غير ذلك. وأيضا قد تقرر عند المحققين من علماء البيان أن تحلية المسند إليه باللام مفيدة للحصر (¬4). وأيضا فلو كان يصح إرساله دفعة واحدة لناقض الخبر بكونه مرتين. وفيها حديث ابن عباس: " الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - واحدة، فقال عمر بن الخطاب: " إن الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم " فأمضاه عليهم ". أخرجه مسلم (¬5). وفي صحيحه (¬6) أيضًا عن طاووس أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هاب من هناتك، ألم يكن الطلاق على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر واحدة؟ فقال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق، فأجازه عليهم. وفي سنن أبي داود (¬7) عن طاوس أن رجلا يقال له: أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس، فقال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته قبل أن يدخل لها جعلوها واحدة على عهد رسول الله، وأبي بكر، وصدرا من إمارة عمر؟ فقال ابن عباس: بلى، كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله، وأبي بكر، وصدرا من إمارة عمر، فلما رأى الناس فيها قال: أجيزوهن عليهم. ¬

(¬1) أخرجه مالك في " الموطأ " (2/ 588) عن هشام عن عروة عن أبيه مرسلا. (¬2) كلمة غير واضحة في المخطوط. (¬3) انظر " الكوكب المنير " (3/ 132 - 133)، " المسودة " (ص 105). (¬4) انظر " معترك الأقران في إعجاز القرآن " (1/ 140 - 141). (¬5) في صحيحه رقم (1472). وأخرجه أبو داود رقم (2200) والنسائي (6 145) وهو حديث صحيح. (¬6) أي مسلم في صحيحه رقم (17/ 1472). (¬7) في " السنن " رقم (2199). وهو حديث ضعيف.

في مستدرك الحاكم (¬1) من حديث عبد لله بن المؤمل، عن ابن أبي مليكة أن أبا الجوزاء أتى ابن عباس فقال: ألم تعلم أن الطلاق ثلاثا كن يرددن على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلى واحدة؟ قال: نعم. قال الحاكم (¬2): هذا حديث صحيح. وهذه غير طريقة طاوس عن أبي الصهباء. وقد أخرج حديث ابن عباس هذا الشافعي (¬3)، وعبد الرزاق (¬4)، والنسائي (¬5) والبيهقي (¬6). ¬

(¬1) (2/ 169). (¬2) في " المستدرك " (2/ 169). (¬3) في مسنده (2/ 37 رقم 116 - ترتيب). (¬4) في مصنفه (3/ 684). (¬5) (6/ 142). (¬6) في " السنن الكبرى " (7/ 367). قال القرطبي في " المفهم " (4/ 239 - 242): حديث ابن عباس هذا يدل ظاهرا على أنه كن الطلاق ثلاثا واقعا لازما في تلك الأعصار، فيستدل به عليهم على جهة الإلزام، وإن كنا لا نرى التمسك به، لما يلي: 1) أنه ليس حديثا مرفوعًا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما ظاهره الإخبار عن أهل عصر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعصر أبي بكر باتفاقهم على ذلك وإجماعهم عليه، وليس ذلك بصحيح، فأول من خالف ذلك بفتياه ابن عباس، فروى أبو داود - رقم 2197 - من رواية مجاهد عنه قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا. قال: فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم يركب الحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس يا ابن عباس، قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] وإنك لم تتق الله، فما أجد لك مخرجا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك. وفي " الموطأ "- (2/ 550) - عنه: أن رجلا قال لابن عباس: إني طلقت امرأتي مئة تطليقة، فقال له ابن عباس: طلقت منك بثلاث، وسبعة وتسعون اتخذت بها آيات الله هزوا، وقال أبو داود: قول ابن عباس هو: إن طلاق الثلاث يبين من الزوجة، فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، مدخولا بها كانت، أو غير مدهول بها. ونحوه عن أبي هريرة، وعبد الله بن عمر. وفي " الموطأ ": أن رجلا جاء إلى ابن مسعود فقال: إني طلقت امرأتي ثماني تطليقات. قال ابن مسعود: فماذا قيل لك؟ قال: قيل لي: إنها بانت منك، قال ابن مسعود: صدقوا، هو كما يقولون، فهذا يدل على وجود الخلاف فيها في عصر الصحابة، وأن المشهور عندهم، المعمول به خلاف مقتضى حديث ابن عباس، فبطل التمسك به. 2) لو سلمنا أنه حديث مرفوع للنبس صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كان فيه حجة لأن ابن عباس هو راوي الحديث وقد خالفه بعمله وفتياه، وهذا يدل: على ناسخ ثبت عنده، أو مانع شرعي منعه من العمل. ولا يصح أن يظن به: أنه ترك العمل بما رواه مجانا أو غالطا، لما علم من جلالته، وورعه، وحفظه وتثبته. قال أبو عمر بن عبد البر بعد أن ذكر عن ابن عباس فتياه من طرق متعددة بلزوم الطلاق ثلاثا من كلمة واحدة: ما كان ابن عباس ليخالف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخليفتين إلى رأي نفسه، ورواية طاووس وهن وغلط، لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز، والعراق، والشام، والمشرق، والمغرب، وقد قيل: إن أبا الصهباء لا يعرف في موالي ابن عباس. 3) لو سلمنا كل ما تقدم لما كان فيه حجة للاضطراب والاختلاف الذي في سنده، ومتنه، وذلك أن أبا الصهباء رواه عن ابن عباس بتلك الألفاظ المختلفة، التي وقعت في كتاب مسلم: كما ذكرناها , وقد روى أبو داود من حديث أيوب عن غير واحد عن طاووس: أن رجلا يقال له أبا الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس ..... " الحديث تقدم. قال القرطبي: فقد اضطرب فيه أبو الصهباء عن ابن عباس في لفظه كما ترى. وقد اضطرب فيه طاووس، فمرة رواه عن أبي الصهباء، ومرة عن ابن عباس نفسه، ومهما كثر الاختلاف والتناقض ارتفعت الثقة لا سيما عند المعارضة على ما يأتي. ثم العجب أن معمرا روى عن ابن طاووس عن أبيه: أن ابن عباس سئل عن رجل طلق امرأته ثلاثا، فقال له: لو اتقيت الله لجعل لك مخرجا. وظاهر هذا أنه لا مخرج له من ذلك، وأنها. وهذه كرواية الجماعة الكثيرة عن ابن عباس، كسعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، وعمرو بن دينار، ومحمد بن إلياس بن البكير، والنعمان بن أبي عياش، كلهم روى عنه: أنه ثلاث، وأنها لا تحل له إلا من زوج. 4) لو سلمنا سلامته من الاضطراب لما صح أن يحتج به لأنه لا يلزم منه ما يدل على أن أهل ذلك العصر الكريم كان يكثر فيهم إيقاع المحرمات والتساهل فيها. وترك الإنكار على من يرتكبها، وبيان اللزوم أن ظاهره أن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقع الطلاق الثلاث كثيرا منهم في عصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعصر أبي بكر وسنتين من خلافة عمر، أو ثلاث، ويستفتون علماءهم فيفتونهم بأنه واحدة، ولا ينكرون عليهم. مع أن الطلاق ثلاثا في كلمة واحدة محرم بدليل قول ابن عمر وابن عباس، عن محمود بن لبيد - قال البخاري: له صحبة - قال: أخبر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقام غضبان، ثم قال: " أيلعب بكتاب الله، وأنا بين أظهركم؟ " هذا يدل على أنه محرم، ومنكر. فكيف يكثر فيهم العمل بمثل هذا، ولا ينكرونه؟ هذا محال على قوم وصفهم الله تعالى بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] إلى غير ذلك مما وصفهم الله تعالى به. لا يقال: هذا يبطل بما وقع عندهم من الزنى والسرقة وغير ذلك من الأسباب التي ترتبت عليها الأحكام؛ لأنا نقول: هذه لما وقعت أنكروا تلك الأمور، وأقاموا الحدود فيها، ولم يفعلوا ذلك فيما ذكرناه، فافترقا. وصح ما أبديناه. فإن قيل: لعل تحريم ذلك لم يكن معلوما عندهم. قلنا: هذا باطل، فإنهم أعرف بالأحاديث ممن بعدهم، وقد ذكرنا ما روي في ذلك عن ابن عباس وابن عمر. والله تعالى أعلم. 5) إن ظاهر ذلك الحديث خبر عن جميعهم أو عن معظمهم، والعادة تقتضي - فيما كان هذا سبيله - أن يفشو، وينتشر ويتواتر نقله، وتحيل أن ينفرد به الواحد. ولم ينقله عنهم إلا ابن عباس، ولا عنه إلا أبو الصهباء. وما رواه طاووس عن ابن عباس في الأصل قد رواه أبو داود عن طاووس عن أبي الصهباء عن ابن عباس ولو رواه عنه لم يخرج بروايته عنه من كونه خبر واحد غير مشهور. وهذا الوجه يقتضي القطع ببطلان هذا الخبر. فإن لم يقتض ذلك، فلا أقل من أن يفيدنا الريبة فيه والتوقف. والله تعالى أعلم. 6) تطرق التأويل إليه. ولعلمائنا فيه تأويلان: أحدهما: ما قاله بعض البغداديين: إن معناه الإنكار على من يخرج عن سنة الطلاق بإيقاع الثلاث، والإخبار عن تساهل الناس في مخالفة السنة في الزمان المتأخر عن العصرين السابقين، فكأنه قال: كان الطلاق الموقع الآن ثلاثا في ذينك العصرين واحدة. كما يقال: كان الشجاع الآن جبانا في عصر الصحابة، وكان الكريم الآن بخيلا في ذلك الوقت، فيفيد تغير الحال بالناس. ثانيهما: قال غير البغداديين: المراد بذلك الحديث من تكرر الطلاق منه. فقال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. فإنها كانت عندهم محمولة في العزم على التأكيد. فكانت واحدة. وصار الناس بعد ذلك يحلونها على التحديد. فألزموا ذلك لما ظهر قصدهم إليه. ويشهد بصحة هذا التأويل قول عمر رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، وقد تأوله غير علمائنا، على أن ذلك كان في المطلقة قبل الدخول: كما دل عليه حديث أبي داود، الذي تقدم ذكره، وأبدى بين المدخول بها وغيرها فرقا. فقال: إنما جعلوه في غير المدخول بها: أنت طالق، وقد أبانها وبقي قوله: ثلاثا. لم يصادف محلا. فأجروا المتصل مجرى المنفصل. وهذا ليس بشيء، فإن قوله: أنت طالق ثلاثا. كلام واحد متصل غير منفصل. ومن المحال البين إعطاء الشيء حكم نقيضه، وإلغاء بعض الكلام الواحد. وأشبه هذه التأويلات الثاني، على ما قررناه. والله تعالى أعلم. وانظر " فتح الباري " (9/ 362 - 367).

وأخرج الإمام أحمد في مسنده (¬1) عن سعيد بن إبراهيم قال: أخبرني محمد بن إسحاق قال: حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس قال: طلق ركانة امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، قال: فسأله رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " طلقتها ثلاثا في مجلس واحد؟ " قال: نعم. قال: " فإنك تملك واحدة، فأرجعها إن شئت " قال: فراجعها. وقد صحح الإمام أحمد هذا الإسناد وحسنه، ولذا صححه الحاكم، وأخرجه أيضًا أبو داود (¬2) عن ابن عباس بلفظ: فقال: " راجع امرأتك أم ركانة وإخوته " فقال: إني طلقتها ثلاثا، فقال: " قد علمت، راجعها " وتلا {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬3). ومما يدل على ذلك أيضًا ما أخرجه النسائي (¬4) عن محمود بن لبيد قال: أخبر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن رجل طلق امرأته ثلاثا جميعا فقال: يا رسول الله، ألا أقتله؟ فكان إنكاره دليلا على أن مثل هذا الطلاق منكور لا يجوز في شريعته. ومنها أيضًا ما أخرجه البخاري (¬5) ............................. ¬

(¬1) (1/ 265) وفي إسناده محمد بن إسحاق. قال النسائي وغيره: ليس بالقوي. وقال الدارقطني: لا يحتج به. انظر: " الميزان " (3/ 468). (¬2) في " السنن " رقم (2196) وهو حديث حسن. (¬3) [الطلاق: 1]. (¬4) في " السنن " (6/ 142 رقم 3401) وهو حديث ضعيف. (¬5) في صحيحه رقم (5273).

والنسائي (¬1) في قصة المختلعة بلفظ: " اقبل الحديقة وطلقها تطليقة ". والقول بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده (¬2) قوي كما تقرر في الأصول، فيكون في هذا الحديث المنع من الزيادة. وقد جعل في الكشاف (¬3) قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬4) في الثاني الذي يراد به مطلق التكرار مثل: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} (¬5) أي: الطلاق المعتبر شرعا متعدد لا مرسل دفعة واحدة، وهذا في حكم النص على مذهب المانع من التوالي، وألفاظ بمنزلة الواحدة. وقد أثبت جار الله (¬6) ها هنا، ورفض التمذهب مع أنه حنفي الفروع. قال أهل القول الأول - أعني: القائلين بالتتابع - قال الله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬7)، وقال: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} (¬8)، وقال: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} (¬9)، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} (¬10). ولم يفرق في هذه ¬

(¬1) في " السنن " (6/ 169). قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (2065) لهم من حديث ابن عباس. (¬2) انظر الرسالة رقم (66). من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني. وانظر: " الكوكب المنير " (3/ 51)، " المستصفى " (2/ 11)، " البرهان " للجويني (1/ 265). (¬3) (1/ 443). (¬4) [البقرة: 229]. (¬5) [الملك: 4]. (¬6) أي الزمخشري في " الكشاف " (1/ 443). (¬7) [البقرة: 229، 230]. (¬8) [البقرة: 237]. (¬9) [البقرة: 241]. (¬10) [الأحزاب: 49].

الآيات بين أن تكون هذه الثلاث مجموعة أو مفرقة، فدلت على وقوع الثلاث دفعة واحدة. قلنا: هذه عمومات قد خصصت بأدلة صورة النزاع السابقة، أو إطلاقات قد ثبتت بالآية النازلة على سبب مبين للمراد، وهي: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬1) وبالسنة النبوية. قالوا في الصحيحين (¬2) أن عويمر العجلاني طلق امرأته ثلاثا بحضرة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يأمره بطلاقها، فدل على جواز الثلاث ووقوعها. قلنا: إنما سكت - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لأن الملاعنة تبين بنفس اللعان، وهذا تكلم بكلام من قبل نفسه لا محل له، فكأنه طلق أجنبية، ولا يجب إنكار مثل ذلك، فلا يكون السكوت عنه تقريرا (¬3). قالوا: في البخاري (¬4) عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا طلق امرأته فتزوجت فسئل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - هل تحل للأول؟ فقال: " لا حتى يذوق ¬

(¬1) [البقرة: 229]. (¬2) البخاري في صحيحه رقم (5259) ومسلم في صحيحه رقم (1492). قال الأمير الصنعاني في " سبل السلام " (6/ 167): واستدلوا بما في الصحيحين أن عويمرا العجلاني طلق امرأته ثلاثا بحضرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم ينكر عليه، فدل على إباحة جمع الثلاث وعلى وقوعها، وأجيب بأن هذا لتقرير لا يدل على الجواز ولا على وقوع الثلاث لأن النهي إنما هو فيما يكون في طلاق رافع لنكاح كان مطلوب الدوام، والملاعن أوقع الطلاق على ظن أنه بقي له إمساكها، ولم يعلم أنه باللعان حصلت فرقة الأبد سواء كان فراقه بنفس اللعان، أو بتفريق الحاكم، فلا يدل على المطلوب. قال الحافظ في " الفتح " (9/ 367): " وقد تعقب بأن المفارقة في الملاعنة وقعت بنفس اللعان فلم يصادف تلطيقه إياها ثلاثا موقعا، وأجيب بأن الاحتجاج به من كون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم ينكر عليه إيقاع الثلاث مجموعة، فلو كان ممنوعا لأنكره، ولو وقعت الفرقة بنفس اللعان. (¬3) انظر التعليقة السابقة. (¬4) في صحيحه رقم (5261).

عسيلتها كما ذاق الأول "، فلم ينكر - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - تلك، وهو دليل على إباحة الثلاث ووقوعها (¬1). قلنا: لا دليل فيه على مطلوبكم، بل غايته وقوع احتمال الثلاث مفرقة على الوجه المشروع الذي لا ينكره، ومجتمعة، والمحتمل لا يثبت به الحجة في محل النزاع، على أنا لو سلمنا لكم اجتماعها لم يستلزم ذلك التسليم تقرير مجموعها، بل الظاهر تقرير مطلق الوقوع. قالوا: في الصحيحين (¬2) من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن أن فاطمة بنت قيس ¬

(¬1) قال القرطبي في " المفهم " (4/ 244 - 245): وحجة الجمهور في اللزوم من حيث النظر ظاهر جدا، وهو أن المطلقة ثلاثا لا تحل للمطلق حتى تنكح زوجا غيره، ولا فرق بين مجموعها ومفرقها لغة وشرعا، وما يتخيل من الفرق صوري ألغاه الشرع اتفاقا في النكاح والعتق والأقارير، فلو قال الولي: أنكحتك هؤلاء الثلاث في كلمة واحدة انعقد، ك ما لو قال: أنكحتك هذه وهذه وهذه، وكذا اعتق والإقرار وغير ذلك من الأحكام، واحتج من قال: إن الثلاث إذا وقعت مجموعة حملت على الواحدة بأن من قال: أحلف بالله ثلاثا لا يعد حلفه إلا يمينا واحدة، فليكن المطلق مثله، قال الحافظ في " الفتح " (9/ 365): " وتعقب باختلاف الصيغتين، فإن المطلق ينشئ طلاق امرأته وقد جعل أمد طلاقها ثلاثا، فإذا قال: أنت طالق ثلاثا، فكأنه قال: أنت طالق جميع الطلاق. وأما الحلف فلا أمد لعدد أيمانه فافترقا. وفي الجملة فالذي وقع في هذه المسألة نظير ما وقع في مسألة المتعة سواء، أعني قول جابر: إنها كانت تفعل ذلك في عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، فقال: ثم نهانا عمر عنها فانتهينا، فالراجح في الموضعين تحريم المتعة وإيقاع الثلاث للإجماع الذي انعقد في عهد عمر على ذلك، ولا يحفظ أن أحدا في عهد عمر خالفه في واحدة منهما. وقد دل إجماعهم على وجود ناسخ وإن كان خفي عن بعضهم قبل ذلك حتى ظهر لجميعهم في عهد عمر، فالمخالف بعد هذا الإجماع منابذ له، والجمهور على عدم اعتبار من أحدث الاختلاف بعد الاتفاق، والله أعلم. انظر: " المغني " (10/ 330 - 334). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1480) ولم يخرجه البخاري. قال الأميري الصنعاني في " سبل السلام " (6/ 168): وأجيب عنه بأنه ليس في الحديث تصريح بأنه أوقع الثلاث في مجلس واحد فلا يدل على المطلوب. قالوا: عدم استفصاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل كان في مجلس أو مجالس دال على أنه لا فرق في ذلك. ويجاب عنه بأنه لم يستفصل لأنه كان الواقع في ذلك العصر غالبا عدم إرسال الثلاث كما تقدم، وقولنا: غالبا، لئلا يقال قد أسلفنا أنها وقعت الثلاث في عصر النبوة، لأنا نقول: نعم، لكن نادرا.

أخبرته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن زوجها طلقها ثلاثا، فهل لها من نفقة؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " ليس لها من نفقة ". قلنا: ليس بصريح في جمعها كما سبق، على أنه قد ثبت في الصحيح (¬1) في خبرها نفسها من رواية الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن زوجها أرسل إليها تطليقة بقيت لها من طلاقها، وفي لفظ في الصحيح أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات. فهذا مبين لذلك الاحتمال، فأي مثبت في هذا الاستدلال. قالوا: أخرج عبد الرزاق في مصنفه (¬2) عن يحيى بن العلاء، عن عبد الله بن الوليد، عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت عن داود بن عبادة بن الصامت قال: طلق جدي امرأته ألف تطليقة فانطلق أبي إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فذكر له ذلك، فقال النبي: " ما اتقى الله جدك، أما الثلاث فله، وأما تسعمائة وسبع وسبعون فعدوان وظلم، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له "، وفي رواية: " إن أباكم لم يتق فيجعل له مخرجا، بانت منه بثلاث على غير السنة، تسعمائة وسبع وتسعون إثم في عنقه ". قلنا: حديث في غاية السقوط؛ لأن يحيى بن العلاء ضعيف من المرتبة الرابعة (¬3). ¬

(¬1) في صحيح مسلم رقم (113/ 1433). (¬2) (6/ 393 رقم 11339). قلت: وأخرجه الدارقطني في " السنن " (4/ 20). قال ابن قدامة في " المغني " (10/ 334): ولأن النكاح ملك يصح إزالته متفرقا، فصح مجتمعا كسائر الأملاك. (¬3) انظر " تهذيب التهذيب " (11/ 229 - 230).

بيان اختلاف الأئمة في مقدار المدة التي يقتضي الرضاع في مثلها التحريم

بيان اختلاف الأئمة في مقدار المدة التي يقتضي الرضاع في مثلها التحريم تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديث محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " بيان اختلاف الأئمة في مقدار المدة التي يقتضي الرضاع في مثلها التحريم ". 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم " الحمد لله على جزيل نواله وأفضاله وصلاته سلامه على سيدنا محمد وآله. اعلم أن الأئمة اختلفوا في مقدار .... ..... ". 4 - آخر الرسالة: " .. الذي يدور الحق حيث دار، انتهى الجواب المحرر في شهر صفر سنة 1201 هـ كما في الأم المنقولة من خط المجيب القاضي العلامة العظيم عز الإسلام محمد بن علي الشوكاني كثر الله فوائده. 5 - نوع الخط: خط نسخي عادي. 6 - عدد الصفحات: 4 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 31 سطرا. ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها ثمانية. 8 - عدد الكلمات في السطر:12 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على جزيل نواله وأفضاله، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله. اعلم أن الأئمة اختلفوا في مقدار المدة التي يقتضي الرضاع في مثلها التحريم على عشرة أقوال (¬1): الأول: أنه لا يحرم منه إلا ما كان في الحولين، وهو مذهب جماعة من الصحابة، منهم: عمر وابن عباس وابن مسعود، والعترة، والشافعي، وأبو حنيفة، والثوري، والحسن بن صالح، ومالك، وزفر، ومحمد، هكذا في البحر (¬2)، وهو أيضًا مذهب أبي هريرة، وابن عمر، وأحمد، وأبي يوسف، وسعيد بن المسيب، والشعبي، وابن شبرمة، وإسحاق، وأبي عبيد، وابن المنذر (¬3). القول الثاني: إن الرضاع المقتضي للتحريم ما كان قبل الفطام (¬4)، سواء كان قبل الحولين وفوقها. وإليه ذهبت أم سلمة. وروي عن أمير المؤمنين، ولم يصح عنه. وروي عن ابن عباس، وبه قال الحسن البصري، والزهري، والأوزاعي (¬5)، وعكرمة، وقتادة. القول الثالث: أن الرضاع في حال ...................................... ¬

(¬1) انظر: " فتح الباري " (9/ 146 - 148)، " المغني " (11/ 311). (¬2) (3/ 265). (¬3) ذكره عنهم ابن القيم في " زاد المعاد " (5/ 513). (¬4) قال ابن القيم في " زاد المعاد " (5/ 513): وقالت طائفة: الرضاع المحرم ما كان قبل الفطام، ولم يحدوه بزمن، صح ذلك عن أم سلمة .... ". (¬5) قال الأوزاعي: إن فطم وله عام واحد واستمر فطامه، ثم رضع في الحولين، لم يحرم هذا الرضاع شيئا، فإن تمادى رضاعه، ولم يفطم، فما كان في الحولين فإنه يحرم، وما كان بعدهما، فإنه لا يحرم، وإن تمادى الرضاع. ذكره ابن القيم في " زاد المعاد " (5/ 513).

الصغر يقتضي التحريم (¬1)، ولم يحده القائل بحد، وروي ذلك عن أزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ما خلا عائشة، وعن ابن عمر، وسعيد بن المسيب. ولعل لهما قولين. القول الرابع: ثلاثون شهر (¬2)، وهو رواية عن أبي حنيفة، وزفر، غير الرواية الأولى. القول الخامس: في الحولين وما قاربهما، وهو رواية عن مالك (¬3) غير الرواية الأولى. وروي عنه أن الرضاع بعد الحولين لا يحرم قليله ولا كثيره، كما في الموطأ (¬4). القول السادس: ثلاث سنين (¬5) وهو مروي عن جماعة من أهل الكوفة، وعن ¬

(¬1) انظر " فتح الباري " (9/ 146)، " زاد المعاد " (5/ 513)، " المغني " (11/ 312). (¬2) قال الحافظ في " الفتح " (9/ 146): باب من قال: لا رضاع بعد حولين، لقوله تعالى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] أشار بهذا إلى قول الحنفية أن أقصى مدة الرضاع ثلاثون شهرا، وحجتهم قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} أي المدة المذكورة لكل من الحمل والفصال، وهذا تأويل غريب، والمشهور عند الجمهور أنها تقدير مدة أقل الحمل وأكثر مدة الرضاع، وإلى ذلك صار أبو يوسف ومحمد بن الحسن، ويؤيد ذلك أن أبا حنيفة لا يقول أن أقصى الحمل سنتان ونصف. (¬3) قال الحافظ في " الفتح " (9/ 146): وعند المالكية رواية توافق قول الحنفية لكن منزعهم في ذلك أنه يفتقر بعد الحولين مدة يدمن الطفل فيها على الفطام؛ لأن العادة أن الصبي لا يفطم دفعة واحدة بل على التدريج في أيام قليلات، فللأيام التي يحاول فيها فطامه حكم الحولين. (¬4) (2): والذي رواه عنه أصحاب الموطأ وكان يقرأ عليه إلى أن مات، قوله فيه: وما كان من الرضاع بعد الحولين كان قليله وكثيره لا يحرم شيئا، إنما هو بمنزلة الطعام، هذا لفظه. (¬5) ذكره ابن القيم في " زاد المعاد " (5/ 514)، وابن قدامة في " المغني " (11/ 319). قال زفر: يستمر إلى ثلاث سنين إذا كان يجتزئ باللبن ولا يجتزئ بالطعام. ذكره الحافظ في " الفتح " (9/ 146).

الحسن بن صالح في رواية: حولان واثنا عشر يوما (¬1). روي ذلك عن ربيعة. القول السابع: سبع سنين (¬2)، روي ذلك عن عمر بن عبد العزيز. القول الثامن: حولان واثنا عشر يوما (¬3)، روي ذلك عن ربيعة. القول التاسع: إن الرضاع يعتبر فيه الصغر إلا فيما دعت إليه الحاجة، كرضاع الكبير الذي لا يستغنى عن دخوله على المرأة ة، ويشق احتجابها منه. وإليه ذهب ابن تيمية (¬4). القول العاشر: إن رضاع الكبير يثبت به التحريم مطلقا، وهو مذهب أمير المؤمنين كما حكاه عنه الحافظ ابن حزم (¬5). ولا حكم لإنكار ابن عبد البر (¬6) لتلك الحكاية، فمن علم حجة على من لا يعلم. وابن حزم من بحور العلم أحاط بما لم يحط به غيره من حفظ المذهب والأدلة، يعرف ذلك من مارس كتبه وبمثل قول أمير المؤمنين قالت عائشة، وعروة بن الزبير، وعطاء بن أبي رباح، والليث بن سعد، وابن علية، وحكاه الثوري عن داود الظاهري. وإليه ذهب ابن حزم (¬7). فهذه عشرة مذاهب في هذه المسألة، مدونة في البسائط من كتب الخلاف، وبعضها محكي في كتب الأئمة من أهل البيت (¬8) - عليهم السلام - وبعضها محكي في كتب غيرهم. وإيراد الأدلة على كل واحد منها وما ورد عليه، وما أجيب به يحتاج إلى مؤلف مستقل، فليقتصر على ¬

(¬1) انظر: " زاد المعاد " (5/ 514). (¬2) قال عمر بن عبد العزيز: مدته إلى سبع سنين، وكان يزيد بن هارون يحكيه عنه كالمتعجب من قوله. وروي عنه خلاف هذا. وحكى عنه ربيعة، أن مدته حولان واثنا عشر يوما. (¬3) انظر: " زاد المعاد " (5/ 514). (¬4) في " مجموع الفتاوى " (34/ 60). (¬5) في " المحلى " (10/ 17 - 20). (¬6) في " التمهيد " (11/ 374): قال ابن عبد البر: وروي ذلك عنه ولا يصح عنه، والصحيح عنه أن لا رضاع بعد فطام .... ". (¬7) في " المحلى " (10/ 17 - 20). (¬8) " البحر الزخار " (3/ 265).

حجج القول العاشر؛ لأن السؤال واقع عنه لا سوى، فنقول: احتج القائلون بأن رضاع الكبير يقتضي التحريم بحديث زينب بنت أبي سلمة " قالت أم سلمة لعائشة: إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي، فقالت عائشة: أما لك في رسول الله أسوة حسنة؟ إن امرأة أبي حذيفة قالت: يا رسول الله، إن سالما يدخل علي وهو رجل، وفي نفس أبي حذيفة منه شيء، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " أرضعيه حتى يدخل عليك " (¬1). وفي رواية (¬2) عن زينب، عن أمها أم سلمة أنها قالت: " أبى سائر أزواج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن يدخلن عليهن أحدا بتلك الرضاعة، وقلن لعائشة: ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لسالم خاصة، فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة، ولا رائينا " وهذا الحديث هو في كتب الأئمة من أهل البيت وغيرهم من أهل الحديث، قد رواه من الصحابة أمهات المؤمنين وسهلة بنت سهيل، وهي من المهاجرات، وزينب بنت أم سلمة، وهي ربيبة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ورواه من التابعين القاسم بن محمد بن أبي بكر، وعروة بن الزبير، وحميد بن يافع. ورواه عن هؤلاء الزهري، وابن أبي مليكة، وعبد الرحمن بن القاسم، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وربيعة. ثم رواه عن هؤلاء أيوب السختياني، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وشعبة، ومالك، وابن جريج، وشعيب، ويونس، وجعفر بن ربيعة، وسلمان بن بلال، وغيرهم. وهؤلاء هم أئمة الحديث المرجوع إليهم في أعصارهم، ثم رواه عنهم الجم ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (29/ 1453) وأحمد (6/ 38 - 39) و (6/ 201) والحميدي رقم (278) وعبد الرزاق في مصنفه رقم (13884) والنسائي (6/ 104 - 105) وابن ماجه رقم (1943) والطبراني في " الكبير " رقم (6373) و (6376) و (24 رقم 737 و738 و740) والبيهقي (7/ 499) من طرق عن القاسم به. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1454).

الغفير، والعدد الكثير بلغت طرقه نصاب التواتر (¬1)، وعارضه في الظاهر حديث ابن ¬

(¬1) انظر " فتح الباري " (9/ 148 - 149)، " زاد المعاد " (5/ 517). قال المثبتون للتحريم برضاع الكبير: 1 - أن الرضاعة التي تتم بتمام الحولين، أو بتراضي الأبوين قبل الحولين إذا رأيا في ذلك صلاحا للرضيع، إنما هي الموجبة للنفقة على المرأة المرضعة، والتي يجبر عليها الأبوان أحبا أم كرها. ولقد كان في الآية كفاية من هذا لأنه تعالى قال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] فأمر الله تعالى الوالدات بإرضاع المولود عامين، وليس في هذا تحريم للرضاعة بعد ذلك. ولا أن التحريم ينقطع بتمام الحولين، وكان قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]، ولم يقل في حولين، ولا في وقت زائدا على الآيات الأخر، وعمومها لا يجوز تخصيصه إلا بنص يبين أنه تخصيص له , لا بظن، ولا محتمل لا بيان فيه، وكانت هذه الآثار يعني التي فيها التحريم برضاع الكبير قد جاءت مجيء التواتر ... ". قال الأمير الصنعاني في " سبل السلام " (6/ 265): لا يخفى أن الرضاعة إنما تصدق على من كان في سن الصغر وعلى اللغة وردت آية الحولين وحديث " إنما الرضاعة من المجاعة ". - أخرجه البخاري رقم (5102) ومسلم رقم (32/ 1455) من حديث عائشة - والقول بأن الآية لبيان الرضاعة الموجبة للنفقة لا ينافي أيضًا أنها لبيان زمان الرضاعة، بل جعله الله تعالى زمان من أراد تمام الرضاعة وليس بعد التمام ما يدخل في ما حكم الشارع بأنه قد تم. 2 - قالوا: ونعلم يقينا أنه لو كان لك خاصا بسالم، لقطع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإلحاق ونص على أنه ليس لأحد بعده، كما بين لأبي بردة بن نيار أن جذعته تجزئ عنه، ولا تجزئ عن أحد تعده - وهو حديث صحيح متفق عليه - وأين يقع ذبح حذعة أضحية من هذا الحكم العظيم، به حل الفرج وتحريمه، وثبوت المحرمية والخلوة بالمرأة والسفر بها؟ فمعلوم فطعا أن هذا أولى ببيان التخصيص لو كان خاصا. قال الحافظ في " الفتح " (9/ 149): ومنها دعوى الخصوصية بسالم وامرأة أبي حذيفة، والأصل فيه قول أم سلمة وأزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لسالم خاصة وقرره ابن الصباغ وغيره بأن أصل قصة سالم ما كان وقع من التبني الذي أدى إلى اختلاط تسالم بسهلة فلما نزل الاحتجاب ومنعوا من التبني شق ذلك على سهلة فوقع الترخيص لها في ذلك لرفع ما حصل من المشقة. قال الحافظ: وهذا فيه نظر أنه يقتضي إلحاق من يساوي سهلة في المشقة والاحتجاج بها فتنفي الخصوصية، ويثبت مذهب المخالف، لكن يفيد الاحتجاج. وقرره الآخرون بأن الأصل أن الرضاع لا يحرم، فلما ثبت ذلك في الصغر خولف الأصل له، وبقي ما عداه على الأصل، وقصة سالم واقعة عين يطرقها احتمال الخصوصية فيجب الوقوف عن الاحتجاج بها.

عباس، قال قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا رضاع إلا في الحولين " رواه الدارقطني (¬1)، وسعيد بن منصور (¬2)، والبيهقي (¬3)، وابن عدي (¬4)، وهو من طريق ابن عيينة عن عمر بن دينار، قال الدارقطني (¬5): لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل، وهو ثقة حافظ. قال ابن عدي (¬6): يعرف بالهيثم وغيره، وكان يغلط، وصحح البيهقي (¬7) وقفه، ورجح ابن عدي الموقوف، وقال ابن كثير في الإرشاد (¬8): رواه مالك في الموطأ (¬9) عن ثور بن يزيد، عن ابن عباس موقوفا، وهو أصح، وكذا رواه غير ثور عن ابن عباس. ومن الأحاديث المعارضة حديث أم سلمة قالت: قال رسول الله: " لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل ............. ¬

(¬1) في " السنن " (4/ 174). (¬2) في سننه رقم (974). (¬3) في " السنن الكبرى " (7/ 462). (¬4) في " الكامل " (7/ 2562): وقال: هذا يعرف بالهيثم بن جميل عن ابن عقيل مسندا، وغير الهيثم يوقفه على ابن عباس، والهيثم بنجميل يسكن أنطاكية، ويقال: هو البغدادي، ويغلط الكثير على الثقات، ك ما يغلط غيره، وأرجو أنه لا يتعمد الكذب ". (¬5) في " السنن " (4/ 174). (¬6) في " الكامل " (7/ 2562). وقد تقدم. (¬7) في " السنن الكبرى " (7/ 462). (¬8) (2/ 238 - 239). (¬9) (2/ 166).

الفطام " [أخرجه] (¬1) الترمذي (¬2) والحاكم (¬3) وصححاه، وأعل بالانقطاع (¬4)؛ لأنه من رواية فاطمة بنت المنذر بن الزبير الأسدية، عن أم سلمة، ولم يسمع فيها شيئا لصغر سنها إذ ذاك. ومن الأحاديث المعارضة حديث جابر عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال " لا رضاع بعد فصال، ولا يتم بعد احتلام " رواه أبو داود الطيالسي في مسنده (¬5)، وفيه مقال طويل. ومن الأحاديث المعارضة في الظاهر حديث عائشة قالت: دخل علي النبي - صلى الله ¬

(¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) في " السنن " رقم (1152) وقال: حديث حسن صحيح. (¬3) لعله بن حبان في صحيحه رقم (4224) فقد قال الحافظ في " الفتح " (9/ 148) عقب الحديث: " وصححه الترمذي وابن حبان ". (¬4) ذكره الشوكاني في " النيل " (6/ 316). قلت: وله شاهد من حديث عبد الله بن الزبير. أخرجه ابن ماجه رقم (1946) بسند رجاله كلهم ثقات، رجال مسلم، غير ابن لهيعة، وهو سيئ الحفظ، إلا أن أنه في رواية العبادلة عنه فإنه صحيح الحديث. وهذا منها. وله شاهد آخر أخرجه البزار في مسنده رقم (1444 - كشف) والبيهقي في " السنن الكبرى " (7/ 455) من حديث أبي هريرة بسند رجاله ثقات - إلا أن محمد بن إسحاق مدلس، وقد عنعن. وخلاصة القول أن الحديث صحيح، والله أعلم. انظر " الإرواء " رقم (2150). (¬5) (ص 243 رقم 1767) من حديث جابر. قلت: أخرجه أبو داود في " السنن " رقم (2873) عن علي بن أبي طالب، قال: حفظت عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل " وإسناده ضعيف ولكن أخرجه الطبراني في " الصغير " من وجه آخر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه (2/ 158 رقم 952) بلفظ: " لا رضاع بعد فصال، ولا يتم بعد حلم ". والخلاصة: أن حديث جابر حسن، والله أعلم. حسنه الزرقاني في " مختصر المقاصد الحسنة " رقم (1207).

عليه وآله وسلم - وعندي رجل، فقال: " من هذا؟ " قلت: أخي من الرضاعة، قال: " يا عائشة انظرن من إخوانكن من الرضاعة، فإنما الرضاعة من المجاعة ". وهو في الأمهات (¬1) إلا الترمذي. ووجه الاستدلال به أن الكبير لا يرجع بينهما لأجل المجاعة بعدم احتياجه اللبن. وأجاب القائلون بأن رضاع الكبير يقتضي التحريم عن هذه ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (5102) ومسلم رقم (32/ 1455) وأحمد (6/ 94) والدارمي (2/ 158) وأبو داود رقم (2058) والنسائي (6/ 102) وابن ماجه رقم (1945) والبيهقي (7/ 460) وابن الجارود في المنتقى رقم (691). قال أبو عبيد: قوله: " إنما الرضاعة من المجاعة " يقول: إن الذي إذا جاع كان طعامه الذي يشبعه اللبن، إنما هو الصبي الرضيع. فأما الذي شبعه من جوعه الطعام، فإن رضاعه ليس برضاع، ومعنى الحديث: إنما الرضاع في الحولين قبل الفطام، هذا تفسير أبي عبيد والناس، وهو الذي يتبادر فهمه من الحديث إلى الأذهان، حتى لو احتمل الحديث التفسيرين على السواء، لكان هذا المعنى أولى به لمساعدة سائر الأحاديث لهذا المعنى وكشفها له، وإيضاحها، ومما يبين أن غير هذا التفسير خطأ , وأنه لا يصح أن يراد به رضاعة الكبير أن لفظة " المجاعة " إنما تدل على رضاعة الصغير، فهي تثبت رضاعة المجاعة وتنفي غيرها. ومعلوم يقينا أنه إنما أراد مجاعة اللبن لا مجاعة الخبز واللحم، فهذا لا يخطر ببال المتكلم ولا السامع، فلو جعلنا حكم الرضاعة عاما لم يبق لنا ما ينفي ويثبت. وسياق قوله: لما رأى الرجل الكبير، فقال: " إنما الرضاعة من المجاعة " يبين المراد، وأنه إنما يحرم رضاعة من يجوع إلى لبن المرأة وكراهته لذلك الرجل، وقوله: " انظرن من إخوانكن " إنما هو للتحفظ في الرضاعة وأنها لا تحرم كل وقت، وإنما تحرم وقتا دون وقت، ولا يفهم أحد من هذا أنما الرضاعة ما كان عددها خمسا، فيعبر عن هذا بقوله: " من المجاعة " وهذا ضد البيان الذي كان عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقولكم: إن الرضاعة تطرد الجوع عن الكبير، كما تطرد الجوع عن الصغير، كلام باطل؛ فإنه لا يعهد ذو لحية قط يشبعه رضاع المرأة ويطرد عنه الجوع، بخلاف الصغير فإنه ليس له ما يقوم مقام اللبن، فهو يطرد عنه الجوع. فالكبير ليس ذا مجاعة إلى اللبن أصلا. والذي يوضح هذا أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرد حقيقة المجاعة وإنما أراد مظنتها وزمنها، ولا شك أنه الصغر فإن أبيتم إلا الظاهرية، وأنه أراد حقيقتها، لزمكم أن لا يحرم رضاع الكبير إلا إذا ارتضع وهو جائع، فلو ارتضع وهو شبعان لم يؤثر شيئا.

الأحاديث بأجوبة، منها أن فيها المقال المتقدم، وقد أجيب عنهم في ذلك. واستيفاء الكلام في ذلك يحتاج إلى تطويل؛ لأنه راجع إلى علل حديثية وقواعد أصولية، وربما تشعب البحث إلى أطراف أخر يشغل ذهن السائل فنقول: قد تقرر في الأصول كما ذهب إليه الأقل. وقصة سالم المذكورة مخصصة لعموم الأحاديث المعارضة لها، وبذلك يحصل الجمع بين جميع الأحاديث (¬1)، وهذه طريقة متوسطة لا إفراط فيها ولا تفريط. وقد عرف من حديث سالم أن سبب الرخصة هو المشقة والحاجة كما في حديث سالم (¬2). ويؤيد هذا أن سؤال سهلة امرأة أبي حذيفة (¬3) كان بعد نزول آية الحجاب، وهي ¬

(¬1) وهو أن حديث سهلة ليس بمنسوخ ولا مخصوص، ولا عام في حق كل أحد، وإنما هو رخصة للحاجة لمن لا يستغني عن دخوله على المرأة ويشق احتجابها عنه كحال سالم مع امرأة أبي حذيفة، فمثل هذا الكبير إذا أرضعته للحاجة أثر رضاعه، وأما من عداه، فلا يؤثر إلا رضاع الصغير، وهذا مسلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والأحاديث النافية للرضاع في الكبير إما مطلقة، فتقيد بحديث سهلة، أو عامة في الأحوال فتخصيص هذا الحال من عمومها، وهذا أولى من النسخ ودعوى التخصيص بشخص بعينه، أقرب إلى العمل بجميع الأحاديث من الجانبين، وقواعد الشرع تشهد له. انظر: " مجموع الفتاوى " لابن تيمية (34/ 31 - 35)، " زاد المعاد " (5/ 527). (¬2) تقدم ذكر ذلك. انظر: " فتح الباري " (9/ 149). (¬3) قد اختلف القائلون بالحولين في حديث سهلة هذا على ثلاثة مسالك: 1 - أنه منسوخ. وهذا مسلك كثير منهم، ولم يأتوا على النسخ بحجة سوى الدعوى، فإنهم لا يمكنهم إثبات التاريخ المعلوم التأخر بينه وبين تلك الأحاديث. ولو قلت: أصحاب هذا القول عليهم الدعوى وادعوا نسخ تلك الأحاديث بحديث سهلة، لكانت نظير دعواهم. وأما قولهم: إنها كانت من أول الهجرة، وحين نزول قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5]. ورواية ابن عباس رضي الله عنه، وأبي هريرة بعد ذلك، فجوابه من وجوه: أ - أنهما لم يصرحا بسماعه من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل لم يسمع منه ابن عباس إلا دون العشرين حديثا، وسائرها عن الصحابة رضي الله عنهم. ب - أن نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم تحتج واحدة منهن، بل ولا غيرهن على عائشة رضي الله عنها بذلك، بل سلكن في الحديث بتخصيصه بسالم، وعدم إلحاق غيره به. ج - أن عائشة رضي الله عنها نفسها روت هذا وهذا، فلو كان حديث سهلة منسوخا، لكانت عائشة رضي الله عنها قد أخذت به، وتركت الناسخ، أو خفي عليها تقدمه مع كونها هي الراوية له، وكلاهما ممتنع في غاية البعد. د - أن عائشة رضي الله عنها ابتليت بالمسألة، وكانت تعمل بها وتناظر عليها، وتدعو إليها صواحباتها، فلها بها مزيد اعتناء، فكيف يكون هذا حكما منسوخا قد بطل كونه من الدين جملة، ويخفى عليها ذلك، ويخفى على نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا تذكره لها واحدة منهن. 2 - أنه مخصوص بسالم دون من عداه. وقد تقدم ذكر ذلك. وقال القرطبي في " المفهم " (4/ 188): وقد اعتضد الجمهور على الخصوصية بأمور، منها: 1 - قاعدة الرضاع، فإن الله تعالى قد قال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]. فهذه أقصى مدة الرضاع المحتاج إليه عادة، المعتبر شرعا، فما زاد عليه بمدة مؤثرة غير محتاج إليه عادة، فلا يعتبر شرعا؛ لأنه نادر، والنادر لا يحكم له بحكم المعتاد. 2 - قاعدة تحريم الاطلاع على العورة، فإنه لا يختلف في أن ثدي الحرة عورة، وأنه لا يجوز الاطلاع عليه، لا يقال: يمكن أن يرضع ولا يطلع، لأنا نقول: نفس التقام حلمة الثدي بالفم اطلاع، فلا يجوز. قال الحافظ في " الفتح " (9/ 148): " وأجاب عياضا عن الإشكال باحتمال أنها حلبته ثم شربه من غير أن يمس ثديها، قال النووي: وهو احتمال حسن، لكنه لا يفيد ابن حزم لأنه لا يكتفي في الرضاع إلا بالتقام الثدي، لكن أجاب النووي بأنه عفي عن ذلك للحاجة. وذلك أن الليث وأهل الظاهر قالوا أن الرضاعة المحرمة إنما تكون بالتقام الثدي ومص اللبن منه ... ". انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (10/ 30). 3 - ومنها أنه مخالف لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنما الرضاعة من المجاعة " - تقدم تخريجه - وهذا منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقعيد قاعدة كلية، تصرح بأن الرضاعة المعتبرة في التحريم إنما هو في الزمان الذي تغني فيه عن الطعام، وذلك إنما يكون في الحولين وما قاربهما. وهو الأيام اليسيرة بعد الحولين عند مالك. وقد اضطرب أصحابه في تحديدها، فالمكثر يقول: شهرا، وكأن مالكا يشير إلى أنه لا يفطم الصبي دفعة واحدة. في يوم واحد، بل في أيام وعلى تدريج، فتلك الأيام التي يحاول فيها فطامه حكمها حكم الحولين، لقضاء العادة بمعاودة الرضاع فيها. وانظر " فتح الباري " (9/ 148)، " زاد المعاد " (5/ 522 - 523). 3 - المسلك الثالث: تقدم ذكه. وهو الجمع بين هذه الأحاديث. وانظر: " مجموع الفتاوى " لابن تيمية (34/ 31 - 35)، " زاد المعاد " (5/ 527)، " فتح الباري " (9/ 149).

مصرحة بعدم جواز إبداء الزينة لغير من في الآية، فلا يخص منها غير من استثناه الله تعالى إلا بدليل كقصة سالم، وما كان مماثلها في تلك العلة التي هي الحاجة إلى رفع الحجاب من غير أن يقيد ذلك بخاصة مخصوصة من الحاجات المقتضية لرفع الحجاب. ولا لشخص من الأشخاص، ولا بمقدار معلوم من عمر الرضع. وقد ثبت في حديث سهلة أنها قالت للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن سالما ذو لحية، فقال: " أرضعيه " (¬1) ومن أعظم المرجحات (¬2) لهذا المذهب أنه قال به أمير المؤمنين الذي يدور معه الحق حيث دار. انتهى الجواب المحرر في شهر صفر سنة 1210 كما في الأم المنقولة من خط المجيب القاضي العلامة العظيم عز الإسلام محمد بن علي الشوكاني، كثر الله فوائده. اهـ. ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (30/ 1453) من حديث عائشة. (¬2) لم أجد من ذكر أن قول علي رضي الله عنه من أعظم المرجحات، وقد اختلفت الأقوال عن علي رضي الله عنه في الرضاع.

رسالة في رضاع الكبير هل يثبت به حكم التحريم؟

رسالة في رضاع الكبير هل يثبت به حكم التحريم؟ تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة في المخطوط: " رسالة في رضاع الكبير هل يثبت به حكم التحريم؟ ". 2 - موضوع الرسالة: " فقه " 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين فإنه ذاكر بعض الأعلام أبقاه الله في رضاع الكبير ... ". 4 - آخر الرسالة: انتهى المحرر كما في الأم المنقولة من خط المجيب سيدي الوالد العلامة الجليل شرف الدين بن إسماعيل بن محمد بن إسحاق عافاه الله وأبقاه وزاده مما أولاه آمين. 5 - نوع الخط: خط نسخي رديء ولكنه واضح. 6 - عدد الصفحات: 7 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 31 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله المطهرين، فإنه ذاكر بعض الأعلام - أبقاه الله - في رضاع الكبير (¬1)، هل يثبت به حكم التحريم أم لا يثبت الحكم إلا إذا كان الرضيع في سن الرضاعة، وطلب من الجواب، وما وسع إلا مطابقته وموافقته، مع كون المسألة مع تعارض أدلتها، وتشعب أطرافها وجهاتها، وكثرة الأنظار فيها من نضار أئمتها يقتضي وقوف النظر، وعدم النفوذ في المسلك الذي لا يخلو عدم الإمعان فيه من خطر. والجواب - والله أعلم بالصواب - أنه وقع الاتفاق على أن الرضاع بالجملة يحرم منه ما يحرم من النسب (¬2)، أعني أن المرضعة تنزل منزلة الأم، فتحرم على الرضيع هي وكل ما يحرم على الابن من قبل أم النسب. واختلفوا فيما عدا ذبك من التفاصيل، فذهب أئمتنا - عليهم السلام - والجمهور من الصحابة، والتابعين، وأبو حنيفة (¬3) والشافعي (¬4)، ومالك (¬5) إلى أن الرضاع لا يحرم إلا ما كان في مدته، وهي حولان. وذهبت عائشة، والليث (¬6) وداود إلى أن الرضاع يحرم مطلقا، سواء كان المرضع كبيرا أو صغيرا، ولكنه قال الحافظ ابن حجر (¬7): إن في نسبة القول هذا إلى داود نظر، ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (108). من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني. (¬2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (2645) ومسلم رقم (1447): من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ". (¬3) انظر: " البناية في شرح الهداية " (4/ 807 - 809). (¬4) في " الأم " (10/ 94 - 96). (¬5) " المفهم " للقرطبي (4/ 188)، " الموطأ " (2/ 608). وانظر " فتح الباري " (9/ 146). (¬6) انظر " المحلى " (10/ 18 - 19). (¬7) في " فتح الباري " (9/ 147).

لأن ابن حزم ذكر عن داود مثل ما قاله الجمهور، وكذا نقل غيره من أهل الظاهر، وهم أخبر بمذهب صاحبهم، هكذا قال. وفي المسألة أقوال لا مقتضى لذكرها، فلنقتصر على محل البحث، كما أشرنا إليه. استدل أئمتنا - عليهم السلام - والجمهور بقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (¬1) فقصرت الآية الشريفة الإتمام على الحولين، ونفت الزيادة كما دل على ذلك المفهوم، وبما أخرجه البخاري (¬2)، ومسلم (¬3) وأبو داود (¬4)، عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وعندي رجل قاعد، فاشتد ذلك عليه، ورأيت الغضب في وجهه، فقلت: يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة، فقال: " انظرن من إخوانكن من الرضاعة، فإنما الرضاعة من المجاعة " والمعنى كما قال الحافظ (¬5): تأملن ما وقع من ذلك، هل هو رضاع صحيح، شرطه من وقوعه في زمن الرضاع، فإن الحكم الذي ينشأ من الرضاع إنما يكون إذا وقع الرضاع المشترط. وقال المهلب (¬6): معناه: انظرن ما سبب هذه الأخوة، فإن حرمة الرضاعة إنما هي في الصغر حين تسد الرضاعة المجاعة. وقال أبو عبيد (¬7): إن الذي جاع كان طعامه الذي يشبعه اللبن [من الرضاع] (¬8) لا حيث يكون الغذاء بغير .............. ¬

(¬1) [البقرة: 233]. (¬2) في صحيحه رقم (5102). (¬3) في صحيحه رق م (1455). (¬4) في " السنن " رقم (2058). (¬5) في " الفتح " (9/ 148). (¬6) ذكره الحافظ في " الفتح " (9/ 148). (¬7) ذكره الحافظ في " الفتح " (9/ 148)، وابن القيم في " زاد المعاد " (5/ 523). (¬8) زيادة من الفتح (9/ 148).

[ذلك] (¬1) وقوله: فإنما الرضاعة من المجاعة، توضح الباعث على إمعان النظر والفكر؛ لأن الرضاعة تثبت السبب، وتجعل الرضيع محرما، وقوله: من المجاعة، أي الرضاعة التي تثبت بها الحرمة حيث يكون الرضيع طفلا، يسد اللبن جوعته، لأن معدته ضعيفة يكفيها اللبن، وينبت بذلك لحمه، فيصير جزءا من المرضعة، فيشترك في الحرمة مع أولادها، فكأنه قال: لا رضاعة معتبرة إلا المغنية عن المجاعة. وقال المحقق ابن دقيق العيد - رحمه الله تعالى - في شرح العمدة (¬2): وفيه - يعني في هذا الحديث - دليل على أن (إنما) للحصر؛ لأن المقصود حصر الرضاعة المحرمة في المجاعة، لا مجرد إثبات الرضاع في زمن المجاعة. وقال القرطبي (¬3) في قوله: إنما الرضاعة من المجاعة: قاعدة كلية صريحة في اعتبار الرضاع في الزمن الذي يستغني به الرضيع باللبن، ويعتضد بقوله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (¬4) فإنه يدل على أن هذه أقصى مدة الرضاع المحتاج إليه عادة، المعتبر شرعا، فما زاد عليه لا يحتاج إليه عادة، فلا يعتبر شرعا، إذ لا حكم للنادر، والحدود الشرعية تبنى على الأغلب، فهذا الحديث الذي سقنا الكلام فيه، الواقع جوابا عن قول عائشة أنه أخي من الرضاعة قد وقع فيه الأمر الدال على الوجوب العام لها ولغيرها بالنظر منهن في الأخوة لهن وسببها، ثم توضيح الباعث على النظر، فإن حكم التحريم إنما ثبت مع المجاعة، وتأكدت دلالة الأمر على الوجوب برؤية الغضب في وجهه، واشتداد الأمر عليه. ومع هذا فإنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لم يستيقن عدم الأخوة لتجويزه أن تكون الرضاعة وقعت في غير سن الرضاعة، فدلالته على الحكم بعدم التحريم مع استيقان وقوع الرضاعة في غير زمنها ثابتة بالأولى، وهذا واضح. واستدلوا أيضًا بحديث ¬

(¬1) كذا في المخطوط والذي في الفتح [بغير الرضاع]. (¬2) (4/ 80). (¬3) في " المفهم " (4/ 188). (¬4) [البقرة: 233].

ابن مسعود: " لا رضاع إلا ما شد العظم وأنبت اللحم " أخرجه أبو داود (¬1) مرفوعًا عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وجديث أم سلمة عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي فكان قبل الفطام " أخرجه الترمذي وصححه، كما ذكره الظفاري في تخريج البحر، وحديث أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء " أخرجه الترمذي (¬2) وصححه، والحاكم (¬3). وحديث ابن عباس (¬4) رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: لا رضاع [إلا ما كان في الحولين] (¬5) [قال الدارقطني: لم يسند إلى] (¬6) ابن عيينة غير الهيثم بن جميل (¬7)، ¬

(¬1) في " السنن " (2060). قلت وأخرجه أحمد (6/ 80 رقم 4114 - شاكر) وفي سنده أبو موسى الهلالي وأبوه وهما مجهولان. لكن أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (7/ 463 رقم 138 95) والبيهقي في " السنن الكبرى " (7/ 461) من وجه آخر من حديث أبي حصين عن أبي عطية قال: جاء رجل إلى ابن مسعود فذكره بمعناه. انظر: " الإرواء " رقم (2153). الخلاصة: إن الحديث ضعيف، والله أعلم. (¬2) في " السنن " رقم (1152) وقال: حديث حسن صحيح. (¬3) تقدم، وقد قلنا: لعله ابن حبان، كما في " الفتح " (9/ 148). وهو حديث صحيح بشواهده. (¬4) أخرجه سعيد بن منصور في " سننه " رقم (974) والبيهقي في " السنن الكبرى " (7/ 462) وابن عدي في " الكامل " (7/ 2562) والدارقطني في " سننه " (4/ 174) وقد تقدم. انظر الرسالة رقم (108). (¬5) زيادة يقتضيها السياق. (¬6) زيادة من الرسالة السابقة يقتضيها السياق. (¬7) والذي في " الكامل " (7/ 2562) قال ابن عدي: " وهذا يعرف بالهيثم بن جميل عن ابن عقبة مسندا، وغير الهيثم يوقفه عن ابن عباس .... ".

وهو فقيه حافظ، فهذا صريح في أن الرضاع المحرم إنما يكون في الحولين لا غير. فهذه الأحاديث كلها واردة بأداة القصر، واضحة الدلالة على أن الرضاع المحرم المعتبر شرعا إنما يثبت حكمه مهما كان الرضيع يستغني باللبن عن غيره، وذلك لا يثبت في رضاع الكبير. وروى الإمام زيد بن عليه - عليه السلام - عن أمير المؤمنين علي - عليه السلام - أن رجلا أتاه فقال: إن لي زوجة، وإني أصبت خادمة فأتيتها يوما فقالت: لقد أرويتها من ثديي، فما تقول في ذلك؟ فقال أمير المؤمنين - عليه السلام -: انطلق قاتل امرأتك عقوبة ما أتت، وخذ بأي رجل أمتك شئت، لا رضاع إلا ما أنبت لحما أو شد عظما، ولا رضاع بعد فصال (¬1). وأخرج البيهقي (¬2) نحو هذا عن ابن عمر قال: عمدت امرأة من الأنصار إلى جارية لزوجها فأرضعتها، فلما جاء زوجها قالت: إن جاريتك قد صارت ابنتك، فانطلق الرجل إلى عمر فذكر ذلك له فقال له عمر: عزمت عليك لما رجعت فأصبت جاريتك، وأوجعت ظهر امرأتك، فإنما الرضاعة رضاعة الصغير. احتج القائل بأن رضاع الكبير يثبت به الحكم بالتحريم كالصغير بحديث عائشة، ولفظ مسلم (¬3) عنها أنها جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله، إني أرى في ¬

(¬1) أخرجه البيهقي في " السنن " (7/ 461)، وعبد الرزاق في مصنفه رقم (13897) و (13898). (¬2) في " السنن الكبرى " (7/ 461) ومالك في " الموطأ " (7/ 461) كلاهما من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر. وأخرجه البيهقي في " السنن الكبرى " (7/ 461) من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع. وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (13 891، 13892). (¬3) في صحيحه رقم (26، 30/ 1453). قلت: وأخرجه أحمد (6/ 38، 39) والنسائي (6/ 104، 105) وابن ماجه رقم (1943) وقد تقدم.

وجه أبي حذيفة من دخول سالم - وهو حليفه - فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: أرضعيه، فقالت: كيف أرضعه، وهو رجل كبير! فتبسم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وقال: " قد علمت أنه رجل كبير " وفي بعض روايات الحديث (¬1) عنها كما أخرجه الستة إلا النسائي أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وكان ممن شهد بدرا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - تبنى سالما وأنكحه ابنة أخيه الوليد بن عتبة، وهو مولى لامرأة من الأنصار، كما تبنى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - زيدا، وكان من تبنى رجلا في الجاهلية دعاه الناس إليه، وورثه من ميراثه، حتى أنزل الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} (¬2) إلى قوله: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} (¬3) فردوا إلى آبائهم، فمن لم يعلم له أب فمولى وأخ في الدين، فجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشي العامري، وهي امرأة أبي حذيفة إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله، إنا كنا نرى سالما ولدا وكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد، ويراني فضلا (¬4)، وقد أنزل الله تعالى فيه ما علمت، وكيف ترى يا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " أرضعيه " فأرضعته خمس مرات، فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة، فبذلك كانت تأمر عائشة بنات إخوتها، وبنات أخواتها أن يرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل ¬

(¬1) أخرجه أحمد (6/ 201، 255) ومالك في الموطأ (2/ 605). قلت: وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (27/ 1453) والنسائي (6/ 104 - 1105) وابن ماجه رقم (1943) بنحوه. (¬2) [الأحزاب: 5]. (¬3) [الأحزاب: 5]. (¬4) في حاشية المخطوط ما لفظه: الفضل بضمتين يعني امرأة فضلة إذا كانت في ثوب تحللت بين طرفين تعقدهما على عاتقها. تمت من خط المؤلف. قال ابن الأثير في " النهاية " (3/ 465) يراني فضلا أي مبتذلة في ثياب مهنتي، يقال: تفضلت المرأة: إذا لبست ثياب مهنتها، أو كانت في ثوب واحد، فهي فضل والرجل فضل أيضا.

عليها، وإن كان كبيرا خمس رضعات، ثم يدخل عليها، وأبت أم سلمة وسائر أزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحدا من الناس، حتى يوضع في المهد. وقلن لعائشة: ما ندري لعلها رخصة لسالم من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - دون الناس. وفي رواية زينب بنت أم سلمة عن أمها أم سلمة زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كما في مسلم (¬1) " أنها كانت تقول: أبى سائر أزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن يدخلن عليهن أحدا بتلك الرضعة، وقلن لعائشة: والله ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لسالم خاصة، فما هو بداخل علينا بهذه الرضاعة ولا رائينا ". وروى الشافعي (¬2) - رحمه الله - عن أم سلمة أنها قالت في الحديث: كان رخصة لسالم خاصة. قال الشافعي (¬3) فأخذنا به يقينا لا ظنا، حكاه عنه البيهقي في المعرفة (¬4)، قال: إنما قال هذا لأن الذي في غير هذه الرواية أن أمهات المؤمنين قلن ذلك بالظن. ورواه عن أم سلمة بالقطع. ذكر ذلك في شرح التقريب (¬5). وقد أجيب عن قصة سالم بأجوبة منها ما قاله أبو الوليد الباجي (¬6) أنه قد انعقد الإجماع على خلاف التحريم برضاعة الكبير. قال القاضي عياض (¬7): لأن الخلاف إنما كان أولا ثم انقطع. وهذا مبني على ما هو ¬

(¬1) في صحيحه رقم (1454). (¬2) في " الأم " (10/ 95 - 96) وقد تقدم. (¬3) انظر " الأم " (10/ 96). (¬4) (11/ 264 رقم 15477). (¬5) (7/ 136). (¬6) عزاه إليه زين الدين العراقي في " طرح التثريب في شرح التقريب " (7/ 137). (¬7) عزاه إليه زين الدين العراقي في " طرح التثريب في شرح التقريب " (7/ 137).

المختار في الأصول من أنه لا يشترط في انعقاد الإجماع أن لا يسبقه خلاف، بل يصير حجة بعد الخلاف كما عرف في محله. ومنها أنه حكم منسوخ، وبه جزم المحب الطبري (¬1). وحكى الخطابي (¬2) عن عامة أهل العلم أنهم حملوا ذلك على الخصوص أو النسخ. ومنها الخصوصية لسالم وامرأة أبي حذيفة. والأصل فيه قول أزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - خاصة. وقد سبق قريبا ما رواه الشافعي (¬3) عن أم سلمة أنها قالت: كان رخصة لسالم خاصة على جهة الجزم. وقرره ابن الصباغ (¬4) وغيره بأن قصة سالم ما كان وقع من النبي قبل أن ينهى عنه، فكان وقوع الترخيص مترتبا على التبني قبل النهي عنه، الذي أدى إلى الخلطة بسلهة، وتنزيله منزلة الولد الذي يصير قلب أمه فارغا لعدم رؤيته، وملابسته كما هو مقتضى تقرير الخصوصية، فلا يصح أن يثبت للتبني بعد النهي مثل الحكم الذي يثبت له قبل النهي، لأن المتبنى لا يحل له ذلك، وإن كان جاهلا أيضًا فهو الجاني على نفسه بفعل ما قد حرم، فلا يثبت الرخصة التي ثبتت لسلهة. وقرره آخرون بأن الأصل أن الرضاع لا يحرم، فلما ثبت ذلك في الصغر خولف الأصل، وبقي ما عداه على الأصل. وقضية سالم واقعة عين (¬5) يطرقها احتمال الخصوصية، فيجب الوقوف عن الاحتجاج ¬

(¬1) ذكره الحافظ في " الفتح " (9/ 149). (¬2) في " معالم السنن " (2). (¬3) في " الأم " (10/ 95 - 96). (¬4) ذكره الحافظ في " الفتح " (9/ 149) وقد تقدم ذكره في الرسالة (108). (¬5) ذكره الحافظ في " الفتح " (9/ 149) وقد تقدم في الرسالة (108). وانظر " زاد المعاد " (5/ 513 - 518).

بها. وقال العلامة المقبلي - رحمه الله - في المنار (¬1) بعد أن ذكر أن للحديث علة بمنع صدقه ما لفظه: ولأم المؤمنين في باب الرضاع أغرب من هذا، وإن كان الغرابة هنا من حيث الرواية، وهناك من حيث الاجتهاد؛ وذلك قولها برضاع الكبير أنها محرمة لحديث سهلة امرأة أبي حذيفة، فأخذت وعممت الحكم، وكان يدخل عليها بتلك الرضاعة، ويعارضه أحاديث أن الرضاعة في الحولين (¬2)، وفي الثدي، أي في وقت حاجة الرضيع إليه، واستغنائه به، وأقوى ما يبين الخصوصية أن يقال: مباشرة الرجل لأجنبية ممنوعة قطعا بالإجماع وغيره من الأدلة (¬3)، وهو حكم عام مستمر، فهذا أقوى من الحديث المذكور، فيتعين صحة اجتهاد زوجاته المطهرات، وخطأ اجتهادها. وإنما قعقع ناس بتعظيم حرمتها فكيف بهتك حجاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وأنها وأنها ¬

(¬1) (2/ 580). (¬2) قال أصحاب الحولين: قال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، قالوا: فجعل تمام الرضاعة حولين، فدل على أنه لا حكم لما بعدهما، فلا يتعلق به التحريم. قالوا: وهذه المدة هي مدة المجاعة التي ذكرها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقصد الرضاعة المحرمة عليها. قالوا: وهذه مدة الثدي الذي قال فيها: " لا رضاع إلا ما كان في الثدي " أي في زمن الثدي، وهذه لغة معروفة عند العرب فإن العرب يقولون: مات فلان في الثدي، أي في زمن الرضاع قبل الفطام، ومنه الحديث المشهور: " إن إبراهيم مات في الثدي، وإن له مرضعا في الجنة تتم رضاعه " - أخرجه مسلم في صحيحه رق م (2316) وأحمد (3/ 112) من حديث أنس، يعني إبراهيم ابنه صلوات الله وسلامه عليه. قالوا: وأكد ذلك بقوله: " لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء " وكان في الثدي قبل الفطام، فهذه ثلاثة أوصاف للرضاع المحرم، ومعلوم أن رضاع الشيخ الكبير عار من الثلاثة. انظر " زاد المعاد " (5/ 515). (¬3) انظر: " المفهم " للقرطبي (4/ 188) وقد تقدم ذكره.

فيقال لهم: ليست معصومة، وأيهما أشد خطرا هذه المسألة أم حرب علي (¬1) - كرم الله وجهه؟ - انتهى كلامه. وقال البيهقي في السنن الكبرى (¬2): وإذا كان هذا لسالم خاصة فالخاص لا يكون مخرجا من حكم العام، ولا يجوز إلا أن يكون رضاع الكبير غير محرم، ويعني بهذا أنه لا يصح حينئذ أن يكون من باب تخصيص العموم. وقال (¬3): فلا يحكم بأن رضاع الكبير مطلقا محرما كما ذهبت عائشة إلى تعميم الحكم كما سبق، ولا مع زيادة قيد أيضا، بل توقف قضية سالم في محلها كما ذهب إلى ذلك أئمتنا - عليهم السلام - (¬4) والجمهور، وهو القول الراجح فيما يظهر - والله سبحانه أعلم - وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. انتهى الجواب المحرر كما في الأم المنقولة من خط المجيب سيدي الوالد العلامة الجليل شرف الدين بن إسماعيل بن محمد بن إسحاق - عافاه الله، وأبقاه، وزاد مما أولاه - آمين. ¬

(¬1) انظر صحيح تاريخ الطبري القسم الثالث: " الخلفاء الراشدون " اختيار وتخريج محمد صبحي بن حسن حلاق ومحمد بن طاهر الرزنجي. (¬2) في " السنن الكبرى " (7/ 460). (¬3) أي البيهقي. (¬4) انظر: " فتح الباري " (9/ 146 - 150)، " مجموع الفتاوى " لابن تيمية (34/ 60 - 61). فقد قال بن تيمية في " مجموع الفتاوى " (34/ 60): يعتبر الصغر في الرضاعة إلا إذا دعت إليه الحاجة كرضاع الكبير الذي لا يستغنى عن دخوله على المرأة ويشق احتجابها عنه، كحال سالم مع امرأة أبي حذيفة، فمثل هذا الكبير إذا أرضعته للحاجة أثر رضاعه. وأما ما عداه فلا بد من الصغر. قال الأمير الصنعاني في " سبل السلام " (6/ 265): هذا جمع حسن بين الأحاديث، وإعمال لها من غير مخالفة لظاهرها باختصاص ولا نسخ ولا إلغاء لما اعتبرته اللغة ودلت عليه الأحاديث. وقال ابن القيم في " زاد المعاد " (5/ 517): " والأحاديث النافية للرضاع في الكبير إما مطلقة، فتقيد بحديث سهلة، أو عامة في الأحوال فتخصيص هذه الحال من عمومها، وهذا أولى من النسخ ودعوى التخصيص بشخص بعينه، وأقرب إلى العمل بجميع الأحاديث من الجانبين، وقواعد الشرع تشهد له " اهـ.

إيضاح الدلالات على أحكام الخيارات

إيضاح الدلالات على أحكام الخيارات (¬1) تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب ¬

(¬1)

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين. وبعد: فإنه ورد هذا السؤال من سيدي العلامة المفضال، حسنة الآل، بقية أرباب الزهد والحلال إسماعيل بن أحمد بن محمد الكبسي (¬1) - كثر الله فوائده، ومد على الطلاب موائده - وهذا لفظه: من حسنات علماء الإسلام - كثر الله وجودهم الملك العلام - حل ما أشكل في خيار المغابنة، وإيضاح المرام، هل له حكم خيار الإحازة كما قاله ابن بهران - رحمه الله تعالى - ناقلا عن الغيث (¬2): أنه في التحقيق يرجع إلى خيار الإحازة؟ فمع هذا إن كان المبيع باقيا على صفته من غير زيادة ولا نقص فلا إشكال في أن الحكم الرد بالخيار، أو الإمضاء، وإن كان قد زاد أو نقص فما الحكم؟ هل يمتنع الرد ويلزم ما بين الثمن والقيمة كما نرى عليه الحكام في العصر إذا ادعى مدع الغبن فيما باعه عنه غيره أنهم يأمرون من أول الأمر بتقويم عدلين، ويلزمون المشتري ما نقص عن القيمة، أم لا يمتنع ¬

(¬1) ولد تقريبا سنة 1150 هـ، وهو أحد علماء صنعاء المعاصرين، له عرفان بالنحو والصرف، والمعاني والبيان، والفقه، وإلمام بالأصول ولا سيما أصول الدين، وهو بمكان من الزهد والعفة والقنوع بما يصل إليه، وإن كان يسيرا. قال الشوكاني في " البدر الطالع " رقم (87): وله إلي سؤالات وكان ساكنا الروضة، فأرسلها إلي مع شيخنا العلامة الحسن بن إسماعيل المغربي رحمه الله، فأجبت عليها بجواب طويل، وأرسلتها إليه مع شيخنا المذكور .... قال في " نيل الأوطار " (1/ 267): توفي صاحب الترجمة يوم الجمعة لست عشر ليلة خلت من صفر سنة 1206 هـ. انظر: " نيل الأوطار " (1/ 261 - 267)، " البدر الطالع " رقم (87). (¬2) تقدم التعريف بهذا الكتاب.

الرد مطلقا؟ فالكل مشكل، أو لخيار المغابنة حكم خيار العيب، وهو به أشبه من حيث إن كل واحد منهما واقع مع التزام العقد، فيتمشى عمل الحكام، لكنه لم يظهر مأخذه من كلام أهل المذهب الشريف وغيرهم، ولا من نص عليه من أهل العلم، وبقي إشكال آخر في إلزام الحكام للبائع المدعي للغبن بتقويم عدلين من أول الأمر، وجعل أجرة العدلين بينهما نصفين، وتقويمهما هو بينة يلزم المدعي، وكان الظاهر إلزام مدعي الغبن البينة، والمشتري اليمين؟ فأفيدوا في الأطراف كلها - أحيا الله بوجودكم الشريعة الغراء، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وآله الكرام - انتهى السؤال.

وقد أجاب عليه ثلاثة من علماء الإسلام، هم في كل فن راسخو الأقدام، بل هم ورابعهم السائل، كثر الله فوائده. أربعة (¬1) عندي هم ما هم ... أعلم من يهدي طريق الصواب فمن رام الوقوف على تحقيق الحق في هذه المسألة فليضم ما حرروه إلى ما أحرره - إن شاء الله - هنا فأقول، مستعينا بالله، ومتكلا عليه: إن الخيارات الثلاثة عشر المعدودة في كتب الفقه كل واحد منها لا يخلو عن نوع من أنواع الغرر، فهو العلة المقتضية للفسخ في جميعها، ورجوع بعضها إليها ظاهر لا يخفى، ورجوع البعض الآخر فيه بعض خفاء يزول بالبيان، ونحن الآن نبين لك ذلك لتعلم صحة ما ذكرناه، فنقول: الأنواع التي ترجع إلى الغرر رجوعا واضحا هو تسعة: الأول: خيار فقد الصفة (¬2)؛ فإنه إنما ثبت الفسخ به لكون المشتري لما فقد الصفة التي اعتقد وجودها في المبيع كان مغرورا في الجملة، وإن لم يكن للبائع عناية في ذلك؛ إذ المراد وجود الغرر، فإن الباعث على المبيع هو كون المشتري اعتقد المبيع متصفا بتلك الصفة، هذا على فرض أنها لم تكن مشروطة، ولكنه قد حصل العلم بأن المشتري كان عند العقد معتقدا لوجودها، أما إذا كانت مشروطة فالأمر أوضح. الثاني: خيار الخيانة في المرابحة (¬3)، .................... ¬

(¬1) انظر " المغني " (66/ 266). (¬2) انظر " المغني " (6/ 33 - 34). (¬3) قال العيني في " البناية في شرح الهداية " (7/ 413 - 415): المرابحة نقل ما ملكه بالعقد الأول بالثمن مع زيادة ربح. وقيل: نقل ما ملكه من السلع بما قام عندهم. وقال " القدوري " المرابحة: نقل ما ملكه بالعقد الأول بالثمن الأول مع زيادة ربح. والمرابحة: مصدر رابح من باب المفاعلة الذي يستدعي مشاركة الاثنين. وانظر: " الحاوي الكبير " (6/ 339). قال الماوردي في " الحاوي الكبير " (6/ 339): بيع المرابحة، فصورته: أن يقول: أبيعك هذا الثوب مرابحة، على أن الشراء مائة درهم وأربح في كل عشرة واحد، فهذا بيع جائز لا يكره، وحكى عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس عنهما: أنهما كرها ذلك مع جوازه. وحكي عن إسحاق بن راهويه: أنه أبطله ومنع من جوازه، استدلالا بأن الثمن مجهول، وإن كذبه في إخبار الشراء غيري مأمون. وقال النووي في " الروضة " (3/ 185): " هو بيع جائز من غير كراهة، وهو عقد يبني الثمن فيه على ثمن البيع الأول مع زيادة، وله عبارات متداولة ".

والتولية (¬1)، فإن الغرر فيه في غاية الوضوح، بل هو أظهر أنواع الغرر؛ لأن ....................... ¬

(¬1) بيع التولية: هو البيع بمثل ثمنه من غير نقص ولا زيادة. وحكمه في الإخبار بثمنه. وتبيين ما يلزمه تبيينه، حكم المرابحة في ذلك كله، ويصح بلفظ البيع ولفظ التولية. " المغني " (6/ 274). التولية: قال ابن قدامة في " المغني " (6/ 195): " وإن قال: ولني ما اشتريته بالثمن فقال: وليتك، صح، إذا كان الثمن معلوما لهما، فإن جهله أحدهما، لم يصح ". وقيل التولية: نقل ما ملكه بالعقد الأول بالثمن الأول من غير زيادة ربح. " البناية " (7/ 413). ثم قال صاحب " البناية " (7/ 414 - 415): والبيعان جائزان - المرابحة والتولية - لاستجماع شرائط الجواز والحاجة ماسة إلى هذا النوع من البيع لأن الغبي الذي لا يهتدي في التجارة يحتاج إلى أن يعتمد على فعل الذكي المهتدي، ويطيب نفسه بمثل ما اشترى وبزيادة ربح، فوجب القول بجوازها. ولهذا كان مبنناهما على الأمانة والاحتراز عن الخيانة وعن شبهتها، وقد صح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أراد الهجرة ابتاع أبو بكر رضي الله عنه بعيرين، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ولني أحدهما " فقال: هو لك بغير شيء، فقال عليه الصلاة والسلام: " أما بغير ثمن فلا ". - وفي رواية البخاري رقم (2138): من حديث عائشة قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " .... قد أخذتها بالثمن " -. ولا تصح المرابحة والتولية حتى يكون العوض مما له مثل لأنه إذا لم يكن له مثل لو ملكه ملكه بالقيمة وهو مجهولة، ولو كان المشتري باعه مرابحة ممن يملك ذلك البدل وقد باعه بربح درهم أو بشيء من المكيل موصوف جاز لأنه يقدر على الوفاء بما التزم. وإن باعه بربح (ده بازده) لا يجوز لأنه باعه برأس المال وببعض قيمته لأنه ليس من ذوات الأمثال، ويجوز أن يضيف إلى رأس المال أجرة القصار والطراز والصبغ، والفتل وأجرة حمل الطعام لأن العرف جار بإلحاق هذه الأشياء برأس المال في عادة التجار. ولأن كل ما يزيد في المبيع أو في قيمته يلحق به هذا هو الأصل، وما عددناه بهذه الصفة لأن الصبغ وأخواته يزيد في العين والحمل يزيد في القيمة. إذ القيمة تختلف باختلاف المكان. ويقول قام علي بكذا، ولا يقول اشتريته بكذا كيلا يكون كاذبا. فإن اطلع المشتري على خيانة في المرابحة فهو بالخيار عند أبي حنيفة إن شاء أخذه بجميع الثمن وإن شاء تركه. وإن اطلع على خيانة في التولية أسقطها من الثمن، وقال الثمن. وقال أبو يوسف: يحط فيهما، وقال محمد: يخير فيهما. وقال ابن قدامة في " المغني " (6/ 266): بيع المرابحة: هو البيع برأس المال وربح معلوم ويشترط علمهما برأس المال فيقول: رأس مال فيه، أو هو علي بمائة بعتك بها وربح عشرة، فهذا جائز لا خلاف في صحته، ولا نعلم فيه عند أحد كراهة، وإن قال: بعتك برأس مال فيه وهو مائة، وأربح في كل عشرة درهما، أو قال: (ده يازده أو ده داوزده) - فارسية بمعنى ما تقدم، فقد كرهه أحمد.

الخيانة فيهما غرر صادر من جهة البائع بلا شك ولا شبهة (¬1). الثالث: خيار الصبرة (¬2) التي علم ......................... ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة. (¬2) الصبرة: الطعام المجتمع كالكومة، وجمعها صبر. قال ابن قدامة في " المغني " (6/ 201 - 203): ولا يضر عدم مشاهدة باطن الصبرة، فإن ذلك يشق، لكون الحب بعضه على بعض، ولا يمكن بسطها حبة حبة، ولأن الحب تتساوى أجزاؤه في الظاهر، فاكتفي برؤية ظاهره، بخلاف الثوب فإن نشره لا يشق ولم تختلف أجزاؤه. ولا يحل لبائع الصبرة أن يغشها، بأن يجعلها على دكة، أو ربوة أو حجر ينقصها، أو يجعل الرديء في باطنها أو المبلول، ونحو ذلك. لما روى أبو هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر على صبرة من طعام، فأدخل يده فنالت أصابعه بللا، فقال: " يا صاحب الطعام، ما هذا؟ " قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: " أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس؟ " ثم قال: " من غشنا فليس منا ". - أخرجه مسلم في صحيحه رقم (102) والترمذي رقم (1315) وابن ماجه رقم (2224) وأبو داود رقم (3452) وأحمد (2/ 242) من طرق -. فإذا وجد ذلك، ولم يكن المشتري علم به، فله الخيار بين الفسخ وأخذ تفاوت ما بينهما، لأنه عيب، وإن بان تحتها حفرة أو بان باطنها خيرا من ظاهرها فلا خيار للمشتري لأنه زيادة له. وإن علم البائع ذلك، فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة به، وإن لم يكن علم، فله الفسخ، كما لو باع بعشرين درهما، فوزنها بصنجة ثم وجد الصنجة زائدة، كان له الرجوع، وكذلك لو باع بمكيال ثم وجده زائدا. ويحتمل أنه لا خيار له لأن الظاهر أنه باع ما يعلم، فلا يثبت له الفسخ بالاحتمال.

قدرها البائع فقط (¬1)، فإن إقدام المشتري على شراء ما لم يعلم بقدره إقدام على جهالة، ¬

(¬1) قال أحمد: ومن عرف مبلغ شيء لم يبعه صبرة. وكرهه عطاء وابن سيرين، ومجاهد وعكرمة. وبه قال مالك، وإسحاق. وروي ذلك عن طاووس، قال مالك: لم يزل أهل العلم ينهون عن ذلك. وعن أحمد أن هذا مكروه غير محرم، فإن بكر بن محمد روى عن أبيه، أنه سأله عن الرجل يبيع الطعام جزافا وقد عرف كيله، وقلت له: إن مالكا يقول: إذا باع الطعام ولم يعلم المشتري فإن أحب أنيرده رده، قال: هذا تغليظ شديد. ولكن لا يعجبني إذا عرف كيله، إلا أن يخبره، فإن باعه، فهو جائز عليه، وقد أساء. ولم ير أبو حنيفة، والشافعي بذلك بأسا؛ لأنه إذا جاز البيع مع جهلهما بمقداره، فمع العلم من أحدهما أولى. ووجه الأول: ما روى الأوزاعي، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من عرف مبلغ شيء فلا يبعه جزافا حتى يبينه " - أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (8/ 131). قال القاضي: وقد روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه نهى عن بيع الطعام مجازفة. وهو يعلم كيله. والنهي يقتضي التحريم، وأيضا الإجماع الذي نقله مالك. ولأن الظاهر أن البائع لا يعدل إلى البيع جزافا مع علمه بقدر الكيل، إلا للتغرير بالمشتري والغش له، ولذلك أثر في عدم لزوم العقد، وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من غشنا فليس منا " - تقدم تخريجه - فصار كما دلس العيب. فإن باع ما علم كيله صبرة، فظاهر كلام أحمد في رواية محمد بن الحكم، أن البيع صحيح لازم، وهو قول مالك والشافعي؛ لأن المبيع معلوم لهما، ولا تغرير من أحدهما، فأشبه ما لو علما كيله أو جهلاه، ولم يثبت ما روى من النهي فيه، وإنما كرهه أحمد كراهة تنزيه، لاختلاف العلماء فيه، ولأن استواءهما في العلم والجهل أبعد من التغرير. وقال القاضي وأصحابه: هذا بمنزلة التدليس والغش إن علم به المشتري، فلا خيار له؛ لأنه دخل على بصيرة، فهو كما لو اشترى مصراة، يعلم تصريتها، وإن لم يعلم أن البائع كان عالما بذلك فله في الفسخ والإمضاء، وهذا قول مالك؛ لأنه غش وغرر من البائع، فصح العقد منه، ويثبت للمشتري الخيار، وذهب قوم من أصحابنا إلى أن البيع فاسد لأنه منهي عنه، والنهي يقتضي الفساد.

وذلك تكرير من غير نظر إلى كون سكوت البائع عن بيان القدر تغريرا. والرابع: خيار المغابنة (¬1)، فإن شراء الشيء أو بيعه بغبن غرر؛ لأنه لو علم بذلك لم يقدم عليه. أما إذا كان الغبن بسبب من البائع أو المشتري، من رفع أو وضع، غير مطابقين للخارج، فالأمر ظاهر، وأما إذا كان لا بذلك السبب بل بسبب كون المغبون لا يدري بأنه مغبون فقد حصل الغرر في الجملة. والخامس والسادس والسابع: خيار جهل قدر الثمن (¬2)، أو المبيع، أو تعيينه، فإن من لم يعلم بمقدار ثمن ما شراه، أو باعه، أو لم يعلم بمقدار ما باعه أو ما شراه، أو لم يعلم بأن ما باعه أو شراه هو هذا الشيء بعينه دون غيره، فلا شك ولا ريب أنه قد أقدم على هذه الأمور وهو مغرور في الجملة؛ لأنه خاطر بماله، وغرر به، وهو لا يدري بأنه غابن أو مغبون، أو لا غابن ولا مغبون. والثامن: خيار الرؤية (¬3)، فإن من اشترى ما لم يره ولا عرفه قد وقع في أعظم أنواع الغرر. والتاسع: خيار العيب (¬4)، فإن من اشترى شيئا انكشف له أن به عيبا من قبل العقد ¬

(¬1) انظر: " المغني " (6/ 36). (¬2) انظر: " البناية في شرح الهداية " (7/ 442). (¬3) انظر: " المغني " (6/ 33 - 34) و" البناية في شرح الهداية " (7/ 229). (¬4) انظر: " المغني " (6/ 226 - 228). " الحاوي الكبير " (6/ 295).

مغرور في الجملة؛ لأنه لو علم بذلك العيب لم يقدم على الشراء بلا شك، فهذه تسعة خيارات من الخيارات المعدودة في كتب الفقه، قد رجعت إلى الخيار العاشر منها، وهو الخيار المسمى بخيار الغرر، كبيع المصراة، وبقيت ثلاثة أنواع ربما يخفى رجوعها إلى الغرر، ولكنه يرتفع الخفاء بالإيضاح لوجه الرجوع. الأول من الثلاثة: كون العقد موقوفا، فإن العاقد إنما يقدم على العقد لتترتب عليه آثاره، والعقد الموقوف قد صار المعقود عليه فيه في حكم المحبوس، فجميع آثاره غير مترتبة عليه، فالعاقد قد وقع بعقده في نوع من أنواع الغرر، فله التخلص مما وقع فيه. والثاني: خيار تعذر تسليم المبيع؛ فإن المشتري لو علم بأن العين التي اشتراها متعذر تسليمها لم يعقد عليها، وذلك غرر، فله التخلص عنه بالفسخ. والثالث: خيار الشرط، فإن المشتري، أو البائع لو كان على بصيرة من نفسه، ولم يكن عنده جهالة تستلزم الغرر في الجملة لم يشرط لنفسه أجلا، فلما شرطه كان متمكنا من التخلص قبل أن تلزم الصفقة، ويتم البيع. فهذه ثلاثة عشر خيارا، وهي المعدودة في كتب الفقه قد رجع اثنا عشر منها إلى واحد، وهو خيار الغرر على ما بيناه. وإذا تقرر لك هذا في الأنواع المعدودة في كتب الفقه فاعلم أن الأدلة الواردة في الخيار هي جميعها راجعة إلى الغرر لا تخرج عنه، وبيان ذلك أن جملة الأدلة المثبتة للخيار ستة: الأول: بيع المصراة (¬1)؛ فإنه ثبت في ¬

(¬1) التصرية: جمع اللبن في الضرع. يقال: صرى الشاة، وصرى اللبن في ضرع الشاة، بالتشديد والتخفيف. ويقال: صرى الماء في الحوض، وصرى الطعام في فيه وصرى الماء في ظهره، إذا ترك الجماع. انظر: " غريب الحديث " (2/ 241). قال البخاري في صحيحه (4/ 361): والمصراة التي صري لبنها وحقن فيه وجمع فلم يحلب أياما. وأصل التصرية حبس الماء، يقال منه: صريت الماء: إذا حبسته.

الصحيح (¬1) بألفاظ، منها بلفظ: " لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر "، وسائر الألفاظ تؤدي هذا المعنى، ويفيد هذا المفاد، ومعلوم أن العلة التي ثبت الفسخ لأجلها هي ما وقع فيه المشتري من الغرر بسبب التصرية (¬2) التي كانت سببا ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2150) ومسلم رقم (11/ 1515) وأحمد (2/ 242، 394، 410، 465) ومالك في " الموطأ " (2/ 683 رقم 966) وأبو داود رقم (3443) والنسائي (7/ 253) والبيهقي (5/ 318) من حديث أبي هريرة وهو حديث صحيح. (¬2) قال ابن قدامة في هذه المسألة ثلاثة فصول: الأول: أن من اشترى مصراة من بهيمة الأنعام، لم يعلم تصريتها، ثم علم فله الخيار في الرد أو الإمساك، روي ذلك عن ابن مسعود، وابن عمر وأبي هريرة وأنس. وإليه ذهب مالك، وابن أبي ليلى، والشافعي وإسحاق وأبو يوسف وعامة أهل العلم. وذهب أبو حنيفة ومحمد إلى أنه لا خيار له؛ لأن ذلك ليس بعيب بدليل أنها لم تكن مصراة فوجدها أقل لبنا من أمثالها، لم يملك ردها. والتدليس بما ليس بعيب لا يثبت الخيار، كما لو علفها فانتفخ بطنها، فظن المشتري أنها حامل. قال ابن قدامة: ولنا ما روى أبو هريرة - تقدم الحديث - ولأن هذا تدليس بما يختلف الثمن باختلافه، فوجب الرد. الثاني: أنه إذا ردها، لزمه رد بدل اللبن، وهذا قول كل من جوز ردها، وهو مقدر في الشرع بصاع من تمر، كما في الحديث الصحيح - تقدم ذكره - وهذا قول الليث وأسحاق، والشافعي، وأبي عبيد وأبي ثور، وذهب مالك وبعض الشافعية إلى أن الواجب صاع من غالب قوت البلد ... ". " المغني " (6/ 216 - 220). " الحاوي الكبير " (6/ 286). الثالث: وإن علم بالتصرية قبل حلبها، مثل أن أقر به البائع، أو شهد به من تقبل شهادته، فله ردها، ولا شيء معها؛ لأن التمر وجب بدلا من اللبن المحتلب، وهذا قول مالك، قال ابن عبد البر: هذا ما لا خلاف فيه، أي إذا لم يحلبها لم يلزمه رد شيء معها. وأما إذا احتلبها وترك اللبن بحاله ثم ردها، رد لبنها أيضًا شيئا، لأن المبيع إذا كان موجودا فرده، لم يلزمه، فإن أبى البائع قبوله، وطلب التمر لم يكن له ذلك، إذا كان بحاله لم يتغير. وإن كان اللبن قد تغير ففيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه قبوله. وهذا قول مالك، للخبر، ولأنه قد نقص بالحموضة أشبه ما لو أتلفه. الثاني: يلزمه قبوله، لأن النقص حصل باستلام المبيع، وبتغرير البائع، وتسليطه على حلبه فلم يمنع الرد كلبن غير المصراة. " المغني " (6/ 220)، " الحاوي الكبير " (6/ 290 - 292)، " فتح الباري " (4/ 362 - 368). ومن ألفاظ الحديث: - ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2149) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " من اشترى شاة محفلة فليرد معها صاعا من تمر . ". - وأخرج البخاري في صحيحه رقم (2148) قال أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها: إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاع تمر ". ويذكر عن أبي صالح، ومجاهد والوليد بن رباح وموسى بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صاع تمر " وقال بعضهم عن ابن سيرين، صاعا من طعام، وهو بالخيار ثلاثا ". - وأخرج مسلم في صحيحه رقم (25/ 1524) وأبو داود رقم (3444) والترمذي رقم (1252) والنسائي (7/ 254 رقم 4489) ومالك (2/ 683 - 684 رقم 96) وأحمد (2/ 248، 259، 273، 317، 386). عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من اشترى مصراة فهو منها بالخيار ثلاثة أيام، إن شاء أمسكها وإن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر لا سمراء ".

لاعتقاد أنها تحلب في العادة مثل تلك الحلبة الواقعة عقب التصرية. الدليل الثاني: حديث حبان بن المنقذ (¬1) الذي كان يخدع في البيوع، وكان في ¬

(¬1) أخرج البخاري رقم (2117) ومسلم رقم (48/ 1533)، وأبو داود رقم (3500) والنسائي (7/ 252 رقم 4484) والبغوي في شرح السنة (8/ 46) والبيهقي (5/ 273) والطيالسي رقم (1881) ومالك (2/ 38 رقم 1019). قلت: لكن لم يعين فيه اسم الرجل ولا ذكر فيه الخيار بل الحديث الذي عين فيه ذلك فقد أخرجه ابن الجارود رقم (567) والدارقطني (3/ 54 - 55 رقم 217) والبيهقي في " المعرفة " كما في " نصب الراية " (4/ 6) وفي " السنن الكبرى " (5/ 273) والحاكم (2/ 22) وسكت عنه وصححه الذهبي والحميدي في مسنده (2/ 292 رقم 662). ولفظه: " ثم أنت بالخيار في كل سلعة بعتها ثلاث ليال ".

عقله ضعف، وكان لا يصبر عن البيع؛ فإنه لما نهاه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن البيع فقال: يا نبي الله، لا أصبر عن البيع. وله طرق وألفاظ في الصحيحين وغيرهما، منها في الصحيحين بلفظ: " من بايعت فقل: لا خلابة "، وفي بعض ألفاظه أنه جعل له الخيار ثلاثا. وفي لفظ البخاري (¬1): " إذا أنت بايعت فقل: لا خلابة، ثم أنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال، إن رضيت فأمسك، وإن سخطت فارددها على صاحبها " ولا شك ولا ريب أن العلة في هذا هي الغرر بالخدع. ¬

(¬1) في تاريخه (4/ 2 17). قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (2355). عن محمد بن يحيى بن حبان قال: هو جدي منقذ بن عمر وكان رجلا قد أصابته آمة في رأسه فكسرت لسانه، وكان لا يدع على ذلك التجارة، فكان لا يزال يغبن، فأتي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر ذلك له، فقال: " إذا أنت بايعت فقل: لا خلابة ثم أنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال، إن رضيت فأمسك وإن سخطت فارددها على صاحبها ". وهو حديث حسن. - وأخرج الحميدي في مسنده رقم (662): عن ابن عمر: أن منقذا سفع في رأسه في الجاهلية مأمومة، فخبلت لسانه، فكان إذا بايع يخدع في البيع، فقال له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بايع وقل: لا خلابة، ثم أنت بالخيار ثلاثا " قال ابن عمر: فسمعته يبايع ويقول: لا خذابة لا خذابة. - وأخرج أبو داود رقم (3501) والترمذي (1250) وقال: حسن صحيح غريب والنسائي رقم (4485) وابن ماجه رقم (2354) وأحمد (3/ 217) والدارقطني (3/ 55 رقم 218، 219) وابن الجارود (2/ 159 رقم 568) عن أنس الأئمة، رجلا على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبتاع وكان في عقدته - يعني في عقله - ضعف، فأتى أهله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: يا رسول الله احجر على فلان، فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف، فدعاه ونهاه، فقال: يا نبي الله إني لا أصبر عن البيع، فقال: " إن كنت غير تارك للبيع فقل: ها وها ولا خلابة ". وهو حديث صحيح.

الدليل الثالث: حديث النهي عن تلقي الجلب، وله ألفاظ (¬1) منها في الصحيح (¬2) وغيره بلفظ: " فإن تلقاه إنسان فابتاعه فصاحب السلعة فيها بالخيار، إذا وردت السوق " ولا ريب أن العلة في الخيار إذ ذاك هي أنه قد وقع عليه الغرر قبل ورود السوق، فباع بثمن دون الذي يباع به في السوق، فأثبت له الخيار ليبيعها بالثمن الذي يدفع فيها في السوق. الدليل الرابع: دليل خيار المجلس، وله طرق، وألفاظ، منها في الصحيحين (¬3) بلفظ: ¬

(¬1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2158) وطرفاه رقم (2163، 2274) ومسلم في صحيحه رقم (19/ 1521)، وأبو داود رقم (3439) والنسائي رقم (4500) وابن ماجه رقم (2177) عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تلقوا الركبان ولا يبع حاضر لباد " قلت لابن عباس: ما قوله: " ولا يبع حاضر لباد "؟ قال: لا يكون له سمسارا. - وأخرج البخاري في صحيحه رقم (2166، 2167) ومسلم رقم (1517) وأبو داود رقم (3436) والنسائي رقم (4498، 4499) وابن ماجه رقم (2179) عن ابن عمر: " كنا نتلقى الركبان فنشتري منهم الطعام، فنهانا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نبيعه حتى يبلغ به سوق الطعام ". وأخرج البخاري في صحيحه رقم (2167) عن ابن عمر: " كانوا يبتاعون الطعام في أعلى السوق فيبيعونه في مكانه، فنهاهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبيعوه في مكانه حتى ينقلوه ". (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (16، 17/ 1519) وأبو داود رقم (3437) والترمذي رقم (1221) وقال: هذا حديث حسن غريب. وابن ماجه رقم (2178) والبيهقي (5/ 348) وأحمد (2/ 284، 403) والدارمي (2/ 255). (¬3) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2107) وأطرافه رقم (2109، 2111، 2112، 2113، 2116) ومسلم في صحيحه رقم (1531) وأبو داود رقم (3454، 3455) والترمذي رقم (1245) والنسائي (7/ 248، 249) وابن ماجه رقم (2181) وابن الجارود (2/ 191 رقم 617، 6618) والبيهقي (5 268، 272)، عن ابن عمر رضي الله عنه عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا، أو يخير أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع ". وأخرج أبو داود رقم (3456) والترمذي رقم (1247) والنسائي رقم (4483) وأحمد (2 183) والدارقطني (3 رقم 207) وابن الجارود في " المنتقى " (2/ 196 رقم 620) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا، إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله ". وهو حديث حسن.

" البيعان بالخيار ما لم يتفرقا "، وفي لفظ " حتى يفترقا "، وفي لفظ فيهما: " المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يفترقا إلا بيع الخيار "، فأثبت - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الخيار قبل التفرق؛ لأنه مظنة التأمل والتدبر للمبيع، وعدم الإحاطة بجميع أوصافه، والجهل لشيء منها فهو قبل التفرق إذا وجد ما لا يرتضيه كان له أن يفسخ به؛ لأنه إذ ذاك واقع في الغرر بالعقد الذي عقده قبل الاطلاع على هذا الأمر الذي كان سببا للفسخ، فهو قبل التفرق متمكن من التخلص من عهدة العقد، وقادر على الخروج مما دخل فيه من الغرر، فإذا فارق المجلس فقد اختار المبيع وفرغ من تدبر أوصافه، ورضي بما رآه (¬1). ¬

(¬1) آراء الفقهاء في خيار المجلس: الأول: ثبوته وهو لجماعة من الصحابة، منهم علي وابن عباس وابن عمر. وإليه ذهب أكثر التابعين والشافعي وأحمد وإسحاق، والإمام يحيى، قالوا: والتفرق الذي يبطل به الخيار ما يسمى عادة تفرقا، ففي المنزل الصغير بخروج أحدهما، وفي الكبير بالتحول من مجلسه إلى آخر بخطوتين أو ثلاث، ودل على أن هذا تفرق فعل ابن عمر المعروف، فإن قاما معا وذهبا معا فالخيار باق، وهذا دليله هذا الحديث المتفق عليه. انظر: " المحلى " (8/ 354)، " المجموع " (9/ 184)، " فتح الباري " (4/ 330). الثاني: للهادوية والحنفية ومالك والإمامية أنه لا يثبت خيار المجلس بل متى تفرق المتبايعان بالقول فلا خيار إلا ما شرط، مستدلين بقوله تعالى: {تجارة عن تراض} [النساء: 29]. وبقوله تعالى: {وأشهدوا إذا تبايعتم} [البقرة: 282}. قالوا: والإشهاد إن وقع بعد التفرق لم يطابق الأمر، وإن وقع قبله لم يصادف محله، وحديث: " إذا اختلف البيعان فالقول قول البائع " - وهو حديث صحيح أخرجه أبو داود رقم (3511) والترمذي رقم (1270) والنسائي رقم (4648) وابن ماجه رقم (2186) وأحمد (1/ 466) من حديث ابن مسعود - ولم يفصل، وأجيب بأن الآية مطلقة قيدت بالحديث، وكخيار الشرط، وكذلك الحديث وآية الإشهاد يراد بهما عند العقد ولا ينافيه ثبوت خيار المجلس كما لا ينافيه سائر الخيارات. وانظر مزيد تفصيل " فتح الباري " (4/ 327)، " المجموع " (9/ 184)، " المغني " (6/ 10 - 14).

الدليل الخامس: دليل خيار العيب، وهو ما أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي، والترمذي وصححه، وأيضا صححه ابن حبان، وابن الجارود، والحاكم، وابن القطان. واختلفت الرواية عن ابن خزيمة في تصحيحهم، وله ألفاظ: منها أن رجلا ابتاع غلاما فاستغله، ثم وجد عيبا فرده بالعيب، فقال البائع: غلة عبدي، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " الغلة بالضمان " (¬1)، وفي لفظ " قضى أن الخراج بالضامن " (¬2)، فأثبت للمشتري الفسخ؛ لأنه لما وجد العيب كان عقده ¬

(¬1) أخرجه أحمد (6/ 80، 116) وأبو داود رقم (1310) وابن ماجه رقم (2243) وابن الجارود رقم (626) والدارقطني (3/ 53 رقم 213) والحاكم (2/ 15) والطحاوي في " شرح معاني الآثار " (4/ 21 - 22). وهو حديث حسن. (¬2) أخرجه أبو داود رقم (3508) وأحمد (6 49، 80، 161، 208) والترمذي رقم (1285، 1286) وابن ماجه رقم (2242) وابن الجارود في المنتقى (2/ 199 رقم 626) وابن حبان في صحيحه (1/ 483 رقم 1125، 1126 - موارد) والدارقطني رقم (214) والبيهقي (5/ 321) والطيالسي (ص 206 رقم 1464) والشافعي (2/ 143 رقم 479 - ترتيب المسند) والبغوي (8/ 162 رقم 2118، 2119). قال الترمذي في " السنن " (3/ 583): استغرب محمد بن إسماعيل - البخاري - هذا الحديث من حديث عمر بن علي. قلت: تراه تدليسا؟ قال: لا ". قلت: ومداره ليس على عمر بن علي، بل رواه غيره كما أخرجه الترمذي نفسه رقم (1285) فالقول بأن البخاري ضعفه ليس على إطلاقه. قال أبو داود في سننه (3/ 780): " هذا إسناد ليس بذاك ". قلت: في إسناده مسلم بن خالد الزنجي، ضعفه الذهبي في " الميزان " (4/ 102) لكنه قد توبع، تابعه خالد بن مهران وعمر بن علي المقدمي، كما بينه محقق " المنتقى " (2/ 199) وتابع شيخهم - هشام بن عروة عن أبيه - مخلد بن خفاف، كما أخرجه أبو داود رقم (3508) والترمذي رقم (1285) والنسائي رقم (4490) وغيرهم. ومخلد وثقه ابن حبان وابن وضاح، وقال البخاري: فيه نظر. انظر: ترجمته في " الميزان " (4/ 82) و" التهذيب " (10 67) فمثله يقبل حديثه في المتابعات. وهو حديث صحيح لغيره.

الواقع على العبد مع جهل هذا العيب من الغرر، وهذا ظاهر لا سترة به (¬1). الدليل السادس: دليل خيار الرؤية، وهو حديث: " من اشترى ما لم يره فله الخيار إذا رآه " أخرجه الدارقطني (¬2) والبيهقي (¬3) من حديث أبي هريرة، وفي إسناده (¬4) من لا تقوم به الحجة، وله شواهد (¬5) غير خالية عن المقال، فأثبت الخيار لمن اشترى ما لم ¬

(¬1) انظر: " المغني " (6/ 242). (¬2) في " السنن " (3/ 4 رقم 10) وقال: " عمر بن إبراهيم يقال له الكردي، يضع الأحاديث. وهذا باطل لا يصح، لم يروها غيره إنما يروي عن ابن سيرين موقوفا من قوله ". ثم نقل الآبادي في " التعليق المغني " قول ابن القطان: " والراوي عن الكردي، داهر بن نوح، وهو لايعرف ". (¬3) في " السنن الكبرى " (5/ 268). (¬4) وفي سنده عمر بن إبراهيم الكردي، قال الذهبي في " المغني " (2/ 462 رقم 4418): " كذاب ". وقال عنه الخطيب في تاريخه (11/ 202): " كان غير ثقة، يروي المناكير عن الأثبات ". انظر: " الميزان " (3/ 179 رقم 6044). (¬5) منها ما أخرجه الدارقطني في " السنن " (3/ 4 رقم 8) والبيهقي في " السنن الكبرى " (5/ 268) وقال: هذا مرسل وأبو بكر بن أبي مريم ضعيف، قاله لي أبو بكر بن الحارث وغيره. عن الإمام الدارقطني الحافظ رحمه الله. عن مكحول مرسلا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي إسناده أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف لا تقوم به الحجة. انظر: " الميزان " (4/ 497 رقم 10006) فقد ضعفه أحمد وغيره لكثرة ما يغلط، وكان أحد أوعية العلم. وقال ابن حبان: رديء الحفظ، ولا يحتج به إذا انفرد. وقال ابن عدي: أحاديثه صالحة. ولكن الخيار في الغالب يمكن الاستدلال عليه بأحاديث النهي عن الغرر، فإن ما لم يقف الإنسان على حقيقته لا يخلو عن نوع غرر سواء كان بعناية البائع أم لا. انظر: " المغني " (6/ 33 - 36).

يره إذ رآه؛ لأنه أوقع العقد على ما لا يعلمه، وذلك غرر بلا شك ك. فهذا ما أمكن استحضاره عند تحرير هذا الجواب من الأدلة الدالة على ثبوت الخيار. وقد أوضحنا أن العلة في جميع ذلك هو الغرر كما تقتضيه مسالك العلة (¬1) المدونة في ¬

(¬1) العلة ركن من أركان القياس فلا يصح بدونها لأنها الجامعة بين الأصل والفرع - وهي في اللغة اسم لما يتغير الشيء بحصوله أخذا من العلة التي هي المرض لأن تأثيرها في الحكم كتأثير العلة في ذات المريض، يقال: اعتل فلان: إذا مال عن الصحة إلى السقم، وقيل: إنها مأخوذة من بعد النهل، وهو معاودة الشرب مرة بعد مرة لأن المجتهد في استخراجها يعاود النظر مرة بعد مرة. انظر: " القاموس " (ص 1338) و" لسان العرب " (9/ 365). وأما في الاصطلاح فاختلفوا فيها على أقوال: 1 - أنها المعرفة للحكم بأن جعلت علما على الحكم إن وجد المعنى وجد الحكم، قاله الصيرفي وأبو زيد من الحنفية. انظر: " البحر المحيط " (5/ 112). 2 - أنها الموجبة للحكم بذاتها لا بجعل الله، وهو قول المعتزلة بناء على قاعدتهم في التحسين والتقبيح العقليين، والعلة وصف ذاتي لا يتوقف على جعل جاعل. انظر: " المحصول " (5/ 135). 3 - أنها الموجبة للحكم عن معنى أن الشارع جعلها موجبة لذاتها وبه قال الغزالي وسليم الرازي. انظر: " الإبهاج " (2/ 40). 4 - أنها الموجبة بالعادة، واختاره الفخر الرازي. انظر: " البحر المحيط " (5/ 113). 5 - أنها الباعث على التشريع بمعنى أنه لا بد أن يكون الوصف مشتملا على مصلحة صالحة لأن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم. 6 - أنها التي يعلم الله صلاح المتعبدين بالحكم لأجلها وهو اختيار الرازي وابن الحاجب. انظر: مختصر ابن الحاجب (2/ 209). 7 - أنها المعنى الذي كان الحكم على ما كان عليه لأجلها، وللعلة أسماء تختلف باختلاف الاصطلاحات، فيقال لها: السبب، والأمارة، والداعي، والمستدعي، والباعث، والحامل، والمناط، والدليل، والمقتضي، والموجب، والمؤثر. شروط العلة: 1 - أن تكون مؤثرة في الحكم فإن لم تؤثر فيه لم يجز أن تكون علة. وقيل: معنى كون العلة مؤثرة في الحكم هو أن يغلب على ظن المجتهد أن الحكم حاصل عند ثبوتها لأجلها دون شيء سواها. 2 - أن تكون وصفا ضابطا بأن يكون تأثيرها لحكمة مقصودة للشارع لا حكمية مجردة لخفائها فلا يظهر إلحاق غيرها بها. 3 - أن تكون ظاهرة جلية وإلا لم يمكن إثبات الحكم بها في الفرع على تقدير أن تكون أخفى منه أو مساوية له في الخفاء، كذا ذكره الآمدي في جدله. " البحر المحيط " (5/ 134)، " إرشاد الفحول " (ص 688). 4 - أن تكون سالمة بحيث لا يردها نص ولا إجماع. مثاله: أن يقول: أنا مسافر مثلا فلا تجب عليه الصلاة في السفر، قياسا على صومه في عدم الوجوب بالسفر بجامع المشقة. فيقال: هذه العلة مخالفة للإجماع على عدم اعتبار المشقة في الصلاة ووجوب إدائها على المسافر مع وجود مشقة السفر. " الكوكب المنير " (4/ 86)، " إرشاد الفحول " (ص 688). 5 - أن لا يعارضها من العلل ما هو أقوى منها. 6 - أن تكون مفردة: أي كلما وجدت وجد الحكم لتسلم من النقص والكسر، فإن عارضها نقص أو كسر بطلت. انظر تفصيل ذلك في " إرشاد الفحول " (ص 689)، " الكوكب المنير " (4/ 57). 7 - أن لا تكون عدما في الحكم الثبوتي. أي لا يعلل الحكم الوجودي بالوصف العدمي. 8 - أن لا تكون العلة المتعدية هي المحل أو جزء منه؛ لأن ذلك يمنع من تعديتها. 9 - أن ينتفي الحكم بانتفاء العلة والمراد انتفاء العلم أو الظن به، إذ لا يلزم عن عدم الدليل عدم المدلول. 10 - أن تكون أوصافها مسلمة أو مدلولا عليها، كذا قال الأستاذ أبو منصور. 11 - أن لا تكون موجبة للفرع حكما وللأصل حكما آخر غيره. 12 - أن لا توجب ضدين لأنها حينئذ تكون شاهدة لحكمين متضادين، قاله الأستاذ أبو منصور. 13 - أن لا يتأخر ثبوتها عن ثبوت حكم الأصل خلافا لقوم. 14 - أن يكون الأصل المقيس عليه معللا بالعلة التي يعلق عليها الحكم في الفرع بنص أو إجماع. 15 - أن يكون الوصف معينا لأن رد الفرع إليها لا يصح إلا بهذه الواسطة. 16 - أن يكون طريق إثباتها شرعيا كالحكم. 17 - أن لا يكون وصفا مقدرا. انظر تفصيل ذلك: " البحر المحيط "، " تنقيح الفصول " (ص 410 - 411). 18 - إذا كانت مستنبطة فالشرط أن لا ترجع على الأصل بإبطاله أو إبطال بعضه لئلا يفضي إلى ترك الراجح إلى المرجوح. 19 - إن كانت مستنبطة فالشرط أن لا تعارض بمعارض مناف موجود في الأصل. 20 - إن كانت مستنبطة فالشرط أن تتضمن زيادة على النص أي حكما غير ما أثبته النص. 21 - أن لا تكون معارضة لعلة أخرى تقتضي نقيض حكمها. 22 - إذا كان الأصل فيه شرط فلا يجوز أن تكون العلة موجبة لإزالة ذلك الشرط. 23 - أن لا يكون الدليل الدال عليها متناولا لحكم الفرع لا بعمومه ولا بخصوصه للاستغناء حينئذ عن القياس. 24 - أن لا تكون مؤيدة لقياس أصل منصوص عليه بالإثبات على أصل منصوص عليه بالنفي. انظر: " البحر المحيط " (5/ 157)، " الكوكب المنير " (4/ 53)، " الإبهاج " (3/ 93).

الأصول، وكذلك أوضحنا فيما سلف من أنواع الخيارات المدونة في كتب الفقه أن العلة هو الغرر كما تقتضيه أيضًا مسالك العلة (¬1) العشرة المقررة في علم الأصول ¬

(¬1) قد اختلفوا في عدد هذه المسالك. فقال الرازي في " المحصول " (5/ 137) عشرة [النص والإيماء والإجماع والمناسبة والدوران والسبر والتقسيم والشبه والطرد، وتنقيح المناط]. المسلك الأول: الإجماع، وهو نوعان إجماع على علة معينة كتعليل ولاية المال بالصغر، وإجماع على أصل التعليل وإن اختلفوا في عين العلة كإجماع السلف على أن الربا في الأصناف الأربعة معلل وإن اختلفا في العلة ماذا هي؟. المسلك الثاني: النص على العلة: قال في " المحصول " (5/ 139): ونعني بالنص ما يكون دلالته على العلة ظاهرة سواء كانت قاطعة أو محتملة، أما القاطع فما يكون صريحا وهو قولنا: لعلة كذا، أو لسبب كذا، أو لمؤثر كذا، أو لموجب كذا، أو لأجل كذا، قال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 32]. وأما الذي لا يكون قاطعا فثلاثة: (اللام، وإن، والباء). قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنها من الطوافين ". وأما الباء: فكقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13]. انظر مزيد تفصيل: " المسودة " (ص 438)، " الكوكب المنير " (4/ 117). المسلك الثالث: الإيماء والتنبيه، وضابط الاقتران بوصف لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل لكان بعيدا فيحمل على التعليل دفعا للاستبعاد وحاصله أن ذكره يمتنع أن يكون لا لفائدة لأنه عبث فيتعين أن يكون لفائدة وهي إما كونه علة أو جزء علة أو شرطا وإلا ظهر كونه على لأنه الأكثر في تصرفات الشرع، وهو أنواع: 1 - تعليق الحكم على العلة بالفاء وهو على وجهين: أحدهما: أن تدخل الفاء على العلة ويكون الحكم متقدما كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المحرم الذي وقصته الناقة: " فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا " - وهو حديث صحيح. ثانيهما: أن تدخل الفاء على الحكم وتكون العلة متقدمة وذلك على وجهين: أحدهما: أن تكون الفاء دخلت على كلام الشارع مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38]. {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6]. ثانيهما: أن تدخل على رواية الراوي كقوله: سها رسول الله فسجد، وزنى ماعز فرجم. 2 - أن يذكر الشارع مع الحكم وصفا لو لم يكن علة لعري عن الفائدة. إما مع سؤال في محله أو سؤال في نظيره. الأول: كقول الأعرابي: واقعت أهلي في رمضان، فقال: " أعتق رقبة " يدل على أن الوقاع علة للإعتاق والسؤال مقدر في الجواب كأنه إذا وقاعت فكفر. الثاني: كقوله وقد سألته الخثعمية: إن أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحج أفينفعه إن حججت عنه؟ فقال: أرأيت لو كان على أبيك دين فضيته أكان ينفعه؟ قالت: نعم ... ". 3 - أن يفرق بين حكمين لوصف، نحو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: للراجل سهم وللفارس سهمان، فإن ذلك يفيد أن الموجب للاستحقاق لسهم والسهمين هو الوصف المذكور. 4 - أن يذكر عقب الكلام أو في سياقه شيئا لو لم يعلل به الحكم المذكور لم ينتظم الكلام، كقوله تعالى: {وذروا البيع} [الجمعة: 9]، لأن الآية سيقت لبيان وقت الجمعة وأحكامها، فلو لم يعلل النهي عن البيع بكونه مانعا من الصلاة أو شاغلا عن المشي إليها لكان ذكره عبثا لأن البيع لا يمنع منه مطلقا. 5 - ربط الحكم باسم المشتق، فإن تعليق الحكم به مشعر بالعلية نحو: أكرم زيدا العالم فإن ذكر الوصف المشتق مشعر بأن الإكرام لأجل العلم. 6 - ترتب الحكم على الوصف بصيغة الشرط والجزاء، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، أي لأجل تقواه. {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] أي لأجل تواكله لأن الجزاء يتعقب الشرط. 7 - تعليل عدم الحكم بوجود المانع منه، كقوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} [الزخرف: 33]. 8 - إنكاره سبحانه على من زعم أنه لم يخلق الخلق لفائدة ولا لحكمة بقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون: 115]. 9 - إنكاره سبحانه أن يسوى بين المختلفين ويفرق بين المتماثلين. الأول: كقوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم: 35]. الثاني: كقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]. وانظر مزيد تفصيل " إرشاد الفحول " (ص 709 - 712)، " الكوكب المنير " (4/ 141). المسلك الرابع: " الاستدلال على علية الحكم بفعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصورته أن يفعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد وقوع شيء فيعلم أن ذلك الفعل إنما كان لأجل ذلك الشيء الذي وقع، كأن يسجد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للسهو فيعلم أن ذلك السجود إنما كان لسهو قد وقع منه . ". وقد يكون ذلك الفعل من غيره بأمره كرجم ماعز. وكذلك الترك له حكم الفعل كتركه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للطيب والصيد وما يجتنبه المحرم. المسلك الخامس: السبر والتقسيم وهو في اللغة الاختبار ومنه الميل الذي يختبر به الجرح فإنه يقال له: المسبار، وسمي هذا به لأن المناظر يقسم الصفات ويختبر كل واحدة منها في أنه هل يصلح للغلبة أم لا. وفي الاصطلاح الحكم هو قسمان: أن يدور بين النفي والإثبات، وهذا هو المنحصر. والثاني: أن لا يكون كذلك وهذا هو المنتشر، فالأول أن تحصر الأوصاف التي يمكن التعليل بها للمقيس عله ثم اختبارها في المقيس وإبطال ما لا يصلح منها بدليله. وذلك الإبطال إما بكونه ملغى أو وصفا طرديا أو يكون فيه نقض أو كسر أو خفاء أو اضطراب فيتعين الباقي للعلية. انظر: " البحر المحيط " (5/ 222)، " الكوكب المنير " (4/ 46). وأما القسم الثاني: المنتشر، وذلك بأن لا يدور بين النفي والإثبات أو دار ولكن كان الدليل على نفي علية ما عدا الوصف المعين فيه ظنيا واختلفوا في ذلك على مذاهب: 1 - أنه حجة في العمليات فقط؛ لأنه يحصل غلبة الظن. 2 - أنه حجة للناظر دون المناظر. انظر تفصيل ذلك في " الإحكام " للآمدي (3/ 291). المسلك السادس: المناسبة ويعبر عنها بالإحالة وبالمصلحة وبالاستدلال وبرعاية المقاصد ويسمى استخراجها تخريج المناط وهي عمدة كتاب القياس ومحل غموضه ووضوحه. ومعنى المناسبة هو تعين العلة بمجرد إبداء المناسبة مع السلامة عن القوادح لا بنص ولا غيره. والمناسبة في اللغة الملائمة، والمناسب الملائم، قال الرازي في " المحصول " (5 157): الناس ذكروا في تعريف المناسب شيئين: الأول: أنه المفضي إلى ما يوافق الإنسان تحصيرا وإبقاء، وقد يعبر عن التحصيل بجلب المنفعة وعن الإبقاء بدفع المضرة. ثم هذا التحصيل والإبقاء قد يكون معلوما وقد يكون مظنونا، وعلى التقديرين فإما أن يكون دينيا أو دنيويا ... . الثاني: أنه الملائم لأفعال العقلاء في العادات فإنه يقال: هذه اللؤلؤة تناسب هذه اللؤلؤة في الجمع بينهما في سلك واحد متلائم. المسلك السابع: الشبه ويسميه بعض الفقهاء الاستدلال بالشيء على مثله وهو عام أريد به خاص. إذ الشبه يطلق على جميع أنواع القياس لأن كل قياس لا بد فيه من كون الفرع شبيها بالأصل بجامع بينهما وهو من أهم ما يجب الاعتناء به. وقد اختلفوا في تعريفه: فقال إمام الحرمين في " البرهان " (2/ 859): لا يمكن تحديده، وقال غيره: يمكن تحديده. وقيل: هو الجمع بين الأصل والفرع بوصف يوهم اشتماله على الحكمة المقتضية للحكم من غير تعيين. كقول الشافعي في النية في الوضوء والتيمم: طهارتان فأنى تفترقان. انظر: " البحر المحيط " (2/ 859)، " المحصول " للرازي (5/ 201 - 203)، " المستصفى " للغزالي (3/ 641 - 642). المسلك الثامن: الطرد. قال الرازي في " المحصول ": والمراد منه الوصف الذي لم يكن مناسبا ولا مستلزما للمناسب إذا كان الحكم حاصلا مع الوصف في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع وهذا المراد من الاطراد والجريان. وهو قول كثير من فقهائنا. " المحصول " (5/ 222)، " البحر المحيط " (5/ 250). المسلك التاسع: الدوران. وهو أن يوجد الحكم عند وجود الوصف ويرتفع بارتفاعه في صورة واحدة كالتحريم مع السكر في العصير فإنه لما لم يكن سكرا لم يكن حراما فلما حدث السكر فيه وجدت الحرمة. ثم لما زال السكر بصيرورته خلا زال التحريم فدل على أن العلة السكر. " الكوكب المنير " (4/ 193)، " المسودة " (ص 406). المسلك العاشر: تنقيح المناط. التنقيح في اللغة: التهذيب والتمييز، ويقال: كلام منقح أي لا حشو فيه. المناط: وهو مفعل من ناط نياطا أي علق، فهو ما نيط به الحكم، أي علق به وهو العلة اتي رتب عليها الحكم في الأصل. " الصحاح " (3/ 1165)، " لسان العرب " (14/ 330). ومعنى تنقيح المناط عند الأصوليين إلحاق الفرع بالأصل بإلغاء الفارق بأن يقال لا فرق بين الأصل والفرع إلا كذا وذلك لا مدخل له في الحكم البتة فيلزم اشتراكهما في الحكم لاشتراكهما الموجب له. كقياس الأمة على العبد في السراية فإنه لا فارق بينهما إلا الذكورة وهو ملغى بالإجماع. المسلك الحادي عشر: تحقيق المناط وهو أن يقع الاتفاق على علية وصف لنص إجماع فيجتهد في وجودها في صورة النزاع، كتحقيق أن النباش سارق وسمي تحقيق المناط لأن المناط وهو الوصف علم أنه المناط وبقي النظر في تحقق وجوده في الصورة المعينة. قال الغزالي في " المستصفى " (3/ 484) وهذا النوع من الاجتهاد لا خلاف فيه بين الأمة. وانظر: " مجموع الفتاوى " لابن تيمية (19/ 17 - 18). " البحر المحيط " (5/ 257)، " جمع الجوامع " (2/ 341).

وإذا تقرر هذا علم السائل - كثر الله فوائده - أن خيار المعاينة الذي وقع السؤال عنه هو لاحق بخيار الغرر، وله حكمه إجمالا وتفصيلا، لأن خيار الغرر هو الأصل الذي رجعت إليه أنواع الخيارات، كما أسلفنا. وأما القول بأنه كخيار الإجازة فلا أدري بأي مسلك من المسالك المقبولة ثبت ذلك، فإن إلحاق الشيء بالشيء لا بد فيه من وجود الأركان الأربعة (¬1)، أي: الأصل بعد ثبوت كونه أصلا بالبرهان، والفرع بعد ثبوت كونه فرعا بالبرهان، والعلة بعد ثبوت كونها علة بمسلك مقبول، والحكم الذي هو ثمرة الإلحاق وفائدته، ومن قام في مقام منع كون خيار الإجازة أصلا، وخيار المغابنة فرعا، فقد قام مقاما لا يزحزحه عنه إلا البرهان المقبول. هذا على فرض عدم وجود الفارق، فكيف والفارق ها هنا موجود! فإنه ناجز يترتب عليه أحكامه. وإذا تقرر ما قدمنا من إلحاق خيار المغابنة بخيار الغرر للعلة الجامعة بينهما، فقد حكم الشارع في خيار الغرر في المصراة (¬2) بأنه يرد المشتري قيمة ما استهلكه من درها، فليثبت ¬

(¬1) أي أركان القياس. انظر تفصيل ذلك: " البحر المحيط " (5/ 74)، " الكوكب المنير " (4/ 12)، " المسودة " (ص 425)، " تيسير التحرير " (3/ 272). (¬2) تقدم تخريجه.

مثل ذلك في الفرع، وهو سائر الخيارات، فمن فسخ ما اشتراه بنوع من أنواع الخيارات كان عليه إرجاع ما هو باق لديه من فوائده، وضمان قيمة ما استهلكه كما يقتضيه القياس الصحيح بالجامع الذي كررنا ذكره. فإن قلت: لا عموم في حديث المصراة، حتى يستدل به على سائر أنواع الخيارات. قلت: الأمر كذلك، ولم ندع أنه عام، بل قلنا: إنه حكم الأصل، فكان للفرع مثله، ولو كان الدليل عاما لم يحتج إلى القياس لشموله للفرع بنفسه من دون واسطة فيكون هذا الحكم الثابت في المصراة ثابتا في جميع الفروع، وهي سائر الخيارات إلا ما دل الدليل على أن لفوائده حكما غير حكم الأصل، وهو خيار العيب، فإن الشارع قد أثبت فيه أن الخراج بالضمان فيكون ذلك خاصا به، لأنه فرع من فروع الغرر، فلا يرد إليه ما هو مماثل له في الفرعية، بل يرد إلى الأصل الجامع، ويثبت له حكمه، ويكون ذلك الفرع الذي ورد في فوائده دليل يخصه خارجا عن حكم الأصل في مورد الدليل، لأن القياس حينئذ يكون مصادما للنص، وهو فاسد الاعتبار، ولا يوجب هذا الدليل الوارد في بعض تفاصيل فرع من الفروع أن يكون ذلك الفرع خارجا عن كونه فرعا في غير مورد الدليل، فتحرر من هذا أن الفوائد في كل نوع من أنواع الخيار بكون للبائع من غير فرق بين الأصلية والفرعية، فما كان منها باقيا رجع بعينه (¬1)، وما كان تالفا فقيمته. والتقدير بالمدة من ثلاثة أيام أو غيرها يرجع المجتهد فيه إلى اجتهاده (¬2). ¬

(¬1) انظر: " المغني " (6/ 217 - 220). (¬2) قال ابن قدامة في " المغني " (6/ 220): قالوا: فهذه الثلاثة قدرها الشارع لمعرفة التصرية فإنها لا تعرف قبل مضيها؛ لأنها في اليوم الأول لبنها لبن التصرية، وفي الثاني يجوز أن يكون لبنها قد نقص، لتغير المكان واختلاف العلف، وكذلك في الثالث. فإذا مضت الثلاثة استبانت التصرية وثبت الخيار على الفور. ولا يثبت بعد انقضائها. وقال أبو الخطاب: عندي متى ثبتت التصرية، جاز له الرد، قبل الثلاثة وبعدها؛ لأنه تدليس يثبت الخيار، فملك الرد به إذا تبينه، كسائر التدليس. فعلى هذا يكون فائدة التقدير في الخبر بالثلاثة؛ لأن الظاهر أنه لا يحصل العلم إلا بها، فاعتبرها لحصول العلم ظاهرا، فإن حصل العلم بها، أو لم يحصل بها فالاعتبار به دونها، كما في سائر التدليس. وظاهر قول ابن أبي موسى أنه متى علم التصرية، ثبت له الخيار في الأيام الثلاثة إلى تمامها. وهو قول ابن المنذر وأبي حامد من أصحاب الشافعي، وحكاه الشافعي نصا لظاهر حديث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنه يقتضي ثبوت الخيار في الأيام الثلاثة كلها، وعلى قول القاضي لا يثبت الخيار في شيء منها، وإنما يثبت عقبها، قول أبي الخطاب يسوي بين الأيام وبين غيرها، والعمل بالخبر أولى والقياس ما قال أبو الخطاب لأن الحكم كذلك في العيوب وسائر التدليس.

فإن قلت: إذا كان الأمر كما ذكرته من أن العلة الغرر في كل نوع من أنواع الخيارات، فهل يثبت خيار المعاينة لغير صبي، ومن له حكمه، ومتصرف عن الغير؟. قلت: نعم، يثبت كما ثبت خيار الغرر في المصراة لكل متصرف عن نفسه، أو عن غيره (¬1)، وكما ثبت لرب السلعة في تلقي الجلب الخيار إذا وصل السوق، سواء كان متصرفا عن نفسه بعد تكليفه أو عن غيره، وليس في حديث حبان بن منقذ ما ينفي ثبوت الخيار لغير من كان مماثلا له في نقص العقل، بل غاية ما هناك أنه أثبت الخيار لرجل يخدع في البيوع، غير كامل الرجولية، وثبت الخيار لغيره من المتصرفين عن أنفسهم، أو عن غيرهم بدليل الأصل، وهو حديث المصراة، وبما ثبت في خيار تلقي الجلب بعلة الغرر، وليس في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لحبان: " فقل: لا خلابة " (¬2) ما يخالف ما قررنا، أو ما يقتضي أنه لا يثبت الخيار إلا بهذه المقالة؛ لأن الباعث على تلقينه لذلك يحتمل أن يكون هو إرادة الإشعار لمن يبايعه من أول الأمر بأن حبان رجل يخدع فلا يخادعه من يعامله مع أن هذا الأمر، أعني: عدم الخدع، هو شأن كل معاملة يتعاملها أهل الإسلام. ¬

(¬1) انظر: " المغني " (2/ 246 - 247). (¬2) تقدم تخريجه.

أخرج ابن ماجه (¬1) والترمذي (¬2) وحسنه (¬3)، والبخاري (¬4) تعليقا، والبيهقي (¬5) عن العداء بن خالد قال: كتب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كتابا: " هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله، اشترى منه عبدا أو أمة لأداء (¬6) ولا غايلة (¬7)، ولا خبثة (¬8)، بيع المسلم للمسلم ". وأخرج ابن ماجه (¬9) من حديث عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقول: " المسلم أخو المسلم لا يحل لمسلم باع بيعا من أخيه وفيه عيب إلا بينه ". وأخرج أحمد (¬10) من حديث واثلة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا يحل لأحد يبيع شيئا إلا بين ما فيه، ولا يحل لأحد يعلم ذلك إلا بينه ". ¬

(¬1) في " السنن " رقم (2251). (¬2) في " السنن " رقم (1216). (¬3) في " السنن " (3/ 520) وقال حديث حسن غريب. (¬4) في صحيحه (4/ 309). (¬5) في " السنن الكبرى " (5/ 328) وهو حديث حسن. (¬6) لأداء: الداء المرض والعاهة. (¬7) لا غائلة: الغائلة: الخصلة التي تغول المال، أي تهلكه من إباق وغيره. (¬8) ولا خبثة: والخبثة: نوع من أنواع الخبيث. أراد به الحرام. (¬9) في " السنن " رقم (2246). قلت: وأخرجه الحاكم في " المستدرك " (2/ 8) وصححه ووافقه الذهبي. وقد حسن ابن حجر إسناده في " الفتح " (4 311). وهو حديث صحيح. (¬10) في " المسند " (4/ 491). قلت: وأخرجه ابن ماجه في " السنن " رقم (2247) والحاكم في " المستدرك " (2/ 9 - 10) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.

وفي إسناده أبو جعفر الرازي (¬1)، مختلف فيه، عن أبي سباع، مجهول. وأخرج مسلم (¬2)، وأحمد (¬3)، وأهل السنن (¬4) من حديث أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مر برجل يبيع طعاما، فأدخل يده فيه، فإذا هو مبلول، فقال: " من غشنا فليس منا " فكل بيع في الإسلام هو مشروط بمثل ما قاله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لحبان بن منقذ (¬5)، ولا فرق بينه وبين غيره في ذلك. فإن قلت: إذا كان خيار المغابنة ثابتا لمن تصرف من المكلفين عن نفسه، أو عن غيره، فكيف الجواب عن حديث جابر الثابت في صحيح مسلم (¬6) بلفظ: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعضهم ". قلت: الجواب عن ذلك بأنه لا منافاة بينه وبين ثبوت الخيار لهذا البادي إذا عرف بعد ذلك أنه مغبون، وغاية ما في هذا الحديث النهي للحاضر أن يبيع للبادي؛ لأن البادي ربما باع برخص، إما لكون الغالب (¬7) على أهل البادية السماحة وعدم المماحكة في ثمن ما يجلبونه، فإذا باعوا ما يجلبونه بأنفسهم رزق الله المشتري منهم بما يتحصل له من ¬

(¬1) انظر: " تلخيص الحبير " (3/ 53). (¬2) في صحيحه رقم (102). (¬3) في المسند (2/ 242). (¬4) أبو داود في " السنن " رقم (3452) والترمذي رقم (1315) وابن ماجه رقم (2224). وهو حديث صحيح وقد تقدم. (¬5) تقدم آنفا. (¬6) رقم (1522). قلت: وأخرجه أحمد (2/ 307) والترمذي رقم (1223) والنسائي (7/ 256) وابن ماجه رقم (2176). وهو حديث صحيح. (¬7) انظر: " المفهم " (4/ 367 - 368).

الرخص المستلزم لانحطاط الثمن، أو لأنهم يجهلون السعر الذي يبتدعه أهل الحضر فيبيعون بخص طيبة بذلك أنفسهم، غير ملتفتين إلى القوانين المعروفة في الحضر. وعلى تقدير أنهم باعوا برخص جاهلين للغلا، ولو علموا به لم تطب أنفسهم بذلك، فهذا نوع من الغرر إذا طلبوا الفسخ به كان لهم ذلك. فالحاصل أن بيع البادي قد يحصل له الرزق للمشتري منه على هذه الاحتمالات، ولا ينافيه ثبوت الخيار على تقدير من تلك التقادير، فتدبر هذا الإجازة. وأما ما سأل عنه السائل - كثر الله فوائده - إذا كان المبيع الذي وقعت فيه المغابنة قد زاد أو نقص. فأقول: قد تقدم الدليل على ثبوت الرد للعين المغبونة، فإذا ذهب بعضها، وبقي البعض، فهذا الحكم الذي أثبته الشارع للكل هو ثابت لذلك البعض، بنفس ذلك الدليل، ومن ادعى أن تلف البعض يمنع من ثبوت حكم الكل له فعليه الدليل، ولا أعلم هاهنا دليلا يدل على اختصاص الرد بالكل لا بالبعض، والأصل عدم وجود المانع حتى يقيم مدعيه البرهان عليه، وهذه الأمور معلومة من قواعد الشريعة. وقد تكلم أئمة الفروع - رحمهم الله - في هذه المادة بتفاصيل، وجمل معلومة عند من يعلمها، ولكن فرض المجتهد أن يمشي مع الدليل على مقتضى قواعد علوم الاجتهاد. ويكون ما ذكرناه من رد البعض بحصته من الثمن بالنسبة إلى الكل (¬1). وما أشار إليه السائل - كثر الله فوائده - من صنيع كثير من الحكام أنهم يأمرون بتقويم المبيع الذي وقع فيه الغبن، ويلزمون المشتري ما نقص عن القيمة، فهذا إن تراضيا عليه الخصمان، فهو أقل مؤونة، وأقرب مسافة، والتراضي هو المناط الأكبر في تحليل أموال العباد، وأما إذا وقف الخصمان على مر الحق، وطلبا من الحاكم أن يقضي بينهما به، فلا يجوز له أن يسلك هذا المسلك، ويصنع هذا الصنع، فإنه خلاف المسلك الشرعي ¬

(¬1) انظر: " المغني " (6/ 223 - 225) " الأم " للشافعي (6/ 14 - 15).

بل يقول للمغبون: قد أثبت لك الشرع رد ما غبنت فيه، وأخذ ما دفعته في مقابلته، وخذ إن شئت أو دع. وأما ما سأل عنه السائل - كثر الله فوائده - من إلزام الخصمين أجرة العدلين. فأقول: إن كان للتقويم هو المدعي للغبن فلا شك أن أجرة عملهما عليه؛ لأنه الطالب، وخصمه قائم مقام المنع، وليس على من قام مقام المنع من الغبن أن يغرم من ماله للعدول، بل قيامه في هذا المقام يكفيه، سواء ترتب على التقويم ثبوت الغبن أو عدمه، وإن كان الذي أمر بالتقويم هو القاضي توصلا إلى مستند يرفع به الخصومة، ويدفع عن الخصمين معرة طولها المستلزمة لإتعابهما، وذهاب شطر من مالهما، لا سيما إذا وقعا في حاكم حكام السوء المبالغين في تطويل ذيول الخصام للحطام، والمتكالبين على توسيع دائرة الزحام لمباهاة أمثالهم من الحكام، فلا شك ولا ريب أن هذا النظر من ذلك الحاكم من أسد الأنظار وأنفسها، وله أن يوزع ما يلزم للمقومين على الغريمين على ما يرياه أقرب إلى الصواب، وهذه الشريعة الغراء قد شهدت كليات منها وجزئيات بأن جلب المصالح ودفع المفاسد من أهم مقاصدها، وأجل مواردها (¬1). وفي هذا المقدار كفاية. حرره محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما - في الثلث الأول من ليلة الجمعة، لعلها ليلة ثلاثين من شهر محرم سنة 1219 هـ. ¬

(¬1) تقدم مناقشتها.

دفع الاعتراضات على إيضاح الدلالات

دفع الاعتراضات على إيضاح الدلالات تأليف محمد بن على الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " دفع الاعتراضات على إيضاح الدلالات ". 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم " الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين بعد: فإني وقفت على ما حرره المولى العلامة شرف الإسلام زين الأعلام الحسن بن يحيى الكبسي كثر الله فوائده ومد على طلاب العلم موائده على رسالتي التي سميتها " إيضاح الدلالات " ... " 4 - آخر الرسالة: " وتركنا الكلام على ما قرراه لأنفسهما لأن البحث في ذلك يطول جدا. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 15 صفحة + صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 24 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين. وبعد: فإني وقفت على ما حرره المولى شرف الإسلام، زين الأعلام، الحسن بن يحي الكبسي (¬1) - كثر الله فوائده، ومد على طلاب العلم موائده - على رسالتي التي سميتها " إيضاح الدلالات على إحكام الخيارات " (¬2) فوجدته - عافاه الله - قد أفاد وأجاد , وجاء بعلوم غزيرة المواد، ولما كان ذلك البحث المشتمل على المناقشة قد تضمن الاستفهام في غضون الكلام استحسنت تحرير هذه الكلمات لتمام الفائدة. قال - كثر الله فوائده -: وينبغي أن ينظر في حقيقة الغرر لغة ... إلخ. أقول: تقرر في الأصول وغيرها أن الواجب تفسير ألفاظ الكتاب والسنة على ما تقتضيه لغة العرب، لأنهما وإن كان الخطاب فيهما لكل ما يتعلق به الخطاب من الأمة، لكن لا خلاف أنه للجميع بلسان العرب، لا بلسان غيرهم، ولا بلسانهم مع لسان غيرهم، فإذا نظرنا في لفظ من ألفاظهما وقع فيه النزاع كان الحق بيد من كانت لغة العرب معه، إلا أن يتقرر بنقل صحيح أن لذلك اللفظ معنى شرعيا، فالحقائق الشرعية (¬3) مقدمة، ولا تلازم بين ما ينقله بعض علماء الشريعة، وينسبه إلى الاصطلاح، وبين المعنى الشرعي؛ فإن المعاني الاصطلاحية هي مما اصطلح عليه أهل الشرع، ولو بعد عصر النبوة بدهر طويل، وهذا معلوم لكل باحث، ومن عرف العلوم الشرعية عرف ما يصطلحون عليه في كل فن من الاصطلاحات الحادثة التي تواضعوا عليها؛ وكذلك من عرف غير ¬

(¬1) تقدمت ترجمته في الرسالة رقم (110). (¬2) وهي الرسالة رقم (110). (¬3) تقدم توضيح الحقيقة الشرعية، واللغوية، العرفية. وانظر: " الإحكام " للآمدي (1/ 53)، " إرشاد الفحول " (ص 107 - 110).

العلوم الشرعية عرف ما لأهلها من الاصطلاحات الدائرة بينهم، وليس ذلك من الحقائق الشرعية التي تحمل عليها خطابات الشرع في ورد ولا صدر. فالحاصل أنه يجب عند الاختلاف في معنى لفظ من ألفاظ الكتاب والسنة أن يبحث عن كلام أهل اللغة في كتبهم المدونة لهذا الشأن، ويفسر ذلك اللفظ به إذا لم يتقرر بوجه صحيح مقبول أن الشارع قد هجر لغته ولغة العرب الذين قومه في ذلك الفظ بخصوصه، ونقله إلى معنى مشهور معروف عند أهل الشرع، كالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج (¬1)، ونحو ذلك. إذا عرفت هذا، فاعلم أنه لم يشتهر عند المتشرعين أن للغرر المذكور في أحاديث بيع الغرر معنى شرعيا يخالف المعنى اللغوي، وجميع ما نقله العلامة الشرفي هي معان لغوية لكن منهم من جاء بعبارة عامة بحيث يندرج تحتها جميع أنواع الغرر، وبعضهم اقتصر على بعض من ذلك، فمن الناقلين للمعنى العام القاضي عياض (¬2) حيث قال: الغرر في اللغة هو ما له ظاهر محبوب، وباطن مكروه. فإن هذا المعنى يشمل كل نوع من أنواع الغرر، وهو مثل ما نقله صاحب النهاية (¬3) في تفسير الغرر، فإنه قال: هو ما كان له ظاهر يغري المشتري، وباطن مجهول. ونقل عن الأزهري (¬4) أنه قال: بيع الغرر ما كان على غير عهد ولا ثقة، ويدخل فيه البيوع التي لا تحيط بكنهها المتبايعان من كل مجهول. انتهى. وهذا هو المعني الأول في العموم، وهكذا قول القرافي (¬5) أصل الغرر هو الذي لا ¬

(¬1) هذه الألفاظ كانت معلومة لهم ومستعملة عندهم في معانيها المعلومة ومعانيها الشرعية ما كانت معلومة لهم. " البحر المحيط " (2/ 158). (¬2) ذكر الحافظ في الفتح (4/ 356). (¬3) (3/ 355). (¬4) في " تهذيب اللغة " (16/ 83 - 84). (¬5) انظر "فتح الباري " (4/ 357). قال الخطابي في " معالم السنن " (3/ 672): أصل الغرر هو ما طوى عنك علمه، وخفي عليك باطنه وسره، وهو مأخوذ من قولك طويت الثوب على غرة أي: على كسر الأول وكل بيع كان المقصود منه مجهولا غير معلوم ومعجوزا عنه غير مقدور عليه فهو غرر، وذلك مثل أن يبيع سمكا في الماء أو طيرا في الهواء، أو لؤلؤة في البحر، أو عبدا آبقا، أو جملا شاردا، أو ثوبا في جراب لم يره، ولم ينشره، أو طعاما في بيت لم يفتحه، أو ولد بهيمة لم يولد، أو ثمرة شجرة لم تثمر في نحوها من الأمور التي لا تعلم ولا يدري هل تكون أم لا فإن البيع فيها مفسوخ. وإنما نهى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن هذه البيوع تحصينا للأموال أن تضيع وقطعا للخصومة والنزاع أن يقعا بين الناس فيها. وأبواب الغرر كثيرة وجماعها ما دخل في المقصود منه الجهل.

يدري هل يحصل أم لا، فإن هذا المعنى عام كالمعاني المتقدمة، لأنه لما تحصل الدراية كان الباطن مجهولا، والمجهول مكروه لا محبوب. وأما قوله: كالطير في الهواء (¬1)، والسمك في الماء. فهذا تمثيل للغرر بعض أنواعه، وليس المثال قيدا كما هو الظاهر في مثل هذه العبارة، وكما تدل عليه كاف التمثيل، فهذا المعنى العام للغرر الذي نقله هؤلاء الأئمة وغيرهم هو الذي أريده، والمصير إليه متحتم، لأن تفسير ذي المعنى العام ببعض أفراده بدون مخصص تحكم، وهذا المعنى هو وصف ظاهر منضبط، وأما مأخذ عليته فبعد تسليم أنه ورد النهي عنه، بل تواتر ذلك تواتر معنويا، لا وجه للتردد في كونه العلة للنهي عن البيع المشتمل عليه، فكل بيع غرر يدخل تحت النهي، فيكون له حكمه، ولا يصح من البيوع المشتملة على ¬

(¬1) انظر " فتح الباري " (4/ 357). " المفهم " للقرطبي (4/ 362). وقد أخرج أحمد في مسنده (1/ 388) من حديث ابن مسعود: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر ". وفى إسناده يزيد بن أبي زياد، وقد رجح البيهقي وقفه. وأخرج مسلم في صحيحه رقم (4/ 151) وأبو داود رقم (3376) والترمذي رقم (1230) وابن ماجه رقم (2194) والنسائي (7/ 262رقم 4518) من أبي هريرة قال: " أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن بيع الغرر ".

الغرر إلا ما صححه الشارع، ويكون ذلك مخصصا للنهى العام الدال بحقيقته على التحريم، أو يحمل النهي على ما لا يقتضى البطلان لتصحيح الشارع لبعض أنواعه كما سيأتي. على أن اعتبار غالب مسالك العلة العشرة (¬1) هاهنا ممكن، فإنه لو سلك المعتبرة مسلك السبر والتقسيم في بيع المصراة (¬2)، وبيع السلع قبل ورودها إلى الأسواق، ونحوها لما كانت العلة إلا الغرر، وهكذا لو سلك مسلك تخريج المناط (¬3)، وإذا كان هذا ظاهرا في بعض أنواع الغرر فقد أوضحنا وجود أصل الغرر في كل نوع من أنواع المبيعات التي ثبت فيها الخيار، إما بمسلك تنقيح المناط، أو بما هو دونه أو فوقه، وليس المعتبر إلا وجود ما يصدق عليه مسمى الغرر العام أما دعوى أنه حكمه مجرد فلعله مترتب على تقرير عدم الانضباط، نظرا إلى الاختلاف الواقع في تفسير الغرر مع أنه لا خلاف كما قدمنا. قال - كثر الله فوائده -: فإن المشهور أن العلة والسبب في هذا الخيار. ثم قال: وصرح بأنه العلة والسبب النجري ... إلخ. أقول: هذا لا يصلح للرد على من يبني بحثه على الاجتهاد، فإنه لا يلزمه العمل على المشهور إذا كان الراجح لديه غيره، ولا يتعرض عليه بقول عالم معين، ولا بمذهب الجمهور، وهذا لا يخفى على المعترض - عافاه الله -. إذا عرفت هذا فاعلم أنا قد أوضحنا معنى الغرر وفقد الصفة التي يعتقدها المشتري يدخل في ذلك أوليا، فإنه قد كان لهذا المبيع عند فقد الصفة باطن مكروه وباطن مجهول لا يحيط بكنهه المشتري، وهذا هو الغرر اللغوي، فهل ورد في اللغة أو الشرع ما يوجب تخصيص هذا المعني أو تقييده بالشرط؟ حتى يلزم المجتهد المصير إليه؟ ¬

(¬1) تقدم ذكرها في الرسالة رقم (110). (¬2) تقدم التعريف في الرسالة (110). (¬3) تقدم التعريف في الرسالة (110).

إن قلتم: ورد فما هو؟، وإن قلتم: لم يرد ولكنه قال به فلان، أو اشتهر عند الطائفة الفلانية فليس. بمثل هذا يعترض على أبحاث العلم. وأما ما ألزمتم به من أنه يكون ذريعة لكل مشتر إلى ادعاء الفسخ باعتقاده لصفة لم توجد فجوابه أنا قد قيدنا ذلك في تلك الرسالة (¬1) بقولنا: لكنه قد حصل العلم بأن المشترى كان عند العقد معتقدا لوجودها، فهذا القيد المصرح به يدفع ذلك الإلزام دفعا واضحا لا يخفى. قال - كثر الله فوائده -: فإن هذا الخيار فعل صاحب المعيار العلة، والسبب فيه هي الجهالة، ولعلة التبس بالغرر. أقول: قد قررنا أن المعنى اللغوي يقتضي أن يكون الجهل غررا، بل صرح بذلك صاحب النهاية (¬2)، والأزهري (¬3)؛فلا التباس. وكلام صاحب المعيار اجتهاد لا نقل عن أئمة اللغة، فليس بحجة على أحد وكذلك من وافقه، بل الحجة الدليل المفسر بلغة العرب. قال- كثر الله فوائده -: قال البغوي (¬4):إن الغبن هو فوت الحظ. أقول: هذا هو المعنى الذي أردناه، فإن فوت الحظ كما يكون بعناية من أحد البائعين كالخداع، ويكون أيضًا بغير عناية منهما، أو من أحدهما، لأنه قد وجد فوت الحظ، ويؤيد هذا الاعتبار ما ورد في البائع لسلعته قبل وصوله إلى السوق، فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال فيه: " فصاحب السلعة بالخيار إذا وردت بالسوق " (¬5)، ولم يقيد هذا الخيار بكونه كان البيع بسبب الخداع ولا بغير ذلك. قال - كثر الله فوائده - فإن هذا مما اختلط فيه الغرر بالجهل. ¬

(¬1) الرسالة رقم (110). وانظر: "المغني " (6/ 34 - 35). (¬2) (3/ 355). (¬3) في " تهذيب اللغة " (16/ 83 - 84). (¬4) انظر " شرح السنة " (8/ 123). (¬5) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (17/ 1519) وقد تقدم.

أقول: قد قدمنا على أئمة اللغة أن الجهل غرر فلا يرد ما أورده. قال - كثر الله فوائده -: فقد أناطه الشارع بنحو المصراة (¬1) فقط. أقول: ليس المطلوب إلا ذلك، ونحو المصراة هو ما كان مشتملا على نوع غرر؛ إذ ليس المراد بقولنا نحو كذا إلا ما كان مماثلا له في الوصف الذي ذكر لأجله، أو مقاربا له فيه. قال - كثر الله فوائده -: فإن التكلف في هذا غني عن البيان ... إلخ. أقول: إذا كان الشراء من فضولي، والمشتري لا يعلم بأنه فضولي، فلا شك ولا ريب أنه قد كان للمبيع ظاهر محبوب، وباطن مكروه كما قال القاضي عياض (¬2): نقلا هن أهل اللغة في معنى الغرر، وهكذا للمبيع ظاهر يغري المشتري، وباطن مجهول كما نقل صاحب النهاية (¬3) عن أهل اللغة في معنى الغرر، وهكذا لم تحصل الإحاطة بكنه المبيع كما نقله الأزهري (¬4) وقد تقدم جميع هذا، وليس المراد بتكراره هنا إلا التعريف بأن الغرر موجود في مثل هذا الخيار فلا تكلف. وأما ما يقوله العلامة الشرفي - حماه الله - في هذا الموطن، وما قبله، وما بعده من التصريح بأن العلة كذا جزما أو ترجيحا من دون ربط بدليل معقول، أو منقول، فلا يخفى أن ذلك دعوى مجردة، ومصادرة على المطلوب في الغالب. قال - كثر الله فوائده -: فقد يقال: نعم هذا غرر على ما حققه العراقي، لا على ما قاله القاضي العلامة - عافاه الله -. أقول: إن أراد بالقاضي هنا راقم هذه الأحرف فهو قد صرح بأن هذا غرر في تلك الرسالة، ونقله العلامة الشرفي - حماه الله - في رسالته، ولفظ ما نقله في رسالته من ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (110). (¬2) ذكر الحافظ في " الفتح" (4/ 356). (¬3) (3/ 355). (¬4) في " تهذيب اللغة " (16/ 83 - 84).

رسالتي هكذا: " وذلك غرر فله التخلص بالفسخ ".انتهى. فهذا تصريح لا يبقى بعده ريب لمرتاب، ولا ينافي ذلك إثبات الخيار مع العلم بالتعذر كما لا يخفى، وإن أراد بالقاضي القاضي عياض فكلامه الذي نقله ونقلناه يشتمل على خيار تعذر تسليم المبيع، كما يشتمل على غيره من الخيارات حسبما أوضحناه، فينبغي تحرير هذا المقام بما هو مقبول من الكلام. قال - كثر الله فوائده -: فما ذكره القاضي في غاية التكلف، وبمحل من عدم القبول. إن كان سبب التكلف، وعدم القبول هو كون كلام النجري يخالفه فهذا الاعتراض في غاية الاعتساف، وبمحل من عدم الإنصاف، وأما دعوى أنه صالح للعلية فمجرد الصلاحية لا يستلزم أن يكون الصالح هو العلة دون غيره مما هو أصلح منه، أو مماثلا في الصلاحية. وأما دعوى أن الشارع جعله مناطا في غيره فلا يستلزم أن يكون مناطا فيه لا عقلا ولا شرعا. قال - كثر الله فوائده -: بل فيه ما يدل على قصر السببية على التصرية من مخالفها للقياس بإرجاع صاع من التمر. أقول: هذا منه - عافاه الله - جمود وحنين إلى الوطن الذي حبب إلى الرجال، وهو التقليد الذي نشأ كل فرد من أفراد العالم عليه وإن اختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، ومن كان عالما بما ورد من في الشريعة الغراء ضمن الأعيان لأربابها وجد فيها ضمان الشيء بمماثل له، وإن لم يكن مثليا في عرف الفقهاء كما في تضمينه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ولعائشة - رضي الله عنها - قصعة مثل القصعة التي كسرتها على بعض أمهات المؤمنين (¬1)، وضمان الشيء بغير مماثل له كصاع التمر عن لبن المصراة، ¬

(¬1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2481) وأبو داود رقم (3567) والترمذي رقم (1359) وابن ماجه رقم (2334) والنسائي (7/ 70رقم 3955) من حديث أنس " أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم لها بقصعة فيها طعام فضربت بيدها فكسرت القصعة فضمها وجعل فيها الطعام وقال: وقال: كلوا .. ودفع القصعة الصحيحة للرسول وحبس المكسورة. ولفظ الترمذي قال: "أهدت بعض أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه طعاما في قصعة فضربت عائشة القصعة بيدها فألقت ما فيها فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طعام بطعام وإناء بإناء ".

ولم يرد في الشريعة قاعدة كلية تدل على أن المثلي مضمون بمثله، ولا يعدل إلى قيمته إلا عند عدمه، بل هو مجرد رأي مبني على اصطلاح حادث وهو قولهم: هذا مثلي، وهذا قيمي (¬1)، والعرب لا تعرف ذلك، ولا هو موافق لما كانت عليه لغتها، فإنهم يقولون: هذا السيف مثل هذا السيف، وهذا البعير مثل هذا البعير، وهذا الثوب مثل هذا الثوب، ونحو ذلك. ويقولون في المثليات باصطلاح الفقهاء أن بعضها قيمة للبعض الآخر، وهذا معروف في لسانهم، مشهور، فعرفت بهذا أن كون المثلي هو ما تساوت أجزاؤه (¬2)، وكان له مثل في الصورة، وقل التفاوت فيه، والقيمي هو ما لم ¬

(¬1) قال ابن قدامه في " المغني " (7/ 326): وما تتماثل أجزاءه / وتتقارب صفاته، كالدراهم والدنانير والحبوب والأدهان، ضمن بمثله، بغير خلاف. قال ابن عبد البر: كل مطعوم، من مأكول أو مشروب، فمجمع على أنه يجب على مستهلكيه مثله لا قيمته. وأما سائر المكيل والموزون، فظاهر كلام أحمد أنه يضمن بمثله أيضا، فإنه قال: في رواية حرب وإبراهيم بن هانئ، ما كان من الدراهم والدنانير، وما يكال ويوزن، فعليه مثله دون القيمة، فظاهر هذا وجوب المثل في كل مكيل وموزون، إلا أن يكون مما فيه صناعة كمعمول الحديد والنحاس والرصاص من الأواني والآلات ونحوها، والحلي من الذهب والفضة وشبهه. والمنسوج من الحديد والكتان والقطن والصوف والشعر، والمغزول من ذلك، فإنه يضمن بقيمته، لأن الصناعة تؤثر في قيمته، وهي مختلفة فالقيمة فيها أحصر. انظر: " فتح الباري " (5/ 126). (¬2) انظر " لسان العرب " (13/ 21): مثل: كلمة تسوية يقال هذا مثله ومثله كما يقال شبهه وشبهه بمعنى قال ابن بري: الفرق بين المماثلة والمساواة أن المساواة تكون بين المختلفين في الجنس والمتفقين لأن التساوي هو التكافؤ في المقدار لا يزيد ولا ينقص، أما المماثلة قلا تكون إلا بالمتفقين تقول: نحوه كنحوه، وفقهه كفقهه ولونه كلونه وطعمه كطعمه، فإذا قيل هو مثله على الإطلاق فمعناه أنه يسد مسده.

يجمع القيود الثلاثة (¬1) ليس إلا مجرد اصطلاح حادث (¬2)، فكيف يجعل ما ترتب عليه، وهو كون المثلي مضمونا بمثله ولا يعدل عن المثل إلى القيمة إلا عند عدمه قاعدة شرعية يدفع بها ما صح عن الشارع بلا خلاف بين المسلمين في صحته وثبوته! هل هذا إلا من أعظم مفاسد الرأي، وأطم معايب التقليد، وأشد أنواع الغفلة، وأبعد مسافات الإنصاف! فما بال العلامة الحسن أطلق لقلمه في هذه الحلبة الرسن، وهو من الإنصاف ¬

(¬1) القيمة: واحد القيم. وأصله الواو لأنه يقوم مقام الشيء والقيمة: ثمن الشيء بالتقويم. " لسان العرب " (11/ 357)، " القاموس" (ص1487). (¬2) قال الشوكاني في " السيل الجرار " (3/ 98 - 99): إطلاقهم على الشيء الذي تساوت أجزاؤه أنه مثلي وعلى ما اختلفت أجزاؤه أنه قيمي هو مجرد اصطلاح لهم، ثم وقوع القطع والبت منهم بأن المثلي يضمن بمثله والقيمي بقيمته هو أيضًا مجرد رأي عملوا عليه وإلا فقد ثبت عن الشارع أنه ضمن المثلي بقيمته، كما في قوله في حديث المصراة: " ردها وصاعا من تمر " - تقدم تخريجه -. وثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تضمين القيمي بمثله كما ثبت في صحيح البخاري رقم (2225) من حديث أنس قال " ...... طعام بطعام وإناء بإناء " هذا لفظ الترمذي - رقم (1359) وللبخاري - رقم (2481) - في هذا الحديث ألفاظا منها " .. فضمها وجعل فيها الطعام وقال: كلوا ودفع القصعة الصحيحة للرسول وحبس المكسورة " وأخرج أحمد (6/ 148) وأبو داود رقم (3568) والنسائي رقم (3957) من حديث عائشة أنها قالت: " ما رأيت صانعة طعام مثل صفية أهدت إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إناء من طعام فما ملكت نفسي أن كسرته فقلت يا رسول الله ما كفارته؟ فقال: إناء كإناء وطعام كطعام ". وقال الحافظ في " الفتح" (5/ 135) إسناده حسن. ثم قال الشوكاني في " السيل " (3/ 99 - 100): فاعلم أن الواجب رد العين المغصوبة مثلية كانت أو قيمية فإن تلفت كان المالك مخيرا بين أخذ مثلها أو قيمتها على وجه يرضى به غير فرق بين مثلي وقيمي، ولكن إرجاع مثل المثلي من أعلى أنواع ذلك الجنس وقيمة القيمي على هذا الاصطلاح أقرب إلى دفع التشاجر. وأقطع لمادة النزاع.

بمكان مكين، ومن الكمال بأعلى منازل العلم والدين! قال - كثر الله فوائده -: على أنه مهجور الظاهر كما تقدم، والظاهر فيه الخصوص. أقول: دعوى هجر الظاهر، ودعوى الخصوص لا تصلحان لرد دليل المستدل حتى يربط بدليل مقبول يوجب دفع الاستدلال بدليل يخالفهما على أي صفة كان، وأين هذا ومن يصنع مثل هذا الصنيع فيتكل على الاعتراض على كلام أهل العلم بمجرد الدعاوى، مع أنه بما تقرر في الأصول من خطاب الواحد، فإنه وإن كان لا يعم بالصيغة فهو يعم بدليل آخر كحديث: " إنما قولي لامرأة كقولي لمائة امرأة " (¬1)، وهو يفيد مفاد ما يروونه من حديث: " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " (¬2).والبحث ¬

(¬1) حكمي على الواحد حكمي على الجماعة: قال ابن كثير في " تحفة الطالب " رقم (180): لم أر بهذا اللفظ سندا، وسألت عنه شيخنا الحافظ " جمال الدين أبا الحجاج المزي " وشيخنا الحافظ أبا عبد الله الذهبي مرارا فلم يعرفاه بالكلية. وقال العراقي في " تخريج الأحاديث الواقعة في منهاج البيضاوي " (رقم 25) ليس له أصل، وسئل عنه المزي والذهبي فأنكراه. وقال ابن حجر في " موافقة الخبر الخبر " (1/ 527): " هذا قد اشتهر في كلام الفقهاء والأصوليين ولم نره في كتب الحديث ". قلت: وجاء ما يؤدي معناه في حديث أميمة بنت رقيقة أنها قالت: أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نسوة يبايعنه فقلن: نبايعك يا رسول الله على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيك في معروف، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فيما استطعتن وأطقتن " قالت: فقلت الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا هلم نبايعك يا رسول الله، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إني لا أصافح النساء. إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة، أو مثل قولي، لامرأة واحدة ". أخرجه أحمد (6/ 357) والنسائي (7/ 149) والترمذي رقم (1597)، وابن ماجه رقم (2874) والحميدي رقم (341) والطيالسي رقم (1621) وابن حبان رقم (14 - موارد) ومالك في " الموطأ " (2/ 982 - 983) والطبراني في " الكبير" (جـ24 رقم 470، 471، 472، 473، 475، 476). والبيهقي في " السنن الكبرى (8/ 146) والحاكم في " المستدرك " (4/ 71) من طرق. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وخلاصة القول: أن حديث أميمة بنت رقيقة صحيح والله أعلم. (¬2) حكمي على الواحد حكمي على الجماعة: قال ابن كثير في " تحفة الطالب " رقم (180): لم أر بهذا اللفظ سندا، وسألت عنه شيخنا الحافظ " جمال الدين أبا الحجاج المزي " وشيخنا الحافظ أبا عبد الله الذهبي مرارا فلم يعرفاه بالكلية. وقال العراقي في " تخريج الأحاديث الواقعة في منهاج البيضاوي " (رقم 25) ليس له أصل، وسئل عنه المزي والذهبي فأنكراه. وقال ابن حجر في " موافقة الخبر الخبر " (1/ 527): " هذا قد اشتهر في كلام الفقهاء والأصوليين ولم نره في كتب الحديث ". قلت: وجاء ما يؤدي معناه في حديث أميمة بنت رقيقة أنها قالت: أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نسوة يبايعنه فقلن: نبايعك يا رسول الله على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيك في معروف، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فيما استطعتن وأطقتن " قالت: فقلت الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا هلم نبايعك يا رسول الله، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إني لا أصافح النساء. إنما قولي لمئة امرأة كقولي لامرأة واحدة، أو مثل قولي، لامرأة واحدة ". أخرجه أحمد (6/ 357) والنسائي (7/ 149) والترمذي رقم (1597)، وابن ماجه رقم (2874) والحميدي رقم (341) والطيالسي رقم (1621) وابن حبان رقم (14 - موارد) ومالك في " الموطأ " (2/ 982 - 983) والطبراني في " الكبير" (جـ24 رقم 470، 471، 472، 473، 475، 476). والبيهقي في " السنن الكبرى (8/ 146) والحاكم في " المستدرك " (4/ 71) من طرق. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وخلاصة القول: أن حديث أميمة بنت رقيقة صحيح والله أعلم.

مدون في الأصول (¬1) ¬

(¬1) قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص444): الخطاب الخاص بواحد من الأمة إن صرح بالاختصاص به كما في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدي " - تقدم تخريجه - فلا شك في اختصاصه بذل المخاطب وإن لم يصرح فيه بالاختصاص بذلك المخاطب مذهب الجمهور إلى أنه مختص بذلك المخاطب ولا يتناول غيره إلا بدليل من خارج. وقال بعض الحنابلة وبعض الشافعية أنه يعم بدليل ما روى من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " وما روى عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة ". ولا يخفى أن الاستدلال بهذا خارج محل النزاع فإنه لا خلاف أنه إذا دل دليل من خارج على أن حكم غير ذلك المخاطب كحكمه كان له حكمه بذلك الدليل. وإنما النزاع في نفس تلك الصيغة الخاصة هل تعم بمجردها أم لا. فمن قال أنها تعم بلفظها فقد جاء بما لا تفيده لغة العرب ولا تقتضيه وبجه من الوجوه. قال القاضي أبو بكر هو عام بالشرع لا بوضع اللغة للقطع باختصاصه به لغة. قال إمام الحرمين الجويني - في البرهان (1/ 370) -: لا ينبغي أن يكون في هذه المسألة خلاف إذا لا شك أن الخطاب خاص لغة بذلك الواحد، ولا خلاف أنه عام بحسب العرف الشرعي وقيل بل الخلاف معنوي لا لفظي لأنا نقول الأصل ما هو؟ هل هو مورد الشرع أو مقتضي اللغة؟ قال الصفي الهندي: لا نسلم أن الخطاب عام في العرف الشرعي. قال الزركشي في " البحر المحيط " (3/ 191): " والحق أن التعميم منتف لغة ثابت شرعا والخلاف في أن العادة هل تقتضي بالاشتراك بحيث يتبادر فهم أهل العرف إليها أولا، فأصحابنا - يعني الشافعية - يقولون لا قضاء للعادة في ذلك كما لا قضاء للغة. والخصم يقول إنها تقضي بذلك " اهـ. قال الشوكاني بعد ذلك: والحاصل في هذه المسألة على ما يقتضيه والحق يوجبه بالإنصاف - عدم التناول لغير المخاطب من حيث الصيغة، بل بالدليل الخارجي. وقد ثبت عن الصحابة فمن بعدهم الاستدلال بأقضيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخاصة بالواحد أو الجماعة المخصوصة على ثبوت مثل ذلك لسائر الأمة، فكان هذا مع الأدلة الدالة على عموم الرسالة وعلى استواء أقدام هذه الأمة في الأحكام الشرعية مفيدا لإلحاق غير ذلك المخاطب بذلك. فعرفت بهذا أن الراجح التعميم حتى يقوم دليل التخصيص، لا كما قيل أن أراجح التخصيص حتى يقوم دليل التعميم لأنه قد قام كما ذكرناه.

وقد حكى بعض أهل الأصول الإجماع على ذلك (¬1). قال - كثر الله فوائده - ولم يكتف بمجرد الغرر لكونه حكمة مجردة كما مر. أقول: هذه دعوى مجردة كما مر. قال - كثر الله فوائده -: ففي هذا أنه على ما قرره - عافاه الله - يكون بالجهل أشبه لا بالغرر. هذا لا ينفعه ولا يضرنا؛ فقد بينا سابقا أن الجهل (¬2) غرر بنقل أئمة اللغة المعتبرين، وأما الرد بمخالفة بعض أهل العلم فليس من دأب المنصفين، وكونه أنيط بالمجلس، لأنه القدر الذي يتمكن فيه المغرور من الاطلاع على الغرر وأما ذات المجلس فطردي كما صرح به أئمة الأصول في عموم الأمكنة. قال - كثر الله فوائده -: ففي هذين الخيارين به صرح المجيب بالجهل فيهما، وقد عرفت أنه ليس بغرر. أقول: وعرفت أيضًا أن الجهل غرر لغة (¬3)، وأما دعوى أن ذلك حكمة مجردة بدليل كونه قد أنيط بالرؤية والعيب، وهما العلة والسبب، فلا يخفاك أن المتنازع استحق المشترى للمعيب أن يفسخه عند الاطلاع على العيب، والمشتري لما هو غائب عنه أن يفسخه عند الرؤية لعله كذا، فالعيب والرؤية سببان للفسخ، لا علتان له، ومثل هذا لا يخفى على من هو دون المجيب ¬

(¬1) انظر " تيسير التحرير " (2/ 252)، " مختصر ابن الحاجب " (2/ 123). (¬2) انظر الرسالة رقم (110). (¬3) انظر " إرشاد الفحول " (ص 391)، و" البحر المحيط " (36 - 7)، " المخول " (ص138).

- عافاه الله -؛ فإن الفرق بين العلل والأسباب أوضح من الشمس (¬1). ¬

(¬1) العلة تقدم تعريفها في الرسالة رقم (110): أما السبب: فهم متميز عن العلة من جهة: 1) اللغة: فالسبب ما يتوصل به إلى غيره. ولو بوسائط - ومنه سمي الحبل سببا، وذكروا للعلة معاني يدور القدر المشترك فيها على أنها تكون أمرا مستمدا من أمر آخر. وقال أكثر النحاة: اللام للتعليل ولم يقولوا للسببية، وقالوا الباء للسببية ولم يقولوا للتعليل، وصرح ابن مالك بأن الباء للسببية والتعليل وهذا تصريح بأنهما غيران. 2) أما من جهة الاصطلاح الكلامي: فإنهما يشتركان في توقف المسبب عليهما ويفترقان من وجهين: أحدهما: أن السبب يحصل الشيء عند لا به، والعلة ما يحصل به. والثاني: أن المعلوم متأخر عن العلة بلا واسطة ولا شرط يتوقف الحكم على وجوده. والسبب إنما يقتضي الحكم بواسطة أم بوسائط، ولذلك يتراخى الحكم عنها حتى توجد الشرائط وتنتفي الموانع. وأما العلة فلا يتراخى الحكم عنها إذا اشترط لها، بل أوجبت معلولا بالاتفاق. 3) أما من جهة الاصطلاح أصولي: العلة في لسان الفقهاء تطلق على المظنة أي الوصف المتضمن لحكمة الحكم، كما في القتل العمد العدوان، فإنه يصح أن يقال: قتل لعلة القتل، وتارة يطلقونها على حكمة الحكم، كالزجر الذي هو حكمة القصاص. فإنه يصح أن يقال: العلة الزجر. وأما السبب: فلا يطلق على إلا على مظنة المشقة دون الحكمة إذ بالمظنة يتوصل إلى الحكم لأجل الحكمة. 4) أما من جهة الاصطلاح الفقهي: السبب يطلق في اصطلاح الفقهاء على أربعة أمور: أ ـ السبب الذي يقال أنه مثل العلة كالرمي، فإنه سبب حقيقة إلا أنه في حكم العلة، لأن عين الرمي لا أثر له في الحكم حيث لا فعل منه، ومنه الزنى. ب ـ ما يكون الطارئ مؤثرا ولكن تأثيره مستند إلى ما قبله، فهو سبب من حيث استناد الحكم إلى الأول لا استناد الوصف الأخر إلى الأصل. ج ـ ما ليس سببا بنفسه ولكن بصير سببا غيره، كقولهم: القصاص وجب ردعا وزجرا، ثم قالوا: وجب لسبب القتل، إذ القتل علة القصاص، فقطعوا الحكم عن العلة، وجعلوه متعلقا بالعلة. والعلة غير الحكم. د ـ ما يسمى سببا مجازا من حيث أنه سبب لما يجب، كقولهم الإمساك سبب القتل وليس سبب القتل حقيقة، فإنه ليس يفضي إلى القتل، بل القتل باختيار القاتل. لكنه سبب المتمكن من القتل بإلحاق، وقيل: سبب القتل، فالأسباب لا تدعوا هذه الوجوه. الفقهاء يقولون: العلة هي التي يتبعها الحكم. السبب ما تراخى عنه الحكم ووقف على شرط أو شيء بعده. انظر " البحر المحيط " (5/ 115 - 116)، " الكوكب المنير " (4/ 8 - 12)، "إرشاد الفحول " (ص702).

قال - كثر الله فوائده -: قد كررت أن الغرر لمجرده حكمه مجرد ... إلخ. أقول: وكررت أنا أن هذه الدعوى مجردة كما كررت أن رد كلام بعض أهل العلم بمخالفتهم لبعض منهم ليس دأب أهل الإنصاف. قال - كثر الله فوائده -: ثم ما المراد بتقرير كونها موجودة في جميع الخيارات؟ ... إلخ. أقول: هذا بحث قوي، وسؤال سوي، والذي نريده أن الغرر إذا وجد في أنواع المبيعات التي لم ينص عليها الشارع كان له حكم ما نص عليه، وهكذا إذا وجد في نوع من أنواع المبيعات غير الأنواع التي ذكرها أهل الفقه فله حكمه، فتارة يكون ذلك الإلحاق بلحن الخطاب (¬1)، وتارة يكون بفحواه (¬2). وأما ما ذكره - عافاه الله - من أن النهى عن بيع الغرر يقتضي بطلانه فهكذا معناه الحقيقي، لكنه لما أثبت الشارع الفسخ في بعض بيوع الغرر كالمصراة (¬3)، وتلقي الجلب، ومن يخدع في البيوع، والعيب، والرؤية، كان ذلك دليلا على أن بعض أنواع الغرر ينعقد معه البيع، ويثبت الفسخ، أو يكون ذلك دليلا على أن النهي عن بيع الغرر وإن كان مفيدا للتحريم لكنه لا يستلزم الفساد المرادف للبطلان، بل يصح العقد، ¬

(¬1) تقدم تعريفه. (¬2) تقدم تعريفه. (¬3) انظر" المغني " (6/ 23 - 33).

ويثبت الفسخ وتكون هذه الأدلة الواردة في هذه المواضع قرينة صارفة عن اقتضاء الفساد، أو عن المعنى الحقيقي، وهو التحريم من أصله، وأما ما ألزم به -عافاه الله - من اختلاط أحكام تلك الخيارات ومصيرها شيئا واحدا (¬1)، واختلافها معلوم، فإن كان هذا العلم بالدليل فممنوع، وقد أوضحنا ما يقتضيه الدليل، وإن كان ذلك لكونه قد قال به بعض أهل العلم فليس ذلك بحجة تمنع من المخالفة، وهذا واضح لا يخفى. قال - كثر الله فوائده - مما لا طائل تحته ولا يفيد المستمع لمعلوميته. أقول: ليس هذا جواب من قال: لا أدري بأي مسلك ثبت ذلك، بل جوابه أن يقال: ثبت بمسلك كذا، والبرهان على الأصلية والفرعية والحكم العلية كذا، هذا هو الذي ينبغي أن يجاب به، فإن أجيب بما لا يفيد ذلك فهو الجواب الذي لا طائل تحته، ولا يفيد المستمع لعدم ربطه بالبرهان المقبول. وأما دعوى أن خيار الإجازة (¬2) فرد من أفراد خيار المغابنة فهذا من أغرب ما يطرق سمع من يسمع، وكيف يقبل العاقل فضلا عن العالم أن فسخ العقد لمبيع باعه غير مالكه بغير ولاية شرعية (¬3) فرد من أفراد عقد باعه من له ولاية شرعية!. وأما ما ذكره - عافاه الله - من قوله: فها هنا أصل ... إلخ. فيجاب عنه الذي طلب بيان الأصلية والفرعية والعلية والحكم له بطلب البيان بأي وجه كان، وعلى أي صفة وقع بل طلب شأن ذلك بالبرهان، فهذا يفيد أن العلامة الشرفي - حماه الله - لم يلم بمراد السؤال، ولا جس فيه بنص علمه الإشكال، ولا أسرف على ما في تلك الرسالة بحال كما قال في جوابات السؤال. قال - كثر الله فوائده -: وسلم صلاحيته في المصراة فقط فهو فيها بمعنى ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (110). (¬2) انظر أحكامها في " المغني " (8/ 10 - 11). (¬3) انظر " فتح الباري " (4/ 349 - 325).

التغرير، وليس الغرر في أكثر الخيارات بهذا المعنى. أقول: لكن أهل اللغة (¬1) لم يفرقوا بين الغرر والتغرير كما أوضحناه سابقا، والمدلول اللغوي (¬2) عند عدم وجود الحقيقة الشرعية. فما عول عليه - عافاه الله - من الفرق بين الغرر والتغرير إن كان لبيان أصل الفرق بينهما فمسلم، ولا ينفعه ولا يضرنا، وإن كان لبيان كون ذلك الفرق يخرج أحدهما عن معنى الغرر لغة الذي هو محل النزاع فممنوع، والسند ما تقدم به من النقل، واختلاف أمرين في بعض الذاتيات أو العرضيات لا يمنع من اندراجهما تحت أمر يعمهما كالإنسان، والفرس؛ فإن اخل افهما في الناطقية والصاهلية، واستقامة القامة، وظهور البشرة، والضحك لا يمنع من كونه يقال على كل واحد منهما أنه حيوان في جواب ما هو؟ وأما ما ذكره - عافاه الله - من مخالفة حيث المصراة للقياس فقد تقدم جوابه (¬3). قال - كثر الله فوائده -: أحدهما أن خيار العيب أصل برأسه. أقول لكن العلة الغرر كما بيناه، وذلك لا ينافى تسميته خيار عيب فإنه سمي بذلك لسببية العيب للخيار لا لعليته له. وأما ما ذكره من تخلف الحكم في العيب، وأنه نقض قادح. فنقول: تخلف الحكم للدليل الخاص فكان ذلك من بناء العام على الخاص، فليس بنقض (¬4) ولا كسر (¬5). ¬

(¬1) تقدم في بداية الرسالة. (¬2) تقدم في بداية الرسالة. (¬3) في الرسالة رقم (110). (¬4) النقض هو تخلف الحكم مع وجود العلة ولو في صورة واحدة فإن اعترف المستدل بذلك كان نقضا صحيحا عن من يراه قادحا، وأما من لم يره قادحا فلا يسميه نقضا بل يجعله من باب تخصيص العلة. وانظر مزيد تفصيل " تيسير التحرير " (4/ 138)، و" البحر المحيط " (5/ 261). (¬5) الكسر: هو إسقاط وصف من أوصاف العلة المركبة وإخراجه عن الاعتبار بشرط أن يكون المحذوف مما لا يمكن أخذه في حد العلة. ومنهم من فسره: بأنه وجود المعنى في صورة مع عدم الحكم فيه، والمراد وجود معنى تلك العلة في موضع آخر ولا يوجد معها ذلك الحكم وعلى هذا التفسير يكون كالنقص ولهذا قال ابن الحاجب في " المختصر " (2/ 269): هو نقض المعنى والكلام فيه كالنقض. ومثاله أن يعلل المستدل على القصر في السفر بالمشقة فيقول المعترض: ما ذكرته من المشقة أرباب الصنائع في الحضر. وقد ذهب الأكثرون إلى أن الكسر غير مبطل وأما الفخر الرازي والبيضاوي وجماعة من الأصوليين فجعلوه من القوادح. انظر "المنهاج " (2/ 398 - شرح الأصفهاني)، " البحر المحيط " للزركشي (5/ 279).

وأما ما ذكره من العارضة ففيه قوة لو ربطه بدليل حتى يخلص من شوب المصادرة. قال - كثر الله فوائده -: وعرفت أن العموم من عوارض (¬1) الألفاظ ... إلخ. أقول: لم يذكر إلا عموم العلة، وأوردنا حديث المصراة (¬2) للاستدلال به على أنه ثبت فيه الخيار للمكلف البائع عن نفسه، مع كون العلة الغرر، وكذلك حديث تلقي الجلب (¬3)، وحديث حبان (¬4)، فإنه إيراد هذه الأدلة ليس إلا لثبوت الخيار فيها للمكلف البائع عن نفسه، مع كونه العلة الغرر على ما قررناه فثبتت الخيار للمكلف البائع عن نفسه، مع وجود العلة التي هي الغرر في بيعه. قال - كثر الله فوائده -: فإن الترتيب الخيار على قوله: هذا القول: دون مجرد الخداع أمر مكشوف ... إلخ. أقول: لكن هذا الكشف مجرد دعوى، فلا يتم حتى يربط بدليل، وهو اتفاق أهل الفهم على ذلك، وهو ممنوع، فقد وقع الاختلاف، أو أن المدلول اللغوي لا يحتمل إلا ذلك فهو مدفوع، فإن الكل من الاحتمالين يحتمله الكلام اللغوي، ويتناوله المقصد الشرعي فإن كل واحد منهما مقصد من مقاصد الشارع، أو أنه قد ورد دليل الشرع فأوجب المصير إلى ذلك، فأين هذا الدليل؟ ¬

(¬1) ذهب الجمهور إلى أن العموم من عوارض الألفاظ، فإذا قيل هذا لفظ عام صدق على حسب الحقيقة. انظر " جمع الجوامع " (1/ 398)، " المنخول " (ص138). (¬2) تقدم تخريجه في الرسالة رقم (110). (¬3) تقدم تخريجه في الرسالة رقم (110). (¬4) تقدم تخريجه في الرسالة رقم (110).

قال - كثر الله فوائده -: فإنه دفع في وجه التعليل النبوي ... إلخ. أقول: بل هو جمع بين الأدلة الشرعية؛ إذ لا معارضة عند التحقيق، فإن رزق البعض (¬1) من البعض لا ينافيه ثبوت الخيار عند وجود مسمى الغرر، لا عقلا، ولا شرعا، ولا عرفا، لأن غاية ما علل به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ما قاله من النهي عن بيع الحاضر للبادي أنه يرزق الله بعض العباد من بعض إذا باع البادي لنفسه بنفسه، وذلك إما لكون الغالب على أهل البادية السماحة، فلا يكثرون المماكسة، ولا يطيلون المماحكة مع كونهم يعلمون أنهم لو صنعوا في بيوعاتهم ما يصنعه الحاضر من كثرة التحسين والتزيين والانتظار إلى وقت الغلاء، والتربص لوقت النفاق لباعوا بثمن مثل الثمن الذي يبيعه الحاضر به، ولكنهم يتسامحون وتطيب أنفسهم بدون ذلك ولا غرر عليهم، ولا مخادعة لهم. وقد أشرنا إلى هذا المعنى في تلك الرسالة (¬2)، وهو ما يستلزم ما فهمه - عافاه الله - من أن الحديث دليل على ما استدل به عليه، لأنه لا غرر أصلا، فكيف يجزم بأن مثل هذا الوجه دفع في وجه التعليل النبوي! وهو عنه أجنبي. ثم قلنا في تلك الرسالة: وعلى تقدير أنهم باعوا جاهلين إلخ.، وهذا أيضًا لم يدفع في وجه التعليل النبوي ولا معارض له، بل هو جمع حسن، وترجيح مقبول. قال - كثر الله فوائده - فإن هذه الاجتهادات لا تسوغ ... إلخ. أقول: قد أطال -أطال الله بقاءه - الكلام هاهنا في غير طائل، فإنه لا يخفى عليه ولا على ذي فهم وعلم أن حكم الحاكم إثباتا ونفيا إذا تعلق بالاطلاع على قيمة العين المتنازع فيها في غبن أو غيره أنه لا يتمكن الحاكم من الحكم، ولا يرتفع النزاع بين الخصمين إلا بالرجوع إلى تقويم العدول؛ إذ لم يرد في هذه الشريعة المطهرة أن قيمة تلك ¬

(¬1) تقدم في الرسالة رقم (110) وانظر الرسالة رقم (112). (¬2) رقم (110).

العين كذا، وانقطع الوحي بعد عصر النبوة، فلم يبق إلا الرجوع إلى التقويم العدول، وليس هذا بمستنكر عند المتشرعين، فقد شرع الله الرجوع إلى حكم العدول في جزاء الصيد فقال: [يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ] (¬1)، وقال في الخصومة العارضة بين الزوجين: [فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا] (¬2) فالحاكم الذي لا يجد سبيلا إلى الخصومة بين الخصمين إلا بتقويم العدول لا يكون أمره بالتقويم من الاجتهاد الذي لا يسوغ، بل من الإقتداء بما شرعه الله في كتابه العزيز، هؤلاء العدول لا يكون لم يتعين عليهم القيام بذلك التقويم، ولا هو فرض عين عليهما، ولا كلفهما الله سبحانه به، وفى الدنيا من يحسن هذا التقويم غيرهما، بل في كل قرية جماعة، فهما إذا طلبا الأجرة أو امتنعا من التقويم إلا بها لم يكن تعيين الحاكم لها مخالفة للشريعة بل المخالف للشريعة المبنية على العدل هو إتعاب النفوس قسرا أو قهرا بلا أجر، ومطل العاملين بلا وجه شرعي، ولا حجة نيره فالحاكم إذا ألزم الخصمين (¬3) أو أحدهما بتسليم أجرة العدول المقومين موزعا ذلك على حسب ما حصل للغريمين من جلب النفع، ودفع الضر ليس يجتهد اجتهادا لا يسوغ، والمفروض أنه لم يطلب التقويم أحد الخصمين بل طلبه الحاكم لرفع الخصومة، ودفع الشجار إقتداء بتحكيم الحكمين في جزاء الصيد. وقد حلت أجرة الشهود الذين يشهدون بما قد وجب عليهم تأديته إذا احتاجوا إلى قطع مسافة، أو مزاولة، فكيف لا يحل الأجرة لعمل المقومين مع كونه لم يجب عليهم ذلك التقويم، ولا تقدم لهم ما يوجبه عليهم! والأمر في هذا واضح. وإلى هنا انتهى الكلام على اعتراضات العلامة الشرفي - كثر الله فوائده - التي كتبها ¬

(¬1) [المائدة:95]. (¬2) [النساء: 35]. (¬3) انظر " المغني " (14/ 9 - 12).

على رسالتي (¬1) المسماة: إيضاح الدلالات على أحكام الخيارات. ¬

(¬1) قال ابن قدامة في " المغني " (14/ 137 - 138) ومن له كفاية، فليس له أخذ الجعل على الشهادة، لأنه أداء فرض، فإن فرض الكفاية إذا قام به البعض وقع منهم فرضا. وإن لم تكن له كفاية، ولا تعنيت عليه، حل له أخذه، لأن النفقة على عياله فرض عين، فلا يشتغل عنه بفرض الكفاية، فإذا أخذ الرزق جمع بين الأمرين، وإن تعينت له الشهادة، احتمل ذلك أيضا، واحتمل أن لا يجوز، لئلا يأخذ العوض عن أداء فروض الأعيان قال أصحاب الشافعي: لا يجوز أخذ الأجرة لمن تعينت له.

ولنذكر الآن الكلام على ما اعترض به المولى العلامة ضياء الإسلام، نبراس الآل الكرام إسماعيل بن أحمد ابن محمد الكبسي (¬1) - كثر الله فوائده -. وسنقتصر على أوجز عبارة، لأن الكلام قد طال، وقد دخل في الجواب (¬2) على العلامة الشرفي - حماه الله - غالب جوابات اعتراضات الضياء -عافاه الله -. قال - كثر الله فوائده -: الأول أنه أراد أن يجمع الخيارات ... إلخ. أقول: ربط الشارع النسخ بالرؤية والعيب والشرط ونحوها لا يستلزم أنها العلل، بل هي الأسباب، ولها علل آخرة، ولا تلازم بين الأسباب والعلل كما لا يخفى. قال - كثر الله فوائده -: الثاني أن الغرر الذي جعله علة لجميعها لم يضبطه إلخ. أقول: قد أوضحناه في الرسالة إجمالا، وأوضحناه في أوائل هذه الورقات بما يستفاد منه أنه منضبط مبين، غير مناف لما ذكره أهل العلم في ذلك. قال - كثر الله فوائده - فلا استقر عقد ... إلخ. أقول قد أوضحنا في الرسالة أنه لا بد أن يعلم أنه يعتقد وجود ما لم يوجد حال العقد، فلا يلزم قبول قوله مطلقا، ولا استقرار العقد. أقول - كثر الله فوائده -: وأقر بأنه مغرور إلخ. أما إذا أقر بأنه غير مغرور فلا خيار، وليعلم- عافاه الله - أن مجرد عدم رؤية المبيع محتملة لوجود الغرر (¬3)، لأنه إذا رآه يمكن أن يجده على صفة غير ما ظنه، أو تخيله، فليس الخير كالمعاينة (¬4)، لكنه إذا أقر بأنه غير مغرور فقد أبطل ما أثبته له الشارع، فيكون ذلك كإسقاط الخيار الثابت، فالإلزام ملتزم، ولا يرد ما أورده من قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: فله الخيار إذا رآه، لأن ذلك ثابت مع عدم الإسقاط، وأما مع ¬

(¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) انظر الرسالة رقم (111). (¬3) انظر " المغني " (6/ 30 - 34). (¬4) أخرجه أحمد في مسنده (1/ 215) من حديث ابن عباس بسند صحيح.

الإسقاط أو الإقرار بما يوجب سقوط الخيار، وعدم الغرر فلا يخالف الحديث، وإلا لزم المخالفة للحديث إذا أسقط خيار الرؤية، فإنه يقال عليه: إن هذا الإسقاط يوجب بطلان الخيار، وقد قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " فله الخيار إذا رآه " (¬1) وما هو جوابه عن الإسقاط للخيار، فهو جوابنا عن الإقرار بعدم الغرر. قال - كثر الله فوائده -: الرابع أنا قد وجدنا الخيارات ... إلخ. أقول: قد تقدم الجواز عن هذا الوجه في جوابات اعتراضات العلامة الشرفي - حماه الله - فليرجع إليها. وقد قدمنا أن المقرر في الأصول أن خطاب الواحد وإن لم يعم باعتبار الصيغة فهو يعم باعتبار أمور خارجة (¬2) كما تقدم بيانه، وهو إجماع كما حكاه بعض أهل الأصول. قال - كثر الله فوائده - وهكذا من وهم أن فكرته تستدرك حكما حادثا إلخ. أقول تقدم بيان الوجه بما لا يبقى معه ريب لمرتاب، ونزيد ذلك هاهنا بيانا فنقول: إن قلتم أنه لا يجوز الحكم إلا بأسباب معلومة محضورة، وهي الشهادة واليمين والإقرار، وأنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بغيرها، وإن أفاد مفادها، أو زاد عليها طلبنا منكم الدليل الذي يدل على أسباب انحصار الحكم في هذه الأسباب، فأوضحوا لنا ما هو؟ فإن مجرد جعله أسبابا كقوله: شاهداك أو يمينه (¬3)، ونحو ذلك لا يفيد أنه لا أسباب إلا هي، لا بمطابقة، ولا بتضمن ولا التزام. ومن زعم أن النص على سبب أو أسباب لشيء يستلزم أنه لا سبب إلا ما وقع النص عليه، مع أنه لم يكن فيه صيغة من صيغ ¬

(¬1) أخرجه الدارقطني في " السنن" (3/ 4رقم10) وقال:" عمر بن إبراهيم يقال له الكردي يضع الأحاديث وهذا باطل لا يصح، لم يروها غيره، وإنما يروي عن ابن سيرين موقوفا من قوله ". والبيهقي في " السنن الكبرى " (5/ 268). وقد تقدم الحديث في الرسالة رقم (110). (¬2) انظر " إرشاد الفحول " (ص444 - 445). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2669و2670) ومسلم في صحيحه رقم (220/ 138) من حديث الأشعث بن قيس.

الحصر، ولا لفظ من الألفاظ الدالة على سببية الغير، فقد غلط على اللغة غلطا بينا، وأيضا يلزمكم إن علم الحاكم (¬1)، والنكول (¬2)، ورد اليمين ليست (¬3) بأسباب لعدم النص عليها، مع أن شهادة الشاهدين لا يفيد إلا لمجرد الظن على أنهم لم يعتبروا حصول الظن للحاكم بل قالوا: يكفي أن لا يظن الكذب، وكذلك إقرار المقر لا يفيد الحاكم العلم بأنه مطابق للواقع لجواز أن يكون كاذبا في إقراره، فغاية ما يستفاد من إقرار المقر على نفسه هو مجرد ظن الصدق، وأما يمين المدعي فهي أضعف من هذين السببين في تحصيل الظن للحاكم، وإذا كان غاية ما يفيده هذه الأسباب للحاكم هو مجرد الظن، فكيف لا يجوز له أن يحكم بما يفيد مفادها! أو يزيد عليها كعلم الحاكم مع عدم ورود ما ينفي العمل بذلك عن الشارع، لما قدمنا من أن مجرد النص على سبب لا ينفي غيره مما يحلق به بفحوى الخطاب أو لحنه. فإن قلتم: الدليل على حكم الحاكم بعلمه أدلة إطلاع بالعلم. قلنا: وهكذا كل ما يفيد العلم. وإن قلتم: الدليل على أن النكول ورد اليمين سببا أدلة العمل بالظن. وهكذا كل ما يفيد الظن كائنا ما كان، والفرق تحكم. ومع هذا فلست ممن ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (63). (¬2) قال الشوكاني في " السيل " (3/ 322 - 323): الأسباب التي ورد بها الشرع هي الإقرار أو البينة أو اليمين، فإذا حصل واحد من هذه وجه الصحة فقد وجب به في حكم الشرع. ووجب عنده إلزام الخصم. * وأما النكول فهو وإن كان أقوى القرائن على صدق دعوى المدعي ولكنه لما كان الحامل عليه قد يكون الترفع عن اليمين كما يفعله كثير من المتكبرين، وقد يكون الحامل عليه مزيد الغباوة ممن توجهت عليه اليمين وعدم علمه بأن اليمين واجبة عليه، وقد يكون الحامل عليه ما يعتقده كثير من العامة أن مجرد الحلف ولو على حق لا يجوز وأنه الفاعل له، فلما كان الأمر هكذا لم يكن مجرد النكول سببا شرعيا للحكم. (¬3) قال الشوكاني في " السيل الجرار " (3/ 325) لم يصح شيء في يمين الرد قط، وما روى في ذلك فلا يقوم به حجة، ولا ينتهض للدلالة على المطلوب، والأسباب الشرعية لا تثبت إلا بالشرع.

يعمل في الحكم بكل ظن، ويكتفي فيه بأي سبب، لكنه اقتضى هذا الكلام زيادة إيضاح لنا. وإذا تقرر هذا علمت أن رد ما ذكرناه في تلك الرسالة من تقدير العدول، واعتماد الحاكم عليهم، وتحليل الأجرة لهم، بمثل حديث: البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، ليس على ما ينبغي، على أن نقول: إن البينة المذكورة في هذا الحديث وغيره هي ما يتبين به الحق، ولا ينحصر ذلك في شهادة الشهود فهو عليكم لا لكم. وفي هذا المقدار كفاية. وقد اقتصرنا في هذه الورقات على الكلام على ما اعترض به العلامتان على تلك الرسالة، وتركنا الكلام على ما قرراه لأنفسهما، لأن البحث في ذلك يطول جدا. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.

بحث في " لا يبيع حاضر لباد "

بحث في " لا يبيع حاضر لباد " تأليف محمد بن على الشوكاني وحقق وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " بحث في لا يبيع حاضر لباد " 2 - موضوع الرسالة: " فقه " 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الراشدين وبعد: فإنه وصل إلي سؤال من بعض أهل العلم في شهر الحجة سنة 1207 هـ ...... ". 4 - آخر الرسالة: وليس هذا موطن بسط الكلام في ذلك وفي المقدار كفاية لمن له الهداية. انتهى من تحرير المجيب القاضي محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - عدد الصفحات: 4 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26. ما عدا الصفحة الأولى فعدد أسطرها سبعة أسطر والصفحة الأخيرة عدد أسطرها سطران. 8 - عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الراشدين، وبعد: فإنه وصل إلى سؤال من بعض أهل العلم في شهر الحجة سنة 1207هـ سبع ومائتين وألف حاصله: هل يتناول قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لا يبيع حاضر لباد أهل المحلات القريبة أم لا؟ بل عقلت العلة لمن قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض؛ إذ الحاضر والبادي لا يبيعان إلا بيعا واحدا، وكذلك إذا كان الحاضري صديقا أو قريبا انتهى. فأجبت: الحمد لله وحده، حديث لا يبيع حاضر لباد هو عند الجماعة (¬1) كلهم إلا البخاري من حديث جابر، وعند الشيخين (¬2) من حديث أنس، وعند الجماعة (¬3) كلهم إلا الترمذي من حديث بن عباس، وعند ........................ ¬

(¬1) أخرج أحمد (2/ 307) ومسلم رقم (1522) والترمذي رقم (1223) والنسائي (7/ 256) وابن ماجه رقم (2176). وهو حديث صحيح. عن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لا يبيع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض ". (¬2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2161) ومسلم رقم (1523). قلت وأخرجه أبو داود رقم (3440) والنسائي (7/ 256). عن أنس قال: " نهينا أن يبيع حاضر لباد وإن كان أخاه أو أباه ". وهو حديث صحيح. (¬3) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2158) ومسلم رقم (1521) وأبو داود رقم (3439) والنسائي (7/ 257) وابن ماجه رقم (2177). عن ابن عباس قال: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتلقى الركبان، وأن يبيع حاضر لباد. قال طاووس: فقلت لابن عباس: ما قوله حاضر لباد؟ قال: لا يكن له سمسارا. وهو حديث صحيح.

البخاري (¬1)، والنسائي (¬2) من حديث ابن عمر وعند الشيخين (¬3) من حديث أبي هريرة، وهو في بعض هذه الأحاديث بلفظ " نهينا " (¬4) وفي بعض: " نهى "، وفى بعضها بلفظ " لا تبع " (¬5) على النفي. وقد فسر ابن عباس (¬6) بيع الحاضر للبادي فقال: لا يكون له سمسارا. أخرج ذلك عنه الجماعة إلا الترمذي. والسمسار (¬7) بمهملتين هو القيم بالأمر، ثم استعمل في متولي البيع والشراء لغيره. وقد ثبت من حديث جابر ما يشعر بالعلة التي لأجلها نهى الشارع عن أن يبيع حاضر لبادي " دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض " إذا نفى بهذا فاعلم أن قوله: حاضر لباد نكرتان عامتان لوقوعهما في سياق النفي (¬8) والنهي المتضمن له، فيدخل تحت النهي كل ¬

(¬1) في صحيحه رقم (2159). (¬2) في السنن (7/ 258). عن ابن عمر قال: " نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن بيع حاضر لباد ". (¬3) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2140) ورقم (2150) ومسلم في صحيحه رقم (12/ 1515). عن أبي هريرة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "نهى أن يبيع حاضر لباد وأن يتناجشوا " (¬4) انظر: حديث أنس المتقدم. (¬5) انظر: حديث جابر المتقدم. (¬6): انظر: حديث ابن عباس المتقدم .. (¬7) سمسر، السماسرة: جمع سمسار وهو القيم بالأمر الحافظ له وهو في البيع اسم الذي يدخل بين البائع والمشتري متوسطا لإمضاء البيع والسمسرة: البيع والشراء. " النهاية " (2/ 400). (¬8) تفيد النكرة في سياق النفي والنهي والعموم وضعا، أي أن اللفظ وضع لسلب كل فرد من الأفراد عن طريق دلالة المطابقة، والمطابقة هي دلالة اللفظ على تمام مسماه. انظر " جمع الجوامع " (1/ 413). وقيل: إن النكرة في سياق النفي والنهي أفادت العموم عن طريق دلالة الملازمة وهو قول السبكي والحنفية. والنكرة في سياق النفي قسمان: 1) مقيس: فهو مطرد في كل نكرة في سياق النفي مع " لا " التي هي لنفس الجنس مبنية نحو: " لا رجل في الدار " ومعربة نحو: لا سائق إبل لك، وقولهم: لا ثالم عرض لك. 2) والمسموع: وهي الكلمات المحفوظة عن اللغويين وهي تحفظ ولا يقاس عليها مثاله: ما بالدار أحد، ليس المقصود هو واحد العدد، بل هذا للجنس فهو اسم لمن يصلح أن يخاطب، يستوي فيه الواحد والجمع المؤنث قولهم: لا صافر: اسم فاعل من الصفير. ولا نافع حزمة: ما فيها ما يوقدنا. لا نابح، ولا ناهق، ولا داع ... " انظر: " اللمع " (ص15)، " الإحكام " للآمدي (2/ 226 - 227)، " جمع الجوامع " (1/ 413)، " نهاية السول " (2/ 80).

من صدق عليه اسم الحاضر والبادي (¬1). ولا ريب أن اسم البادي يصدق على كل من كان ساكنا في البادية، إما دائما أو في بعض الأوقات كي يسكنها عند صلاح ثمارها من غير فرق بين أن يكون محله قريبا (¬2) أو بعيدا، أو كما تصدق عليه الصيغة تصدق عليه ¬

(¬1) انظر " النهاية " (1/ 398 - 399) (¬2) قال ابن قدامة في " المغني " (6/ 309):والبادي ههنا، من يدخل البلدة من غير أهلها، سواء كان بدويا أو من قرية أو بلدة أخرى. قال الخرقي أنه يحرم بثلاث شروط: أ - أن يكون الحاضر قصد البادي. ليتولي البيع له. ب- أن يكون البادي جاهلا بالسعر لقوله: " فيعرفه السعر " ولا يكون التعريف إلا لجاهل. وقد قال أحمد، في رواية أبي طالب: إذا كان البادي عارفا بالسعر، لم يحرم. ج - أن يكون قد جلب السلع للبيع لقوله " وقد جلب السلع " والجالب هو الذي يأتي بالسلع ليبيعها. وذكر القاضي شرطين آخرين: أ - أن يكون مريدا ليبيعها بسعر يومها. ب- أن يكون للناس حاجة إلى متاعه وضيق في تأخير بيعه. وقال أصحاب الشافعي: إنما يحرم بشروط أربعة: وهي ما تقدم إلا حاجة للناس إلى متاعه. فمتي اختل منها شرط لم يحرم البيع. وإن اجتمعت هذه الشروط فالبيع حرام. وقد صرح الخرقي ببطلانه.

العلة؛ وهي كون البادي يظنه للبيع برخص، فيتسبب عنه ارتزاق الحاضر (¬1)، وذلك لأن من كان باديا في بعض الأوقات يجهل كيفية التعامل والتبايع في ذلك الوقت الذي يكون فيه باديا، وإن كان يسيرا مهما أمكن التجويز فيه، فلا وجه لجعل النهي مختصا من كان باديا دائما. فإن قلت تقسيم النظر إلى العلة يستلزم دخول من كان من أهل الحاضر غير عالم ¬

(¬1) قال القرطبي في " المفهم " (4/ 367 - 368): وظاهر هذا النهي العموم في جميع أهل البوادي، أهل العمود وغيرهم، قريبا كانوا من الحضر أو بعيدا، كان أصل المبيع عندهم بشراء أو كسب، وإليه صار غير واحد، حمله مالك على أهل العمود ممن بعد منهم عن الحضر، ولا يعرف الأسعار، إذا كان الذي جلبوه من فوائد البادية بغير شراء إنما قيده مالك بهذه القيود نظرا إلى المعني المستفاد من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " دع الناس يرزق الله بعضهم من بعض " وذلك، أن مقصوده أن يرزق أهل الحاضرة بأهل البادية، بحيث لا يضر ذلك بأهل البادية ضررا ظاهرا. وهذا لا يحصل إلا بمجموع تلك القيود وبيانه: أنهم إذا لم يكونوا أهل عمود كانوا أهل بلاد وقرى، وغالبهم يعرف الأسعار. وإذا عرفوها صارت مقاديرها مقصودة لهم. فلهم أن يتوصلوا إلى تحصيلها بأنفسهم أو بغيرهم. وإذا كان الذي جلبوه عليهم بالشراء فهم تجار يقصدون الأرباح فلا يحال بينهم وبينها. فلهم التوصل إليها بالسماسرة وغيرهم، وأما أهل العمود والموصوفون بالقيود المذكورة. فإن باع لهم السماسرة وغيرهم ضروا بأهل الحاضرة في استخراج غاية الأثمان، فيما أصله أهل البادية بغير ثمن، فقصد الشرع أن يباشروا بيع سلعهم بأنفسهم ليرتزق أهل الحاضرة بالرخص فيما لا ضرر على أهل البادية فيه. وأعرض الشرع عما يلحق أهل البادية في ذلك دفعا لأشد الضررين وترجيحا لأعظم المصلحتين. وانظر " فتح الباري " (4/ 437). وقال ابن قدامة في " المغني " (6/ 309): " والمعني في ذلك أنه متي ترك البدوي يبيع سلعته، اشتراها الناس برخص، ويوسع عليهم السعر فإذا تولى الحاضر بيعها، وامتنع من بيعها، إلا بسعر البلد ضاق على أهل البلد.

بالتعامل (¬1) لأنه مظنة للبيع برخص، فيحرم على من كان عالما بكيفية التعامل أن يبيع له. قلت ذلك نادر لا اعتبار به، ولهذا لم يلتفت إليه الشارع، فلا يصح النقض (¬2) به ولا الكسر (¬3)، فإن صلح للاعتبار فهو ملزم. فإن قلت: إذا كانت العلة ما سلف، فمن كان من أهل البادية عالما بكيفية التعامل كالقريب، بحيث ينتفي عنه مظنة الترخيص في البيع، ولا يبقى بينه وبين الحاضر فرق، هل له أن يوكل بالبيع (¬4)؟ ¬

(¬1) من العلماء - كمالك - خص هذا الحكم بالبادي وجعله قيدا، ومن هم من ألحق به الحاضر إذا شاركه في عدم معرفة السعر. وقال مالك: إنما ذكر البادي في الحديث لكونه الغالب فألحق به من يشاركه في عدم معرفة السعر الحاضر وإضرار أهل البلد بالإشارة عليه بأن لا يبادر بالبيع. وهذا تفسير الشافعية والحنابلة، وجعل المالكية البداوة قيدا وعن المالك لا يلتحق بالبدوي في ذلك إلا من كان يشبهه، قال فأما أهل القرى الذين يعرفون أثمان السلع والأسواق فليسوا داخلين في ذلك ومنهم من قيد ذلك بشرط العلم بالنهي ن وأن يكون المتاع المجلوب مما تعم به الحاجة، وأن يعرض الحضري ذلك على البدوي. " فتح الباري " (4/ 371). (¬2) تقدم تعريفه. (¬3) تقدم تعريفه. (¬4) قال القرطبي في " المفهم " (4/ 367): قوله " لا يبيع حاضر لباد " مفسر بقول ابن عباس: لا يكن له سمسارا، وظاهر هذا النهي العموم في جميع أهل البوادي، أهل العمود وغيرهم، قريبا كانوا من الحضر أو بعيدا، كان أصل المبيع عندهم بشراء أو كسب. قال الحافظ في " الفتح " (4/ 371): قال ابن المنير وغيره: حمل المصنف النهي عن بيع الحاضر للبادي على معني خاص وهو البيع بالأجر أخذا من تفسير ابن عباس -بقوله لا يكون له سمسارا - وهو في الأصل القيم بالأمر، والحافظ، ثم اشتهر في متولي البيع والشراء لغيره بالأجرة كذا قيده ابن حجر وجعل حديث ابن عباس مقيدا لما أطلق من الأحاديث. أما بغير أجرة فجعله من باب النصيحة والمعاونة فأجازه، وظاهر أقوال العلماء أن النهي شامل لما كان بأجرة، وما كان بغير أجرة. وفسر بعضهم: صورة بيع الحاضر للبادي بأن يجيء البلد غريب بسلعة يريد بيعها بسعر الوقت في الحال، فيأتيه الحاضر فيقول ضعه عندي لأبيعه لك على التدريج بأعلى سعر من هذا السعر ... ". انظر " المغني " (6/ 310). قال البغوي في " شرح السنة " (8/ 123): قوله: " لا يبيع حاضر لباد فذهب بعضهم إلى أن الحضري لا يجوز أن يبيع للبدوي شيئا، ولا يشتري له شيئا، وهو قول ابن سيرين وإبراهيم النخعي، لأن اسم البيع يقع على البيع والابتياع يقال: بعت الشيء وشريته بمعنى اشتريته، والكلمتان من الأضداد.

قلت: وجود من هو لهذه الصفة من أهل البادية ممنوع، والسند انه قد غاب عن الحضر في بعض الأوقات، وذلك مستلزم لعدم العلم بكيفية التعامل في وقت الغيبة على التفضيل؛ فهو مظنة للبيع برخص، فإن قيل: ربما كانت الأخبار بمقدار التعامل وكيفيته يتصل به في حال غيبته. قلت: حديث " ليس الخبر كالمعاينة " (¬1) مانع من تخصيص النص بمجرد ذلك، لأنه قد أفاد أن وصف كونه باديا في تلك الحال غير طردي، فلا تجوز العادة بمسلك ينقح المناط (¬2)، ومن التخصص بمجرد الاستنباط قوله أن النهي مختص بزمن الغلاء (¬3)، وقيل (¬4): هو مختص بأن يضعه البادي عند الحاضر ليبيعه على التدريج بأغلى من سعر ¬

(¬1) أخرجه أحمد في مسنده (1/ 251) من حديث ابن عباس بسند صحيح. (¬2) وتقدم تعريفه: وهو إلحاق الفرع بالأصل بإلغاء الفارق بأن يقال لا فرق بين الأصل والفرع إلا كذا وذلك مدخل له في الحكم البتة فيلزم اشتراكهما في الحكم لاشتراكهما في الموجب له. كقياس الأمة على العبد في السراية فإنه لا فارق بينهما إلا الذكورة وهو ملغي بالإجماع إذ لا مدخل له في العلية. وانظر مزيد تفصيل في " البحر المحيط " (5/ 255)، و" الكوكب المنير " (4/ 199). (¬3) قال ابن حجر في " الفتح " (4/ 371): قوله " لا يكون سمسارا " بمهملتين هو في الأصل القيم بالأمر والحافظ له، ثم استعمل في متولي البيع والشراء لغيره، وفى هذا التفسير تعقب على من فسر الحاضر لبادي بأن المراد نهي الحاضر أن يبيع للبادي في زمن الغلاء شيئا يحتاج إليه أهل البلد فهذا مذكور في كتب الحنفية. (¬4) تقدم ذكر هذه الشروط. انظر " الفتح " (4/ 371). " المغني " (6/ 308).

الوقت (¬1). وقيل: لابد أن يكون المجلوب مما يعم الحاجة إليه (¬2). وقيل لا بد أن يكون ذلك المبيع مما يحصل به التوسعة في البلد، لا إذا كان حقيرا، وكل التخصيص بمجرد الاستنباط، وهو في بعضها في غاية الخفاء، وفى بعض له بعض الظهور، والجميع ما لا يطمئن إلى التخصيص به من راض نفسه في علم الأصول، ولاحظ في تصرفاته على المعقول والمنقول، ثم اعلم أن البادية في اللغة خلاف الحاضرة. قال في القاموس (¬3): البدو البادية، والباداة، والبداوة بخلاف الحضر، وتبدي إقالتها، وتبادي تشبه بأهلها، والنسبة بداوي، وبدوي، وبدا القوم حواء إلى البادية انتهى، ¬

(¬1) قال ابن حجر في " الفتح " (4/ 371): " فجعلوا الحكم منوطا بالبادي ومن شاركه في معناه ... " وقد تقدم ذكره مفصلا. (¬2) قال ابن دقيق العيد في " إحكام الأحكام " (3/ 115 - 116): واعلم أن أكثر هذه الأحكام قد تدور بين اعتبار المعنى وإتباع اللفظ ولكن ينبغي أن ينظر في المعنى الظهور والخفاء فحيث يظهر ظهورا كثيرا فلا بأس باتباعه وتخصيص النص به أو تعميمه على قواعد القياسيين. وحيث يخفى أولا يظهر ظهورا قويا فاتباع اللفظ أولى: فأما ما ذكر من اشتراط أن يلتمس البلدي البدوي ذلك فلا يقوى لعدم دلالة اللفظ عليه وعدم ظهور المعنى فيه، فإن الضرر المذكور الذي علل به النهي لا تفترق الحالة فيه. بين سؤال البلدي والبدوي وعدمه ظاهرا: وأما اشتراط أن يكون الطعام مما تدعوا الحاجة إليه فمتوسط في الظهور وعدمه لاحتمال أن يراعي مجرد ربح الناس في هذا الحكم على ما أشعر به التعليل من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض ". وأما اشتراط أن يظهر لذلك المتاع المجلوب سعة في البلد فكذلك أيضًا أي أنه متوسط في الظهور لما ذكرناه من احتمال أن يكون المقصود مجرد تفويت الربح والرزق على أهل البلد: وهذه الشروط منها ما يقوم الدليل الشرعي عليه كشرطنا العلم بالنهي ولا إشكال فيه: ومنها ما يؤخذ باستنباط المعنى فيخرج على قاعدة أصولية وهي أن النص إذا استنبط منه معنى يعود عليه بالتخصيص هل يصح أولا ويظهر لك هذا باعتبار بعض ما ذكرناه من الشروط. (¬3) (ص1629).

وظاهر أحاديث النهي السالفة (¬1) أن بيع الحاضر البادي محرم من غير فرق بين القريب والصديق، وغيرهما، وإلى التحريم ذهب الجمهور (¬2)، وهو الحق. وذهب عطاء ومجاهد، والهادي، وأبو حنيفة (¬3) إلى ذلك مطلقا من دون كراهة، واحتجوا أولا بأحاديث النصيحة (¬4) لكل مسلم، وهي أحاديث صحيحة، ولكنها تجاب عنها بأنها أعم مطلقا حتى أحاديث النهي للحاضر عن البيع للبادي فلا يصلح لمعارضة أحاديث النهي، ولا لنسخها (¬5) كما زعم البعض، اللهم إلا أن يصح تأخر أحاديث النصيحة عن أحاديث النهي؛ فإنها تكون ناسخة عند من جعل العام المتأخر ناسخا، وهو مع كونه مذهبا مرجوحا متوقف على تأخر العام، ولم ينتقل أحد من أهل العلم أنه متأخر فيبني العام على الخاص كما هو المذهب الحق. وقد نقل بعضهم أنه مجمع عليه من جهل التاريخ، واحتجوا ثانيا بالقياس على جواز توكيل البادي للحاضر (¬6)، ويجاب عنه بأنه قياس في مقابلة النص، فهو فاسد الاعتبار، على أنه لو سلم وجود دليل يدل على جواز التوكيل مطلقا لكان عاما، لشموله وكيل البيع والشراء، والخصومة وغير ذلك، وغير النهي يكون خاصا فيبني العام على الخاص. وممن رجح التحريم الإمام المهدي في البحر (¬7) حيث كان فيه إضرار. ¬

(¬1) انظر " المفهم " (4/ 368). وقد تقدم. " الفتح " (4/ 371). (¬2) انظر " المغني " (6/ 307). (¬3) انظر " البناية في شرح الهداية " (7/ 390 - 391). (¬4) قال الحافظ في " الفتح " (4/ 371) وحمل الجمهور حديث " الدين النصيحة " على عمومه إلا في بيع الحاضر للبادي فهو خاص يقضي على العام والنسخ لا يثبت بالاحتمال. وجمع البخاري بينهما بتخصيص النهي بمن بيع له بالأجرة كالسمسار وأما من ينصحه فيعلمه بأن السعر كذا مثلا فلا يدخل عنده والله أعلم. (¬5) قال الحافظ في " الفتح " (4/ 371) وحمل الجمهور حديث " الدين النصيحة " على عمومه إلا في بيع الحاضر للبادي فهو خاص يقضي على العام والنسخ لا يثبت بالاحتمال. وجمع البخاري بينهما بتخصيص النهي بمن بيع له بالأجرة كالسمسار وأما من ينصحه فيعلمه بأن السعر كذا مثلا فلا يدخل عنده والله أعلم. (¬6) تقدم التعليق على ذلك. (¬7) (3/ 297).

قال ابن حبيب المالكي (¬1): الشراء للبادي مثل البيع له لقوله: " لا يبيع بعضكم على بيع بعض " (¬2) فإن معناه الشراء. وعن مالك روايتان (¬3)، وكرهه ابن سيرين (¬4). ¬

(¬1) عزاه إليه الحافظ في " الفتح " (4/ 373). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2140) وأطرافه (2148،2150،2151، 2160، 2162، 2723، 5144، 5152، 6601) ومسلم في صحيحه رقم (1515). عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أن يبيع حاضر لباد، ولا تناجشوا، ولا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها ". وأخرجه النسائي في " السنن " (7/ 258رقم 4503) وأحمد (2/ 126، 153) عن ابن عمر قال أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا يبيع أحدكم على بيع أخيه ". وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (5142) ومسلم رقم (8/ 1412). (¬3) قال ابن قدامة في " المغني " (6/ 310 - 311) وعن مالك في ذلك روايتان ووجه القول الأول أن النهي غير متناول للشراء بلفظه ولا هو في معناه، فإن النهي عن البيع للرفق بأهل الحضر ليتسع عليهم السعر ويزول عنهم الضرر وليس ذلك في الشراء لهم، إذ لا يتضررون لعدم الغبن للبادين، بل هو دفع الضرر عنهم، والخلق في نظر الشارع على السواء، فكما شرع ما يدفع الضرر عن أهل الحضر لا يلزم أن يلزم أهل البدو الضرر. وأما إن أشار الحاضر على البادي من غير أن يباشر البيع له، فقد رخص فيه طلحة بن عبيد الله، والأوزاعي، وابن المنذر، وكرهه مالك، والليث، وقول الصحابي حجة ما لم يثبت خلافه. وقد صح عند أحمد - الشراء لهم - وهو قول الحسن، وكرهت طائفة الشراء لهم، كما كرهت البيع. (¬4) قال البخاري في صحيحه (4/ 372رقم 70) لا يشتري حاضر لباد بالسمسرة وكرهه ابن سيرين وإبراهيم للبائع والمشتري. وقال إبراهيم: " إن العرب تقول بع لي ثوبا وهي تقصد الشراء ". انظر " فتح الباري " (4/ 354)، و" البناية في شرح الهداية " (7/ 390 - 391). قال ابن قدامة في " المغني " (6/ 305 - 306) قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لا يبيع بعضكم على بيع بعض " معناه: أن الرجلين إذا تبايعا، فجاء آخر إلى المشتري في مدة الخيار، أنا أبيعك مثل هذه السلعة بدون هذا الثمن أو أبيعك خيرا منها بثمنها أو دونها، أو عرض عليه سلعة رغب فيها المشتري، ففسخ البيع، واشترى هذه فهذا غير جائز، لنهي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولما فيه من الأضرار بالمسلم والإفساد عليه، وكذلك إن اشترى على شراء أخيه، وهو أن يجيء إلى البائع قبل لزوم العقد، فيدفع في المبيع أكثر من الثمن الذي اشترى به، فهو محرج أيضًا لأنه في معنى النهي عنه، ولأن الشراء يسمى بيعا فيدخل في النهي، فالبيع باطل، لأنه منهي عنه، والنهي يقتضي الفساد. وقال ابن حجر في " الفتح " (4/ 353): قال العلماء البيع على البيع حرام وكذلك الشراء على الشراء، وهو أن يقول لمن اشترى سلعة في زمن الخيار: افسخ لأبيعك بأنقص، أو يقول للبائع افسخ لأشتري منك بأزيد، وهو مجمع عليه. وأما السوم فصورته أن يأخذ شيئا ليشتريه فيقول له رده لأبيعك خيرا منه بثمنه أو مثله بأرخص، أو يقول للمالك استرده لأشتريه منك بأكثر، ومحله بعد استقرار الثمن وركون أحدهما إلى الآخر فإن كان ذلك صريحا فلا خلاف في التحريم، وإن كان ظاهرا ففيه وجهان للشافعية، ونقل ابن حزم الركون على مالك.

وأخرج أبو عوانة في صحيحه (¬1) عن أنس أنه قيل له: أنهيتم أن تبيعوا أو تبتاعوا لهم؟. قال: نعم وأخرج أبو داود (¬2) عن أنس أنه قال: هي كلمة جامعة لا تبيع له شيئا، ولا تبتاع له شيئا. ومرجعه إلى جواز استعمال المشترك (¬3) في معنييه أو معانيه، ¬

(¬1) في مسنده (3/ 274رقم 4946) عن ابن سيرين قال: كان يقال: لا يبيع حاضر لباد، قال: فلقيت أنس ابن مالك. فقلت: نهيتم أن تبيعون لهم أو تبتاعوا لهم؟ قال: نهيها أن نبيع لهم، وأن نبتاع لهم قال محمد: وصدق إنها كلمة جامعة. (¬2) في السنن رقم (3440) وهو حديث صحيح. (¬3) المشترك: هو اللفظة الموضوعة لحقيقتين مختلفتين أو أكثر وضعا أولا من حيث هما كذلك. " المحصول " (1/ 261). وقيل هو اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفين أو أكثر دلالة على السواء عند أهل تلك اللغة، سواء كانت الدلالتان متفاوتتين من الوضع الأول أو من كثرة الاستعمال، أو استفيدت إحداهما من الوضع والأخرى من كثرة الاستعمال وهو في اللغة على الأصح. ومثل: القرء، العين، فإنها مشتركة بين معانيها المعروفة .... ". " البحر المحيط " (2/ 122). قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص102): ذهب الشافعي والقاضي أبو بكر وأبو على الجبائي والقاضي عبد الجبار ابن أحمد، والقاضي جعفر والشيخ الحسن والجمهور إلى جواز استعمال اللفظ المشترك في معنييه أو معانيه. وذهب أبو هاشم وأبو الحسين البصري والكرخي إلى امتناعه. انظر تفصيل ذلك. " نهاية السول " (2/ 16)، " المحصول " (1/ 270 - 272).

والخلاف في ذلك معروف في الأصول (¬1)، وقد تقرر في اللغة (¬2) أن البيع يطلق على الشراء والعكس حقيقة لا مجازا، والحق جواز استعمال (¬3) المشترك في معنييه أو معانيه إذا لم يكن بينها تضاد (¬4)، وليس هذا موطن الكلام في ذلك. وفى هذا المقدار كفاية لمن له هداية. انتهى من تحرير المجيب القاضي محمد بن على الشوكاني -غفر الله لهما -. ¬

(¬1) انظر: " الإنهاج (1/ 259)،: " نهاية السول " (2/ 138 - 140). (¬2) انظر " القاموس " (ص911). (¬3) قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص105): بعد أن ذكر أدلة المجوزين وأدلة المانعين، قال: إذا عرفت هذا لاح لك عدم جواز الجمع بين معنى مشترك أو معانيه، ولم يأت من جوزه بحجة مقبولة. وقد قيل أنه يجوز الجمع مجازا لا حقيقة، وبه قال جماعة من المتأخرين. وقيل يجوز إرادة الجمع لكن بمجرد القصد لا من حيث اللغة، وقد نسب هذا إلى الغزالي والرازي. وقيل يجوز الجمع في النفي لا في الإثبات، فيقول مثلا: ما رأيت عينا يراد العين الجارحة وعين الذهب وعين الشمس وعين الماء. ولا يصح أن يقال عندي عين وتراد هذه المعاني بهذا اللفظ. وقيل بإرادة الجميع في الجمع فيقال مثلا عندي عيون ويراد تلك المعاني، وكذا المثني حكمه حكم الجمع فيقال مثلا عندي جونان ويراد أبيض وأسود، ولا يصح إرادة المعنين أو المعاني بلفظ المفرد وهذا الخلاف إنما هو في المعاني التي يصح الجمع بينها وفى المعنيين الذين يصح الجمع بينهما لا في المعني المتناقضة. وانظر " نهاية السول " (2/ 138 - 140)، " الإنهاج " (1/ 263). (¬4) انظر التعليقة السابقة.

المسك الفايح في حط الجوايح

المسك الفايح في حط الجوايح تأليف محمد بن على الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " المسك الفايح في حط الجوايح ". 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وبعد: فإنه ثبت في صحيح مسلم .... ". 4 - آخر الرسالة: فالملزوم مثله وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والله ولي التوفيق. كتبه مؤلفه محمد الشوكاني غفر الله له. ويليه أبيات شعرية " للعلامة على بن يحيى بن أبو طالب لما اطلع على هذا البحث. 5 - نوع الخط: خط نسخي عادي. 6 - عدد الصفحات: 4 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 24 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 9 كلمات. 9 - الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وبعد: فإنه ثبت في صحيح مسلم (¬1) وغيره (¬2) من حديث جابر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، أمر بوضع الجوايح. ولفظ عند أحمد (¬3)، والنسائي (¬4)، وأبي داود (¬5) " أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وضع الجوايح". وكلا اللفظين من صيغ العموم. فيشمل كل جائحة (¬6)، والجائحة هي الآفة التي تصيب الزرع أو الثمر، ولكن قد وقع الإجماع على أن البرد، والبرد، والقحط، والعطش، وكل آفة سماوية: داخل تحت عموم الجوائح. واختلفوا إذا كانت الجائحة من جهة الآدميين، كالسرقة وإفساد الزرع، ونحو ¬

(¬1) رقم (17/ 1554). (¬2) انظر التعليقة التالية. (¬3) في المسند (3/ 309). (¬4) في سنن (7/ 265رقم 4529). (¬5) في السنن رقم (3374). وهو حديث صحيح. (¬6) الجائحة: وهي الآفة التي تهلك الثمار والأموال وتستأصلها، وكل مصيبة عظيمة وفتنة مبيرة: جائحة والجمع جوائح، وجاحهم، يجوحهم جوحا: إذا غشيهم بالجوائح وأهلكهم. " النهاية " (1/ 311 - 312). وقال ابن قدامة في " المغني " (6/ 179): أن الجائحة كل آفة لا صنع للآدمي فيها، كالريح، والبرد، والجراد، والعطش. * الجوائح إحداها جائحة وهى الشدة، والنازلة العظيمة التي تحتاج المال، وتستأصل شأفته، وهي المصيبة التي تحل بالرجل في ماله فتجتاحه كله، وقال ابن شميل: أصابتهم جائحة: أي سنة شديدة اجتاحت أموالهم فلم تدع لهم وجاحا، والوجاح: بقية الشيء من مال أو غيره. انظر " لسان العرب " (2/ 410)، " الأم " (6/ 184).

ذلك. وإذا تقرر عموم الجوائح كما قدمنا، دخل في ذلك كل ما أصابته الجائحة. وسواء أصابت عين المبيع، كمن يبيع زرعا، أو ثمرا، فتصيبه الجائحة قبل أن ينتفع به المشتري، أو أصابت ما هو الفائدة المطلوبة، والمنتفعة المقصودة من ذلك الشيء. وذلك كمن يؤجر أرضا للزرع، أو ماء للسقي، أو بستانا للثمرة الحاصلة منه، أو لبعضها، فأصاب ذلك الزرع، أو تلك الثمرة الجائحة، ذهبت بها، أو ببعضها، فإنه لا شك، ولا ريب أن هذا مما تشمله الجوائح، ويدخل تحت عمومها. والتنصيص على بعض ما يشمله العموم، كما وقع في بعض الأحاديث من التنصيص بلفظ " إن بعت من أخيك ثمرا، فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ "، أخرجه مسلم (¬1)، وأبو داود (¬2)،والنسائي (¬3)، وابن ماجه (¬4). وفي لفظ " إذا منع الله الثمرة فبم تستحل مال أخيك؟ " أخرجه البخاري (¬5)، ومسلم (¬6): لا ينافي شمول الجوائح لما عدا ذلك، كما هو في المقرر في الأصول، عند جميع أهل العلم، إلا من يعتد بقوله. على أن التنصيص على بعض أفراد العام، لا يكون موجبا لتخصيص العموم. على أن في لفظ الصحيحين (¬7) المذكور، وهو قوله: " إذا منع الله الثمرة فبم تستحل مال أخيك؟ "، وتأييدا لما قررناه، فإن من أكرى أرض للزرع، أو بستانا للثمر، أو ماء ¬

(¬1) في صحيحه رقم (1554). (¬2) في السنن رقم (3470). (¬3) في السنن رقم (7/ 265). (¬4) في السنن رقم (2119). (¬5) في صحيحه رقم (2195). (¬6) في صحيحه رقم (1555). قلت: وأخرجه أحمد (3/ 115)، والنسائي (7/ 264). (¬7) في صحيحه رقم (1555). قلت: وأخرجه أحمد (3/ 115)، والنسائي (7/ 264).

للسقي، ثم ذهبت الجائحة بما هو المقصود (¬1) وهو الزرع أو الثمر، فهذا يقال له ¬

(¬1) قال ابن قدامه في " المغني " (6/ 177 - 178): والكلام في هذه المسألة: أن ما تهلكه الجائحة من ثمار من ضمان البائع، وبهذا قال أكثر أهل المدينة، منهم يحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك، وأبو عبيد، وجماعة من أهل الحديث. وبه قال الشافعي في التقدم. قال الشافعي في " الأم " (6/ 184): " وإذا اشترى الرجل ثمرة، فخلى بينه وبينها فأصابتها جائحة، فلا نحكم له على البائع أن يضع عنه من ثمنها شيئا ". قال الماوردي في " الحاوي " (6/ 246): وصورتها: في رجل باع ثمرة على رؤوس نخلها وسلمت إلى المشتري، فتلفت الجائحة قبل جدادها، فقد كان الشافعي في القديم: يذهب إلى أنها من ضمان بائعها. وأن هذا البيع باطل ورجح هذا القول في الجديد: وقال: تكون من ضمان المشتري فلا يبطل البيع بتلفها، وبه يقول أبو حنيفة والليث بن سعد. واستدل من جعل الجوائح مضمونة على البائع: 1 - حديث سفيان بن عيينة , عن حميد بن قيس، عن سليمان بن عتيق، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نهى عن بيع السنين وأمره بوضع الجوائح " - تقدم تخريجه وهو حديث صحيح. 2 - وحديث بن جريح عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ ". وقالوا: ولأن الثمر لا يتم قبضها إلا بجدها من نخلها بدليل أنها لو عطشت وأضر ذلك بها كان للمشتري الخيار في الفسخ بحدوث هذا العيب وما حدث من العيب بعد القبض لا يستحق به المشتري الخيار، وإذا دل ذلك على أنها غير مقبوضة، وجب أن تكون بالغة من مال بائعها، لأن ما لم يقبض مضمون على البائع دون المشتري. وقالوا: ولأن قبض الثمرة ملحق بها الدار المستأجرة، لأن العرف في الثمار أن تأخذ لقطة بعد لقطة، كما تستوفى منافع الدار مدة بعد مدة، فلما كان تلف الدار المستأجرة قبل مضي المدة مبطلا للإجارة وإن حصل التمكين، وجب أن يكون تلف الثمرة المبيعة قبل الجداد مبطلا للبيع وإن حصل التمكين. ودليل قول الشافعي في الجديد: به قال أبو حنيفة: أن الجوائح لا يضمنها البائع ولا يبطل بها البيع. وما رواه الشافعي عن مالك، عن حميد، عن أنس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نهى عن بيع الثمار حتى تزهي، قيل وما تزهي؟ قال: حتى تخمر ". أخرجه البخاري رقم (2197، 2168) ومسلم رقم (1555)، والشافعي في مسنده (2/ 145 - 151) وابن ماجه رقم (2217). وقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه ". تقدم تخريجه. فموضع الدلالة منه هو: أنه لو كانت الجائحة مضمونة على البائع لما استضر المشتري بالجائحة قبل بدو الصلاح، ولما كان لنهيه عنه حفظا لمال المشتري وجها، لأنه محفوظ إن تلف في الحالتين بالرجوع إلى البائع، فلما نهى في البيع عن الحالتين بالرجوع على البائع، فلما نهى عن البيع في الحال التي يخالف من الجائحة فيها، لئلا يؤخذ مال المشتري بغير حق، علم أن الجائحة لا تكون مضمونة على البائع، وأنها مضمونة فيما صح بيعه عن المشتري. وحديث عمرة بنت عبد الرحمن - مرسلا، ومستندا، عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا من الأنصار ابتاع من رجل ثمرة فأصيب فيها، فسأل البائع أن يحطه شيئا فحلف بالله أن لا يفعل فأتت أمه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته بذلك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " تألي فلانا أن لا يفعل خيرا ". أخرجه البخاري (2705) ومسلم رقم (1557) وأحمد (6/ 69) ومالك (2/ 621) وهو حديث صحيح. قيل: ولو كان واجبا لأجبره عليه، لأن التخلية يتعلق فيها جواز التصوف فتعلق بها بالضمان، كالنقل التحويل، ولأنه لا يضمنه إذا أتلفه آدمي، كذلك لا يضمنه بإتلاف غيره؟. انظر: " المغني " (6/ 177). وروى الشافعي عن يحيى بن حسان، عن الليث بن سعد، عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري: أن رجلا اشترى ثمرا فأصيبه فيها فكثر دينه فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تصدقوا عليه " فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك ". - أخرجه مسلم رقم (18/ 1556) وأبو داود رقم (3469) والترمذي رقم (655) وابن ماجه رقم (2356) والنسائي (7/ 312) وأحمد. وهو حديث صحيح. - فلو أن الجوائح مضمونة على المشتري لما أخرجه إلى الصدقة، وجعل لغرمائه ما وجدوه، ولكان يجعلها مضمونة على البائع ويضعها على المشتري. قال ابن قدامه في " المغني " (6/ 177): ولنا ما روى مسلم في صحيحه عن جابر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوضع الجوائح - تقدم وهو حديث صحيح. وعن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، لم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ " تقدم. وحديث: " من باع ثمرا، فأصابته جائحة فلا يأخذ من مال أخيه شيئا، على م يأخذ أحدكم مال أخيه المسلم ". هذا صريح في الحكم فلا يعدل عنه. قال الشافعي: لم يثبت عندي أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بوضع الجوائح ولو ثبت لم أعده، ولو كنت قائلا بوضعها لوضعتها في القليل والكثير. قلنا الحديث ثابت رواه الأئمة منهم: الإمام أحمد ويحيى بن معين وعلى بن حرب , وغيرهم عن ابن عيينة، عن حميد الأعرج عن سليمان بن عتيق الجابر ورواه مسلم في صحيحه وأبو داود في سنته وابن ماجه وغيرهم - وهو حديث صحيح -. ولا حجة لهم في حديثهم، فإن فعل الواجب خير فإذا لا تأتي أن لا يفعل الواجب، فقد تألي أن يفعل خيرا، فأما الأخيار فلا يفعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمجرد قول المدعي من غير إقرار من البائع، ولا حضور. ثم قال: ولأن التخلية ليست بقبض تام، بدليل ما لو تلفت بعطش عند بعضهم، ولا يلزم من إباحة التصرف تمام القبض. بدليل المنافع في الإجازة يباح التصرف فيها، ولو تلفت كانت من ضمان المؤجر، كذلك الثمرة، فإنها في شجرها، كالمنافع قبل استيفائها، توجد حالا فحالا، وقياسهم ببطل التخلية في الإجازة. انظر " الحاوي الكبير " (6/ 246 - 248)، " الأم " (6/ 182 - 185). * وقال مالك رضي الله عنه: إن كان تلفها بجناية آدمي فهي من ضمان المشتري وإن كانت بجائحة من السماء، فإن كانت قدر الثلث فصاعدا فهي من ضمان البائع، وإن كانت دون الثلث فهي من ضمان المشتري. قال القرطبي في " المفهم " (4/ 425): أما تفريق المالك بين القليل والكثير فوجهه أن القليل معلوم الوقوع، بحكم العادة، إذ لا بد من سقوط شيء منه، وعفنه، وتتريبه، فكأن المشتري دخل عليه، ورضي به، وليس كذلك الكثير فإنه لم يدخل عله، فلما افترق الحال في العادة فينبغي أن يفترق في الحكم. وإذا لم يكن بد من فرق بينهما - فالقليل ما دون الثلث، والكثير: الثلث فما زاد، لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الثلث، والثلث كثير " أو كبير - أخرجه البخاري رقم (1295) -ثم هل يعتبر ثلث مكيله الثمرة، أو ثلث الثمن؟ قولان: الأول لابن القاسم والثاني لأشهب. انظر: " الحاوي " (6/ 249). وقال ابن قدامه في: " المغني " (6/ 189 - 180): أن ظاهر المذهب، أنه لا فرق بين قليل الحيلة وكثيرها إلا أن ما جرت العادة بتلف مثله كالشيء اليسير الذي لا ينضبط، فلا يلتفت إليه. قال أحمد: إني لا أقول في عشر ثمرات، ولا عشرين ثمرة، ولا أدري ما الثلث، ولكن إذا كانت جائحة تعرف. الثلث، أو الربع، أو الخمس، توضع. وفى رواية أخرى، أن ما كان دون الثلث فهو ضمان المشتري، وهو مذهب مالك والشافعي في القديم، لأنه لا بد أن يأكل الطير منها. وتنشر الريح، ويسقط منها، فلم يكن بد من ضابط واحد فاصل بين ذلك وبين الجائحة، والثلث قد رأينا الشرع قد اعتبره من مواضع منها: الوصية، وعطايا المريض، وتساوي جراح المرأة جراح الرجل إلى الثلث، قال الأثرم: قال أحمد: إنهم يستعملون الثلث في سبع عشرة مسألة، ولأن الثلث في حد الكثرة، وما دونه في حد القلة، بدليل قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تقدم - فيدل هذا على أنه آخر حد الكثرة، فلهذا قدر به. ووجه الأول، عموم الأحاديث فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بوضع الجوائح وما دون الثلث داخل فيه فيجيب وضعه، ولأن هذه الثمرة لم يتم قبضها، فكان ما تلف منها من مال البائع، وإن كان قليلا، كالتي على وجه الأرض وما أكله الطير أو سقط لا يؤثر في العادة، ولا يسمي جائحة، فلا يدخل في الخبر ولا يمكن التحرز منه، فهو معلوم الوجود بحكم العادة، وضع من الثمن بمقدار الذاهب. فإن تلف الجميع، بطل العقد، ويرجع المشتري بجميع الثمن. وأما الرواية الأخرى، فإنه يعتبر ثلث المبلغ، وقيل: ثلث القيمة فإن تلف الجميع، أو أكثر من الثلث، رجع بقيمة التالف كله من الثمن وإذا اختلفا في الجائحة أو قد ما أتلف، فالقول قول البائع، لأن الأصل السلامة، ولأنه غارم، والقول في الأصول وقول الغارم.

بما قاله الصادق المصدوق - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إذا منع الله الثمرة فبم تستحل مال أخيك؟ ". ولا يخفى ما في لفظ الثمرة من العموم، وكذلك ما في لفظ مال أخيك من العموم. ولا ينافي كون السبب واردا في بيع الثمرة، فإن الاعتبار

بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب (¬1)، هو مذهب الجماهير، بل مذهب الكل إلا من لا يعتد به، فتقرر لك بهذا، عموم الجوائح، وعموم الثمرة، وعموم مال الأخ، وذلك يقتضي حط كل جائحة، إذا ذهبت بالزرع أو الثمرة، وحط البعض، إذا ذهبت بالبعض، وأنه لا فرق بين كون المبيع زرعا، أو ثمرا، أو كونه منفعة يراد بها الزرع، أو الثمر، كتأجير الأرض، أو الماء للزرع، أو الثمر، بل حط الجائحة في كرى الأرض والماء للزرع، أو الثمر إذا أصابت تلك الجائحة ما هو المقصود من الزرع أو الثمر ثابت بطريق الأولى. وبيان ذلك: أن الذي باع الزرع، أو الثمر قد غرم على ذلك غرامات: (منها): حرث الأرض وبذرها، أو العمل في الشجر والتعب في تحصيل ثمرها، حتى صار ذلك زرعا، أو ثمرا بعد أن غرم عليه صاحبه غرامات متعددة في الأرض أولا، ثم في الزرع والثمر ثانيا. فإذا ثبت وضح الجائحة فيما كان هكذا، فكيف لا يثبت وضع الجائحة فيما هو مجرد تأجير للأرض، أو الماء، من دون أن يغرم علي الأرض غرامة قط!، ولا غرم على الماء غرامة قط، ولا بذر، ولا فعل ما يوجب تنمية الزرع، ولا الثمر مع العلم بأنه ليس المقصود بذلك، إلا مجرد الزرع الذي قد ذهبت به الجائحة، أو الثمر الذي قد أصيب بها أهل الأصول فحوى .................................. ¬

(¬1) العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ويريدون بهذه العبارة، أن العام يبقى على عمومه وإن كان وروده بسبب خاص كسؤال أو واقعة معينة. فالعبرة بالنصوص وما اشتملت عليه من أحكام، وليست العبرة بالأسباب التي دعت إلى مجيء هذه النصوص. فإذا النص بصيغة عامة لزم العمل بعمومه، دون الالتفات إلى السبب الذي جاء النص العام من أجله سؤالا جاء هذا السبب أو واقعة حدثت لأن مجيء النص بصيغة العموم يعني أن الشارع أراد أن يكون حكمه عاما لا خاصا بسببه، وهذا مذهب الحنابلة والحنفية وغيرهم. " الكوكب المنير " (3/ 177 - 178).

الخطاب (¬1)، وهو معمول به إجماعا، ولم يخالف فيه من خالف في العمل ببعض المفاهيم، ولا خالف في العمل ببعض أنواع القياس. وبيان آخر وهو أنه لا شك، ولا ريب أن وضع الجائحة الواقعة على نفس الزرع الذي باعه البائع، وقد صار زرعا، وعلى نفس الثمر الذي باعه البائع، وقد صار ثمرا، فيه من ذهاب الفائدة (¬2) العائدة إلى البائع زيادة على ما ذهب من الفائدة: العائدة للمؤجر لنفس الأرض، أو الشجر، ولا زرع هناك، ولا ثمرة، فإن قيمة الزرع أو الثمر الحاصل أكثر من مجرد قيمة الأرض، أو الماء للثمرة التي لا تحصل للمستأجر، إلا بالحرث للأرض والبذر، والتعب في تحصيل الزرع والثمر. هذا معلوم لكل عاقل، ومعلوم لكل عاقل أنه لا يقصد باستئجار الأرض، أو الماء، إلا ما يترتب على ذلك من فائدة الزرع، أو الثمر، وكان دخول حط الجوايح في الأشياء المؤجرة لذلك أولى من دخول حط ما قد صار زرعا، أو ثمرا. وأصابته الجائحة، ومن لا يفهم هذا، فهو لا يفهم مدلولات الكلام كما ينبغي. وعلى كل حال فالاستدلال بعموم الجوائح (¬3)، وبعموم: " بم تستحل مال أخيك " لا يحتاج معهما إلى ¬

(¬1) تقدم توضيحه. (¬2) قال ابن قدامه في " المغني " (6/ 180): إذا استأجر أرضا، فزرعها فتلف الزرع، فلا شيء على المؤجر، نص عليه أحمد. ولا نعلم فيه خلافا، لأن المعقود عليه منافع الأرض، ولم تتلف، وإنما تلف مال المستأجر فيها، فسار كدار استأجرها ليقصر فيها ثيابه، فتلفت الثياب فيها. قال الماوردي في " الحاوي " (6/ 250): وأما الجواب عن الاستدلال بالدار المؤجرة، فلا يصح الجمع بينهما، لأن ما يحدث من منافع غير وجود في الحال، ولا يقدر المستأجر على قبضه، فبطلت الإجارة بتلف الدار قبل المدة وليست الثمرة كذلك، لأنها موجودة يمكن للمشتري أن يتصرف فيها ويحدث في الحال جميعها، فلا يبطل البيع بتلفها بعد التمكين منها والله أعلم. (¬3) لا يخلوا حال تلفها بعد العقد من ثلاثة أقسام: أحدها: أن تتلف قبل التسليم. أ - إما أن يكون بجائحة من السماء، أو بجناية آدمي، أو بجناية البائع فإن تلفت بجائحة من السماء، كانت من ضمان البائع، وبطل البيع، لا يختلف، لأن تلف المبيع قبل القبض مبطل للبيع. ب- وإن تلفت بجناية آدمي غير البائع، ففي بطلان البيع قولان: 1 - قد يبطل كما لو تلفت بجائحة سماء. 2 - لا يبطل البيع، لأن بدلها مستحق على الجاني، لكن يكون المشتري بالخيار بحدوث الجناية بين الفسخ والرجوع بالثمن، وبين إمضاء البيع بالثمن مطالبة الجاني بمثل قيمتها إن لم يكن لها مثل. ج -وإن تلفت بجناية البائع، ففيه وجهان حكاهما ابن سريج: 1 - أن جناية البائع كجائحة من السماء، فعلى هذا يكون البيع باطلا قولا واحدا. 2 - أنها كجناية الأجنبي، فعلى هذا في بطلان البيع بها قولان. ثانيهما: أن يكون تلفها بعد التسليم وقبل الجداد، فهذا ضربين: 1 - أن يكون المشتري قد تمكن من جدادها بعد التسليم فأخره حتى تلفت فيتكون من ضمان المشتري، ولا يبطل به الأحوال كلها سواء كان تلفها بجائحة أو بجناية، لأن تأخير الجداد مع الإمكان تفريط منه. 2 - أن لا يتمكن المشتري من جدادها حتى تلفت، فتنظر في سبب تلفها فإنه لا يخلوا من الأحوال الثلاثة: إما بجائحة سماء، أو جناية أجنبي أو جناية البائع. فإن كان تلفها بجائحة سماء، ففي بطلان البيع قولان مضيا. وإن كان تلفها بجناية البائع، فإن قيل: إن البيع لا يبطل بجائحة السماء، فيكون أن يبطل بجناية أجنبي. وإن قيل: إنه يبطل بجائحة السماء ففي بطلانه بجناية الآدمي قولان: وإن كان تلفها بجناية البائع: فأحد الوجهين: أنها تكون كجائحة السماء فيكون في بطلان البيع قولان. والوجه الثاني: أنها كجناية الأجنبي على ما مضي، فهذا الحكم في تلفها بعد التسليم وقبل الجداد. ثالثهما: هو أن يكون تلفها بعد الجداد، فالبيع ماض لا يبطل بتلفها على الأحوال كلها، لاستقرار القبض، وانقضاء العقد وتكون مضمونه على الآدمي بالمثل أو بالقيمة إن يكن لها مثل. انظر: " المغني " (6/ 179 - 180)، " الأم " (6/ 191 - 192).

طلب دليل آخر، فإنه قد صدق الدليل على المدلول صدقا لغويا وشرعيا. ولا يخالف في هذا الصدق إلا من لا يفهم الحقائق. ولا يدري بكيفية الاستدلال، ولا كيف يستدل

لأن ذلك، لا يكون، إلا لمجرد الجمود على الأسباب، وهو لا يقع من عارف، أو لمجرد الجمود بما ليس مخصص، وهو التنصيص على بعض أفراد العام. فإن قال القائل: بالفرق بين الأعيان والمنافع فهذا مع كونه كلام من لا يفهم الحقائق، هو أيضًا غلط فاحش على مصلحة اللغة، ومصطلح الشرع، فإنه لا يراد بالأعيان، إلا ما يترتب عليها من المنافع كما أنه لا يراد بالمنافع إلا ما يترتب عليها منها وبمجرد التسمية، لا سيما إذا كانت حادثة، بين قوم تواضعوا عليها، لا يحل لمسلم، أن يقول: إنه ينبني عليها تحليل، أو تحريم، وإلا لزم أنه إذا تواضع قوم على تسمية شيء من الحرام باسم الحلال، أو على تسمية شيء من الحلال باسم الحرام، أن يكون ذلك كما تواضعوا عليه، واللازم باطل بالضرورة الدينية، فالملزوم مثله، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والله ولي التوفيق. كتبه مؤلفه محمد الشوكاني. غفر الله له.

هذا النظم لسيدي العلامة على بن يحيى أبو طالب (¬1) لما اطلع على هذا البحث: تدفق من طود العلوم معين ... لينبت في أرض القلوب يقين فأثمر علما لا يخاف اجتياحه ... إذا كان خوف في الثمار يكون وأومض في ليل العمى برق فطنة ... فلاحت بأشباه الأمور عيون وكانت مجاريه إلي صحائفا ... يسير بها در إلى مشين فإن عرضت للعلم بالوهم آفة ... فليس على تلك الصحائف هون فلله بحر لا تغيضه الدلاء ... وبدر لمستور المكان يبين ¬

(¬1) العلامة على بن يحيى بن الحسن بن القاسم بن أبي طالب أحمد ابن الإمام القاسم بن محمد الحسني الصنعاني، مولده سنة 1159 هـ. قرأ على جماعة من المتقدمين كالقاضي العلامة أحمد بن صالح بن أبي الرجال والقاضي عبد الله بن محيي الدين العراسي، والسيد أحمد بن يوسف الحديث السيد يحيى بن الحسن بن إسحاق والفقيه لطف بن أحمد الورد وأخذ عن القاضي محمد بن علي الشوكاني في الصحيحين وسنن أبي داود والكشاف وفتح القدير وقد ترجم له الشوكاني. مات في صفر سنة 1236 هـ. انظر: " البدر الطالع " رقم (351)، "نيل الوطر " (2/ 165 - 166).

بحث في الربا والنسيئة

بحث في الربا والنسيئة تأليف محمد بن على الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

بسم الله الرحمن الرحيم - كثر الله فوائدكم، ومد الطلاب على موائدكم - قلتم في سؤالكم وبحثكم النفيس ما لفظه: الشارع -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أناط تحريم التفاضل والنسا باتفاق البدلين جنسا وتقديرا، وأناط تحريم النسا، باختلافهما جنسا، ولم يذكر اختلافهما في التقدير، فبقى اتفاقهما فيه شرطا في تحريم النسا، ويشهد له أورده المولى في السيل (¬1): " أمرنا أن نبيع البر بالشعير، والشعير بالبر، يدا بيد كيف شئنا " (¬2) وعزاه إلى أبى داود، ¬

(¬1) أي " السيل الجرار " (2/ 601). (¬2) وله ألفاظ منها: 1 - أخرج مسلم رقم (80/ 1587) وأحمد (5/ 314، 320) والدرامي (2/ 258 - 259) وأبو داود رقم (3349) والترمذي رقم (1240) وقال: حديث حسن صحيح. والنسائي (7/ 274 - 275) وابن ماجه (2/ 757رقم 2254). من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد ". 2 - وأخرج أحمد (5/ 320) ومسلم رقم (81/ 1587). من حديث عبادة بن الصامت السابق وزاده في آخره: " فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد". 3 - وأخرج أبو داود رقم (3349) والنسائي (7/ 276) عن عبادة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " الذهب بالذهب تبرها وعينها، والفضة بالفضة تبرها وعينها، والبر بالبر مدى بمدى، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، ولا بأس ببيع الذهب بالفضة، والفضة أكثرها يدا بيد، وأما نسيئة فلا ولا بأس بيع البر بالشعير، والشعير أكثرها يدا بيد، أما نسيئة فلا ". 4 - وأخرج الترمذي رقم (1240): وفيه: " فمن زاد أو ازداد فقد أربى، بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يدا بيد ". 5 - وأخرج ابن ماجه رقم (2254): " وأمرنا - يعني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نبيع البر بالشعير والشعير بالبر يدا بيد كيف شئنا ". 6 - وأخرج النسائي (7/ 275): نحوه إلا أنه قال: " وأمرنا أن بيع الذهب بالفضة، والفضة بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر يدا بيد كيف شئنا " والحديث صحيح.

والنسائي، وابن ماجه. فمثل لتحريم النسا (¬1) بمختلفي الجنس متفقي التقدير الذي هو الكيل، فخرجت صورة ¬

(¬1) الربا على ضربين: ربا الفضل، وربا النسيئة. وأجمع أهل العلم على تحريمهما. " المغني " (6/ 52)." المحلي " (8/ 468). واعلم أن الأصل في تحريم الربا الكتاب والسنة ثم الإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] [آلِ عِمْرَانَ: 130]. وقال سبحانه وتعالى: [الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ] [الْبَقَرَةِ: 275]. ثم قال سبحانه وتعالى [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا] [الْبَقَرَةِ: 275]. وقال سبحانه وتعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] [الْبَقَرَةِ: 278] ثم توعد على ذلك لتوكيد الزجر فقال سبحانه وتعالى: [فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ] [الْبَقَرَةِ: 279]. أما السنة: أخرج مسلم في صحيحه رقم (1218) من حديث جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ألا وإن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، فأول ربا أضعه عمي العباس، ألا وإن كل دم من دم الجاهلية موضوع وأول دم أضعه دم الحارث بن عبد المطلب ". أخرج مسلم في صحيحه رقم (106/ 1598) وأحمد (3/ 304) والبيهقي (5/ 275) عن جابر رضي الله عنه قال: " لعن رسول الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه " وهو حديث صحيح. وأخرج البخاري في صحيحه رقم (2086) من حديث أبي جحيفة. وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (105/ 1597) وأبو داود رقم (3333) والترمذي رقم (1206) وابن ماجه رقم (2277). وهو حديث صحيح. الإجماع: قد أجمع المسلمون على تحريم الربا، وإن اختلفوا في فروعه وكيفية تحريمه حتى قيل: إن الله تعالى ما أحل الزنا ولا الربا في شريعة قط وهو معنى قوله تعالى: [وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ] [النِّسَاءِ: 161]. انظر: " المجموع " (9/ 391) و" الحاوي الكبير " (6/ 82 - 84).

اختلافهما جنسا وتقديرا، كالشعير المكيل بالدرهم الموزونة من تحريم النسا. هذا ملخص كلام الأمير (¬1) في شرحه للضوء (¬2)، ورسالته: القول المجتبى (¬3). قال: ولم ير ومن تنبه له قبله، والمولى - أبقاه الله - أدخلها في محرم النسا، وأن الشعير مثلا بالدراهم لا يدفعه من التقابض، وخصص منه ما رهن فيه المشتري رهنا كرهنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - درعه عند اليهودي في حديث عائشة (¬4) - رضي الله عنها -. فانظروا في ذلك، وأفيدوا - جزيتم خيرا - فالمسألة مما تعم به البلوى انتهى. ¬

(¬1) الأمير: محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني. (¬2) أي " منحة الغفار في ضوء النهار " (3/ 1217). (¬3) سيأتي تحقيقها ضمن مجموع " عون القدير من فتاوي ورسائل الأمير " رقم (107). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2513) ومسلم رقم (124/ 1603) والنسائي رقم (4609) وابن ماجه رقم (2436): عن عائشة رضي الله عنها قالت: " اشتري رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يهودي طعاما بنسيئة وأعطاه درعا له رهنا ". قال الشوكاني في " السيل الجرار " (2/ 602): ولا معارضة بين هذا وبين حديث عبادة لإمكان الجمع بأن هذا مخصص لاشتراط التقابض بمثل هذه الصورة إذا سلم المشتري رهنا في الثمن، وقد استدل بعضهم بالإجماع على جواز ذلك من غير تقابض إذا كان الثمن نقدا فإن صح هذا الإجماع كان حجة على من يرى حجيته.

أقول: - وبالله الثقة، وعليه التوكل، ومنه الإعانة في جميع الأمور -: إن قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " فإن اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم "الإشارة فيه بقوله هذه الأصناف إلى الأصناف المذكورة في أول الحديث (¬1) وهي: الذهب، والبر، والشعير، والتمر، والملح. فالمعنى فإذا اختلفت (¬2) هذه الأصناف في ذات بينها بأن وجد أحدها مقابلا لصنف يخالفه فيصدق على الذهب في مقابلة الفضة وفى مقابلة البر، وفى مقابلة الشعير، وفى مقابلة التمر، وفى مقابلة الملح، وهكذا يصدق على الفضة في مقابلة الذهب، والبر والتمر والملح، وهكذا يصدق على كل واحد من البر، والشعير، والتمر، والملح إذا وقع في مقابلة ما يخالفه من هذه الأجناس أنه قد وقع الاختلاف [الذي] (¬3) أشار إليه في ¬

(¬1) فهذه الأعيان المنصوص عليها يثبت الربا فيها بالنص والإجماع. واختلف أهل العلم فيما سواها، فحكي عن طاوس وقتادة أنهما قصرا الربا عليهما، وقالا: لا يجري في غيرها. وبه قال داود ونفاه القياس. وقالوا ما عداها على أصل الإباحة لقوله تعالى: [وأحل الله البيع] [البقرة: 275] واتفق القائلون بالقياس على ثبوت الربا فيها بعلة، وأنه يثبت في كل ما وجدت عليه علتها، لأن القياس دليل شرعي، فيجب استخراج علة هذا الحكم، وأثباته في كل وجدت علته فيه. وقوله تعالى: {وحرم الربا} [البقرة: 275] يقتضي تحريم كل زيادة، إذ الربا في اللغة الزيادة إلا ما أجمعنا على تخصيصه. انظر: " المغني " (6/ 54)، " الحاوي " (6/ 92 - 93)، " الأم " (6/ 52 - 53). (¬2) اتفق أهل العلم على أن ربا الفضل لا يجري إلا في الجنس الواحد إلا سعيد بن جبير، فإنه قال: كل شيئين يتقارب الانتفاع بهما لا يجوز بيع أحدهما متفاضلا. كالحنطة والشعير، والتمر بالزبيب والذرة بالدخن، لأنهما يتقارب نفعهما، فجريا مجرى نوعي جنس واحد وهذا يخالف قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم " فلا يعول عليه - أي قول سعيد بن جبير -. انظر: "المغني " (6/ 54). " المجموع " للنووي (9/ 401). (¬3) في المخطوط (التي) والصواب ما أثبتناه.

الحديث (¬1)، فهذا معلوم لكل من يعرف لغة العرب، ويعرف معنى الإشارة، ويعرف ما في قوله: هذه الأصناف من العموم الشمولي المحيط بكل واحد منها، بحيث لا يخرج عنها واحد إلا بمخرج يقتضيه لغة، أو شرعا. وإذا كان الأمر هكذا فواجب علينا العمل بما أفادته هذه العبارة النبوية، والوقوف عند هذه الإفادة، وحرام علينا مخالفتها بمجرد الرأي، ومحض الشبه التي لم يسوغ الشارع العمل بها، ولا جوز الالتفات إليها، على تقدير أنها لم تقع معارضة للدليل الصحيح، فكيف إذا وقعت معارضة له مخالفة لمدلوله، منافية لمضمونه! ولم يرد ما يصلح لتخصيص ما أفادته هذه العبارة النبوية، إلا ما ثبت في الصحيح (¬2) وغيرهما من حديث عائشة قالت: " قالت اشترى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ومن يهودي طعاما بنسيئة، وأعطاه درعا له رهنا " فأن هذا الحديث يفيد أن الرهن يقوم مقام التقابض في المختلفين جنسا، وأما ما قيل من أنه لا يعقل التفاضل والاستواء إلا مع الاتفاق في التقدير (¬3) ¬

(¬1) تقدم من حديث " عبادة بن الصامت " بألفاظه. (¬2) تقم تخريجه. (¬3) لا خلاف في جواز التفاضل في الجنسين تعلمه إلا عن سعيد بن جبير - تقدم رده. قال ابن قدامة في " المغني " (6/ 62): وفى لفظ: " إذا اختلفت هذه الأشياء فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد " ولأنهما جنسان، فجاز التفاضل فيهما، كما لو تباعدت منافعها، ولا خلاف في إباحة التفاضل في الذهب والفضة من تقارب منافعها، فأما النسا، فكل جنسين يجري فيهما الربا بعلة واحدة، كالمكيل بالمكيل، والموزون بالموزون والمطعوم بالمطعوم، عند من يعلل به فإنه يحرم بيع أحدهما بالآخر نساء بغير خلاف نعلمه وذلك لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدا بيد ". وفي لفظ: " لا بأس ببيع الذهب بالفضة، والفضة أكثرهما يدا بيد وأما نسيئة فلا، ولا بأس ببيع البر بالشعير، والشعير أكثرهما يدا بيد، وأما النسيئة فلا ". إلا أن يكون أحد العوضين ثمنا، والآخر مثمنا، فإنه يجوز النساء بينهما بغير خلاف، لأن الشرع أرخص في السلم والأصل في رأس المال الدراهم والدنانير، فلو حرم النساء ههنا لانسد باب السلم في الموزونات في الغالب. فأما إن اختلفت علتهما كالمكيل بالموزون، مثل بيع اللحم بالبر ففيهما روايتان: إحداهما: يحرم النساء فيهما وهو الذي ذكره الخرقي ههنا لأنهما مالان من أموال الربا، فحرم النسا فيهما، كالمكيل بالمكيل. والثانية: يجوز النساء فيهما وهو قول النخعي، لأنهما لم يجتمعا في أحد وصفي علة ربا الفضل، فجاز النساء فيهما، كالثياب بالحيوان.

كالذهب بالفضة، فإنهم موزونان، والبر بالشعير، فإنهما مكيلان ونحو ذلك. ولا يعقل التفاضل مع الاختلاف جنسا وتقديرا، كالذهب بالبر، والشعير والفضة بهما، ونحو ذلك فيجاب عن ذلك بأن غاية ما فيه دعوى تخصيص الكلام النبوي بالعقل، وهذا إنما يتم إذا كان العمل بما يقتضيه الدليل ممتنعا عقلا كما هو مقرر في مواطنه، وليس ما نحن فيه من هذا القبيل، فإن التفاضل معقول لو كانت النقود مثلا تكال، أو الطعام يوزن، ولو في بعض الأزمان. وعلى بعض الأحوال، وفى بعض الأمكنة. وقد كان هذا. فإن كتب التاريخ مصرحة بأن النقود في بعض الأمكنة تكال، والطعام في كثير من البلدان يوزن، وأيضا قد يبلغ ثمن الطعام إلى مقدار من الدراهم كثير عند شدة الغلاء، بحيث يعقل أن يقال: الطعام أكثر من الدراهم، فتقرر بهذا بطلان ما ادعوه من التخصيص بالعقل، لأنه إذا أمكن القدح ولو بوجبة بعيد في دعوى التخصيص بالعقل لم تتم دعوى من ادعى التخصيص بالعقل كما هو مقرر في مواطنه. وأما ما يقال من أن في ذلك حرجا ومشقة فيقال لهذا القائل: ما وجه تخصيصك للحرج والمشقة بالمختلفين في الجنس والتقدير دون المختلفين في الجنس المتفقين في التقدير؟ فإن الكل مستو في ذلك، مثلا من أراد أن يشتري برا بشعير متفاضلا واجب عليه مع التفاضل التقابض كما يجب على من أن أراد أن يشتري برا بدراهم. ثم هذه المشقة المدعاة، والحرج الموهوم مندفع بأن يأخذ المشتري شيئا من المتاع فيرهنه عند البائع حتى يأتي بما عليه، فهل في هذا حرج يقبله ذهن من يفهم الحقائق، ويتعقل الحجج، ويعرف مواقع الكلام! نعم قد ادعى مدع أنه وقع .................

الإجماع على جواز بيع مختلفي الجنس والتقدير أحدهما بالآخر من غير اشتراط التقابض (¬1)، فإن صح ما ادعاه هذا المدعي كان المخصص هو الإجماع عند من يقول بحجيته، والحق أنه لم يقم دليل لا من عقل ولا نقل يدل على حجيته، هذا على فرض إمكان نقله، وإمكان وقوعه وإمكان العلم به، والكل ممنوع. وقد أوضحت الكلام على حجية الإجماع في كتابي في الأصول الذي سميته: إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول (¬2)، فإن شئت أن يتضح لك المقام بما لا يحتاج بعده إلى النظر في كلام فطالعه، ثم هذا المدعي للإجماع هو (بلدينا) (¬3) العلامة المغربي (¬4) -رحمه الله - فإن كان قد قلد في ¬

(¬1) قال أبو حنيفة: لا يشترط التقابض فيهما كغير أموال الربا، وكبيع ذلك بأحد النقدين. انظر تفصيل ذلك في " البناية في شرح الهداية " (7/ 461 - 465). قال ابن قدامة (6/ 63): ولنا قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد ". تقدم تخريجه وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء " متفق عليه. والمراد به القبض، بدليل أن المراد به في ذلك في الذهب والفضة ولهذا فسره عمر به ولأنهما مالان من أموال الربا علتهما واحدة فحرم التفرق فيهما قبل القبض كالذهب بالفضة، فأما إن اختلفت علتهما ن كالمكيل بالموزون عند من يعلل بهما. فقال أبو الخطاب: يجوز التفرق فيهما قبل القبض رواية واحدة، لأن علتهما مختلفة، فجاز التفرق قبل القبض، كالثمن بالثمن، وبهذا قال الشافعي إلا أنه لا يتصور عنده ذلك إلا في بيع الأثمان بغيرها. انظر: " الأم " (6/ 51 - 54). " بداية المجتهد " لابن رشد (3/ 259 - 260) بتحقيقنا. (¬2) (ص 280 - 350) بتحقيقنا. (¬3) في المخطوط [بلدينا] والصواب ما أثبتناه. (¬4) هو الحسن بن إسماعيل بن الحسين بن نسبة إلى مغارب صنعاء ثم الصنعاني حفيد الشارح بلوغ المرام. ولد بعد سنة 1140هـ. انظر: "البدر الطالع " رقم (126)، " نيل الوطر" (1/ 319).

ذلك غيره فلا نرى من هو؟ وإن كان قال: ذلك من جهة نفسه فيبعد عليه أن يستقرئ ما يقوله أهل البلدة، وهي مدينة صنعاء في هذه المسألة لكثرة من يعتقد في الإجماع من أهلها في عصره، وغالبهم مترد بأردية الخمول، مترمل في أثواب الاعتزال كما هو عادتهم وديدنهم وهجيراهم، فكيف يستقرئ ما عند جميع علماء هذه الجزيرة اليمنية وهي بالنسبة إلى جميع البلاد الإسلامية كغرفة من بحر متلاطم الأمواج، نعم قد وقع الاختلاف في هذه الأجناس إذا اختلفت، سواء اختلف التقدير، أو اتفق، فالجمهور اشترطوا التقابض عملا بالدليل الصحيح المصرح بأنها إذا اختلفت باعوا كيف شاؤوا إذا كان يدا بيد (¬1). وقال أبو حنيفة (¬2) وأصحابه وابن علية أنه لا يشترط التقابض في ذلك. والحديث يرد عليهم، ويدفع قولهم. وأما الاستدلال بما عند النسائي، وابن ماجه، وأبي داود من حديث عبادة بن الصامت، وفيه: " وأمرنا أن نبيع البر بالشعير، والشعير بالبر، يدا بيد كيف شئنا " (¬3). فيجاب عنه بأن تخصيص النوعين بذلك ليس فيه ما يخالف ما في الأحاديث الواردة في كل الأصناف المختلف، فقد صرح فيه باشتراط التقابض بقوله: يدا بيد، وذلك هو المطلوب، ولو كان في ذكر هذين النوعين، وإهمال بقية الأنواع دليل ¬

(¬1) انظر: " الأم " (6/ 51 - 52، 65). (¬2) " البناية في شرح الهداية " (7/ 471 - 472) يعتبر فيه التعيين ولا يعتبر فيه التقابض خلافا للشافعي في بيع الطعام بالطعام له قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث المعروف يدا بيد ولأنه إذا لم يقبض في المجلس يتعاقب بالقبض، وللنقد مزيد فتحقق شبهة الربا، ولنا أنه مبيع متعين فلا يشترط فيه القبض كالثوب وهذا لأن الفائدة المطلوبة إنما هو التمكن من التصرف ويترتب ذلك على التعيين بخلاف الصرف لأن القبض فيه يتعين به ومعني قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يدا بيد عينا بعين ". وتقدم قول الجمهور اشتراطهم التقابض عملا بالدليل الصحيح. انظر: " المغني " (6/ 63 - 64) (¬3) تقدم تخريجه.

يدل على جواز ترك القابض في بقيتها لخرج بيع الذهب بالفضة، والفضة بالذهب، والتمر بالشعير، والبر ونحو ذلك، وهو خلاف مقصود المستدل، فإن هذه الأشياء من مختلف الجنس متفق التقدير. ومعلوم أن الاقتصار على بعض ألفاظ الحديث في بعض الروايات مع اشتماله على الجميع في الروايات الآخرة لا يصلح للاستدلال به، فكثير من الأحاديث تذكر بكمالها في رواية، ويقتصر على بعضها في بعض الحالات، كما يفعله البخاري في مكرراته، وكما يفعله غيره من علماء الرواية المتصدرين لجمع السنة. والحاصل: أن أسعد الناس بالحق، وأحسنهم موافقة له، وأخذ به، وعملا بمضمونه من وقف (¬1) على قاله الصادق المصدوق - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من قوله: " فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد " وما ورد بمعناه في الأحاديث الصحيحة , ولم يتزحزح عن هذه الحجة بلا حجة، ولا تزلزل قدمه عن هذا البرهان بلا برهان. وفي هذه المقدار كفاية لمن له هداية، كتبه المجيب محمد بن على الشوكاني - غفر الله له -. ¬

(¬1) وهو الرأي الراجح قول الشوكاني رحمه الله اعتمادا وأخذا بدلالة الأحاديث الصحيحة. انظر تفصيل ذلك مطولا في " الحاوي " (67/ 122 - 136). " المغني " (6 - 80). " الأم " (6 - 55).

تنبيه ذوي الحجا عن حكم بيع الرجا

تنبيه ذوي الحجا عن حكم بيع الرجا تأليف محمد بن على الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الهادي إلى أوضح السبل والطرائق، الدال على أبين المسالك الحق ببعثه نبيه الصادق، الجاعل الرجا إلى رحمته ومعروفه أحسن قائد إلى رضاه وأشرف سائق، والصلاة والسلام على المبعوث بالحنيفية السمحة إلى كافة الخلائق، الرابح من وثق بالالتزام بهديه أطيب المكاسب والعلائق، وعلى آله الخيار من الأمة السالكين كل منهج صحيح لا فساد فيه جادته ولا ظلمة، ورضي الله عن حبه الأماثل الفارقين بمواضي حدادهم بين الحق والباطل. وبعد: فإن الباعث على تحرير هذه السطور، والجالب إلى إيراد المواد في هذا المزبور، واختلاف أنظار العلماء الأعلام في مسألة البيع مع الالتزام، فطالما خاض في قعرها كل محقق ماهر، وتهافت إلى الوقوع في زاجرها كل مقلد قاصر، حتى صارت في مدينة صبيا (¬1) وبواديها، ومدينة أبي عريش (¬2) وهجرة .......................................................... ¬

(¬1) صبيا: بلدة عامرة في المخلاف السليماني، ورد ذكرها في (صفة جزيرة العرب) عند ذكر مدن اليمن التهامية. فقال الهمداني: وفى بلد حكم قرى كثيرة يقال لها المخاوف وصبيا، ثم بيش ". وذكرها ياقوت الحموي في " معجم البلدان " بقوله: " صبيا من قرى عثر من ناحية اليمن ". تقع في الشمال من جازان بنحو 65 كم، كما يقع في الشمال الشرقي منها جبل عكوة القريب من بلدة الزائب. بلدة الشاعر المؤرخ عمارة بن على اليمني الحكمي المذحجي. انظر: " هجر العلم ومعاقله: (3/ 1154 رقم 251). (¬2) بلدة عامرة مشهورة في المخلاف السليماني في الشرق من رفأ جيزان وتبعد عنه بنحو 35 كم تقريبا. ورد لها ذكر في " إنباء الزمن " في أخبار سنة 599 هـ في النص التالي (ووصل إليه أي الإمام عبد الله بن حمزة - هذه الأيام صاحب صبيا وأبي عريش الأمير المؤيد السليماني في تسعين فارسا ... ". وقد ذكر الحافظ ابن حجر في كتابه " إنباء الغمر بأنباء العمر " أبو غريش وضبطه بالتصغير والتشديد والشهور أنه مكبر ومخفف. انظر: هجر العلم ومعاقله (3/ 1423 - 1424).

ضمد (¬1) من أعظم ما تعم به البلوى، ومن أقوى سبب لاستهلاك أموال أهل الأسباب، الناشئ عن الحيل من القاصرين في الفتوى، وكيفية المسألة المذكورة أنه يأتي البائع الأزمان ودون الثمن في النادر، إذا كانت تلك الجهة خصبة، أو نحو ذلك، فيبيع منه الأرض المذكورة بالثمن المذكور، ثم بعد ذلك يلتزم المشتري للبائع بالفسخ مدة معلومة، إن وفر فيها مثل الثمن فسخ له. وهذا الالتزام قد كان يواظب عليه، ثم هذا الصنع قد صار معروفا عندهم، مشهورا عند العامة والخاصة، ويطلقون عليه اصطلاحا أنه الرهن المرفع، وتارة بيع الأجل، وحينا بيع الالتزام، وعند قيام النزاع يجتمعون على تسمية بيع رجا؛ وهو المعبر به في مجالس الحكام، والمترجم عنه بكل خصام، فإذا مضت تلك المدة المضروبة للفسخ، ولما يوفر البائع الثمن بقى يتربص الحيل، ويتطلب الفتاوى في بيع الأجل. والناس فريقان: فريق متى يحصل له الثمر بعد المدة طالب المشترى برد المبيع. وفريق يلبث مدة يقدر فيها أن المشتري قد حصل من الثمار ما يقوم بالثمن، فيطالب المشتري، ويدعي عليه عند آحاد الحكام، أنه باع أرضه بدون ثمنها رغبة في الالتزام لما باعها بدون ذلك، ويورد على ذلك شهودا، وبعد ذلك يبادر الحاكم إلى الحكم ببطلان البيع، ويلزم المشترى قبول الثمن إن لم يكن قد استعد، وإن كان قد استعد ¬

(¬1) بلدة غامرة مشهورة في وادي ضمد الذي سميت باسمه - أي ضمد بن يزيد بن الحارث بن علة بن جلد ابن مدحج. تقع في الشمال الشرقي من جيزان حاضرة المخلاف السليماني اليوم وقد طغى على البلدة القديمة مبان حديثة اتسعت على ما كانت عليه وقيل: ضمد وصداد بلدان من مدحج. قال ياقوت الحموي في " معجم البلدان: " الضمد: موقع بناحية اليمن، بين اليمن ومكة على الطريق التهامي ". انظر: " النهاية " لابن كثير (3/ 99)، هجر العلم ومعاقله " (3/ 1210 - 1211).

حسبت عليه الغلال، وقطع له منه قدر الثمن، وما فضل سلمه إلى البائع، ويتصرف المشتري لاثمنا ولا أرضا، أو يتصرف بالثمن بعد أن عانا (¬1) في تسليمه يوم البيع، وباع من سلعة الغالي بالداني، لاكتساب الأرض، ولولا طرو هذا اليوم لما باع سلعة بالرخص وسلم أثمانها، وإذا هو ممدوح من البائع، مغشوش غشا ظاهرا إذا دخل عليه الغبن والمحاسدة في السلعة التي كان باعها. وإذا سئل الحاكم عن الموجب للحكم في هذا الأمر، بهذه الصفة يقول: قال في شرح الأثمار (¬2): مسألة: ولا يصح، ولا يجوز بيع الرجا؛ إذ هو يتوصل به إلى تحليل الربا المحرم، لأن المشتري لا يشتري بدون الثمن للغلة، ولا يجعل مقابضة نقص الثمر إلا هذه المدة المضروبة هو مضمر للربا، والمضمر في باب الربا كالمظهر، هكذا لفظه أو معناه، فيقال له من أين عرفت أن المشتري لا يريد إلا محض الغلة؟ فيقول: عرفناه من حال الناس ومحبتهم لإدخال الكسب من أي وجه، فيقال له: إرادته لمحض الغلة من أين دخولها في الربا؛ إذ الغلة لم تكن موجودة حال البيع حتى أنه شملها عقد البيع، بل هذا باع أرضه خالية من الثمار، وما تحصل الثمرة إلا وقد ملكها المشتري؟. فإن قال: لم يشتر إلا قاصدا للغلة، ولم يقابل الغلة شيء من الثمن. نقول: أما مقابلة ففيه ما قدمنا من أنه لم يشملها البيع لعدم وجوده حاله، وأما قصد الغلة فإن أردت مطلق الغلة فمنقوص بما هو معلوم عند المشترين في جميع البلدان، في كل الأعصار، لكل الأعيان أنه يشتري العين إلا لأجل الغلة، وهي معظم المقصود، على أن عدم صلاحية الأرض للاستغلال عيب موجب فسخ المبيع ورده. فإذا تقرر هذا علمت أن اللغة هي المقصود الأهم، ولا قائل بعدم صحة مطلق البيع مع إرادة مطلق الغلة، وإن أردت الغلة الحاصلة في مدة الالتزام فنقول: لا يخلو إما أن ¬

(¬1) غير واضح في المخطوط. (¬2) انظر " مؤلفات الزيدية " (2/ 127 - 128) وقد تقدم.

يكون البيع يختار، فالفوائد له استقر له الملك من بائع، أو مشتر وإن كان بالتزام بالإقالة (¬1) فيجري فيه أحكام الإقالة من أن الفوائد للمشتري، ويبقى للصلاح بلا أجرة كما هو معروف؛ إذ المقيد إنما هو منفصل بإرجاع المبيع وهذا مثله. فإن قلت: المشتري هنا بدون الثمن قاصد للتوصل إلى الغلة. نقول: والمشتري بالثمن الوافي قاصد التوصل إلى الغلة، فما هو الفرق؟. فإن قلت: الفارق نقصان الثمن. قلت: فأنت تجعل نقصان الثمن إنما هو مقابل للمدة فهو أجنبي عن قصد الغلة، فحينئذ لا تقوم لك حجة وكون المبيع وقع بدون الثمن لا يقدح في صحته؛ إذ هو صادق عليه وصف التراضي (¬2)، فهذا البيع وقع بتراض، وما وقع بتراض صحيح، فهذا البيع صحيح. أما الصغرى فالمشاهدة، وأما الكبرى فنص الكتاب، ثم المدة التي تفضل بها المشتري على البائع، هي جاريه مجري التفضل والإحسان ربما يثاب عليها؛ إذ هو التزم بالإقالة، والإقالة محصلة للثواب، بل ربما يصرح بالإقالة، بل هو الواقع أنه يصرح بلفظ القبح والإقالة مشروطا بتوفر الثمن، فالالتزام بهذه الصفة إقالة، والإقالة محصلة للثواب (¬3)، ¬

(¬1) أقاله: أي وافقه على نقض البيع وأجابه إليه. يقال: أقاله يقيله إقالة، وتقايلا إذا فسخا البيع، وعاد المبيع إلى مالكه والثمن إلى المشتري، إذا كان قد ندم أحدهما أو كلاهما، وتكون الإقالة في البيع والعهد. " النهاية " (4/ 134). (¬2) قال تعالى: {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29]. (¬3) أخرج أحمد في " زوائد المسند " (2/ 252) وأبو داود رقم (3460) وابن ماجه رقم (2199) والحاكم (2/ 45) والبيهقي (6/ 27) وأبو نعيم في " الحلية " (6/ 345) وابن حبان رقم (1103، 1104 - موارد). من حديث أبي هريرة بلفظ: " من أقال مسلما أقاله الله عثرته " وفى لفظ: " من أقال نادما بيعته أقاله الله عثرته " وعند بعضهم: " من أقال مسلما عثرته أقاله الله يوم القيامة ". قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وهو حديث صحيح.

فالالتزام بهذه الصفة محصل للثواب. أما الأولى فلما عرف أن الإقالة هي عين الفسخ. وأما الثانية فبالدليل النبوي، ثم يقال له: هل البيع هذا صحيح، أم باطل، أم فاسد؟ فتقول باطل. فتقول: لما عرفت ذلك فإنه سيرنا أقسام الباطل التي هي فقد ذكر الثمن، أو المبيع، أو اختلال العاقد، أو صحة التملك، فوجدناها مفقودة في هذا البيع، ثم أقسام الفاسد فوجدناها مفقودة ثم أقسام الصحيح، من صدور الإيجاب والقبول من مكلف، ومختار، مطلق التصرف، وقبول غيره مثله. والمبيع موجود في ملك البائع جائز البيع، والثمن بغير معلوم، فوجدناها موجودة في هذا البيع، فما بقى بعد هذا التقسيم إلا أن يحكم عليه بالصحة. فنقول: هذا البيع موجود فيه أقسام الصحيح (¬1)، والموجود فيه أقسام الصحيح صحيح، فهذا البيع صحيح. أما الأولى فالتتبع، وأما الكبرى فضرورة الملازمة. وحينا نقول: هذه المسألة خرجها شارح الأثمار (¬2) على أصل الإمام شرف الدين (¬3) في تحريم بيع الشيء بأكثر من سعر لأجل النسا. فنقول: وجدنا النص للإمام شرف الدين بجواز بيع الشيء بأكثر من سعر يومه، فبطل ما تمسكت به، وإن سلم ذلك فالإمام شرف الدين محجوج بالأدلة الراجحة، والبراهين الواضحة على جواز ذلك وحله. ثم إن هذه المسألة قد صارت بالديار التهامية من أقوى الحيل المستهلك بها المال، وتهافت فيها الحكام، ورأوا أن الحكم فيها من أوضح ¬

(¬1) انظر " المغني " (6/ 7 - 30). (¬2) تقدم تعريفه. (¬3) شرف الدين بن شمس الدين ابن الإمام المهدي أحمد بن يحيى وله اسمان شرف الدين وهو الذي اشتهر به، والآخر يحيى ولم يشتهر به. ولد سنة 877 هـ بحصن حضور. من مصنفاته: كتاب الأثمار اختصر فيه " الأزهار " كتاب جده توفى سنة 965هـ. انظر: " البدر الطالع " رقم (195).

الأمور، وقد ساوت قطعي الدلالة في الأقيسة إليها، ولا عاد التفات إلى التأني والنظر، هل المشتري قاصد محض التوصل إلى الغلة على فرض صحته أم لا؟ بل يمنع صدور الحكم من الحاكم إلا عدم ورود الشهود، فإنه دون الثمن ولم يكن من حكام المخلاف من يتورع عن هذا الحكم بهذه المسألة، وعن الجزم فيها، إلا حفظه الله، وبارك في علومه. على أنى ممن يتعاطى فصل الأقضية بين الناس، ولبثت مدة من جملة هؤلاء المذكورين مقلدا لذلك القول المريض، ومعولا على ذلك الأستاذ المهيص (¬1)، وكنت في سنة 1205 هداني الله إلى تحرير بحث في الرد على هذا المقال، والاتباع لهدي سيد الرجال، لكن لم أجد من ينصر ذلك المقال، ويشد أزره بما تشد إليه الرحال، ثم اعتراني طرق الترحال من تلك الأوطان، وتعاورت على العزمات إلى نائي البلدان، فأضربت صفحا عن توجيه الهمة إلى تكميل ذلك البحث، وإظهاره على النقاد، ليرى السمن منه والغث إلا مدارة كثرة دوران هذه المسألة، بعثني على تحرير هذه المذاكرة، بها إلى علامة المعقول والمنقول، القائم بما جاء به الكتاب، وهدي الرسول شيخ الإسلام، وقدوة العلماء الأعلام، الحقيق بما مدحه به بعض أفاضل الأنام: علامة المعقول والمنقول من ... حكمت له العليا على أترابه فذ الزمان تؤم المجد الذي ... ساد الأكابر في أوان شبابه بدر الهدى النظار سله مقبلا ... كفيه ملتمسا لرد جوابه العالم الرباني محمد بن على الشوكاني الصنعاني، فيوضح في تحقيق هذه المسألة السبيل، وينقح صحتها أو بطلانها بواضح الدليل، فلعل الله أن يهدي به من ¬

(¬1) المهيص: هاص يهيص هيصا إذا رمى. قال: مهايص جمع مهيص: الهيص العنق بالشيء، والهيص رق العنق. " لسان العرب " (15/ 179).

عكف على هذا الأمر من أولئك الجيل، وقد آلينا - إن شاء الله - على بثها بالديار على العلماء الأعلام النظار، ليقع منهم - إن شاء الله - ما هو الحق في المسألة، ويقتضي بهم من هو عالة عليهم في كل معضلة، والله يوفق الجميع إلى رضاه آمين آمين. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. حرر يوم الخميس، لعله أول يوم من شهر صفر الخير سنة 1209 بمحروس مدينة صنعاء المحمية بالله تعالى آمين آمين. كتبه عبد الرحمن بن أحمد البهكلي (¬1) سامحه الله تعالى. ¬

(¬1) عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن بن على البهكلي الضمدي ثم الصبياني التهامي اليماني. مولده سنة 1182 هـ بمدينة صبيا وأخذ عن والده في المختصرات وغيرها، وأخذ عن القاضي أحمد بن عبد الله الضمدي حتى برع في الفقه والنحو والأصول ورحل إلى صنعاء سنة 1202 هـ. له مصنفات منها: " الثقات بمعرفة طبقات رجال الأمهات ". " الأفاويق بتراجم البخاري والتعاليق ". توفي سنة 1248 هـ. " نيل الوطر " (2/ 23 - 24)، " البدر الطالع " رقم (224).

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي لا يرجى على لحل كل معضلة سواه، ولا ينفتح باب كل مشكلة إلا لمستمسك بهداه وتقواه، الجاعل كتابه الكريم، وسنة حبيبه الرسول الفخيم ملجأ يعتصم به من مخاوف الخلاف، وملاذا يهرب إليه من موقبات التفرق التي قل في مثلها الائتلاف. والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وأصحابه أجمعين الذين هم المعيار القويم، والصراط المستقيم عند اختلاف المختلفين. وبعد: فإنه وصل هذا السؤال الذي هو في الحقيقة إفادة لا استفادة في بيع الرجا من الأخ القاضي العلامة النحرير، المحقق الكبير الشهير، وجيه الإسلام، حسنة الأيام، عبد الرحمن بن أحمد بن الحسين (¬1) - لا برحت فوائده - مدونة بمجاميع الأعلام، على مر الزمن وقد تكلم عليه - كثر الله علومه - بما يشفي وما يكفي، ولكنه مد الله مدته، وحرس مهجته، سأل من أخيه القاصر أن يتكلم بما لديه على جهة الاستقلال، وطلب منه أن يحرر ما يراه، ويلوح له غير ملتفت إلى قيل وقال. فأقول وبالله أعتصم، وعليه أتوكل؛ فليس إلا عليه في جميع الأمور المعول: اعلم أنه لم يكن في كتاب الله العزيز شرط لمطلق البيع المشروط إلا مجرد الرضى، قال الله تعالى: {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} (¬2)، وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (¬3)، فإذا حمل المطلق على المقيد (¬4)، أفاد أن الرضى بمجرد مستقل بصحة انتقال الملك، ومثل هذا حديث: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من ¬

(¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) [النساء: 29]. (¬3) [البقرة: 275]. (¬4) انظر " إرشاد الفحول " (ص542 - 544).

نفسه " (¬1)؛ فإنه ظاهر في استقلال طيبة النفس بحل المالين للمتابعين، والرضي والطيبة متحدان صدقا، وأن اختلف مفهوما. ولم نجد في سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ما يدل على اعتبار أمر زائد على ذلك، بل فيها ما هو في الحقيقة مؤيد لذلك الاستقلال، كالأحاديث الواردة في النهي عن بيع الغرر (¬2)، وعن بيع ............................... ¬

(¬1) وهو حديث صحيح. * أخرجه أحمد (5/ 72) والبيهقي (6/ 100) والدارقطني (3/ 26 رقم 90) من حديث أبي حرة. وعزاه الهيثمي في " المجمع " (4/ 172) إلى أبي يعلى وقال: " أبو حرة وثقه أبو داود وضعفه ابن معين ". وقال الألباني في " الإرواء " (5/ 279) واعتمد الحافظ في " التقريب " الأول، فقال ثقة لكن العلة من الراوي عنه: علي بن يزيد، وهو ابن جدعان، وهو ضعيف إلا أنه يستشهد به ويقوي حديثه بما بعده ". * وأخرجه أحمد (5/ 425) والبيهقي (6/ 100) وابن حبان (رقم 1166 - موارد) والطحاوي في " مشكل الآثار " (4/ 41 - 42) من حديث أبي حميد. وعزاه الهيثمي في " مجمع الزوائد " (2/ 171) إلى أحمد والبزار، وقال: رجال الجميع رجال الصحيح وقال الألباني في " الإرواء " (5/ 280) متعقبا على الهيثمي: " كذا قال: وعبد الرحمن بن سعيد ليس من رجال الصحيح، وإنما أخرج له البخاري في " الأدب المفرد " ويحتمل أن يكون إسناد البزار كإسناد البيهقي، أعني وقع فيه عبد الرحمن بن سعد، وهو ابن أبي سعيد الخدري، فإنه ثقة من رجال مسلم، فتوهم أنه عند أحمد كذلك ". اهـ. * وأخرجه احمد (3/ 423) و (5/ 113) والبيهقي (6/ 97) والدارقطني (3/ 25 رقم 89) والطحاوي في " مشكل الآثار " (4/ 42) وعزاه الهيثمي في " المجمع " (4/ 171) إلى أحمد وابنه من زياداته أيضًا والطبراني في " الكبير " و" الأوسط ". وقال: رجال أحمد ثقات " من حديث عمرو بن يثربي. وفى الباب عن ابن عباس، وأنس بن مالك. (¬2) منها ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (4/ 1513) والترمذي رقم (1230) والنسائي رقم (4518) وابن ماجه رقم (2194) وأبو داود رقم (3376) عن أبي هريرة قال: " نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر ". انظر الرسالة رقم (110).

الحصاة (¬1)، وعن بيع (¬2) الحبلة، وعن بيع ما في ضروع الأنعام (¬3)، وعن شراء العبد الآبق (¬4)، وعن شراء المغانم حتى تقسم (¬5) وعن بيع الثمر حتى يطعم (¬6)، وعن بيع ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة. بيع الحصاة، اختلف في تفسير بيع الحصاة، قيل: هو أن يقول: ارم بهذه الحصاة فعلى أي ثوب وقع فهو لك بدرهم، وقيل: هو أن يقول: أرضه قدر ما انتهيت إليه رمية الحصاة. وقيل: هو أن يقبض على كف من حصاة ويقول: لي بعدد ما خرج في القبضة من الشيء المبيع، أو يبيعه سلعه يقبض على كف من حصا ويقول: لي بكل حصاة درهم. انظر: شرح النووي لصحيح مسلم (10/ 156). (¬2) منها ما أخرجه البخاري رقم (2143) وأطرافه رقم (2256، 3843) ومسلم في صحيحه رقم (1514) والترمذي رقم (1229) وابن ماجه رقم (2197) وأحمد (1/ 56) و (2/ 5، 63، 108) والحميدي (2/ 303رقم 689) ومالك (2/ 653 رقم 62). من حديث ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن بيع حبل الحبلة، وكان بيعا يبتاعه أهل الجاهلية، كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة، ثم تنتج التي في بطنها ". وهو حديث صحيح. وانظر: " فتح الباري " (4/ 357). (¬3) وهو حديث ضعيف. أخرجه أحمد (3/ 42) والبيهقي (5/ 338) عن أبي سعيد الخدري أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، وعن بيع ما في ضروعها، وعن شراء العبد وهو آبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة الغائص ". وأخرجه ابن ماجه رقم (2169) والدارقطني (3/ 15 رقم 44) وقال البيهقي في سنته (5/ 338): " وهذه المناهي وإن كانت في هذا الحديث بإسناد غير قوي فهي داخلة في بيع الغرر الذي نهى عنه الحديث الثابت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (¬4) وهو حديث ضعيف. أخرجه أحمد (3/ 42) والبيهقي (5/ 338) عن أبي سعيد الخدري أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، وعن بيع ما في ضروعها، وعن شراء العبد وهو آبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة الغائص ". وأخرجه ابن ماجه رقم (2169) والدارقطني (3/ 15 رقم 44) وقال البيهقي في سنته (5/ 338): " وهذه المناهي وإن كانت في هذا الحديث بإسناد غير قوي فهي داخلة في بيع الغرر الذي نهى عنه الحديث الثابت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (¬5) ورد النهي عن بيع المغانم حتى تقسم من حديث ابن عباس عند النسائي رقم (4645) وهو حديث صحيح. (¬6) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2194) ومسلم رقم (49/ 1534) من حديث ابن عمر: " أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن بيع الثمار صلاحها نهى البائع والمبتاع ".

الصوف على الظهر (¬1) والسمن في اللبن (¬2)، والملامسة (¬3)، والمنابذة (¬4)، والمحاقلة (¬5)، وبيع الثمار قبل بدو صلاحها (¬6)، والمحاضرة (¬7)، .................................... ¬

(¬1) وقد ورد النهي عن بيع الثمر حتى يطعم والصوف على الظهر، واللبن في الضرع، والسمن في اللبن من حديث ابن عباس. أخرجه الدارقطني (3/ 14 رقم 42) وقال الدارقطني: وأرسله وكيع عن عمر بن فروخ، ثم أخرجه وكيع، عن عمر بن فروخ به مرسلا. لم يذكر ابن عباس. (¬2) وقد ورد النهي عن بيع الثمر حتى يطعم والصوف على الظهر، واللبن في الضرع، والسمن في اللبن من حديث ابن عباس. أخرجه الدارقطني (3/ 14 رقم 42) وقال الدارقطني: وأرسله وكيع عن عمر بن فروخ، ثم أخرجه وكيع، عن عمر بن فروخ به مرسلا. لم يذكر ابن عباس. (¬3) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2144) ومسلم رقم (3/ 1512) عن أبي سعيد قال: " نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الملامسة والمنابذة في البيع ". وأخرجه مالك في " الموطأ " (2/ 666 رقم 76) من حديث أبي هريرة. الملامسة: أن يلمس الرجل الثوب ولا ينشره، ولا يتبين ما فيه أو يبتاعه ليلا ولا يعلم ما فيه. وقيل الملامسة لمس ثوب الآخر بيده بالليل أو النهار ولا يقبله. المنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه، ويكون ذلك بيعهما من غير راض ولا تراض. انظر: " فتح الباري " (4/ 358). (¬4) انظر التعليقة السابقة. (¬5) أخرج أبو داود رقم (3404و3405) والترمذي رقم (1290، 1313) والنسائي رقم (3879، 3880) وابن ماجه رقم (2266) عن جابر رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نهى عن المحاقلة والمزابنة، والمخابرة. وعن الثنيا إلا أن تعلم " وهو حديث صحيح. وأخرجه البخاري رقم (2381) وليس فيه الثنيا. وأخرجه أحمد (3/ 360) ومسلم رقم (1536). المحاقلة: فسرها جابر بأنها بيع الرجل من الرجل الزرع بمائة فرق من الحنطة. الفرق = 8.235 كغ. أخرجه الشافعي في مسنده (1/ 311رقم 209). وقال أبو عبيد في " غريب الحديث " (1/ 229 - 230) المحاقلة بيع الطعام في سنبله. وانظر: " فتح الباري " (4/ 404). (¬6) تقدم آنفا. وهو حديث صحيح. (¬7) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2207) من حديث أنس قال " نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المحاقلة والمخاضرة والمنابذة والملامسة والمزاينة ". المخاضرة: بيع الثمار قبل أن تطعم وبيع الزرع قبل أن يشتد ويفرك ويصفر. وقيل: المخاضرة: بيع الثمار خضرا لم يبد صلاحها. " النهاية " (2/ 41)، " فتح الباري " (4/ 404).

والثنيا (¬1)، ألا تعلم، وبيعتين في بيعة (¬2)، ونحو ذلك. فإن النهي عن بيع هذه الأمور إنما هو لعدم وجود الرضى المحقق في الحال، أو في المال، لما فيها من الغرر الذي لا يمكن مع وجوده ذلك المناط الذي اعتبره القرآن والسنة، ومنها ما هو لعروض مانع شرعي يصير وجود ذلك المقتضي عند وجوده غير مؤثر في الصحة التي هي الأصل في ثبوت آثاره المترتبه عليه، كما هو شأن كل مانع، وذلك كالنهي عن بيع الخمر والميتة، والدم والخنزير والأصنام (¬3)، وثمن الكلب (¬4)، ..................................................... ¬

(¬1) تقدم ذكر الحديث آنفا. وهو حديث صحيح. الثنيا: هي أن يستثني في عقد البيع شيئا مجهول فيفسد، وقيل هو أن يباع شيء جزافا فلا يجوز أن يستثنى منه شيء قل أو كثر، وتكون الثنيا في المزارعة أن يستثني بعد النصف أو الثلث كيل معلوم. " النهاية " (1/ 224). (¬2) أخرج أحمد في " المسند " (2/ 432، 475، 503) والنسائي في سنته رقم (4623) والترمذي رقم (1231) وقال: حديث حسن صحيح. وابن حبان في صحيحه رقم (4973) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بيعتين في بيعة ". وهو حديث حسن. وأخرج أبو داود رقم (3461) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا " وهو حديث حسن. (¬3) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2236) وطرفاه (4296، 4633) ومسلم رقم (7/ 1581) وأحمد (3/ 324، 326) وأبو داود رقم (4386) والترمذي رقم (1297) وقال حديث حسن صحيح. والنسائي (7/ 309، 310) وابن ماجه رقم (2176). عن جابر أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ". (¬4) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2237) ومسلم رقم (39/ 1567) وأبو داود رقم (3481) والترمذي رقم (1276) وقال: حسن صحيح والنسائي (7/ 309) وابن ماجه رقم (2159) وأحمد (4/ 118، 119، 120) من حديث أبي مسعود قال: " نهى رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الكلب ".

والسنور (¬1)، وبيع فضل الماء (¬2)، وثمن عسب الفحل (¬3) وبيع العربان (¬4)، وبيع ما لا يملك (¬5) ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1569) وأبو داود رقم (3479) والترمذي رقم (1279) وابن ماجه رقم (2161) من حديث جابر: " أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن ثمن الكلب والسنور " وهو حديث صحيح. (¬2) أخرج أحمد (4/ 138) و (3/ 417) وأبو داود رقم (3478) والنسائي (7/ 307رقم 4662) والترمذي رقم (1271) وقال حديث حسن صحيح من حديث إياس بن عبد: " أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن بيع فضل الماء ". وهو حديث صحيح. (¬3) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2284) وأبو داود رقم (3429) والترمذي رقم (1273) والنسائي رقم (4671). عن ابن عمر رضي الله عنه: "نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن عسب الفحل ". (¬4) عن عمرو بن شعيب قال: " نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بيع العربان ". أخرجه مالك في " الموطأ " (2/ 609رقم 1) من رواية يحيى بن يحيى، ورواية أبي مصعب الزهري (2/ 305رقم 2470) وفى كليهما: " عن الثقة عنده عن عمرو بن شعيب ... ". وكذا رواية إسحاق بن عيسى عند أحمد (2/ 183). والبلاغ إنما هو من رواية عبد الله بن مسلمة - قال مالك، قال: بلغني عن عمرو بن شعيب به. أخرجه أبو داود رقم (3502). وأخرجه ابن ماجه رقم (2192) , (3193) وهو حديث ضعيف. انظر: " تلخيص الحبير " (3/ 17 رقم 1173). وبيع العربان فسره مالك في " الموطأ " من رواية يحيى (2/ 609 رقم 1) هو أن يشتري الرجل العبد، أو الأمة، أو يكتري، ثم يقول للذي اشترى منه أو اكترى أعطيك دينارا أو درهما على أني إن أخذت السلعة فهو من ثمنها، وإلا فهو لك. اختلف الفقهاء في جواز هذا البيع فأبطله مالك والشافعي لهذا النهي ولما فيه من الشرط الفاسد والغرر ودخوله في أكل المال بالباطل وروى عن عمر وابنه وأحمد جوازه. انظر: " المجموع " (9/ 335) و" المغني " (6/ 313). (¬5) أخرج أحمد (3/ 401، 403) وأبو داود رقم (3503) والترمذي رقم (1232) والنسائي (7/ 289رقم 4613) وابن ماجه رقم (2187). من حديث حكيم بن حزام قال: " قلت يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني عن البيع ليس عندي أبيعه منه ثم أبتاعه من السوق فقال: " لا تبع ما ليس عندك " وهو حديث صحيح.

وبيع الكالئ بالكالئ (¬1)، وبيع الطعام قبل الاستيفاء والنقل (¬2)، واختلاف الصاعين (¬3)، والبيع المستلزم للتفريق بين ذوي الأرحام (¬4)، .................................................. ¬

(¬1) وهو حديث ضعيف. أخرجه البزار في مسنده (2/ 91رقم 1280 - كشف). وذكره الهيثمي في " المجمع " (4/ 80) مطولا وقال: قلت: في الصحيح طرف منه رواه البزار وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف - وليس في الصحيح متن حديث الباب وأخرجه الدارقطني (3/ 72 رقم 270) والحاكم (2/ 57) وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي وهو ليس كما قالا، والذي يبدو أنهما صححاه على أن راويه هو موسى بن عقبة الحافظ الكبير وليس كذلك، وقد خطأ البيهقي والحاكم الدارقطني على ذلك، ورواه في " سنته الكبرى " (5/ 290). وهو حديث ضعيف. انظر: الإرواء رقم (1382). الكالئ هو أن يشتري الرجل شيئا إلى أجل، فإذا حل الأجل لم يجد ما يقضي به، فيقول بعينه إلى أجل آخر بأكثر بزيادة شيء فيبيعه ولا يجري بينهما تقابض. " النهاية " (4/ 194). وقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز بيع دين بدين. " موسوعة الإجماع " (1/ 399). (¬2) أخرج مسلم في صحيحه رقم (41/ 1529) عن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا ابتعت طعاما فلا تبعه حتى تستوفيه ". وهو حديث صحيح. (¬3) أخرج البخاري في صحيحه (4/ 343 - 344) معلقا، بصيغة التمريض. وأحمد (1/ 62، 75) من حديث عثمان أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: " إذا ابتعت فاكتل وإذا بعت فكل ". وأخرج ابن ماجه رقم (2228) والدارقطني رقم (3/ 8 رقم 24) والبيهقي (5/ 316) من حديث جابر قال: " نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان، صاع البائع وصاع المشتري ". وهو حديث حسن. (¬4) أخرج أحمد (5/ 413) والترمذي رقم (1283) وقال: حديث حسن غريب والدارقطني (3/ 67رقم 256) في " المستدرك " (2/ 55) وصححه على شرط مسلم. من حديث أبي أيوب قال: " سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من فرق بين والدة وولدها، فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة ". وهو حديث صحيح.

وبيع الحاضر لباد (¬1)، وبيع النجش (¬2)، والبيع مع تلقي الركبان (¬3)، وبيع الرجل على بيع أخيه (¬4)، وسلف وبيع (¬5)، وشرطين في بيع (¬6)، وبيع ما ليس عند البائع (¬7)، والبيع مع ¬

(¬1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2142) من حديث ابن عمر قال: " نهي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبيع حاضر لباد ". وانظر الرسالة رقم (112). (¬2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2142) ومسلم رقم (13/ 1516) عن ابن عمر قال: " نهى النبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن النجش ". النجش لغة: تنفير الصيد واستثارته من مكانه ليصاد. " القاموس " (ص783). والنجش في الشرع: الزيادة في ثمن السلعة المعروضة لا يشتريها بل ليغر بذلك غيره، وسمي الناجش في السلعة ناجشا لأنه يثير الرغبة فيها ويرفع ثمنها. وانظر: " فتح الباري " (4/ 355).وانظر تفصيل ذلك في " المحلي " (8/ 448). (¬3) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2185) وطرفاه رقم (2163، 2274) ومسلم رقم (19/ 1521) وقد تقدم. انظر الرسالة رقم (112). عن طاوس عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تلقوا الركبان ولا يبيع حاضر لباد ". (¬4) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2140) ومسلم رقم (6601) وقد تقدم عن أبي هريرة قال: " نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبيع حاضر لباد ولا تناجشوا، ولا يبيع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه ". (¬5) أخرج أبو داود رقم (3504) والترمذي رقم (1234) وقال حديث حسن صحيح، والنسائي رقم (4611) والحاكم (2/ 17) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك " وهو حديث حسن. (¬6) انظر التعليقة السابقة. (¬7) انظر التعليقة السابقة أيضا.

شرط الولاء للبائع (¬1)، والبيع المشتمل على نوع من أنواع الربا (¬2)، ومنه النهي عن بيع المزابنة (¬3)، وبيع العينة (¬4)، والنهي لمن باع شيئا أن يشتريه بأقل مما باعه به، وما شابه هذه الصور. ¬

(¬1) عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني بريرة فقالت: إني كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عام أوقية، فأعينيني. فقلت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولائك لي فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها، فقالت لهم: فأبوا عليها، فجائت من عندهم ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس فقالت إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فسمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرت عائشة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن اعتق ". ففعلت عائشة رضي الله عنها ثم قام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الناس فحمد الله وأثني عليه ثم قال: " أما بعد، فما بال رجالا يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق ". أخرجه البخاري رقم (2237) ومسلم رقم (39/ 1567) وأبو داود رقم (3481) والترمذي رقم (1276) وقال: حسن صحيح. والنسائي (7/ 309) وابن ماجه رقم (2159) وأحمد (4/ 118، 119، 120). (¬2) انظر الرسالة رقم (114). (¬3) أخرج البخاري رقم (2158) ومسلم رقم (1542) وأبو داود رقم (3361) والنسائي رقم (4534) وابن ماجه رقم (2256) وأحمد (2/ 16، 63، 64، 108) ومالك (2/ 624رقم 23). عن ابن عمر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المزابنة: أن يبيع ثمر حائطة إن كان نخلا بتمر كيلا وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا وإن كان زرعا أن يبيعه بكيل الطعام، نهى عن ذلك كله ". (¬4) أخرج أبو داود رقم (3462) من رواية نافع عنه وفى إسناده مقال. وأخرجه أحمد (7/ 27رقم 4825 - شاكر) من رواية عطاء، ورجاله ثقات وصححه ابن القطان. انظر: " تلخيص الحبير " (3/ 19رقم 1181). عن ابن عمر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله يقول: " إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ". وهو حديث صحيح بطرقه.

إذا تقرر هذا، فالمتوجه القضاء بصحة كل بيع وجد فيه ذلك المقتضي؛ وهو الرضى فيتعين البقاء على أصل الصحة بعد وجود مقضيتها، كما هو شأن القواعد الشرعية المقررة عند علماء الإسلام، ما لم يتيقن المانع الذي ثبت كونه مانعا بنص، أو إجماع، لا بمجرد الظنون الفاسدة، والأوهام الباردة، فإن مجرد ذلك لا يعتد به على فرض تجرده عن المعارض، فضلا عن كونه معارضا بما هو مستقل في ترتب الآثار المقصودة، ومعارضا أيضًا بالأصل. والظاهر اللذان هما المركز الأعظم في تعرف أحكام الأمور الجزئية، عند تجردها عن نص بعضها، وبيان ذلك أن الأصل في معاملات المسلمين الواقعة على الصورة الشرعية التي لم يصحبها مانع هو الصحة، والمراد بالصورة الشرعية وجود مشعر بطيبة النفس من مالك العين (¬1)، بانتقالها عن ملكه إلى المشتري، ووجود مشعر بطيبة نفس المشتري بخروج الثمن المدفوع عن ملكه إلى رب العين عوضا عنها، فهذا هو البيع الشرعى الذي أذن الله لعباده. والمراد بعدم المانع أن لا يعارض هذه الصورة الشرعية أمر يستلزم وجوده عدم صحتها كالنهى عنها بخصوصها، أو النهي عن أمر تندرج هي تحته مع فقد دليل يخصها من ذلك العموم. ولا ريب أن الأصل عدم هذا المانع، فلا يجوز إثبات حكمه بيقين، وهكذا الظاهر فيما كان على الصفة المذكورة هي الصحة، لأنه تصرف أذن فيه الشارع، وكل تصرف أذن فيه الشارع صحيح، فهذا صحيح. أما الكبرى فبنص: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (¬2)، وبنص: {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} (¬3)، وأما الصغرى فبإجماع المسلمين إذا لم يوجد مانع، والمفروض أن المانع هاهنا غير متقين، ¬

(¬1) تقدم ذكر الحديث وتخريجه. (¬2) [البقرة: 257] (¬3) [النساء: 29]

وكل مانع غير متيقن لا يعتد به؛ فالمانع الغير المتيقن لا يعتد به، وإلا لزم الاعتداد بكل مانع إذا حصل الظن بكونه مانعا، وإن لم يثبت بنص ولا إجماع. واللازم باطل لأن مثل هذا لا يصلح لتخصيص ما يندرج تحت ما أذن به الشارع. وبيانه أنه إذا انتفى اليقين لم يبق إلا الظن، أو الشك. والشك لمجرده غير معمول به بالإجماع، والظن الذي لا مستند له كذلك. فإن قلت الكبرى ممنوعة، والسند أنه إذا دل الدليل الظني على أن هذا الأمر مانع وجب المصير إلى ذلك، وتوجه الحكم ببطلان تلك الصورة الشرعية، وليس هاهنا إلا مانع مظنون، لأن ظنية الدليل تستلزم ظنية المدلول. قلت: ليس المراد بقولنا: وكل مانع غير متيقن لا يعتد به كونه ثابتا بدليل يفيد اليقين، بل المراد تيقن دلالة الدليل، لأن ذلك الظن قد يكون غلطا في نفس الأمر، باعتبار عدم صحة تطبيق الدليل على المدلول كما ينبغي، ومثل هذا الظن لمجرده لا يصلح لتخصيص دليل تلك الصورة الشرعية على فرض ثبوتها بدليل عام، ولا لإبطالها على فرض ثبوتها بدليل خاص، ولا سيما إذا كانت معتضدة بالأصل، والظاهر كنا سلف، ومتأيدة بالبراءة الأصلية القاضية بعدم التعبد بذلك المانع المظنون. إذا استوضحت هذا لاح لك أن بيع الرجا على الصفة المذكورة في السؤال هي أن البائع يأتي إلى المشتري يعرض عليه أرضه، فيتراضيان على ثمن معين معلوم، يكون ثمن المثل في غالب الأزمان، ودونه في النادر، فيقع البيع على ذلك الثمن المتراضى عليه، ثم بعد انقضاء العقد يلتزم المشتري للبائع مدة معلومة إن وفر الثمن فيها فسخ له بيع صحيح أذن له فيه الشارع لم يصحبه مانع معتبر، وإطلاق الأسماء المصطلحة عليه كقولهم: بيع الرجا، بيع رهن، بيع أجل بيع إلتزام، لا تأثير له لإجماع المسلمين على أن الأسماء لا تحيل المسميات عن حكمها الشرعي، وإلا لزم حل الأعيان المحرمة عند إطلاق اسم عليها غير

اسمها، وتحريم الأعيان المحللة عند إطلاق غير اسمها عليها. واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله. وأما دعوى البائع بعد انقضاء المدة المضروبة، أنه إنما باع أرضه بدون ثمنها رغبة في الالتزام المذكور، ولولاه لما وقع منه البيع بهذا المقدار، فهذه الدعوى مما لا تأثير له في نقض ما أبرمه برضاه، واختيار وقت العقد. أما إذا كان الثمن الذي وقع به عقد البيع هو ثمن في ذلك الوقت، أو في الغالب فلا سماع لمثل هذه الدعوى بالإجماع. وأما إذا كان الثمن دون ثمن تلك العين في ذلك الوقت، أو الغالب، فلا سماع أيضًا لتلك الدعوى، لأن إذن الشارع بالبيع لأهل الشرع لم يقيد بثمن المثل، بل أذن لهم بالتجارة الكائنة عن تراض، وإن بلغ الثمن باعتبار المبيع إلى غاية الارتفاع أو الانخفاض، بل سمي الأخذ البدون الثمن المتعامل به رزقا، كما في حديث جابر عند مسلم (¬1)، وأبي داود (¬2)، والترمذي (¬3)، والنسائي (¬4)، وابن ماجه (¬5)، وأحمد (¬6) أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا يبيع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض " فإن السر في هذا النهي أن البادي يبيع بثمن أرخص من الثمن الذي وقع التعامل به في البلد، وإذا باع له الحاضر باعه بثمن المثل المعروف، فنهى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الحضري أن يبيع للبدوي لذلك، وجعل ما ينقصه البدوي من ثمن أهل الحضر رزقا لأهل ............................. ¬

(¬1) في صحيحة رقم (1522). (¬2) لم يخرجه أبو داود من حديث جابر. (¬3) في " السنن " رقم (1223). (¬4) في "السنن" (7/ 256). (¬5) في " السنن " رقم (2176). (¬6) في " المسند " (2/ 307). وهو حديث صحيح وقد تقدم. انظر الرسالة رقم (112).

الحضر (¬1)، وأيضا البائع الذي ادعى أنه ما باع أرضه بدون ثمنها إلا لمجرد ذلك الالتزام، قد نادى على نفسه بما يصلح لجعله مستندا للحكم عليه فإن ذلك المقدار الذي أسقطه عن المشتري لغرض الالتزام بالفسخ تلك المدة. وقد وقع ذلك الالتزام، وصار المبيع فيها معرضا للفسخ , والمشتري راض بذلك، مذعن له، فإنه لو جاءه في المدة المضروبة، ودفع إليه ما كان في قبضه من الثمن، لقال له خذ مبيعك هنيئا مريئا، بارك الله لك فيه. فالغرض الذي لأجله الحط على فرض صحة الدعوى قد وقع، صار المشتري لأجله يظن في كل وقت أن ذلك المبيع خارج عن ملكه وكل عاقل يعلم أن ضرب مدة وقع التواطؤ عليها بين البائع والمشتري أن البائع إذا سلم فيها الثمن رجع إليه المبيع من أعظم الأغراض التي يتطلبها من باع ما يشح ببيعه لولا الحاجة. فإسقاط جانب من الثمن إلى مقابل هذا العرض إسقاط صحيح، والمشتري قد وفى بما عليه فاستحق ما حط لأجله، ولكن البائع أتى من قبل نفسه، فترك الاسترجاع في الأجل المضروب، وجاء إلى المشترى بعد انقضائه يطالبه بما يلزمه شرعا ولا عرفا. وبهذا تعرف أن التعامل من البائع بحط جانب من الثمن إنما يصح لو كانت المدة المضروبة بينهما باقية، وحصل من المشتري الامتناع عن الرد، وأما بعد انقضائها فالأمر كما قيل: وقد حيل بين العير والنزوان (¬2): راحت مشرقة ورحت مغربا ... شتان بين مشرق ومغرب فإن قلت: ربما قال قائل إن الحط لمثل هذا الغرض لا يحل مال البائع بمثله. ¬

(¬1) انظر "المفهم " (4/ 367 - 368). (¬2) حيل بين العير والنزوان: يقال ذلك الرجل يحال بينه وبين مراده، والمثل ... لصخر بن عمرو أخي الخنساء: أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان النزوان في الوثب، وخص بعضهم به الوثب إلى فوق. " لسان العرب " (14/ 115). " جمهرة الأمثال " للعسكري (1/ 371 - 372).

قلت: الحط لمثل هذا الغرض جائز حلالا دليلا ومذهبا: أما الدليل: فقال تعالى: {أوفوا بالعقود} (¬1) والبائع والمشتري إذا تواطأ على حط جانب من الثمن لأجل الغرض المذكور فذلك عقد يتوجه الوفاء به. وأخرج أبو داود (¬2)، والحاكم (¬3)، من حديث أبي هريرة مرفوعا: " المسلمون على شروطهم ". وقد ضعفه ابن حزم بكثير بن زيد، والوليد بن رباح، ولكنه قد حسنه الترمذي. ويشهد له ما أخرجه الترمذي (¬4) والحاكم (¬5) من حديث كثير بن عبد الله بن ¬

(¬1) [المائدة: 1]. (¬2) في " السنن " رقم (3594). (¬3) في " المستدرك " (2/ 49). قلت: وأخرجه ابن الجارود رقم (637، 638) وابن حبان رقم (1199 - موارد) والدارقطني (3/ 27رقم 96). والبيهقي (6/ 64، 65) وأحمد (2/ 366) وابن عدي في " الكامل " (6/ 2088). كلهم من حديث كثير ابن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة: " أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: المسلمون على شروطهم والصلح جائز بين المسلمين " وزاد بعضهم: " إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما ". قال الحاكم: " رواة هذا الحديث مدنيون " فلم يصنع شيئا!!. ولهذا قال الذهبي: لم يصححه، وكثير ضعفه النسائي، وقواه غيره. وقال ابن حجر في " التقريب " (2/ 131رقم 11): " صدوق يخطئ ". قلت لم يتفرد به وله شاهد - سيأتي. (¬4) في " السنن " رقم (1352). (¬5) في المستدرك (4/ 10). قلت وأخرجه ابن ماجه رقم (2353) والدارقطني (3/ 27رقم 98) والبيهقي (6/ 79) من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه عن جده مرفوعا: " الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما ". وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. قلت: فيه كثير بن عبد الله هذا مجمع على ضعفه ن وقد قال ابن حجر في " التقريب " (2/ 123رقم 71): " ضعيف، منهم من نسبه إلى الكذب ". وسكت الحاكم على الحديث، وقال الذهبي: " واه". صحيح بشواهد وانظر الإرواء رقم (1303).

عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده بنحوه. وزاد: " إلا شرطا أحل حراما، أو حلل حلالا " وكثير المذكور - وإن كان ضعيفا - ولكن الحديث المتقدم شواهد من حديث أنس عند الحاكم (¬1)، والدارقطني (¬2). ومن حديث عائشة عندهما (¬3) أيضا. ومن حيث عطاء مرسلا عند ابن أبي شيبة (¬4). ووجه دلالته أن المشتري شرط للبائع الفسخ في مدة مقدرة، والبائع شرط له في مقابل ذلك جانبا من الثمن، فعلى كل واحد منهما شرط، لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -يقول: " المؤمنون عند شروطهم " أي شأن من اتصف بصفة الإيمان الثبوت على ما يقبضه الشرط، وليس هذا من الشروط المحللة للحرام، أو المحرمة للحلال، بل من الشروط الجائزة الجارية على مقتضى التراضي، وطيبة النفس. وأخرج البيهقي (¬5) من حديث بن عباس أن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ¬

(¬1) في " المستدرك " (4/ 10). (¬2) في " المستدرك " (3/ 27). (¬3) أي الحاكم في " المستدرك " (2/ 49) والدارقطني في " السنن " (3/ 27رقم 99) عن عائشة مرفوعًا بزيادة: " ما وافق الحق ". قلت: وهذا إسناد ضعيف جدا، من أجل عبد العزيز بن عبد الرحمن وهو البالسي الجزري، اتهمه الإمام أحمد، وقال النسائي وغيره: ليس بثقة. ولهذا قال الحافظ في " التلخيص " (3/ 23): وإسناده واه. (¬4) مصنفه (6/ 568). قلت: وأما الموقوف فقد أخرجه البيهقي في " السنن " (6/ 56). والخلاصة أن الحديث صحيح بمجموع طرقه والله أعلم. (¬5) في " السنن الكبرى " (6/ 28).

لما أمر بإخراج بني النضير جاء ناس منهم، فقالوا: يا رسول الله إنك أمرت بإخراجنا، ولنا على الناس ديونا لم تحل، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " ضعوا وتعجلوا ". وهذا الحديث نص صريح في جواز الحط لمجرد عرض هو نفس التعجيل قبل مضي الأجل. ومسألة السؤال: العرض فيها الحط لأجل التنفيس على البائع المجعول له الخيار من جهة المشتري في تلك المدة. وقد عقد البيهقي (¬1) لذلك بابا فيمن عجل له شيء من حقه قبل محله فقبله، ووضع عنه بطيبة من أنفسهما، واستدل له أيضًا بالحديث (¬2) المتقدم، وبحديث (¬3): " من أحب أن يظله الله تعالى في ظله فلينظر معسرا أو ليضع عنه " وقال (¬4): كان ابن عباس لا يرى بأسا بأن يقول: أعجل لك وتضع عني، وذكر أن حديث بن عباس المتقدم في سنده ضعف. وعقد بابا (¬5) لعدم جواز ذلك مع الشرط، وذكر فيه حديثا عن المقداد أنه قال: أسلفت رجلا مائة دينار، فخرج سهمي في بعث بعثه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فقلت له: عجل لي بسبعين دينارا، وأحط لك عشرة دنانير. فقال: نعم. فذكر ذلك عند رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقال: " أكلت الربا يا مقداد وأطعمته " وهذا الحديث على فرض صحته يجمع بينه وبين الحديث الأول، وما يقويه بما أشار إليه البيهقي في ترجمة البابين من حمل هذا على الشرط، وحمل الأول ¬

(¬1) في " السنن الكبرى " (6/ 27 - 28). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) عند البيهقي في " السنن الكبرى " (6/ 28). (¬4) البيهقي في " السنن الكبرى " (6/ 28). (¬5) أي البيهقي في " السنن الكبرى " (6/ 28).

على عدمه، وعلى فرض عدم إمكان الجمع. فهذا الحديث لا يدل على إبطال الحط لكل غرض، وغايته عدم جواز هذا الحط الخاص لهذا الغرض الخاص في تلك المعاملة الخاصة - أعني القرض - فإلحاق سائر الأغراض به مطلقا فاسد الوضع والاعتبار في كثير من الصور، ومستلزم لإبطال الزيادة في الثمن والنقصان منه لكل غرض مطلقا؛ إذ لا فرق بين الزيادة والنقصان لأجل غرض، لكونهما جعل نصيب من المال في مقابلة غرض واللازم باطل بالإجماع، فإن جميع العلماء قائلون بأنه يجوز للإنسان أن يزيد في ثمن العين المشتراة لأجل غرض من الأغراض، ويحل البائع قبض ذلك، وكذلك أجمعوا على أنه يجوز للبائع أن يبيع بدون ثمن المثل لأجل غرض من الأغراض، ويحل للمشتري تملك العين المبيعة. وقد ثبت في مسلم (¬1)، والترمذي (¬2)، والنسائي (¬3)، وأبي داود (¬4) أنه جاء إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عبد فأسلم فجاء سيده يريده فاشتراه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بعبدين أسودين، ومعلوم أن هذه الزيادة ليست إلا لغرض له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وهو أن لا يرجعه إلى الكفار. فهذا ما خطر بالبال من الأدلة الدالة على جواز ¬

(¬1) في صحيحه رقم (1602). (¬2) في " السنن " رقم (1239). (¬3) في " السنن " (7/ 150). (¬4) في " السنن " رقم (3358). أخرجه أحمد في " المسند " (3/ 349) وهو حديث صحيح. كلهم من حديث جابر قال: جاء عبد فبايع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الهجرة ولم يشعر أنه عبد، فجاء سيده يريده. فقال له الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " بعنيه " فاشتراه بعبدين أسودين ثم لم يبايع أحدا بعد حتى يسأله: " أعبد هو ". قال القرطبي في " المفهم " (4/ 511): هذا إنما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على مقتضي مكارم أخلاقه، ورغبة في تحصيل ثواب العتق، وكراهية أن يفسخ له عقد الهجرة، فحصل له العتق، وثبت له الولاء، فهذا المعتق مولى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير أنه لا يعرف اسمه. وفيه دليل: على جواز بيع الحيوان بالحيوان متفاضلا نقدا. وهذا لا يختلف فيه.

الحط للغرض المذكور في مسألة السؤال. وأما وقع من ذلك القبيل في كلام أهل المذهب، فمنه قولهم بصحة التعجيل بشرط حط البعض، فإنه لم يقابل هذا الحط إلا مجرد التعجيل لما كان مؤجلا إلى أجل قبل حضور أجله، فما هو جوابهم في هذا جوابنا في مسألة السؤال، ومن ذلك قولهم: أنه يندب الوفاء بالشرط، ويرجع بما حط لأجله من لم يوف لديه، فإنهم إنما ابتنوا الرجوع بما وقع له الحط مع عدم الوفاء، لا إذا وقع الوفاء فلا رجوع. ومن ذلك قولهم: ويلحق بالعقد الزيادة والنقص المعلومات في المبيع والثمن والخيار فإن ظاهر ذلك جواز الزيادة والنقص مطلقا لكل غرض من الأغراض، أو لغير غرض مع أنهم جازمون بأن هذه الصورة المسئول عنها من البيع بشرط الخيار كما صرح بذلك جماعة منهم، كالسامولي في حاشيته على الأزهار، وهو الذي رجحه مشائخ المذهب المتأخرون من أهل مدينة ذمار، وصنعاء، والصغير، فقالوا إن ما جرت العادة في كثير من المحلات أن يقول البائع: بعت وأنا مقال، وكذا المشتري يقول: اشتريت وأنا مقال، أو ولي الإقالة، إلى يوم كذا، فالذي عرف من حال الناس أنهم يريدون الخيار وقد يصرحون به في بعض الألفاظ، فهذا بيع صحيح إذا كان إلى يوم معلوم، ويكون خيارا بلفظ الإقالة، لأن الإقالة إنما يكون بعد البيع، فهذا كلام شيوخنا المشتغلين بالمذهب وشيوخهم، وهو مقرر عندهم، ومختار للمذهب، لا يختلفون فيه، وإذا كانت الصورة المسئول عنها من البيع بشرط الخيار، فكيف يحسن من الحاكم المترافع إليه أن يسمع دعوى البائع بأن المشتري قد استغل من المبيع مقدار الثمن المدفوع، والفوائد في خيار الشرط لمن استقر له الملك كما صرح به أهل المذهب في المطولات والمختصرات من كتبهم، وهو الموافق للقواعد الشرعية، لأن المشتري لم يستغل إلا ملكه إذ الملك قد صار مستقرا له بعد مضي مدة الأجل، وعلى فرض أنه يصدق على الصورة المسئول عنها أنها من بيع الرجا، فأهل المذهب لا يجزمون في كل ما يسمونه بيع الرجا أنه باطل، فإنه قال السمولي في حاشيته أنه يدخل تحت قوله في ...................

الأزهار (¬1): ويلغي شرط خلافه، ولو في الصفة تعليق الإقالة برد مثل الثمن إلى المشتري، أو من يقوم مقامه، وهو بيع الرجا المعروف، فيؤخذ من هنا صحته ما لم يكن فيه ما يقتضي الربا، كأن يريد المشتري التوصل إلى الغلة فقط، ولا غرض له في أخذ رقبة المبيع انتهى. قال في شرح الفتح (¬2): فإن إلتبس القصد عمل بالعرف فإن التبس أو لا عرف حمل على الصحة، لأن العقد إذا احتمل وجهي صحة وفساد حمل على الصحة انتهى. ونقلنا عن شيوخنا عن شيخهم شيخ المتأخرين في المذهب بن أحمد الشبيبي (¬3) رحمه الله ما لفظه: يفصل في بيع الرجا فإن كان مراد المشتري الرقبة - لا غرض له إلى الغلة وحدها - فهو بيع رجا صحيح، وإن لم مراده الرقبة، بل الغلة فقط فهذا بيع الرجا الذي لا يجوز لتضمنه الربا بزيادة الغلة على الثمن. انتهى. وهذا هو المقرر عند جميع الشيوخ المشتغلين بالمذهب الآن، وشيوخهم، وعلى هذا يحمل ما رواه السائل - كثر الله فوائده - عن شرح الأثمار (¬4)، ويحمل عليه أيضًا ما في سؤالات الإمام عز الدين بن الحسن (¬5) حيث أجاب لما سئل عن بيع الرجا فقال: مذهبنا ¬

(¬1) انظر " السيل الجرار " (2/ 965). (¬2) انظر: " مؤلفات الزيدية " (2/ 169). (¬3) الحسن بن أحمد بن الحسين بن على بن يحيى بن على بن محمد بن معوضة الشبيبي الآنسي ثم الذملوي فقيه في فروع الهدوية باليمن. ولد سنة 1107هـ. من مؤلفاته " حاشية بيان ابن المظفر ". " حاشية شرح الأزهار ". توفي سنة 1169هـ. انظر: " اعلام المؤلفين الزيدية " (ص295 - 296)، ملحق البدر الطالع " (ص68). (¬4) انظر " مؤلفات الزيدية " (2/ 427 - 128) (¬5) عز الدين بن الحسن بن الإمام على بن المؤيد بن جبريل اليحيوي الهادي الحسني. ولد سنة 845هـ في هجرة فللة. من مؤلفاته: " أجوبة ومسائل ". " أصول الدين " (رسالة). مات سنة 900هـ. " أعلام المؤلفين الزيدية " (ص641). " مؤلفات الزيدية " (1/ 55).

أنه غير صحيح لوجهين: أحدهما: أنه وصلة إلى الربا المحض، فإن الغرض فيه ليس المعاوضة والتمليك، بل التوصل إلى الربح في القرض، فإن البائع إنما أراد أن يقرضه المشتري مائة درهم مثلا، والمشتري لا يسعفه إلا بفائدة وزيادة، فلما لم يجتريا على أن يقرضه درهما بدرهمين مثلا ونحو ذلك، جعلا هذا البيع وصلة لذلك، وذريعة إليه، مع التواطؤ والبناء على عدم إنفاذ الملك، وعلى أن المبيع باق على ملك البائع وهذه حيلة قبيحة توصل إلى هدم قاعدة شرعية؛ وهي تحريم الربح في القرض، فكل قرض جر منفعة حرام، ليس كالحيلة في بيع صاع من التمر الجيد بصاعين من التمر الرديء؛ إذ لم يجعل ذلك توصل إلى ربح وزيادة وفائدة مستفادة. الوجه الثاني: أنه بيع مؤقت في الحقيقة، وتقريره أنه العرف جار بأن البائع متى رد مثل الثمن استرجعه، شاء المشتري أم كره، وهو في حكم التوقيت، فتبين بهذا أن البيع غير صحيح، ومع كونه غير صحيح فلا يملك بالقبض، لأن البائع لم ينسلخ منه، ولا يحصل به تسليط للمشتري على التصرف فيه شاء، ثم إن فساده من جهة الربا في أحد الوجهين، فالأقرب أنه باطل قال: إذا عرفت ما ذكرناه فاعلم أن هذه المسألة من المعضلات المشكلات التي حارت فيها أنظارنا، ليس من جهة أنه صحيح، أو غير صحيح فقد أبنا القوى من الوجهين، بل من جهة أخرى؛ وهو أنا إن قررنا الناس على ما يعتادونه من هذا البيع، وقضينا بينهم بتنفيذه وتقريره، وألزمنا البائع تسليم الأجرة، أو الغلة، فهو بناء على غير قاعدة،

وأصول ذلك فاسدة، وإن عرفنا الناس ببطلانه وانهدام بنيانه، فقد أغرق الناس فيه، واستمروا على ما يمكن تلافيه، وكان ذلك يؤدي إلى فتح أبواب واسعة من الشجار، وإثارة فتن كبار. قال: ومن أجل الذي قوى لنا لا نحكم به، ولا نشهد فيه، ولا نحصر عليه، ولا نلزم به تسليم الأجرة، أو غلة فيه. ومن أجل خشية فتح أبواب الشجار لا يكاد يذكر مذهبنا للمتنازعين في شأنه، ولا يلزم المشتري رد ما استفاد استصلاحا، انتهي كلامه وفيه زيادة على هذا المقدار. وفى موضع آخر من فتاوى الإمام عز الدين المذكورة، ولعله من كلام محمد بن أمير المؤمنين أحمد بن عز الدين بن الحسن، وهو الجامع لتلك الفتاوى ما لفظه: بيع الرجا ليس للمؤيد بالله فيه نص، إنما أخذ من قوله: بجواز بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النسا، لأنه احتج بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " نحن نحكم بالظاهر " (¬1) فخرج له جواز هذا، وبنوا على أنه عليه السلام لا يعتبر الضمير وقد زاد المذاكرون ونقصوا، وطولوا وقصروا، وهي مسألة غير مرضية، ونحن من أشد الناس مبالغة في النهي عن هذه المسألة واعتمادها، وفى بطلان هذا البيع في جميع صوره وأساليبه، واختلاف الأعراف فيه، وتحريمه على البائع والمشتري، والكاتب والشاهد. وقد أثر ذلك في كثير من الجهات والنواحي انتهى. أقول: إذا كان بيع الرجا واقعا على الصورة الأولى التي ذكرها الإمام عز الدين من أن المقصود هو أن يريد الرجل استقراض مائة درهم من أجل، ولكن المقرض لا يرضى إلا بزيادة فيزيدان من إثم الزيادة في القرض، فيبيع منه أرضا بتلك المائة الدرهم، ويجعل له الغلة عوضا ينتفع بها عن المائة التي استقرضها، وليس المراد البيع والشراء الذي أذن الله فيه، فلا شك أن صورة هذا البيع محرمة يجب على كل مسلم ¬

(¬1) تقدم تخريجه.

إنكارها، لأنها أفضت إلى ما يحل شرعا، وهو الربح في القرض، واستجلاب النفع به. وقد منع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ من قبول الهدية ونحوها من المستقرض، فكيف بمثل الذي وقع التواطؤ من أول وهلة. اخرج ابن ماجه (¬1) عن أنس أنه سئل عن الرجل يقرض أخاه، فيهدي إليه، فقال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدي إليه، أو حمله على دابة، فلا يركبها، ولا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك ". وأخرج البخاري في تاريخه (¬2) من حديث أنس عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " إذا أقرض فلا يأخذ هدية ". عن أبي بردة بن موسي قال: قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام، فقال لي: "إنك بأرض فيها الربا فاش، فإذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير، أو حمل قت فلا تأخذه؛ فإنه ربا " رواه البخاري في صحيحه (¬3). وأخرج البيهقي في المعرفة (¬4) عن فضالة بن عبيد موقوفا بلفظ: " كل قرض ¬

(¬1) في " السنن " (2/ 813 رقم 2432). وفي إسناده يحيى بن إسحاق الهنائي وهو مجهول. انظر: " التقريب " (2/ 342رقم 13). وفى إسناده أيضًا عتبة بن حميد الضبي وقد ضعفه أحمد. والراوي عنه إسماعيل بن عياش وهو ضعيف في الشاميين وشيخه " الضبي " كوفي. انظر: " الميزان " (3/ 28رقم 5470) و" التقريب " (1/ 73رقم541). والخلاصة أن حديث أنس ضعيف والله أعلم. (¬2) (4/ 2 / 231). (¬3) رقم (3814). قال الحافظ في " الفتح " (7/ 131) عند قوله: فإنه ربا " يحتمل أن يكون ذلك رأي عبد الله بن سلام، وإلا فالفقهاء على إنه إنما يكون ربا إذا شرطه، نعم الورع تركه ". (¬4) (4/ 391):

جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا " ورواه في السنن الكبرى (¬1) عن ابن مسعود، وأبي بن كعب (¬2)، وعبد الله بن سلام (¬3) موقوفا عليهم. ورواه الحارث بن أبي أسامة (¬4) من حديث على عليه السلام بلفظ: " أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - نهي عن قرض جر منفعة " قرض جر منفعة: " كل قرض جر منفعة فهو ربا "، وفى إسناده سوار بن مصعب، وهو متروك (¬5). قال عمر به زيد في المغني (¬6): لم يصح فيه شيء. انتهى. ووهم إمام الحرمين، والغزالي فقالا: إنه صح، ولا خبرة لهما بهذا الفن وقد أجمع العلماء على تحريم الزيادة في القرض إذا كانت مشروطة، ولا يعارض هذا حديث أبي هريرة عند الشيخين (¬7) قال: كان لرجل على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ سن ¬

(¬1) (5/ 350). . (¬2) عند البيهقي في " السنن الكبرى " (5/ 349) .. (¬3) عند البيهقي في " السند الكبرى " (5/ 349 - 350). (¬4) عزاه إليه ابن حجر في " التلخيص " (3/ 80). . (¬5) انظر: " الجرح والتعديل " (4/ 271) و" الميزان: (2/ 246) و" المجروحين " (1/ 356) و" التاريخ الكبير " (4/ 169). (¬6) (1/ 290). قلت: لم يصح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الباب. وانظر: " جنة المرتاب بنقد المغني عن الحفظ والكتاب " لأبي حفص عمرو بن بدر الموصلي، تصنيف أبي إسحاق الحويني الأثري (2/ 403). وأحاديث زيادته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الوفاء وحثه على ذلك كثيرة مستفيضة كما مر، وفيها إقراره للدائن على أخذ الزيادة التي قدمتها إليه المدين وحض المدين على الزيادة في الوفاء ". (¬7) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2305) وأطرافه (2306، 2390، 2392، 2393، 2401، 2606، 2609).مسلم في صحيحه رقم (1601) والترمذي رقم (1316) و (1317) والنسائي (7/ 291رقم 4618).

من الإبل، فجاءه يتقاضاه، فقال: " أعطوه " فطلبوا سنة فلم يجدوا إلا سنا فوقها فقال: " أعطوه "فقال: أوفيتني أوفاك الله، فقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إن خيركم أحسنكم قضاء ". وما أخرجه أيضًا الشيخان (¬1) من حديث جابر قال: " أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وكان لي عليه دين فقضاني، وزادني " فإن ذلك من الزيادة بعد القضاء بطيبة النفس بلا مواطأة، ولا لطمع في التنفيس، وهي جائزة بل مستحبة كما قاله المحاملي من الشافعية (¬2)، فإذا كان المقصود بالبيع هو مجرد الزيادة على مقدار الدراهم المدفوعة بصورة الثمن من دون رغبة في المبيع أصلا، بل التوصل إلى الربح في القرض كما قال الإمام عز الدين في كلامه السابق فلا شك أن هذا ليس من البيع الذي أذن الله له، فيحكم بالبطلان، ويجب رد جميع الغلات المقبوضة إلى البائع، أو الكراء على القولين في ذلك ورد الثمن بصفقة بلا زيادة ولا نقصان (¬3) ولكن هذه صورة غير الصورة ¬

(¬1) البخاري في صحيحه رقم (2394) ومسلم رقم (71/ 715). قال ابن قدامة في " المغني " (6/ 436): كل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام، بغير خلاف، قال: ابن المنذر: " أجمعوا على المسلف إذا شرط على المستلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك، أن أخذ الزيادة على ذلك ربا " اهـ. ثم قال ابن قدامة: فإن أقرضه مطلقا من غير شرط، فقضاه خيرا منه في القدر أو الصفة، أو دونه برضاهما، جاز. (¬2) انظر: " الحاوي " (6/ 440 - 442). (¬3) قال ابن قدامة (6/ 439): وإن شرط في القرض أن يوفيه أنقص مما أقرضه، وكان ذلك مما يجري فيه الربا، لم يجز، لإقضائه إلا فوات المماثلة فيما هي شرط فيه، وإن كان في غيره، لم يجز أيضا. وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، وفى الوجه الآخر يجوز، لأن القرض جعل للرفق بالمستقرض، وشرط النقصان لا يخرجه عن موضوعه، بخلاف الزيادة. ولنا أن القرض يقتضي المثل، فشرط النقصان يخالف مقتضاه فلم يجز، كشرط الزيادة.

المسئول عنها، التي خرجنا بصحتها، ولا يقدح في هذه الصورة الصحيحة ما قاله الإمام عز الدين أن بيع الرجا مؤقت في الحقيقة، لأن البائع إذا أراد رد الثمن مثل استرجعه، رضي المشتري أم كره، لأنا نقول: هذا شأن خيار الشرط الذي ينفرد به البائع، فإنه انقضى الأجل، واختار من هو له أحد المبيع أخذه شاء الآخر أم كره، وهو صحيح لا يخالف في صحته الإمام عز الدين ولا غيره كما سيأتي. وقد قررنا فيما سلف أن بيع الرجا على الصورة المسئول عنها بيع مع خيار الشرط. وقد دلت الأدلة الصحيحة على صحة البيع الذي يقع فيه التفرق بين البائع والمشتري، وبينهما صفة خيار كما في حديث ابن عمر عند الشيخين (¬1) وغيرهما (¬2) بلفظ: " المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر، أو يكون بينهما بيع الخيار "، وفى لفظ متفق عليه (¬3): " كل بيعين، لا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع خيار ". للحديث ألفاظ أخر. في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا، إلا أن تكون صفقة خيار" أخرجه أحمد (¬4)، وأهل السنن (¬5) إلا ابن ماجه، وسيأتي حديث حبان بن منقذ، وفى الباب ¬

(¬1) البخاري في صحيحه رقم (2107) ومسلم رقم (1531) وقد تقدم. (¬2) كأبي داود رقم (3454، 3455) والترمذي رقم (1245) والنسائي (7/ 248، 249) وابن ماجه رقم (2181). انظر: الرسالة رقم (110). (¬3) البخاري رقم (2112) ومسلم رقم (45/ 1531) وقد تقدم. (¬4) في " المسند " (2/ 183). (¬5) وأبو داود رقم (3456) والترمذي (1247) والنسائي رقم (4483) وهو حديث حسن وقد تقدم.

أحاديث كثيرة. فما هو جواب عز الدين عن هذه الأدلة فهو جوابنا لأن مسألة النزاع من خيار الشرط كما قررناه. إذا تقرر هذا عرفت أن البيع المصحوب بتلك الإقالة العرفية التي هي في الحقيقة خيار شرط، إذا لم يكن المقصود منه التوصل إلى ما حرمه الله من الربا، أو القرض الذي يجر منفعة صحيح دليلا ومذهبا. فالمبادرة من بعض الحكام إلى القضاء ببطلانه عند دعوى البائع أنه باع أرضه بدون ثمنها رغبة في الالتزام وإقامة الشهادة على أن ذلك الثمن دون القيمة المثلية مجازفة، لا يقع مثلها من متورع، ولا يصدر التجاري بالحكم على القطع عندها من متشرع، لأن القضاء يذلك إن كان تقليدا فمن المقلد، فإن العلماء من أهل المذهب وغيرهم إنما أبطلوا صورة من الصور التي يقع عليها بيع الرجا عرفا، والتعميم الموجود في عبارة بعضهم، إنما هو بالنسبة إلى مواطن تلك الصورة باعتبار اختلاف الجهات والكيفيات، وإن كان اجتهادا فما المستند؟ فإنا لم نجد ما يدل على بطلان الصورة والمسئول عنها، لا في كتاب الله تعالى، ولا وفى سنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، ولا في قياس صحيح، ولا في إجماع ولا قول صاحب، بل وجدنا ما يدل على صحتها كتابا وسنة وقياسا وإجماعا كما قدمنا تحقيق ذلك. والحاصل أنا لم نؤمر بالبحث عن خفيات الضمائر، والتفتيش للقلوب عن ما لا سبيل لنا إلى معرفة حقيقته من السرائر، فإذا توقع التنازع الينا في صورة من الصور التي أذن الشارع بها كصورة السؤال، فالمتوجه علينا القضاء بصحتها حتى يقوم دليل يوجب علينا الانتقال عن الحكم بصحة هذه الصورة، لا بمجرد دعوى البائع أن المشتري لا بقصد له بهذا البيع إلا الانتفاع بالغلة في مقابل ذلك الثمن المدفوع منه، فإن هذه الدعوى مع مخالفتها لما هو الأصل والظاهر، ولما يجب علينا من تحسين الظن بالمسلمين، وحمل معاملاتهم على الصحة، ليست مما تبني على مثلها قناطر الاحكام، ويفصل بالنظر إليها ما يعرض بين المتخاصمين من الجدال والخصام، وقد نهينا عن العمل بما لا علم لنا به فيما

هو دون اقتطاع الأموال، قال الله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} (¬1)، وقال: {إن يتبعون إلا الظن} (¬2) وقال: {إن الظن لا يغني من الحق شيئا} (¬3) فلا يجوز لنا الإقدام بدون علم، أو بمجرد الظن إلا فيما أذن الشارع، لا فيما عداه، والذي تبعدنا به عند عروض الخصومات هو القضاء بما يظهر لنا في تلك الواقعة. وحيث: " نحن نحكم بالظاهر " (¬4) وإن لم يكن له أصل كما قال المزي (¬5)، والذهبي وابن كثير، ولكن لمعناه شواهد كقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إنما أقضي بنحو ما أسمع "، وهو في الصحيح (¬6). وقال البخاري (¬7) في كتاب الشهادات: قال عمر: إن ناسا كانوا يؤخذون بالوحي على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذ الآن بما يظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته ¬

(¬1) [الإسراء: 36]. (¬2) [الأنعام: 116] (¬3) [يونس: 36]. (¬4) قال العراقي في " تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في منهاج البيضاوي " رقم (78): " لا أصل له وسئل عنه المزي فأنكره ". وكذلك ابن كثير والسخاوي كما في " المقاصد الحسنة " رقم (178). وأيضا السيوطي كما في " كشف الخفاء " للعجلوني رقم (585). وانظر: " موافقة الخبر الخبر " لابن حجر (1/ 181 - 183). (¬5) انظر التعليقة السابقة. (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6967) ومسلم رقم (4/ 1713) عن أم سلمة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إنما أنا بشر وأنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع .... ". (¬7) في صحيحه رقم (2614).

يحاسبه الله في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه، ولم نصدقه، وإن قال سريرته حسنة. ورواه أحمد في مسنده (¬1) مطولا، وأبو داود مختصرا (¬2)، وهو من رواية أبي فراس (¬3) عن عمر قال أبو زرعة: لا أعرفه ولكنه قد عرفه مثل البخاري، فروي عنه ذلك في صحيحه تعليقا (¬4). ومن الشواهد أيضًا حديث أن العباس قال: يا رسول الله لقد كنت مكرها - يعني يوم بدر - فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " أما ظاهرك فكان علينا، وأما سريرتك فإلى الله ". ومنه حديث (¬5) معاتبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لأسامة بن زيد لما قتل كافرا بعد أن قال لا إله إلا الله، ظنا منه أنه قالها تقية فما زال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يكرر عليه: " كيف قتلته وقد قال لا إله إلا الله! " أو " فما تصنع بلا إله إلا الله! " وهو يقول: إنما قالها يا رسول الله تقية. فلم يسمع ذلك منه، ولا جعله عذرا له حتى تمنى أسامة أنه لم يسلم إلا في ذلك الوقت. ووقع في بعض الروايات أنه لما قال له أسامة: إنما قالها تقية قال له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " أفتشت عن قلبه " أو كما قال. ومن ذلك قضية خالد في قتله لبني جذيمة بعد أن أظهروا الإسلام، فتأول خالد في قتلهم، فلم يرض ذلك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، ووادهم " وهذه الأحاديث (¬6) موجودة في ¬

(¬1) انظر " فتح الباري " (5/ 251 - 252). (¬2) تقدم مرارا. (¬3) عزاه بن حجر في " الفتح " (5/ 251) إلى الحاكم من رواية أبي فراس عن عمر: كنا نعرفكم إذ كان فينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإذا الوحي ينزل وإذ يأتينا من أخباركم ". (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) تقدم ذكرها مرارا. (¬6) تقدم ذكرها مرارا.

كتب الحديث المعتمدة، وكتب السير، فانظر كيف اعتبرها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ في هذه الأمور ظواهر الاحوال، ولم يصده عن التمسك بالظاهر مجرد ما يعرض من الاحتمال، وهكذا يجب علينا أن نصنع فيمن عقد عقدا صحيحا، موافقا لظاهر الشرع. ولا يجوز لنا الإلتفات إلى احتمال أنه إنما فعل ذلك لغرض آخر غير مأذون به، ولا سيما إذا كان مصرحا بإرادة ذلك الظاهر وقت الخصام، متبرئا عن إرادة غيره، مما لا يخالفه، ويخالف ما أذن به الشارع، والحاكم المنور البصيرة الممد من الله بالتوفيق إذا أشكل عليه أمر فتح الله له من أبواب معارفه ما يميز به بين الحق والباطل. ولنوضح ما أسلفناه من الجزم بصحة الصورة المسئول عنها بسلوك طريقة من طرائق النظر فنقول لمن ادعى عدم صحتها: هل المانع من صحة هذه الصورة أمر يرجع إلى نفي العقد، أو إلى البائع والمشتري أو إلى المبيع، أو إلى الثمن، أو إلى شرط الإقالة، أو إلى أمر غير ذلك؟ لا جائز أن يكون المانع من الصحة أمرا راجعا إلى نفس العقد، لأنه وقع على صورة صحيحة شرعية، لأن صورة السؤال التي ذكرها السائل صحيحة مشتملة على التراضي الذي هو المناط الشرعي؛ وهو كاف. أما عند من لم يعتبر حصول العقد بلفظ: بعت، شربت أو ما يؤدي معناهما من ألفاظ مخصوصة فظاهر، وأما عند من يعتبر بعد حصول التراضي زيادة ذلك اللفظ المعتبر فالمفروض في صورة السؤال أنه وقع بينهما عقد بلفظ يقتضي التمليك، ولم أزل أبحث عن وجه اشتراط العقد في البيع، وما يماثله بألفاظ مخصوصة فلم أجد في ذلك ما يشفي، وظاهر الأحاديث والكتاب العزيز أن الشرط صدوره عن تراض، وأن التراض مستقل بانتقال الملك، والألفاظ إنما هي قرائن للرضي، ودوال عليه. وأما لفظ مخصوص من الجانبين فلا دليل عليه، وإنما قلنا كذلك لأنه قوله {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} (¬1)، وقوله ¬

(¬1) [النساء: 29].

صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس " (¬1) يدلان على استقلال مجرد الرضى، والطيبة بذلك مع تقدير أي قيد، وبعد ثبوت مطلق الحل يحتاج مدعي اعتبار لفظ خصوص إلى دليل يزيل هذا الحل، إن لم يحصل ذلك اللفظ المخصوص. نعم لابد من أمر مشعر بالرضا ن لأنه مما لا يمكن الوقوف علي حقيقته، ولكن هذا المشعر أعم من الألفاظ الخاصة التي وقع الاصطلاح على أنه لا يجزي سواها، ولو كان ذلك المشعر إشارة من قادر على النطق، أو كتابة من حاضر، وعلى مدعي الاختصاص الدليل، ولا ينفعه في المقام حديث (¬2): "إذا بعت " وحكاية مبايعته (¬3) صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ للأعرابي، وما أشبه ذلك، لأنا لا نمنع من اشعار لفظ بعت ونحوه بالرضي، وإنما نمنع دعوى التخصيص ببعض الأفراد، وقصر الدلالة والصلاحية لها على صيغ مخصوصة، ومن هنا يلوح لك بطلان قولهم: لا ربا إلا في المعطاة، وكم لهذه من أخوات تستعين بتحقيق ما ذكرنا على حلها، وأشف ما وقفت عليه من وضوح ركته من كلام المتكلمين على اشتراط العقد المصطلح عليه ما ذكره الموزعي (¬4) في " تفسير ¬

(¬1) تقدم في بداية الرسالة. (¬2) وهو حديث صحيح وقد تقدم. وانظر الرسالة (110). (¬3) تقدم ذكره. (¬4) هو الإمام العلامة جمال الدين محمد بن نور الدين الخطيب له باع طويل في علم الفقه والأصول والنحو والمعاني والبيان واللغة من كتبه: - " تيسير البيان في أحكام القرآن ". - " مصابيح المعاني في حروف المعاني ". توفى سنة 810 هـ. انظر: " طبقات صلحاء اليمن " (ص269).

البيان في أحكام القرآن " (¬1)، وهو: فإن قال قائل: فاشتراط التلفظ في البيع أمر زائد على ما ورد به القرآن الكريم؛ إذ لم يرد إلا باشتراط التراضي، ولم ترد السنة باشتراطه أيضا، ومقتضي هذا أنه يجوز بيع المعاطاة إذ دلت القرائن، وشواهد الأحوال على الرضي. قلنا: التجارة والبيع أمر معتاد في الوجود، وهو التعاوض، ثم استدل على اعتبار العقد تحديث: " لا يبيع أحدكم على بيع أخيه " (¬2) وجعله مقتضيا أن البيع هو التعاقد الناقل لملك أحدهما إلى ملك الآخر، وأن التساوم لما كان من مقدمات البيع، ولا ينعقد بمثله مع كونه بألفاظ من البائع والمشتري، أفاد اعتبار العقد ت، ثم قوى هذا بما وقع في الأحاديث من ذكر لفظ " إذا بعت " ونحو ذلك، ولا يخفى عليك أن مجرد المساومة أمر متقدم على الرضي المعتبر، فلا بد معها من أمر مشعر بالرضى، بأي صيغة كانت، والتنصيص على لفظ: " بعت " في بعض المواطن لا يستلزم الحصر في المنصوص عليه كما سلف، لا سيما بعد تطابق اللغة والشرع والعرف على تسمية هذه المعارضة بيعا، وإن وقعت بغير لفظ: " بعت " فيكون هذا هو النكتة في إطلاق مثل ذلك اللفظ بخصوصه على تلك المعاوضة. وبهذا تعرف أن كون المساومة (¬3) من مقدمات البيع لا يستلزم ما اشتملت عليه تلك الدعوى من اشتراط العقد بألفاظ مخصوصة، لأنا لم ندع أن مجرد وقوع التلافظ بين البائع والمشتري بأي لفظ كان يكفي في البيع حتى يرد علينا أنهما قد تساوما بألفاظ، ولم يكن ذلك بيعا بل قلنا: المعتبر صدور لفظ يدل على الرضا، أو ما يؤدي مؤداه من كتابة أو إشارة، وهذا أمر وراء المساومة، لأنها ألفاظ لا إشعار لها بالرضى على أنه يلزم ¬

(¬1) كذا في المخطوط وصوابه " تيسير ". انظر التعليقة السابقة. (¬2) أخرجه البخاري رقم (5142) ومسلم رقم (8/ 1412) من حديث ابن عمر وقد تقدم. (¬3) انظر " المسوى " (2/ 31). " الهداية " للمرغنياتي (3/ 21).

المستل بما وقع في الأحاديث من لفظ: " إذا بعت " (¬1)، ولفظ: " البيعان بالخيار " (¬2)، ونحو قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (¬3) لازم باطل بالإجماع، وهو أنه لا ينعقد البيع بشيء من الألفاظ غير تلك الصيغ، مع أنهم مصرحون بأنه ينعقد بكل لفظ يفيد التمليك؛ وذلك هو أعم من الألفاظ الواردة في الأدلة، فإن كان ذلك بطريق إلحاق ما لم يذكر منها بما ذكره فقد عرف النكتة في الاقتصار على تلك الألفاظ، وهي غير موجودة في كل لفظ يفيد التمليك، فهو إلحاق مع وجود الفارق، ووجوده مانع كما تقرر في الأصول. ولو سلمنا صحة الإلحاق فإن كان الجامع هو الإشعار بالرضي بالانتقال، فما وجه الاختصار على لفظ يقتضي التمليك، وجعله شرطا من القادر، فإن المشعرات أعم منه، وإن كان الجامع ما هو أخص من الإشعار بالرضى فما هو، وما الدليل عليه بعد دلالة الدليل على خلافه؟ وأما الاستدلال على العقد واشتراطه بالنهي عن بيع الجاهلية كالمنابذة (¬4) والحصاة (¬5) كما ذكر صاحب البحر فيجاب عنه بأن النهي عن بيع مخصوص من بيوعات الجاهلية، أو عن مطلق بيع الجاهلية لا يستلزم صحة صورة مخصوصة دون غيرها، بل غاية ما يلزم من ذلك تجنب تلك الصورة المخصوصة، أو مطلق الصور التي كانت تبايع بالجاهلية، ويتعين بعد ذلك المصير إلى البيع الثابت بالشرع، ولم يأت في الشرع ما يدل على اعتبار أمر زائد على الرضي، وصدور بعض المشعرات به من الشارع في تصرفاته، أو تعليماته للأمة ما يدل على أنه الفظ الذي لا يجوز غيره بإجماع من يعتد به من علماء الأصول، فالحق ما ذهب إليه أبو حنيفة (¬6) من عدم اعتبار العقد، ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) [البقرة: 275]. (¬4) تقدم تعريفهما. (¬5) تقدم تعريفهما. (¬6) انظر " الهداية " للمرغيناني (3/ 21).

ووافقه على ذلك جماعة من الفحول. ولا جائز أن يكون المانع المدعي راجعا إلى البائع والمشتري، أو إلى أحدهما، لأن المفروض في صورة السؤال أنهما مكلفان مختاران مالكان لما تصرفا به. ولا جائز أن يكون المانع راجعا إلى المبيع، لأن المفروض في تلك الصورة أنه عين يجوز التصرف فيها بالبيع ظاهرة حلال مقبوضة، موجودة، معلومة، متعرية عن سائر الأوصاف المنهي عنها، ولا جائز أن يكون ذلك المانع في الثمن، لأن المفروض في محل النزاع أنه ثمن يصبح تملكه، ووقع به التراضي بين البائع والمشتري. ودعوى البائع أنه دون ثمن المثل لا يأتي بفائدة، لإجماع المسلمين على أنه يصح البيع بدون ثمن المثلي مع التراضي عليه. وقد تقرر أنه لا غبن على مكلف، فيقال للبائع عند صدور هذه الدعوى منه: نعم بعت يا مسكين بدون ثمن المثل، فكان ماذا، وأقررت على نفسك أنك حططت ذلك المقدار القاصر عن ثمن المثل لغرض الإمهال من المشتري، والالتزام بالفسخ عند عودة الثمن والمشتري قد وفى بما تريد، وانقضت تلك المدة المتواطأ عليها، فأين أنت قبل انقضائها، وكيف طلبت الآن ما ليس لك، وفى الصيف ضيعت اللبن؟. وإن كان المانع المدعي يرجع إلى شرط الإقالة فقد قررنا فيما سلف أنها نوع من خيار الشرط، وهو مجمع على صحته. قال في البحر (¬1): فصل وخيار الشرط مشروع إجماعا لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لحبان: " لك الخيار ثلاثا " (¬2) انتهي. هذا ثابت في الصحيحين (¬3) من حديث ابن عمر وفى السنن الأربع (¬4) وأحمد من حديث أنس، وصححه الترمذي، وفى تاريخ البخاري وسنن الدارقطني، ومسند الحميدي من حديث ابن عمر أيضا. ¬

(¬1) (3/ 347). (¬2) تقدم تخريجه في الرسالة (110). (¬3) تقدم تخريجه في الرسالة (110). (¬4) تقدم تخريجه.

وقد قدمنا الاستدلال (¬1) على مشروعية بغير هذا، وإن كان المانع لأمر يرجع لغير هذه الأمور فما هو؟. فإن قلت: إنه سلف من أنه لا مقصد للمشتري إلا أن ينتفع في مقابل القرض بالغلات، من دون أن يكون مريدا التملك ذلك الشيء، ولا قاصدا لحقيقة البيع الذي أذن الله به، فقد عرفناك أن هذه الصورة خارجة عن محل النزاع، وأوضحنا أن الأصل والظاهر عدم ذلك، فأتنا ببرهان معتبر شرعا أنه لا مقصد للمشتري إلا ذلك، وأنه لم يتوصل بصورة البيع إلا إلى هذا الأمر الذي لا يجوز، ولا سبيل لك إلى ذلك إلا ما يشهد عليه من فلتات لسانه، ولا طريق لك إلى معرفة ما اشتمل جنانه، فإنه لا يطلع على في الضمائر إلا علام الغيوب، ولا سيما الرجل الذي يدعي عليه أنه غير قاصد للتملك يظهر عند الخصام غاية الحرص على تلك العين، ويبالغ في استقرار ملكه عليها كلية المبالغة، وأما مجرد رغوب المشتري في الغلات، فمثل هذا لا يعد مانعا لا عقلا، ولا شرعا، ولا عرفا، لأن حصول الغلة هو أعظم الآثار المترتبة على بيع الأراضي ونحوها، بل هي - أعني الغلة - العلة الغائبة لذلك، وهي إن تأخرت على البيع، باعتبار الحصول فهي متقدمة في التصور عند جميع علماء المعقول، فكل عاقل يتصور الفائدة المطلوبة من التصرفات وغيرها قبل الشروع في تحصيلها وإلا كان عابثا متعبا لنفسه في غير طائل، وهذا ما لا يفعله عاقل بنفسه. فأي ضير في تصور هذا المشترى لاستغلال أرضه التي ثبت ملكه عليها، ولم يبق للبائع فيها إلا خيار الشرط، وأيضا هذا الغرض مما يتصوره ويقصده كل من باع بخيار شرط في مدة محتملة، وما هو الجواب عن هذا فهو الجواب عن القصد في صورة السؤال لما قدمنا أن ذلك الالتزام خيار شرط. وقد تقرر أن الفوائد فيه لمن استقر له الملك كما سلف. قال في البحر (¬2): مسألة: والفوائد فيه - يعني ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (110). (¬2) (3/ 350).

خيار الشرط - لمن استقر له الملك، لأنها كالجزء منه، والمؤن عليه انتهى. وفى الزهار (¬1): والفوائد فيه لمن له الملك والمؤن عليه. وقد ذكرنا فيما سلف أن هذا هو الحق، ووجهه أن هذا مالك لعين بملك شرعي، وكل مالك لعين كذلك يستحق غلاتها، فهذا يستحق غلاتها، والكبرى والصغرى مجمع عليهما مع عدم المانع. وقررنا في ما سلف أيضًا أن المشتري مع إقالة عرفية مشتر مع خيار شرط، وكل مشتر مع خيار شرط يصح شراؤه، فالمشتري كذلك يصح شراؤه. أما الصغرى فلكونهما متحدين في اقتضاء توقف النفوذ والاستقرار على انقضاء المدة. وأما الكبرى فبالإجماع. ويقال أيضا: هذا مشتر بخيار شرط، وكل مشتر بخيار شرط فله الفوائد، فهذا له الفوائد. ودليل الصغرى والكبرى معلوم من القياسين الأولين. وفى هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والله ولي التوفيق انتهي. بقلم المجيب غفر الله له في شهر صفر سنة 1209 هـ. ¬

(¬1) (2/ 646 - السيل الجرار).

كشف الأستار عن حكم الشفعة بالجوار

كشف الأستار عن حكم الشفعة بالجوار (¬1) تأليف محمد بن على الشوكاني [فلله علومه ومعاليه، وصدق فراسته بمعرفة من السائل تقاصر عبارته بعانيه، فوالله لقد استقضى جميع ما مشت ظلمت البال من الإشكالات التي ما وقعت في ضمن ما حرره من المقال، ولا عجب فهذا شأن المجيب. فقد قيل: إنه كالطيب يجعل الدواء على قدر العلة وإن قصر العليل في وصف ما هو في هوله - دامت أيامه في جهة الزمان عزة لكشف مشكلاته - هو لأعين الأعيان قرة] (¬2). ¬

(¬1) هذا العنوان من المخطوط (ب) و (ج). أما عنوان الرسالة من المخطوط (أ): فهو: " كشف الأستار عن حكم شفعة الجار ". (¬2) زيادة من المخطوط (أ). والموجود على صفحة العنوان.

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " كشف الأستار عن حكم شفعة الجار ". 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين ورضي الله عن أصحابه الراشدين. وبعد: فإنه ورد هذا السؤال القوي المباني. 4 - آخر الرسالة: وسلك بما قرره في مسلك سوي، والحمد لله وأولا وآخرا. انتهى تحريره بقلم المجيب محمد بن على الشوكاني غفر الله لهما. انتهى من خطه زيد رفعة وأديم للعالمين نفعه في شهر رجب سنة 1219 هـ. 5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول. 6 - عدد الصفحات: 7 صفحات + صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 33 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

وصف المخطوط: (ب) 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " كشف الأستار عن حكم شفعة الجوار " 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين ورضي الله عن أصحابه الراشدين ". 4 - آخر الرسالة: سبحان من جعل الفضائل كلها فيه وفضله على الأقران وعليه مني ألف تحية ما غردت ورقا على الأغصان 5 - نوع الخط: خط نسخي عادي. 6 - عدد الصفحات: 12 صفحة ما عدا صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 27 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 9 كلمات. 9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني. 10 - حصلت على المخطوطة (ب) من الهند بواسطة الأخ عادل حسن أمين جزاه الله خيرا.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين (¬1) ورضي الله عن أصحابه الراشدين. وبعد: فإنه ورد هذا السؤال القوي المباني، المحكم المعاني من بعض الأعلام الضاربين في كل فن من فنون بأوفر سهم، ولفظه: " أحسن الله إليكم، ووالى أياديه عليكم، ولا زال جاركم في مرتبة علية، وعليكم [من السلام] (¬2) من التحية ما يحاكي [عرفا] (¬3) ذكي أخلاقكم السنية ذو الفهم السقيم، والفكر العليل العقيم، أشكل عليه اشتراط أهل المذهب - أقام الله قناته - ما شمس طلعت، ونسيم هب الملاصقة في سببية الجوار للشفعة فأحسنوا بيان وجهه الذي إذا اعتمد عليه كان مستندا إلى مدرك شرعي، وطريق إلى إصابة حكم الحكيم مرعي، فالسائل مراده إصابة الحق، والخلوص عما به العقاب يحلق من يلقي قول من لم يجعل الشارع قوله منهجا لمعرفة أحكامه، بل ورد التخويف في صحيح الآثار من لحق آثامه، وهل ينفق [تعليلهم] (¬4) لثبوت أصل شفعة الجار بأن بينهما اشتراكا في جزء غير منقسم، حتى لعله تفرع عليه الاشتراط المذكور على تسليم التخصيص بالمعني، فإني لم أجد تعليله في شيء مما وقفت عليه، ويفزع عليه أيضًا عدم [ثبوت] (¬5) الشفعة في الأبنية المعمورة في [عرصات] (¬6) الأوقاف، كما في حواشي شرح ¬

(¬1) في (ب) المطهرين. (¬2) زيادة من (أ). (¬3) في (ب) عرف. (¬4) زيادة من (أ. ب). (¬5) في (ب) الثبوت. (¬6) في (ب) عرصة.

الأزهار (¬1)، وهذا الإشكال جمعية بناء على أن [الشارح] (¬2) [على] (¬3) الشفعة بوصف الجار، وهو كما في القاموس (¬4) ما قرب من المنازل، والمبحث لغوي، ولا يخفي ما يصدق عليه أن الملاصقة داخل في مفهوم الجار على أنها صفة كاشفة في عباراتهم، [وشرطية] (¬5) الملاصقة في سببية الجوار أن جعل زائد [1 أ. ب] على مفهومه شرعيا وضعيا يفتقر إلى دليل شرعي. انتهى. ¬

(¬1) تقدم التعريف به. (¬2) في (جـ) الشارع. (¬3) في (جـ): علق. (¬4) (ص470). (¬5) في (ب) وشرعية.

وأقول مستعينا بالله، ومتكلا عليه: اعلم أن الأدلة [الشرعية] (¬1) الواردة في إثبات الشفعة وردت على أنحاء، فمنها ما يتضمن إثبات الشفعة بين الشركاء في الشيء المشترك كحديث جابر عند مسلم (¬2) وغيره (¬3) بلفظ: " قضى في كل شركة [1] لم يقسم ريعه، أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه " الحديث. وحديث عبادة بن الصامت: " أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قضى بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والدور " رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (¬4)، والطبراني في الكبير (¬5)، وهو من رواية إسحاق عن عبادة ولم يدركه. ومنها عند ابن ماجه (¬6) من حديث الشريد من سويد مرفوعًا بلفظ: " الشريك أحق بسقبه " (¬7). ومنها ما أخرجه الترمذي (¬8) عن ابن عباس أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ¬

(¬1) زيادة من (أ. ب). (¬2) في صحيحه رقم (1608). (¬3) كأبي داود " السنن " رقم (3514) والترمذي (1370) والنسائي (7/ 321)، وابن ماجه (2499). وأحمد (3/ 296، 372). وهو حديث صحيح. (¬4) (15/ 152 - 153 - الفتح الرباني). (¬5) عزاه إليه الهيثمي في " المجمع " (4/ 159). (¬6) في " السنن " رقم (2496) وهو حديث صحيح. . (¬7) السقب بفتح القاف، القرب وفيه لغتان السين والصاد. قال ابن الأثير في " النهاية " (2/ 377): ويحتمل أن يكون أراد أنه أحق بالبر والمعونة بسبب قربه من جاره ". قلت: وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (2258) مطولا. وأطرافه (6977، 6978، 6980، 6981). وأبو داود رقم (3516) والنسائي (7/ 320) من حديث أبي رافع وهو حديث صحيح. (¬8) في " السنن " (1371). قلت: وأخرجه الطحاوي في " شرح المعاني " (4/ 125) والدارقطني (4/ 222رقم 69) والبيهقي (6/ 109) كلهم من طريق أبي حمزة السكري عن عبد العزيز عن رفيع عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس به. قال الترمذي في " السنن " (3/ 654): " وهذا حديث لا تعرفه إلا من حديث أبي حمزة السكري وقد روى غير واحد عن عبد العزيز عن رفيع بن أبي ملكة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرسلا وهذا أصح " وقال الدارقطني: " خالفه - يعني: أبا حمزة - شعبة وإسرائيل وعمرو بن مليكة مرسلا وهو الصواب ووهم أبو حمزة في إسناده ". والخلاصة أن الحديث ضعيف والله أعلم.

قال: " الشريك يشفع والشفعة في كل شيء ". فهذه الأحاديث وما ورد في معناها ليس فيها إلا أن الشفعة ثابتة في الأشياء المشتركة. ومثلها في الأدلة الواردة في إثبات الشفعة في الشيء الذي لم يقسم، كحديث جابر عند البخاري (¬1)، وأحمد (¬2)، وأبي داود (¬3)، وابن ماجه (¬4): " أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قضى بالشفعة في كل مال لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة " وفى رواية الترمذي (¬5)، وصححها قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة "؛ فإنه يفيد أن الشفعة لا تثبت إلا مع بقاء الشركة قبل وقوع القسمة (¬6). ¬

(¬1) في صحيحه رقم (2257). (¬2) في " المسند " (3/ 296). (¬3) في " السنن " رقم (3514). (¬4) في" السنن " (2499). (¬5) في " السنن " (1370). (¬6) قال في " المغني " (7/ 435 - 436): والشفعة وهي استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه المنتقلة عنه من يد من انتقلت إليه وهي ثابتة وبالسنة والإجماع. أما السنة فقد تقدم من حديث جابر. وأما الإجماع فقد قال ابن المنذر في " الإجماع " (ص121رقم 512): أجمع أهل العلم على إثبات الشفعة للشريك الذي لم يقاسم، فيما بيع من أرض أو حائط. والمعنى في ذلك أن أخذ الشريكين إذا أراد أن يبيع نصيبه، وتمكن من بيعه لشريكه، وتخليصه مما كان يصده من توقع الخلاص والاستخلاص، فالذي يقتضيه حسن العشرة، أن يبيعه منه، ليصل إلى غرضه من نصيب بيعه، وتخليص شريكه من الضرر فإن لم يفعل ذلك، وباعه لأجنبي، سلط الشرع الشريك على صرف ذلك إلى نفسه، ولا نعلم أحدا خالف هذا. وانظر: " المفهم " (4/ 523 - 524). قال ابن قدامه في " المغني " (7/ 436): فلا تثبت إلا بشروط أربعة: 1 - أن يكون الملك مشاعا غير مقسوم، فأما الجار فلا شفعة له. وبه قال عمر، وعثمان، وعمر بن عبد العزيز، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، والزهري، ويحيى الأنصاري. وأبو الزناد وربيعه، والمغيرة بن عبد الرحمن ومالك الأوزاعي , والشافعي , وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر، قال ابن شبرمة، والثوري، وابن أبي ليلي، وأصحاب الرأي: الشفعة بالشركة ثم بالشركة في الطريق، ثم بالجوار، وقال أبو حنيفة: يقدم الشريك فإن لم يكن، وكان الطريق مشتركا. كدرب لا ينفد، تثبت الشفعة لجميع أهل الدرب الأقرب فالأقرب، فإذا لم يأخذوا، ثبتت للملاصقة من درب إلى آخر خاصة. واحتجوا بما روى أبو رافع: " الجار أحق بصقبه " تقدم. قال ابن قدامة: ولنا قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطوق فلا شفعة " تقدم تخريجه. 2 - أن يكون المبيع أرضا، لأنها التي تبقي على الدوام , ويدوم ضررها، وأما غيرها فيقسم قسمين: أ- تثبت فيه الشفعة تبعا للأرض، وهو البناء والغراس يباع مع الأرض فإنه يؤخذ بالشفعة تبعا للأرض، بغير خلاف في المذهب، ولا نعرف فيه بين من أتت الشفعة خلافا. وقد دل عليه قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقضاؤه بالشفعة في كل شرك لم يقسم، ربعة أو حائط " وهذا يدخل فيه البناء والأشجار. ب- ما لا تثبت فيه الشفعة تبعا لا مفردا، وهو الزرع والثمرة الظاهرة تباع مع الأرض. فإنه لا يؤخذ بالشفعة من الأصل. وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك: يؤخذ ذلك بالشفعة مع أصوله، لأنه متصل بما فيه الشفعة، فيثبت فيه الشفعة تبعا كالبناء والغراس. ولما أنه لا يدخل في البيع تبعا، فلا يؤخذ بالشفعة، كقماش الدار وعكسه البناء والغراس وتحقيقه أن الشفعة بيع في الحقيقة لكن الشارع جعل له سلطان الأخذ بغير رضي المشتري، فإن بيع الشجر وفيه ثمرة غير ظاهرة، كالطلع غير المؤبر، دخل في الشفعة، لأنها تتبع في البيع، فأشبهت الغراس في الأرض. وأما ما بيع مفردا من الأرض، فلا شفعة فيه سواء كان مما ينقل كالحيوان والثياب والسفن والتجارة والزرع والثمار، أو لا يقل، كالبناء والغراس إذا بيع مفردا. وبهذا قال الشافعي، وأصحاب الرأي. 3 - الشرط الثالث: أن يكون المبيع مما يمكن قسمته، فأما ما لم يكن قسمته من العقار، كالحمام الصغير والرحى الصغيرة، والعضادة والطريق الضيقة والعراص الضيقة فعن أحمد فيها روايتان: أ- لا شفعة فيه، وبه قال يحيى بن سعيد، وربيعة، والشافعي. ب- فيها الشفعة، وهو قول أبي حنيفة، والثوري، وابن سريج. وعن مالك كالروايتين، ووجه هذا عموم قوله عليه السلام: " الشفعة فيما لا يقسم " وسائر الألفاظ العامة. لأن الشفعة ثبتت لإزالة ضرر المشاركة، والضرر في هذا النوع أكثر، لأنه يتأيد ضرره. 4 - الشرط الرابع: أن يكون الشقص متنقلا يعوض، وأما المتنقل بغير عوض، كالهبة بغير ثواب، والصدقة، والوصية، والإرث، فلا شفعة فيه، في قول عامة أهل العلم. انظر مزيد من التفصيل: " المغني " (7/ 442 - 445). " المفهم " (4/ 524 - 525). " المجموع " (15/ 80).

ومنها ما ورد في إثبات شفعة الجار مقيدا بقيد اتحاد الطريق، كحديث جابر عند أحمد (¬1)، وأبي داود (¬2)، وابن ماجه (¬3)، والترمذي (¬4) وحسنه قال: قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها، وإن كان غائبا إذا كان طريقها واحدا "، وهذا لا يوجب ثبوت الشفعة في مطلق الجوار، بل في مقيده. ¬

(¬1) في " المسند " (3/ 303). (¬2) في " السنن " رقم (3518). (¬3) في " السنن " رقم (2494). . (¬4) في " السنن " رقم (1369) وقال حديث غريب. وهو حديث صحيح انظر الإرواء رقم (1540).

ومنها ما ورد في إثبات شفعة الجار مقيدا بقيد الملاصقة كحديث عمرو بن الشريد عن أبي رافع مولى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. وفى أول قصه، قال في آخرها: ولولا أني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقول: " الجار أحق بسقبه ما أعطيتها " يعني الدار، أخرجه البخاري (¬1)، وحديث الشريد بن سويد عند أحمد (¬2) والنسائي (¬3) بلفظ: قلت: يا رسول الله، أرضي ليس لأحد فيها شرك ولا قسم إلا الجوار فقال: " الجار أحق بسقبه ما كان "، ويروي " بصقبه " والسقب والصقب عند أهل اللغة القرب لكنه قيده صاحب النهاية (¬4) بالقرب الملاصق فقال: الصقب القرب والملاصقة، ويروي بالسين انتهى. وهو إمام مرجوع إليه إلى نقله في اللغة كما لا يخفى؛ فأفاد ذلك أنها لا تثبت (¬5) الشفعة إلا للجار الملاصق. ومنها ما ورد في ثبوت شفعة الجار غير مقيد بقيد، كحديث سمرة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " جار الدار أحق بالدار من غيره " أخرجه ¬

(¬1) في صحيحه رقم (2258) وأطرافه (6977، 6978، 6980، 6981) عن عمرو بن الشريد قال " وقفت على سعد بن أبي وقاص فجاء المسور ابن مخرمة فوضع يده على إحدى منكبي، إذ جاء أبو رافع مولى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا سعد ابتع مني بيتي في دارك، فقال سعد والله ما أبتاعها، فقال المسور: والله لتبتاعها، فقال سعد والله لا أزيدك على أربعة ألاف مجمعة أو مقطعة، فقال أبو رافع: لقد أعطيت بها خمسمائة دينار، ولولا أني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: الجار أحق بسقبه ما أعطيتها بأربعة آلاف وأنا أعطي بها خمسمائة دينار، فأعطاه إياها ". (¬2) في " المسند " (4/ 388، 390). (¬3) في " السنن " رقم (4703).وهو حديث صحيح. (¬4) (2/ 377). (¬5) في الهامش (أ) ما نصه: إفادة الحصر ممنوعة؛ إذ لا شيء هاهنا من أدواته كما لا يخفى والله أعلم. قد علم أنه لا شفعة في الجار غير الملاصق من الأدلة الدالة علة ذلك، بل ومن الإجماع فالحصر مستقلا ومن المقاصر إفادة حقيقته معلومه، والعجب من المعترض كيف ... عليه! هذا مع .. سيقرر المجيب أن لا شفعة للجار غير الملاصق، إلا إذا كان مشاركا طريق المشفوع لدخوله تحت الأدلة.

أحمد (¬1)، وأبو داود (¬2)، الترمذي (¬3) صححه، أخرجه البيهقي (¬4)،والطبراني (¬5) والضياء المقدسي (¬6)، وهو من سماع الحسن عن سمرة. وقد قيل: إنه لم يسمع منه شيء وقيل: لم يسمع منه إلا حديث العقيقة. وكلام الحفاظ في ذلك معروف، وهو يقدح في تصحيح الترمذي لهذا الحديث (¬7). ومنها ما ورد في إثبات الشفعة في كل شيء من غير تقييد بشركة ولا عدم قسمة ولا ملاصقة ولا جوار، كحديث ابن عباس عند البيهقي (¬8) مرفوعًا بلفظ:" الشفعة في كل شيء " (¬9) ثقات إلا أنه أعل بالإرسال. وأخرج له الطحاوي (¬10) شاهد [من حديث جابر لا بأس به] (¬11). وإذا تقرر هذا فلا شك أن حديث ابن عباس هذا أوسع معنى [وأشمل] (¬12) أفرادا من الدليل الدال على ثبوت الشفعة [لمطلق الجار] (¬13) [وهو أوسع معنى من الدليل الدال على ثبوت الشفعة لمطلق ¬

(¬1) في " المسند " (5/ 8، 12). (¬2) في "السنن " رقم (3517). (¬3) في " السنن " رقم (1368). (¬4) في " السنن الكبرى " (6/ 106). (¬5) في " الكبير " رقم (6803) و (6804). (¬6) في " الأحاديث المختارة " (1/ 204). (¬7) قلت: وهو حديث صحيح. (¬8) في " السنن الكبرى " (6/ 109) وقد تقدم وهو حديث ضعيف. (¬9) في (ب) ورجاله. (¬10) في " شرح المعاني (4/ 122) و (4/ 120) وهو حديث صحيح وقد تقدم. (¬11) زيادة (ب) و (جـ). (¬12) في (ب) وأسهل. (¬13) في (ب، جـ) للجار.

الجار] فيما كان مصاقبا له، وهو بينه وبين الدليل الدال على ثبوت الشفعة في الجوار من اتحاد الطريق عموم وخصوص من وجه فيجتمعان إذا كان الجوار جوار ملاصقة، والطريق واحدة، ويتفرقان إذا لم يوجد إلا مجرد الملاصقة، أو مجرد اتحاد الطريق، وهما أوسع معنى من الدليل الدال على أن الشفعة في الشيء الذي لم يقسم، أو في الشيء المشترك، فإن المجاورة واتحاد الطريق قد وجدت فيه مع [زيادة] (¬1) قيد الاختلاط، وعدم القسمة. ولا يخفى على بناء العام [على] (¬2) الخاص و [حمل] (¬3) والمطلق على المقيد قاعدتان متفق عليهما في جملة بين علماء الإسلام، وإن وقع [الخلاف] (¬4) في بعض الشروط والأسباب والصور فهو لا يقدح في الاتفاق على هاتين القاعدتين، فما ورد في إثبات الشفعة في كل شيء في غير تقييد بقيد، [ولا تخصيص بمخصص، وكذلك ما ورد في إثبات الشفعة للجار المطلق وكذلك [ما ورد] (¬5) في إثبات الشفعة للجار الملاصق مقيدا بقيد] (¬6) عدم وقوع الحدود، وتصريف الطرق كما في ذلك الحديث الثابت في الصحيح (¬7). وظاهر العطف اعتبار مجموع القيدين في بطلان الشفعة، فمجرد وقوع الحدود بدون تصريف للطرق لا يكون مبطلا للشفعة، ومجرد تصريف الطرق بدون وقوع الحدود الذي هو معنى القسمة لا يكون مبطلا للشفعة، فلا يكون قوله في حديث الجار إذا ¬

(¬1) زيادة من (أ). (¬2) زيادة من (ب، جـ). (¬3) زيادة من (أ، جـ). (¬4) زيادة من (جـ). (¬5) في (جـ) الاختلاف. (¬6) زيادة من (أ، ب). (¬7) تقدم تخريجه.

كانت طريقهما واحدة منافيا (¬1) لحديث: " فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة ". وقد تقرر أيضًا أن الجمع مقدم على الترجيح (¬2)، وأنه لا يصار إلى الآخر مع إمكان الأول وهي أيضًا قاعدة متفق عليها وإن [اختلفت] (¬3) في تفاصيلها، وهذه القواعد مع كونها متفقا عليها هي أيضًا مستفادة من لغة العرب التي يجب حمل [كلام] (¬4) الشارع عليها إن لم يوجد له اصطلاح شرعي يوجب الانتقال من المعنى اللغوي. وقد تقرر أن علم الفقه يمتد من اللغة العربية، بل هي غالب استمداده؛ [إد] (¬5) هو قواعد اللغة الكلية وأما ما استمداده من الكلام والأحكام فهو بالنسبة إلى استمداده من اللغة قليل جدا. فعرفت بهذا أن بناء الدليل العام على الخاص (¬6)، وحمل الدليل المطلق على الدليل المقيد (¬7)، وتقديم الجمع على الترجيح هو مقتضى لغة العرب (¬8)، ولهذا أجمع على ذلك كله [دليل] (¬9) علماء الشريعة المطهرة. فإن قيل: الدليل المصرح بأن الشفة في الشيء المشترك، وفى الشيء الذي لم يقسم هو أضيق معنى من الدليل الدال على ثبوتها، مع اتحاد الطريق، فإن الأول لا يصدق إلا ¬

(¬1) انظر " الأم " (8/ 5) و" المغني " (436 / -438). (¬2) انظر " إرشاد الفحول " (ص882). (¬3) في (ب) اختلفوا. (¬4) زيادة من (أ، ب). (¬5) في (ب): (أو). (¬6) انظر: " إرشاد الفحول " (ص107 - 110)." الكوكب المنير " (1/ 149). (¬7) تقدم ذكره. وانظر " البحر المحيط " (3/ 9). (¬8) انظر تفصيل ذلك في " الكوكب المنير " (3/ 395 - 408)، " اللمع " (ص24) , " البحر المحيط " (3/ 418). (¬9) زيادة من (جـ).

على الشيء المختلط المشاع، والآخر يصدق على [المقسوم] (¬1) إذا [اتحدت] (¬2) الطريق فهو أوسع معنى. قلت: التقيد بجموع القيدين، أعني: وقوع الحدود، وتصريف الطرق للشيء المشترك الذي لم يقسم واقع في حديث واحد كحديث جابر (¬3) المتقدم [بلفظ] (¬4): " أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة "، فهو كالبيان لمعنى القسمة المنفية في أول الحديث فكأنه جواب سؤال سائل يقول عند سماع قوله: " الشفعة في كل ما لم يقسم " ما هي القسمة؟ فأجابه بقوله: " [هي] (¬5) وقوع الحدود، وتصريف الطرق ". فإذا وجد الأمران وجدت القسمة الموجبة لعدم الشفعة، وإذا لم يوجد أو وجد أحدهما فقط لم توجد القسمة، لأن عدم تصريف الطريق يستلزم وجود الشركة فيها، ولم تقع القسمة على الكمال. وأما ما قيل: من أن قوله: " فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة " مدرج لا تقوم به الحجة فذلك مجرد دعوى لا مستند لها إلا الخيال، [والأصل] (¬6) في الكلام المرفوع عدم الإدراج، ولا يثبت ذلك إلا بدليل، ولو قرينة حال أو مقال يفيد ذلك إفادة لا تخفى، وليس هاهنا من ذلك الشيء، على أنه لو ثبت الإدراج لم يكن [ذلك] (¬7) مقيدا لمدعيه، لأنا قد بينا أن ذلك معنى القسمة المنفية في قوله: " الشفعة في ¬

(¬1) في (ب) المقسومة. (¬2) في (ب) اتحد. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) زيادة من (أ). (¬5) زيادة من (جـ). (¬6) في (جـ) فالأصل. (¬7) زيادة من (ب) و (جـ).

كل [ٌ شيء] (¬1) ما لم يقسم " فهو كالتفسير لكلام الشارع باللغة، أو بالشرع؛ فإن تفسير الصحابي مقدم على تفسير غيره، وأعظم ما يدفع دعوى الإدراج وجود هذه الزيادة في حديث غيره، ومن الغرائب استدلال الجلال في ضوء النهار (¬2) على الإدراج بعد إخراج حديث مسلم (¬3) لتلك الزيادة، فإن اقتصار بعض [الأئمة] (¬4) على بعض الحديث معروف مألوف، وناقل الزيادة التي لم تقع منافية لا ترد عليه بمثل هذا، ولا سيما وقد أخرجها البخاري في صحيحه (¬5) ومثل هذا الاستدلال الغريب ما قاله المقبلي في المنار (¬6): أن الأحاديث تقتضي ثبوت الشفعة للجار والشريك، ولا منافاة بينهما، ووجه حديث جابر بتوجيه بارد. ويجاب عنه بالاستفسار [له] (¬7) عن معنى عدم المنافاة التي قالها؟ إن قال: هي من حيث كون [معنى] (¬8) الشركة يساوي معنى الجوار من كل وجه، أو ينافيه من كل وجه [فمعلوم] (¬9) البطلان. وإن قال: هي من حيث إن أحدهما أخص من الآخر مطلقا، ولا [مقتضي] (¬10) للتخصيص ولا للتقييد، فذلك إهمال وإهدار لما ورد من قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " في كل ما لم يقسم "ومن قوله: " فإذا وقعت الحدود ¬

(¬1) زيادة من (جـ). (¬2) (3/ 1427، 1428). (¬3) في صحيحه رقم (1608) وقد تقدم. (¬4) زيادة من (جـ). (¬5) رقم (2257). (¬6) (2/ 71 - 72). (¬7) زيادة من (أ، ب). (¬8) زيادة من (أ، جـ). (¬9) في (ب) فيلزم. (¬10) في (ب) يقضي.

وصرفت الطرق "، ومن قوله: " إذا كان طريقهما واحدة ". وإن قال: بينهما عموم وخصوص من وجه، فهو [يقتضي] (¬1) المنافاة في البعض، فكيف قال: لا منافاة بينهما!. وبالجملة فهو كلام عن التحقيق بمعزل، من الصواب في جانب آخر. فإن قلت: إذا كان الجوار غير ملاصق، والطريق واحدة (¬2) فهل تثبت الشفعة أم لا؟ قلت: نعم لما قدمنا تحقيقه، إذ الاشتراك في طريق اشتراك بعض ما يعد من الشيء الذي إليه تلك الطريق، فالطريق لم يقسم وهي جزء من العين، وعدم قسمة جزء من أجزاء الشيء يستلزم عدم قسمة ذلك الشيء فقد اشتركا في [قسمة] (¬3) جزء من أجزاء الدارين، وإن لم يكونا ملاصقين، بخلاف مجرد الملاصقة بعد وقوع الحدود وتصريف الطرق، فإنه لا يصدق على ذلك أنه شيء لم يقسم، بل هو شيء مقسوم. فلم يبق سبب للشفعة، فقول السائل - كثر الله فوائده -: إنه أشكل عليه اشتراط أهل ¬

(¬1) في (ب) مقتضي. (¬2) ذهب إلى اشتراط هذا بعض العلماء قائلا بأنها تثبت الشفعة للجار إذا اشترك في الطريق. قال ابن شبرمة، والثوري، وابن أبي ليلي، وأصحاب الرأي الشفعة بالشركة ثم بالشركة في الطريق ثم الجوار وقال أبو حنيفة: يقدم الشريك فإن لم يكن وكان الطريق مشتركا، كدرب لا ينفذ، تثبت الشفعة لجميع أهل الدرب الأقرب فالأقرب، فإن لم يأخذوا، ثبتت للملاصق من درب آخر خاصة. انظر " المغني " (7/ 437)، " المجموع " (15/ 80 - 83). قال ابن القيم في " إعلام الموقعين " (2/ 150): وهو أعدل الأقوال. وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وحديث جابر هذا صريح فيه فإنه أثبت الشفعة بالجوار مع اتحاد الطريقين ونفاها به في حديثه الآخر مع اختلافهما حيث قال: " فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة " فمفهوم حديث جابر هذا هو بعينه منطوق حيث المتقدم، فأحدهما يصدق الآخر ويوافقه، ولا يعارضه ولا يناقضه، وجابر روى اللفظين فتوافقت السنن وائتلفت بحمد الله. وانظر: " الحاوي الكبير " (9/ 9 - 14). (¬3) زيادة من (أ، جـ).

المذهب للملاصقة في سببية الجوار، وأنه يريد بيان وجهه. فنقول: وجهه كنا قدمنا من حديث: " الجار أحق بصقبه أو سقبه " (¬1) وتصريح صاحب النهاية (¬2) بأن الصقب الملاصقة، ولكن قد تبين بما قدمنا أن مجرد الجوار ولو مع الملاصقة لا يتقل بالسببية لأنه إهدار للقيود الخارجة من مخرج [صحيح] (¬3). فإن قلت: هل يصدق على الشريك في الشيء أنه مجاور شريكه الآخر؟. قلت: هو باستحقاق اسم الجوار أخص من غير الشريك، لأن الجوار هو القرب، والأجزاء المختلطة متقاربة تقاربا زائد على التقارب الكائن بين الأجزاء المتميزة عن بعضها البعض بالحدود، وهذا معلوم بالحس؛ فإن جواهر الجسم التي [تركب] (¬4) منها متصلة اتصالا زائدا على جواهر تركب منها جسم آخر متصل بذلك الجسم. وإذا تقرر هذا علمت أن الجوار جنس للجميع، ويتميز أحدهما عن الآخر بقيد المخالطة أو [قيد] (¬5) الملاصقة. وقوله - كثر الله فوائده -: وهل ينفق تعليلهم لثبوت أصل شفعة الجار بأن بينهما اشتراكا في جزء غير منقسم (¬6)؟ أقول: الذي يلوح لي أن هذا التعليل لا جدوى فيه، وبيانه أنهم [إن] (¬7) أرادوا أن عدم انقسام هذا الجزء هو السبب الذي تثبت به الشفعة، فهذا رجوع منهم إلى قول من ¬

(¬1) تقدم آنفا. (¬2) (2/ 377). (¬3) في (أ، ج) (الصحيح). (¬4) في (ب) يتركب. (¬5) زيادة من (جـ). (¬6) تقدم ذكره، انظر " المغني " (7/ 437). (¬7) زيادة من (ب، جـ).

قال بعدم استقلال مجرد الجوار بالسببية، وأن الشفعة لا تثبت إلا في الشيء الذي لم [ينقسم] (¬1) بوقوع الحدود، وتصريف الطرق، وهم يخالفون في ذلك خلافا ظاهرا معروفا مشهورا، ويجعلون إثبات الشفعة بمجرد جوار الملاصقة قولا مستقلا مخالفا لقول من قال بعدم صلاحيته للسببية، ومع كونه هذا يعود على غرضهم المقصود [بالبغيض] (¬2) فهو كلام غير صحيح في نفسه، وبيانه أن يقال لهم: هل وجود هذا الجزء الذي لا [ينقسم] (¬3) في جوار الملاصقة ثابت بالشرع أو بالعقل؟ الأول: باطل لأن القسمة في الشرع وقوع الحدود، وتصريف الطرق؛ فما وقع فيه هذا كان مقسوما شرعا وإن كان متلاصقا فمجرد التلاصق لا ينافي القسمة الشرعية. والثاني: لا يفيد في محل النزاع، ولا يجدي نفعا، لأن المبحث الشرعي لا عقلي بلا خوف في ذلك، فإن إثبات أصل الشفعة إجمالا وتفصيلا شرعي محض، والكلام في أسبابها وشروطها (¬4) وضعي، والكل عن أحكام العقل بمعزل. وأما قوله -كثر الله فوائده -: ويتفرع عليه أيضًا عدم ثبوت الشفعة في الأبنية المعمورة في عرصات الأوقاف (¬5) ... إلخ. فأقول: هذا التفرع إنما يصلح لو صح أصله، ولكنه لم يصح كما عرفت فلم يصح والشركة الشرعية [موجود] (¬6) في الدور المبنية على عرضة [الغير] (¬7) إذا كان البناء بإذنه، لأنه يصدق على ................................ ¬

(¬1) في (ب) يقسم. (¬2) في (جـ) بالنقض. (¬3) في (ب) يقسم. (¬4) تقدم ذكرها. (¬5) انظر " المغني " (7/ 441 - 442). (¬6) في (ب) و (جـ) موجودة. (¬7) في (ب، جـ) للغير.

[الدور] (¬1) لمشتركة [بل] (¬2) وبين رجلين فأكثر أنها لم تقسم قسمة شرعية، وهي وقوع الحدود، وتصريف الطرق، فالسبب الذي هو الشركة، والشرط الذي هو عدم القسمة قد وجدا في الدار المبنية على تلك الصفة [فوجدا المقتضي] (¬3) وانتفى المانع. ومن زعم أنه لا شركة في الدار الموصوفة يوجب الشفعة فيقال له: إن كنت قلت هذا بالشرع فما هو؟ فليس في الشرع ما يفيد هذا لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام بل فيه ما يفيد خلافه بجميع هذه الدلالات كما لا يخفى. قوله: وهذا الإشكال جميعه بناء على أن الشارع علق الشفعة بوصف الجار (¬4) إلخ. أقول: ربما قيد به هذا المطلق من القيود كما تقدم بيانه. قوله: ولا يخفى ما يصدق عليه إن جعل الملاصقة داخلة في مفهوم الجار .. إلخ. أقول: قد قدمنا أن وصف الملاصقة في مطلق الجار لا يصلح لسببية الشفعة، لأنه لا ينافي وقوع القسمة الشرعية الكائنة بوقوع الحدود، وتصريف الطرق. وقد أوضحناه بما لا يحتاج إلى زيادة، ولا فرق بين أن تكون الصفة كاشفة أو مقيدة. فإن قلت: إذا كانت الشفعة مشروعة لدفع الضرر فهو ممكن الحصول، وإن لم يوجد ¬

(¬1) في (ب، جـ) الدار. (¬2) زيادة من (أ، ب). (¬3) في (ب) فرضا لمقتضي. (¬4) قال الشوكاني في " السيل الجرار" (2/ 721): فعرفت بمجموع ما ذكرناه أن مجرد الجوار بعد القسمة وتصريف الطرق لا تثبت به الشفعة. فالحاصل أنه لا سبب للشفعة إلا الخلطة، وهي أعم من أن تكون في أرض أو دار أو طريق أو في ساقية للشرب أو في شيء من المنقولات. وانظر: " المغني " (7/ 438). " المفهم " (4/ 527).

شيء من الأسباب التي دلت عليها الأدلة، بل وسائر الأسباب التي لا مستند للقول بها على الوجه المعتبر، فإن الجار قد يضار جاره الذي لم يشاركه في كل شيء ولا كان ملاصقا له من جهة من الجهات. قلت: لو سلمنا أنها شرعت لذلك لم يلزم إثباتها مع عدم وجود السبب الشرعي، وقد ربطها الشارع بأسباب، وقيدها بقيود يتحصل عند وجودها من الضرار زيادة على ما يتحصل [عند] (¬1) عدمها أو بعضها؛ فإن مضارة الشريك لشريكه الذي لم تقع [بينهما] (¬2) الحدود , ولا صرفت الطرق أبلغ من مضارة الجار لجاره [التي] (¬3) لا شركة بينهما في الأصل، ولا في [الطرق] (¬4)، على أن الشارع قد نهى الجار عن ضرار جاره، وتوعده، ونفى عن [الجار المضار اسم الإيمان، فقال: " والذي نفسه بيده لا يؤمن أحدكم حتى يأمن] (¬5) جاره بوائقه " (¬6). والأحاديث في هذا كثيرة جدا، فهذا النهي يكفى في مطلق الجار، ولا مانع من تخصيص الجار المخالط، وهو الشريك بحكم زائد على مجرد المنع من الضرار، وهو كون له حق يستحق به الشفعة الموجبة لمصير نصيب شريكه الذي يخشى من ضرره الخاص إليه، وهذا على تسليم أنها شرعت لذلك، وليس الأمر كذلك، فهي إنما شرعت لكون الشريك أحق بشراء نصيب شريكه إذا أراد بيعه، وأنه يجب عليه إيذانه قبل البيع، ¬

(¬1) زيادة من (ب، جـ). (¬2) زيادة من (جـ). (¬3) في (جـ) الذي. (¬4) في (ب) عدم. (¬5) زيادة من (جـ). (¬6) أخرج البخاري في صحيحه رقم (6061) ومسلم في صحيحه رقم (46). عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن " قيل من يا رسول الله؟ قال: " الذي لا يأمن جاره بوائقه ".

وعرض البيع عليه، لحديث جابر عن مسلم (¬1)، والنسائي (¬2)، وأبي داود (¬3): " أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قضى بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعها، أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، وإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به ". وأخرج البخاري (¬4) عن عمرو بن الشريد قال: وقفت على سعد بن أبي وقاص، فجاء والمسور بن مخرمة، ثم جاء أبو رافع مولى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا سعد ابتع مني بيتي في دارك، فقال سعد: والله ما أبتعها. فقال المسور: والله لتبتاعها، فقال سعد والله ما أزيدك على أربعة آلاف منجمة أو مقطعة، فقال أبو رافع لقد أعطيت بها خمسمائة دينار، ولولا أني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقول: " الجار أحق بسبقه " ما أعطيتكها بأربعة آلاف، وأنا أعطي بها بخمسمائة دينار، فأعطاها إياها. فإن قلت: ماذا لديك في جعلهم [المشرب] (¬5) والطريق سببين مستقلين؟. قلت: وقد شرطوا في ذلك الاشتراط في أصل النهر أو مجاري الماء، وفى نفس الطريق، فسببيتهما راجعة إلى سببية الشركة في الشيء الذي لم يقسم. وقد عرفت أن الاشتراك في ما هو [جزء] (¬6) للشيء اشتراك في ذلك الشيء أ فإن مجرى النهر المشترك المتصل بالأرض جزء من تلك الأرض، وكذلك طريق الأرض، أو الدار المشترك المتصلة بما هي طريق له جزء من ذلك الشيء، وقد سبب تقريره. ¬

(¬1) في صحيحه رقم (1608). (¬2) في " السنن " (7/ 321). (¬3) في " السنن " رقم (3514). وهو حديث صحيح. (¬4) تقدم آنفا. (¬5) في (أ) (للشريك). (¬6) في (جـ) جنس.

فعلى هذا لا وجه لتعديد الأسباب بأنها كذا وكذا وكذا، بل [سبب] (¬1) ثبوت الشفعة سبب واحد هو الاشتراك في شيء لم يقسم بجميع أجزائه بأن وقعت الحدود، وصرفت الطرق. وفى هذا المقدار كفاية لمن له هداية. وإلى هنا انتهى الكلام على [ما يحتاج إليه] (¬2) سؤال السائل - كثر الله فوائده - من الجواب، ولله دره فلقد جاء [السؤال] (¬3) قويا، وسلك بما قرره به في مسلك سوى، والحمد لله أولا وآخرا. انتهى [تحريره بقلم المجيب محمد بن على الشوكاني - غفر الله لهما -. انتهى من خطة زيد رفعة وأديم للعالمين نفعه في شهر رجب سنة 1219] (¬4). [وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الراشدين وسلم. ولما اطلع الفقيه العلامة على بن أحمد هاجر (¬5) على رسالة كشف الأستار في حكم الشفعة بالجوار وقال مقرضا: الله رد العلم الرباني ... الدر نجل على الشوكاني فلقد أبان من العلوم جواهرا ... تنبيك منه عن علو الشان قد أشرقت أكواننا بعلومه ... شأن البدور تضيء في الأكوان ¬

(¬1) زيادة من (ب). (¬2) زيادة من (جـ). (¬3) في (جـ) بسؤال. (¬4) زيادة من (أ). (¬5) على بن أحمد هاجر الصنعاني ولد سنة 1180هـ. ترجم له الشوكاني في " البدر الطالع " رقم (307) فقال: " وله قراءة على في علم المنطق في مدة سابقة , وهو يفهمه فهما بديعا ويتقنه إتقانا عجيبا وله قراءة أيضًا في " الكشاف " و" المطول " وفى شرحي على " المنتقى " .... وهو قوي الفهم، جيد الإدراك، صحيح التصور ". انظر " نيل الوطر " (2/ 122رقم 328)، " البدر الطالع " رقم (307)، " التقصار" (ص377).

ولأن حوى كل الكمال فإنه ... عن وصفه الجاري على الأزمان سبحان من جعل الفضائل كلها ... فيه وفضله على الأقران وعليه مني ألف ألف تحية ... ما غردت ورقا وعلى الأغصان (¬1)] [انتهى تحريره من نسخة على نسخة المصنف - عافاه الله - القاضي العلامة زينة العصر، وفريد الدهر محمد بن على الشوكاني - حفظه الله -. وكان الفراغ من رقم هذه الفائدة يوم الأربعاء، لعله رابع شهر ربيع آخر سنة اثنين وعشرين ومائتين وألف، سنة 1222 كتبه الفقير إلى ربه المعترف بذنبه الراجي عفو ربه إسماعيل بن إبراهيم بن أحسن ابن يوسف [] (¬2)] (¬3). ¬

(¬1) زيادة من (ب). (¬2) كلمات غير مقروءة. (¬3) زيادة من (جـ).

هداية القاضي إلى حكم تخوم الأراضي

هداية القاضي إلى حكم تخوم الأراضي تأليف محمد بن على الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

بسم الله الرحمن الرحيم نحمدك لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، ونصلى على رسولك وآله و، ونسلم تسليما كثيرا. وبعد: فإنه ورد إلى سؤال من العلامة المفضال صفي الكمال، حسنة الآل أحمد بن يوسف زبارة (¬1) - سدد الله أنظاره - ولفظه: ما قولكم في العروق الممتدة من أرض غيره إذا حصل ذلك؟ فهل لصاحب الأرض الممتدة إليها العروق قلعة أم لا؟ وهل لصاحب الأرض التي نشأت أصل العروق من أرضه أن يدخل إلى الأرض الممتدة إليها لقطع العروق أم لا؟ وبعد قلعها لمن يكون العرق؟ هل للذي قلعه أم لمن أصل العرق، أو لمن امتد إلى أرضه، وإذا نبت في الأرض الممتد إليها أشجار أصلها من ذلك العرق الأصلي فهل تكون تلك الأغصان لمن نبت في أرضه أو لمن العرق الأصلي في أرضه، أو لمن نبت أو بينهما، وذلك مثل شجر الكمثرى، والقرع، والآجاص، والحلال، نعم إذا كان مثل الحلال الذي إذا غرس في الأرض الحارة أهلك أودية، وامتد إلى المزارع حتى يبطلها، فهل يجوز الغرس لذلك بين الزراع؟ ويجنب الأشجار التي يضرها كالعنب أو لا يجوز؟ وإذا أهلك الوادي مثلا حتى لم ينتفع به في الزرع الموضوع له فهل يكون الغارس متعديا في السبب؟ وإذا تعدى في السبب فهل يكون حكمه ضمان نقصان الأرض؟ أو أنه يملك الأرض وتلزمه القيمة؟ أو يكون حكمه حكم الغاضب إذا غير العين إلى غرض أو إلى غير غرض، أو لا يلزمه شيء؟ فهذه الأطراف تفضلوا بالتصفح لها وما سنح من الجواب الذي يحسن السكوت عليه، ويتوجه العمل به؛ فإن هذه المسائل لا تزال تحك في الصدور، وتختلف فيها الأنظار والأعراف على مر الدهور انتهى. ¬

(¬1) تقدمت ترجته.

وأقول الجواب ينحصر في وجوه: الوجه الأول: فيما ذكره أهل علم الفروع في تخوم الأرض، وهم يريدون بالتخوم باطن الأرض لا حدودها كما سيأتي بيانه - إن شاء الله تعالى -. وعلى تحقيق هذا الوجه يتوقف جواب جميع ما سأل عنه السائل - كثر الله فوائده -. فاعلم أنه قد اضطرب كلام أئمة الفروع في ذلك غاية الاضطراب، فتارة يذكرون ما يفيد أن التخوم لا تملك بل هي حق فقط، وتارة يذكرون ما يفيد أنها تملك. فمن المواضع التي ترشدك إلى ما ذكرناه ما صرحوا به في البيع فإنهم صرحوا بأنه لا يدخل في البيع معدن ولا دفين (¬1)، وصرحوا أنه يجوز أخذ المعدن من ملك الغير، وأنه لمن أخذه لا لمالك الأرض. ووقع في كلام بعضهم التفصيل فقال: يجوز أخذ المعدن من ملك الغير إذا كان من غير جنس الأرض، لا إذا كان من جنسها، وهذا التفصيل هو الصواب. وقد أشار إليه جماعة من المحققين منهم النجري في المعيار، فكلامهم في المعدن يفيد أن تخوم الأرض لا ¬

(¬1) قال ابن قدامة في " المغني " (4/ 245 - 246): والمعادن الجامدة تملك بملك الأرض التي هي فيها، لأنها جزء من أجزاء الأرض، فهي كالتراب والأحجار الثابتة، بخلاف الركاز فإنه ليس من أجزاء الأرض، وإنما هو مودع فيها، وقد روى أبو عبيد في " الموال " (ص338 - 339) بإسناده عن عكرمة مولى بلال بن الحارث المزني، قال: اقطع رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلالا أرض كذا، من مكان كذا، إلى كذا، وما كان فيها من جبل أو معدن. قال فباع بنو بلال من عمر بن عبد العزيز أرضا، فخرج فيها معدنان، فقالوا: إنما بعناك أرض حرث، ولم نبعك المعدن، وجاءوا بكتاب القطيعة التي قطعها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبيهم، في جريدة، قال فجعل عمر يمسحها على عينيه، وقال لقيمة: انظر ما استخرجت منها، وما أنفقت عليها فقاصهم بالنفقة، ورد عليهم الفضل، فعلى هذا ما يجده في ملك أو في موات فهو أحق به. وقد روى أنها: تملك بملك الأرض التي هي فيها لأنها من نمائها وتوابعها فكانت لمالك الأرض، كفروع الشجر المملوك وثمرته. وانظر: " المجموع " (11/ 290)، " الحاوي " (6/ 212).

تملك، وهكذا كلامهم في الشفعة، فإنه ذكر جماعة من أهل الفروع منهم صاحب التمهيد والكواكب بأنه لو سبب الشفعة أرضا واجترحها السيل فلا شفعة، فإن هذا يفيد أنه قد ذهب الملك بذهاب الطبقة العليا من الأرض، وأن الذي ظهر إنما هو حق لا ملك، وهكذا ذكروا أن عروق الأشجار المغروسة في الأرض المحياة والأرض المبيعة يكون من الحقوق التابعة لها (¬1)، وهذا يفيد أن التخوم حق لا ملك. وذكروا في المسجد أن حكمه ثابت ما بقى قراره، وأنه إذا ذهب جاز بيعه (¬2). وهكذا الأرض الموقوفة (¬3) إذا ذهب قرارها جاز بيعها. وهذا يفيد أن التخوم ملك ¬

(¬1) انظر " المغني " (6/ 142). (¬2) قال النووي في " المجموع " (16/ 330): أما المسجد فإنه إذا انهدم وتعثرت إعادته فإنه لا يباع بحال لإمكان الانتفاع به حالا بالصلاة في أرضه، وبهذا، قال مالك رضي الله عنه. * وقال أصحاب أحمد: إذا تعطلت منافع الوقف كدار انهدمت أو أرض عادت مواتا أو مسجد انصرف أهل القرية عنه وصار في موضع لا يصلي فيه أو ضاق بأهله ولم يكن توسيعه في موضعه، أو تشعب جميعه فلم تمكن من عمارته ولا عمارة بعضه إلا ببيع بعضه، جاز بيع بعضه جاز بيع بعضه لتعمر به بقيته وإن لم يمكن الانتفاع بشيء منه بيع جميعه. " المغني " (8/ 220 - 221). (¬3) انظر التعليقة السابقة. قال محمد بن الحسن: إذا خرب المسجد أو الوقف، عاد إلى ملك واقفه، لأن الوقف إنما الوقف إنما هو تسبيل المنفعة، فإذا زالت منفعته، زال حق الموقوف عليه منه، فزال ملكه عنه. وقال مالك والشافعي: لا يجوز بيع شيء من ذلك لقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يباع أصلها، ولا تبتاع، ولا توهب، ولا تورث " ولأن ما لا يجوز بيعه مع بقاء منافعه، لا يجوز بيعه مع تعطلها، كالمعتق، والمسجد أشبه الأشياء بالمعتق. " المجموع " (16/ 331). قال ابن قدامة في " المغني " (8/ 221): " ولنا: ما روى أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد، لما بلغه أنه قد نقب بيت المال الذي بالكوفة، أن نقل المسجد الذي بالتمارين، واجعل بيت المال في قبلة المسجد، فإنه لا يزال في المسجد مصل. وكان هذا بمشهد من الصحابة، ولم يظهر خلافه فكان إجماعا. ولأن فيما ذكرناه استبقاء الموقف بمعناه عند تعذر إبقائه بصورته فوجب ذلك. قال ابن عقيل: الوقف مؤبد، فإذا لم يكن تأييده على وجه يخصصه استبقاء الغرض، وهو الانتفاع على الدوام في عين أخرى، وإيصال الإبدال جرى مجرى الأعيان، وجمودنا على العين مع تعطيلها تضييع للغرض. ويقرب هذا من الهدي إذا عطب في السفر، فإنه يذبح في الحال. وإن كان يختص بموضع فلما تعذر تحصيل الغرض بالكلية استوفى منه ما أمكن وترك مراعاة المحل الخاص عند تعذره، لأن مراعاته مع تعذره تفضي إلى فوت الانتفاع بالكلية، وهكذا الوقف المعطل المنافع. وانظر " المجموع " (16/ 331 - 332).

لا حق لأن، الحقوق لا يجوز بيعها، ولا يضمن متلفها ولا غاصبها وقد صرح بأن النجوم تلمك صاحب البستان في الشفعة، والمحترسي في حاشيته في الغضب عند الكلام على من حفر بئرا (¬1)، ثم طمها، وهكذا يدل على أن التخوم تلمك ما ذكروه فيمن حفر بئرا في أرض مغصوبة فزادت بها قيمة الأرض، ثم طمها فعادت قيمتها كما كانت؟ قالوا إنه يضمن زيادة القيمة ولا شك أن هذا الذي حصلت به الزيادة إنما هو الكورة، وهي التخوم. ويكمن أن يقال: إن التخوم بعد حفرها قد صارت كظاهر الأرض فزيادة الأرض مضمونة على الغاصب باعتبار ما كان قد ظهر وخرج عن كونه من التخوم. ومنهم من فصل في التخوم فقال: إنها مباحة فإن ظهرت بفعل المالك نحو أن يرفع الطبقة العليا ويعمل في الطبقة السفلة فإنها تصير ملكا، وهكذا كل طبقة تظهر بفعل المالك فإنها تصير ملكا. وأما إذا ظهرت لا يفعل المالك نحو أن يجتحف السيل الطبقة العليا فإن المالك لا يملك الطبقة السفلى. وقد أشار إلى هذا صاحب المعيار فقال: إن العلة في عدم ملك باطن الأرض أن ما يستند إلى فعل فهو باق على أصل الإباحة، انتهى. ¬

(¬1) انظر " المجموع " (8/ 368).

هذا يبني على أن المحيي إنما يملك الطبقة التي يباشرها بالعمل، فيكون المملوك ما نقله بالحرث لا ما تحته. وعلى الجملة فقد تحصل من مجموع ما ذكره أهل الفرع مما أشرنا إليه على هذا القول أنه لو اجتحف السيل الطبقة العليا، ثم حرث الطبقة السفلى غير من كان مالكا للطبقة العليا أنها تصير ملكا له، وليس لمن كان مالكا للطبقة منعة ولو كان غاصبا غصب الأرض، فنقل الطبقة العليا، ثم حرث الطبقة السفلى صار مالكا لتلك الطبقة، ولم يجز لمن كان مالكا للطبقة العليا منعه، وهكذا لا يجوز لمالك الأرض أن يمنع من أراد أن يأخذ التراب من تخوم أرضه على وجه لا يباشر الطبقة العليا، نحو أن يحفر حفرة من خارج الأرض، ثم يتناول تراب تخوم تلك الأرض حتى لا يبقى فيها إلا الطبقة العليا على فرض استمساكها بعد حفر ما تحتها. القول الثاني: أن تخوم الأرض حق لمالك الأرض، فليس لغيره أن يحييها إذا ذهبت الطبقة العليا إلا بإذن من كان مالكا لها، وكذلك ليس له أن يأخذ تراب التخوم إلا بإذن المالك، ولا فرق على هذا القول بين ما لو كانت الطبقة العليا باقية، أو اجتحفها السيل أو نقلها المالك أن الطبقة السفلى حق فقط لا يملكها مالك الطبقة العليا إلا بإحيائها. القول الثالث: إن ما تحت الطبقة العليا حق ما دامت الطبقة العليا، فإذا زالت بفعل المالك، أو بفعل غيره صارت الطبقة السفلى ملكا له، وهكذا كل طبقة من طبقات الأرض تصير مملوكه له بظهورها، وانحسار التي فوقها. القول الرابع: أن الطبقة العليا إن زالت بفعل المالك كانت الطبقة التي تحتها ملكا، وإن زالت بفعل غيره كانت حقا. وقد أشار في البحر (¬1) إلى ما يفيد هذا. ¬

(¬1) (4/ 185).

القول الخامس: أن تخوم الأرض بملك، وقد تقدمت الإشارة إلى من صرح بذلك. وقد حكي صاحب الغيث (¬1) عن أبي حنيفة (¬2) والشافعي (¬3) أن المعدن ونحوه ملك لصاحب الأرض، وكذا حكي صاحب شرح الأثمار (¬4) عنهما، وعن الناصر أن المعدن يدخل في بيع الأرض، وهذا يفيد أنهم يقولون بملك التخوم. فإن قلت إذا كان الاختلاف في التخوم على هذه الأقوال، فما هو الحق عندك؟ فإن سرد الأقوال بلا بيان لراجحها من مرجوحها لا يأتي بكثير فائدة. قلت: الراجح أن التخوم يملكها من أحيي ظاهر الأرض، وباشرها بالحرث ونحوه، وأنه لا فرق بعد مباشرة ظاهر الأرض بما يثبت به الأحياء بين الطبقة العليا، وما تحتها إلى آخر جزء من الأجزاء؛ فمن ملك ظاهر الأرض ملك باطنها بما فيه من حجارة، وأبنية، ومعادن، وغير ذلك، فلا يجوز لغيره أن يتناول شيئا من تخومها بحفر، ونقل، وغيرهما إلا برضى المالك، والدليل على هذا ما أخرجه أحمد (¬5)، والترمذي (¬6) وصححه، والنسائي (¬7)، وابن حبان (¬8) من حديث جابر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " من أحيا أرضا ميتة فهي له " وما أخرجه أحمد (¬9) وأبو داود (¬10)، ...................... ¬

(¬1) تقدم التعريف به. (¬2) انظر " المغني " (4/ 245). (¬3) انظر " المجموع " (11/ 290). (¬4) تقدم التعريف به. (¬5) في " المسند " (3/ 304، 338). (¬6) في " السنن " رقم (1379) وقال: حديث حسن صحيح. (¬7) في " السنن الكبرى " (3/ 404رقم 5756). (¬8) في صحيحه رقم (5179، 5181). وهو حديث صحيح. (¬9) (1/ 188، 189، 190). (¬10) في " السنن " رقم (3073).

والترمذي (¬1) وحسنه، والنسائي (¬2) من حديث سعيد بن زيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " من أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق "، وقد أعله الترمذي بالإرسال (¬3)، ورجح الدارقطني إرساله (¬4). وما أخرجه أحمد (¬5) والبخاري (¬6) من حديث عائشة قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " من عمر أرضا ليست لأحد فهو أحق بها ". وما أخرجه أبو داود (¬7)، والضياء في المختارة (¬8) وصححه عن أسمر بن مضرس قال: أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فبايعته فقال: " من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له ". وما أخرجه أحمد (¬9)، وأبو داود (¬10)، والطبراني (¬11)، والبيهقي (¬12)، وابن الجارود (¬13) وصححه. قال: قال رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " من أحيا أرضا ميتة فهي له ". فهذه الأحاديث تدل على أن من أوقع على الأرض ما يسمى إحياء ملك ما يصدق عليه ¬

(¬1) في " السنن " رقم (1378). (¬2) في " السنن الكبرى " (3/ 404 - 405رقم 5760 - 5762). (¬3) في "السنن " (3/ 662). (¬4) عزاه إليه ابن حجر في " التلخيص " (3/ 119). وهو حديث صحيح. (¬5) في " المسند " (6/ 120). (¬6) في صحيحه رقم (2335). (¬7) في " السنن " رقم (3071) وفيه ثلاث مجهولات. (¬8) عزاه إليه ابن في " التلخيص " (3/ 139). وهو حديث ضعيف. (¬9) في " المسند " (5/ 21). (¬10) في " السنن " رقم (3077). (¬11) في " الكبير " (7 / رقم 6863، 6864، 6865، 6866،، 6867). (¬12): في " السنن الكبرى " (6/ 148). (¬13) في " المنتقى " رقم (1015) بسند ضعيف لعنعنة الحسن البصري ولكن الحديث صحيح بشواهد والله أعلم.

لفظ الأرض، ويتناوله هذا الاسم، ولا ريب أنه يصدق على باطن الأرض كما يصدق على ظاهرها، ولم يأت في لغة العرب ولا في اصطلاحات الشريعة المطهرة أن هذا الاسم يصدق على جزء من الأرض، وهو ظاهرها دون غيره من الأجزاء. ومن زعم ذلك فقد جاء بما لا يفيده عقل ولا شرع، ولا لغة، ولا عرف عام ولا خاص. ولا يرتاب من يفهم كلام العرب أن الضمير قد عاد من قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فهي له إلى الأرض التي وقع عليها الإحياء المذكور في أول الحديث، ووزان هذا الكلام قول القائل: من دخل الدار فهي له؛ فإن هذا التركيب يفيد أن الدار بجميع أجزائها تصير ملكا للداخل بمجرد الدخول، ومن زعم أنه لا يملك إلا الموضع الذي قعد فيه من الدار، أو وضع قدمه عليه فقد أخطأ خطأ بينا، وجاء بما لا تعرفه العرب، ولا تفهمه، وهكذا قول القائل: من مثل بعبده عتق عليه؛ فإنه إذا أوقع على بدن العبد ما يصدق عليه أنه مثله صار العبد كله حرا، ومن زعم أنه لا يعتق إلا الموضع الذي وقعت فيه المثلة عليه فقد افترى على لغة العرب، وعلى قواعد الشريعة ما ليس منهما، وهكذا كل تركيب من التراكيب العربية المؤدية لمثل ما ذكرناه، وهي كثيرة لا يحيط بها الحصر، وليس المراد إلا بيان ما أردناه، وتقرير دلالة الدليل الذي سقناه على وجه لا يبقى فيه شك ولا شبهة. ومما يدل على ما ذكرناه من ملك التخوم الحديث المتفق عليه (¬1) عن عائشة أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: قال: " من ظلم شبرا من الأرض يطوقه الله من سبع أرضين "، وأخرج نحوه الشيخان (¬2) أيضًا من حديث سعيد بن زيد. وأخرجه أيضًا أحمد (¬3) ومسلم (¬4) من حديث أبي هريرة. ¬

(¬1) البخاري في صحيحه (2425) ومسلم رقم (142/ 1612). (¬2) البخاري في صحيحه رقم (2452) ومسلم رقم (137/ 1610). (¬3) في " المسند " (2/ 387 - 388). (¬4) في صحيحه رقم (141/ 1611).

وأخرجه أيضًا أحمد (¬1) والبخاري (¬2) من حديث ابن عمر. وأخرجه أيضًا ابن حبان في صحيحه (¬3)، وابن أبي شيبة في مسنده (¬4)، وأبو يعلى (¬5) من حديث يعلى بن مرة. وأخرجه أيضًا العقيلي في تاريخ الضعفاء (¬6) من حديث المسور بن مخرمة. وأخرجه أيضًا الطبراني في الكبير (¬7) من حديث شداد بن أوس. وأخرجه أيضًا الترمذي (¬8) من حديث سعد بن أبي وقاص. وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (¬9) من حديث أبي مالك الأشعري بإسناد حسن. وأخرجه أيضًا الطبراني (¬10)، وأبو يعلى (¬11) من حديث الحكم بن الحارث السلمي. وأخرجه أيضًا الطبراني (¬12) من حديث أبي شريح الخزاعي. ¬

(¬1) في " المسند " (2/ 99). (¬2) في صحيحه رقم (2454). (¬3) رقم (5164). (¬4) في مصنفه (6/ 565 - 566). (¬5) في مسنده (2/ 247رقم 948). (¬6) عزاه إليه ابن حجر في " التلخيص " (3/ 119). (¬7) (7/ 292 رقم 7170). وأورده الهيثمي في " المجمع " (4/ 176) وقال: وفيه قزعة بن سويد وثقة ابن عدي وغيره وضعفه أحمد وجماعة. (¬8) في " السنن " رقم (1269) من حديث ابن مسعود وهو صحيح. . (¬9) في مصنفة (6/ 567 رقم 2060). (¬10) في " الكبير " رقم (3172) وفى " الصغير " (2/ 152 - 153) وأورده الهيثمي في " المجمع " (4/ 176) وقال: فيه محمد بن عقبة السدوسي وثقة ابن حبان وضعفه أبو حاتم وتركه أبو زرعة. (¬11) عزاه إليه ابن حجر في " تلخيص " (3/ 119). (¬12) في " الكبير " رقم (22/ 189رقم 493). وأورده الهيثمي في " المجمع " (4/ 176) وقال: وفيه عبد الله بن شيب وهو ضعيف.

وأخرجه أيضًا أحمد (¬1) من حديث ابن مسعود. وأخرجه أيضًا الطبراني (¬2) من حديث ابن مسعود. ووجه دلالته أنه قال: " من غصب شبرا من الأرض، أو ظلم شبرا، أو أخذ شبرا أو سرق شبرا، أو أقتطع شبرا "، على اختلاف الروايات. وظاهره أنه لا فرق بين أن يكون المغصوب من ظاهر الأرض أو باطنها، ومن زعم أنه مختص بالظاهر دون الباطن فقد جاء بما لا تحمله لغة العرب، وخالف ما يدل عليه التركيب بلا دليل من عقل ولا نقل، ومما يوضح هذه الدلالة، ويمنع أن يراد بها خلاف ظاهر ما ذكر في الحديث من تطويقه من سبع أرضين إن حمل على معناه الحقيقي. قال الحافظ بن حجر في فتح الباري (¬3): إن الحديث يدل على أن من ملك أرضا ملك أسفلها إلى منتهى الأرض، وله أن يمنع من حفر تحتها سربا أو بئرا بغير رضاه، وأن من ملك ظاهر الأرض ملك باطنها بما فيه من حجارة، وأبنية، ومعادن، وغير ذلك، وأن له أن ينزل بالحفر ما شاء ما لم يضر بمن جاوره، انتهى. إذا تقرر لك بهذا رجحان ما رجحناه من أن التخوم بالمعنى الذي أراده أهل الفروع تملك بالإحياء لظاهر الأرض عرفت الجواب عن جميع ما أورده السائل - كثر الله فوائده - من تلك المسائل كما سيأتي. ¬

(¬1) (1/ 416رقم 3946 - شاكر) بإسناد صحيح. (¬2) في الكبير رقم (10516) وأورده الهيثمي في " المجمع " (4/ 174 - 175) وقال: رواه أحمد والطبراني في " الكبير " وإسناد أحمد حسن. (¬3) (5/ 105). وقال القرطبي في " الفهم " (4/ 535): وقد استدل بعضهم به: على أن من ملك شيئا من الأرض ملك ما تحته مما يقابله، فكل ما يجد فيه من معدن، أو كنز فهو له. وقد اختلف في ذلك في المذهب فقيل ذلك وقيل هو للمسلمين. وعلى ذلك فله أن ينزل بالحفر ما شاء ما لم يضر بمن يجاوره. وكذلك أن يرفع في الهواء المقابل لذلك القدر من الأرض من البناء ما شاء ما لم يضر بأحد، فيمنع.

الوجه الثاني: من الوجوه التي اشتمل عليها الجواب هو إيضاح معنى التخوم لغة واصطلاحا: أما في اللغة: فقال في القاموس (¬1): التخوم بالضم الفصل بين الأرضين من المعالم والحدود المؤنثة، والجمع تخوم أيضًا وتخم كعنق، والواحد تخم بالضم، أو تخومة، وبفتحها وأرضنا تتاخم أرضك تحادها. انتهى. وقال في النهاية (¬2): " ملعون من غير تخوم الأرض "، أي معالمها وحدودها، واحدها تخم. قيل: أراد بها حدود الحرم الخاصة. وقيل هو عام في جميع الأرض، وأيراد المعالم التي يهتدي بها في الطريق. وقيل: هو أن يدخل الرجل في ملك غيره فيقتطعه ظلما. ويروي تخوم بفتح التاء على الإفراد، وجمعه تخم بضم التاء والخاء انتهى. وقال في المصباح (¬3): التخم حد الأرض، والجميع تخوم مثل فلس وفلوس. وقال ابن الأعرابي (¬4) وابن السكيت (¬5): الواحدة تخوم، والجمع تخم مثل رسول ورسل، والتخمة وزان رطبة، والجمع بحذف الهاء، والتخمة لغة، والتاء مبدلة من واو لأنها من الوخامة، واتخم على افتعل، وتخم تخما من باب تعب لغة انتهى. إذا عرفت هذا علمت أن إطلاق التخوم على باطن الأرض لم يرد في لغة العرب، بل هو اصطلاح لجماعة من المصنفين في علم الفروع، كما وقع في المؤلفات الفروعية التي قدمنا النقل عن بعضها. الوجه الثالث: من الوجوه المشتملة على الجواب. اعلم أنا قد قدمنا في الوجه ¬

(¬1) (ص1399). (¬2) (1/ 183 - 184). (¬3) (ص28). (¬4) عزاه إليه صاحب " المصباح المنير " (ص28). (¬5) عزاه إليه ابن منظور في " اللسان " (2/ 21).

الأول الجواب عن مسائل السؤال إجمالا، لأنها جميعها ترجع إلى مسألة كون التخوم ملكا أو حقا على ذلك التفصيل السابق في تلك الأقوال، وها نحن الآن نجيت عن كل مسألة من مسائل السؤال على طريق التفصيل فنقول: أما سؤاله - كثر الله فوائده - عن العروق الممدة من أرض الغارس إلى أرض غيره إذا حصل ذلك، فهل لصاحب الأرض الممتدة إليها العروق قلعها أم لا؟. أقول: لصاحب الأرض قلع العروق التي تمتد إلى تخوم أرضه (¬1)، أما عند من يقول إن التخوم تملك كما هو الراجح فالأمر في ذلك ظاهر، لأن الإجماع قائم على أن للمالك أن يدفع ما يرد إلى غير ملكه بغير إذنه، سواء كان يضر بها أم لا، وأما على قول من يقول: إن التخوم حق لا ملك فكذلك لصاحب الأرض أن يقلع العروق الممتدة إلى تخوم أرضه، لن لصاحب الحق أن يمنع الغير من الانتفاع بما له فيه حق كما قالوا في التحجر، وله متعة ما حاز. وأيضا هاهنا وجه دقيق لطيف مسوغ لقطع العروق على جميع الأقوال، وهو أن مالك الأرض عند حفره للعروق التي يريد قطعها السارية من ملك غيره إلى تخوم أرضه قد صار بذلك الحفر مالكا لجميع ما يحفره، فعند انتهائه إلى العروق صار مالكا للتخوم التي انتهى حفره إليها، فهو عن قلع تلك العروق قلعها عن ملكها، وإن كان قبل الحفر حقا على قول من قال: بأن التخوم حق لا ملك. ولا يثبت لصاحب العروق الممتدة إلى أرض غيره بمجرد امتدادها إلى التخوم، لا حق ولا ملك، لأن مجرد امتدادها ليس بإحياء، وهو ظاهر، ولا تحجر لأنه إنما يكون بفعل الفاعل، وامتداد العروق لا فعل له فيه، ولو فرضنا أنه أثر فعله لكان ثبوت الملك أو الحق لصاحب الأرض مانعا من إحيائها وتحجرها. وقد تقرر أنه لا يجوز إحياء (¬2) ما ¬

(¬1) انظر " المغني " (8/ 157 - 158). (¬2) انظر " الحاوي الكبير " (9/ 354). " المغني " (8/ 156 - 157).

هو حق من حقوق الأرض لغير مالكها كالمراهق التي ينصب منها السيل إلى الأرض، فلا يجوز للغير أن يحرثها أو يفعل فيها فعلا يعد إحياء، ويتأثر على ذلك الفعل انصباب الماء إلى غير المحل الذي كان ينصب إليه، مع أنه لم يكن لصاحب هذا المحل إلا مجرد حق، وهكذا لو كان الرجل يستحق المرور من موضع مخصوص فليس لغيره أن يجعل في ذلك الموضع ما يمنع المرور لا بإحياء ولا بغيره، مع أنه ليس هاهنا إلا مجرد حق لا ملك، فهكذا لا يثبت لصاحب العروق حق، ولا ملك في التخوم المستحقة لغيره، أو المملوكة على القولين، وهكذا يجوز لصاحب الأرض أن يحفر خندقا ما بين أرضه وأرض شريكه الذي يخشى سريان عروق غروسه إلى تخوم أرضه إن كان بينهما موضع غير مملوك، ويصير بذلك الحفر مالكا، لأنه إحياء، فإذا قطع ما امتد من العروق فهو قطعه عن ملكه ولا خلاف في جوازه، وهكذا إذا جعل الخندق فيما هو من جملة أرضه فهو يسوغ له قطع العروق بالأولى، ويمكن أن يستدل على هذه الجملة بعموم الحديث: " ليس لعرق ظالم حق " وقد أخرجه أبو داود (¬1)، والدارقطني (¬2)، وغيرهما (¬3). قال السائل - عافاه الله -: وبعد قلعها لمن يكون العروق؟ هل للذي قلعها أم لمن له أصل العرق، أو لمن امتد إلى أرضه؟. أقول: بل يكون لصاحب الغروس، لأنها لا تخرج عن ملكه بدخولها فيما هو حق أو ملك غيره، كما لا تخرج الأغصان عن ملك صاحبها بامتدادها على الهوى المستحق للغير، أو انبساطها على الأرض المملوكة للغير. ولا فرق بين حق، وحق ملك، وملك. ¬

(¬1) في " السنن " رقم (3073). (¬2) في " السنن " (3/ 35رقم 144). (¬3) كالترمذي رقم (1378). عن سعيد بن زيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أحيا أرضا ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حقا ". وهو حديث صحيح.

قال السائل - عافاه الله -: وإذا نبت في الأرض الممتدة إليها أشجار أصلها من ذلك العرق الأصلي، فهل تكون الأغصان لمن نبتت في أرضه، أو لمن العرق الأصلي في أرضه، أو لمن نبت أو بينهما؟ وذلك مثل شجر الكمثرى والقرع والآجاص والحلال. أقول: هذا يمكن تنزيله على ما قيل فيمن بذر ببذر يملكه في أرض الغير (¬1)، والكلام في ذلك معروف، والذي ينبغي التعويل عليه أن يقال: العرق الذي امتد لم يخرج بمجرد الامتداد عن ملك مالكه، سواء بقى في التخوم أم ظهر على وجه الأرض ونبت، ولكن صاحبه قد شغل أرض غيره به، فإنه به صاحب الأرض وتركه، ولم يقلعه، فيمكن أن يقال: إن ذلك يجري مجري الرضا، ويمكن أن يقال: أنه يلزم صاحب العرق أجرة ما شغله من تلك الأرض بنبات العرق فيه، سواء كان صاحب الأرض قد علم به وتركه، أم لم يعلم، وهذا هو الظاهر. قال السائل - كثر الله فوائده -: نعم وإذا كان مثل الحلال الذي إذا غرس في الأرض الحارة أهلك أودية، وامتد إلى المزارع حتى يبطلها، فهل يجوز الغرس لذلك بين المزارع، وتجنب الأشجار التي يضرها كالعنب أو لا يجوز؟ وإذا أهلك الوادي مثلا حتى لم ينتفع به في الزرع الموضوع له، فهل يكون الغارس متعديا في السبب؟ وإذا تعدى في السبب فهل يكون حكمة ضمان نقصان الأرض؟ أو أنه يملك الأرض وتلزمه القيمة، أو يكون حكمه حكم الغاصب إذا غير العين إلى عرض، أو إلى غير عرض، أو لا يلزمه شيء؟. أقول: قدمنا الكلام في جواز قطع العروق لصاحب الأرض التي امتدت إلى ملكه، وهاهنا سئل السائل - عافاه الله - عن حكم الشجر التي يمتد عروقها وأصولها وتسري في العادة إلى ما هو خارج عن المكان الذي غرست فيه كالحلال، هل يجوز غرسه والحال ¬

(¬1) قال ابن قدامة في " المغني " (7/ 356 - 366):أنه إذا غرس في أرضه بغير إذنه، أو بني فيها، فطلب صاحب الأرض قلع غراسه أو بنائه، لزم الغاصب ذلك. ولا نعلم فيه خلافا. وانظر: " المجموع " (14/ 369).

هذه، أو يمنع الغارس له في ملكه من غرسه، لأنه يسري عادة، وينبت بعضه في إثر بعض من دون تنبيت حتى يغلب أرض الغير؟ والظاهر من الأدلة القاضية بالمنع من الضرار لا سيما للجار أنه يمنع المالك من غرس ما يضر بجاره؛ فإن الأدلة الدالة على أن لكل مالك أن ينتفع بملكه كيف شاء مخصصة بالأدلة الدالة على المنع من الضرار، فإنها أخص منها مطلقا ن وبناء على العام على الخاص (¬1) واجب باتفاق من يعتد به من أئمة الأصول، ولا سيما مع جهل التاريخ، فإنه في حكم الخاص المقارن أو المفارق بمدة لا تتسع للعمل، بل قد حكى بعض أئمة الأصول أنه وقع الإجماع (¬2) على البناء مع جهل التاريخ، ومن جوز الإضرار بالجار عملا بالأدلة الدالة على جواز الانتفاع بالملك، فقد أهدر الأدلة الخاصة، وقدم عليها الأدلة العامة مطلقا، فعكس قالب الاستدلال، وخالف في تفريعه التأصيل، وأهمل رد الفعل إلى الأصل المتفق عليه. وقد تقرر أن ما خالف من الفروع الدليل، ولم يناسب تفريعه التأصيل غير معمول به، ولا مرجوع إليه، فهذا أصل يجب العمل به والتعويل عليه، وهو يفيد أن كل ما كان ذريعة من ذرائع الضرار فالواجب دفعه ومنعه، لا يقال: إن منع المالك من الانتفاع بملكه ¬

(¬1) الكوكب المنير " (3/ 382 - 383)، " المسودة " (ص134). (¬2) إذا ورد عن الشارع لفظ عام ولفظ خاص، قدم الخاص مطلقا أي سواء كانا مقترنين. وعن الإمام أحمد رواية في غير المقترنين موافقة لقول أكثر الحنفية المعتزلة وغيرهم، أنه إن تأخر العام نسخ، وإن تأخر الخاص نسخ من العام بقدره ن فعلى هذا القول، إن جهل التاريخ وقف الأمر حتى يعلم. وقد اشترط الحنفية في التخصيص شروطا أهمها: أن لا يتأخر المخصص وأن يكون المخصص مستقلا بالكلام، وأن يكون متصلا في الوقت ذاته بالنص العام، وإلا كان نسخا لا تخصيصا، وقال بعض الظاهرية؛ يتعارض الخاص والعام مطلقا، وقال بعض المعتزلة وبعض الحنفية وهو رواية عن أحمد: أنه إن جهل التاريخ فيقدم الخاص. " التبصرة " (ص151)، " اللمع " (ص20).

فيه إضرار به، والإضرار ممنوع، فكما لا يجوز الإضرار بجاره لا يجوز الإضرار به، فإن منعه من الانتفاع بملكه إضرار به، لأنا نقول: إنما يكون إضرارا به لو فرضنا أنه يمكنه الانتفاع بملكه بوجه من الوجوه إلا بإضرار جاره، وليس الأمر كذلك فإنه يمكن الانتفاع بالملك بمنافع عدة، كالزرع، وغرس ما لا يضر من الغروس. وعلى فرض أنه لا يمكن الانتفاع به إلا بذلك الوجه الذي يضر بجاره فهاهنا قد تعارض أمران: أحدهما: جلب مصلحة المالك. والثاني: دفع المفسدة عن الجار. ودفع المفاسد أهم من جلب المصالح وأقدم، كما تقرر في الأصول، فإنه لا يلتفت إلى جلب المصلحة إلا إذا كانت خالية عن مفسدة، لا إذا كانت مشوبة بها؛ فلا يجوز تسويغها، ولكن هذا الأمر الذي ذكرناه وهو منع الغارس من غرس ما يضر بجاره مبني على أنه لا يمكن دفع الضرر إلا بترك الغرس، أما لو أمكن دفعه بأن يجعل الغارس خندقا في ملكه يمنع سراية أصول الغروس وفروعها، أو بأن يعمر جدارا مثلا من حجر، ويحفر لأساس البناء مقدارا يمنع من السراية فهاهنا قد اندفع الضرار، فيجوز الغرس. أما لو كانت الأرض لا ينتفع بها إلا بالغرس فقط، ولا يمكن الانتفاع بها بغيره فلا ضرار ممن غرس في أرضه، لأنه وإن كان سيسري من عروق غروسه إلى أرض جاره فقد يسري إلى أرضه من عروق غروس جاره مثل ما يسري إلى أرض الجار فلا إضرار. فإن كانت الأرض تصلح للغرس ولغيره يتمكن اعتبار الأغلب، فإن كان الأغلب في تلك الأرض من المالكين لها هو الغرس لا يمنع الغارس، لأنه جرى على حكم الغالب، ومن جرى على ذلك لم يكن متعديا، والذي لم يجر على الغالب كمن يزرع ملكه في أرض تعتاد الغرس فقد رضي بإدخال الضرر على نفسه، فأما دفع ما يسري إلى ملكه بأن يجعل لنفسه خندقا، أو جدار في ملكه يمنع من سريان العروق إليه، أو صبر على ما يرد على أرضه من ذلك، أو جرى عليه حكم الغالب، وترك زرع أرضه، ويغرسها كغيره.

فإن لم يكن ثم غالب بل الأرض تصلح لهذا ولهذا، والبعض منها مغروس، والبعض مزروع، فإن كان غرس الغارس متقدما على إحياء الأرض التي لجاره فالغارس ليس بمضار جاره، وإن لم يكن الغارس متقدما فهذا من مواضع النظر للحاكم، وربما يختلف باختلاف الأحوال، واختلاف الأشجار التي تغرس؛ فإن بعض المواضع قد تضرها الغروس التي تغرس بالقرب منها، وبعضها لا تضرها، وبعض الغروس قد يضر ما هو مجاور له من الأرض وبعضها لا يضر. وبالجملة فهذه الشريعة الغراء من عرفها حق معرفتها وجدها مبنية على جلب المصالح ودفع المفاسد. وقد ورد مما يدل على هذا من كليات الشريعة وجزئياتها ما لو جمع لكان في مصنف مستقل. وما أشار إليه السائل - كثر الله فوائده - من أنه إذا امتدت الغروس على أرض الغير حتى بلغ الحال لا يمكن الانتفاع بالأرض في الزرع ... إلى آخر ما ذكره. فنقول: حكم هذا حكم من غرس غروسا في أرض الغير (¬1) غصبا، فإن المتوجه قلع الغروس؛ إذ: " ليس لعرق له ظالم حق " (¬2)، وعلى صاحب الغروس أجرة الأرض للمدة التي شغلها فيها بالغروس، وإن لم ينتفع، وإذا حصل في الأرض نقص بالغرس فعليه أرش النقص، وليس هذا من باب الاستهلاك الحسي، ولا الحكمي، ولا من باب التغير إلى غرض أو إلى غير غرض. وفى هذا المقدار كفاية، والله ولي التوفيق. حرر المجيب محمد بن على الشوكاني - غفر الله لهما - في ليلة من ليال شهر القعدة سنة 1217. ¬

(¬1) تقدم ذكره. (¬2) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.

سؤال وجواب عن أرض مشتراة من جماعة ولها مسقى في أرض مستوية كالأرض المشتراة

بسم الله الرحمن الرحيم (118) 31 - /1 سؤال وجواب عن أرض مشتراة من جماعة ولها مسقى في أرض مستوية كالأرض المشتراة. وفيه أشجار طلح كبار لها مدة مديدة وصرح في بصائر الشراء بدخول المساقي والسواقي وما يتبع المبيع عرفا وشرعا. فادعى البائعون للأرض أن أشجار الطلح غير داخلة في المبيع فهل تستحق هذه الدعوى إجابة أم لا؟ تأليف محمد بن علي الشوكاني و علي بن هادي عرهب حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " سؤال وجواب عن أرض مشتراة من جماعة ولها مسقى في أرض مستوية كالأرض ... ". 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم. سؤال عن أرض مشتراة من جماعة ولها مسقى في أرض مستوية كالأرض المشتراة ". 4 - آخر الرسالة: " ... فقاطعهما بغير إذن المشتري غاصب مغير يتبعه حكم ضامن للمشتري مان الغاصب المعتدي، والله جل جلاله أعلم. انتهى من خطه." 5 - نوع الخط: خط رقعي جيد. 6 - عدد الصفحات: 4 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 27 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم سؤال عن أرض مشتراة من جماعة ولها مسقى في أرض مستوية كالأرض المشتراة، وفيه أشجار طلح كبار لها مدة مديدة وصرح في بصائر الشراء بدخول المساقي والسواقي وما يتبع المبيع عرفا وشرعا فادعى البائعون للأرض أن أشجار الطلح غير داخلة في المبيع. فهل تستحق هذه الدعوى إجابة أم لا؟ لأنه تقدم ما يكذبها وهو مصادقتهم بالبيع وهي داخلة في المبيع تبعا كما نص الأئمة عليهم السلام عليه من دخول المساقي والسواقي تبعا، .. ونابت تبقى سنة فصاعدا والطلح مما ينبت عادة وعرفا ثم إن البائعين أقدموا إلى قطع تلك الأشجار فهل قطعهم لها غصب يستحقون عليه العقوبة والغرامة بأوفر القيم. وهل ثمة نص لأئمة أهل بيت النبوة عليهم السلام يخالف تصريحهم بدخول ما ذكر تبعا للمبيع وعل لقول من قال أنه مباح يشترك فيه الناس كالثابت في المباح وجه في الشرع الشريف أفتونا مأجورين جزاكم الله خيرا.

أجاب القاضي العلامة محمد بن علي الشوكاني حماه الله تعالى بما لفظه: لا شك ولا ريب أن المذكور إن كان نابتا في المواضع الداخلة تبعا للملك المصرح بدخولها في المبيع فلا يقبل من البائع دعوى عدم الدخول إلا أن يقيم على عدم الدخول برهانا صحيحا راجحا فذاك وهذا معروف مألوف في كلام أهل المذهب وغيرهم لا ينكره من له أدني اطلاع. وإذا تقرر بطلان الدعوى ودخول ذلك النابت في المبيع فصاحب الأرض المشتري لها قد صار مستحقا له (¬1) ومقدما على غيره. وهذا مصرح به في مطولات كتب المذهب ¬

(¬1) قال الشافعي: " كل أرض بيعت فللمشتري جميع ما فيها من بناء وأصل. " مختصر المزني " (ص79). قال الماوردي في "الحاوي" (6/ 210 - 212): أن من باع أرضا ذات بناء وشجر، لم يخل حال ابتياعه من ثلاثة أحوال: 1 - إما أن يشترط دخول البناء والشجر في البيع لفظا فيدخل. 2 - إما أن يشترط خروجه لفظا فيخرج. 3 - إما أن يطلق العقد ويقول: ابتعت منك هذه الأرض، فنص الشافعي في البيع: أن ما في الأرض من بناء وشجر يدخل في البيع. ونص في الرهن: أن ما في الأر من بناء وشجر لا يدخل في الرهن فاقتضى لاختلاف نصه في الموضعين -البيع والرهن- أن اختلف أصحابنا في المسألتين على ثلاث طرق: أ - الأولى: وهي طريقة أبي الطيب بن سلمة وابن حفص الوكيل، فقد خرج المسألة على قولين: 1 - أن البناء والشجر لا يدخل في البيع ولا في الرهن جميعا، كما لا تدخل الثمرة المؤبرة في البيع ولا في الرهن. 2 - أن البناء والشجر يدخل في البيع والرهن جميعا، بخلاف الثمرة المؤبرة. لأن الثمرة المؤبرة تستبقي مدة صلاحها ثم تزال عن نخلها وشجرها، فصارت كالشيء المتميز، فلم تدخل إلا بالشرط، والبناء والشجر يراد للتأبير، والبناء يجري مجرى أجزاء الأرض فصار داخلا في العقد. ب - الطريقة الثانية: وهي طريقة أبي العباس: وهو أنه جعل اختلافه اختلاف نصه في الموضعين على اختلاف حالين: فجعل ما نص دخول ذلك البيع محمولا على أنه لو قال: بعتك الأرض بحقوقها، يدخل في البيع البناء والشجر لأنه من حقوق الأرض ولو قال مثله في الرهن لدخل. وجعل ما نص عليه من خروج ذلك من الرهن محمولا على أنه قال: رهنتك الأرض ولم يقل بحقوقها، فلم يدخل في الرهن البناء والشجر لأنه أطلق، ولو فعل مثله في البيع لم يدخل ولا فرق بين البيع والرهن. ج - الطريقة الثالثة: وهي طريقة أبي إسحاق المروزي، وأبي علي بن هريرة وجمهور أصحابنا: أبي احملوا جوابه في كل واحد من الموضعين على ظاهره وجعلوا البناء والشجر داخلا في البيع بغير شرط، ولم يجعلوه داخلا في الرهن إلا بالشرط، وفرقوا بين البيع والرهن بفرقين: 1 - أن عقد البيع يزيل الملك، فجاز أن تكون ما اتصل بالمبيع تبع له لقوته وعقد الرهن يضعف عن إزالة الملك، فلم يتبعه ما لم يسمه لضعفه. 2 - أنه لما كان ما حدث في البيع للمشتري، جاز أن يكون ما اتصل به ثم قبل المشتري، ولما كان ما حدث في الرهن، لا يدخل في الرهن، اقتضى أن يكون ما تقدم الرهن أولى أن لا يدخل الرهن. والثابت في الصحيح من القول: أن البناء والشجر يدخل في البيع فكذا كل ما كان في الأرض متصلا بها من مسمياتها سواء أكان آجرا أو حجارة أو ترابا وكذا تلال التراب التي تسمى بالبصرة جبالا، وجوخاتها، وبيدرها وقدرها. والحائط الذي يحفرها وسواقيها التي تشرب الأرض منها وأنهارها التي فيها وعين الماء إن كانت فيها فإنه يملكها. انظر: "المغني" (6/ 142)، "المجموع" (11/ 245 - 253)، "الوسيط في المذهب" (3/ 169 - 171).

ومختصراته وصرحوا أيضًا بأنه لا يحل لأحد أن يأخذه بغير رضاه وقد دل على هذا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "من سبق 'لى ما لم يسبق إليه [2أ] فهو له" أخرجه أبو داود (¬1) وصححه المقدسي (¬2). وهذا إذا حصل مجرد السبق بالتحجر فكيف إذا كان الموضع مسبوقا إليه من أزمان ¬

(¬1) في "السنن" رقم (3071). (¬2) عزاه إليه ابن حجر في "التلخيص" (3/ 129) من حديث أسمر بن مضرس. وهو حديث ضعيف.

تتناقله الأيدي من مالك إلى مالك يثبت عليه بتبعيته للملك كمسألة السؤال. وأما حديث الاشتراك في الماء والكلأ والحطب (¬1) فهو باعتبار الأمور المباحة التي لم يثبت عليها ثابت بتحجر أو نحوه وهذا معلوم لا يشك فيه. والله سبحانه أعلم. وأجاب: شيخنا الفقيه العلامة المحقق علي بن هادي عرهب (¬2) حفظه الله تعالى بما لفظه: بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. قال في الأثمار (¬3): باب ما يدخل في المبيع ونحوه ما ثبت به عرف جار وفي شرحه للعلامة ابن بهران ما لفظه: ما جرى به عرف ظاهر في الجهة إذ العرف مختلف باختلاف الجهات والمالكين فربما يتسامح التجار والملوك بما لا يتسامح به النخاسون. انتهى. ثم قال أو المسيل حقا أو ملكا فإن ذلك وإن كان ملكا يدخل لأجل العرف كما ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه رقم (2473) وهو حديث صحيح. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يمنع الماء والنار والكلأ ". وأخرج أحمد (5/ 364) وأبو داود رقم (3477) من حديث أبي فراس عن بعض أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المسلمون شركاء في ثلاثة في الماء والكلأ والنار" وهو حديث صحيح. (¬2) الفقيه المحقق علي بن هادي عرهب الصنعاني كان مولده سنة 1164 هـ بصنعاء برع في النحو والصرف والمعاني والبيان والأصول والحديث والتفسير. مات بكوكبان سنة 1236 هـ. وقد ترجم الشوكاني له في "البدر الطالع" رقم (348). "التقصار" (342 - 344). (¬3) تقدم ذكره.

قدمنا في دخول العذار والسراويل وثياب البدلة. انتهى. وقال بعض المحققين على قول الإمام في الأزهار (¬1): فصل يدخل في المبيع ونحوه (2) من ¬

(¬1) وتمام النص من الأزهار: "يدخل في المبيع ونحوه للمماليك ثياب البذلة وما تعورف به، وفي الفرس والعذار فقط. وفي الدار طرقها وما ألصق بها لينفع مكانه، وفي الأرض الماء إلا لعرف والسواقي والمساقي، والحيطان والطرق المعتادة إن كانت، وإلا ففي ملك المشتري إن كان، وإلا ففي ملك البائع إن كان، وإلا فعيب. ونابت يبقى سنة فصاعدا إلا ما يقطع منه إن لم يشترط من غصن وورق وثمر، ويبقى للصلاح بلا أجرة، فإن اختلط بما حدث قبل القبض بسد العقد لا بعده، فيقسم ويبين مدعي الزيادة والفضل. وما استثنى أو بيع ما حقه بقى وعوض، والقرار لذي الأرض وإلا وجب رفعه، ولا يدخل معدن، ولا دفين ولا درهم في بطن شاة أو سمك والإسلامي لقطة إن لم يدع البائع والكفري والدرة للبائع، والعنبر والسمك في سمك ونحوه للمشتري". قال الشوكاني في "السيل الجرار" (2/ 660 - 662): في شرحه أقول: هذا وأن كان ردا إلى مجرد العادة فهي في مثل هذا متبعة لأنها كائنة في ضمير كل واحد من المتبابعين، فاذا قال: بعت منك العبد أو الأمة فمعلوم لكل واحد منهما أنه لا بد أن يكون عليها ما يستر عورتيهما ويواري ما حرت عادة الناس في مماليكم بموارايه على اختلاف في ذلك بين أعرف أرباب المناصب والحشمة والثروة وبين غيرهم، فقد يسمح الني ومن له رياسة بما لا يسمح به الفقير، ومن هو من أهل الحرف الدنية والأعراف الجارية بين الناس التي لا تخالف الشرع قد أمر الله سبحانه في كتابه العزيز بالرد إليهما كما في قوله في غير موضع (بالمعروف) على أنه قد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر بلفظ: " ومن ابتاع عبدا فماله للذى باعه إلا أن يشترط المبتاع"- البخاري رقم (2379) ومسلم رقم (1543) -ولكن الباب مبني علي الأعراف ومن المرجوع إليه في الأعراف بيع الحيوانات الفرس وغيرهم، فما كان متعارفا به كان في حكم المنطوق به، ولا وجه لقول المصنف: "وفي الفرس العذار فقط" بل المتوجه الرد إلى العرف كئنا من كان، وعرف أهل بلد لا يلزم أهل بلد اخر إذا تخالفت أعرافهم. وأما قوله: "وفي الدار طرقها" فليس دخول الطرقات لمجرد العرف بل هي للضرورة التي لايمكن الانتفاع بالبيع إلا بها، فلو باع الدار من دون طرقها كان في منع المشتري من الطريق التي لا يمكن دخول الدار إلا منها إبطال لفائدة الدار، وقد تقدم بيع ما لانفع فيه لا يصح. وهكذا قوله: وما الصق بها لينفع مكانه، فان ذلك داخل في مسمى الدار لاشتمالها على جميع ابوابها وطاقاتها، ونحوها حال البيع فمن ادعى شيئا من ذلك خارج عن البيع لم يقبل منه إلا ببرهان. وهكذا قوله: " وفي الارض ماء" فانه وإن كان العقد واقعا على مجرد الارض فدخول ما لا يمكن الانتفاع بها إلا به هو من لوازم البيع ومعلوم أن سواقي الأرض ومساقيها الماء الذي تشرب منه تابع للأرض، وإذا جرت الأعراف بما يخالف هذا كان ذلك في حكم الاستثناء لتلك الأمور أو لبعضها. ٍوهكذا طرق الأرض تابعة لها، ويتوقف الانتفاع بها عليها كما تقدم في الدار، فان اشترى الأرض ولا طريق لها عالما بذلك فقد رضى بالعيب. ولا رد ولا أرش، وإن كان جاهلا كان لها فسخها لأن ذلك عيب من اعظم العيوب بل لم ينعقد البيع من الأصل لأنه لم يرض بأرض لا لها طريق لها فقد كشف عدم وجود الطريق على أن الرضا السابق كلا رضا، فلم يوجد المناط الشرعي الذي هو قوله عز وجل: {تجارة عن تراض} [النساء: 29]. قوله: "ونابت يبقى سنة فصاعدا ". أقول ما كان هكذا فالظاهر أنه داخل في بيع الأرض غير مستثنى ولهذا ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن النبي صلىالله عليه وسلم قال: "من ابتاع نخلا قبل أن يؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع". فأفاد أن ثمرة النخل قبل أن يؤبر للمشتري، وإذا كان هذا في نفس الثمرة قبالأولى الشجر النابت الذي يراد به البقاء، فلا أنه دخل بالعرف بل بنفس العقد على الأرض، وأما ما يقتطع منه من غصن وورق وثمر فينبغى إلحاقه بثمر النخلة، فان كان قد وقع من البائع فيه عمل كالعمل الواقع بالتأبير فهو للبائع، وإلا فهو للمشتري، وإذا قد فعل فيه البائع عنلا كذلك فهو له، ويستحسن بقاءه حتى يصلح ولا تلزمه أجرة للمشتري، لأن الشرع قد جعل ذلك له، فلابد من بقائه حتى يصلح، لأن ذلك من تمام كونه له، وإذا اختلط هذا الذي قد صار للبائع بالعمل فيه بغيره مما لا عمل له فيه كان الرجوع في ذلك الى أهل الاختيار. فان ميزوا بينهما فذاك وإن يميزوا جعلوا للبائع يقدر ما يكون في أمثاله ذلك المبيع وقت البيع. وللمشتري ما عدا ذلك، فان التبس الأمر من كل وجه فكما قال المصنف يقسم ويبين مدعي الزيادة.

التملكيات لله تعالى أو لعباده ما به العرف تقييدا للمطلق بالعادة كما علم في الأصول ثم إذا كان هناك عرفان خاص وعام فقال الإمام يحيى عليه السلام (¬1) يتبع العرف العام وهو خلاف القواعد لأن الخاص في محله أقوى من العام. انتهى. ¬

(¬1) تقدمت ترجمته.

وإلىتقديم الخاص يشير كلام "الأثمار" (¬1) وهو صريح كلام شارحه المنقول آنفا وفي البحر (¬2) فصل فيما يدخل في المبيع تبعا. قال الإمام يحيى: المتبع في ذلك العرف العام لا الخاص. مسألة ويدخل في البيع ونحوه للماليك ثيات البذلة وما تعورف به لا ما في يده ولا ما للزينة للنفاق كالعمامة والمنطقة والخاتم. قلت: إلا العرف، وقيل ما يستر عورته فقط. قلنا المتبع العرف. مسألة: وفي الخيل والبغال العذار [قاله] (¬3) الإمام يحيى واللجام في عرفنا وساق حتى قال مسألة وفي الأرض الماء إلا العرف .. إلخ. ثم قال: فرع ويدخل فيها نابت يبقى سنة فصاعدا إذ يصير كالجزء منها سواء كان ذا ساق أم لا (¬4). ثم قال: فرع ولا يدخل الثمر في بيع الشجر كالزرع على الأرض. قلت: والأقرب عندي دخوله هنا كالصوف على الشاة إلخ كلامه فلما لم يذكر العرف في هذا الفرع اعتمادا منه على ما قد قرره وكرره عنه أن المتبع العرف كتب عليه بعض المحققين ما نصه: الأصل فيما يدخل ويباع منفردا ويشترط كثيرا دخوله وخروجه أن لا يدخله إلا شرط أو عرف ولا فرق بين [2ب] الشجر وثمرة الأرض وشجرها كما قال المصنف إلا أنا نخالفه في أن أيها ونحوها تدخل بغير ذكر أو ما في حكمه وهو العرف انتهى. وإذا حقق كلامه الإمام فهو لم يرد بما أطلق دخوله أو خروجه إلا ما جرى العرف الذي هو المناط في الباب بأيهما وترك التصريح في بعض التفريغ اختصارا مع وضوح المراد ¬

(¬1) تقدم التعريف به. (¬2) (3/ 373 - 374) (¬3) زيادة يقتضيها السياق. (¬4) انظر تعليق الشوكاني علىذلك وقد تقدم.

وعدم التباس المفاد وفي البيان قريب من لفظ البحر (¬1) بما لا يخالفه في المعنى أصلا في أصل الباب وفي مقصود السؤال مع التصريح بأن المعتمد العرف فهذه نصوص معتمدي أهل المذهب مصرحة بأن المناط في دخول ما يدخل تبعا من شجر أو غيره هو العرف وقاضية بعدم الفرق بين أن يكون المتبوع مقصودا بالبيع أصالة أو تبعا لغيره كما في صورة السؤال وكما لو دخل نحو البئر تبعا لبيع الأرض مثلا فلا مرية في دخول طرقات البئر وسائر حقوقها تبعا للتابع ولم أر من نصوصهم ما يخالف ذلك ولا ما يقدح فيما هنالك فاتضح أن مثل ذلك الطلح النابت في المسقى الداخل في بيع الأرض تبعا بل اصالة كما في السؤال داخل في بيعها داخل في ملك المشتري كدخولها هذا ما يقضى به العرف العام والأصل عدم عرف خاص يخالفه فان ادعى عرف خاص مستقر مشتهر أو ثابت من غير طريق أهل المحل الذي يتواصلون بدعواه إلى أموال الناس. جاء الخلاف بين الإمام يحيى وغيره في تقديم العرف الخاص أو العام. والله سبحانه أعلم وأما قول من قال: أن أشجار الطلح الكبار الذي استقر العرف بالعناية بها وتنبيتهامباحة يشترك الناس فيها مثل النابت في الأرض المباحة فقول غريب واستدلال عجيب ببيان ذلك وإن كنا في مقام المانع بعد استقرار الضرورة الشرعية بجرمة مال المسلم ودمه وعرضه أن الطلح وسائر ما تحويه الأرض المملوكة بالأصالة أو بالتبعية كمحل السؤال مال لغة شرعا وعرفا داخل في مسمى مال المسلم فيشمله عموم: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} (¬2) ويتناوله صريح عام: "ألا وإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم ¬

(¬1) (3/ 373): حيث قال في البحر: "المتبع في ذلك العرف العام لا الخاص" مسألة "ويدخل في البيع ونحوه للمماليك ثياب البذلة وما تعورف به، ولا ما في يده ولا ما للزينة للنفاق كالعمامة والمنطقة والخاتم". ثم قال: " ... وفي الأر الماء إلا لعرف كبلاد الري وخراسان وصنعاء والسواقي والمساقي والحيطان والطرق المعتادة ". (¬2) [البقرة: 188].

عليكم حرام" (¬1) ويندرج تحت قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يحل مال امرء مسلم ... " (¬2) وهذه العمومات ثابتة الحكم مسلمة الدلالة قطعا واجماعا فان أراد التمسك بحديث: " المسلمون شركاء في ثلاث" (¬3) بناء على دخول الشجر في مسمى الكلأ كما توهمه ظاهر عبارة الأزهار (¬4). فجوابهٍٍٍ يمنع دخول الأشجار [3أ] الداخلة في بيع الأرض الموصوفة في السؤال فيالحديث المخصص لعموم احاديث حرمة مال المسلم إذ لا يدخل في شيءعن الثلاث لعدم شمول مسمى الكلام لتلك الأشجار. فان مسمى الكلام هو الحشيش. قال العلامة ابن بهران في باب شركة الأملاك من شرحه ما لفظه: فائدة: قوله صاى الله عليه وأله وسلم: " المسلمون شركاء في ثلاث الماء والكلأ والنار". (¬5) ثم ساق كلاما حتى قال: وأما الكلأ فالمراد به الحشيش لا الشجر. وقيل: كل نابت من غير عناية وهو قد حرمة بأنه الحشيش لغة لا الشجر. قول القاموس (¬6): الكلأ: الحشيش وفي شرح مسلم (¬7) ومثله في الضياء ما لفظه: ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (67) وأطرافه (105، 1741، 3197، 4406، 4662، 5550، 7078، 7447). ومسلم رقم (1679) وأبو داود رقم (1948) وأحمد (5/ 37، 39، 40) من حديث أبي بكرة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبته يوم النحر بمنى: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا". (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) (2/ 620 - السيل الجرار) (¬5) تقديم تخرجه. وهو حديث صحيح (¬6) (ص 64).الكلأ: العشب رطبه ويابسه. (¬7) (10/ 229).

الكلأ: مهموز ومقصور هو النبات سواء كان رطبا أو يابسا وأما الحشيش فمختص باليابس والعشب الرطب منه. انتهى. وهذا ظاهر في أن الكلأ (¬1) هو النبات المسمى رطبه عشبا ويابسه حشيشا. فلا يخالف ما في القاموس (¬2) في عدم شمول الكلأ للأشجار المسئول عنها ونحوها وإذا لم يصدق على تلك الأشجار أنا كلأ بقيت داخلة تحت القطعي العام متناولا لها دليل الحرمه والاحترام. وإن أراد التمسك بقياس الأشجار المذكورة على الكلأ فقياس ممنوع لوجود العلة في الفرع فاسد الاعتبار ساقط عن الاعتبار وإن أراد التمسك بظاهر لفظ الإمام في الأزهار (¬3) فجمود على ظاهر لفظ قد علم عدم اعتبار ظاهره بيان ذلك أن الإمام وإن عبر بلفظ الشجر فلم يرد به ظاهره للقطع بعدم إرادته إذ يلزم أن نحو الخيار والرمان والزيتون مباحة ولذا قيدت العبارة بنحو النابت بنفسه وبنحو إذا كان مما لا ينبة الناس. وإذا كان ظاهر اللفظ غير مراد فلا بد من حمله على ما قصده من المجمل الصحيح الذي أرشد إليه تصرفه في"البحر الزخار" (¬4) وهوانه أراد بالشجر الكلأ المذكور في حديث: "المسلمون شركاء في ثلاث" (¬5) الذي استدل به في البحر على المسألة المذكورة. وأعاد الاستدلال به في كتاب الشركة على إباحة فضل الماء ويكون بغيره في المقاعدة بلفظ الشجر بالنسبة إلى دليل الذي لم يعتمد في المسألة إلا عليه ولم يضعها إلا انتماء إليه قريبا من الرواية بالمعنى فاتضح أن مراده بالشجر اكلأ. وقد عرفت مداول الكلأ لغة فحينئذ ظهر تقرر أن أشجار الطلح المذكورة غير داخلة في عبارته كما لم تدخل في أصله وهو الحديث الكريم فبقيت تحت سرادق الحرمة ¬

(¬1) قال ابن الأثير في"النهاية" (4/ 194): الكلأ: النبات والعشب سواء رطبه ويابسه. (¬2) (ص64). (¬3) (2/ 620 - السيل الجرار) (¬4) (3/ 373 - 374) (¬5) تقدم تخريجه

والاحترام فقاطعها بغير إذن المشتري (¬1) غاصب مغير يتبعه حكم ضامن للمشتري ضمان الغاصب المعتدي. والله جل جلاله أعلم. انتهى من خطه. ¬

(¬1) وهذا هو الصواب. وانظر: "المجموع" (11/ 253)."المغني" (6/ 142 - 148)

عقد الجمعان في شأن حدود البلدان وما يتعلق بها من الضمان

(119) 28/ 2 عقد الجمعان في شأن حدود البلدان وما يتعلق بها من الضمان تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج احاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: (أ) 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: "عقد الجمان في شأن حدود البلدان وما يتعلق بها من الضمان". 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على خير خلقه وأله. وبعد: فانه ورد سؤال من العلامة المحقق، والفهامة المدقق عز الكمال محمد بن أحمد مشحم كثر الله فوائده ... ". 4 - اخر الرسالة: " ... وقد يكون بالتضمين وقد يكون بالالتزام، وإلى هنا انتهى الجواب عن السؤال قال في المنقول منه: حرره المجيب غفر الله له في نهار الاثنين رابع شهر الحجة سنة1212 انتهى من خط المؤلف." 5 - نوع الخط: خط نسخى عادي. 6 - عدد الصفحات: 14 صفحة + صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 27 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

وصف المخطوط: (ب) 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: "عقد الجمان في شأن حدود البلدان وما يتعلق بها من الضمان". 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على خير خلقه وأله. وبعد: فانه ورد سؤال من العلامة المحقق، والفهامة المدقق ... ". 4 - اخر الرسالة: " ... قال في المنقولة منه: حرره المجيب غفر الله له في نهار الاثنين رابع شهر الحجة سنة1212 ". 5 - نوع الخط: نسخى جيد. 6 - عدد الصفحات: 12 صفحة + صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرا ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد الأسطر فيها15 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

[بسم الله الرحمن الرحيم] الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على خير خلقه وأله. وبعد: فإنه ورد سؤال من العلانة المحقق، والفهامة المدقق، غز الكمال محمد بن أحمد مشحم (¬1) -كثر الله فوائده- وحاصل السؤال عن شأن حدود البلدان، أى قسمة الأودية التي ليست بمحياة، وصبابات السيول والجبال بين اهل القرية المحيطة بها، فيجعل لأهل هذه القرية من بعضها بعضا من ذلك لا يتعداه أهل القرية الأخرى، بل يختص بالكلأ النابت فيه راعيا، واحتطابا، واحتشاشا من جعل له دون غيره. ومضمون السؤال: هل يسوغ ذلك شرعا؟ وإذا ساغ هل يجوز تضمين من يختص بذلك ما وقع فيه من قتل، أو سلب، أو نهب، وإن لم توجد شروط القسامة، ولا تعين الفاعل، تمسكا بما وقع منه تعالى من عقاب عاقر الناقة هو وغيره، ممن لم يوافقه على فعله، وبقوله تعالى: {واتقواْ فتنة لا تصيبن الذين ظلمواْ منكم خاصة} (¬2) ثم إذا كان ذلك الحد طريق وقع فيها القتيل، أو النهب، ولا يختص بها أهل بحد، فهل يجوز تضمين أهل بحد؟ وإن كانت القسامة الشرعية غير ثابتة، لأن ترك تضمينهم قد يؤدي إلى أنهم يفعلون فى تلك الطريق من الأفاعيل ما يكون سببا لانقطاع المارة عنها؟ هذا حاصل السؤال، وهو مشتمل على ثلاث مسائل: الأولى: هل يسوغ شرعا قسمة ما لم يسبق إليه أحد باحياء ولا تحجر بين أهل القرى المحيطة به، ومنع كل واحد من الانتفاع بما حد الآخر من النبات المباح؟، وأقول: هذه الحدود الواقعة في غالب الديار اليمنية لما جاءت به الشريعة المطهرة من وجوه: ¬

(¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) [الأنفال: 25].

الوجه الأول: أنها تستلزم عدم الاشتراك في الكلأ، ومنع بعض من ينتفع به، وهو مشترك بين الناس بنص حديث: "المسلمون شركاء في ثلاثة: في الماء والكلأ والنار" أخرجه أحمد (¬1)، وأبو داود (¬2) من حديث أبي خداش عن بع الصحابة مرفوعا. وقد رواه أبو نعيم في الصحابة في ترجمة أبي خداش (¬3)، ولم يذكر عن بع الصحابة. وسئل أبو حاتم (¬4) فقال: أبي خداش لم يدرك النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد سماه أبو داود (¬5) في روايته حبان بن زيد، وهو الشرعبي تابعي معروف. قال الحافظ في بلوغ المرام (¬6) ورجاله ثقات. وأخرج هذا اللفظ ابن ماجه (¬7) [1أ] من حديث ابن عباس، وفي إسناده مقال، ولكنه صححه ابن السكن (¬8) وزاد فيه: "وثمنه حرام". وأخرجه الخطيب (¬9) عن ابن عمر وزاد (والملح) وفيه عبد الحكم بن ميسرة. وأخرجه ................. ¬

(¬1) في "المسند" (5/ 364). (¬2) في السنن رقم (3477). (¬3) رقم الترجمة (3188) ورقم الحديث (6764). (¬4) في "كتاب المراسيل" (ص 254 رقم 9545) وعنده أبو حراش. (¬5) في "السنن" (3/ 750 رقم 3477): " ... عن حبان بن زيد الشرعبي ". (¬6) رقم (9/ 872) بتحقيقنا. قال الألباني في الإرواء (6/ 8): لقد وهم الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى فأورد الحديث في "بلوغ المرام" باللفظ الشاذ يعني "الناس" بدل "المسلمون" من رواية أحمد وأبي داود، ولا أصل له عندهما البتة، فتنبه ". والحديث عندهما "المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار". وهو حديث صحيح. (¬7) في "السنن" رقم (2472) عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار، وثمنه حرام". وهو حديث صحيح دون قوله "وثمنه حرام". (¬8) ذكره ابن حجر في "التلخيص" (3/ 143). (¬9) ذكره ابن حجر في "التلخيص" (3/ 143).

الطبراني (¬1) عنه أيا بإسناد حسن، وله عنده طريق أخرى، وأخرجه أبو داود (¬2) عن بهيسة الفزارية -رضي الله عنها- وهي بمضمومة، وفتح هاء، وسين مهملة و [ .... ] (¬3) عن أبيها. وفي الباب أحاديث (¬4) وجميعها قاضية بأن الكلأ مشترك بين الناس لا يحل لأحد أن يمنعه أحدا، وهذه الحدود المذكورة ليس المراد بها إلا قسمة ما ينبت في المباحات من الكلأ، واختصاص كل أحد بما ينبت في حدة، وإذا أراد صاحب الحد أن يرعى سائمته عقرت أو بعضها. وقد نشأ عن ذلك فتنة تؤدي إلى قتل نفوس، أو سلب أموال، وقطع سبل. وقد شاهدنا من ذلك وقائع شنيعة، وهكذا إذا أراد غير صاحب الحد أن يحتش أو يحتطب فأقل الأحوال سلب بعض ثيابه، وإهانته. والحاصل أن المحاماة عن صاحب كل حد على حدة أبلغ عن محاماة كل مالك على ملكه، فإن الأملاك لا يترتب عليها ما يترتب على هذه الحدود من الفتن، وإراقة الدماء، وسلب الأرواح، وهتك الحرم. وهكذا يقع ما خولفت فيه الشريعة المطهرة، وظن فاعله أن غيرها أصلح منها، فإنها جرت عادة الله -عز وجل- في مثل ذلك أنها تعود المصالح التي يخيل إلى فاعلها أنها مسوغة لمخالفة الشريعة مفاسد محضة، وهذا سر من أسرار الشريعة، وليس بيد من يسوغ هذه القسمة، ورسم هذه الحدود المشئومة إلا تخيل أن ذلك نوع من أنواع المناسب المذكور في الأصول، يسميه من لم يكن له درية بذلك العلم مصالح مرسلة (¬5)، وهو عند من يعرف علم الأصول من المناسب ¬

(¬1) في "المعجم الصغير" (2/ 7 - 8 رقم 681 - الروض الداني). (¬2) في "السنن" رقم (3476). (¬3) غير واضحة في المخطوط. (¬4) ستأتي في هذه الرسالة والتي بعدها. (¬5) المصلحة المرسلة: هي المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده، من حفظ دينهم ونفوسهم، وعقولهم، ونسلهم وأموالهم طبق ترتيب معين فيما بينها. وقيل: هي الوصف الذي يكون في ترتيب الحكم عليه جلب منفعة للناس أو درء مفسدة عنهم. تقسم المصالح من حيث اعتبار الشارع إلى ثلاثة أقسام: 1 - المصالح المعتبرة: وهي ما اعتبرها الشارع بأن شرع لها الأحكام الموصلة إليها كحفظ الدين، والنفس، والعقل، والعرض والمال، فقد شرع الشارع الجهاد وقتال المرتد لحفظ الدين، والقصاص لحفظ النفس، وحد الشرب لحفظ العقل، وحد الزنى والقذف لحفظ العرض، وحد السرقة لحفظ المال. وعلى أساس هذه المصالح المعتبرة وربطها بعللها وجودا وعدما جاء دليل القياس فكل واقعة لم ينص الشارع على حكمها، في علة هذا الحكم. فإنها تأخذ نفس الحكم المنصوص عليه. 2 - المصالح الملغاة: وهي المصالح التي ليس لها شاهد اعتبار من الشرع بل شهد الشرع بردها وجعلها ملغاة. وهذا النوع من المصالح مردود، لا سبيل إلى قبوله، ولا خلاف في إهماله بين المسلمين فإذا نص الشارع على حكم في واقعة، لمصلحة استأثر بعلمها، وبدا لبعض الناس حكم فيها، مغاير لحكم الشارع، لمصلحة توهموها، ولأمر ظاهر - تخيلوا أن ربط الحكم به يحقق نفعا أو يدفع ضررا - فإن هذا الحكم مرفوض لأن هذه المصلحة التي توهموها مصلحة ملغاة من الشارع ولا يصح التشريع بناء عليها لأنها معارضة لمقاصد الشارع. ومن أمثلة هذا النوع: التسوية بين الذكور والإناث في الإرث: فهي مصلحة متوهمة: وهي ملغاة، بدليل قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء: 11]. 3 - المصالح المرسلة: وهي المصالح التي لم ينص الشارع على إلغائها ولا اعتبارها وهذه هي المصالح المرسلة عند الأصوليين، فهي مصلحة: لأنها تجلب نفعا وتدفع ضرا ... وهي مرسلة لأنها مطلقة عن اعتبار الشارع أو إلغائه فهي إذا تكون من الوقائع المسكوت عنها وليس لها نظير منصوص على حكمه حتى نقيسها عليه وفيها وصف مناسب لتشريع حكم معين من شأنه أن يحقق منفعة، أو يدفع مفسدة ... مثل المصلحة التي اقتضت جمع القرآن. ضوابط المصلحة المرسلة: 1 - إندراجها في مقاصد الشارع. 2 - عدم معارتها لكتاب الله الكريم. 3 - عدم معارتها لسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 4 - عدم معارتها للقياس الصحيح. 5 - عدم تقويتها مصلحة أهم منها أو مساوية لها. مجال العمل بالمصالح المرسلة: 1 - لم يعمل -القائلون بحجية المصالح المرسلة - بها في جميع الأحوال ولكن اقتصر عملهم بها في نطاق المعاملات وذلك لأن المصلحة يمكن الوقوف عليها في المعاملات إذ هي معقولة المعنى. 2 - لا خلاف بين العلماء في أن العبادات لا يجري فيها العمل بالمصالح المرسلة، لأن أمور العبادة سبيلها التوقيف، فلا مجال فيها للاجتهاد والرأي، والزيادة عليها ابتداع في الدين والابتداع مذموم. 3 - انظر: "إرشاد الفحول" (ص 790 - 794)، "تيسير التحرير" (4/ 171)، "الكوكب المنير" (4/ 432 - 436).

الملغي (¬1)، ولم نسمع عن عالم من علماء الاجتهاد أنه يسوغ هذه الحدود، بل جميع من مال إلى تسويغها مقلدة مع أن محققيهم ينكرون ذلك كما روي عن المفتي والقاضي عامر الذماري، والسيد أحمد بن علي الشامي. الوجه الثاني: أنه قد ثبت عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النهي عن منع الكلأ، فأخرج ابن ماجه (¬2) بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يمنع الماءوالنار والكلأ". وأخرج الشيخان (¬3) وغيرهما (¬4) من حديثه أيا عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ" فنهاهم عن منع فضل الماء (¬5) لتوصلهم ¬

(¬1) في "السنن" (2473) وهو حديث صحيح. (¬2) في "السنن" (2473) وهو حديث صحيح. (¬3) البخاري في صحيحه رقم (2353) ومسلم رقم (36/ 1566). (¬4) كأحمد (2/ 244) والترمذي رقم (1272) وابن ماجه رقم (2478). (¬5) قال القرطبي في "المفهم" (4/ 442): "لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ" وفي لفظ "لا يبع" فمعناه أن الإنسان السابق للماء الذي في الفيافي إذا منعه من الماشية فقد منع الكلأ وهو العشب الذي حول ذلك الماء من المرعى، لأن البهائم لا ترعى إلا بعد أن تشرب، وهذه اللام سماها النحويون لام كي فهي لبيان العاقبة، والمآل كما قال تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا} [القصص: 8] وهذا الحديث يفيد النهي عن بيع الكلأ، وهو حجة لمالك في القول بسد الذرائع ... "

بمنعه إلى منع الكلأ، والنهي عن الوسيلة إلى الشيء يستلزم النهي عنه بالأولى. وأخرج أحمد (¬1)، والطبراني (¬2) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-[1ب] قال: "من منع فل مائه أو فضل كلئه منعه الله -عز وجل - فل يوم القيامة" وفي إسناده ليث بن أبي سليم (¬3)، وفي الباب أحاديث، وجميعها قاض بالنهي عن منع الكلأ، وحدود البلدان لا يراد بوضعها إلا منع كل صاحب حد لغيره عن الانتفاع بما فيه من الكلأ (¬4) ونحوه. الوجه الثالث: أنه قد ثبت عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المنع من الحمى. ¬

(¬1) في "المسند" (2/ 221). (¬2) في "المعجم الصغير " (1/ 37) وفي "الأوسط" رقم (1195). وأورده الهيثمي في "المجمع" (8/ 154) وقال: رواه الطبراني في الصغير والأوسط وفيه محمد بن الحسن الفردوسي عفه الأزدي بهذا الحديث. (¬3) قال ابن حجر في "التقريب" رقم (5685): "صدوق اختلط جدا ولم يتميز حديثه فترك، من السادسة، مات سنة 148 هـ." (¬4) قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (10/ 228 - 229) أما النهي عن بيع فضل الماء ليمنع بها الكلأ فمعناه: أن تكون لإنسان بئر مملوكة له بالفلاة وفيها ماء فاضل عن حاجته ويكون هناك كلأ ليس عنده ماء الا هذه فلا يمكن أصحاب المواشي رعيه إلا اذا حصل لهم السقي من هذه البئر فيحرم عليه منع فضل هذا الماء للماشية ويجب بذله لها بلا عوض لأنه إذا منع بذله امتنع الناس من رعى ذلك الكلأ خوفا على مواشيهم من العطش ويكون بمنعه الماء مانعا من رعي الكلأ ويحتمل أنه في غيره ويكون نهي تنزيه قال أصحابنا يجب بذل فضل الماء بالفلاة وذلك بشروط منها: 1 - أن لا يكون ماء آخر يستغنى به. 2 - أن يكون البذل لحاجة الماشية لا لسقي الزرع. 3 - أن لا يكون مالكه محتاجا إليه. واعلم أن المذهب الصحيح أن من تبع في ملكه ماء صار مملوكا له وقال بعض أصحابنا لا يملكه. أما إذا أخذ الماء في إناء من الماء المباح فإنه يملكه هذا هو الصواب وقد نقل بعضهم الإجماع عليه، وقال بعض أصحابنا لا يملكه بل يكون أخص به وهذا غلط ظاهر. وأما قوله لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ فمعناه أنه إذا كان فضل ماء بالفلاة كما ذكرنا وهناك كلأ لا يمكن رعيه الا إذا تمكنوا من سقي الماشية من هذا الماء فيجب عليه بذل هذا الماء للماشية بلا عوض ويحرم عليه بيعه لأنه إذا باعه كأنه باع الكلأ المباح للناس كلهم الذي ليس مملوكا لهذا البائع وسبب ذلك أن أصحاب الماشية لم يبذلوا الثمن في الماء لمجرد إرادة الماء بل ليتوصلوا به إلى رعي الكلأ فمقصودهم تحصيل الكلأ فصار ببيع الماء كأنه باع الكلأ والله أعلم.

فأخرج البخاري (¬1) وأحمد (¬2)، وأبو داود (¬3) من حديث الصعب بن جثامة أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حمى النقيع- بالنون- وقال: "لا حمى إلا لله ولرسوله" وفي الباب احاديث وهي متضمنة لاحتصاص الحمى بالله وبرسول، وأله لا يجوز لأحد من الأمة أن يحمي حمى، ولهذا قال الشافعي (¬4) ليس لأحد من المسلمين أن يحمي إلا ما حماه النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.انتهى. والعله في منع الحمى أنه يستلزم منع الكلأ عن أهل الحاجة إليه من المسلمين، وهذه ¬

(¬1) في صحيحه رقم (2370) وطرفه رقم (3013). (¬2) في "المسند" (4/ 37، 71، 73). (¬3) في "السنن"رقم (3083، 3084). (¬4) في"الأم" (4/ 48) وانظر"المعرفة"للبيهقي (9/ 14رقم12194، 1، 12195) ونص قول الشافعي"يحتمل الحديث شيئين: 1 - ليس لأحد أن يحمي للمسلمين إلا ما حماه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 2 - والآخر معناه: إلا على مثل ما حماه عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعلى الأول ليس لأحد من الولاة بعده أن يحمي وعلى الثاني يختص الحمى بمن قام مقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الخليفة خاصة. ورجح هذا الثاني ما ذكره البخاري في صحيحه (5/ 44 بعد الحديث رقم2370) عن الزهري تعليقا. أن عمر حمى الشرف والربذة .... ".

الحدود هي نوع من هذا، لأن أهل كل حد يحمي حده من غيره ويقاتل دونه، مع أنه خال عن المصلحة الكائنة في الحمى في بعض الحالات، لأن الحمى قد يكون خيل الجهاد كما فعله النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في احتمائه للنقيع، فانه أخراج أحمد (¬1) من حديث ابن عمر"أن النبي- صلى الله عليه وآهل وسلم-حمى النقيع للخيل خيل المسلمين". وأخرج البخاري (¬2) عن أسلم مولى عمر بن الخطاب أن عمر احتمى لذلك، وهكذا الآن، فان بعض أهل البلدان قد يجتمع رأيهم على أن يمنعوا رعاتهم من بعض المواضع المختضة بهم، ويسمون ذلك محجرا، ويجعلونه ذخرا لهم إذا أجدبت أرضهم فهذا وإن كان مخالفا للشريعة المطهرة لكنه لا ينشامنه ما ينشا من الحدود من الفتن الكبار. الوجه الرابع: أنه قد ثبت عن- صلىالله عليه وآله وسلم- أنه قال: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له"أخرجه ............................ ¬

(¬1) في"مسنده"رقم (5655 - شاكر) باسناد صحيح. (¬2) في صحيحه رقم (3059).قلت: وأخرجه أبو عبيد في"الأموال" (ص274رقم741) والبيهقي في"السنن الكبرى" (6/ 146، 147) و"المعرفة" (9/ 14، 15رقم12197) البغوي (8/ 273، 274، 2191) ومالل في"الموطأ" (2/ 1003رقم1) عن زيد بن أسلم عن أبيه: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل مول له يدعى هنيا على الحمى فقال: يا هنى اضمم جناحك عن المسلمين، واتق دعوة المسلمين فان دعوة المظلوم مستجابة، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة، وإياي ونعم ابن عوف ونعمابن عفان، فانهما إن تهلك ما شيتهما يرجعا إلى نخل وزرع، وإن رب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتى ببنيه فيقول: يا أمير المؤمنين. أفتاركهم أنا؟ لا أبا لك فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب والورق. وأيم الله إنهم ليرون أني قد ظلمتم، إنها لبلادهم، فقاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرا".

أبو داود (¬1) من حديث أسمر بن مضرس، وصححه الضياء في المختار (¬2) وقال البغوي (¬3): لا أعلم بهذا الإسناد غير هذا الحديث. وفي الباب غير ما ذكر، وجمعه يدل على أن من سبق إلى شيء من الكلأ لم يسبق إليه غيره باحياء، ولا تحجر، ولا قطع كان أحق به، والحدود تستلزم أن ما كان في الحد فهو لصاحبه [1أ]، وإن سبق إليه من سبق. هذا جملة ما خطر بالبال عند تحرير هذه الكلمات من الأدلة الدالة على على مخالفة هذه الحدود لما شرعه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لأمته، وبعضها يكفي في إبطال ما يستند إليه الواضعون لذلك، من كونه مصلحة مرسلة، فإن من شرط المصالح المرسلة (¬4) عند جميع من قال بها عدم مصادمة الدليل، وهذه قد صادمت هذه الأدلة الكثيرة فلم يكن منها وهكذا جميع أنواع المناسب ما عدا الملغي منه، فإنه المناسب المصادم للدليل (¬5)، ولهذا ذكرنا فيما تقدم أن حدود البلدان من ذلك، ثم قد تقرر في الأصول من اعتبار المصلحة إنما يكون مؤثرا إذا كانت تلك المصلحة خالصة عن المفسدة، أما إذا كانت غير خالصة عن المفسدة فلا خوف أنها غير معتبرة، لأن دفع المفاسد أول من جلب المصالح. وقد عرفت مما تقدم ما ينشأ عن هذه الحدود من المفاسد. المسألة الثانية من مسائل السؤال: أنها إذا ساغت الحدود المذكورة، فهل يجوز تضمين من يختص بذلك من قتل، أو سلب، أو نهب؟. المسألة الثالثة من مسائل السؤال: أنه إذا كان في ذلك الحد طريق وقع فيها القتل والنهب، ولا يختص بها أهل الحد، فهل يجوز تضمين أهل الحدود وإن كانت القسامة. ¬

(¬1) في "السنن"رقم (3071) وهو حديث ضعيف. (¬2) ذكره ابن حجر في"التلخيص" (3/ 129). (¬3) انظر"مصابيح السنة" (2/ 369رقم2215). (¬4) تقدم ذكر ذلك. (¬5) في المخطوط (لديل) ولعل الصواب ما أثبتناه.

الشرعية غير ثابتة، لأن ترك تضمينهم قد يؤدي ألى أنهم يفعلون في تلك الطريق من الأفاعيل ما يكون سببا لانقطاع المارة عنها؟. أقول: الجواب عن هاتين المسألتين يحتاج ألى تقديم مقدمة، هى أن الله تعالى تعبد عباده بأحكام أنزل بها كتبه، وأرسل بها أنبياءه، ولم يشرع لهم الاقتداء بأفعاله وصفاتة، فمن قال أنه يسوغ له تعذيب عباد الله أو قتلهم، لأن الله- سبحانه- يبتليهم بالأمراض والمحن، أوقال أنه يجوز له تسليط بعضهم على بعض، أو تسخير بعضهم لبعض، أو ما يعود عليهم ينقص في الأموال والأنفس، لأن الله قد يفعل ذلك، لأن هذا القائل في عدد العلماء، بل لا يكون في عدد العقلاء، فلله المثل الأعلى. قال الله- عز وجل-: قال تعالى (لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون) (¬1) ومن هاهنا ¬

(¬1) [الأنبياء: 23]. قال القرطي في"الجامع لأحكام القرآن" (7/ 391): قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر-بين أظهرهم فيعمهم العذاب، وهذا التأويل تعضده الأحاديث الصحيحة ففي صحيح البخاري رقم (3346) ومسلم رقم (2880) عن زينب بنت جحش أنها سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت له: يا رسول الله، أهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث. وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاهم وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقتا في نصيبنا خرقا، ولو نؤذ من فوقنا، فان تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا". أخرجهالبخاري رقم (2493) والترمذي رقم (2173) ففي هذا الحديث تعذيب العامة بذنوب الخاصة وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم قال: "فالفتنة إذا عمت هلك الكل، وذلك عند ظهور المعاصي وانتشار المنكر وعدم التغير، وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها، وهكذا كان الحكم فيمن كان قبلن من الأمم، كما في قصة السبت حين هجروا المعاصين وقالوا لانساكنكم وبهذا قال السلف. وروى البخاري في صحيحة عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"إذا أنزل الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم". فهذا يدل على أن الهلاك العام منه ما يكون طهرة للمؤمنين ومنه ما يكون نقمة للفاسقين. انظر: "جامع البيان"لابن جرير الطبري (6/ج9/ 318).

تعلم بطلان استدلال بعض المتأخرين على جواز تغريم أهل قرية من القرى، أو مدينة من المدن ما يوجدفي حدودهم أو طرقهم الخاصة بهم، أوالعامة لهم [2ب] ولغيرهم من جنايات، أو أموال منهوبة، أو نفوس مسلوبة، حيث لا يصح القسامة الشرعية بما فعله تعالى من معاقبة قوم عاقر الناقة، وشمول العذاب للفاعل ولغيره، فان هذا فعل من لا يسأل عما يفعل، وأبطل من هذا استدلال من استدل على ذلك بقوله تعالى: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) (¬1) فان هذه الأية ليس فيها إلا التحذير عن أسباب الفتن، فانها إذا غلت مراجلها، وسطعت شررها، وأطل قتامها لا تدور على مسعر لهبها، ومثير عجاجها، بل تطحين كل مالاقت، وتدك كل ماتجد، كائنا ما كان. وقد ذكرت العرب هذا في أشعارها كما قال الحارث بن عباد: لم أكن من جناتها- علم الله- ... واني لحرها اليوم صالي وقال الآخر: وجرم جره سفها قوم ... فحل بغير جارمه العقاب فالمراد من الأية الكريمة التحذير لمن يتلبس بأسباب الفتن عن أن يدع الحد والاجتهاد في دفع تلك الأسباب، وهذا هو معنى اتقائها الذي أمرنا الله به، لأن التفريط في هذا الارتقاء يؤدى إلى إصابة الفتن لمن تلبس بأسبابها ومن لم يتلبس، وما كان هذا ماله فما أحقهبأن يتقيه كل أحد، وأكثر ما تكون هذا الإصابة العامة في الفتن الجاهلية، أو ما يلتحق بها من الفتن الواقعة في الإسلام على غير منهج الشرع، وقانون العدل، ¬

(¬1) [الأنفال: 25].

فكيف يحق الاستدلال بهذه الآية على جواز تعميم العقوبة منا لمن تعلم أنه لم يكن من تلك الجناية في شيء!؟ مع أن الله لم يشرع فيها لأهل الفتن أن يصيبوا بها المذنب وغيره، ولا قال: إنه يحل لهم ذلك، أويجوز بل قال: إن الفتن من شأنها إصابة من كان ظالما، ومن كان غير ظالم مع نهيه عنها وأمره باتقاء أسبابها، بل ثبت عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه جعل هذه الفتن التي يكون فيها البريء كغيره من علامات القيامة وآيات قرب الساعة. وأين يقع هذا الستدلال من استدلال من استدل على أصالة المنع بقوله تعالى (ولا تأكلوا أمولكم بينكم بالباطل) (¬1) وبماصح [3أ] عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وتواتر تواترا معنويا من قوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "إن دماءكم وأموالكم وأعرضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا"ٍ (¬2) الحديث، وبقوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "لا يحل ماء امرىء مسلم إلا بطيبة من نفسه" (¬3) فهذه الآية قاضية بأنه لايحل من مال أحد من المسلمين مثقال ذرة إلا بحقه، وهو ما ذكره الله تعالى من طيبة نفسه، أوما كان بالحق كما يدل عليه قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) (¬4) وهذه الأدلة الشرعية يعدها الدلالة العقلية، فان أخذ المال من صاحبه بغير وجه شرعي يستلزم إيلام صاحبه وترره في الغالب، ولا سيما إذا أجحف بماله وهو قبيح عقلا. وقد خصصت تلك الأدلة الشرعية بأمور منها: القسامة، فانها مستلزمة لتغريم من لا ذنب له في الغالب، ولهذا عدها أهل العلم مما ورد على خلاف القياس، لأن منهج هذه الشريعة المطهرة أن لا يؤخذ البريء بذنب المذنب. قال الله- عز وجل- (ولا تزر وازرة وزر أخرى) (¬5)، وقال: ......................... ¬

(¬1) [البقرة: 188]. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) [البقرة: 188]. (¬5) [الأنعام: 164].

(لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) (¬1) وقال: (لتجزى كل نفس بما تسعى) (¬2) وقال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "لا يجني جان إلا على نفسه" (¬3) وقال- عز وجل- في تسويغ المعاقبة {وإن عاقبتهم فعاقبواْ بمثل ما عوقبتم به} (¬4) وقال: {وجزاء سيئة مثلها} (¬5) وقال: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (¬6). ¬

(¬1) [البقرة: 286].، (¬2) [طه: 15]. (¬3) أخرجه الترمذي رقم (2248) وأبو داود رقم (3318) وأحمد (4/ 186) والنسائي (6/ 247) وابن ماجه رقم (3055) والطبراني في الكبير (17/ 31\ 32 - رقم58) من حديث سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه ... وهو حديث صحيح. (¬4) [النحل: 126]. (¬5) [الشورى: 40]. (¬6) [البقرة: 194] قال الشوكاني في "فتح القدير" (2/ 318): في قوله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب}: ومن شدة عقابه أنه يصيب بالعذاب من لم يباشر أسبابه، وقد وردت الآيات القرآنية بأنه لا يصاب أحد إلا بذنبه، ولا يعذب إلا بجنايته فيمكن حمل ما في هذه الآية على العقوبات التي تكون بتسليط العباد بعضهم على بعض، ويمكن أن تكون هذه الآية خاصة بالعقوبات العامة، والله أعلم ويمكن أن يقال: إن الذين لم يظلموا قد تسببوا للعقوبات بأسباب كترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فتكون الأسباب المتعدية للظالم إلى غيره مختصة بمن ترك ما يجب عليه عند ظهور الظلم". وأخرج أبو داود رقم (4338) والترمذي رقم (2168) عن أبي بكر رضي الله عنه قال: يا أيها الناس: إنكم تقرؤون هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} [المائدة: 105] وإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه". وهو حديث صحيح. وانظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (28/ 212 - 215).

وأما ما ورد عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من أخذ الجار بالجار، والقريب بالقريب كما في بعض الأحاديث فلعل ذلك كان قبل استقرار الأحكام الإسلامية، وفي مبادىء الإسلام. وقد كانت الجاهلية هكذا فأنزل الله من الأيات القرآنية وأجرى على لسان رسوله من الأحاديث النبوية مالا يبقى بعده ريب لمرتاب. ومن هاهنا يلوح أن هذا الأمور التي تقع في كثير من الأقطار اليمنية، ويتعارف بها كثير من أهلها، ويعمل عليها امراؤها وقضاتها من تغريم اهل قرية من القرى، أو عشيرة من العشائر جميع ما يقع في حدود بلادهم من قتل، او سلب، أو جناية على بدن أو مال بدون وجود المناط الشرعي وهو القسامة، أو ضمان العاقلة ليست من الشرع في قبيل ولا دبير، ولا ورد ولا صدر. ومن هذا تضمين أهل القرى المحيطة بالطرق العامة التي يسلك فيها الناس من مدينة إلى مدينة، ومن قطر إلى قطر، فان ذلك بلأحكام الطاغوتية أشبه [3ب] منه بالأحكام الشرعية. فان قلت: إذا لم يقع التضمين انقطعت السيل، وذهبت الأموال والأموال والأرواح، وتسلط شرار الناس على خيارهم حتى يرتفع الأمن بالكلية، ولا سيما مع فساد أديان البدوان، وغالب الأعراب المجاورين للطرقات. قلت: هذا خيال مختل، ووسوسة شيطانية من عدو الله إبليس أراد أن يزحلق بها هذه الأمة من الأحكام الشرعية إلى الأحكام الشيطانية، فان من تأمل أحوال سلف هذه الأمة وخلقها إلى عصرنا هذا وجد التدبير بالقوانين الشرعية ما كان فيه إلا وكانت من الأمن والدعة بمحل لا يساويها فيه غيره، ومن شك في هذا فليتدبر ما كان في هذه الدول

الإسلامية منذ أيام النبوة الآن، فانك لا ترى ملكا من الملوك، ولا أميرا من الأمراء، ولا إماما من الأئمة يؤمن بالعدل، وحسن السيرة، واقامة حدود الشريعة كما هي إلا ورأيت في بلاده ورعيته من النظام، واستقامة الأمور، وصلاح أحوال العامة والخاصة، وأمن السبل، وذهاب التظالم بالكلية ما يعلم به أن تدبير الشارع هو التدبير المشتمل على مصالح المعاش والمعاد، وبعكس هذا ما يخيل له الشيطان أن تدبير المماليك، وصلاح الأمة بالقوانين الشيطانية، والرسوم الطاغوتيه أصلح لها، وأول من أدخل هذه القوانين الكفرية إلى المماليك الإسلامية جنكيز خان (¬1) ملك التتر، فانه لما كان هو أهل مملكته لا يرجعون إلى شريعة من الشرائع، ولا ينتمون إلى دين من الأديان اخترع لهم كتابا من عند نفسه سماه"إلياسا" (¬2) ذكر فيه امورا من التدبيرات الخاصة والعامة، ومراسيم المملوك والرعية، وألزم رعيتهم بها وعملهم عليها بالسيف، ثم إنه أسلم بعض ذريته وبقي ¬

(¬1) كان اسمه"نمرجي"ثم لما عظم سمي نفسه جنكيز خان، توفي سنة624ه ..... وهو السلطان الأعظم عند التتار وهو الذي وضع للتتار- إلياسا-"بالعربية سياسة"يتحاكمون اليها ويحكمون بها وأكثرها مخالف للشرائع الله تعالى وكتبه فلهذا لا يعرف أب لأن أمه زعمت أنها حملته من شعاع الشمس والظاهر أنه مجهول النسب. انظر: "البداية والنهاية" (13/ 127 - 130). وانظر غزو جنكيز خان لمناطق من العالم الإسلامي أحداث سنة 617 هـ ... في تاريخ ابن الأثير (12/ 137 - 135). (¬2) وقد ذكر علاء الدين الجويني نتفا من (إلياسا) أنه من زنا قتل، محصنا كان أو غير محصن، وكذلك من لاط قتل ومن تعمد الكذب قتل ومن سحر قتل، ومن تجسس قتل، ومن دخل بين اثنين يختصمان فأعان أحدهما قتل، ومن بال في الماء الواقف قتل، ومن انغمس فيه قتل ومن أطعم أسيرا أو سقاه أو كساه بغير إذن أهله قتل .. ومن ذبح حيوانا ذبح مثله .... "وفي ذلك كله مخالفة لشرائع الله المنزلة على عباده الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله، خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى (والياسا)؟؟. "البداية والنهاية" (13/ 128).

فيهم الملك في أرض الإسلام حتى انفرضوا، وانتقلعنهم إلى غيرهم من سائر بطون التتر، ومن الجراكسة وأشباههم فعملوا فيها بهذا الكتاب في الأمور المتعالمة بالملك، مع إسلامهم وعملهم في غير ذلك بأحكام الشريعة المطهرة. والسبب في ذلك أن الشيطان سول اهم أن الملك لا يصلح بالتدبيرات الشرعية، ولا يقوم بغير تلك الرسوم الكفرية كما ذكر ذلك غير واحد من المتاجمين لتلك الدول كالمقريزي في الخطط والآثار (¬1) وغيره. وثم إن عامة مصر أدخلوا [4أ] على لفظ ذلك الكتاب شيئا مهما فقالوا سياسيا (¬2) وبعضهم يقلب الألف الآخرة هاء فيقول سياسة كما هو المعروف الآن، ثم تزايد الشر ووجد الشيطان المجال لما يرومه من الإضلال، فلم يدع مملكة من الممالك، ولا قطر من الأقطار إلا وفيه من هذه القوانين الكفرية نصيب. ومن عرف الأمور كما هي عرف ما وصفناه، وإذا أنكر العالم شيئا من تلك القوانين الطاغوتية على ملك أو أمير أجابه بأن هذه قوانين سلطانية، أو قواعد ملوكية، أو مراسيم دولية، وكأن هذه الشريعة المحمدية لم ترد إلا لتدبير الناس فيما يرجع إلى دينهم دون دنياهم، ولو عقلوا لعلموا علما يقينا أن صلاح أمور الدين والدنيا كله في الهدي المحمدي، والشرع المصطفوي. وانظر ما وقع من واضع الكتاب إلياسا من التدبير الذي هو التدمير لأكثر العالم خصوصا هذه الأمة المرحومة، فان جنكيز خان- لعنه الله- كاد أن يستاصل الإسلام، وبمحق آثارأهله، فانه خرج من بلاده إلى ما وراء النهر كبخارى، وخوارزم، وسمرقند، ¬

(¬1) (2/ 220): كلمة أصلها (ياسة) فحرفها أهل مصر وزادوا بأولها سينا فقالوا سياسة وأدخولوا عليها الألف واللام فظن من لا علم عنده أنها كلمة عربية وما الأمر فيها وقد انتشرت بمصر والشام وذلك أن جينكز خان القائم بدولة التتر في بلاد الشرق لما غلب الملك أونك خان وصارت له دولة قرر قواعد وعقوبات أثبتها في كتاب سماه (ياسه) ومن الناس من يسميه (يسق) والأصل في اسمه (ياسه) ولم تمم وضعه كتب ذلك نقشا في صفائح الفولاذ وجعله شريعة لقومه فالتزموه بعده حتى قطع الله دابرهم وكان جنكز خان لا يتدين بشيء من أديان أهل الأرض ...... فصار (الياسه) حكما بقي في أعقابه لا يخرجون عن شيء من حكمه. (¬2) انظر التعليقة السابقة.

وسائر تلك المدائن العظام فكان يقتل الرجال والنساء والصبيان حتى لا يبقى من أهل المحل صغير ولا كبير، ثمثم يخرب الدور ويغور النهور، ويقطع الشجر، ويهدم المساجد والبيع، والكنائس، فلا يخرج من بلد من البلدان، أومدينة من المدن إلاوقد صارت خاويةليس بها منزل ولا نازل. ثماستمر على هذا الأسلوب حتى دمرأكثر الأرض بطولها والعرض خصوصا بلاد الإسلام، ثم وافاه الحكام، وأراح الله منه أهل الأسلام، فلزم طريقته الملعونة، وتدبير المشؤم الممتلك بعده من أولاده، ثم الممتلك بعدهم من ولد ولده، ومنهم المسمى هولاكو (¬1) فإنه وصل إلى بغداد وقتل من فيها من الإمام والمأموم والعام والخاص الا من تأخرأجله ففر بنفسه ثم اختفى، ثم اقتفى هذى الطريقة القبيحة والتدبير الكفرى تيمورلنك، فأنه لا يعمل فى تدبير ملكه بغير كتاب الياسا، فدمر جميع الممالك التى وراء النهر، واستأصل بالقتل اكثرأهلها، ثم عطف على ممالك الشام والعراق والروم والهند، وكثير من البلاد، ففعل تلك الأفاعيل، وكان من مرسومه انه اذا فتح قطراً من القطار، اومدينة من المدن الكبار يهدي [4ب] إليه كل فرد من أفراد جنده رأسين من رؤس بنى آدم بعد أن يقطعها؛ وجنده حوالى ثلاثمائة ألف، وقد تذيد على ذلك، فكانوا يعطفون على من تحت ايديهم من الأسرى والضعفاء وسائر من بقى فيقتلون فى ساعة من النهار نحو ستمائة ألف شخص، وهذا بعد تأمينه للبلد الذي يفتحه، وخروجه منه. وأماعند فتحه قبل تأمينه فلا تذال السيول جارية من دماء المسلمين، وتيمور هذا هو من اعظم الملوك المتقدمين بأحكام الياسا وقوانينه، فأنظر ما فعله واضع هذا الكتاب من إراقة الدماء، وهتك الحرام، وتخريب الديار، وتغوير الأنهار، وقطع الأشجار، وتعميم جميع القطار بالمخاوف الكبار، حتي انقطعت السبل، وتعطلت المدن، وفقر اكثر العالم، وما نشأ عن تدبيره من المصائب، وما لقى به العباد من المتاعب، وكيف صارت الأرض وأهلها بسببه فى أمر مرتج، ثم انظر ما فعله المقتدون به ¬

(¬1) انظر"البداية والنهاية" لابن كثير (13/ 40، 247، 253).

من بعده كأولاده واحفاده، وتيمور والجراكسة (¬1) وأشباههم! فإنها صارت الفتن تغلى كغلى المراجل، ولم يأمن أحد من الناس فى الغالب على دمه ولاعرضه ولا ماله، ثم انظر كيف كان نظام العالم بالتدبير المحمدى! وكيف كانت الأيام النبوية التى هى منشأ الأحكام الشرعية، ثم كيف كان الصحابة ومن بعدهم من المقتدين بشرعة-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-لا من خرج عن ذلك الى السياسة الكفرية! .. والحاصل: أن من تأمل حق الأمور التأمل فيما يرى ويسمع علم علماً لا يخالطه شك، ولاتخالجه شبهة أن السياسات الشرعية، والتدبيرات النبوية هى اصل صلاح الدين والدنيا، ومنبع كل خيرمن خيرى الدارين، وأن غيرها أصل فساد الدين والدنيا، ومنبع كل شر من شري الدارين: يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ... ومنهج الحق له واضح إذا تقرر هذا عرفت ان تغريم العباد لرجاء المصلحة هو عين المفسدة كما قدمنا ذلك فى الكلام علىحدود البلدان، وما أحق العالم العامل بعلمه، الشحيح على دينه بإجتناب هذه الجهالات والفرار عن مهالك هذه الضلالات! إذا لم يتمكن من طمس آثر السياسات الكفرية، وتشييد آثار السياسات النبوية فأقل الأحوال أن يربأ بنفسه عن أن يكون من المقتدين لجنكيز خان ومن [5أ] تبعه من حزب الشيطان، فإنه بلا ريب عن ذلك مسؤول بين يدى رب العزة فى حضور بنى الأمة فإذا قيل له: بأى شرع اخذت مال هذه الأرملة، وهذا الصبى، وهذا [ .... ] أهل هذه القرية؟ فماذايكون جوابه؟ إن قال: اردت التوصل بذلك إلى قمع الأشرار، وصلاح الديار، فأى سرية فى احد هؤلاء الثلاثة! فإن رام المجادلة والمحاجة فهو لايزيد على أن يقول: اخذت بنوع من انواع المناسبة المدونة فى علم الأصول (¬2)، وما أحقه عند أن يقول هذه المقالة أن يقال ¬

(¬1) المقصود بهم: غير الموحدين منهم. (¬2) تقدم توضيحه

له: لا حياك الله ولا بياك، كيف استبدلت بنصوص القرآن الكريم، والسنة المطهرة هذا البدل، ورضيت بالدون، وأعطيت الدنية، واستبدلت العين الصحية بالعور! هات عرفنا ما هوهذا المناسب الذى تذعم؟ هل وجدته في كتاب الله، أوأخذته من سنة رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أو هو من ذلك الهذيان المنصوب فى وجه السنة والقرآن؟ ثم هذا المناسب الذى آثرته على النصوص قد صرح أهل الأصول (¬1) وجميع الأئمة الفحول أنه لايجوذ العمل به فى أدنى حكم من الأحكام الشرعية، فضلاً عن مثل هذا الحكم الذى هو أخذ للمال بلا برهان ولا قرآن، ولاعقل ولانقل، رسموه فى مؤلفاتهم بالمناسب الملغى (¬2) أى الذى يجب إلغاء العمل به، وترك التعويل عليه بمصادمته للنصوص، فحينئذ تطيح الحجج والأعذار، وتحق الكلمة على من خالف شريعة المختار. دعوا كل قول عند قول محمد ... فما آمن فى دينه كمخاطر فالحاصل أن الحكم بأخذ أموال العباد بدون وجود المناط الشرعى من الحرام البين عند كل من له دربة بأحكام الشرع، وعلى فرض من فعل ذلك، أوقرره، أوأفتى به قاصر الباغ غير متميذ عن طبقة الرعاع، فأقل الأحوال أن يكون قد سمع قوله-صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: "والمؤمنون وقافون عند الشبهات" (¬3) "دع ما يريبك الىمالاً يريبك" (¬4) اللهم نق كدورات قلوبنا بمياه الشرع، وأصقل مرآة بصائرنابصقيل السمع. فإن قلت: أين لنا كيف يصنع من ولى قطراً من الأقطار، قد تعارف أهله، وإن باب حله وعقده على الإلذام لمن جاور بضمان ما ذهب فيها من دم أو مال، ثم إذا أراد أن يعلمهم السياسة الشرعية فماذا يصنع؟ ¬

(¬1) أنظر: "إرشاد الفحول" (¬2) تقدم توضيحه (¬3) تقدم تخريجه (¬4) تقدم تخريجه

قلت: إن تمكن من قطع تلك الحبائل الشيطانية، وتمهيد [5ب] القواعد القرآنية بأى ممكن فهوالواجب عليه، فليثت الثمرة للعلم إلا حمل الناس على الشريعة الغراءالتى يقول فيها-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "تركتم على الواضحة ليلها كمهارها ولايذيل عنها إلاجاحد، وعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين الهادين عضوا عليها بالنواجذ" (¬1) وإذا تعذر عليه ذلك تعذرا تقوم به بحجة بين يدي الله فليعمل بقوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت هوى متبعا، وشحا مطاعا، وإعجاب كل ذي رأى برأيه فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن كالقبض على الجمر، أجر العامل فيهن أجر خمسين بعلا" (¬2) قيل يا رسول الله، منا أو ممن بعدنا. قال: "منكم".والحديثان صحيحان ثابتان في دواوين الإسلام. وأما السؤال عن كيفية عمله إذا أراد أن يعرفهم السياسات الشرعية فيقول لهم فيهما ذهب في الطريق من نفس أو مال، أو موطن ولم تكمل شروط القسامة أن الذي جاءت به هذه الشريعة العراء أن هذا غير مضمون على أحد من الناس، وأنه قد قال قائل من أهل الشريعة أنها لا تهدر دماء المسلمين، ةأنه يجب ضمانها من بيت مالهم، ولكن لا يدع جهدا في الكشف والفحص عن الفاعل، فإن هذا الكشف هو من السياسة الشرعية لا الكفرية. ثم إذا سأله سائل عن إصلاح فساد الطريق كيف يكون، وبأى سبب يتوصل إلى ¬

(¬1) تقدم تخريجه مرارا. وهو حديث صحيح. (¬2) أخرجه ابن ماجه رقم (4014) والترمذي رقم (3060) وأبو داود رقم (4341) وهو حديث ضعيف. انظر الضعيفة رقم (1025) لكن فقرة: "أيام صبر .... "فهي ثابتة انظر الصحيحة رقم (494، 957).

ذلك؟ قال: تأمين السبل، والأخذ على يد الظالم هو الذي شرع الله لأجله نصب الملوك، وهو الركن الأعظم من أركان السلطنة، بل الشرط الأهم من شروط الزعامة، بل هو الأمر الذي إذا قام به سلطان المسلمين لم يحتج معه إلى غيره، وهذا وإن استبعده من اعتقد اعتبار شروط كثيرة العدد فهو إن نظر حق النظر لم يخف عليه صحة ما قلناه، وإذا كان الأمر هكذا فإصلاح طرقات المسلمين، وتامين سبلهم من أهم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهو واجب على السلطان خصوصا (¬1) وعلى المسلمين عموما، ¬

(¬1) الآثار المترتبة على ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر: 1) وقوع الهلاك، وذلك على جهتين: أ - أن المعاصي التي تظهر ولا تنكر سبب للعقوبات والمصائب. ب- أن السكوت ذاته يعد معصيه يستحق صاحبها العقوبة كما أنه يدل على التهاون في دين الله تعالى. هذا إذا كان الساكت عنه فردا من أفراد المجتمع، أما حين يسكت المجتمع بأكمله فإن الغقوبة تعم في هذا الحال. 2) انتفاء وصف الخيرية عن هذه الأمة. 3) أنه يجريء العصاه والفساق على أهل الحق والخير، فينالون منهم ويتطالون عليهم، وهذا مشهد ملموس في هذه الأيام- والله المستعان. 4) أنه سبب لظهور الجهل واندراس العلم: وذلك أنه إذا ظهر المنكر ولم يوجد من ينكره نشأ عليه الصغير وألفه وظن أنه من الحق كما هي الحال في كثير من المنكرات اليوم. 5) أن هذا الأمر تزيينا للمعاصي عند الناس وفي نفوسهم لأن صاحب المنكر كالبعير الأجرب يختلط بالإبل فتجرب جميعا بإذن الله والناس كأسراب القطا قد جبل بعضهم على التشبه ببعض. هذا بالإضافة الى ما يوجد داخل النفس من الأمر بالسوء، وحب الشهوة وما من وجود المنكر في الخارج. 6) عدم إجابة الدعاء. 7) سبب ظهور غربة الدين واختفاء معالمه وتفشي المنكرات والكفر والظلم، وهذا هو الذى أشار إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: "بدأ الإسلام غربيا وسيعود غربيا كما بدا فطوبى للغرباء" أخرجه مسلم رقم (145). 8) إلف المسلم لهذه المنكرات المنتفشية: لكثرة مشاهدته لها، والأمر كما قيل" كثرة المساس تبلد الإحساس"فما تعود للقلب تلك الشفافية والحساسية عند رؤية المنكر. انظر: "تنبيه الغافلين" (ص93 - 94)، "مجموع الفتاوى" (28/ 138 - 142، 215).

فعليه وعليهم أن يقوموا بذلك أثم القيام، ولو جماعة من المسلمين في جوانب الطرق المخوفة لتأمين المارة، ويدفع إليهم من بيت مال المسلمين، أو من خالص أملاكهم إذا لم يوجد في بيت المال ما يقوم بذلك، فعلى العالم أن يقول هكذا إذا سئل عن ذلك، وينهى الأمر إلى السلطان [6أ] الأعظم، من ينوب عنه، وياخذ نفسه بإنكار ما علمه منكرا، أو الأمر بما علمه معروفا بما يبلغ إليه قدرته، وليس عليه بعد ذلك شىء، وإذا لم يطع فيما يقول فقد حصل له أجر من تكلم بالحق، وفاز بمقام العلماء العالمين، فهذه الطريقة تحفظُ دينَه من المهالكِ، ويستفيدُ في ولايته ربحَ ما يقدرُ على القيام بهِ كما ينبغي، وليس من الورع أن يضيقَ صدرُهُ عند عروض ما يخرجُ عن طاقته، حتى يحملَه ذلك على تركِ ما يدخلُ تحتَ مقدرته، أو تعطيلِ نفسِه عن القيامِ في مركزِ الأمرِ بالمعروف والنَّهي عن المنكر، فإنَّ ذلك لو كان مسوِّغًًا للتعطيلِ والخروجِ عن المراكزِ الدينيةِ لتعطيل الشريعةِ، إذْ ما من زمانٍ من الأزمنةِ، ولا مكان من أمكنة الأرضِ إلاّ وفيه ما يُعْرَفُ وما يُنكَرُ، اللهم إلاَّ أنْ يكونَ ذلك العالِمُ قد عرف بالتجربةِ وطولِ المدة أنه لا تأثيرَ لبقائه في صغيرٍ ولا كبيرٍ، ولا جليلٍ، ولا خطيرٍ، فليس له في التلبُّسِ أثوابِ الزورِ فائدةٌ، كما أنَّه لا يعودُ إليه مِنْ خيرِها عائدةٌ، والأحوال تختلفُ باختلافِ الإراداتِ، وإنما الأعمال بالنيات. وما ذكرتُم ـ دامت لكم الإفادة ومنكم ـ من أنه إذا ادَّعى ورثةُ رجلٍ على أهل بلدةٍ قَتْلَ مورِّثهم يريدونَ بذلك ثبوتَ القسامةِ عليهم، وخَفَتْ قرائنُ صادقةٌ بوقوعِ القتلِ وصادقَ بعضُ أهل البلدينِ بوقوع القتلِ في بلدهم، فهل يقالُ: مصادقةُ البعض منهم إقرارٌ على من أقروا بشهادةٍ على الباقينَ، فيثبتُ بها وجودُ القتيلِ، وإذا ثبت ثبتِ القسامةُ بشروطها أم لا؟ ثم إذا طلبتَ منهم اليمينَ لا

وُجِدَ قتيلاً في بلادهم، ونكَل البعضُ منهم، هل يكونُ حكمُ النكولِ حكمَ المصادقةِ في كونها شهادةً على الآخرين أم يفترقُ به الحال بين المصادقة والنكول؟ انتهى. أقول: اعلمْ أنَّ القسامةَ الشرعيةَ لا تثبتُ إلاَّ بعد ثبوتِ وجودِ القتيلِ في محلٍّ يختصُّ بالمدَّعى عليهم قتيلاً أو جريحًا، وثبوتُ الوجودِ يكونُ بأحدِ المناطاتِ الشرعيةِ. إمَّا الإقرارُ من جميع المدّضعى عليهم، أو نكولُ جميعِهم، أو شهادةُ عَدْلَيْنِ، أو رجلٍ وامرأتينِ، أو رجلٍ ويمينِ المدَّعي على وجود القتيلِ هنالِكَ كذلكَ على وجه بحكمِ الحاكمِ بأحد تلك الأمورِ، أو عَلِمَ الحاكمُ بذلك على ما هو الحقُّ كما قررته في غير هذا الموضعِ، فإنْ أقرَّ البعضُ وأنكرَ البعضُ، أو نكلَ البعضُ وحلفَ [6ب] البعضُ من أهل القسامةِ كما في مسألة السؤال. فاعلم أنَّ إقرارَ من أقروا نكولَ مَنْ نكلَ هو مستنَدٌ للحكم بالوجودِ، والوجودُ أمرٌ واحد، وهو يستلزمُ ثبوتَ القسامةِ على الجميع، فإذا كان ذلك الإقرارُ أو النكولُ بحيث يصلُح مُسْتَنَدًا لحكم الحاكمِ بالوجودِ ثبتتِ القسامةُ بالحكم بالوجود بذلك المستندِ، ولا وجود الشهادةِ، أو عِلْمِ الحاكمِ، لأنَّه قد ترتَّبَ الحكمُ بالوجود على إقرارِ البعضِ، أو نكوله كما ترتَّبَ الحكمُ بالوجودِ على شهادةِ الشهودِ، أو علم الحاكمِ. والعلمُ بالوجودِ هو أمرٌ واحدٌ كما قدمنا، فلا تثبتُ به القسامةُ على بعض أهل القسامةِ دون بعض، بل تثبت على الجميع. فإن قلتَ: الشهادةُ وعِلْمُ الحاكم هما مناطٌ للحكمِ على المشهودِ عليه بخلافِ الإقرارِ والنكولِ فإنّهما مناطٌ للحكم على المقرِّ والناكلِ دونَ غيرهما. قلت: قد صحَّ كلُّ واحدٍ منهما مناطًا للحكم بالوجود كما صلحتِ الشهادةُ مناطًا لذلك، ولا يضرُّ إنكار مَنْ أنكر، وحَلْفُ مَنْ حَلَفَ، كما لا يضران إذا كان المناطُ هو الشهادةَ. فالحاصل: أنَّ المعتبرَ ما يصلحُ مستندًا لحكم الحاكمِ بالوجودِ، هذا من غير نظرٍ إلى

تنزيل إقرارِ المقرِّيْنَ، أو نكولِ الناكلينَ منزلَة الشهادةِ على المنكرينَ أو الحالفينَ، مع أنه لو قيلَ بذلك لكانَ التنزيلُ صحيحًا رجيحًا، فإنَّ المقِرَّ إنما أقرَّ بما قد صحَّ لديه بإحدى الطُّرقِ المفيدةِ لمضمونِ الإقرارِ، فإقرارُهُ إخبارٌ لنا بالوجودِ، وكذلك الناكلُ إنما نَكَلَ عن الحَلِفِ على عدمِ الوجود لكونهِ قد علم نقيضَه، وهو الوجودُ، فكأنه قد أخبرنا بوجود القتيلِ. ولا شكَّ أنَّ هذا أدخلُ في إفادةِ الوجودِ، وانثلاجِ الصدرِ به من شهادةِ بالوجود إذا اتفقتِ الحواملُ على ما وقعَ من المقرينَ والمنكرينَ من محاباةِ المدَّعي أو العداوةِ لأهل المحلِّ، أو نحو ذلك. ولا ريبَ أنَّ الشهادةَ على النفسِ، وعلى الأهل أولى من شهادة الأجانبِ على الأجانبِ. ولم يبقَ إلاَّ المنازعةُ في اشتراطِ لفظِ الشهادةِ، والإقرارُ والنكولُ ليسا من ألفاظِها، وهذه منازعةٌ فقهيةٌ لا ترجعُ إلى دليل شرعيّس ولا عقليٍّ ولا لغويٍّ، فإنَّ الشهادةَ هي الإخبارُ بالشيء بأيّ صيغةٍ [7أ] كانت، ودلالةُ الخبرِ على مدلولهِ قد يكون بالمطابقةِ، وقد يكون بالتضمينِ، وقد يكون بالالتزامِ. وإلى هنا انتهى الجوابُ عن السؤال. قال في المنقول منه: حرره المجيبُ ـ غفر الله له ـ في نهار الاثنينِ رابعَ شهرِ الحجةِ سنة 1212 انتهى من خط المؤلف [7ب].

سمط الجمان فيما أشكل من مسائل عقد الجمان

(120) 29/ 2 سمط الجمان فيما أشكل من مسائل عقد الجمان تأليف الحسين بن يحيى الديلمي حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: "سمط الجمان فيما أشكل من مسائل عقد الجمان". 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم" وبه نستعين، وصلى الله على سيدنا محمد الأمين والسلام عليه وعلى آله الأكرمين، قرأت السؤال .. ". 4 - آخر الرسالة: " ... حرره في شهر ربيع الآخر سنة 1214 بقلم مؤلفه حسين بن يحيى بن إبراهيم الديلمي عفا عنه وعن آبائه والمسلمين أجمعين". 5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول. 6 - عدد الصفحات: 11 صفحة + صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصحفة: 27 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة. 9 - الناسخ: المؤلف: حسين بن يحيى بن إبراهيم الديلمي. 10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين، وصلى الله على سيدنا محمد الأمين، والسلام عليه وعلى آله الأكرمينَ. قرأتُ السؤالَ الوارد على القاضي العلامة محمدِ بن علي الشوكاني في شأنِ الحدودِ التي في البلاد اليمنيةِ، وهي المحجَّراتُ لمنع لغير منها إلى تجمُّعِها ما حولَ القرية، أو الحدودِ التي بين المدينة وما يُنْسَبُ إليها من البلاد، وبين المحلِّ الآخَرِ، فحصل من جواب القاضي ـ عفاه الله تعالى ـ المنعُ، ورأيتُ كلامًا ذكره القاضي أحمدُ بن يحيى حابس (¬1) ـ رحمه الله ـ وهو ممن عاصَرَ الإمام القاسِمَ بنَ محمد ليضمنَ تقريرَها حيث قال في المقصد الحسن (¬2): وإجراءُ المحاجرِ مجرى الإملاكِ إمَّا للعرف بأنَّ ضَرْبَ الأعلام فيها التي يعتادونَها فيها يوجبُ الملكَ، لأنَّ للعرفِ مجالٌ، وأيُّ مجال أو من باب النظرُ في تسكينِ الدَّهْمَاءِ. قلتُ: هنا قولٌ حسن، وقد ورد في هذا حديثانِ: أحدُهما: "المسلمون شركاءُ في ثلاثة: في الماء، والكلأ، والنار" (¬3). الثاني حديث: "مَنْ سبقَ إلى ما لم يَسْبِقَ إليه مسلمٌ فهو له" (¬4) فيكون الأولُ عامًا محمولاً على عدم السبق، والثاني: خاصٌّ أنَّ من سبق إلى مباحٍ مَلَكَهُ. ولا فَرْقَ بين تقدُّم العامّ وتأخُّره، أو مع جهل التاريخِ. هذا المختارُ عند جماعة من أهل الأصول، ورجَّحه ابنُ الإمام في الغاية (¬5)، وإليه أشار القاضي محمد بهران (¬6) في الكافلِ (¬7)، فتكون ¬

(¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) المقصد الحسن والمسلك الواضح السنن، للقاضي أحمد بن يحيى حابس الصعدي. " مؤلفات الزيدية " (3/ 48). (¬3) تقدم تخرجه. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) انظر "مؤلفات الزيدية" (2/ 292). (¬6) هو محمد بن يحيى بهران الصعدي. (¬7) "الكافل بنيل السؤل". انظر: "مؤلفات الزيدية" (3/ 370).

الحدودُ المتحجرة من هذا، لسبقِ الحق بالتحجرِ لمن حازه، فإن لم يُسَلَّمُ هذا كان من القياس المرسلِ (¬1)، وهو كما حقَّقَهُ في شرح الجمع ومَتْنِهِ حيثُ قال: والمناسبُ الملائم لأفعال العقلاءِ عادةً. وقيل ما يجلبُ نفعًا ويدفع ضررًا، أو قال بعضُهم: ما لو عرضَ على العقول لتقلَّتْه بالقبولِ كمسألتنا. والمناسبُ (¬2) ضروريٌّ فحاجي فتحسيني بالضروري كحفظ الدين، والنسبِ (¬3)، والمال (¬4)، والعِرض، والحاجي كالبيع والإجاربة، وقد يكون الحاجي ضروريًّا كالإجارة لتربية الطفل، والذي نحن فيه قد دعت إليه حاجةٌ ضرورية فيها حفظُ النفوس لما يؤدي إليه نفي الاشتراك إلى الفتن، وبسفك الدماء التي لا تنتهي إلى غاية. هذا جوابٌ فيه يوجبُ التفصيل، ولنا أن نجيب بما يريده استظهارًا وتتميمًا للفائدة فنقولُ: [1أ]. ¬

(¬1) انظر: "إرشاد الفحول" (ص790 - 796) (¬2) تقدم ذكره. (¬3) في هامش المخطوط حفظه بحد الزنا. (¬4) في هامش المخطوط حفظه بالقطع للسارق.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحدَه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا. أمَّا بعدُ: فإنه ورد سؤالٌ على القاضي العلامةِ، علامةِ الزمن، المحيي سنةَ النبيِّ المؤتَمَنِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ عِزِّ الإسلام محمد بن علي الشوكاني ـ عافاه الله ـ وزاد في فوائده في شأن الحدود التي وُضِعَتْ في جهة اليمينِ، ولم أقف فيه على نصٍّ لأحدٍ من الأئمة ذكره صاحبُ المقصدِ الحسنِ (¬1)، وكان جوابُ القاضي مشتملاً عليه من جهتين: الأولُ: في تحريم وضْعِه بالأدلة الصحيحة. والثاني: يعلن القسامةَ بأهله وما يلحقهم من الضمان بسببه، وضعنا السؤالَ بأكثرِ لفظِه. وحاصلُ السؤال عن شأن الحدودِ المقسومِ من الأودية التي ليست بمحياةٍ، وصبَّابات السيول والجبال بين أهل القرى المحيطة بها، وليجعلَ لأهلِ هذه القريةِ بعضًا لا يتعدَّاه أهلُ القرية الأخرى، بل يختصوا بالكلأ النابتِ فيه رعيًا، واحتشاشًا، واحتطابًا دون أهل القرية الأخرى، فهل يسوغُ ذلك؟ وهل يصحُّ تعلُّق القَسَامةِ ومعاقبةُ أهله بسبب ما يقعُ فيه من قتلٍ ونهب، وتغريمِهم؟ فقد اشتمل السؤالُ على ثلاث مسائلَ: الأولى: هل يسوغُ شرعًا قسمتُه قبل أن يسبق إليه أحدٌ؟ سواءً أهل القريتين ونحوهما؟ فأجاب القاضي ـ تولاه الله تعالى ـ بتحريم ذلك التحجُّرِ والقسمةِ، مستدِلاً عليه بحديث "المسلمون شركاء في ثلاثة: في الماءِ، والنار، والكلأ" (¬2) أخرجه أحمد وأبو داودَ من حديث أبي خداش ثم قال. ¬

(¬1) أحمد بن يحيى حابس الصعدي. (¬2) تقدم تخريجه مرارًا.

الوجه الثاني: أنه قد ثبت عنه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: النهيُ عن موضع الكلأ من حديث أبي هريرة أنَّ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ قال: "لا يمنعُ الماءُ والنارُ والكلأُ" (¬1) وما في معناه. الوجه الثالثُ: لأنه قد ثبت عنه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ المنعُ من الحِمى لما ثبت من حديث الصَّعبِ بن جثامةَ: أنَّ النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ حَمَى النقيعَ بالنون، وقال: "لا حمى إلا لله ولرسوله" (¬2). الوجه الرابع: أنه قد ثبت عنه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "من سبقَ إلى ما لم يُسْبَقْ غليه فهو له" (¬3) أخرجه أبو داودَ. فنقول: نعم هذه النصوصُ صحيحةٌ دالةٌ على تحريم التحجُّرِ على العموم، ولكنَّ دلالةَ العامّ عند أهل الأصول ظنيةٌ، ولهذا خُصِّصَ تخصيصًا ظاهرًا متصلاً لقوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "لا حمى إلا لله ولرسوله" (¬4) فالذي فهمنا من نصِّه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ أنه لدفع الضر الحاصلِ بالمنع، فإذا زالتِ العلةُ جاز التحجُّر والمنعُ. وقد فهِمَ عمر بن الخطاب هذا لأنَّه حمى شرف الرَّبذة للمصلحة العامة أعني خيلَ المجاهدين والربذة. وعن أسْلَمَ مولى عمر أنَّ عمرَ استعملَ مولى له يُدْعى هنيًّا على الحِمى فقالَ: يا هنيُّ [1ب] أُدْخِلُ ربَّ الصريمةِ، وربَّ الغنيمةِ وإياي، ونُعْمَ بنَ عوف، ونُعْم بنَ عفان، فإنَّهما إن تهلكْ ماشيتُهما يرجعان إلى نخل وزرع، وربُّ الصريمة وربُّ الغنيمةِ إن تهلكْ ماشيتُهما يأتينني ببينةِ يقول: يا أمير المؤمنين: أفتارِكُهم أنا؟ لا أبا لك إلى آخر كلامه" أخرجه البخاريُّ (¬5). وقوله الصريمةُ والغنيمةُ يريد صاحبَ الإبلِ القليلةِ والغنمِ القليلةِ، ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2370) وطرفه ي رقم (3013) وأبو داود رقم (3083، 3084) وأحمد (4/ 37، 71، 73). وهو حديث صحيح. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) في صحيحه رقم (2370) وقد تقدم.

ذكره في النهاية. ودليل عمرَ فِعْلُ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ بلغنا نَّ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ حمى النقيعَ (¬1)، والنقيعُ ما يستنقعُ فيه الماءُ أي يجمع، فإذا جاز التخصيصُ بالحمى للمصلحةِ العامةِ جاز تخصيص النصِّ بالقياس المرسلِ ولا يكون من الملْغَى بل من الملائم، لأنَّ القياسَ المرسلَ ما لم يشهدْ له أصلٌ معيَّنٌ لكنه مطابقُ مقاصدَ الشرعِ الجليلةِ، ونظيرُهُ قتلُ المترس المسلم (¬2)، وغايتُه للمصلحةِ، وهو حفظ عامةٍ من المسلمين، وما يحصل من المفسدةباستئصال قطرِهم حتى ينالَ المترسَ بهم ما نال إخوانَهم المسلمينَ، وهو مصادِمٌ للنصوصِ فيت تحريم قتل المسلمِ كتابًا وسنةً، ولم يكن الداعي إلى قتله إلاَّ الضرورة، ورعايةُ المصلحةِ. وكما فيتحريم نكاحِ الفاجرِ عن الوطئ من يقضي لتركِه، وكما جاز قتلُ الزنديقِ (¬3) إذا ظفرنا به ونطقَ بالشهادتينِ، لأنَّا قد علمنا من مذهبهم التقيةَ، وقتلُه بعد قوله: لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ حرامٌ لولا الاستنادُ إلى القياس، وهذا قول جماعةٍ من العلماء. وخالفَ فيه كثيرٌ كالمنصور بالله، [ ...... ] (¬4) والجصَّاصّ، وغيرهم، كما ذكره في جنة الفصول، لكنْ فيه استظهارٌ، فثَبتَ اعتبارُهُ عندنا، وجاز عن ابن عباس قال: كان الطلاقُ على عهد رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ وابي بكر بكر وسنتين من خلافة عمر طلاقَ الثلاثِ واحدةً، فقال عمر رضي الله عنه: "إنَّ الناس قد ¬

(¬1) النقيع: موضع حَمَاهُ لنعم الفيء وخيل المجاهدين، فلا يرعاه غيرهما. وهو موضع قريب من المدينة، كان يستنقع فيه الماء: أي يجتمع. " النهاية " (5/ 108). (¬2) انظر "المغني" (13/ 141 - 142). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5057) ومسلم رقم (154/ 1066) عن علي بن أبي طالب قال: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فأين لقيتموهم فاقتلوهم". (¬4) كلمة غير واضحة في المخطوط.

استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناةٌ، فلو أمضيناهُ عليهم فأمضاه عليهم" (¬1) رواه مسلم. والإصلاحُ في صنع عمرَ النظرُ في تتابع الناس في الطلاق، كما روي مرجح القولِ بالتتابع، وأنَّ الثلاثَ تكون ثلاثًا مع عدم رجعةٍ متخللةٍ، فنظرَ المصلحةَ في ذلك وترك النصَّ، ولم يُرْوَا التنكيرُ عليه، فلو كان خطأ لأنكر عليه، كقصة الجاريةِ (¬2) التي أرادَ جَلْدَهَا وهي حاملٌ فقال له أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ: هذا [2أ] سلطانُكَ عليها، فما سلطانُك على ما في بطنِها! فرجع، وقال: "لا أبقاني لمعضلةٍ ليس فيها عليُّ بن أبي طالب". هكذا قولُهُ أو معناهُ. وكان الأذانُ بحيَّ على خير العمل، ثم أمر عمر بحذفِ هذه الكلمةِ، وري عن الباقر قال: كانت هذه الكلمةُ في الأذان، فأمر عمر أن يكفّثو الئلا يتثبطَ الناس عن الجهاد، ويَتَّكِلُوا على الصلاة، وكذا في حاشية السعد على شرح العَضُدِ بالإسناد إلى من رواه عن عمرَ أنه كان يقولَ: "ثلاثٌ كُنَّ على عهدِ رسولِ الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ أن أُحَرِّمُهُنَّ، وأنهَى عنهنَّ: متعةُ الحجِّ (¬3)، ومتعةُ النكاحِ (¬4)، وحيَّ ..................... ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (107) (¬2) أخرجه مسلم رقم (34/ 1705). وقد تقدم. (¬3) نهى عمر رضي الله عنه عن التمتع في الجمع لم يكن نهيى تحريم، وإنما كان بيانً لما هو أفضل. انظر "موسوعة فقه عمر" (ص336 - 337). (¬4) نكاح المتعة أن يتزوَّج الرجلُ المرأة مدة، مثل أن يقول: زوَّجتك ابنتي شهر أو سنة، إلى انقضاء الموسم، أو قدوم الحاجِّ، وشبهه، سواء كانت المدة معلومة أو مجهولة، فهذا نكاح باطل. قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (9/ 181): الصواب أنَّ تحريها وإباحتها وقعا مرتين، فكانت مباحةً قبل خيبر ثم حُرِّمتْ فيها، ثم أبيحتْ عام الفتح وهو عام أوطاس ثمَّ حرمت تحريمًا مؤبدًا، وإلى هذا التحريم ذهب أكثر الأمة وذهب إلى بقاء الرخصة جماعة من الصحابة وروي رجوعهم وقولهم بالنسخ ومن أولئك ابن عباس ـ أخرجه البخاري رقم (5116) وري عنه بقاء الرخصة ثم رجع عنه إلى القول بالتحريم، قال البخاري في صحيحه (9/ 167 آخر الحديث رقم 5119) بيَّن عليَّ رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّه منسوخ، وأخرج ابن ماجه رقم (1963) عن عمر رضي الله عنه بإسناد صحيح أنَّه خطب فقال: إنَّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أذن لنا في المتعة ثلاثًا ثمَّ حرمَّها، والله لا أعلم أحدًا تمتَّع وهو محصنٌ إلا رجمته بالحجارة، وقال ابن عمر رضي الله عنهما نهانا عنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما كنَّا مسافحين، إسناده قويّ". قال الحافظ في "الفتح" (9/ 169): وقد رُوي نسخها بعد الترخيص في ستة مواطن. الأول: في خيبر. الثاني: في عمرة القضاء. الثالث: عام الفتح. الرابع: عام أوطاس. الخامس: غزة تبوك. السادس: في حجة الوداع. أخرجه البخاري رقم (4216) ومسلم رقم (1407) والترمذي رقم (1121) والنسائي (6/ 125، 126) وابن ماجه رقم (1961) وأحمد (1/ 79) عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن متعة النساء، وعن أكل الحمر الأهلية يوم خيبر". وهو حديث صحيح. وأخرج أبو داود رقم (2072، 2073) والنسائي رقم (3368) وابن ماجه رقم (1962) وأحمد (3/ 404، 405) وابن حبان في صحيحه رقم (4147) عن ربيع بن سبرة عن أبيه رضي الله عنه أنَّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإنَّ الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهنَّ شيء فليخل سبيلها، ولا تأخذوا مما آتيتموهنَّ شيئًا". وهو حديث صحيح.

على خير العمل (¬1). وكنَّ النساءُ يخرجْنَ إلى المساجد ثم منعن خشيةَ الفتنة (¬2) وقد قال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "لا تمنعوا إماءَ الله مساجدَ الله" (¬3) هكذا ¬

(¬1) قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (23/ 103): "حيَّ على خير العمل" لم يكن من الأذان الراتب. وإنَّما فعله بعض الصحابة لعارض تحضيضًا للناس على الصلاة". قلت: الزيادة في الأذان بـ"حي على خير العمل" من أشهر بدع الروافض وليس لها أصل من الدين البتة على هذه الصورة من المداومة عليها في الأذان الراتب لجميع الصلوات. انظر: "رياض الجنة" للشيخ مقبل بن هادي الوادعي (ص163 - 164). (¬2) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 206). وانظر "المغني" (10/ 46 - 47). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (900) ومسلم رقم (136) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

أو معناه. فإذا عرفتَ هذا علمت أن الأحكام الشرعية لا تخلو من أن يكون لجلب مصلحة، أو دفع مفسدة علمنا ما لم تكن معرفتُه من ذلك، وبعضُها جهلنا وجهَ الحكمة فيه، فصحَّ أن يكون التحجُّرُ بين أهل القرى لمصحلة، وهي حَقْنُ الدماء، وتسكين الفتن، وإمكان أن يتصل الضعيفُ بحقِّه في رعي مواشيه، لأنَّ ترك التحجُّر إبقاءه على الأصل قد جُرِّبَ واخْتُبِرَ لا تخلِّي عن القتل وغيره. وحصولُ المفسدة بالتحجر هي أهونُ منها مع عدم التحجُّر على الوجه المعروفُ، فدفعُ أعظمِ المفسدتين بأهونها وجه مصلحة. فإن قلتَ: المجيبُ قد ذكر ما معناه أنهم يقوموا بالشريعة المطهرة، وأنه يؤدي التأديب الشرعي من تعدَّى، وما أُمِرْنا الإَّ بما جاء عن رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ كما روي أنَّ عاملاً لعمر بن عبد العزيز كتب إليه شاكيًا من عدم إمكان تقويم الرعيةِ فقال في جوابه: "قومهم بكتاب الله، فإنْ قاموا وإلاَّ فلا أقامَهم الله تعالى". قلتُ: نعم هذا هو الحقُّ الحقيق بأن يُتَّبَعَ، لكنَّ زمانَنَا قد فسد أكثرُ الناس فيه، وخرجوا عن قانون الشريعة المطهَّرةِ، ولو رامَ ذو الولاية ممن ولاَّه الإمام أنْ يقوِّمُهم وينتصفَ من ظالِمِهم لمظلومِهم لم يكنْه ذلك، خصوصًا هذا الزمن فإنَّها قد تغيَّرتِ الأحوالُ من قصرِ أكثر الأحكامِ في بلاد القبائل، ويميلونَ إلى الأحكام الطاغوتية، فبهذا التحجُّرِ يقلُّ التعدِّي والقتلُ والنذضهبُ وغيرُهما، ولم يعلِ المجيبُ ـ عافاه الله تعالى ـ ما عند الطّغام من رفض الأحكامِ، وأخْذِ الأموال، وقَتْلِ النفوسِ تعدِّيًا وظلمًا، وصار أقصى الأحكامِ عليهم في هذا الزمن من المتعذِّر، وشاهدُ الحال منفقةٌ في بلاد عَنْسٍ (¬1) [2ب] أنَّ ثمة قريتين بينهما مراعي لكلٍّ ما قابل قريته، وما أحاط بها وبأموالها، ودفعَ كلَّ ما ¬

(¬1) عَنس: بفتح العين ثم سين مهملة، ناحية واسعة غربي ذمار بمسافة 41 كم نسبها الأخباريون إلى عنس بن زيد بن أدد بن زُرعة بن سبأ الأصغر وهي من المناطق الغنية بالآثار القديمة. انظر: "معجم البلدان والقبائل اليمنية" (ص468). "البلدان اليمانية" (ص213).

يسقون منه مواشيهم فتعدت أخرى على الأخرى برعي ما اختصت به الأخرى، وسقى مائهم، وتركوا ما لديهم من الماء والعشب لوقت آخرهم إليه أحوج، ويمنعون أهل القرية الأخرى من الوصول إلى مراعيهم والسقي من مائهم. فهذا وقع. وقد قسمت الحدود فكيف مع الشياع! وقد قرر ما وقع من عليه الاعتماد في تقرير ما حكم به الدولة القاسمية، والمتوكلية، والمؤيدية. وفي عصرهم من الأعلام من يمكنهم الحل والعقد والإبرام، وما ذكره المجيب ـ رحمه الله ـ من كلام السيد المفتي والشامي والقاضي عامر فهو الحق، فكيف وقع منهم التكلم قبل أن يشاهدوا الفساد الحاصل في هذا الزمن! والشريعة كما ذكرناه إنما مبناها على ما فيه المصالح ودفع المفاسد. انظر كيف حرم الشارع الربا (¬1)، ورخص رخصة العرايا (¬2) للحاجة! وكيف منه بيع المعدوم (¬3) وأجاز السلم للحاجة (¬4) وحرم أكل الأموال بالباطل إلا أن يكون عن تجارة بتراض (¬5)، وأجاز أخذ الشفعة (¬6) كرها، ووجب الحد على قذفه عائشة ـ رضي الله ¬

(¬1) تقدم ذكره. انظر الرسالة رقم (114). (¬2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2192) من حديث زيد بن ثابت قال: "أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رخص في بيع العرايا أن تباع بخرصها كيلا". (¬3) وهو حديث ضعيف. وقد تقدم. قال الشوكاني في "وبل الغمام" (2/ 129): روي الإجماع على معنى الحديث فشد ذلك من عضده لأنه صار متلقي القبول ويؤيده النهي عن بيع الملاقيح والمضامين وحبل الحبلة، لأن العلة في ذلك هي كونه بيع معدوم. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2240، 2241) ومسلم رقم (127/ 160) من حديث ابن عباس قال: "قدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: "من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلومٌ". (¬5) لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. (¬6) انظر الرسالة رقم (116).

عنها ـ وم يجلْ أبن أُبيٍّ لمصلحةٍ رآها كما وري (¬1)، وكلُّه لما بني عليه الكتابُ والسنةُ من الشريعةِ السمحةِ على أن التحجُّر الذي نحن بصدد ذِكْرِه. لم يكن في كلمةُ المخالفةِ والمنعِ الكاملِ لمن يريد، لأنَّ هذه حدودٌ هي لأهلها لا يَرِدُ عليها غيرُهم مما لنا، فالقسمةُ بينَهم لأجل سَبْقِهم إليه وهؤلاء قد سبقوا إلى تحجُّر ما عمروهُ وتحجروه محيطيًا وفرعًا وغيرهما والسبقُ من حيث الحقَّ كما دل عليه حديثُ أبي داودَ: "من سبق إلى ما لم يَسْبِقْ إليه مسلمٌ فهو له" (¬2). أخرجه أبو داود. وهاهنا يسلِّمُ الجوابَ سيدي العلامةُ ـ تولاه الله ـ لأنه دليلُه على المنع، ثم صرَّح بقلمه بما يقطع يقطع مادةَ اعتراضه بقوله ـ تولاه الله تعالى ـ، فدلَّ على أنَّ من سبقَ إلى شيء من الكلأ لم يَسْبِقْ إليه غيره بإحياء، ولا تحجُّرٍ، ولا قطْعٍ كان أحقَّ به، والحدود تستلزمُ أنَّ ما كان في الحد فهو لصاحبه، فقد جرى ما نريدُه على لسانه وكفانا مَؤُنَةَ التطويل. قلتُ: وقوله ـ تولاه الله تعالى ـ أنَّ جميع الأدلة [3أ] مخالفةٌ لما شرعه رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، لأنَّ القياسَ أحدُ أدلةِ شريعته ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ المطهرة، ولم يخالف فيه إلاَّ من شد كالنَّظَّامِ (¬3) والخوارجِ، كيف وقد نبَّه عليه في قياس العكس في وضع الشهور الحرام مما ذكره في شرح جمع الجوامع (¬4) للمحلي وقوله أو التوالي كان على قصد دين في خبر الخثعمية (¬5). ¬

(¬1) انظر "المغني" (2/ 383 - 384). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) أول من باح بإنكار القياس ونفيه النظام وتابعه قومٌ من المتزلة كجعفر بن حرب وجعفر بن مبشر ومحمد بن عبد الله الإسكافيِّ وتابعهم على نفيه في الأحكام داودُ الظاهري. (¬4) (2/ 206). (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1953) ومسلم رقم (154/ 1148) من حديث ابن عباس. وانظر الرسالة رقم (133).

فنقول: بل موافقةٌ، لأنَّه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ قد اعتبر المصحلةَ الدافعةِ للضررِ في هذا الباب، الأمرُ إلى فعلِه في قصةِ أبيضَ بنِ حمالٍ حَبْر وفد إلى النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "فأقطعَهُ الملحَ بعد أنْ سأَله فلما ولي قال رجلٌ في المجلس: أتدري ما أقطتَه الماء العدَّ قال: فانتزعه رسولُ الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ وسأله عما يحمي من الأراكِ، فقال: "ما لم تنلْه أخفافُ الإبلِ". رواه الترمذيُّ (¬1)، ففيه أنه لا يجوزُ إقطاعُ الحقِّ العام إنْ أدَّى إلى الضررِ وحيث لا ضررَ أجازه، ولهذا أقطَعه ما لم تَنَلْهُ أخفافُ الإبلِ. قلتُ: الماءُ العدُّ هو الماء الدائمُ (¬2) الذي لا ينقطع (¬3)، وجمعه إعدادٌ، ونهيُهُ عن حمى الأراك إلاَّ ما لم تنلْه أخفافُ الإبل أي لم تبلغْه أفواهها بمشيها إليه وقال: الأصمعي: الخفُّ الجملُ المسِنُّ والجمعُ أخفافٌ، أي ما مرَّتْ من المرعي لا يُحْمَى بل يتركُ لمسانّ الإبلِ، وما في معناها من صغار الإبل التي لا تقوى على الإمان في طلب المرعي. ذكره في نهايةِ ابن الأثيرِ (¬4). فالمتحجَّر في الحدود، ولا ضرر فيه، لأنَّ كلَّ أحدٍ قد رضي بما يليهِ، ولا ضرر فيه على سائر المسلمين، فالذي فهمنا من تجنبه النصَّ أنَّ بيعَ الحِمى لأجْلِ الضررِ، والحدودُ شُرِعَتْ لدفع الضَّررِ المؤدي إلى سَفْكِ الدماء على وجهٍ لا يمكنُ إجراءُ أحكامِ الشريعة فيهم، ولم يكن مخالفًا للأدلة؛ لأنَّ القياس (¬5) المرسلَ قد أسستْ عليه كثيرٌ من أحكام الشريعةِ، وهو قريب من ......................... ¬

(¬1) أخرجه في "السنن" رقم (1380) وقال: حديث حسن غريب. وأبو داود رقم (3064) وابن ماجه رقم (2475) وهو حديث حسن. * الماء العِدُّ: بكسر العين: الدائم الذي لا انقطاع له مثل ماء العين وماء البئر. " النهاية " (3/ 186). (¬2) انظر "النهاية" (3/ 186). (¬3) انظر "النهاية" (3/ 186). (¬4) (2/ 55). (¬5) تقدم ذكره.

الاستحسانِ (¬1) في أحد الأقوال، لأنه وقع فيه اضطرابٌ (¬2)، أعني في حقيقةِ الاستحسانِ. ¬

(¬1) الاستحسان: "هو أن يعدل الإنسان عن أن يحكم في المسألة بمثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه لوجه يقتضي العدول عن الأول". وقيل: الاستحسان: هو طرح القياس الذي يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه إلى حكم آخر في موضع يقتضي أن نستثني من ذلك القياس ... وقيل: "أجود تعريف للاستحسان: أنَّه العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل شرعي خاص، وهو مذهب أحمد". انظر: "الكوكب المنير" (4/ 431). "المسودة" (ص451 - 454). "تيسير التحرير" (4/ 78). وقال الشوكاني في "إرشاد الفحول" (ص786): واختلف في حقيقته فقيل: هو دليلٌ ينقدح في نفس المجتهد ويعسُر عليه التعبير عنه. وقيل: هو العدول عن قياس إلى قياس أقوى. وقيل: هو العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس. (¬2) قال بعض المحققين: الاستحسانُ كلمةٌ سطلقها أهل العلم على ضربين: أحدهما: واجبٌ بالإجماع وهو أن يقدِّمَ الدليلُ الشرعيُّ أو العقليُّ لحسنه فهذا يجب العمل به لأن الحسن ما حسَّنه الشرع والقبيح ما قبَّحه. الضرب الثاني: أن يكون على مخالفة الدليل مثل أن يكون الشيء محظورًا بدليل شرعي، وفي عادات الناس إباحته أو يكون في الشرع دليلٌ يغلظه وفي عادات الناس التخفيف فهذا عندنا يحرم القول به ويجب اتباع الدليل وترك العادة والرأي، وسواء كان ذلك الدليل نصًّا أو إجماعًا أو قياسًا. " البحر المحيط" (6/ 90)، "اللمع" (ص68). قال الشوكاني في نهاية بحث "الاستحسان" في "إرشاد الفحول" (ص789): "فعرفت بمجموع ما ذكرنا أن ذكر الاستحسان في بحث مستقل لا فائدة فيه أصلاً لأنَّه إن كان راجعًا إلى الأدلة المتقدمة فهو تكرارٌ وإن كان خارجًا عنها فليس من الشرع في شيء بل هو من التقوُّل على هذه الشريعة بما لم يكن فيها تارة وبما يضادُّها أُخرى". وقال الشافعي في الرسالة (ص503): من استحسن فقد شرع وفي رواية عنه قال: القول بالاستحسان باطل. وقال في الرسالة (ص507): الاستحسان تلذذٌ، ولو جاز لأحد الاستحسان في الدين لجاز ذلك لأهل العقول من غير أهل العلم ولجاز أن يشرّع في الدين في كلِّ بابٍ وأن يخرج كل أحدٍ لنفسه شرعًا. وانظر: "البحر المحيط" (6/ 87).

وقد استحسنَ جماعةٌ من العلماء أشياءَ كثيرةً في العبادات والمعاملاتِ كما حكى عن بعض الأئمة أنَّه كان يمنعُ الناسَ عن المعاملة في السَّلْمِ أن يقعوا في الرِّفقِ مع جَهْلِهم. وما استدلَّ به ـ تولاه الله ـ في منع الماء من الأحاديث (¬1) فصحيحٌ، ولكنْ ما سبقَ إليهِ الحقُّ فهو للسابقِ كما ذكرناه في العشبِ، لأنَّ لفظ الحديث عامٌّ في كل مباح، ولهذا جرتْ عادةُ الناسِ بمنع الدخول إلى آبارهم التي في دورِهم وبساتينِهم، والحديثُ عامٌّ: "المسلمونَ شركاءُ في ثلاثٍ" (¬2) كما تقدم. فما أدري من أين التخصيصُ للباقي ـ عافاه الله ـ في غير داره، لو دخل أحد يترعُ لَعُزِّرَ بأنواع التعزيرِ إن لم يكن سبقَ الحقَّ، أو يكون من حديثِ بئرِ رومةَ (¬3) حين شرَاها عثمانُ وسبَّلها، وجعلَ دلوه فيها كدلاء المسلمين، فيجوزُ للمالك أن يمنعَ على بئرهِ المملوكةِ أعني من استعمالِ ملكِه، ولو أدى إلى منع الكلأ، لأنَّ الحديثَ (¬4) ورد فيما لم [3ب] يَسْبِقْ إليه أحدٌ فيكونُ سبيلُ المتحجِّر من المراعي سبيلَ ما يتحجّر لمرافقِ القريةِ لحاجتِهم إليه، وأنا أضرب له مثالاً ـ عافاه الله ـ لو كان عشبٌ بين جبلينِ في بطنِ وادٍ يسعُ قدرًا معلومًا من الشاء والإبل نحو ألفٍ، فورد عليه أهلُ قريتين في لحظةٍ واحدة، وهو لا يكفي إلاَّ إحداهما، وثار بينهم الخصامُ كلٌّ يريدُ الاستبدادَ به فيقولُ: لا يصلُحُ شأنُهما إلاَّ قسمتُه بينَهما ونضرب محجَّرًا قاسِمًا يدفعُ الخصامِ، ويرتفعُ به الضِّرارُ، وإن قلنا أنتم سواءٌ ألقيناهُم في الحيرةِ ¬

(¬1) تقدم ذكرها. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر "فتح الباري" (7/ 52) الباب رقم (7) مناقب عثمان بن عفان أبي عمرٍو القُرشيِّ رضي الله عنه وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من يحفر بئر رومة فله الجنَّة، فحفرها عثمان". (¬4) تقدم تخريجه.

الله تعالى ـ فما أرى هذه الحدودَ إلاَّ من جنسِ إقطاعِ ما لم يسبق إليه حقٌّ مسلمٍ، فتقرير الإمام القاسمِ ومَنْ بعدَهُ لهذه المحاجِرِ من الإقطاع كما أقطعَ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ بلال بنَ الحارث المزني، معادنَ القبليَّة جَلْسيَّها وغوريَّها، وحيثُ يصلُحُ الزرعُ من قُدْسٍ، لم يعطهِ حقَّ مسلمٍ. هكذا رواه أحمد (¬1)، وأبو داود (¬2). تفسيرُه (¬3): الغورِ ما انخفضَ من الأرضِ، والجلسُ ما ارتفعَ منها. وقوله: من قُدس هو بضمِّ القافِ، وسكونِ الدالِ جبلٌ معروفٌ. وقيل هو الموضعُ الذي يصلح للزراعة. وفي كتاب الأمكنةِ "أنه قريسٌ" قيل: قريس وقَرْس: جبلان قربَ المدينةِ ذكره في النهاية (¬4)، فاعرفْ أنه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ أقْطَعَهُ ما يصلح للزرعِ، وما يصلح الزرع الكلأُ عادةً. والله أعلم. وهنا انتهى الجواب باختصار. المسألة الثانية من مسائل السؤال: أنها إذا ساغتِ الحدودُ المذكورةُ فهل يجوز تضمينُ من يختصُّ بذلك من قتلٍ ونهبٍ وسَلْبٍ؟. المسألةُ الثالثةُ من مسائل السؤال: أنه إذا كان في ذلك الحدِّ طريقٌ وقع فيها القتلُ أو النَّهبُ، ولا يختصُّ بها أهل الحدِّ فهل يجوزُ تضمينُ أهل الحدِّ وإن كانتِ القسامةُ الشرعيةُ غَيْرَ ثابتةٍ، لأنَّ تَرْكَ تضمينهم قد يؤدي إلى أنهم يفعلون في تلك الطريقِ من الأفاعيلِ ما يكون سببًا لانقطاع المارَّةِ؟. فأجاب ـ تولاه الله ـ أنَّ من قال [4أ] يسوغُ له تعذيبُ عباد الله، أو قتلُهم، لأنَّ الله ـ سبحانه ـ يبتليهم بالأمراضِ والموتِ، أو قال يجوزُ له سلبُ أموالهم لمصلحة لأن الله قد يبتليهم بمثل ذلك أو قال إنه يجوز تسليطُ بعضهم على بعض، لأنَّ الله قد يفعلُ ذلك، لم يكن هذا القائلُ في عداد العلماء، بل لا يكون في عداد العقلاء. ¬

(¬1) في "المسند" (15/ 139 رقم 437 ـ الفتح الرباني). (¬2) في "السنن" رقم (3062) وهو حديث حسن. (¬3) "النهاية" (4/ 10). (¬4) (4/ 24).

قلت: هذا فَرَضُ ما لم يقعُ ولا يُسْمَعْ به. قال ـ رضي الله عنه ـ: ومن هنا يُعْلَمُ بطلانُ استدلالِ بعضِ المتأخرينَ على جواز تغريمِ أهل قريةٍ من القرى، أو مدينة من المدن ما يوجد في حدودهم أو طرقِهم الخاصةِ بهم، أو العامَّةِ لهم ولغيرهم من جناياتٍ، وأموالٍ منهوبةٍ، أو نفوسٍ مسلوبةٍ، حيث لا تصحُّ القسامةُ الشرعيةُ بما فعله الله تعالى من معاقبةِ قوم عاقرِ الناقةِ، وشمولِ العذابِ للفاعل ولغيره، فإنَّ هذا فِعْلُ من لا يُسْألُ عما يفعلُ. وأبطلَ من هذا استدلالَ منِ استدلَّ على ذلك بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (¬1)؛ فإن هذه الآيةَ ليس فيها إلاَّ التحذيرُ من الفتن إلى أن قال ـ رضي الله عنه ـ: فكيف يصحُّ الاستدلالُ بهذه الآيةِ على جوازِ تعميمِ العقوبةِ منَّا لمن يعلم أنَّه لم يكن من تلك في شيء؟. قلتُ: الكلام في هذا من وجهينِ: الأولى: في صحة دعوى القسامةِ على نقل الحدِّ، مع كون الحد قد يكون في طريقٍ عامٍّ لا يختصُّ بمحصورين. الوجه الثاني: أنْ يستدَّ المستدلُّ بفعلِ الله تعالى في عبادِه. فنقول: ما قصَّه الله تعالى في قصصِ الأنبياءِ فقد أخذَ العلماءُ منه أحكامًا من غير نكيرٍ وليس المرادُ أنه من سؤاله تعالى عن فعلِه في خلقِه حتى يكونَ داخلاً في النَّهي الذي قوله عز وجل: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (¬2) وجه ما ذكرناه أنَّهم قد أخذوا من قوله عز وجل: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} (¬3) أنه ينبغي تظعيمُ العلماء، لأن الملائكةَ ـ عليهم السلام ـ لما أنبأهم آدمُ بالأسماء (¬4)، ورأو معه من العلم ¬

(¬1) [الأنفال: 25]. (¬2) [الأنبياء: 23]. (¬3) [البقرة: 34]. (¬4) قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 31 - 33].

ما لم يعلموه عظّموه، وأنه يجوز السجودُ لغير الله، لكنه محمولٌ أنه على جهة التحيةِ والتعظيمِ (¬1) حيثُ لم يعلم صفتَه كما ذكره قاضي القضاة في المحيط. هذا التأويل حيث لم يكن جائزًا في شريعتنا، وقد ذكر فيه [4ب] وجوهًا كثيرًا من التأويلِ، ليس الغرضُ الاستيفاءَ، إنما المرادُ التنبيهُ على رؤوسِ المسائل. ومنها قوله ـ عز وجل ـ ما ذكره الله تعالى في اصطفاء طالوتَ حيث قال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} (¬2) قال بعض المفسرين (¬3): إن حرفته الدباغةُ، وقيل السقايةُ فقالوا: يؤخذ من الآية. ويؤخذ منها أنَّ النبوةَ والإمامةَ لا يشترطُ فيها أن يكون صاحبُها ممن له حرفةٌ رفيعةٌ، أو أن يكونَ غنيًّا، لأنه قد روي أنه كان فقيرًا فاستنكر قومُهُ فَقْرَهُ. وفي قصة صالحٍ (¬4) المذكورةِ في عَقْرِ الناقةِ أنَّ الساكتَ كالراضي أُخذ من قوله: فعقروا الناقةَ، وذلك لما حصَلَ بينَهم وبين فاعلِ العقرِ من التراضي، ولم يقل أحدٌ من العلماء فيما رأيتُه أنه يُؤخذ منه دعوى القسامةِ. ومنها: ما ذكرَهُ في قصة قوم لوطٍ في تعذيبهم. قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} (¬5) ¬

(¬1) قال الجمهور: كان ذلك السجود تكريمًا لآدم وإظهار لفضله وطاعة لله تعالى. " الجامع لأحكام القرآن " (1/ 293). قال ابن كثير في تفسير (1/ 227): وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم امتن بها على ذريته، حيث أخبر أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم. (¬2) [البقرة: 247]. (¬3) ذكره ابن كثير في تفسيره (1/ 666). (¬4) انظر "الجامع لأحكام القرآن" (7/ 241). "تفسير القرآن العظيم" لابن كثير (3/ 440 - 441). (¬5) [هود: 82].

فأَخَذَ منها أميرُ المؤمنين عليٌّ ـ عليه السلام ـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعثمان رضي الله عنه أنه يُلقى على اللائطِ (¬1) حائط. وعن ابن عباس (¬2) يلقى من أعلى إلى أسفلَ في أعلى بناءٍ في البدل ثم يُتبعُ الحجارةَ. وفي القرآن شيءٌ كثير لو استوفيناه لخرجْنا عن المقصودِ، فعرتَ أنَّهم أخذوا أحكامًا من فعل الله (¬3)، لأنه من باب السؤال عمّا يفعلُ ـ سبحانه وتعالى ـ فَذَا مِنَ التعرضِ للإحاطةِ بحكمة اللهِ في خلقِ الخلقِ، وكما تعرَّضَتِ الملائكةُ ـ عليهم السلام ـ بقولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} (¬4) الآية، فلم يُشْفِهم تعالى من الاطَّلاع عليه، بما يَشْفي غُلَّةً، ولا أجابَ عليهم إلاَّ بعلمِه ما لا يعلمونَ في الجملة، ثم قمعَهم بإظهار آدم ـ عليه السلام ـ حين علَّمه الأسماءَ فأنبأهم بها معارضةً لما توهَّموه من الفسادِ المحضِ. ومثلُ ذلك ما لا يكونَ لا يسألُ عما يفعل وهم يُسْألونَ. هذا هو الذي يرادُ من معنى الآية [5أ] فما قضتْ به حكمتُهُ فهو يحملُ عليه معنى النَّهي في الآية أنَّه لا يسأل عنه. ولْنَذْكُرْ شاهدًا على ما ذكرناه: أخرج البيهقيُّ في كتاب الأسماء والصفات (¬5) عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس، "قال: لما بعثَ الله موسى ـ عليه السلام ـ وكلَّمه [وأنزل عليه التوارة] (¬6) فقال: اللهم إنك ربٌّ عظيمٌ، لو شئتَ أن تُطاعَ لأُطعتُ، ولو رضيتَ أنْ لا تُعْصى ما عُصيتَ (¬7)، فكيف هذا يا ربِّ!؟ فأوحى الله تعالى إليه أني لا أُسأَلُ عما أفعلُ وهم يسألون، فانتهى موسى. رواه ¬

(¬1) انظر "نيل الأوطار" (7/ 287. "المغني" (12/ 348 - 351). (¬2) انظر المرجع السابق. (¬3) انظر الرسالة رقم (121). (¬4) [البقرة: 30]. (¬5) (1/ 446 رقم 368) بإسناد ضعيف. (¬6) زيادة من "الأسماء والصفات" (1/ 446). (¬7) [وأنت تحب أن تطاع وأنت في ذلك تعطي] زيادة من مصادر الأثر.

الهيثميُّ في مجمع الزوائد (¬1)، وعزاه إلى الطبراني (¬2) أيضًا، وزاد: "فلما بعثَ الله عُزيْرًا يسألُ الله مثلَ ما يسأل موسى ثلاثَ مرَّاتٍ فقال له: أتستطيعُ أن تصر صُرَّة من الشمس قال: لا، قال: أتستطيع أن تجيء بمكيال من الريح؟ قال: لا. قال: أفتسطيع أن تأتي بمثقالٍ من نور؟ قال: لا. قال أفتستطيع أن تجيء بقيراطٍ من نور؟ قال: لا، قال: فهكذا لا تقدِرُ على الذي سألتَ عنه إني لا أُسأل عما أفعل وهم يسألون، أما أني لا أجعل عقوبتَك إلاَّ أن أَمْحُوَ اسمكَ من الأنبياء فلا تُذْكَرُ فيهم فمحا اسمه من الأنبياء فليس بذكر فيهم وهو نبيٌّ، فلما بعثَ الله عيسى عليه السلام (¬3) [طلبَ مثلَ ما طلبه عزيرٌ فأقسم الله] (¬4) لئن لم تنتهِ لأفعلنَّ بك كما فعلتُ بصاحبك بين يديكَ، إني لا أُسأل عما أفعل وهم يسألون، فجمع عيسى تبعته فقال: القدَرُ سرُّ الله فلا تَكَلَّفوه "فهذه هي الحكمةُ التي نهى الله تعالى عن السؤالِ عنها. لا يُسألُ عما يفعلُ وهم يُسألون: اللهم تَعبَّدْ ألسنتنا على التكلُّم بما يرضيكَ، ونعوذ بك من السخط وأسبابه، والتعرضِ لما لا يعني من الأقوال والأفعال، واجعلِ الأعمالَ خالصةً لوجهك يا ذا الإكرام والجلال. قوله تولاه الله: وأبطلُ من هذا مَنِ استدلَّ بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (¬5)، السائلُ أورد هاتين الآيتينِ، وهما بمعزل عن الدليل ¬

(¬1) (7/ 199 - 200) وقال الهيثمي رواه الطبراني وفيه أبو يحيى القتات وهو ضعيف عند الجمهور، وقد وثقه ابن معين في رواية وضعفه في غيرها ومصعب بن سوار لم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح. (¬2) في "المعجم الكبير" (10/ 317 - 318 رقم 10606). (¬3) تمام النص من المعجم الكبير: "ورأى منزلته من ربه وعلَّمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى وينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم قال: اللهم إنك رب عظيم لو شئت أن تطاع لأُطعت ولو شئت أن لا تعصى ما عصيت وأنت تحب أن تطاع وأنت في ذلك تعصى فكيف هذا يا رب؟ فأوحى الله إليه إني لا أُسأل عما أفعل وهم يسألون وأنت عبدي ورسولي وكلمتي ألقيُتك إلى مريم وروح مني خلقتك من تراب ثم قلت لك كن. (¬4) من زيادة مصدر الحديث. (¬5) [الأنفال: 25].

بهما في ثبوت القسامةِ، ونهْبِ الأموالِ، والمجيبُ ـ عافاه الله ـ حملَهما على غير ظاهرهما فلما جرى الكلام في الآية الأولى [5ب] فتكلَّم في الآية [الثانية] (¬1)، وكان من حقِّ المجيب ـ عافاه الله ـ أن يقول: لا مأخذ من الآيتين، قال رضي الله عنه: هذه الآيةُ ليس فيها إلاَّ التحذيرُ عن أسباب الفتنِ ... إلى أن قال: فالمرادُ من الآية الكريمةِ التحذيرُ لمن لم يتلَّبسْ بأسباب الفتنِ عن أن يدعَ الجدَّ والاجتهاد في دفع تلك الأسبابِ، وهذا هو معنى إبقائها الذي أمرنا الله لأنَّ التفريطَ في هذا الاتقاء يؤدي إلى إصابة الفتنِ لمن تلبَّس بأسبابها، ومن لم يتلبَّسْ، وما كان هذا مالَهُ فما أحقَّه بأن يتَّقيهُ كلُّ أحد، وأكثر ما تكون هذه الإصابةُ العامةُ في الفتن الجاهلية، أو ما يلتحق بها من الفتن، فكيف يصحُّ الاستدلالُ بهذه الآية على جواز تعميم العقوبةِ! قد أطال الكلامَ ـ تولاه الله ـ وهذا بعض منه. فالآية هذه لم يكنْ في ذهني أنها ما عُدَّتْ في آيات الأحكام، والتفسير الذي ذكره ـ تولاه الله تعالى ـ أنها محمولة على ترك الأسباب لم أجدْه (¬2) إلاَّ أنَّ الذي في الكشاف (¬3) أنَّ المرادَ إقرارُ المنكر بين أظهرهم، أو افتراقُ الكلمةِ. وقيل: المرادُ بالفتنةِ العذابُ. ثم قال ما معناه: لا تصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصَّةً، أي لا تصيبُ الظالمينَ منكم خاصَّةً، ولكنها تعمُّكم كما يُحْكى أنَّ علماء بني إسرائيلَ نهوا عن المنكر تعذيرًا فعمهم الله تعالى بالعذاب، ومعنى تعذيرًا أي تقصيرًا بمعنى مقصِّرينَ. وقيل: نزلتْ في عليٍّ ـ عليه السلام ـ وعمارٍ وطلحةَ والزبيرَ ـ رضي الله عنهم ـ وهو يوم الجملِ خاصَّةً. قال الزبير: نزلتْ فينا وقرأناها زمانًا، وما أرانا من أهلها، فإذا نحن المعنيونَ بها. وعن السُّديِّ: نزلتْ في أهل بدر فاقتتلوا يومَ الجملِ. هذا معنى الآية عن إمام المفسرينَ وقُدوتهم، وحاملُ ألويةِ علمِ البيانِ، وتُرجمان ما أنزله الرحمنُ ـ جزاه الله عن المسلمين الجزاءَ الأوفر ـ. ¬

(¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) انظر الرسالة رقم (119). (¬3) (2/ 571) وانظر الرسالة رقم (206).

أما مسألةُ تضمينهم ما نُهبَ من المال فلا وجْهَ له في الشريعة، والأمرُ ظاهرٌ، ومسألة صحَّتْ دعوى القسامةِ فالقسامةُ قد جُعِلَتْ مما ورد على خلاف القياس، فيجب الوقوف على وجه الذي جاء عن الشارع، فإن استحسنَ ذو الولاية مع علمه وورعِهِ وملاحظتِهِ ما فيه المصلحةُ لحقنِ الدماء وصيانةِ الأموالِ فلا حرجَ عليه؛ فقد كان عمر رضي الله عنه استحسنَ أشياءَ، ولا يُنْكَرُ عليه، ومن جملتها ما ذكره الأمير الحسينُ في الشفاء أنَّ قومًا امتنعوا عن بيع دورِهم ليجعلَها المسلمون في الحرم لتوسيعهِ، فجعل عمر بن الخطاب أثمانَها في بيت المال، ولم ينكر عليه أحدٌ من المسلمين في عصره، وكان ذلك في قابِهم مع أنه لا ضرورةَ في الدين، ولا حاجةَ ضروريةَ، لأنَّ الصلاة ممكنةٌ في كل مكان، وأحاديث القسامةِ فرَّعوا عليها تفريعًا كثيرًا وفيها من التعارضِ فات كل عين النظر في مسالكه ليس الكلامُ عليها من الغرض المقصود والله أعلم. وفوقَ كل ذي علم عليم. هذا ما انتهى إليه نظري، وكلُّ مجتهم مصيبٌ (¬1)، والله يُلْهِم إلى صالح الأعمال والأقوالِ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا ولي الأفضال. حرره في شهر ربيع الآخر سنة 1214 بقلم مؤلفه حسينِ بنِ يحيى بن إبراهيمَ الديلمي عفا الله عنه، وعن آبائه والمسلمين أجمعينَ [6ب]. ¬

(¬1) تقدم توضيح ذلك مرارًا.

إرشاد الأعيان إلى تصحيح ما في عقد الجمان

(121) [30/ 2] إرشاد الأعيان إلى تصحيح ما في عقد الجمان تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: "إرشادالأعيان إلى تصحيح ما في عقد الجمان". 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم الله الرحمن الرحيم" الحمد لله ربِّ العالمين وصلاته وسلامه على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين ... ، 4 - آخر الرسالة: "كان تحرير هذه الأحرف في النصف الأول من ليلة الاثنين إحدى ليالي شهر جمادى الآخرة سنة 1214هـ. بقلم مؤلفه محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما، وتجاوز عنهما وعن جميع المسلمين آمين. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 22 صفحة + صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 27 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة. 9 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني. 10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الله الحمدُ لله رب العالمينَ، وصلاتُه وسلامُه على سيدنا محمد الأمينَ وآله الطاهرينَ. وبعدُ: فإني وقفتُ على ما حرره مولاي السيد السَّنَدُ، العلامةُ الأوحدُ، بقيةُ الأعلام، حسَنَةُ الآلِ الكرام الحسينُ بن يحيى الديلمي (¬1) ـ كثر الله فوائده وبارك للمسلمين في أيامه ـ من الأبحاث النفيسة المقبولة على رسالتي المسماة "عِقْدُ الجمانِ في شأن حدود البلدانِ وما يتبعها من الضمان". ولما كانتِ المذاكرةُ العلمية من أعظم القُرَبِ المقرِّبة إلى الله ـ سبحانه ـ حداني ذلك إلى الكلام معه ـ عافاه الله ـ في بعض ما حرره من المباحث. قال ـ كثر الله فوائده ـ: ورأيتُ كلامًا ذكره القاضي أحمدُ بن يحيى حابس (¬2)، وهو ممن عاصر الإمامَ القاسمَ بنَ محمد. أقول: القاضي المذكورُ أدرك أيام الإمام ـ عليه السلام ـ في إبَّانِ شبابه، ولم يصر رأسًا في العلم والتدريس والتأليف إلاَّ بعد موتِ الإمام سنة 1029، ومات القاضي سنةَ 1041 كما حرَّرتُ ذلك في "البدر الطالع" بمحاسنِ مَنْ بعدَ القرن السابع (¬3) وبهذا يتبينُ ¬

(¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) أحمد بن يحيى حابس الصعدي اليماني أحد مشاهير علماء الزيدية. وله مشايخ منهم الإمام القاسم بن محمد. من مصنفاته: "شرح تكملة الأحكام"، "شرح الشافية" لابن الحاجب، "شرح الكافل وتكميل شرح الأزهار". تولى القضاء بصعدة واستمر فيه حتى مات سنة 1061هـ. " البدر الطالع" رقم (78)، "هدية العارفين" (1/ 159). * تحذير: وله بدع. انظر "صعقة الزلزال" (1/ 94 - 96) للشيخ مقبل بن هادي الوادعي. (¬3) رقم (381). وهو القاسم بن محمد بن علي بن محمد الرشيد ولد سنة 967هـ. انظر: "مصادر الفكر" (ص610 - 617). "أعلام المؤلفين الزيدية" (ص777 رقم 839).

صحةُ ما ذكره الشرفي ـ عافاه الله ـ من معاصرة القاضي الإمام. قوله: قال في المقصد الحسن: وإجراءُ المحاجرِ مجرى الأملاك ... إلخ. أقول: اعلم أن رسالتنا في الحدود الموضوعةِ بين قريتينِ أو أكْثَرَ بحيثُ يكون المستحقُّ من الكلأ والماء لأهل هذه القرية إلى مكان معلوم، ولأهل القرية الأخرى إلى مكانٍ كذلك لا يتعدّى هؤلاء إلى حدِّ هؤلاء، ولا هؤلاء إلى حدِّ هؤلاء. وأما المحاجرُ فهي في العُرْف غيرُ الحدودِ، فإنها تواطؤُ أهلِ قريةٍ من القرى على أن يمنعون رِعْيانَهم من بعض أوديتِهم أو جبالِهم ليتوفَّر الكلأُ في ذلك المكان، ويكون مدَّخرًا لهم من أيام الخِصْبِ إلى أيام الجَدْبِ، فيرعَونَ فيه سوائِمَهم عند الحاجة إليه. فالذي تكلَّم عليه ابنُ حابس هو هذا، وهو غير الحدودِ التي كلامنا فيها [1أ]. وفَرْقٌ بين المحاجرِ والحدودِ؛ فإن المحاجِرَ ليس فيها المنعُ من الكلأ المباح إلاَّ لمصلحة راجعة إلى الممنوعينَ، وهي انتفاعُهم به في أيام الحاجة إليه، وهو باقٍ لهم مُدَّخَرٌ لمواشيهم بخلاف الحدود بين البلدانِ، فإن وضْعَها لمنع بعض المواضعِ عن البعض الآخرِ منعًا مطلقًا، وتخصيصَ استحقاقِه بالبعض الآخر، وهذا هو المنع الذي تردُّه تلك الأحاديث التي حررناها في الرسالة (¬1) المذكورة، وهذا الذي يسمونه مَحْجَرًا عُرْفًا هو الذي كانت العربُ تسميه حِمًى، وقد ذكرنا في الوجه الثالث من الأدلة في "عقد الجمان" الأدلةَ القاضية بتسويغه، والقاضيةَ بمنعه، وفرَّقنا بينه وبين الحدود، فلْيُرَاجِعِ الشرفيُّ ذلك ـ كثر الله فوائده ـ وبالجملةِ فكلامُ ابن حابسٍ الذي نقله الشرفي مستدلاً به على ما قاله في تلك الأبحاثِ، مصرِّحًا بأنه لم يقف في المسألة على كلام لأحد من المجتهدينَ سواهُ هو في غير ما نحن بصدده من الحدود، فحينئذ لم يبقَ قائلٌ من أهل الاجتهاد يقول بتسويغ الحدودِ المعروفةِ باعتراف مولانا الشرفي ـ كثر الله فوائده. ¬

(¬1) رقم (119).

وأما قول ابن حابس ـ رحمه الله ـ بأنَّ ضربَ الأعلام فيها التي يعتادونَها يوجبُ الملكَ لأنَّ للعُرفِ مجالٌ، وأيُّ مجال، أو من باب النظرُ في تسكين الدهماء!. فأقولُ: اعلم أن التخصيص بالأعراف (¬1) للأدلة الشرعية عند مَنْ قال به مختصٌ بالأعراف التي لأهل الشرع عند نزول القرآن الكريم، مع وجود رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ بين ظهرانِيْهم، فما كان من الأعراف بهذه المثابةِ فقد قال قائل من أهل الأصول بصلاحيته، لتخصيص عمومات الأدلةِ الشرعيةِ. ووجهُ ذلك ما ذكروه من أن الخطاباتِ الواردةِ في التفريعات هي لقوم قد تعارفوا بكذا، فكان المرادُ منها ما استقر في عُرْفِهم، ولكنَّ الحقَّ عندي عدمُ صلاحية العُرْفِ الكائنِ على هذه الصفةِ للتخصيص حسبما قرَّرَتُ ذلك في غير هذا الموطنِ، وهذا في الأعراف الثابتةِ للمخاطبينَ بالخطابات الشرعية عند حدوث الشريعة، وأما الأعرافُ الحادثةُ بعد انقراض الصدر الأول فلا يقولُ قائل بحمل الخطاباتِ الشارعِ عليها، وكيف يقول بذلك والأعراف اصطلاحيةٌ! لكل أحد [1ب] من الناس أن يتعارفَ هو وقومُهُ بما شاء، فإذا حدثَ مثلاً بعد انقطاع الوحي، وموتِ صاحبِ عُرْفٍ لقوم اصطلحوا عليه، فهل يتجاسرُ عالِمٌ على حمل الخطابات الشرعيةِ على هذا العرفِ الحادثِ في الاصطلاح، أو على تخصيص الأدلة الشرعية (¬2) والحقُّ أ، ها لا تخصَّص لأن الحجة في لفظ الشارع وهو عامٌّ والعادةُ ليسن بحجة حتى تكون معارضةً له. انظر: "تيسير التحرير" (1/ 317) و"المسودة" (124 - 126).؟ وهو شيء اخترعتُه طائفة من الطوائف، وابتدعته ¬

(¬1) قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" (ص532): والحقُّ أن تلك العادة إنكانت مشتهرة في زمن النبوة بحيث يعلم أن اللفظ إذا أطلق كان المراد ما جرت عليه دون غيره فهي مخصِّصةٌ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما يخاطب الناس بما يفهمون، وهم لا يفهمون إلا ما جرى عليه التعارف بينهم. وإن لم تكن العادةُ كذلك فلا حكم لها ولا التفات إليها. والعجب ممن يخصِّص كلام الكتاب والسُّنة بعادة حادثةٍ بعد انقراض زمن النبوة تواطأ عليها قومٌ وتعارفوا بها ولم تكن كذلك في العصر الذي تكلم في الشارع فإن هذا من الخطأ البيِّن والغلط الفاحش. انظر: "البحر المحيط" (3/ 392)، "اللمع" (ص21). (¬2) ذهب الجمهور إلى عدم جوام التخصيص بها، وذهب الحنفية إلى جواز التخصيص بها.

فرقةٌ من الفِرق! هذا هو العجبُ ولو كان صحيحًا لكانت الشريعةُ دائرةً بين الاصطلاحات الحادثة المتجددِّة تابعةً لها، فمن رامَ المخالفةَ لحكمٍ من أحكام الشريعة تواضَعَ هو وقومُهُ على شيء من الأعراف المخالفةِ للشرع، واستراحوا منا لتعب، وألْقَوْا عن أعناقهم ما يثقل عليهم من الشرعيات. فرحم الله ابن حابس كيف جرى قلمُه بقوله: للعرف مجالٌ وأيُّ مجال. وأيُّ مجال لعرفٍ حدث بعد ألف سنة من موت رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ! فإنْ كان يريد العرف في الحِمَى الذي كان ثابتًا في أيام الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فكان يغنيه عن هذا أن يستدلَّ بما أخرجه البخاري، وأحمد، وأبو داود من حديث الصَّعبِ بن جُثامَةَ (¬1) أن النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ حَمَى النقيع، وكذلك أخرجه أحمد من حديث ابن عمر (¬2) فما بالُه عوَّل على مجرد العرف. وفي المقام سُنَّةٌ ثابتةٌ. نعم الأعرافُ محكمةٌ فيما يتجاوزُ به جماعةٌ إذا تكلَّموا بشيء فيما بينهم حمل على أعرافهم، مثلاً إذا حلفَ الحالفُ على شيء حُمل على عُرْف بلده، وكذلك إذا وهب أو ملَّكَ أو نحو ذلك. وأما حمل الخطابات الشرعية على [الأعراف] (¬3) الحادثة فهذا لم يقل به أحدٌ من المسلمين، وما ذكره أهل الأصول في العرْفيات العامَّة، والعرفيات الخاصَّة، فهو مرادٌ به ما ذكرناه. وأما قول ابن حابس: أو من باب النظر في تسكين الدَّهْمَاء. فأقولُ: قد قررنا في تلك الرسالةِ (¬4) أنَّ هذه الحدود صارت من أعظم أسباب الفتنِ ¬

(¬1) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح. (¬2) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح. (¬3) مكررة في المخطوط (¬4) رقم (119).

والمِحن، وأوضحنا ذكل بما لا مزيدَ عليه، فليس في الحدود إلا إثارةُ الفتن وتحريكُ الدهماء، وإراقة الدماء، وتهييج الشحناء، فإن التبسَ [2أ] عليك هذا فها نحن نوضح لك الأمر في صورة معلومة عند كل أحد، وهي أن أكثر ما يحدث من الفتن بين الناس إنما يكون بعد قسمة الحدود بخلاف المشركين في الحدود، فإنك لا تجدُ بينَهم شيئًا من الفتن. ومن تتبع هذا بالاستقراء على أن الشر كل الشر في مخالفة الشريعة بضرب الحدود التي أفضتْ إلى منع ما جعله الله شرِكَة بين عباده، في جميع بلاده، على لسان رسوله. ومن التبسَ عليه هذا فلْيسْألْ سُكان البوادي عن الفتن الحادثة في محلِّهم، هل هي بينهم وبين من قد ضُرِبَت بينهم الحدود، أو بينَهم وبين من لم يضرب بينهم الحدود؟ فإنه لا محالة سيخبرونه بأن هذه الفتن المشتعلة نارُها ليست إلا بينهم وبين من قد ضربت بينَهم الحدود في جميع البلاد. وهذا لا يكاد يلتبس عند من مارس أحوال الناس أدنى ممارسة. قوله: هذا قول حسنٌ، وقد ورد في هذا حديثان: أحدُهما: "المسلمون شركاء في ثلاث" (¬1). والثاني: "من سبقَ إلى ما لم يُسْبَقْ إليه" (¬2). [و] (¬3) قد ذكرتُ في الرسالة (¬4) الكلامَ عليه، وتصحيح بعض الحُفَّاظ له، وقد جعله الشرفي ـ عافاه الله ـ هاهنا دليلا للكلام الذي قدَّمه عن ابن حابس، ولا يخفى أن كلامَ ابن حابس ليس هو في مسألة السؤال التي أجبنا عليها، بل هو المحاجر التي هي الحمى كما قدمنا. ¬

(¬1) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح. (¬2) تقدم تخريجه وهو حديث ضعيف. (¬3) زيادة يقتضيها السياق. (¬4) رقم (119).

وتلك مسألةٌ أخرى، وإن شاركت مسألة السؤال في بعض الوجوه. وحينئذ لا وجه للاستدلال على المحاجر بحديث: "من سبقً ... إلخ"؛ لأنه لم يسبق إليها أحدٌ، وإنما اجتمعَ رأيُ أهل القرية على أن يجعلُوها حِمَى، وايضًا لو فرضنا أن كلامَ ابن حابس في الحدود لم يصحَّ الاستدلالُ على جوازها بحديث: "من سبق ... إلخ" لوجوه: الأول: أن هذا الحديث حجة على الشرفي ـ عافاه الله ـ لا له، لأنَّا إنما منعنا الحدود لأجل أن يكون الناس [2ب] مشتركين في الكلأ ونحوِه، ومعنى الاشتراك أن يكون للجميع، ومن سبق منهم إلى شيء كان أولى به، فالحديث حجةٌ لمن قال بعدم جواز الحدود؛ إذ هي بعد ضربها مانعة عن معنى الحديث، وهو أن من سبق إلى شيء فهو أولى به، بل ليس لكل أحد إلاَّ ما في حدِّه، سواءٌ كان سابقًا أو مسبوقًا، فإن قال الشرفي ـ كثر الله فوائده ـ: أن المراد بالسبق هو ضرب الحدود فليس ذلك بصحيح، إذ من المعلوم أنَّ الكلأ الذي كلامُنا فيه يحدُثُ في السنة مراتٍ، فإذا فرضنا أنه حدث كلأ بعد ضرب الحدو، ثم سبق إليه كلامُنا فيه يحدُثُ في السنة مراتٍ، فإذا فرضنا أنه حدث كلأ بعد ضرب الحدود، ثم سبق إليه غيرُ صاحب الحدِّ فهل يقول الشرفي بأنه أولى به أم لا؟ إن قال بالأول فهو ما نريده من عدم ابتداع الحدود المفْضيةِ إلى منع ما أباحه الله. وإن قال بالثاني، قلنا له هذا خلافُ الحديث الذي جعلتَه دليلا لك، وإن قال إنَّ ضارِبَ الحدود سابقٌ إلى ما لم يَسْبِق إليه أحدٌ فنقول: هذا باطلٌ، فإنه لم يسبق إلى تحجُّر الكلأ، بل وضع أحجار على ظهر الأرض، فكيف يستحقُّ من الكلأ ما يحدث بعدَ ذلك مرةً بعد مرةٍ! وهل هذا إلا مخالفٌ لحديث السَّبْقِ، وللأحاديث الدالة على اشتراك الناس فيه، المذكورة في تلك الرسالة. الوجه الثاني: أنْ لو سلَّمنا تنزلاً أن السبقَ صادقٌ على صورة وضع الحدودِ، فنقول: لا يخفى على عارفٍ أن حديثَ السبق أعم من حديث: "الناس شركاء في ثلاث"، وبيانُه أنَّ قوله: "من سبق إلى ما لم يُسبق إليه" فيه صيغتان من صيغ العموم (¬1). ¬

(¬1) انظر "إرشاد الفحول" (ص402)، "تيسير التحرير" (1/ 197)، كتاب "حروف المعاني" للزجاج (ص55).

الأولى: لفظ (من) العامَّةِ في الأشخاص. والثاني: لفظ (ما) العامَّة للثلاثة وغيرِها؛ فإن الحديث في قوَّة: أيُّ شخصٍ من الأشخاص سبقَ إلى شيء من الأشياء فهو أولى به. وظاهرُه عدمُ الفرق بين الثلاثةِ وغيرها فيكون حديث الثلاث [3أ] مخصِّصًا له، فيحصل من المجموع أن من سبق إلى شيء فهو أولى به ما لم يكن ذلك الشيء أحد الثلاث المذكورة، وبناءُ العامّ على الخاص مجمع عليه. هذا على تسليم أنَّ في الحديث رائحة دلالةٍِ على ما ذكره الشرفي، وإلا فنحن لا نشكُّ أنه حجةٌ عليه كما سلفَ. وبهذا تعرف أنَّ ما استدلَّ به ـ عافاه الله ـ هو دليلٌ لمخالفة وأنه على فرض التسليم عامٌّ لا خاصٌّ كما قرره، ولهذا أوردناه في أدلة المنع من الحدود كما ذكرناه في تلك الرسالة. الوجه الثالث: أن قوله: فيكون الأول عامًّا محمولاً على عدم السبق ينافي مرادَهُ عند إمعان النظر لما قدمنا من أنَّ السبق لا يكون موجبًا للأحقِّية إلاَّ إذا كان الشيءُ على أصل الاشتراك والحدود يمنعُ من ذلك كما قدمنا. قوله: فإن لم يسلِّم هذا كان من القياس المرسل (¬1) إلى آخر كلامه. أقولُ: ليس ضرب الحدود من القياس المرسل في وِرْدٍ ولا صَدْرٍ، بل هو من القياس الملغي (¬2) ليظهر له ما ذكرناه. وقد حققنا ذلك في الرسالة (¬3) التي تكلَّم عليها ـ عافاه الله ـ، وصرَّحنا بأنه من هذا القبيل. وأما ما نقله عن بعض أهل الأصول في بيان مفهوم المناسب الملائم فالأمرُ كما ذكره، ولكنه غيرُ هذا المناسبِ الملْغي، ونحن نزعمُ أن هذه الحدودَ ليست مما يجلبُ نفعًا، ¬

(¬1) تقدم توضيحه. (¬2) انظر "إرشاد الفحول" (ص790)، "تنقيح الفصول" (ص445)، "تيسير التحرير" (4/ 171). (¬3) الرسالة رقم (119).

ولا يدفع ضررًا بل هي مظنَّة لجلب الضَّرر، ومنع النفع كما حققنا ذلك في الرسالة. وأما خروجه ـ كثر الله فوائده ـ إلى ذكر الضروريات الخسم المعروفة (¬1) عند أهل الأصول فتلوُّنٌ في البحث، وأين ما نحن بصدده من ذاك؟ وكيف يكون ضربُ الحدود بين البلدان الذي هو سبب إثارة الفتن، وإراقة الدماء مما دعت إليه حاجةٌ ضروريةٌ! وما في ترك الناس على هذه [3ب] الشريعة الواضحةِ الغراء من ضررٍ! وأيُّ ضرر في شيء شرعه الله لأمته؟ وما املنفعةُ في حَجْرِ أهل هذه القرية عن الكلأ الذي أباحه الله لهم، وحجر أهل القرية الأخرى عن الكلأ المباح بالشريعة المحمَّدية؟ فقد رأينا وسمعْنا أن جميعَ المواضع المشتركة في الكلأ لا يحدُثُ بينهم عُشْرُ معشار ما يحدث بين من ضُرِبَتْ بينهم الحدود، وما أبعد دعوى الحاجة الضرورية التي يعلم كلُّ عاقل خلافَها، وأين الضرورةُ من هذا؟ فيا لله العجبُ أيعيش الناسُ من زمن النبوة إلى بعد ألفِ سنةٍ من ذلك مشتركينَ في الكلأ، عاملينَ بالشريعة الغراء المطهَّرة حتى أوجد الله بعد الألف رجلاً ليس عنده من علوم الاجتهاد نقيرٌ ولا قِطْميرٌ يقال له الشكايذي، فجاء للناس بما يخالفُ الشريعةَ وينافيها، ثم سَرَتْ بدعتُه حتى طبَّقتِ الأقطار اليمنية، وجاء بعده من الحكَّام جماعةٌ هم دون طبقتِه في معرفة المسائل الفقهيةِ فقلَّدوه في ما جاء به من المخالفة البحتةِ للشريعة المطهَّرة، فقامت الفتنُ على ساق، واشتغل صاحب كلِّ محلٍّ بمن يقاربه ممن ¬

(¬1) وهي 1 - حفظ النفس بشرعية القصاص فإنه لولا ذلك لتهارج الخلق واختلَّ نظام المصالح. 2 - حفظ المال بأمرين: أحدهما: إيجاب الضَّمان على المتعدي فإن المال قوام العيش، وثانيهما القطع بالسرقة. 3 - حفظ النسل بتحريم الزنى وإيجاب العقوبة عليه بالحد. 4 - حفظ الدين بشرعية القتل بالرِّدة والقتال للكفار. 5 - حفظ العقل العقل بشرعية الحدِّ على شرب المسكر فإن العقل هو قوام كل فعل تتعلق به مصلحةٌ فاختلاله يؤدي إلى مفاسد عظيمة. وانظر: "البحر المحيط" (5/ 208 - 211). "الكوكب المنير" (4/ 166).

ضُرِبَتْ بينهم الحدودُ، فسُفِكَت الدماءُ، وهُتِكَت الحُرُمُ، ثم إن مولانا الشرفيّ ـ عافاه الله ـ يحتجُّ لهذه البدعةِ الساقطة المخالفة لما هو معلومٌ من الشريعة بحجةٍ لا يجري القلم بمثلها إلا في أمر معلوم بالضرورة الدينية، أو الضرورة العقلية، فيقول: إن ذلك قد دعت إليه حاجةٌ ضروريةٌ، ولعمري ما كان يطمعُ الشكايذيُّ ببعض هذا، وهو معذورٌ لقصور باعه عن النظر في الأدلة، فما عُذْرُ الشرفي! ونحن لا نشك أن الشكايذيُّ ـ رحمه الله ـ لو قال له قائلٌ: ماذا صنعتَ بنفسك! خالفتَ الشريعةَ المطهَّرةَ، وأوقعت الناسَ في الفتنة، لما وَسِعَهُ إلاَّ الاعترافُ بالخطأ، والرجوعُ عما فرَطَ منه، فقد كان بمحلٍّ من الورع. قوله: الجواب عنه من وجوه: الأول: نفيُ العموم بعدَ وجود المخصِّص من وجهٍ ما. أقول: الجوابُ عن هذا الوجه من وجوهٍ: الأول: أنَّ ظاهرهُ أنّ العامّ إذا خُصِّصَ لم يبق متَّصفًا بالعموم، وهو خلافُ ما أطبق عليه أهلُ الأصول (¬1)؛ فإنَّ العامَّ وإن خُصِّصَ بمخصِّصاتٍ متعدِّدةٍ لا يخرجُ عن كونه عامًّا. الوجه الثاني: الاستفسارُ للشرفي ـ عافاه الله ـ عن المخصِّص الذي زعمه، وأبطلَ به دلالَة العمومِ ماذا هو؟ فإن كان حديث: "من سبقَ ... إلخ" فقد قدمنا أنه حجةٌ عليه لا له، وإن كان العرفُ الذي زعمه ابن حابسٍ فقد قدمنا إبطاله، وإن كان القياسُ المرسلُ الذي زعمه الشرفيُّ فقد أوضحنا فسَادَهُ. الوجه الثالث: أن الشرفيَّ قامَ في مركز المنعِ، وليس المقامُ مقامَ المنع، بل المقامُ مقامُ الاستدلالِ، ومركزُ المنعِ هاهنا بيد المتمسِّكِ بالعموم، فيقول: أنا أمنعُ تخصيصَ العموم، وأمنع عدمَ بقاء العموم على عمومِهِ، وعلى مدَّعي التخصيص، أو ذهابِ العمومِ ¬

(¬1) انظر: "تيسير التحرير" (1/ 242)، "البحر المحيط" (3/ 159).

الاستدلالُ كما تقرَّر في علم الجدل (¬1) الذي قال له علم المناظرة، وآدابُ البحث. قوله: ولكنَّ دلالةَ العامِّ عند أهل الأصول ظنيَّةٌ (¬2). أقول: هذا الاستدراكُ واقعٌ في غير موقِعِه، لأنه قد قرَّرَ سابقًا عدمَ بقاء العمومِ بعد وجودِ المخصِّصِ، وكان القياسُ على مقتضى السياقِ أن يقول: هذه العمومات مخصصَّة، ويوضِّح المخصَّص، ولا حاجة إلى المنع الذي ليس هو وظيفة المستدِل، ولا حاجة أيضًا إلى ذكر ظنيَّة العموم؛ فإن هذا [4ب] إنما يناظِرُ به من كان مدعيًا لقطعيةِ دلالةِ العموم، ولم ندَّع ذلك في الرسالة، ولا حِمْنَا حوله؛ إذ الكلامُ عليه قد تقرَّر في الأصول ببراهينه. قولُه: ولهذا خصِّص تخصيصًا ظاهرًا بقوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "لا حمى إلاَّ لله" (¬3). أقولُ: إن كان الشرفيُّ بصدد الكلام على تسويغ منع الكلأ بالحدود فالحِمَى أمرٌ آخر كما بيَّناه في أول الكلام، وإن كان بصدد التخصيص لأدلة منع الحِمَى فهو أمرٌ غيرُ ما نحن بصدده، ولا نخالِفُ في أن قولَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "لا حمى" مُخَصَّصٌ بالمخصِّص المتصل (¬4)، وهو الاستثناء بقوله: "إلاَّ لله ولرسوله" ولكنَّ هذا لا ينفع الشرفيّ ولا يضرُّنا، وإن كان بصدد الاستدلالِ على ظنيِّة العموم من غير تعرُّضٍ للبحث الذي نحن بصدده فالمسألةُ أجنبيةٌ، ولها في الأصول براهينُ صحيحةٌ. قولُه: فالذي فهمنا من نصِّه أنه لدفعِ الضررِ الحاصل بالمنع، فإذا زالتِ العلة جاز ¬

(¬1) انظر "الكوكب المنير" (4/ 361، 397). "الكافية في الجدل" (ص25). "الفقيه والمتفقه" (1/ 229). (¬2) انظر "تيسير التحرير" (1/ 197، 329). "التبصرة" (2/ 19، 21). (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) انظر تفصيل ذلك في "إرشاد الفحول" (ص488). "البحر المحيط" (3/ 277).

التحجُّرُ بالمنعُ. أقولُ: صرَّح بقلمه ـ كثر الله فوائده ـ في هامش النسخة التي بخطِّه أن كلامَه هذا فيه إشارةٌ إلى تنبيه النصِّ، ولا أدري كيف جرى قلمُه ـ عافاه الله ـ بهذا واين مسلكُ تنبيه النصِّ من هذا؟ ومن أين فهم تنبيهَ النصِّ؟ وكان الأَوْلَى له التعويلَ على تخريج المناط (¬1) أو تنقيحَ المناط (¬2)؛ فهو أقربُ إلى ما نحن بصدده من تنبيه النصِّ وإن كان الكلُّ غيرَ صحيحٍ. وهَبْ أنَّ العلَّة هي التضرُّر إما بتخريج المناط، أو تنقيح المناط، فمن أين للشرفي أن التضرُّر بالتحجُّر قد زال بعد انقراض ألف سنةٍ من الهجرة؟ وما الذي دلَّه هذا؟ فإن التضرُّر الكائن في أيام النبوة وما بعدَها كائنٌ في الأزمنة المتأخرة [5أ]، اللهم إلاَّ أنْ يبرزَ برهانًا نقليًا أو عقليًا أن ضرر التحجُّر قد ارتفعَ في هذه الأزمنة، ولا سبيل إلى ذلك فإن الأرض في هذه الأزمنة هي على ما كانت عليه في الأزمنة الأولية لم تتسعْ، ولا زاد نباتُها، ولا تدفَّقت أنهارُها، بل النقصُ حاصلٌ في آخر الزمان كما دلّت على ذلك الأدلةُ وشهد به التجريبُ، فما بال أقلّ الأزمنةِ خِصْبًا، وأكثرها جَدْبًا! وهو آخر الزمان ارتفعَ فيه تضر الناس بالتحجُّر بعد أن كان موجِبًا للضَّرر. قولُه: وقد فهم عمرُ بن الخطاب ... إلخ. أقولُ: فَهْمُ عمرَ إن خالف النصوصَ ليس بحجةٍ (¬3) على أحد من الناس كما هو المذهب الحق، واجتهادُه لا يلزمُ غَيْرَهُ على أنه يمكن أن يكون مستندُهُ هو ما قدمنا من فعله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، ثم هَبْ أن عمرَ حَمى ذلك لما فهمه من النصوص ¬

(¬1) تقدم توضيحه. (¬2) تقدم توضيحه. (¬3) تقدم "بيان أن قول الصحابي في مسائل الاجتهاد ليس بحجة على صحابي آخر وأما على من بعد الصحابة من التابعين فذهب الجمهور على أنَّه ليس بحجة مطلقًا. وذهب المالكية وأكثر الحنابلة وبعض الحنفية والشافعي في القديم أنه حجةٌ شرعية مقدمة على القياس. وقيل: ليس على إطلاقه ـ بأنَّه ليس بحجة ـ بل فيه تفصيل. وقد تقدم. انظر تفصيل ذلك: "البحر المحيط" (6/ 72). "شرح صحيح مسلم" للنووي (1/ 30).

كما ذكرتَ، فهذا غيرُ ما نحن بصدده، فإن عمر حَمَى ذلك لخيل الجهادِ، ومصلحةِ المسلمينَ، ولم يُنْقَلْ عنه أنْ ضربَ حدودًا بين قريتين، ومنع كلَّ جهة من مجاوزة ما ضربه بينهم، وليس كلامُنا إلاَّ في هذا، ولهذا سمَّينا الرسالة "عِقْدُ الجمانِ في شأنِ حدودِ البلدانِ" (¬1) والاسم يدلُّ على المسمَّى أقلَّ الأحوال. وقد أوضحنا الفرقَ فيما تقدم بين الحِمى وبين الحدود، فلْيتأمَّلِ الشرفيُّ ـ أطال الله بقاءه ـ. وأما ما ذكره ـ كثر الله فؤائده ـ من الكلام في المرسل وأقسامِهِ فليرجِعْ إلى كتب الأصول، وهي موجودة لديه، وينظرْ ما ذكره الأئمةُ في تفسير كلِّ واحد منها؛ فإنه إن أمعنَ النظرَ في ذلك كما ينبغي [5ب] عرفَ أن حدودَ البلدانِ ليست من قسم المناسبِ الملائِم، ولا المؤثِّرِ، ولا المرسلِ، ولا الغريب، بل من قسم المناسب الملغي. وقد أورد الأئمة لكل قسم منها أمثلةً متعددة، ولا سيما في الكتب المطوَّلة (¬2) فلنكتف بمجرد الإحالة عليها، وفي إنصافه ـ دمت فوائده ـ ما تغنينا عن إيراد الأمثلة. وأما ما أورده من أفعال عمرَ فيكفينا في جوابه أن نقولَ: ليس اجتهادُه حجةً، ولا يجب الإنكارُ في الاجتهاد حتى يقال: لم يُنْكِرْ عليه الصحابةُ، ولو كان مجرَّدُ ما يؤدي إليه الاجتهادُ مما يجبُ فيه الإنكارُ لأنكر الناسُ على كلِّ مجتهدٍ اجتهادُه، ووجبَ عليهم ذلك، ولا قائلَ به، فمن سكت عن مجتهد في اجتهاده لا يُسْتَدَلُّ بسكوته على أن ذلك الاجتهادَ حقٌّ، وما فعله عمرُ في الحِمى هو من مطارح الاجتهادِ، وليس من المواضع التي بمسرحٍ للاجتهاد حتى يكون لما قاله او فعلَه حُكْمُ الرفعِ، وبعد هذا كلِّه فليس كلامُنا في الحمى، إنما كلامنا في الحدودِ، وبينَهما فرق قد تقدم تحريرُهُ. قوله: وحصولُ المفسدة بالتحجُّر أهونُ منها مع عدم التحجُّر. ¬

(¬1) رقم (119). (¬2) انظر "الكوكب المنير" (4/ 153) و"المحصول" (5/ 158)، "إرشاد الفحول" (ص710 - 720) "البحر المحيط" (5/ 153 وما بعدها).

أقولُ: رجع ـ عافاه الله ـ إلى الموازنة بين المفاسِد وهو غيرُ ما قد حرَّره سابقًا، وهذا أحسنُ ما ينبغي التعويلُ عليه في المسألة، لكنه لا يتمُّ إلاَّ بعد تسليم ما زعمه من أن مفسدةَ التحجُّر دون مفسدة عدم التحجر، ونحن نمنع ذلك، بل نقول: إنه لا مفسدة في ترك التحجُّر أصلاً شرعًا وتجربيًا، أما شرعًا فَلِما ذكرنا في الرسالة (¬1) من إرشاد الشارع إلى الاشتراك في الثلاث، ونهيه عن الاختصاص بها [6أ]، وأما تجريبًا فَلِما قدَّمنا ذِكْرَهُ غَيْرَ مرَّة أن منشأ الفتن، وسفكَ الدماء إنما كان بسبب ضَرْبِ الحدود، ومَنْعِ الناس عن حكم الشرعِ، ومخالفةِ ما جاء به رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ وكيف يكون ما شرعه لأُمَّتِهِ، ودل عليه، وأرشد إليه مفسدةً! يا لله العجبُ، بل كيف يكون ما شرعَهُ، وهدَى إليه مشتملاً على مفسدةٍ أعظمَ من المفسدة الحاصلة بما نهى عنه وأرشد إلى مخالفته! وهل هذا إلاَّ من التقصير بجانب الشريعة المطهرة! وترجيحَ ما يخالفها! ومولانا الشرفيُّ وإن جرى قلمُه بهذا، واستلزمه كلامُهُ فهو ـ عافاه الله ـ لو كُوشِفَ، وحُوْقِقَ لم يرضَ أن يحكم على ما شرعه لنا رسول الله، ودرج عليه خيرُ القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم إلى انقراضِ ألفِ سنةٍ من الهجرة بأنه مفسدةٌ خالصةٌ زائدةٌ على ما في خلافِه مما سنَّه الشكايذي، ومَنِ الشكايذي بل من العالَمُ بأسرِهِ بجنب المصطفى ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ؟! فما لنا وللمعادلة بين الشريعة المطهرة، وبين البدعة المحضة، ومجاوزة ذلك إلى أن الشريعة المطهرةِ قد اشتملتْ على مفسدةٍ، وغيرُها من البدعةِ مشتملةٌ على مصلحةٍ! سبحانك الله وبحمدك، اللَّهم غُفْرًا. دعُوا كلَّ قولٍ عند قولِ محمد ... فما آمِنٌ في دينِه كمخاطِرِ قوله: لكن زَمَانَنَا قد فسدَ أكثرُ الناس فيه. أقولُ: الفساد إنما وصل إلينا من تركِ الشريعةِ المطهرة، وظنِّهم أن غيرها أصلحُ منها ولو دبَّرهم الولاةُ بها لكانوا كالصحيح المقوَّم [6ب]. ¬

(¬1) رقم (119).

وقد جربنا من أحوال العامة والخاصّة ما لا يأتي عليه الحصْر فوجدنا مصلحتهم وصلاحَ دينهم ودنياهم في الشريعة المطهرة، وما يُظَنُّ مِنْ أنَّ سِواها يُصلِحُهم فهو باطلٌ عاطلٌ لا يَغْتَرُّ به إلاَّ من لم يمارِس الحقائقَ. ولقد اتفقَ شِجارٌ في الديوان الإمامي بين طائفة من اليهود ـ أقماهم الله (¬1) ـ وبين جماعة من المسلمين ـ أعزهم الله ـ في المدر، وتمسكوا بأحكام جاريةٍ على قانون المناسب الملغي قد قررها الأوَّلون، فلما أبرزوها في الديوان أجريتُهم عليها، فعادوا عن قريب، ثم أجريتُهم على نوع آخر من أنواع المناسب فعادوا عن قريب، ثم كذلك، وما زلت أتطلَّبُ ما يصلِحُهم مرةً بعد مرةٍ فأعياني أمْرُهُم، وداويتُهم بالشريعة السمحةِ السهلةِ، ومزَّقتُ ما بأيديهم من الأحكام السابقة واللاحقة، وقلتُ: بيعوا كيفَ شِئتُم ولا حرجَ، فكان في ذلك الشفاءُ، ولم يَجْرِ بينَهم بعد شجارٌ، وصلُحوا أكملَ صلاح، وقد كانوا شارفوا الهلاك، وهكذا اتفق شجارٌ في الديوان، وخصوماتٌ متعددةٌ في شأن الحدود، وكلَّما أردتُ إصلاحهم بشيء مما يقوِّي ما هم عليه من المناسب الملغي فسدُوا حتى اتفقَ في بعض الخصوماتِ بينَ أهل قريتين أني أمرت خمسةً من حكَّام الديوان المعتبرين يعزمون إلى محل الشجار، وينظرون ما تتحسَّمُ به المادةُ، فما زال [7أ] الشرُّ يتزايد، والفتنة تثورُ، فداويتهم آخِرَ الأمر بمراهم الشريعة؟ وقلت: اعْزِمُوا على بركة اللهِ وارْعَوا كي شئتم بلا حرجٍ، وأنتم مشتركون في جميع المواطن المتصلة بكم، فذهبوا وعاشوا بأرغدِ عيشٍ، لم يَثُرْ بينَهم شيء من الفتن، ولا نابَتْهم نائبةٌ قطُّ (¬2)، وكم أعد ذلك من مثل هذا، فكن على يقين أن الصلاحَ كلَّ الصلاحِ لأمور الدنيا والآخرة هو في الشريعة المطهرة الذي يقول صاحبها ـ صلى الله عليه وآله ¬

(¬1) كذا في المخطوط. غير واضحة. ولعلها أقمأهم الله. (¬2) قال فضيلة القاضي محمد بن إسماعيل العمراني حفظه الله ورعاه: "وهو كلام جيد يدل على أنَّ الشوكاني محدث وقاضٍ وفقيه، وأُصوليِّ وشجاع في قول الحق الذي يراه كما أنَّه شجاع في تطبيقه فرضي الله عنه وأرضاه".

وسلم ـ: "تركتُكُم عل الواضحةِ، ليلُها كَنضهارِها، لا يزيغُ عنها إلاَّ جاحدٌ" (¬1). قولُه: وشاهدُ الحال متفقةٌ في بلاد عَنْسٍ ... إلخ. أقولُ: صدقتَ يا مولانا وأنصفتَ، فهذه المفسدةُ التي ذكرتَ أنها وقعت بسبب الحدود هي شاهدةٌ لما ذكرنا من أن هذه الحدودَ ضاربٌ سببًا لِثَوَرانِ الفتنِ، اعتبرْ بذلك ولا تغترَّ بقولك آخِرًا، فهذا وقع وقد قُسِّمَتِ الحدودُ، فكيف مع الشياع! فإنهذا مجردُ ظنٍّ وتخمينٍ، وتخيُّل مختلٍّ، بل هؤلاء المذكورونَ لو لم يقع بينَهم القسمةُ لم يقع بينهم شيءٌ من تلك الفتنةِ، لأنَّ كلَّ طائفة تَعْلَمُ أن ما في جانب الطائفةِ الأخرى هو مشتركٌ بينَهم، فتطيبُ النفوسُ، وتطمئنُّ الخواطر، وينقطعُ الشرُّ؛ إذ بسبب ثورانِ الفتنةِ ما أوجبتْه من اختصاص كلّ طائفة بما في جوانبها. قوله: وقد قرر ما وقع من عليه الاعتماد ... إلخ. أقولُ: ينبغي للشرفي ـ عافاه الله ـ حيث قد عاد إلى الاحتجاجِ بالرجال أن يوازِنَ بين مَنْ ذكرهم، وبين رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ [7ب]ـ والصحابةِ، وأكابرِ أهلِ البيتِ المطهرينَ كأمير المؤمنين وأولاده من الأئمة المطهرين إلى بعد انقضاء دولة الإمام الأعظم القاسم بن محمد ـ عليه السلام ـ ويرجِّح من وقع عليه اختياره. وأما ما ذكره من أن المفتي والشامي والقاضي عام لو شاهدوا الفساد في هذا الزمن ... إلخ. فهو مخالفٌ لقوله: إنه حكَمَ بذلك في الدولة القاسمية، والمؤيدية، والمتوكلية، فإن القاضي عامرًا هو قاضي الدولة القاسمية، والمؤيدية، والمفتي هو مدرّس الدولة المؤيدية والمتوكلية، والشاميُّ هو عالم الدولة المتوكلية، وما بعدَها؛ فإنكار هؤلاء الصدورِ لما وقع من الحدود الشكايذية مشعرٌ بأن هؤلاء الأئمةَ مثلُهم. قوله: انظر كيف حرَّم الشارع الربا (¬2)، ورخص رخصةَ ........................... ¬

(¬1) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح. (¬2) تقدم ذكره في الرسالة رقم (119).

العرايا (¬1) ... إلخ. أقول: ليس النزاعُ فيما صدر عن الشارع، فكلُّه حِكْمةٌ، وصوابٌ، ومصلحةٌ خالصةٌ، إنما النزاعُ فيما وقع مخالفًا للشريعة الغراء. قوله: ثم صرح بقلمه بما يقطع مادةَ اعتراضِه ... إلخ. أقول: أين هذا من ذاك؟ فالذي معناه هو ضربُ الحدود على طائفة من الأرض، وجعلُها مختصةً بقوم على مرور الأعصار، ومنعُ غيرِهم عنها وإن احتاجوا إلى ما فيها من الكلأ، فهذا هو منع الكلأ الذي نهى عنه الشارعُ، وإن لم يكن هو بعينه فَلْيُصوِّرْ لنا الشرفيُّ صورةً يصدُقُ فيه منعُ الكلأ المنهيِّ عنه، وأما ما ذكرناه من الإحياء، والتحجُّر، والقطع، فالأول يثبت به الملكُ لبقعةٍ فيصيرُ من جملة أملاكِه، وأما الثاني وهو التحجُّر (¬2) فأحكامه معروفة في الأدلة والكتب الفقهية، وأما الثالثُ وهو القطعُ (¬3) فقد صار القاطعُ مستوليًا على ما قطعه، مالكًا له [8أ]، فكيف يكون تصريحُنا بهذه الأمور مستلزمًا لتسليم جواز الحدود التي يقال فيها مثلاص للقرية الفلانية كذا وكذا من الأميال، أو الفراسخ، وللقرية الفلانيةِ مثلُ ذلك! ولا إحياءَ ولا تحجُّرَ ولا قطعَ بل مجردُ المجازفةِ ومخالفةُ الشريعةِ ويوضَعُ ذلك في مراقيمَ، فهل مجردُ هذا إحياءٌ أو تحجُّرٌ، أو قطعٌ للكلأ حاشا وكلا. قوله ـ عافاه الله ـ: قلتُ: وقوله: إنَّ جميع الأدلةش مخالفةٌ لما شرعه الله ... إلخ. أقول: لم أقلْ هكذا، فإنَّ هذا تناقضٌ ظاهرٌ، بل قلتُ في الرسالة (¬4) ما لفظه: هذا جملةُ ما خطر بالبال عند تحرير هذه الكلماتِ من الأدلةِ الدالةِ على مخالفة هذه الحدودِ لما شرعه رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ إلخ وهذا كلامٌ متَّضحُ المعنى. ¬

(¬1) تقدم ذكره في الرسالة رقم (120). (¬2) انظر "المغني" (8/ 151 - 152). (¬3) تقدم. وانظر: "المغني" (8/ 153 - 154). (¬4) رقم (119).

قولُه: بل موافقةٌ لأنه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ قد اعتبر المصلحةَ. أقولُ: قد قدمنا الجوابَ عن هذا، وأما ما ذكرهُ ـ عافاه الله ـ من الإقطاع فبابٌ آخَرُ خارج عن البحث، لأن الإقطاعَ تمليكٌ (¬1) لما لم تثبتْ عليه يدٌ، وهذا لا يخفى على مثلِهِ ـ دامت إفادته ـ. قوله: لأنَّ كلَّ واحد قد رضي بما يليه. أقولُ: فإذا طلبَ هذا رضيَ الرجوعَ إلى حكم الله، أو طلبَهُ من بعده ممن لم يكن موجودًا حالَ الرِّضى، هل يُجابُ إلى حكم الله أم يقال له: لا سبيل لك إلى ذلك لأنَّ فلانًا الذي هو أبوك أو جدُّك أو أعلا من ذلك قد رضي؟ فإن قلتم: يُجابُ فهو مطلوبُنَا، وإن قلتم: لا يُجابُ فما الدليلُ؟ هذا على تسليم أنَّ للرضى تأثيرًا في الجواز، وهو ممنوع، فإن الذي رضي لم يرضَ بشيء بملكه ولا يستحقُّه، بل رضي في شيء هو مشتركٌ بين المسلمين أجمعينَ بحكم رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، فلا تأثيرَ لرضائه، وهذا لا يخفى على الشرفي ـ عافاه الله [8ب]. قوله: فالذي فهمنا من تنبيه النصِّ ... إلخ. أقول: قد قدمنا الجواب عن هذا فلا نعيده. قوله: ولهذا جرت عادةُ الناس بمنع الدخول إلى آبارهم وبساتينهم. أقولُ: إن كان الاستدلالُ بمجرد جَرْيِ عادة الناس فليس العادةُ بشريعة تُتَّبَعُ، وما هذه بأولِ مسألةٍ خولفت فيها الشريعةُ كما قال العلامة جار الله في الكشاف، وكم باب من أبواب الشريعة قد صار لترك العملِ به كالمنسوخ، هذا على فرض شمول الشركة المنصوص عليها لما ذكر، وعدمِ وُجْدَانِ ما يفيدُ جوازَ المنع، لأن البساتينَ مملوكةٌ، وللمالك منعُ غيرِه عن استعمال مُلْكِهِ، وكذلك البئر مملوكةٌ، والشركةُ إنما هي في مجرّدِ الماء، ولهذا وقع في كتب المذهب الشريف أنه يمنعُ الداخل إلاَّ بإذن، والآخذُ على وجه يضرُّ، فتلك العادةُ الجاريةُ بالمنع هي لأجل الملك، لا لأجل الشيء المشترك كالماء، فأين غرب هذا عن مولانا الشرفي ـ عافاه الله ـ؟. قولُه: فما أدري من أين التخصيصُ القاضي ـ عافاه الله ـ. أقولُ: لم أخصِّصْ، بل أحكمُ بالشركةِ في الثلاثة الأشياء التي حكَمَ بالشركة فيها رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، وإنما اقتصرتُ على الكلام في الكلأ لأنَّ السؤال ورد فيه، فَمِنْ أين للشرفيِّ أني خصَّصْتُ؟ وما ذاك في كلامي يدلُّ على ما ادَّعاه. قولُه: وأنا أضربُ له مثالاً، لو كان عشبٌ بين رجلينِ إلى آخر كلامه. أقولُ: إذا حُكِّمْتُ في مثل ما ضربَهُ من المثلِ قلتُ: للجميع ارْعوا جميعًا، ومن سبقت غنمُهُ إلى موضعٍ لم يحلّ للآخر أن يطرُدها عنه، وأعرّفُهم بأن هذا الحكم هو الذي جاءت به الشريعة المطهرة، وحينئذ لا يثور من الشر شيء، ولا يجري بينَهم فتنةٌ [9أ] قطُّ، فإن جرت من بعض شياطينهم أملينا عليهم قول الله عز وجل: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (¬2) فما في هذا المثال الذي ضربَهُ الشرفين إشكالٌ، ولا يَعْيي عن الحكم فيه عالمٌ بالمسالك الشرعيةِ، ولكني أضرب للشرفين مثالاً مقابلاً لمثاله فأقول: لو قالتْ إحدى الطائفتين في مِثْلِ الصورةِ التي ذكرها نحن المختصونَ بهذا الوادي، ولا حق لغيرنا فيه: فقال الواردُ عليهم بسائمتِه: يا قومِ، هذه سائمتي قد أعوزَها أمرُ الكلأ، ولم أجدْ في غير هذا الوادي ما يسدُّ جَوْعَتَها فاتركوني أرعى معكم، فالوادي واسعٌ، والخير عن غير شاسعٌ، فهذه سائمتي قد شارفتِ الهلاكَ جوعًا، وهو يكفيكم جانبًا من جوانبه، وهذه سائمَتُكُم في جزء من أجزائه، فقالوا: لا سبيلَ لك إلى ذلك، وإن ماتت سائمُتك، لأن هذا حدُّنا قدمنا فيه رَقْمَ حاكم يشتملُ على ما يخالِفُ حُكم أحكم الحاكمين، فما ذاك الشرفيُّ في مثل هذا، ¬

(¬1) انظر "المغني" (8/ 153). (¬2) [الحجرات: 9].

هل يُطْرَدُ الوافدُ بماشيته ويدعها تموت دون المرعى؟ أم كيف يصنع؟ ثم إنّ الشرّ ـ لا محالة ـ يهيجُ بسبب المنع لا سيّما عند الحاجة على الصفة المذكورة، فمَنِ الباغي ومن المبْغِيُّ عليه؟ ومَنِ المحقُّ ومن المبطلِ؟ قولُه: فما أرى هذه الحدود إلا من جنس إقطاع ما لم يسبق إليه مسلم. أقولُ: هذا فاسدٌ، فإن الإقطاعَ هو التمليكُ لجزء من الأرض من رسول الله، أو من الخلفاء الراشدين، وهذا ليس بتمليك، بل ليس بتحجّر يوجدُ مجرد ثبوت الحق كما قدمنا [9ب]، فَلْيُعِدِ الشرفيُّ ـ عافاه الله ـ النظرَ، فمثل هذا لا يخفى على ذهنه السليم. قوله: هذا فرضُ ما لم يقعْ ولا سمعَ به. أقول: بل قد وقع التصريحُ بذلك، والاستدلالُ به من بعض متأخري العلماء، وذكره السائل ـ عافاه الله ـ في سؤاله الذي أجبنا عليه بالرسالة. قوله: فقد أخذ العلماءُ منه أحكامًا ـ إلى قوله ـ وأخذوا من قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} (¬1) أنه ينبغي تعظيم العلماء ... إلخ. أقولُ: هذا الأخذُ لا تدعو إليه حاجةٌ، لأن السجودَ الذي هو معنى الآية قد دل الدليلُ القاطعُ على عدم جوازِهِ، ومجردُ التعظيم للعلماء قد أفادتْه آياتٌ قرآنيةٌ (¬2)، وأحاديثُ نبويةٌ (¬3). هذا على فرض أن مثلَ هذه الآيةِ من جنس ما ذكرناه وليس الأمرُ ¬

(¬1) [البقرة: 34]. (¬2) منها قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]. ومنها قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]. ومنها قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. (¬3) (منها): عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَثَلُ ما بعثني الله به من الهدي والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة طيبةٌ قبلت الماء فأنبتت الكلأ، والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفةٌ منها إنَّما هي قيعانٌ، لا تمسك ماءً، ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه بما بعثني الله به، فعلم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هُدى الله الذي أرسلت به" أخرجه البخاري رقم (79) ومسلم رقم (2282). (ومنها): ما أخرجه البخاري رقم (71) ومسلم رقم (1037) من حديث معاوية قال: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين". (ومنها): ما أخرجه البخاري رقم (73) ومسلم رقم (816) من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا حسد إلا في اثنتين رجلٌ آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق ورجلٌ آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها".

كذلك؛ فإن الذي ذكرناه هو المنعُ من الاستدلال بأفعال الله في عباده، من سلب النفوسِ وأخْذِ الأموال، وإنزالِ الجوائحِ، فلا يقول قائل من البشر أنه يجوز له سفك الدماء، لأن الله ـ سبحانه ـ يميتُ العبادَ، ولا يقول: إنه يجوزُ له أخْذُ الأموال، لأنه الله تعالى يسلُبهم أموالَهم، والآية المذكورةُ هي خطابٌ من الله لطائفةٍ من عباده المقربينَ، وليس كلامُنا في أقواله سبحانه، فهي نفسُ الشرعِ، إنما كلامُنا في أفعاله فَوِزَانُ الآية التي ذكرها الشرفيُّ وزانُ قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (¬1) ففي هذه الآية أمر البشرَ باتباع نبيِّهِ، وفي تلك الآية أمر الملائكة بالسجود لنبيهِ، فما بال الشرفي يسلك في فجاجِ لم أسلكْها، ويمشي في أودية لم أمشِ فيها، ويجعل ذلك اعتراضًا على ما ليس بينَه وبين الاعتراض جامعٌ! فليعدِ النظر ـ عافاه الله ـ فشرطُ التعقُّبِ للمباحث [10أ] إمعانُ النظر في الكلام المتعقبِ وتفهُّم معانيهِ، وتدبُّرِ مبانيه. ثم إيرادُ ما يمكن أن يكونَ مستندًا له والقدحُ فيه بقادحٍ معتبرٍ، وأما المبادرةُ بالاعتراض قبل الإحاطة بمعاني المعترضِ عليه فليست مما يسوّغُهُ أهل النظرِ، ولهذا عدُّوا السقطة من المعترض غير مُغْتَفَرةٍ، واغتفروها من غير المعترض، لأن القدح في الكلام والإيراد عليه محتاجٌ إلى إثبات قدَمٍ، ومراجعةِ فكرٍ. ومثل الآية التي ذكرها ـ عافاه الله ـ ¬

(¬1) [الحشر: 7].

الآيةُ الأخرى، وهي قوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} (¬1) فإن ذلك غيرُ ما نحن بصدده وكذلك قولُه: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} (¬2). وبالجملة، فجميعُ ما ذكره في وادٍ غيرِ الوادي الذي نحن بصدده، فليعِدِ النظر ـ عافاه الله ـ في رسالتنا إن كانت لديه، وإلاَّ بعثنا بها؛ فهو أجلُّ من أن يتكلَّم بما لا نسبةَ بينَه وبين ما فيه النزاعُ. قوله: وكما تعرَّضَتِ الملائكةُ بقولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} (¬3). أقولُ: الذي نحن بصدد بيانه هو منعُ الاقتداء بأفعال الله، فيقول في مثل هذه الآيةِ: يجوزُ للرجلِ أن يجعلَ له أعوانًا يفسدونَ في الأرض، ويسفكون الدماء تمسُّكًا بهذه الآية، ولسنا بصدد الكلام على غيرِ ذلك. وسؤالُ الملائكةِ لم يقعْ على وجه مطابقٍ، بل تعرَّضوا لما لا يعينهم، لأنه تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} (¬4) ولهذا أجاب عليهم بما يشعرُ بنسبتِهم إلى الجهلِ في الأمر الذي سألوا عنه، وما ذكره عقبَ ذلك من أدلةِ ما أرشدْنا إليه [10ب]. قولُه: والتفسيرُ الذي ذكره أنَّها محمولةٌ على تركِ الأسبابِ لم أجده، إلاَّ أن الذي في الكشاف (¬5) أنَّ المراد إقرارُ [المنكر] (¬6) هو مندرجٌ تحت ما ذكرناه، لأن إقرارَ المنكر هو من الأسباب الموجبةِ للفتنِ، فتركُ الإقرارِ لهم بطردهم فيه تركُ سببِ الفتنةِ، ¬

(¬1) [البقرة: 247]. (¬2) [الأعراف: 77]. (¬3) [البقرة: 31]. (¬4) [الأنبياء: 29]. (¬5) (2/ 571). (¬6) في "المخطوط" [المشركين] وما أثبتناه من الكشاف.

ومثل ذلك افتراقُ الكلمةِ. وهذه الآيةُ الشريفةُ قد كتبنا على كلام صاحب الكشافِ في تفسيرها رسالةً سميناها "فتحُ القديرِ في الفرق بين المعذرةِ والتعزيرِ" (¬1) جوابًا عن سؤال بعض أعلام العصرِ. قولُه: فإن استحسنَ ذو الولاية ... إلخ. أقول: هذا الكلامُ ينبغي لمولانا الشرفيّ ـ عافاه الله ـ الضربُ عليه، ومَحْوُهُ عن وجه القرطاس، وإعدامُهُ من حيِّز الوجود، وكيف يقول: إنه لا حرجَ عليه في ذلك! وأيُّ حَرَجٍ أعظم من أحذ مال امرئ مسلم بلا قرآن ولا برهان: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (¬2)، "لا يحلُّ مالُ امرئ مسلمٍ إلاَّ بطيبةٍ من نفسه" (¬3). وأما الاحتجاج على هذا الأصل العظيم بما ذكره من استحسان عمر فما لنا ولعمر، ومن عمر ـ رحمه الله ـ حتى تعارض باستحساناته نصوص القرآن والسنة! وأما عدم الإنكار عليه فالمجال مجال اجتهاد، وليس من مواطن الاعتراض، ولو فرض غير ذلك فعمر رضي الله عنه هو الذي يقول فيه ابن عباس (¬4): كان رجلاً مهيبًا فهبته. وقد تقرر في الأصول أن الإجماع السكوتي (¬5) مشروط بشروط: أحدها اطلاع الكل من أهل [11أ] الحل والعقد على مقالة القائل، ومنها عدم المانع من المخالفة، ومنها كون ¬

(¬1) ستأتي الرسالة برقم (206) من الفتح الرباني. (¬2) [النساء: 29]. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) تقدم ذكره. (¬5) الإجماع السكوتي: وهو أن يقول بعض أهل الاجتهاد بقول وينتشر ذلك في المجتهدين من أهل ذلك العصر فيسكتون ولا يظهر منهم اعتراف ولا إنكار وفيه مذاهب: 1 - أنه ليس بإجماع ولا حجة، قاله داود الظاهري. وقيل: إنه نص الشافعي في الجديد. 2 - أنه إجماع وحجة وبه قال جماعة من الشافعية وجماعة من أهل الأصول. انظر: "البحر المحيط" (4/ 508)، "الكوكب المنير" (2/ 258).

المسألةِ ليست مما يسعُ السكوتُ فيها كمواطن الاجتهادِ، والبحثُ محرِّرٌ في الأصول. وقد أطلتُ البحثَ في مسألة الإجماع السكوتي، ووسَّعتُ أطرافه في حاشيتي على شفاء الأمير الحسينِ المسماة: "وبل الغمام على شفاء الأوام" (¬1). وقد أفاد مولانا الشرفي ـ جزاه الله خيرًا ـ فوائد، وأسس قواعدَ، وقيَّد شواردَ، ولكن الحقيرَ راقمَ الأحرف أحبَّ التنبيهَ له على ما حاك في الخاطر، ويطلبُ منه أن يفعل كما فعلتَ، فكلُّ أحدٍ يُؤْخَذُ من قوله ويتركُ إلاَّ المعصومَ، ونحن أعوانٌ على استخراج الحقِّ، إخوانٌ في طلبه، وليس بين أحد وبين الحق عداوةٌ. ونسأل الله أن يجعلَ الأقوالَ والأفعالَ خالصةً لوجهه الكريم، مقرِّبةً إلى رضاه وفَضْلهِ العميمِ. كان تحريرُ هذه الأحرفِ في النصف الأول من ليلة الاثنينِ إحدى ليالي شهر جُمادى الآخرةِ سنة 1214. بقلم مؤلفه محمد بن علي الشوكاني ـ غفر الله لهما، وتجاوز عنهما ـ، وعن جميع المسلمين آمين. ¬

(¬1) (1/ 67 - 70). بتحقيقي ط: مكتبة ابن تيمية ـ القاهرة.

بحث في المخابرة

(122) 35/ 2 بحث في المخابرة تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديث محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان المخطوط: "بحث في المخابرة". 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: "الحمد لله وحده. حين وقفت على هذا التحقيق من وجه إليه، قال محرضًا على التعويل عليه ... ". 4 - آخر الرسالة: "حُرِّر بقلم جامعه الحقير محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما في عشية الثلاثاء من شهر جمادى الأولى سنة 1202". 5 - نوع الخط: خط نسخي عادي. 6 - عدد الصفحات: 9 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصحفة: 29 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة. 9 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني. 10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

الحمدُ لله وحدَه. حين وقفَ على هذا التحقيقِ من وجِّهَ إليه، قال محرِّضًا على التعويل عليه، سائلاً من الله التوفيقَ إلى أوضح طريقٍ: علومٌ قولُ أحمد (¬1) لو رآها ... أراها معجزاتٍ من محمدْ فعُضَّ بناجِذيك على هُداها ... فإنك باتِّباع الحقِّ تُحْمَدْ كنا نرجو أن يوضح عند المناظرة الراجحَ من التحريم والجوازِ في المخابرة، فأبدى لنا أضعافَ ما رجوناه في عضون رياضٍ ناظرةٍ ـ ضاعف الله له خيرات الدنيا والآخرة ـ. إنا بعثناك نبغي القولَ عن كَثب ... فجئت بالنجم مصفو ذات الأفق بقيتَ ما سار نجمٌ أو رسا علَمٌ ... وما تفاوحَ نشرُ النَّوْرِ في الورقِ كتبه عبد القادر بنُ أحمدَ ـ عفا الله عنهما ـ. ¬

(¬1) في الهامش: ابن حنبل.

الحمد لله. لما وقعتِ المذاكرةُ في هذه المسألةِ التي هي جوازُ المخابرةِ، وكانت مفرَّقةَ الأقوال، مشاغلةً لكلِّ قالٍ، وطال الكلام ولم يتَّضحِ الإشكالُ إلاَّ بالفهم مِنْ تقدُّم المنسوخِ (¬1) وتأخُّرِ الناسخ أبرزَها العلامةُ محمد بن علي ـ أعلى الله شأنه ـ بفصيح كلامه، ووجيزِ خطابه، فجمع الأقوالَ، وأوضح الاستدلالَ، وذكَرَ مذهبَ الآل. لا جرمَ أنَّها حقيقةٌ بهذا البيانِ؛ فجزاه خيرًا. ذلك فضلُ يؤتيه مَنْ يشاءُ. وصلَّى الله على سيدنا محمدٍ وآله وسلَّم. بقلمِ الفقيرِ إلى الله ................................. ¬

(¬1) النسخ لغةً: الإبطال والإزالة ومنه نسخت الشمس الظلِّ، والريحُ آثار القوم. " لسان العرب" (14/ 121)، "مقاييس اللغة" (5/ 424) ويطلق ويراد به النقل والتحويل ومنه نسخت الكتاب أي نقلته ومنه قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29]. انظر: "البحر المحيط" (4/ 64). من شرط النسخ. 1 - أن يكون المنسوخ شرعيًّا لا عقليًا. 2 - أن يكون الناسخ منفصلاً عن المنسوخ متأخرًا عنه، فإن المقترف كالشرط، والصّفة والاستثناء ـ لا يسمّى نسخًا بل تخصيصًا. 3 - أن يكون النسخُ بشرع فلا يكون ارتفاع الحكم بالموت نسخًا بل هو سقوط تكليف. 4 - أن لا يكون المنسوخ مقيدًا بوقت، أما لو كان كذلك فلا يكون انقضاء وقته الذي قُيّد به نسخًا له. 5 - أن يكون الناسخ مثل المنسوخ في القوة أو أقوى منه لا إذا كان دونه في القوة، لأن الضعيف لا يزيل القويّ. 6 - أن يكون المقتضي للمنسوخ غير المقتضي للناسخ حتى لا يلزم البداء وقال الكيا: ولا يشترط بالاتفاق أن يكون اللفظ الناسخ متناولاً لما تناوله المنسوخ أعني التكرار والبقاء إذ لا يمتنعُ فهمُ البقاء بدليل آخر سوى اللفظ. 7 - أن يكون مما يجوز نسخه فلا يدخل النسخ أصل التوحيد لأن الله سبحانه بأسمائه وصفاته لم يزل ولا يزال. ومثل ذلك ما عُلم بالنص أنَّه يتأبد ولا يتأقت. انظر: "تيسير التحرير" (3/ 199)، "البحر المحيط" (4/ 78)، "إرشاد الفحول" (ص613 - 614).

الباعثُ على جمع هذه الرسالة أنها وقعت بيني وبين شيخي العلامة الإمام عبد القادر بن أحمد (¬1) ـ متَّع الله به ـ مراجعةٌ في مسألة المخابرة حال القراءة في جامع الأصول، بحضرة جماعة من أعيان العلماء، فلما وصلت هذه الرسالة إليه ارتضاها وكتب على ظهرها ما ترى. بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ وآله وصحبه وسلَّم. الله المسئول أن يوفِّر لكم الأجورَ، ويديم عليكم النِّعم والسرورَ، ويكشف بأشعة أنوا علومِكم ظلماتِ الجهلِ، بحلوه وطَوْلِهِ، غَيْرُ خفيٍّ على نظركم الثاقبِ، فهمكُمُ الصائب أن الإذعان ممَّن حاول النظر لمجرَّد ما لاح في بادي الرأي، وخطر مما لا تقبله سليماتُ الفطر. وإنَّ البحث لما انتهى إلى مسألة المخابرةِ، ووقعت فيها تلك المراجعةُ والمذاكرةُ في موقفكم الأنيس صبيحةَ يوم الخميسِ، لاح للنظرِ القاصرِ، والفهمِ الفاترِ ما لاح، فلما ¬

(¬1) عبد القادر بن أحمد بن عبد القادر بن الناصر بن عبد الرب بن علي بن شمس الدين ابن الإمام شرف الدين بن شمس الدين بن الإمام المهدي أحمد بن يحيى. ولد سنة 1135هـ ونشأ بكوكبان. قال الشوكاني في ترجمته في "البدر الطالع" رقم (243) وهو شيخنا الإمام المحدث الحافظ المسند المجتهد المطلق. وقال الشوكاني وبيني وبينه مكاتبات أدبية من نظم وشعر، وما سألته القراءة عليها في كتاب فأبى قط. من مؤلفاته: شرح "نزهة الطرق في الجار والمجرور والظرف"، "فلك القاموس" وله حواشي على "ضوء النهار". توفي سنة 1207هـ ورثاه الشعراء وأنا من جملة من رثاه بقصيدة مطلعها: تهدّم من رَبْعِ المعارفِ جانبُه ... وأصبحَ في شُغلٍ عن العِلْم طالِبُهْ انظر: "التّقصار" (ص249)، "البدر الطالع" رقم (243)، "ديوان الشوكاني" (ص74 - 76) "نيل الوطر" (2/ 44 - 52).

كان يومُ الجمعة ذكرتُم ـ متع الله بكم ـ أنَّ أحاديثَ النَّهي مرجوحةٌ، فأوجب ذلك البحث عن المسألة، فإذا هي أطول المسائل ذيلاً، وأوسعِها اختلافًا وتهويلاً، قدِ اضْطَربتْ فيها أقوالُ السلفِ والخلَفِ اضطرابًا شديدًا، ومع هذا فلم تحصلِ الأُنسةُ بواحدة من تلك الأقوالِ، بل أوجب المشيُ مع الأدلة الاغترابَ والاعتزالَ، لا إلى حد يكون المصيرُ إليه في صورة الخروج عن الإجماع، واطَّراح الحِشْمَةِ عن سنة الاقتداء والاتباعِ. وقد سردتُ في هذا القرطاسِ جميعَ ما أمكنَ حَصْرُه من الأقوال، وتعقَّبتهُ بما خطر بالبال من قيلٍ وقالٍ، ثم انثنيتُ أحرَّر ما ظننتُه راجحًا، وخِلْتُهُ صحيحًا واضحًا، والقصدُ كلَّ القصدِ عَرْضُ الجميع على نظركم، والاتباع لما صحَّ، فأفضلوا بإمعان النظرِ ـ جعلكما لله ملاذًا لكل ملتاذ ـ آمين. وجملةُ ما عثرتُ عليه من الأقوال في هذه المسألةِ سبعةٌ: الأول: المنعُ من المخابرة مطلقًا، والذاهبُ إلى هذا القول جماعة من الصحابة، والتابعينَ، وأهلِ البيت، والفقهاء، وتمسكوا بحديث: "أنَّ النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ نهى عن المخابرة" رواه البخاريُّ (¬1)، ومسلمٌ (¬2)، وأبو داود (¬3)، والترمذيُّ (¬4)، والنسائيُّ (¬5). وبحديث جابرٍ قال: كان لرجالٍ منَّ فضولُ أرضينَ، فقالوا: نؤاجرُها بالثلثِ أو الرُّبعِ أو النِّصفِ، فقال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "من كانت له أرضٌ فليزرعُها أو ليمنحْها أخاه، ولا يؤاجرِْها إياه، ولا يُكْرِهَا" قال في التيسير: أخرجه ............................ ¬

(¬1) في صحيحه رقم (2381). (¬2) في صحيحه رقم (1536). (¬3) في "السنن" رقم (3404 و3405). (¬4) في "السنن" رقم (1290). (¬5) في "السنن" رقم (3879، 3880).

الشيخان (¬1)، والنسائيُّ (¬2)، وهو في المنتقى (¬3) بلفظ: قال جابر: كنا نخابِرُ على عهد رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فنصب من القُصْرَى ومن كذا، فقال النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "من كان له أرضٌ لفْيزرعْها، أو لِيُحْرِثها أخاه، وإلا فليدعْها". قال: رواه مسلمٌ (¬4) وأحمدُ (¬5)، وقال: القصريّ (¬6): القصارةُ. وبحديث سعد بن أبي وقاص قال: إن أصحاب المزارع في زمن النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ كانوا يُكْرُوْنَ مزارعَهم بما يكون على السواقي، وما سَعِدَ بالماء مما حول النَّبْتِ، فجاء رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فاختصموا في بعض ذلك، فنهاهُم أن يُكْرُوْا بذلكَ، وقال: "اكْروا بالذهبِ والفضةِ [1أ] " رواه أحمد (¬7)، وأبو داود (¬8)، والنسائي (¬9). وبحديث زيد بن ثابتٍ قال: "نهى رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ عن ¬

(¬1) البخاري في صحيحه رقم (2340) ومسلم رقم (89، 92/ 1536). (¬2) في "السنن" (7/ 37). (¬3) "نيل الأوطار" (5/ 272 - 281). (¬4) في صحيحه رقم (95/ 1536). (¬5) في "المسند" (3/ 354). (¬6) قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (10/ 199 - 201) هو بقاف مكسورة ثم صاد مهملة ساكنة ثم راء مكسورة ثم ياء مشددة على وزن القبطيّ، هكذا ضبطناه وكذا ضبطه الجمهور وهو المشهور. قال القاضي: هكذا رويناه عن أكثرهم وعن الطبري بفتح القاف والراء مقصور، وعن ابن الخزاعي ضم القاف مقصور قال: والصواب الأول وهو ما بقي من الحب في السنبل بعد الدياس ويقال له: القصارة بضم القاف وهذا الاسم أشهر من القصريّ". (¬7) في مسنده (15/ 120 رقم 385 - الفتح الرباني). (¬8) في "السنن" رقم (3391). (¬9) في "السنن" (7/ 41 رقم 3891). وهو حديث حسن بشواهده.

المخابرة". قال: والمخابرةُ أن يأخذَ الأرضَ بنصفٍ، أو ثلثٍ، أو ربعٍ، أخرجه أبو داود (¬1). وبحديث جابرٍ قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "من لم يذرِ المخابرةَ فليأذنْ بحرب من الله ورسوله" أخرجه أو داود (¬2). وبما ذكره الحازميُّ في "الاعتبار" (¬3) عن رافع بن خُديجٍ أنَّ رجلاً كان له أرضٌ فعجزَ عنها أن يزرعها، فجاء رجلٌ فقال: هل لك أن أزرع أرضَك، فما خرجَ منها من شيء كان بيني وبينَك؟ فقال: نعم حتى أستأذن رسولَ الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ قال: فأتى رسولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فسأله، فلم يرجعْ إليه شيئًا، قال: فأتيتُ أبا بكر وعمر، فقلتُ لهما: فقالا: ارجع إليه، فرجعت إليه الثانيةَ فسألتُه فلم يردَّ شيئًا، فرجعت إليهما فقالا: انطلق فازرعْها، فإنه لو كان حرامًا نهاكَ عنه، قال: فزرعَها الرجلُ حتى انفترَ زرعُها، واخضرَّ، وكانت الأرض على طريقٍ لرسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فمرَّ بها يومًا، فأبصرَ الزرعَ فقال: "لمن هذه الأرض" فقالوا: لفلان زارعَ بها فلانًا، فقال: "ادعُوهما إليَّ جميعًا" قال: فأتيناه فقال لصاحب الأرض: "ما أنفق هذا في أرضك فردَّه عليه، ولك ما أخرجتْ أرضُك". وهذا الحديثُ قد اعتمده الحازميُّ، وختم به البحثَ. القول الثاني: الجوازُ مطلقًا بلا كراهةٍ، وإليه أيضًا ذهب جماعةٌ من الصحابة، والتابعين، وأهل البيت، والفقهاء، واستدلوا" بأنه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ عامَلَ أهلَ خيبرَ بشطرِ ما يخرجُ من تمر أو زرع". رواه أحمد (¬4)، والبخاريُّ (¬5)، ومسلم (¬6)، ¬

(¬1) في "السنن" رقم (3407). وهو حديث صحيح. (¬2) في "السنن" رقم (3406). وهو حديث ضعيف. (¬3) (ص418). (¬4) في "المسند" (2/ 17، 22، 37). (¬5) في صحيحه رقم (2285، 2328). (¬6) في صحيحه رقم (1/ 1551).

والترمذي (¬1)، والنسائي (¬2)، وأبو داود (¬3)، وابن ماجه (¬4)، وفي أخرى للشيخين (¬5) لما ظهر ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ على خبرَ سألتْه اليهودُ أن يُقِرَّهُم بها على أن يُكْفُوه عملَها ولهم نصفُ الثمر، فقال: "نُقِرُّكم بها على ذلك ما شِئْنَا". وبما رواه ابن عمرَ قال: كانت المزارعُ تُكْرَى على عهد رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ أنَّ لِرَبِّ الأرض ما على ربيع الساقي (¬6) من الزرع، وطائفةً من اثنين لا أدري كم هو، أخرجه النسائي. (¬7). وبما في صحيح البخاري (¬8) عن قيس بن مسلم، عن أبي جعفر قال: ما بالمدينة أهلُ بيت إلاَّ يزرعون على الثُّلث، والرُّبع، وزارعَ عليٌّ، وسعدُ بنُ مالك، وعبد الله بن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، وآلُ أبي بكر، وآلُ عمرَ، وآلُ علي، هكذا في صحيح البخاري. وفيه (¬9) أيضًا، عامَلَ عمرُ الناسَ على أن جاء بالبَذْرِ من عنده فله الشطرُ وإن جاؤا بالبذر فلهم كذا. وأخرج ابن ماجه (¬10) عن طاووسٍ أن معاذًا بن جبل أكْرى الأرضَ على عهد رسول ¬

(¬1) في "السنن" رقم (1383). (¬2) في "السنن" (7/ 53). (¬3) في "السنن" (3408). (¬4) في "السنن" رقم (2467). (¬5) البخاري في صحيحه رقم (2338) ومسلم رقم (6/ 1551). (¬6) في حاشية المخطوط ما نصه: الربيع للنهر الصغير. (¬7) في "السنن" (7/ 33). (¬8) في صحيحه رقم (5/ 10 رقم الباب 8) معلقًا. (¬9) في صحيح البخاري (5/ 10) معلقًا. (¬10) في "السنن" رقم (2463). وهو حديث صحيح.

الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ على الثلث، والربع؛ فهو يُعْمَلُ به إلى يومِك هذا. وبحديث ابن عباس أنَّ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ لم يَنْهَ عن المخابرة ولكن قال: "إن يمنحْ أحدُكم أخاه خيرٌ له من أن يأخذَ عليه خراجًا معلومًا". أخرجه البخاريُّ (¬1)، وأحمد (¬2)، وابن ماجه (¬3)، وأبو داود (¬4). وبما روى عنه أيضًا أنَّ النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ لم يحرِّم المزراعة، ولكن أمر أن يَرْفُقَ بعضُهم ببعض. رواه الترمذي (¬5) وصححه. القولُ الثالثُ [1ب]: المنعُ، إذا شرَطَ صاحبُ الأرض شرطًا يستلزمُ الغررَ والجهالةَ والجَواز فيما عدا ذلك. وغليه ذهب جماعةٌ من العلماء. وتمسَّكوا بحديث رافع بن خُديج قال: كنَّا أكثر الأنصار حقْلاًً، وكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربَّما أخرجت هذه، ولم تخرج هذه، فنهانا رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عن ذلك. فأما الورِقُ فلم يَنْهَنَا، أخرجه الستةُ، وفي لفظ قال: إنما كان الناسُ يؤاجِرون على عهد رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ بما على الماذياناتِ، وأقبالِ الجداولِ، وأشياءَ من الزرع، فيهلكُ هذا، ويَسْلَمُ هذا، ولم يكن للناس كراءٌ إلاَّ هكذا، فلذلك زجَرَ عنه، وأما شيءٌ معلوم فلا بأس به، أخرجه مسلمٌ (¬6)، وأبو داود (¬7) والنسائي (¬8). ¬

(¬1) في صحيحه رقم (2342). (¬2) في "المسند" (1/ 234). (¬3) في "السنن" رقم (2453). (¬4) في "السنن" رقم (3940). وهو حديث صحيح. (¬5) في "السنن" رقم (1385) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬6) في صحيحه رقم (2332). (¬7) في "السنن" رقم (3392). (¬8) في "السنن" رقم (3932).

المذاينات: جمع ماذيان وهو النهر الكبير، وهذه اللفظة ليست عربية، وإنما هي من لغة أهل السواد، والجداول: الأنهار الصغار. وأقبالها: أوائلها. وفي بعض روايات رافع: كان تكرى الأرض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بما ينبت على الأربعاء (¬1) بشيء يستثنيه صاحب الأرض، قال: فنهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك. رواه أحمد (¬2) والبخاري (¬3) والنسائي (¬4). القول الرابع: المنعُ إنْ كاتبَ المعاملَة بنصيب مجهول، والجوازُ إن كان النصيبُ معلومًا، وهو أخصُّ من القول الثالث، وتمسُّكهم ببعض ما سبق من حديث رافعٍ. القول الخامس: المنعُ إن فسِّرتْ ببيع الكدسِ بكذا وكذا كما وقع في بعض الروايات عن جابر، لكونه نوعًا من الربا، والجوازُ فيما عدا ذلك مطلقًا، وممن ذهب إلى هذا العلامةُ الجلالُ (¬5)، وابنُ حزم (¬6). ولا متمسَّكَ لهم إلاَّ ذلك التفسيرُ. القولُ السادس: الكراهةُ مطلقًا. وممن ذهب إلى هذا القول العلامةُ المُقبليُّ. وتمسّكوا بما سبق من قول ابن عباس أن النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ لم ينهَ عنها، ولكن قال: "إن يمنحْ أحدُكم أخاه خيرٌ له من أن يأخذَ عليه خراجًا" (¬7) عند البخاري، وأحمدَ، وأبي داودَ، وابن ماجه. وبما روي عنه أيضًا أن النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ لم ينْهَ عن المزارعة، ولكن أمر أن يرفُقَ الناس بعضُهم ببعض. رواه الترمذي (¬8) صححه. القول السابع: الجوازُ إذا كان البذرُ من ربِّ الأرض، والمنعُ إن لم يكن منه. ¬

(¬1) الرَّبيعُ: النهر الصغيرُ، والأربعاءُ: جمعُه. "النهاية" (2/ 188). (¬2) في "المسند" (4/ 142). (¬3) في صحيحه رقم (2339). (¬4) في "السنن" رقم (3902). (¬5) في "ضوء النهار" (3/ 1521). (¬6) في "المحلى" (8/ 231 - 232). (¬7) تقدم آنفًا. (¬8) تقدم تخريجه.

وتمسَّكوا بما وقع في بعض الروايات عن ابن عمرَ. وممن ذهب هذا القول أحمدُ بن حنبل (¬1). هذا وأنت خبيرٌ بأن القولَ الأول أعني: اختيارَ المنع مطلقًا يدفعُهُ موتُ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ وهو معاملٌ لأهل خيبرَ، وكذلك الصحابةُ والتابعون كما سبق، وتأويلاتُهم [2أ] تلك المعاملَة بأن الأرض مملوكةٌ لرسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وأهلُها عبيدُه (¬2)، والذي أخذوه طُعْمَةً لا أجرةً، أو بأن الأرض مملوكةٌ لهم، والذي أخذه رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ جزيةٌ (¬3) لا أجرةٌ، أو بأن المعاملة كانت مساقاةً على النخيل والبياضِ المتحلِّلِ بين الأرض كان يسيرًا فتقع المزارعة تِبْعًا. ¬

(¬1) قال ابن قدامة في "المغني" (7/ 566): ظاهر المذهب أنَّ المزارعة إنَّما تصحُّ إذا كان البذر من ربِّ الأرض، والمل من العامل نص عليه أحمد في رواية جماعةٍ، واختاره عامةُ الأصحاب، وهو مذهب ابن سيرين، والشافعيُّ، وإسحاقِ، لأنَّه يشترك العامل وربُّ المال في نمائه، فوجب أن يكون رأس المال كلُّه من عند أحدهما كالمساقاة والمضاربة. (¬2) قال الماوردي في "الحاوي" (9/ 162): أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صالحهم على إقرار الأرض، والنَّخل معهم، وضمَّنهم شطر الثمرة وصلح العبيد وتضمينهم لا يجوز. - وأن عمر رضي الله عنه أجلاهم عن الحجاز وإجلاء عبيد المسلمين لا يجوز. - أنهم لو كانوا عبيدًا لتعين مالكوهم، ولاقتسموا رقابهم، فأما صفية، فإنها كانت من الذرية دون المقاتلة. (¬3) قال والجواب على أن الأرض والنخل كانت باقية على أملاكهم، وإنّما شرط عليهم شطر ثمارهم جزية وجهين: 1 - ما روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ملك أرضهم وكلّ صفراء وبيضاء. أخرجه داود رقم (3410، 3411، 3412). ألا ترى أنَّ عمر قال: يا رسول الله إنِّي ملكت مائة سهم من خيبر وهو مالٌ لم أصبت قط مثله، وقد أحببت أن أتقرَّب إلى الله تعالى به فقال له النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حبِّس الأصلَ وسهِّل الثَّمرة". أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2737) ومسلم رقم (1632). 2 - أن عمر رضي الله عنه أجلاهم عنها ولا يجوز أن يجليهم عن أملاكهم.

للمساقاة، كلُّها مُتَعَسَّفَةٌ متناقضةٌ، ودعوى النسخ باطلةٌ (¬1) لموته ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ على تلك المعاملة ودعوى الاختصاص برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تكَلُّفٌ يدفعُه عملُ الصحابة والتابعينَ بذلك في عصره ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، وبعد موته، وهم أجلُّ من أن يَخْفَى عليهم مثلُ ذلك. وبحديث معاذٍ (¬2) السابق وغيره. وأما القول: أعني الجوازَ مطلقًا فغيرُ مرضيٍّ، لأنَّ من جملة وقع إطلاق لفظ المخابرة عليه بيعُ الكدسِ بكذا وكذا، كما وقع في تفسير جابر في بعض الروايات، واشتراط ما يخرج من بعض الأرض كما وقع في حديث رافع (¬3)، وبما على السواقي وما يصيبُه الماء كما وقع في حديث سعد بن أبي وقاص (¬4)، وبما على الماذيانات وأَقْبالِ الجداولِ كما وقع في حديث رافع أيضًا، بالنصف والثلثِ والرُّبُعِ كما وقع في حديث جابر. وفعله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ في أراضي عُمدة أهل هذا القول في الجواز لا يدلُّ إلاَّ على جواز التأجير بالشطر ونحوه كما وقع روايات الجماعة كلهم، ولم ينقل أنَّه عاملهم بشيء مما وقع في تلك الأحاديث التي صرَّحت بالمنع، حتى تثبت المعارضة، والترجيح فهو من باب الاستدال بالأخصِّ على جميع أفراد الأعمِّ، وهو باطلٌ. وأما القولُ الثالثُ: أعني المنع إذا شرط صاحب (¬5) الأرض شرطًا يستلزمُ الغررَ والجهالةَ، والجوازُ فيما عدا ذلك ففيه أنه لا يتمُّ إلاَّ إذا لم يردِ النَّهيُ عن المعلوم، وهو غير مسلَّم لما في حديث رافع في بعض رواياته قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "من كانت له أرضٌ فليزرعْها، أو ليُزْرِعْها أخاه، ولا يُكْرِهَا بالثلثِ، ولا ¬

(¬1) انظر "فتح الباري" (5/ 11 - 12)، "المفهم" (4/ 419). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) انظر "المغني" (7/ 566).

بالربعِ، ولا بطعام مسمَّى" رواه الحازميُّ في "الاعتبار" (¬1)، ولما في حديث جابرٍ السابق قال: كان لرجالٍِ منَّا فضولُ أرضينَ فقالوا: نؤاجِرُها بالثلثِ أو الربعِ أو النصفِ؟ فقال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "من كانت له أرضٌ فليزرعها، أو لِيَمْنَحْهَا أخاه، ولا يُؤاجِرْها إياه ولا يُكْرِها" أخرجه الشيخان (¬2) والنَّسائي (¬3). وفيه أيضًا أنه يلزمُهم صِحَّةُ المزارعةِ على ما خرج من مكان من الأرض معلومٍ غيرِ مجهولٍ لعدم حصولِ الغررِ والجهالةِ. وأما القول الرابعُ: أعني المنعَ إن كانت المعاملة بنصيب مجهولٍ، والجواز إن كانت بمعلوم فَيُدْفَعُ بما دُفِعَ بهِ [2ب] القولُ الثالثُ. وأما القول الخامسُ: أعني المنعَ من المخابرة إن فُسِّرتْ ببعِ الكدسِ بكذا وكذا استدلالاً بما وقع في بعض الروايات عن جابر كما سبق تحكُّمٌ لا يرضاه منصفٌ. والعجبُ من ميل الجلالِ (¬4) إلى هذا القولِ، وهذا جابرُ بنُ عبد الله نفسُه قد فسَّرها بالثلثِ والربعِ، كما أخرجه الجماعةُ (¬5) عنه، وفسَّرها بالأرض البيضاء يدفعها الرجلُ إلى الرجل فينفقُ فيها ثم يأخذُ من الثمرة كما أخرجه عنه الشيخان (¬6)، فإن رجعَ إلى الترجيح في تفاسير جابرٍ على انفرادِها فما أخرجه الجماعةُ أولى مما أخرجه واحدٌ منهم، كيف والأحاديثُ طافحةٌ بتحريم أنحاء مختلفةٍ من المزارعة كما سبق سَرْدُ بعضٍ منها، ولم يعارِضْها معارضٌ. ¬

(¬1) (ص417). وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (113/ 1548) وأبو داود رقم (3395) والنسائي (7/ 41 وابن ماجه رقم (2465). وهو حديث صحيح. (¬2) البخاري ومسلم رقم (1536). (¬3) في "السنن" (7/ 37). (¬4): في "ضوء النهار" (3/ 1521). (¬5) تقدم تخريجه. (¬6) تقدم تخريجه.

وأما القولُ السادس: أعني القولَ بكراهتِها على أيّ صفة كانت تمسُّكًا بما سبق عن ابن عباس فهو لا يتمُّ إلاَّ بعد تسليم أنَّه لم يُرْوَ عن النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ ما يعارض ذلك، وقد ثبت من حديث ابن عباس نفسه عن الشيخين والنَّسائي بزيادةِ: "ولا يُكْرِها"، ومن حديث جابر عند مسلم بزيادة: "فإن أبى فَلْيُمْسِكْها" (¬1) وسائرُ ما سبق في أحاديث النَّهي. وأما القول السابعُ: أعني الجواز إذا كان البذرُ (¬2) من ربِّ الأرض، والمنع إذا لم تكن منه فيدفعُه إطلاقاتُ تلك الأحاديثِ السابقةِ في الجوازِ والمنعِ. أما في الجوازِ فحديثُ معاملتِه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ أهلَ خيبرَ، وظاهره أن البَذْرَ منهم كما قال صاحب المنتقى (¬3). وأما في المنع فحيدث النَّهي عن المخابرة المفسَّرة بالثلث والربع، وظاهرهُ الإطلاق، ولم يردْ من الأدلة ما يقضي بالتقييد، ويدفعه أيضًا حديث عمر السابق عند البخاري أنه عاملَ الناسَ على إن جاء بالبذرِ مِنْ عنده فلهُ الشطرُ وإن جاؤا به من عندِهم فلهم كذا. والذي ظهر للحقير، أسير التقصير تحريمُ كلِّ مخابرةٍ لم تقع على تلك الصفة التي فعلها رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في خيبرَ، لأنها قد وردت في كل نوع منها أدلةٌ قاضيةٌ بالمنع، ولم يعارِضْها معارِضٌ؛ فتحرُمُ المخابرةُ المفسَّرةُ ببيع الكدسِ بكذا وكذا للنَّهي الواقع عنها، ولأنها أيضًا نوعٌ من الربا، ولم يقمْ دليلٌ يقضي بجوازها. وتحرمُ أيضًا المخابرةُ التي اشترطَ فيها المالكُ أن يكون له هذه، وللعاملِ هذه لما في حديث رافع ولا يعارضُهُ ما وقع منه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في خيبرَ، لأنه وقع لى نحوٍ مخالفٍ له. وتحرمُ أيضًا [3أ] المخابرةُ بما يكون على السواقي والماذياناتِ وأقبالِ الجداول ونحوِها ¬

(¬1) انظر "المغني" (7/ 566 - 567). (¬2) (3/ 702 - 709). (¬3) في صحيحه رقم (5/ 10 رقم الباب 8).

لما وقع في حديث سعدٍ (¬1) ورافعٍ. وتحرُم أيضًا المخابرةُ بالثلث والربعِ إذا انضمَّ إليها ثلاث جداولَ، وما يسقي الربيعُ لما في حديث رافع أيضًا. ولا عارضه ما وقع منه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في أراضي خيبرَ لِخُلُوِّهِ عن الاشتراط. وجميعُ هذه الأنواع خارجةٌ عن تلك المعاملة والواقعة منه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، ولم يقم دليل على جوازها. ويبقى الإشكالُ في تأجير الأرضِ بشطر معلومٍ من الثمرة من ثلثٍ، أو ربعٍ، أو نحوه؛ فالأحاديثُ الواردةُ في النَّهي المفسَّرةِ بالثلثِ والربعِ يقضي بالمنع منها، وفعلُه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في خيبرَ يقضي بجوازها، والقولُ بأنَّ الجوازَ منسوخٌ يأباه موتُه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ على تلك المعاملةِ، واستمرارُ جماعة من الصحابة عليها، وكذلك القولُ بأنَّ النَّهي عنها منسوخٌ يأباه صدورُ ذلك النهي منه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ في أثناء تلك المعاملةِ، ورجوعُ جماعة من الصحابة إلى رواية من روى النَّهيَ بعد موته ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، والمصيرُ إلى التعارضُ والترجيحُ أيضًا ممتنعٌ لإمكان الجمعِ بحملِ النَّهي على الكراهةِ لذلك الصارف، وهذا هو الحقُّ الذي كون به صونُ السُّنَّةِ المطهَّرة عن الاطِّراحِ، فتكون المخابرةُ بالنِّصف والثلثِ من غير زيادة شرط مكروهةً فقط، وفي تلك الأنواع السابقةِ محرَّمةً، ولا يقالُ أنَّ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ إذا نهاها عن فعلِ وفعلَهُ كان ذلك مختصًّا به، لأنا نقول: قد استمرَّ على ذلك الفعلِ الصحابةُ في حياته، وبعد موته، وهم أجلُّ من أن يَخْفَى عليهم ذلكَ الاختصاصُ كما سبق تحقيقُ ذلك. فإن قلتَ: يقدحُ في مناقشتك تلكَ الأقوالَ السابقةَ ما جزمتَ به بعدُ من تحريم تلك الصور. قلت: إنما وقعتْ تلك المناقشاتُ باعتبار اقتصار كلِّ قائل على تحريمِ صورةٍ معينة من ¬

(¬1) تقدم تخرجه.

تلك الصور، وعدمِ الالتفاتِ إلى تحريم ما عداها، أو باعتبار تحريم جميع الصور كما في القول الأول، أوت حليل جميعها كما في الثاني، وقد عرفتَ باقي ذلك فلا نعيدُه. ومما يلتحق بتلك الأ، واع المحرمة من المخابرة المحاقلة (¬1) المفسرة بكرآء الأرض بالحنطة، أو بيعِ الحقل بكَيْلٍ من الطعام معلومٍ، أو بيعِ الطعام في سُنْبُلِهِ (¬2) بالبُرِّ؛ لورود النَّهي عنها كما في حديث أبي سعيد عند البخاري (¬3)، ومسلم (¬4)، والموطأ (¬5)، والنَّسائي (¬6)، وأبي هريرة عند مسلم (¬7)، والترمذيُّ (¬8)، والنَّسائيّ (¬9)، وابن عباس عند الترمذيّ (¬10)، وجابرٍ عند البخاري (¬11)، ومسلم (¬12)، والترمذيّ (¬13)، وأبي داود (¬14)، والنسائي (¬15)، وأنس عند البخاري (¬16)، ورافعِ بن خُدَيْج عند النَّسائي (¬17)، وابن المسيّب عند مسلم (¬18)، ¬

(¬1) انظر "النهاية" (1/ 224). (¬2) انظر "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 229 - 230). (¬3) في صحيحه رقم (2186). (¬4) في صحيحه رقم (105/ 1546). (¬5) (2/ 625 رقم 24). (¬6) في "السنن" (7/ 39). (¬7) في صحيحه رقم (104/ 1545). (¬8) في "السنن" رقم (1224). (¬9) في "السنن" (7/ 261). (¬10) في "السنن" رقم (1385) وقد تقدم. (¬11) في صحيحه رقم (1219). (¬12) في صحيحه رقم (81، 82، 83، 84، 1536). (¬13) في "السنن" رقم (1313). (¬14) في "السنن" رقم (3370). (¬15) في "السنن" (7/ 263). (¬16) في صحيحه رقم (2207). (¬17) في "السنن" (7/ 50). (¬18) في صحيحه رقم (59/ 1539).

والنَّسائي (¬1)، فهي محرَّمةٌ بهذه الأدلة، ولم يقم دليلٌ على جوازها. ويجوز التأجيرُ بالذَّهب والفضة لما وقع في حديث سعد بن أبي وقاص السابق مرفوعًا بلفظ: "فنهاهم أن يُكْرُوها بذلك، وقال: اكْرُوهَا بالذهب والفضة" عند أحمد (¬2)، وأبي داود (¬3)، والنسائي (¬4). ولما وقع أيضًا في حديث (¬5) رافعٍ السابق غير مرفوع. وإنما استطردتُ ذكرَ المحاقلة لأنَّها قد فسِّرت في بعض الروايات بالمخابرة وفي بعضها بالمزارعة، فهي داخلةٌ في البحث بهذا الاعتبار. وإنما استطردتُ أيضًا ذِكْرَ تأجير الأرض بالذهب والفضة، لأنَّ الفاكِهاني حكى عن الحسِ وطاوسٍ المنعَ من كِراء الأرض بكل حال، سواءٌ أكْرَاها بطعام، أو ذهب، أو وَرِق، لإطلاق أحاديث النَّهي، وعدم لزوم الحجة بقول الراوي، وهو غفلةٌ عن حديث سعد، فإنه مرفوعٌ، ولا شك في صلاحيته للتخصيص. والحمدُ لله، وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه وسلَّم. حُرِّرَ بقلم جامعِهِ الحقير محمد بن علي الشوكاني ـ غفر الله لهما ـ في عشية الثلاثاء من شهر جمادى الأولى سنة 1202. ¬

(¬1) في "السنن" رقم (7/ 45). (¬2) في "المسند" رقم (1/ 178، 281). (¬3) في "السنن" رقم (3391). (¬4) في "السنن" رقم (3925) وهو حديث حسن. (¬5) تقدم تخريجه.

رسالة في: حكم المخابرة

(123) 35/ 1 رسالة في: حكم المخابرة تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: "رسالة في حكم المخابرة". 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم" الحمد لله الذي ميَّز لنا في المعاملات الحلال من الحرام كما فصَّل لنا في العبادات جميع الشرائع والأحكام ... ". 4 - آخر الرسالة: " ... والحمد لله أولاً وآخرًا وصلى الله على سيدنا محمدٍ وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا. انتهى من تحرير المجيب محمد بن علي الشوكاني حفظه الله ومد لنا في مدته إنَّه جوادٌ كريم، آمين آمين آمين. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 7 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرًا ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها 14 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

هذا بحثُ شيخِنا العلَمِ، والجوابُ عليه قد تقدَّم قبلَه. بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله الذي ميَّز لنا في المعاملات الحلالَ من الحرامِ، كما فصَّل لنا في العباداتِ جميعَ الشرائعِ والأحكامِ، نحمدُه على حُسْنِ معاملتِه، وسوابغ إنعامه، وجزيل امتنانه. والصلاةُ والسلام على مَنْ خاطبَ الله العبادَ على لسانِهِ بـ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬1) تفخيمًا لشأنه وبعدُ: فإني تصفَّحْتُ ما حرَّرَهُ الصفيُّ العلامةُ فخرُ الأوانِ، ونبيلُ الأقران محمدُ بنُ عليٍّ الشوكاني ـ لا برح في خلال المحامد ـ، رفيع المباني، مستمدًا من بحر علمه، ومَعينِ تحقيقه القاصي والداني في مسألة المخابرة (¬2)، وما سَرَدَهُ من أقوالِ العلماء فيها، وإيرادُ حُجَّةِ كلِّ قائلٍ، وما يَرُدُّ عليها، وما ختَمَ به البحثَ مما تفردَ بالمصير إليهِ، فأجاد كل الإجادة، كثر الله فوائده، وشكر سعيه، وجعلني وإياه ممن آثر كلامَ معلّم الشرائع على مَنْ سواه، ولزم هديَهُ. إلاَّ أنَّه لما خُيِّلَ لفهمي القاصر أنَّ الأظهرَ في المقامِ هو المنعُ من المخابرةِ كما هو رأيُ أهل القولِ الأولِ، بمقتضى الأدلةِ التي ساقَها لهم، بعضُها تصريحُ النهي، وبعضُها بما يلزم منه النهيُ عنها، وبعضُها بالوعيدِ على مَنْ يدعْها. وكان الذي ظهرَ له لم يخلُصْ إلى المنعِ منها مطلقًا، حتى يرتفعَ الخلافُ من البيِّنِ، ويطمئنُّ الخاطرُ باتحاد القولينِ، وتتحققُ فيما بيني وبينَه في ذلك المخابرةُ، ويستريحُ كلّ منا عن نسبةِ ما قاله الآخَرُ إلى المكابرةِ، أحببتُ مراجعتَه بما سَنح لي في هذا القِرطاسِ، فإن يكنْ صوابًا فهوَ الباعثُ عليه من حيثُ إنّ رسالتَه في ذلكَ هي الأساسُ، وإن يكن خطأً فالمأمونُ من كريمٍ سجاياهُ التنبيهُ على ذلكَ، والإيضاحُ بما يزيلُ الالتباسَ. ¬

(¬1) [الحشر: 7]. (¬2) هذه الرسالة التي عليها هذه المناقشة لم تكتب في المجموع (1) بل كتبت في المجموع رقم (2) وقد تقدمت برقم (122).

ومع السلوك معهُ تولاَّه الله في مرجوحية ما عدا القولَ الأولَ، وما رجَحَ لهُ في المسألة آخرًا لا حاجةَ بنا إلى الكلامِ على كّ [قولٍ] (¬1)، من بقية الأقوالِ، وما أورده عليها إذ هو تطويلٌ بما لا طائلةَ تحتَه، ولمَّا كان الأظهرُ في ظنِّي هو القولُ الأولُ لم يكن لي غرضٌ من هذا الرَّقْمِ إلاَّ ذِكرَ ما يؤيدُه، ودفعَ ما يَرُدُّ عليهِ، لكنه استدعى ذلك بيانَ مدلولِ لفظِ المخابرةِ، ليتضحَ ما هو المقصودُ بالنهي من النواهي الصريحةِ المطلقةِ عن التفسير من الراوي، فانحصر مقصودي في بحثينِ: الأولُ: في بيانِ مدلولِ لفظِ المخابرةِ، وهل هو متَّحدُ المعنى أو متعدِّدُهُ، حقيقةً أو مجازًا. الثاني: في دفع ما أورد على القولِ الأولِ. البحثُ الأول: في بيان لفظ المخابرة، أقول: هاهنا أنواعٌ من المعاملةِ أُطْلِقَ لفظُ المخابرةِ، النوع الأول، إكراءُ الأرضِ بنصيبٍ معلومٍ من غِلَّتها كما وقعَ [13] في أراضي خيبرَ، فهذا النوعُ هو المسمَّى بالمخابرةِ حقيقةً، سواءٌ أَطْلقَتْ، أو قيِّدت بشرطٍ أيّ شرطٍ؛ إذ استعمالُ العامِ في الخاص من حيث إنه فردٌ من أفراده حقيقة. الثاني: بيعُ الكُدُسِ؛ وهو بيعُ ما جُمِعَ من الطعامِ بكذا وكذا صاعًا، كما وقع في حديث جابرٍ (¬2). الثالث: إكراءُ الأرضِ بما يكون على السواقي (¬3) والماذيانات، وفي معناه إكراءُها على أن يكونَ لربّ الأرض هذه، وللأجير هذه. الرابع: المحاقلةُ (¬4)، وهي إكراءُ الأرض بالحنطة. فهذه أربعة أنواع من المعاملة قد أطلقَ عليه لفظ المخابرة. الأول منها حقيقة، وما سواهُ مجازٌ؛ إذ لا يتبادرُ عند الإطلاقِ ¬

(¬1) كلمة قول مكررة في المخطوط. (¬2) كلمة قول مكررة في المخطوط. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1548). (¬4) تقدم ذكر الحديث.

إلاَّ المعنى الأول، والمتبادَرُ علامةُ الحقيقةِ، قال في القاموس (¬1): المخابرةُ أن يزرعَ على النصفِ ونحوِه، وفي النهاية (¬2): ونَهَى عن المخابرةِ قيل: هي المزارعةُ على نصيب معيَّنٍ كالثُّلثِ، والرُّبُعِ، وغيرِهِما. وقيلَ أصلَ المخابرةِ من خيبرَ، لأن النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ أقرَّها في أيدي أهلها على النصف من محصولِها، فقيل خابرَهُم، أي: عاملَهم في خيبرَ انتهى، لا يقالُ يكونُ حقيقةً في الكلّ على جهة الاشتراك، لأنّا نقولُ: القاعدةُ الأصوليةُ (¬3) إذا تردَّدَ اللفظُ بين المجازِ والاشتراكِ فحملُه على المجازِ أوْلى لوجوهٍ ليسَ هذا موضعَ ذِكْرِها. إذا عرفتَ هذا فمتى أطلق لفظُ المخابرةِ، ولم يفسِّرْهُ الراوي كما وقع في أكثر الروايات، فإنما ينْصَرِفُ إلى مسمَّى المخابرةِ حقيقةً، وهو النوع الأول، وإذ الأصلُ الحقيقة. فإن قلتَ: الجميعُ منهيٌّ عنه فلا ضيرَ في فَهْمِ جميعِ الأنواعِ المذكورةِ من نحوِ نهي عن المخابرة. قلتُ: ذلك مع كونِه مُسْتَغْنَى عنهُ بقيامِ الأدلةِ المانعةِ من كل منها خلطٌ بين الحقيقةِ والمجازِ، ولا ما يخفى ما فيه النزاع. لا يقالُ النَّهيُ عن المخابرة محمولٌ على الكراهةِ كما ذهبَ إليه أهلُ القولِ السادسِ مطلقًا، وكما ذهب إليه صاحبُ الرسالة (¬4) في مثل المخابرةِ الواقعةِ في حينِه، أما على مذهبِ مَنْ يقولُ: النهيُ حقيقةٌ في الكراهةِ فظاهرٌ، ¬

(¬1) (ص488). (¬2) (2/ 7). (¬3) قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" (ص123 - 124) بعد أن ذكر أقوال العلماء في ذلك. والحقُّ أن الحملَ على المجاز أولى من الحمل على الاشتراك لعلية المجاز بلا خلاف والحمل على الأعم الأغلب دون القليل النادر متعيِّنٌ. وانظر: "البحر المحيط" (2/ 241) و"المحصول" (1/ 351). (¬4) انظر الرسالة رقم (122).

وأما على القولِ بأنّه حقيقةٌ في التحريم فالمراد عند عدمِ القرينةِ. وهاهنا القرينةُ فعلُه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في خيبر، لأنّا نقولُ: القولُ بأنَّ النهيَ حقيقةٌ في الكراهة مذهبٌ مرجوحٌ. ولو سُلّمَ فالقائل بذلك إنما يقولُ به في مقام لا قرينة في فيدل على إرادة التحريم. وهنا قد وُجِدَتْ؛ وهي قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "من لم يذَرِ المخابرةَ فليأذن بحرب من الله ورسولِه" (¬1) فإنه أفاد هذا الوعيد أنّ النّهي في سائر الروايات مرادٌ منه التحريمُ، ودعوى كونِ ذلكَ مبالغةً في شدةِ الكراهةِ خلافُ الظاهرِ، لا يقولُ به منصفٌ. البحث الثاني: في دفْعِ ما أوردَهُ صاحبُ الرسالة على القولِ [14]. قوله: هذا وأنتَ خبيرٌ بأن القولَ الأولَ أعني: اختيارَ المنعِ مطلقًا يدفعُهُ موتُ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ وهو معاملٌ لأهلِ خيبرَ. أقول: هذا الفعلُ الصادرُ منه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ معلومٌ أنه ليس جِبِلِّيًّا، ولا بيانًا، لكنه يقالُ: لِمَ لا يكونُ خاصًّا؟ ودليل الخصوصية صرائحُ النهي لمن سواه، وفعلُ غيرها ليس بحجَّةٍ سلَّمنا أنه خصوصيةٍ فكونُ مطلقِ الفعلِ حجَّةً بحل النزاع. قال العلامة ابنُ الإمام: اختُلِفَ في فعلِ الرسول ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ وهو هو دليلٌ شرعيٌّ على ثبوت مثل ذلك الفعل الواقع في خيبرَ، بوجوه من التأويلات [في حقبا] (¬2) أم لا انتهى، سلّمنا فإنّما يكون حجّةً إذا لم يكن له مَحْمَلٌ غيرَ التشريعِ، وقد يُؤَوَّلُ ذلك الفعلُ الواقعُ في خيبرَ بوجوهٍ من التأويلاتِ، ودعوى أنها متَعَسَّفَةٌ متناقضةٌ خاليةٌ عن برهانٍ سلّمنا، فالواقعُ منه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ إنما هو مع يهود خيبر في أراضي مُلِكَتْ بنوعٍ من التملُّكاتِ، فيُقْتصَرُ على ما وردَ ويكونُ ذلك الفعل دليلا على جواز مثله في أرض مُلِكت كذلك مع مَنْ هو بتلكَ الصفةِ. سلّمنا فإثباتُ ذلك الحكمِ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في "السنن" رقم (3406) وهو حديث ضعيف. (¬2) كذا في المخطوط غير واضحة ولعلها [في حقنا].

للمسلمينَ فيما بينهم في أرضٍ ملكتْ بأي نوع من التملُّكاتِ إنما يكون بطريقِ الإلحاقِ والقياسِ، وهو ما يسميهِ الأصوليون قياسًا في معنى الأصلِ (¬1)، وقياسًا بالفارق، فيكونُ قياسًا في مقابلةِ النصِّ (¬2). ولا يخفى بطلانُهُ. فإنْ قلتَ: ليس الحجّةُ في هذا المقامِ فعلُه، بل الحجةُ تقريرُه لما وقع من بعضِ الصحابةِ من مثلِ ذلك الفعلِ. قلتُ: هذا مع كونه لم يُسْتَنَدْ إليهِ في مقامِ الاستدلالِ لا يَتِمُّ المطلوبُ، لأنه يكونُ ذلكَ التقريرُ على القول بحجيّته تخصيصًا لعمومِ النهي عن المخابرة لأولئك الذين قرَّرَهُم. وأما غيرُهم ففيه أنه قال العلامةُ ابنُ الإمام في بحثِ التخصيص بالتقرير ما صورتُه: فإذا قَدَر واحدٌ من المكلّفينَ على خلافِ مقتضَى العامّ كان مخصِّصًا له عند الأكثرينَ، وإذا ثبتَ الجوازُ في حقّ ذلك الواحد، فإنْ تبيَّنَ معنى هو العلةُ لتقريرِه الحقّ بهِ مشاركةً في ذلك المعنى، إما بالقياس، وإما بنحوٍ حكميٍّ على الواحدِ (¬3)، حكميّ على الجماعة إن ¬

(¬1) واعملوا أنهم جعلوا القياس من أصله ينقسم من أصله ينقسم إلى ثلاثة أقسام: أ - قياس علة: وهو صُرِّح فيه بالعلة كما يقال في النبيذ: إنّه مسكرٌ فيحرم كالخمر. ب- وقياس دلالة: وهو أن لا يذكر فيه العلّة بل وصف ملازم لها كما لو عُلّل في قياس النبيذ على الخمر برائحة المُشتدّ. جـ- قياس في معنى الأصل: هو أن يجمع بين الأصل والفرع بنفي الفارق. وهو تنقيح المناط وهو إلحاق الفرع بالأصل بإلغاء الفارق بأن يقال لا فرق بين الأصل والفرع إلا كذا وذلك لا مدخل له في الحكم البتة فيلزم اشتراكهما في الحمك لاشتراكهما في الموجب له. كقياس الأمة على العبد في السِّراية فإنه لا فارق بينهما إلا الذكورة وهو ملغي بالإجماع، إذ لا مدخل له في العلية. قال الغزالي في "المستصفى" (3/ 488)، "المحصول" (5/ 231)، "الكوكب المنير" (4/ 199). (¬2) انظر التعليقة السابقة. (¬3) تقدم تخريجه.

ثبتَ، وقولُه (¬1) ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في خطبة حَجَّةِ الوداعِ: "هل بلّغتُ؟ " قالوا: نعم، قال: "فَلْيُبَلّغِ الشاهدُ منكمُ الغائب" انتهى، وقد عرفتَ أن القياسَ في مقابلةِ النصِّ مُطَّرَحٌ. وقوله: حكميٌّ على الواحدِ إلخ، حديثٌ فيهِ مقالٌ مشهورٌ، فكيف يُسْتَنَدُ إليه! وتُهْمَلُ عموماتُ صرائحِ النهي في الأحاديثِ الصحيحةِ، وأما قولُه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "فَلْيُبَلِّغِ الشاهدُ منكم الغائب"، فالمُراد يبلغُ الشاهدُ ما وقعَ في تلك الخطبةِ، أو ما سمعهُ من الأحكامِ بقرينةِ قولِه في آخرِ الحديثِ: "فرُبَّ مبلَّغٍ أوعى من سامع" وعلى التقديرينِ لا يفيدُ المطلوبَ. قوله: ودعوى النسخِ باطلةٌ بموتِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ [15]ـ على بُعْدِ هذهِ المعاملةِ. أقول: لم يسبقْ منه نسبةُ هذه الدعوى لأهلِ القولِ الأولِ في مقامِ الاستدلال لهم، حتى ترتَّبَ إبطالُها عليه هاهنا، وعلى فرض صدورها منهم هي لا تتمُّ كما ذكرهُ لكنْ مع ما ذكرنَاهُ لا حاجَة إليها، إذا عرفتَ هذا علمتَ ما في الاحتجاجِ بالفعلِ الصادرِ منه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في مثل هذا المقام، وكذلك ما صدر من بعض الصحابة في زمنه، وحينئذٍ يتعيَّنُ المصيرُ إلى القولِ. وبهذا يندفعُ ما أوردَ على القولِ الأولِ. هذا وأنتَ إذا تحقَّقتَ ما سقته في هذين البحثين خصوصًا التالي عرفت موجوحية ما سوى القول الأول على الإطلاق، وأن قول من وُجِّه إليه هذا الخطاب، والذي ظهر للحقي تحريم كل مخابرةٍ وتفصيله لهذه الكلية بذكر كل نوع بدليله كلامٌ مسلّمٌ مرضيّ، وأن قولَه: ويبقى الإشكالُ في تأجير الأرضِ بشطرٍ معلومٍ من الثمرة من ثُلُثٍ، أو رُبُعٍ، أو نحوِ ذلكَ. وساقَ الكلام حتى حمل النهي النواهي القاضية بالتحريم المدفوع عنها احتمال الكراهة بذلك الوعيد الشديد على خلاف ظاهرها كما هو مذهب الأكثر كلامٌ ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (147/ 1218).

غير مسلم، وتعرف أيضًا أن قوله في غضون ذلك البحث: قد استمرّ على ذلك الفعل الصحابة في حياته، وبعد موته إن أراد جميع الصحابة ناقض ما حكاه عن أهل القول الأول، فقد قال به جماعةٌ من الصحابة كما سبق له، وإن أراد البعض فإنْ كان في حياتِه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ وسلّمنا اطّلاعَه على ذلك كان تقريرًا، وفيه ما سمعتَه، وإن يكن بعد موتِهِ فالحجَّةُ إنما هي قولُه وتقريرُه وفعلُه إنْ لم يعارِضْهُ صريحُ القولِ على أنه قد نقَلَ رجوعَ ابن عمرَ عنها، فلا يَبْعُدُ رجوعُ غيرِهِ. ولم يُنْقَلْ هذا. واعلم أن تفرَّدَ صاحبِ الرسالةِ بما ذهبَ إليه مبنيٌّ على القولِ بجوازِ إحداث قولٍ في المسألةِ بعد استقرارِ (¬1) قول المجتهدينَ، وإن كان قول الأكثر بخلافه الأظهر. والمسألة مبسوطةٌ في أصول الفقهِ معروفةٌ، والله ولي التوفيق، ونسأله الهدايةَ إلى خير طريقٍ، وصلى الله وسلم على محمد الأمينِ، وآله الأكرمينَ آمينَ. ¬

(¬1) انظر "البحر المحيط" (4/ 492)، "المسودة" (ص320).

هذا جوابٌ مني عن بحثِ شيخِنا العلَمِ ـ رحمه الله ـ الذي سيأتي، وله في الورقةِ الثالثةِ بعدَ هذهِ. بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله والطاهرين، وعلى صحبه الراشدينَ، وبعدُ. فإنَّها لما وصلتْ هذه الرسالةُ التي سمحَ بها متدَفِّقُ بحر علمِ شيخِنا المحققِ، المدققِ، العلامة المجتهد، إمام المعقول والمنقول، حِبْر الفروع والأصول، علَم الجَهابِذَةِ الأعلام، وحِبر شرائع الإسلام، مَنْ لا أُسميه إجلالا وتَكْرِمَةً؛ إذ قدْرُهُ المتعلي عن ذاكَ يكفينا إلى تلميذه الحقير، أسير التقصير، أذْهَبْت ـ كما علم الله ـ عن ذهنه الجامد ما تعلَّق به من ضدِّ المخابرةِ، وأوجبت لما اشتملت على تحقيق التحقيق سلبُ المناظرةِ والمكابرةِ، ولم أجدْ فيها ما يَحتملُ القيلَ والقالَ، والمراجعةَ والجدالَ. فأقول: قولُه ـ حفظه الله ـ: لأنا نقولُ: القولُ بأنَّ النَّهيَ حقيقةٌ في الكراهة مذهب مرجوح لا يناسبُهُ (¬1). قوله: ولو سُلِّم فهذا الفعلُ المدَّعى كونُه قرينةً، لأنَّ ذلك التسليم في قوة سلَّمنا أنَّ القول أبان حقيقةً في الكراهة راجحٌ، وبعدَ ثبوت ذلكَ لا يُحتاجُ إلى القرينة، لأنَّ القرينة إنما جابَها المدَّعي للصرف (¬2) عن التحريمِ إلى الكراهةِ (¬3)، فكانَ الأنسبُ أن يقولَ: لأنَّا ¬

(¬1) في حاشية المخطوط ما نصه: هذا الاعتراض صحيح ـ أحسن الله جزاكم ـ وقد صلح في الأصل إلى ما ترون. (¬2) في حاشية المخطوط ما نصه: أما ما في هذا التصويب فهو لا يلزم القائلَ أنَّ النهي حقيقةٌ في الكراهةِ، إذ يصير الجواب عليه بما يومه* هذا تغيره. (*): غير واضحة في المخطوط (الحاشية). (¬3) في حاشية ما نصه. فعال الصحابةُ القائلون بالمنع من المخابرة هل خفي عليهم ما وقع في خيبر فما هو جوابكم فهو جوابنا. قال الشوكاني في "إرشاد الفحول (ص384): اختلفوا في معنى انلهي الحقيقيِّ فذهب الجمهور إلى أن معناه الحقيقيّ هو التحريم وهو الحقُّ. ويرد فيما عداه مجازًا كما في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تصلوا في مبارك الإبل" فإنَّه للكراهة. وكما في قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} فإنَّه للدعاء. وكما في قوله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} فإنَّه للإرشاد. وكما في قوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} فإنَّه للتحقير. انظر: "تيسير التحرير" (1/ 375)، "المسودة" (ص81)، "الكوكب المنير" (3/ 81).

نقولُ أنَّ النهي حقيقةٌ (¬1) في التحريمِ، ولا نسلِّم ذلكَ الفعلَ المدعى قرينة إلخ. قوله: لِمَ لا يكون خاصًا به؟ ودليلُ الخصوصيةِ، إلى قولِه: وفعلُ غيرِه ليسَ بحجيَّةٍِ. أقول: نعمْ لا حُجَّةَ في فعلِ غيره، لكنَّ خفاء الخصوصيةِ على مثلِ أكابرِ الصحابةِ كعليٍّ، وعمرَ، ومعاذٍ، وابن مسعود، وجميع أهلِ المدينة بعيدٌ، لا سيَّما وقدِ استمرَّ على ذلك بعد موته ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ كما ثبت في حديث ابن عمر عند الخمسة (¬2) أنَّ عمرًا لما وُلِّيَ خيرَ أزواج النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ أنْ يقطع لهنَّ الأرض والماء، أو يضمن لحصن الأوساق في كل عام ... الحديث، وكما أخرجه البخاري (¬3) أيضًا عن عمر أنه عامل الناس على أنْ جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاؤا [17] بالبذرِ فلهم كذا. وكما أجرجه ابن ماجه (¬4) أن معاذًا أكْرَى الأرض على عهد رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ وأبي بكرٍ، وعمرَ، وعثمانَ ـ رضي الله عنهم ـ على الثُّلُث، والرُّبُع. قوله: فكون مطلق الفعل الخ ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة. (¬2) أخرجه أحمد (2/ 149) والبخاري رقم (2238) ومسلم رقم (6/ 1551) وأبو داود رقم (3008) وابن ماجه رقم (2467). (¬3) في صحيحه (5/ 10 رقم الباب 8). معلقًا وقد تقدم. (¬4) في "السنن" رقم (2463) وهو حديث صحيح.

أقول: قولُ الله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (¬1) والمأتيُّ به أعمُّ أن يكون قولاً، وفعلاً، وقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ}: [الأحزاب: 21]. (¬2): أفعال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تنقسم إلى سبعة أقسام: 1 - ماكان من هواجس النفس وحركات البشرية كتصرُّف الأعضاء وحركات الجسد فهذا القسم لا يتعلق به أمرٌ باتباع ولا نهيٌ عن مخالفته وليس فيه أسوة ولكنه يفيد أن مثل ذلك مباح. قال سبحانه وتعالى: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 93]. 2 - ما لا يتعلق بالعبادات ووضح فيه أمر الجبلة، كالقيام والقعود ونحوهما فليس في تأس ولا به اقتداءٌ ولكنه يدل على الإباحة عند الجمهور. 3 - ما احتمل أن يخرج عن الجبلة إلى التشريع بمواظبته عليه على وجه معروف وهيئةٍ مخصوصة كالأكل والشرب واللُّبس والنوم فهذا القسم دون ما ظهر فيه أمر القربة وفوق ما ظهر في أمر الجبلة على فرض أنَّه لم يثبت فيه إلا مجرَّد الفعل، وأما إذا وقع منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإرشاد إلى بعض الهيئات كما ورد عنه الإرشاد إلى هيئة من هيئات الأكل والشرب فهذا خارج عن هذا القسم داخل فيما سيأتي. 4 - ما علم اختصاصه به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كالوصال والزيادة على أربع فهو خاص لا يشاركه فيه غيره. 5 - ما أبهمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لانتظار الوحي كعدم تعيين نوع الحج مثلاً، فقيل يقتدي به في ذلك وقيل لا. 6 - ما يفعله مع غيره عقوبة له كالتصرف في أملاك غيره عقوبةً له اختلفوا هل يُقتدى به فيه أم لا فقيل يجوز وقيل لا يجوز وقيل هو بالإجماع موقوف على معرفة السبب، وهذا هو الحقُّ فإن وضح لنا السبب الذي فعله لأجله كان لنا أن نفعل مثل فعله عندوجود مثل ذلك السبب وإن لم يظهر السبب لم يجز، وأمَّا فعله بين شخصين متداعيين فهو جار مجرى القضاء فتعين علينا القضاء بما قضى به. 7 - الفعل المجرد عما سبق، فإن ورد بيانًا كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صلُّوا كما رأيتموني أصلي" فلا خلاف أنّه دليلٌ في حقنا وواجبٌ علينا وإن ورد بيانًا لمجمل كان حكمه حكم ذلك المجمع من وجوب وندبٍ كأفعال الحج وأفعال العمرة وصلاة الفرض وصلاة الكسوف. وإن لم يكن كذلك بل ورد ابتداءً، فإن علمت صفته في حقه من وجوب أو ندب أو إباحة فاختلفوا في ذلك على أقوال: الأول: أن أمته مثله في ذلك الفعل إلا أن يدلُّ على اختصاصه به وهذا هو الحقُّ. الثاني: أن أمته مثله في العبادات دون غيرها. الثالث: الوقف. الرابع: لا يكون شرعًا لنا إلا بدليل. وإن لم تعلم صفته في حقه وظهر في قصد القربة فاختلفوا فيه على أقوال. انظر: "البحر المحيط" (4/ 180)، "المحصول" (3/ 229)، "إرشاد الفحول" (ص157 - 165) "المعتمد" (1/ 348). ¬ ¬

(¬1) [آل عمران: 31] وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}: [الحشر: 7]. (¬2) ورجوعُ الصحابةِ إلى فعلِه من غير تصحيحِ باب دونَ بابٍ، وأبحاثُهم لكثيرٍ من الواجباتِ بمجردِ فعلِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ لها مما يشهدُ بأن فعله

ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ دليلٌ شرعيٌّ إن لم يكن (¬1) جِبِليًّا (¬2). قوله: ودعوى أنها متناقضةٌ متعسَّفةٌ خاليةٌ عن برهان. أقول: برهان التناقض أنَّ أحد التأويلات أثبت أنهم مملكون (¬3) لرسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ والأرض أرضه، والآخر أثبت حريتهم (¬4) والأرض لهم، وهذا تناقض ظاهرٌ، وبرهان التعسف أن أخرج الشيخان (¬5) لما ظهر رسول اله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ على خيبر سألته اليهود أن يقرهم بها على أن يكفوه عملها، ولهم نصف الثمرة فقال: "نقرِّكم بها على ذلك ما شئنا" وهذا صريحٌ بأنَّ المأخوذَ في مقابلةِ ............ ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة. (¬2) في حاشية المخطوط ما نصه: "يقال المراد أن الفعل من حيث هو فيه الخلاف، وأما القول فمتفقٌ على كونه دليلاً، كيف يترك المتفق عليه ويعدل إلى غيره؟. (¬3) تقدم التعليق على ذلك. انظر الرسالة (122). (¬4) أما هذا فليس بتأويل، فكيف يجعل من قضائه. حاشية المخطوط. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2338) ومسلم رقم (6/ 155). قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3008) وابن ماجه رقم (2467).

العمل (¬1) فالقول بأنَّ المأخوذ جزية (¬2) تعسفٌ ظاهرٌ، وكذا القول بأن نفعه مخالف لما وقع في لفظ الحديث من أنه عامل أهل خيبر بشطرِ ما يخرج عند الجماعة كلهم، لأن المعاملة المؤاجرة، وكذا سائر التأويلات. قوله: فيُقْتَصَرُ على ما ورَدَ. أقول: هذا جمعٌ حسنٌ، ولكنه مخالفٌ لما ذكره شيخُنا ـ حفظه الله ـ في أولِ الرسالة (¬3) من أن الراجحَ عندهُ القولُ الأولُ، لأنَّ القائلَ به لا يجيز ذلكَ. قوله: فإثباتُ ذلكَ الحكمِ للمسلمينَ إلى قوله: ولا يخفَى بطلانُهُ. أقول: بل لا بدَّ لشيخِنا ـ حفظه الله ـ في تعميمِ التحريمِ من سلوكِ هذه الطريقةِ إنْ مشى على مذهبِ الأكثرِ أنَّ لفظَ نهى عن المخابرة (¬4)، نهى عن بيع الحصاة (¬5)، نهى عن الغَرَرِ (¬6) (¬7) لا يعمُّ كما حكاه المحقق ابن الإمام. ¬

(¬1) في حاشية المخطوط: لا يدفع ذلك كون هذا العمل مساقاةً، كما قد قيل من وجوه التأويل. (¬2) تقدم رد هذا القول. انظر الرسالة (122). (¬3) في حاشية المخطوط: هذا غير مخالفٍ لما ذكر أولاً، لأن ما ذكر ههنا تنزلٌ، ومشيٌ مع مَنْ جعلَ ذلك الفعل دليلاً في هذا المقام، أي إذا جعلت الفعل دليلاً فاقْتَصِر إلخ. فلا يصلح لغير ذلك، فكيف يُدَّعى زيادة عليه. (¬4) تقدم ذكر الحديث وتخريجه. (¬5) تقدم ذكره. انظر الرسالة رقم (110). (¬6) انظر الرسالة رقم (110). (¬7) أقول على تسليم عدما لعموم لا مانع من سلوك تلك الطرق، أي: طريق القياس، حيث لا نص يقابله كما وقع هنا، فالفرق واضح. وقوله: بعد هذا، أقول: هذا من باب التخصيص بالقياس، وهو سابغ رائع يقال: قد عرف أن التخصيص بالقياس إخراج بعض أفراد ما دلّ عليه العام به، ومثله: شارح الكافل بمثل أن يقول الشارع: لا تبيعوا الموزون بالموزون متفاضلا، ثم يقول: بيعوا الحديد كيف شئتم. فيُقاسُ النحاسُ والرصاصُ عليه بجامعِ الانطباعِ. وأما ما نحنُ فيه فالقياسُ على تسليمِ وجودِ الجامعِ بين مَنْ قرَّرَه النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ وغيره يؤول إلى إبطال العام بالكلية، فلذا قيل: إنه عملٌ بالقياس في مقابلة النص لا تخصيص. قوله: ولكن يشهد له حديث: ما قولي لامرأةٍ واحدةٍ. أقول: هذا ورد في البيعة، فإن قلتم: لا يُقْصَرُ على سببه، فالواقع في ما قولي، ولم يقل ما تقريري حتى يتم الاستشهاد به. قوله: أقول: التبليغ يكون بالقول والفعل، إذ المبلغ قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ وفعله. ثم يقال: المدعي بلاغة هذا التقرير، وليس بقول ولا فعل، وإن قلتم: بل المبلغ لفعل الذي سكت عنه فجعل قصر ما وقع في خطبة الوداع على المسموع تسديد، وتعليله بأن صورة الفعل نوعا، وحكايته تسمع غير تسديد، لأنَّ الظاهر مع قوله: "فرُب مبلَّغ أوعى من سامع"، بل صريحة إنما هو في ما سمع، والأقوال ودعوى شمول ذلك للأفعال خلافُ الظاهر، يحتاجُ إلى دليل واضح. قوله: خصَّ الجوازَ بمثل تلك الأرض، وبمثل أولئك النفر إلخ. يقال على القول الأول: إنما تكلّموا على حكم المسألة بالنسبة إليه نفسها بأكثر، وبما وقعَ في تلك الأرض لأولائك النَّفَر من الصحابة، وإنما تأولوا العقل في الواقع من نبيِّنا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ الذي فعله حجَّةٌ، فلما وقع الاستدلال بأفعال الصحابة فقيل قبلها ما قيل على حسب ما ظهر حمْلاً بخير القرون على أحسن المحامل، على وجهٍ لا يكون فيه حُجَّةً لمن سواهم، فهذه الزيادةُ لا تُخْرِجُ القائلَ بها إلى المخالفةِ لأصلِ القولِ الأولِ: ولو سُئلوا عمَّا وقع من الصحابة ما وسِعَهُم سوى الحملِ لِفِعْلِهم على وجهِ صِحَّةٍ إحسانًا للظنِّ. هذا مما تظهرُ وفوقَ كلِّ ذي علمٍ عليمٌ.

وأما حديثُ (¬1) من لم يَذَرِ المخابرةَ، فهو وإن كان عامًا إلا أنه ـ حفظه الله ـ قد خصَّصَهُ فضعفتْ حُجِّيَّتُهُ، ولهذا ذهبَ جماعةٌ من أهلِ الأصولِ (¬2) إلى أنَّهُ بعدَ التخصيصِ ¬

(¬1) تقدم وهو حديث ضعيف. (¬2) اختلفوا في العام بعد تخصيصه هل يكون حجة أم لا؟؟. إذا خصَّ بمبهم كما لو قال، فلا يحتج به على شيء من الأفراد بلا خلاف. ومحل الخلاف إذا خصَّ بمبين على أقوال: الأول: أنه حجة في الباقي وإليه ذهب الجمهور واختاره الآمدي وابن الحاجب وغيرهما من محققي المتأخرين. "الإحكام" (2/ 252 - 254)، "التبصرة" (ص122)، "تيسير التحرير" (1/ 308). قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" (ص466 - 467): وهو الحقُّ الذي لا شك فيه ولا شبهة، لأن اللفظ العام كان متناولاً للكل فيكون حجةً فيكل واحدٍ من أقسام ذلك الكل، ونحن نعلم بالضرورة أن نسبة اللفظ إلى كل الأقسام على السوية، فإخراجُ البعض منها بمخصص لا يقتضي إهمال دلالة اللفظ على ما بقي ولا يرفع التعبد به، ولو توقف كونه حجةً في البعض على كونه حجةً في الكل للزم الدَّور وهو محال. وأيضًا المقتضي للعمل به فيما بقي موجودٌ وهو دلالة اللفظ عليه والمعارض مفقودٌ فوجد المقتضي وعدما لمانع فوجب ثبوت الحكم. وأيضًا قد ثبت عن سلف هذه الأمة ومن بعدهم الاستدلال بالعمومات المخصوصة وشاع ذلك وذاع. الثاني: أنَّه ليس بحجة فيما بقي وإليه ذهب عيسى بن أبان وابو ثور كما حكاه عنهما صاحب المحصول وحكاه القفال الشاشي عن أهل العراق، وحكاه الغزالي عن القدرية. قال إمام الحرمين في "البرهان" (1/ 410): ذهب كثيرٌ من الفقهاء: الشافعية والمالكية والحنفية والجبائيُّ وابنه إلى الصيغة الموضوعة للعموم إذا خصَّت مجملة، ولا يجوز الاستدلال بها في بقية المسميات إلا بدليل كسائر المجازات. واستدلوا بأن معنى العموم حقيقةٌ غير مرادة مع تخصيص البعض، وسائر ما تحته من المراتب مجازاتٌ وإذا كانت الحقيقة غير مرادةٍ وتعددت المجازات كان اللفظ مجملاً فيها فلا يحمل على شيء منها والباقي أحد المجازات كان اللفظ مجملاً فيها فلا يحمل على شيء منها. قال الشوكاني: إنَّما يكون إذا كانت المجازات متساويةً ولا دليل على تعين أحدها. وما قدمنا من الأدلة في القول الأول دلت على حمله على الباقي فيصار إليه. الثالث: أنَّه إن خصَّ بمتصل كالشرط والاستثناء والصفة فهو حجة فيما بقي، وإن خصَّ بمنفصل فلا، بل يصير مجملاً. الرابع: أن التخصيص إن لم يمنع استفادة الحكم بالاسم وتعلّقه بظاهره جاز التعلق به كما في قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]. لأن قيام الدلالة على المنع من قتل أهل الذمة لا يمنع من تعلق الحكم وهو القتل باسم المشركين. وإن كان يمنع من تعلق الحكم بالاسم العامّ ويوجب تعلقه بشرط لا ينبئ عنه الظاهر لم يجز التعلُّق به كما في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. لأن قيام الدلالة على اعتبار النصاب، والحرز وكون المسروق لا شبهة فيه للسارق يمنع من تعلق الحكم وهو القطع بعموم اسم السارق ويوجب تعلّقه بشرط لا ينبئ عنه ظاهر اللفظ. وإليه ذهب أبو عبد الله البصريُّ. قال الشوكاني: ويجاب عنه بأن محلّ النزاع دلالةُ اللفظ العام على ما بقي بعد التخصيص وهي كائنة في الموضعين والاختلاف بكون الدلالة في البعض أظهر منها في البعض الآخر ـ باعتبار أمر خارج ـ لا يقتضي ما ذكره من التفرقة المفضية إلى سقوط دلالة الدالّ أصلاً وظاهرًا. الخامس: إن كان لا يتوقف على البيان قبل التخصيص ولا يحتاج إليه كاقتلوا المشركين فهو حجة لأن مراده بينٌ قبل إخراج الذميّ وإن كان يتوقف على البيان ويحتاج إليه قبل التخصيص فليس بحجة كقوله تعالى: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: 72]. فإنه يحتاج إلى البيان قبل إخراج الحائض ونحوها وإليه ذهب عبد الجبار. قال الشوكاني: وليس هو بشيء ولم يدلّ عليه دليلٌ من عقل ولا نقل. السادس: أنه يجوز التمسك به في أقلّ الجمع لأنه المتعين ولا يجوز فيما زاد هكذا حكى هذا المذهب القاضي أبو بكر والغزالي وابن القشيريِّ وقال إنَّه تحكُّمٌ. وقد استدلوا لهذا القول بأن أقلّ الجمع هو المتيقنُ، والباقي مشكوكٌ فيه. قال الشوكاني وردّ: بمنع كون الباقي مشكوكًا فيه لما تقدم من الأدلة. السابع: أنه يتمسك به في (واحد) فقط حكاه في "المنخول" (ص153) عن أبي هاشم وهو أشدُّ تحكمًا مما قبله. الثامن: الوقف فلا يعمل به إلا بدليل حكاه أبو الحسين بن القطان وجعله مغاايرًا لقول عيسى بن أبان ومن معه، وهو مدفوع بأن الوقف إنَّما يحسُن عند توازن الحجج وتعارض الأدلة وليس هنا شيء من ذلك. انظر: "البحر المحيط" (3/ 271)، "المستصفى" (3/ 254)، "تيسير التحرير" (1/ 313)، "إرشاد الفحول" (ص465 - 470).

ليسَ بِحُجَّةٍ. وذهب آخرونَ إلى أنه لا يكونُ حجةً إلاَّ في .....................................

أقلَّ الجمع (¬1). ومع هذا فتناولُهُ لما بقيَ ليسَ إلا بطريقِ المجازِ على المذاهبِ المختارِ. قوله: وقد عرفتَ أنَّ القياسَ في .............................. ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة.

في مقابلةِ النصِّ مطرح (¬1). أقول: هذا من باب التخصيصِ بالقياسِ، وهو شايعٌ ذائعٌ، وليس من قبيلِ القياسِ في مقابلةِ النصِّ؛ فإنْ كانَ شيخُنا يمنعُ التخصيصَ بالقياسِ فلا بأسَ. قوله: حديثٌ فيه مقابلةٌ مشهورٌ. أقول: نعم، ولكن يشهدُ له حديث: "ما قولي لامرأةٍ واحدةٍ إلا كقولي لمائة امرأة" عند النسائيِّ (¬2)، وهو عند الترمذيِّ (¬3) بلفظ [18]: "إنما قولي لمائة امرأةٍ كقولي لامرأةٍ واحدة". وقال حسَنٌ صحيحٌ. وهو أيضًا في مسندِ (¬4) أحمدَ. وعمَلُ الصحابةِ فإنهم حكموا على الكلِّ لما حكَمَ به النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ على البعضِ، كضربِهِمُ الجزية على كل مجوسيّ لضربه الجزية على مجوس هَجَرَ، وشاع وذاع فكان إجماعًا. ويشهدُ له ايضًا قولُه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ لأبي بُرْدَةَ ف يالتضحيةِ بالجَذْعَةِ: "تجزيكَ ولا تُجزي عن أحدٍ بعدَك" (¬5) فلولا أنَّ لفظَ تجزيكَ قد أفادَ العمومَ لم يكن لذلكَ القولِ فايدةٌ، وكذا تخصيصه خزيمة (¬6) بقبول شهادته وحده. قوله: فالمراد يبلغُ الشاهدُ ما وقعَ في تلكَ الخُطْبَةِ. أقول: التبليغ يكونُ بالقولِ والفعلِ لا محالة، وقَصْرُهُ على ما وقع في تلك الخطبة أو ما سُمِعَ من الأحكام بقرينة: فرُبَّ مبلَّغٍ أوعى من سامع غيرُ سديد، لأن صورة الفعل ¬

(¬1) تقدم ذكره. (¬2) في "السنن" (7/ 149). (¬3) في "السنن" رقم (1597). (¬4) في "المسند" (6/ 357). من حديث أميمة بنت رُقيقة وهو حديث صحيح. وقد تقدم. (¬5) تقدم تخريجه مرارًا. (¬6) تقدم مرارًا.

تُوعى وحكايتُهُ تُسْمَعُ. قوله: هذا واعلم أنّ صاحب الرسالة إلخ. أقولُ: قدِ اتفقَ صاحبُ الرسالة وشيخُهُ ـ متع الله به ـ على التفرد، فإنْ يَعْلَمْ ـ متع الله به ـ خصَّ الجوازَ بمثلِ تلكَ الأرضِ، ولمثل أولئكَ النَّفَرِ من الصحابة وسكتَ على ذلك، وهو خارجٌ عن القول الأول، وعن سائرِ تلكَ الأقوالِ والجميعُ مبنيّ على جوازِ إحداث قولٍ في المسألة بعدَ استقرارِ أقوالِ المجتهدينَ فيها، وهو الراجحُ لا سيَّما مع الأخذِ من كلِّ قولٍِ بطَرَفٍ. والحمد لله أولا وآخرًا، وصلى الله عليه وآله وسلَّم على سيِّدنا محمدٍ وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا. انتهى من تحرير المجيبِ محمد بن علي الشوكانيّ ـ حفظه الله ومد لنا في مدته ـ إنه جوادٌ كريمٌ، آمينَ آمينَ آمينَ.

بحث في الماء الكائن في المحلات المملوكة

(124) 30/ 1 بحث في الماء الكائن في المحلات المملوكة تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: "بحث في الماء الكائن في المحلات المملوكة". 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده. حفظكم الله وأمتع حياتكم وكثر فوائدكم ولا برحتم البحث النفيس ... ". 4 - آخر الرسالة: " وأستغفر الله لي وله وللمسلمين آمين تم البحث العظيم والحمد لله رب العالمين". 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 8 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرًا ما عدا الصفحة الأولى فعدد الأسطر فيها 15 سطرًا والصفحة الأخيرة سطر واحد. 8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

هذا الرسالة جواب عن بحث كتبه إليَّ القاضي محمد بن صالح بن أبي الرجال (¬1). بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ للهِ وحدَه. حفظكم الله وأمتع حياتكم وكثَّر فوائدكم ولا برِحْتم، البحث النفيس وصل، وكنت عزمت على إمساك عِنان الأقلام، والكفِّ عن تطويل ذويل الكلام، خشية من أن يُفْضِي البحثُ إلى نوعِ من المراء المنهيِّ عنه المُرْشَدِ إلى خلافه. يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "مَن ترك المراء ولو مُحِقًّا" (¬2) الحديث. ولكنْ لما كان تأسيس الصواب وتحقيق مناط الحق من أعظم مقاصد الطلاب حدا بي ذلك إلى مراجعتكم لا لقصد الرد لما حرّرتُم بل لقصد التنبيه لكم. وقبل التعرُّض للكلام على ذلك ينبغي أن يُعلَمَ أولاً أن استعمالَ آداب البحث (¬3) والمناظرة بين كل متناظرين أمر متحتمٌ، ولهذا ترى المباحثة إذ لم يكن ذلكالعلمُ ملحوظًا منها شبيهة بالعبث، فكثيرًا ما ترى مَن مقامُه المنع قائما في مقام الاستدلال، ومن مقامُه الاستدلالُ قائما في مقام المنع، ومن مقامُه النقض أو المعارضة قائما في مقام التصحيح من حيث لا يشعر، وكلُّ ذلك لإهمال ذلكا لعلم وعدم الالتفات إليه والاعتداد به. وكثيرًا ما يظن مَن لم يُراعِ ذلك حقّ المراعاةِ أنه قد أصاب، وأخطأ خصمُه أو أخطأ وأصاب خصمه، ولو عرف ذلك العلم لزال عنه ذلك الظنّ الفاسد. ¬

(¬1) محمد بن صالح بن محمد بن أحمد بن صالح بن أبي الرجال ولد سنة 1146هـ وأخذ العلم عن جماعة من أعيان ذلك العصر. مهر في الأدب فنظم الشعر الفائق، وبالجملة فهو يتوقد ذكاء وفطنة، وحسن عشرة ومكارم أخلاق وعفة وصيانة وديانة وعلو همة ورياسة واطلاع تام على علم اللغة. قال الشوكاني في "البدر الطالع" رقم (449) ويجري بيننا هنالك مذكرات أدبية ومحاضرات تاريخية ومن محاسنه أنَّه إذا رأى منكرًا استشاط غيظًا. توفي سنة 1234هـ. " نيل الوطر " (2/ 268 - 274). (¬2) أخرجه أبو داود في "السنن" رقم (4800) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. وهو حديث حسن. (¬3) انظر "الكوكب المنير" (4/ 370 وما بعدها)، "الفقيه والمتفقه" (2/ 25 وما بعدها).

إذا تقرر هذا فاعلم أنه إذا قام خصمك في مقام الاستدلال مثلا بدليل من السنة (¬1) اتّجه لك أن تقولَ: لا أُسلِّم صحة هذا الدليل أو تقول بعد تسليم الصحة: لا أُسلِّم [1] دلالته على المطلوب، فإن كان المنعُ الأولُ أو الثاني مُجرَّدين عن السند على خلاف في قبول المنع المجرَّد، فإذا قبل المستدِلُّ ذلك المنع المجرَّد وكان يرى قبوله لزمه أن يُبيِّنَ صِحَّة الدليل الممنوع صحتُه أو صحَّةَ دلالتِه على المطلوب الممنوع دلالته عليه، فإن وفى بذلك وإلا كانت الدائرة عليه. وإن لم يقبل خَصْمُك ذلك المنع المجرّد كان عليك أن تُبيِّن منعَ صحة الدليل الواقعة منك، فتقول مثلاً: لأن رجال إسناده (¬2) أو أحدَهم لا تقوم به الحجةُ لكونه كذا وكذا أو لأن متْنه (¬3) لا تقوم به الحُجة لكونه كذا وكذا، وتبين منعُ دلالته على المطلوب فتقول ¬

(¬1) إذا كان دليله من السنة فالاعتراض عليه من خمسة أوجه: 1 - أن يطالبه بإسناد حديثه. 2 - أن يقدح في إسناده. 3 - أن يعترض على متنه. 4 - أن يدعي نسخه. 5 - أن يعارضه بخبر غيره. ولكل وجه وجوه انظر تفصيلها في "الفقيه والمتفقه" (2/ 84 - 90). (¬2) القدح في الإسناد من وجوه: 1 - أن يكون الراوي غير عدل. 2 - أن يكون مجهولا. 3 - أن يكون الحديث مرسلا. (¬3) الاعتراض على المتن فمن وجوه: 1 - أن يكون المتن جوابًا عن سؤال، والسؤال مستقل بنفسه فيدعي المخالف قصده على السؤال. 2 - أو أن يكون الجواب غير مستقل بنفسه ويكون مقصورًا على السؤال والسؤال عن فعلٍ خاصٍّ يحتمل موضع الخلاف وغيره، فيلزم السائل المسؤول التوقف فيه حتى يقوم الدليل على المراد به.

لأن معناه لغةً كذا وهو غيرُ المُتنازع فيه. هذا إذا استدل خصمُك مثلا بدليل من السنة. وإن استدل مثلاً بالإجماع (¬1) فتقول: لا أسلِّم الإجماعَ، وحينئذ يكون عليه بيانُ الإجماع وإلا كانت الدائرة عليه. وإذا أوردتَ أقوال العاملين بخلاف ما ادَّعى الإجماعَ عليه كان ذلك من باب بيان المنع والأخذ في المعارضة، فاعرِفْ أن نقْلَ أقوال القائلين إنما يُورِده المناظِر على من ادعى الإجماع، وأما من اعترف بالخلاف في محل النزاع فلا يليق بعارف أن يورد عليه أقوال الرجال لأنه أورَد عليه ما هو مُعترفٌ به. نعم يُلحق بدعوى الإجماع دعوى إجماع أهل مذهبٍ من المذاهب أو طائفةٍ من الطوائف فإنه إذا اعترض عليه بنقل أقوال بعض أهل ذلك المذهب أو تلك الطائفة كان مقبولاً، وأما إذا أوردت َ الأقوال على من لم يدَّعِ أحدَ ذيْنَك الأمرَين فلا ريب أن نقلها نوعٌ من اللغو والعَبثِ الذي لا طائل تحته، بل هو مستنكرٌ عند مَن كان من صغار الطلبة ألا تراك لو سمعتَ قائلاً يقول: الإمامُ المهديُّ يقول بوجوب الاعتدال بين السجدتين فعند ذلك سمعت آخر يقول له: أخطأتَ قد يقول بوجوب الاعتدالِ مثلا الناصر ـ أما كنتَ تعُدُّ هذا من النوادر المضْحكة لا من المسائل العلمية! إذا تقرَّر هذا فلا يُنكِر القاضي العزّي عافاه الله أني لم أدَّع الإجماع على ما حرَّرتُه في المسألة حتى يرد عليّ ما أورَده من النقول عن أولئك الأعلام وكيف يدّعي ذلك في مسألة الماء التي هي محلُّ النزاع وهذا الإمام الأكبر المهديُّ لدين الله رضي الله عنه يقول في بحره الزخّار (¬2) ما لفظُه: فصلٌ: ومن احتفر بئرًا أو نهرًا فهو أحقُّ بمائه إجماعًا (¬3) فرع (ع ط م قين ك) (¬4) فهو حقٌّ لا مُلْكٌ فليس له منعُ فضْلتِه، لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "الناس شركاء في ثلاثة" (¬5) الخبر بعض (ها) (¬6) بل ملك لكن عليه بذلُ الفضْلة للماشية. والكلأ لينبت والوضوء والغسل [2] وإزالة نجاسةِ الثياب وغيرها، لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "من منع فضْلَ الماء إلخ" (¬7) ثم قال في موضع آخرَ (¬8): مسألة: والماءُ على أضرب حق إجماعًا كالأنهار غير المستخْرَجة والسيول وملك إجماعًا ماء يحرز في الجرار (¬9)، ومُختلفٌ فيه كماء الآبار والعيونِ والقناة المحتفرةِ في الملك (م ع ط قين) (¬10) حق لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "الناس شركاء في ثلاثة" (¬11) ولم يفصّل إلا ما خصه الإجماعُ كماء الجرار فمن أخذ منه شيئًا ملَكه لكن يأثم الداخلُ بغير رضاه إذا العرصة ملكُه (قم ي بعصش) (¬12) بل ملكه لكونه في ملكه كماء الجرة. قلنا: ماء الجرة نقل وإحراز لا هذا فأشبه السيول انتهى. ثم قال مسألة: وأما البِرَاكُ التي تُحفَر في المُلْك أو يجر إليها ماء مباح فماؤُها حقٌّ لكن ¬

(¬1) إنْ كان دليله الإجماع فإنَّ الاعتراض عليه من ثلاثة أوجه: 1 - أن يطالب بظهور القول لكل مجتهد من الصحابة. 2 - أن يبين ظهور خلاف بعض الصحابة. 3 - أن يعترض على قول المجمعين، إن لم يكونوا صرحوا بالحكم بمثل ما يعترض على لفظ السُّنة "الفقيه والمتفقه" (2/ 90 - 94). (¬2) (3/ 99 - 100). (¬3) في "البحر" وإن بعدت منه أراضيه وتسط غيرها. (¬4) ع: أبو العباس، ط: أبو طالب، م: المؤيد بالله. قين: الحنفية والشافعية. ك: مالك. (¬5) تقدم تخريجه. (¬6) ها: الهادي. (¬7) تقدم تخريجه. (¬8) (3/ 102). (¬9) ونحوها (ي) فإن كان يكال أو يوزن في الجهة فمثلي وإلا فقيمي. (ي): الإمام يحيى. (¬10) انظر التعليقة رقم (2) في هذه الصفحة. (¬11) تقدم تخريجه. (¬12) قم: أحد قولي أبي طالب. ي: الإمام يحيى. بعصش: بعض أصحاب الشافعي.

لا يدخلُ إلا بإذن إلخ. وقال في البيان (¬1): مسألة: والماءُ على ثلاثة أقسام ثم قال: الثالثُ ماءُ العيونِ المسخرجةِ والآبارِ والمناهلِ المملوكة والمسبلةِ والأراضي المملوكةِ ثم ساق الخلافَ بعد ذلك حتى قال (فرْعٌ) فلو نبعَتْ عينٌ في موضع ممْلوكٍ، فالأقربُ إن ما يخرج منها يكون هكذا على الخلاف إلخ. دعْ عنك ذكْرَ الخلافِ في البحر الذي هو مُدَرِّسُ كبارِ الطلبةِ، والبيانَ الذي هو مدرَّسُ المتوسّطين منهم، هذا شرحُ الأزهارِ (¬2) الذي هو مُدَرَّسُ صغارِ الطلبةِ ذكر فيه الثلاثةَ الأقسامَ وقال في ماء الآبار والعيونِ المستخرجةِ أنه حقٌّ عند أبي طالب وأبي العباس للمذهب، وهو قولُ أبي حنيفةَ والمنصورِ بالله وبعض أصحاب الشافعيِّ وآخر قولي المؤيد بالله، وعند بعضِ أصحابِ الشافعيِّ والمؤيَّدِ بالله قديمًا أنه مُلْكٌ، هكذا ساق الخلافَ، وكما أني لم أدَّعِ الإجماعَ مطلقًا لم أدَّعِ أنه إجماعُ العِترةِ الطاهرةِ وأتباعِهم حتى يتوجَّه في المناظرة أن يُقالَ: قال فلانٌ منهم كذا وقال فلانٌ منهم كذا إنما الذي عرَّفْتُ القاضيَ عافاه الله به أنه لا يحلّ تحميلَ أهلِ عافش غرامةَ ما تدّعيه عليهم القضاةُ إلى أبي الرجال وأنه غيرُ مطابقٍ لما تقرَّرَتْ عليه قواعدُ المذهبِ الشريف ولا لما قامت عليه الأدلةُ، ثم خيَّرت القاضيَ أطالا لله بقاءه بين أن يناظِرَ على مُقتضَى المذهبِ أو على مقتضى الدليل فحرَّر كثَّر الله فوائده ما لا يُقابِلُ بمثله إلا من ادّعى خلافَ الإجماعِ، وأين ذلك مما نحن بصدده فإنه لا يصلُح في جواب ما رسَمتُه له إلا أن يقولَ صدَّرتُ إليكم أبحاثًا على مقتضى الدليلِ يخالف ما زعمتم من عدم الجوازِ وعدم لزوم الضمان لمتلف ذلك الماء، أو يقول صدَّرْتُ إليكم أبحاثًا يقتضي أن المذهبَ المقرّرَ المعروفَ المعمولَ به الآن مصرِّحٌ بثبوت الغرامةِ [3] على مُتلف ذلك الماء، وكلُّ عارفٍ يعلم أنه لا يحسن في جواب ما ¬

(¬1) انظر "مؤلفات الزيدية" (1/ 222) وقد تقدم. (¬2) (2/ 810 - 814 السيل الجرار).

رسمتُه إلا هذا لا مجرَّد القول. وينبغي أن نبيِّن للقاضي عافاه الله ما هو المذهبُ، فإنه ربما وقع الخروجُ عن البحث لأجل عدمِ استحضارِ ذلك فنقول كان المذهبُ الشريفُ في اصطلاح القدماء عبارة عن نصوص الإمام الأكبر الهادي إلى الحق سلام الله عليه ثم في اصطلاح مَن بعدَهم ما اتفق عليه أبو العباس وأبو طالب والقاضي زيدٌ، وعند بعضِهم أن الثالثَ المؤيدُ بالله ثم في اصطلاح مَن بعدَهم ما رجَّحه صاحبُ اللُّمَعِ والتذكرة، وهذا هوا لذي يُشير إليه الإمامُ المهديُّ في مؤلفاته بالمذهب ثم في اصطلاح مَن بعدهم ما نصّ عليه الأزهارُ وقرَّره صاحبُ البيانِ، ثم ومع الإطلاق على ما رجَّحه مهذّبوا المذهبِ كالمُفتي والشامي والسَّحولي والقاضي عامر المُقبلي، وآخر من له تقرير للمذهب وترجيح أحسنُ بن أحمد الشبيبي (¬1) والكافةُ من علماء ذمار الآن يجعلون المذهب ما قرَّره، وكذلك غالبُ علماء صنعاءَ وهو شيخُ شيوخي وهو يروي ذلك عن السيد صلاح عن جيشي الكُحلاني عن جيّاش عن إبراهيمَ السَّحولي وهو يرويه حسبما حرَّره في الطراز المعروف فإذا أطلق المذهب في هذه الأعصارِ، وربما وقع خلافٌ في بعض الحالاتِ ما بين تقريرِ مشائخ علماء صنعاء وعلماء ذمار وعلماء صعْدَة وعلماء كُحْلانَ ولكن هي مواضعُ مخصوصةٌ معروفةٌ عند المحقِّقين من الفروعيين ولا أعلم الآن خلافًا بين أهلِ هذه المحلات في أن الماء المُستخرجَ من مُلك كالغيول المملوكة والآبار المملوكة حقٌ من الحقوق التي لا يجوز بيعُها ولا تلزمَ الغرامةُ مَن أتلفها ولو عُرض هذا على جميعَ مَن له معرفةٌ بالمذهب لما وسِعَه إلا الاعترافُ بالاتفاق وعدمُ الاختلاف، ولكن كثيرًا من المشتغلين بالفروع يعرِف من المذهب الاسمَ دون المُسمَّى فينظر القاضي أطالَ الله بقاءه هل يصحُّ شيء منها للمباحثة في الاجتهاد والاستدلال، وهو الحكمُ؟ وغايةُ ما رأيتُه يعوّل عليها عافاه الله هو إدراجُ الماء المتنازعِ فيه في أنه في حكم المنقولِ المحروز. ¬

(¬1) تقدمت ترجمته.

وأقول: إنْ كان هذا الإدراجُ على مقتضى المذهبِ فغيرُ صحيحٍ فقد قدمنا من كلام البحرِ (¬1) والبيان (¬2) والأزهارُ (¬3) وشرحِه ما يتّضح به تفسيرُ ما في حكم النقل والإحراز، وكيف يصِحّ ذلك وهذا الأزهارُ (¬4) يقول [4] ولو مستخرجًا من مُلك بعد قوله يُملك الماء بالنقل والإحراز وما في حكمها، فهل يصح تفسيرُ المستخرَجِ من المُلك بأنه الذي في حكمها في عبارة الأزهارِ، وهل ذلك يؤدي إلى المناقضة في كلام الأزهارِ إذ لا شك أن الذي في حكم المنقول المُحْرَزِ ملكٌ لا حَقٌّ. وقولُه: ولو مستخرجًا في سياق الحقِّ لا يُملك. فإن قلت: فما هو الذي في حكم النقلِ والإحراز. قلتُ: هو ما وقع التفسيرُ به في كلام أهلِ المذهبِ وذلك كمواجل الحصونِ والبيوتِ ولكن يشرط أن تكونَ ممنوعةً كما وقع التقييدُ بذلك في كلامهم حتى إنه وقع في الحواشي املنقولِ تقريرُها عن شيوخ المذهبِ أن ماءَ البئرِ التي في الدار حقٌّ وقد صرّح به شرح الأزهار بل نقل إبراهيمُ السَّحولي عن والده: أن ماءَ الجرَّةِ الموضوعةِ تحت الميزاب حقٌّ مع أنه قد خالف في مواجل الحصونِ والبيوتِ الممنوعةِ جماعةٌ من مشائخ المذهبِ فهذا تقريرُ المذهبِ إن كانالقاضي حماه الله يريد المناظرةَ على وَفْقه، وإن كان يريد المناظرةَ على وفق الاجتهاد فنقول: حديثُ: "الناسُ شركاءُ في ثلاث" (¬5) وأحاديثُ (¬6) النهي عن بيع الماء تدل على المنع فإذا المعارضُ لهذه الأحاديث أو الناسخُ لها أو المخصِّصُ لها ولنتبرع بما سيجده القاضي بعد البحثِ تقريبًا له فنقول: لا معارض لذلك إلا محْضُ ¬

(¬1) (3/ 99 - 100، 103). (¬2) تقدم التعريف. (¬3) (2/ 810 مع السيل الجرار). (¬4) (2/ 810 مع السيل الجرار). (¬5) تقدم تخريجه. (¬6) تقدم ذكرها.

القياسِ على الصيد الواقعِ في الحفيرة أو الشبكةِ ولم يعوّل القائلُ بخلاف المذهب الأعلى ذلك لا غيرُ وليس غير. وهذا القياسُ أولاً يرِد عليه من الاعتراضات التي ترِد على مثله كما تقرر في علم الأُصولِ ما يُبْطِلُه وعلى فرض عدم البُطلانِ فهو مصادم للنص، والأقيسَةُ إذا صادمت النصوص (¬1) وجب اطّراحُها وعدمُ الاعتداد بها كما تقرر في الأصول (¬2)، وعلى فرض جوازِ التخصيص (¬3) بالقياس وتسليمِ أن هذا القياسَ صالحٌ للتخصيص فغايةُ ما هناك عدمُ جوازِ الأخذِ، وليس النزاع إلاّ في الضمان، وقد تكلَّم أئمةُ المذهبِ في هذا بما يشفي ويكفي. قال في المعيار للنَّجري في الاستدلال على أنه يُملك الماءُ بالنقل (¬4) والإحرازِ ما لفظُهُ: ¬

(¬1) تقدم ذكرها. (¬2) انظر شروط صحة القياس "إرشاد الفحول" (ص678 - 686)، "تيسير التحرير" (3/ 276)، "جمع الجوامع" (2/ 222). (¬3) ذهب الجمهور إلى جوازه وقال الرازي في "المحصول" (3/ 96): وهو قول أبي حنيفة والشافعي ومالك وأبي الحسين البصري والأشعري وأبي هاشم أخيرًا. وذهب أبو علي الجبّائي إلى المنع مطلقًا. قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" (ص528): والحقُّ الحقيق بالقبول أنّه يخصص بالقياس الجليِّ لأنّه معمول به لقوة دلالته وبلوغها إلى حد يوازِن النُّصوص وكذلك يخصص بما كان علته منصوصة أو مجمعًا عليها، وأما العلة المنصوصة فالقياس الكائن بها في قوة النصِّ وأما العلة المجمع عليها فلكون الإجماع قد دل دليل مجمع عليه، وما عدا هذه الثلاثة أنواع من القياس فلم تقم الحجة بما لعمل به من أصله. انظر مزيد تفصيل: "البحر المحيط" (3/ 381) "الإحكام" للآمدي (2/ 362)، "المستصفى" (3/ 349). (¬4) روى أبو عبيد في "الأموال" (ص302) أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن بيع الماء إلا ما حمل منه. قال ابن قدامة في "المغني" (6/ 147): وعلى ذلك مضت العادةُ في الأمصار ببيع الماء في الرّوايا، والحطب، والكلأ من غير نكير وليس لأحد أن يشرب منه ولا يتوضأ، ولا يأخذ إلا بإذن مالكه. وكذلك لو وقف على بئره، أو بئر مباح فاستقى بدلوه، أو بدولابٍ أو نحوه فما يرقِّيه من الماء ملكه، وله بيعه لأنه ملكه بأخذه في إنائه. قال أحمد: إنّما نُهي عن بيع فضل ماء البئر والعيون في قراه. وقال ابن قدامة (6/ 146): وأما ما يحوزه من الماء في إنائه أو يأخذه من الكلأ في حبله أو يحوزه في رحله، أو يأخذ من المعادن فإنه يملكه بذلك، وله بيعه بلا خلاف بين أهل العلم.

وذلك لأنه قد يعارض في مُلكه العمومُ الذي هو قولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "الناسُ شركاءُ في ثلاثة" (¬1) والقياسُ على الصيد الواقع في الحفيرة أو الشبكة فقال: جماعةٌ: يُخصَّصُ العمومُ بالقياس (¬2) كما تقرر في علم الأصولِ فيكون ذلك الماءُ مملوكًا، وقال الجمهورُ: بل يُرفَض القياسُ لمصادمته النصَّ وليس من تقديمِ العمومِ على القياس. وحقيقةُ أن الشركة في الماء التي قصدها الشارعُ في الحديث إما أن يكونَ قبل وجود سبب مُلكِه وهو لا يصلُحُ مقصودًا لذاته لأن ذلك معلومٌ من [5] العقل وإنما بعث لتعريف الأحكام الشرعيةِ أو بعد وجود السببِ وتأثيره في الملك، فذلك أيضًا لا يصلُح للإجماع على أنه لا شركَةَ بعد المُلكِ لأنها خلافُ مقتضى المُلك فلم يبقَِ إلا أن يُريدَ بعد وجودِ السببش فيكونُ الشارعُ مُعرِّفًا لنا أن السبب وإن وُجد لا يوجب المُلكَ لكن خرَجَ ما إذا كان بعد النقل والإحرازش بالإجماع فبقيَ حيث كان الإحرازُ فقط إذ لو أخرجناه لبقيَ النصّث غيرَ معمولٍ به أصلاً انتهى كلامُه. وفيه من القدح على دعوى التخصيصِ بذلك القياسِ ما يكفي وحاصلُهُ أن المخصَّصَ إذا أفضى إلى حد الاستغراق لم يبْقَ من باب التخصيصِ بل من باب النسخِ وهو يجوِّز النسخَ (¬3) بالقياس وهذا معلومٌ معروفٌ في الأصول فليُراجِع القاضي حرسَه الله بين الكتب ¬

(¬1) تقدم تخريجه مرارًا. (¬2) انظر كلام الشوكاني وقد تقدم. (¬3) ذهب الجمهور إلى أنّ القياس لا يكون ناسخًا ونقله القاضي أبو بكر في "التقريب" عن الفقهاء والأصوليين قالوا: لا يجوز نسخ شيء من القرآن والسنة بالقياس لأن القياس يستعمل مع عدم النصِّ فلا يجوز أن ينسخ النصُّ ولأنه دليل محتملٌ والنسخ يكون بأمر مقطوعٍ ولأن شرط القياس أن لا يكون في الأصول ما يخالفه ولأنه عارض نصًّا أو إجماعًا فالقياس فاسد الوضع. انظر: "المسودة" (ص216)، "الكوكب المنير" (3/ 571)، "البحر المحيط" (4/ 131).

الأصولية ليتَّضح له الصواب، أو يباحث عن ذلك مَن لديه علمٌ بها ولْيتخيَّر عافاه الله لذلك من يعرف ما يقول ويُقال له كالرجل الذي باحثَه ونقل جوابَه، فإن ذلك كلامٌ ليس من العِرْفان في شيء، بل مفصول عن الطّلاوة العلمية بالمرة مع غلاظةٍ وخشونةٍ في الألفاظ هي الباعثة لتحرير هذه الأحرف فيالله [أُلُوَّه] (¬1)! أيقولُ في عنوان جوابه: المسألةُ ظاهرةٌ مشكوفةٌ في كتب الفروع وليست من المسائل الغامضة التي بحث عنها ويراجع فيها العلماء إلخ. فنقول: كم مدّعٍ للطهور قبل أن يعرِفَ الماهيَّة والكيفية فلله درُّك إلى أي نسبةٍ تنسُب هذه الظهور هل إلى كون المسألة في الفروع فهذا لا يجهَلُه أحد ولم تسأل عنه، أم كونُ فيها خلافٌ فكذلك ليس هو محلُّ النزاعِ أم حيث الدليلُ فلستَ فيما أظن ممن يعرف منه لا حقيرًا ولا قطميرًا. ألا تراك تقول في أثناء الجوابِ إن حديث النهي عن بيع الماء إنْ صحَّ (¬2) مهجورُ الظاهرِ فهذه العبارةُ تدل على .................................. ¬

(¬1) كلمة غير واضحة في المخطوط. (¬2) كيف هذا. - وقد أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2353) ومسلم رقم (36/ 1566) والترمذي رقم (1272) وابن ماجه رقم (2478) وابن الجارود رقم (596) وأحمد (2/ 244) ومالك في "الموطأ" (2/ 744 رقم 29) والحميدي (2/ 477 رقم 1124) والبغوي في "شرح السنة" (6/ 168 رقم 1668) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ". - وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (38/ 1566) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ". - وفي لفظ البخاري رقم (2354): "لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلأ". - وأخرج أحمد (6/ 139) وابن ماجه رقم (2479) عن عائشة رضي الله عنها قالت: "نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُمنع نقعُ البئر". وهو حديث صحيح لغيره. - وأخرج أحمد (2/ 183) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من منع فضل مائه أو فضل كلئه منعه الله عز وجل فضله يوم القيامة". وهو حديث صحيح لغيره. - وأخرج مسلم في صحيحه رقم (34/ 1565) من حديث جابر: "أن النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن بيع فضل الماء". - وأخرجه أبو داود رقم (3478) والنسائي رقم (7/ 307) والترمذي رقم (1271) من حديث إياس بن عبد وقد ورد بزيادة: "الملح". - وأخرجه ابن ماجه رقم (3477) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يمنع الماءُ والنار والكلأ". وهو حديث صحيح.

تردُّدك (¬1) في صحَّة الحديثِ ولا سيما مع التعبير بلفظ إنْ الموضوعةِ للشك كما تقرر في علم المعاني والبيان. فيالله العجبُ، هذا الحديثُ قد تكاثرت طرقُه حتى بلغ فيما أظن إلى حد التواترُ المعنويّ وهو مدوَّنٌ في غالب الكتُبِ الحديثية صحاحِها ومسانيدِها ومجاميعها وهو في كتب العِتْرةِ الكرامِ في غير كتابِ، وما أظنّ من له سماعٌ في مختصر من مختصرات الحديثِ يتردَّد في صحة هذا الحديث ويأتي بمثل تلك العبارة المُشعِرة بعدم الاطلاع على ذلك الفنِّ بالمرة ثم أعجبُ من هذا قولُك أنه مهجورُ الظاهرِ (¬2)، وهجرُ الظاهرِ باتفاق أهل العلم لا يكون إلا لموجب، فما هو الموجب؟ ثم أعجب من الجميع قولُك بعد ذلك كما لا يخفى مع أنه أخْفى السُّها (¬3) بل لا أدري إلى الآن ما موجبُ هجْر هذا الظاهر [6] على أني ¬

(¬1) الحديث صحيح: انظر التعليقة السابقة. وانظر الرسالة رقم (111). (¬2) الظاهر: قال الغزالي في "المستصفى" (3/ 84 - 85): هو المتردد بين أمرين وهو في أحدهما أظهر. وقيل: هو ما دل على معنى مع قبوله لإفادة غيره إفادة مرجوحةً. فاندرج تحته ما دل على المجاز الراجح. وقيل: ما دل دلالة ظنيَّة إما بالوضع كالأسد للسبع المفترس، أو العرف كالغائط للخارج المستقذَر إذا غلب فيه بعد أن كان في الأصل للماكن المطمئنِّ من الأرض. انظر: "المسودة" (ص574)، "تيسير التحرير" (1/ 136). (¬3) السُّها: كُويكِبٌ صغير خفيُّ الضوء في بنات نعش الكبرى والناس يمتحنون به أبصارهم. "لسان العرب" (6/ 416).

كما قيل: وقد درتُ في تلك المعاهد كلها ... وسرَّحتُ طرفي بين تلك المعالم (¬1) فإن قلت: ليس الظهور الذي زعمتَه إلا من حيثية المذهبِ كما دل على ذلك قولُك وليس الخوضُ إلا فيما نصّ عليه أئمةُ المذهب الشريفِ. فأقول: نعم ليس النزاعُ إلا في المذهب، ولكن ماذا أفدتَ أفادا لله بك فإنك لم تأت إلا بما يدُلّ على عدم تعقُّل مَحلَّ النزاعِ أصلاً لأنك قلتَ: إن الماءَ يُملك بالنقل والإحرازِ وهو غيرُ محلّ النزاعِ، ولعل سائلَك لا يخفى عليه هذا فإن النزاعَ بيني وبينه ليس إلا في اندراج ما وقع الخوضُ فيه في حكمِ النقلِ والإحرازِ أو عدمِ اندراجِه، فما لنا وللنقل والإحراز. ثم قلت: وكون الآبارِ وسواقي الأنهارِ شاهدةً لذلك. فيالله العجب حيث يتصدر للإفتاء من كان بهذه المنزلة وأين هذا مما نحن فيه وما معنى هذه الشهادة فإن الكوزَ والسواقيَ المملوكة لا خلاف بيني وبين سائلك أنها مملوكةٌ ولا نزاع بيننا فيها ولا ملازمة به بين مُلكِها ومُلْكِ الماء الحالِّ فيها والجاري عليها لا عقْلاً ولا شرعًا ولا عادةً بإجماع العُقلاء ثم قال: وعلى ذلك مضت عادةُ المسلمين. أقول: أيها المجيبُ إلى ماذا أشهدتَ بقولك ذلك؟ هل إلى مُلك الماء بالنقل والإحرازِ فذلك خارجٌ عما سألتَ عنه أم إلى شهادة الكوزِ والسواقي فما معنى هذه الشهادة وما معنى كونها مصبّ العُرف والعادة؟ وقولُك: فهو إجماعُ السلف والخلف في صحة تلك فإلى أين يا أبا ليلى وكم هذه ¬

(¬1) هو لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني المتوفى سنة 548هـ وقال بعده: فلم أر إلا واضعًا كفَّ حائر ... على ذقن أو قارئ مِنّ نادم انظر: "نهاية الإقدام" (ص3)، "الفتوى الحموية" لابن تيمية (ص7)، "الملل والنحل" (1/ 173).

الجُرأة على حكاية الإجماع فانظُر رعاك الله في مختصر من مختصرات الفقه لتعرف مقدار ما تحمَّلْت. وهكذا فليكم الكلامُ المفيدُ ثم يُغنيك عن القَعقعة [ببسط] (¬1) أخصَرُ كتاب، وعن كمال الاطلاعِ الذي جعلْتَه ثلْبًا لخصمك وتبجحًا لعلمك أحقرُ الاطّلاع. وأعجبُ من هذا كلِّه الاستدلالُ بالتصرف بالماء في أنواع القُرَبِ، فيا أيها المسكين لا ملازَمَة بين الأمرين فإنه يصِحُّ التقرُّبُ بما لا يصِحّ بيعُه ولا تجب غرامته بإجماع المسلمين كالحقوق (¬2) والثَّمر قبل نفْعِه ودور مكة (¬3) ونحوِ ذلك فما بلنا ولهذا، أو لِنُمْسِكْ ¬

(¬1) كلمة غير واضحة ولعلها ما أثبتناه. (¬2) انظر "الحاوي" (6/ 473). الخلاصة: قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (10/ 176) أمَّا النَّهي عن بيع فضل الماء ليمنع بها الكلأ، فمعناه أن تكون لإنسان بئر مملوكة له بالفلاة وفيها ماء فاضل عن حاجته، ويكون هناك كلأ ليس عنده ماء إلا هذه افلا يمكن أصحاب المواشي رَعْيه إلاَّ إذا حصل لهم السقي من هذه البئر، فيحرُم عليه منع فضل هذا الماء للماشية، ويجب بذله بلا عوض، لأنّه إذا منعَ بذله امتنع الناس من رعي ذلك الكلأ خوفًا على مواشيهم من العطش ويكون بمنعه الماء مانعًا من رعي الكلأ. ثم قال: والمذهب الصحيح أنّ من نبع في ملكه ماءٌ صار مملوكًَا له. أما إذا أخذ الماء في إناء من الماء المباح؛ فإنّه يملكه، هذا هو الصواب وقد نقل الإجماع عليه. وجاء في كتاب: "كفاية الأخيار" (ص 363 - 364). واعلم أن الماء قسمين: 1 - ما نبع في موضع لا يختص بأحدٍ، ولا صنع لآدميٍّ في أنباطه، وإجرائه، كالفرات وجيحون وعيون الجبال وسيول الأمطار، فالناس فيها سواء، نعم، إن قلّ الماءُ أو ضاق المشرع قدم على السابق، وإن كان ضعيفًا، لقضاء الشرع بذلك، فإن جاءوا معًا أقرع، فإن جاء واحدٌ يريد السّضقي وهناك محتاج للشرب، فالذي يشرب أولى، قاله (المتولي) ومن أخذ منه شيئًا في إناء أو حوض ملكه، ولم يكن لغيره مزاحمته فيه، كما لو احتطب، هذا هوا لصحيح. الذي قطع به الجمهور والله أعلم. 2 - المياه المختّصة، كالآبار والقنوات، فإذا حفر الشخص بئرًا في ملكه فهل يكون ماؤها ملكًا؟ وجهان: أصحها نعم، لأنَّه نماء ملكه، فأشبه ثمر شجرته، وكمعدن ذهب أو فضة خرج في ملكه وقد نصَّ الشافعي رحمه الله على هذا في غير موضع، فعلى هذا ليس لأحدٍ أن يأخذه، لو خرج عن ملكه، لأنَّه ملكه فأشبه لبن شاته. انظر: "الأم" (8/ 127). "مغني المحتاج" (2/ 375). وقيل: إن الماء لا يُملك لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار" والمذهب الأول. والحديث على وجهين لا يجب على صاحب البئر بذل ما فضل عن حاجته لزرع غيره على الصحيح. ويجب بذله للماشية على الصحيح. ففي الصحيحين: " لا تنمعوا فضل الماء لتمنعوا الكلأ" والفرق بين الماشية والزرع ونحوه حرمة الروح، بدليل وجوب سقيها بخلاف الزرع ثم لوجوب البذل شروط: 1 - أن يَفْضُل عن حاجته، فإن لم يفضل لم يجب، ويبدأ بنفسه. 2 - أن يحتاج إليه صاحبالماشية بألا يجد ماءً مباحًا. 3 - أن يكون هناك ملأ يُرعى، ولا يمكن رعيه إلا بسقي الماء. 4 - أن يكون الماء في مستقره، وهو مما يُستَخْلف، فأما إذا أخذه في الإناء فلا يجب بذله على الصحيح. وإذا وجب البذل عن الماشية من حضور البئر، بشرط أن لا يتضرَّر صاحب الماء في زرع أو ماشية، فإن تضرَّر بورودها مُنعتْ، ويستقي الرعاة لها. قاله الماوردي: وإذا وجب البذل فهل يجوز له أن يأخذ عليه عوضًا، كطعام المضطر؟ وجهان: الصحيح: لا. (¬3) انظر "الحاوي" (6/ 473). الخلاصة: قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (10/ 176) أمَّا النَّهي عن بيع فضل الماء ليمنع بها الكلأ، فمعناه أن تكون لإنسان بئر مملوكة له بالفلاة وفيها ماء فاضل عن حاجته، ويكون هناك كلأ ليس عنده ماء إلا هذه افلا يمكن أصحاب المواشي رَعْيه إلاَّ إذا حصل لهم السقي من هذه البئر، فيحرُم عليه منع فضل هذا الماء للماشية، ويجب بذله بلا عوض، لأنّه إذا منعَ بذله امتنع الناس من رعي ذلك الكلأ خوفًا على مواشيهم من العطش ويكون بمنعه الماء مانعًا من رعي الكلأ. ثم قال: والمذهب الصحيح أنّ من نبع في ملكه ماءٌ صار مملوكًَا له. أما إذا أخذ الماء في إناء من الماء المباح؛ فإنّه يملكه، هذا هو الصواب وقد نقل الإجماع عليه. وجاء في كتاب: "كفاية الأخيار" (ص 363 - 364). واعلم أن الماء قسمين: 1 - ما نبع في موضع لا يختص بأحدٍ، ولا صنع لآدميٍّ في أنباطه، وإجرائه، كالفرات وجيحون وعيون الجبال وسيول الأمطار، فالناس فيها سواء، نعم، إن قلّ الماءُ أو ضاق المشرع قدم على السابق، وإن كان ضعيفًا، لقضاء الشرع بذلك، فإن جاءوا معًا أقرع، فإن جاء واحدٌ يريد السّضقي وهناك محتاج للشرب، فالذي يشرب أولى، قاله (المتولي) ومن أخذ منه شيئًا في إناء أو حوض ملكه، ولم يكن لغيره مزاحمته فيه، كما لو احتطب، هذا هوا لصحيح. الذي قطع به الجمهور والله أعلم. 2 - المياه المختّصة، كالآبار والقنوات، فإذا حفر الشخص بئرًا في ملكه فهل يكون ماؤها ملكًا؟ وجهان: أصحها نعم، لأنَّه نماء ملكه، فأشبه ثمر شجرته، وكمعدن ذهب أو فضة خرج في ملكه وقد نصَّ الشافعي رحمه الله على هذا في غير موضع، فعلى هذا ليس لأحدٍ أن يأخذه، لو خرج عن ملكه، لأنَّه ملكه فأشبه لبن شاته. انظر: "الأم" (8/ 127). "مغني المحتاج" (2/ 375). وقيل: إن الماء لا يُملك لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار" والمذهب الأول. والحديث على وجهين لا يجب على صاحب البئر بذل ما فضل عن حاجته لزرع غيره على الصحيح. ويجب بذله للماشية على الصحيح. ففي الصحيحين: " لا تنمعوا فضل الماء لتمنعوا الكلأ " والفرق بين الماشية والزرع ونحوه حرمة الروح، بدليل وجوب سقيها بخلاف الزرع ثم لوجوب البذل شروط: 1 - أن يَفْضُل عن حاجته، فإن لم يفضل لم يجب، ويبدأ بنفسه. 2 - أن يحتاج إليه صاحبالماشية بألا يجد ماءً مباحًا. 3 - أن يكون هناك ملأ يُرعى، ولا يمكن رعيه إلا بسقي الماء. 4 - أن يكون الماء في مستقره، وهو مما يُستَخْلف، فأما إذا أخذه في الإناء فلا يجب بذله على الصحيح. وإذا وجب البذل عن الماشية من حضور البئر، بشرط أن لا يتضرَّر صاحب الماء في زرع أو ماشية، فإن تضرَّر بورودها مُنعتْ، ويستقي الرعاة لها. قاله الماوردي: وإذا وجب البذل فهل يجوز له أن يأخذ عليه عوضًا، كطعام المضطر؟ وجهان: الصحيح: لا.

عنّا القلمَ عن الخوض مع من كان بهذه المنزلة، فإنه لا يستحق أن يُعدّ في المتعلمين فضلاً عن المُعلَّمين ومَن يصلح للمناظرة، وقد جعل اللهُ القاضيَ العزّي عافاه الله في غَناء عن أن يسأل مثل هذا المسكين فإنه ربُّ الذهب والوقّاد والفهْم المُنقاد، وما أفاد ذلك المسكينُ إلا تكديرَ صفْوِ المُذاكرة وتقدير مَورد المناظرة [7] وأستغفر الله لي وله وللمسلمين آمينَ. تم البحثُ العظيم والحمدُ لله رب العالمين.

القول المقبول في فيضان الغيول والسيول

(125) 31/ 2 القول المقبول في فيضان الغيول والسيول تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

1 - عنوان الرسالة من المخطوط: "القول المقبول في فيضان الغيول والسيول" 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله الطاهرين وبعد: فإنّه اتفق حدوث خصامٍ بين جماعة ادّعى أهل الأموال السافلةِ على أهل الأموال العليا ... ". 4 - آخر الرسالة: " ... وفي هذا المقدار كفايةُ لمن له هداية. حُرِّر في الثلث الأوسط من ليلة الجمعة لعلَّها ليلة تاسعٍ وعشرين شهر ربيع الآخر سنة 1210 كتبه جامعه الحقير محمد بن علي الشوكاني غفر الله له". 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 15 صفحة + صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 18 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 8 كلمات. 9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني. 10 - الناسخ: المؤلف محمد بن علي الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله الطاهرينَ. وبعدُ: فإنه اتفق حدوث خصام بين جماعة ادّعى أهل الأموال السافلةِ على أهل الأموال العاليةِ أنَّهم أرسلوا إليهم ماءً غيلٍ حدثَ في شعابٍ وهضابٍ وأضبابِ جبال، وكان حدوثُ هذا الغيلِ المذكورِ في تلك المواضعِ لكثرة الأمطارِ، كما جرت العادة المستمرة أنها تخرجُ غيولٌ من مواضع عقِبَ نزول المطر الواسع لم تبقَّ أيامًا وتزول، فاتفق في عامنا هذا سنةَ 1210هـ أن الأمطار توافرتْ ودامت أيامًا، فنزل غيلٌ من المواضع المشار إليها وليس ذلك الغيلُ بمملوكٍ ولا وقع فيه سببٌ من أسباب المُلْكِ، فاستغنى أهل الأموال العاليةِ عن السقي به، وخشيوا فساد غِلاَّتِ الأ/والِ إذا دخل أموالَهم، والإضرارَ بالأرضِ، فعمقوا المداخل التي يدخل فيها الماءُ من تلك السائلةِ، وأرسلوه إلى مَنْ تحتَهم حتى انتهى إلى أرضِ قومٍ آخرينَ، وذلك حيثُ تنتهي السائلةُ، ولم يبقَ للماء طريقٌ إلا أصلاب الأموال، وأبدانَ الأطيان [1أ] لعدم وجود مكان هناك متروك من الحرث، حتى يكون مَمَرًّا للماء. فقال أهل الأموال السالفةِ: إنه يجب على أهل الأموال العالية أن يُدْخِلوه أملاكَهم لينصرفَ ضررهُ عن أملاكِهم. فقال أهل الأموال العالية: لا يجبُ علينا ذلك، لأنه يحصلُ الضررُ علينا كما حصل الضررُ عليكم، فلما ترافعوا لديَّ حَكَمْتُ: بأنه لا يجبُ على أهل الأموال العاليةِ أن يصرفوا الضرَّرَر عن أهل الأملاكِ السافلةِ بإدخال الضرر على أنفسهم لوجوه: أودعتُها الحكمَ الذي حررتُه بين المتنازعينَ، راجعةٍ إلى قواعدَ أصوليةٍ، وقوانينَ استدلالية قد اتفق عليها أئمةُ الأصول، ولم يخالِفْ فيها مخالفٌ لا من أئمتنا ـ عليهم السلام ـ ولا من غيرهم. منها: أن ذلك الماءَ المنصبَّ من تلك الأمكنةِ لم يكن حدوثُه بفعل أهل الأملاك العالية، ولا وقع منهم سببٌ من الأسباب الموجِبَةِ لحدوثه، أو حدوثِ زيادتِه، بل هو حدثَ بنزول المطرِ الذي هو من فعل الله ـ عز وجل ـ وفيضِ رحمته [1ب].

وكان حدوثه في أمكنة هي مشتركةٌ بين عباد الله ـ سبحانه ـ بنصّ (¬1) رسوله المصطفى ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، وذلك الماءُ على أصل الاشتراك أيضًا بنصّ حديث أنّ: "الناس شركاءُ في ثلاثٍ" منها الماء. وقد اتفق المسلمون على أن الإنسان لا يجب عليه دفعُ ما ليس من فِعْلِهِ، ولا تسبَّبَ لإحداثه. وهذا الماءُ الذي هو محلُّ النزاع كذلك كما ذكرناه سابقًا، فهذه الطريقةُ الأولى من طرق الإجماع. الطريقة الثانية: أنه قد اتفق المسلمون على أنه لا يجب على الإنسان أن يُنزِل بنفسه الضرر الذي نزل بالغير بغير فعلِه ولا سببِه. الطريقة الثالثة: أنه قد اتفقَ أيضًا المسلمون على أنه لا يجب على الإنسان أن يجلب المصلحة لغيره إذا كان هذا الجلْبُ لا يتمُّ إلا بحصول مفسدةٍ تلحق الجالبَ في نفسه أو مالِه. الطريقة الرابعة: أنه قد اتفقَ المسلمونَ على أنه لا يجبُ على الإنسان أن يدفعَ المفسدةَ عن الغير إذا كان الدفع [2أ] لا يتمُّ إلاَّ بإنزال تلك المفسدة بعينها أو بمثلها بذلك الدفع. الطريقة الخامسة: أنه قد اتفقَ المسلمون على أنه لا يجبُ على الإنسان أن يجلبَ إلى غيره مصلحةً لا يمكن جلبُها إلاَّ بفوات مصلحةٍ مثلها عليه. الطريقة السادسة: أنه قد اتفقَ المسلمون على أنه لا يجبُ على الإنسان جلبُ المصحلةِ الخالصة إلى الغير ابتداءً، من غير نظر إلى كونها تفوتُ عليه مثلُها، أو تحلُّ به مفسدةٌ. هذا على فرض أنها مقدورةٌ لا إذا لم تكن مقدوةً؛ فالأمر ممتنعٌ من جهتين: الأولى: عدمُ التكليفِ بذلك من الأصل. الثاني: كونُه من تكليفِ مالا يُطاقُ. الطريقة السابعة: أنه اتفق المسلمون على أنه لا يجب على الإنسان أن يدفعَ عن ¬

(¬1) تقدم ذكر الحديث مرارًا.

غيره مفسدةً خالصةً غيرَ معارضةٍ إلاَّ إذا كانت من آثار فِعله، لا إذا لم يكن من آثار فِعله فلا يجبُ عليه ذلك إلاَّ من باب إنكارِ المنكرِ، على فرضِ أن فاعله مكلَّفٌ مختارٌ حتى يكون منكرًا، لا إذا لم يكن كذلك كما نحن بصدده، فإنه ليس بمنكر، لأ، ه ليس من فعلِ مكلَّفٍ بل من فعل ربّ العزّة ـ سبحانه [2ب]. الطريقة الثامنة: أنه قد اتفق المسلمون على أنه لا يجبُ على الإنسان أن يدفَع الأمر الغالب الذي لا يدخل تحت مقدوره، وما نحن بصدده من هذا القبيل، وهذا على فرض أنه قد وُجِدَ سببُ الدفع، كأن يكون أجيرًا على الحفظِ أو الدفعِ، فكيف إذا لم يكن كذلكَ! كما نحن بصدده. فهذه ثماني طرق من طرق الإجماع، قد رجعتْ كلُّ واحدة منها إلى قاعدة كليةٍ (¬1) مدوَّنة في علم الأصول، وعلم مناسباتِ الفروعِ. ¬

(¬1) من هذه القواعد: 1 - درء المفاسد أولى من جلب المصالح. وانظر المادة رقم (1192) من المجلة. والظاهر أن هذا اي تقديم المنفعة ومراعاتها حين تربو على المفسدة فيها إذاكانت المفسدة عائدة على نفس الفاعل، كمسألة الكذب بين المتعاديين للإصلاح. أمّا أذا كانت المفسدة عائدة لغيره كمسألة العلو والسفل، فإنه يمنع منها لمجرد وجود الضرر للغير وإن كانت النفعة تربوا على المفسدة. 2 - الضرر يُدفع قدر الإمكان. 3 - الضرر لا يزال بمثله. ولا بما هو فوقه بالأولى بل بما هو ونه. 4 - الضرر يزال: والقاعدة السابقة قيد لهذه أي الضرر يزال إلا إذا كانت إزالته لا تتيسر إلا بإدخال ضرر مثله على الغير، فحينئذ لا يرفع بل يجبر بقدر الإمكان. 5 - لا ضرر ولا ضرار. وأصل هذه القاعدة حديث نبوي. 6 - الضرر الأشد يزال بالشرر الأخف. 7 - إذ تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما. 8 - العبرة للغالب الشائع لا النادر. 9 - يختار أهون الشرّين. 10 - يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام. استيد بمنطوق هذه القاعدة بعض ما أفادته قاعدة: "الضرر لا يزال بمثله" بمفهومها المخالف، فإن مفهومها أن أحد الضررين إذا كان لا يماثل الآخر فإن الأعلى يزال بالأدنى، وعدم المماثلة بين الضررين إما لخصوص أحدهما وعموم الآخر، أو لعظم أحدهما على الآخر وشدته في نفسه. " شرح القواعد الفقهية" (125، 151، 152، 153). انظر: "المجلة" (ص654)، "المادة" (1192). والمادة (1265) (ص683): لكل واحد أن يسقي أراضيه من الأنهر غير المملوكة أن يشق جدولاً لسقي الأرض وإنشاء الطاحون ولكن بشرط أن لا يضر بالعامة فإذا فاض الماء وأضرّ بالناس أو قطع الماء بالكلية أو منع سير الفلك فإنه يمنع. انظر: "الأشباه والنظائر" لابن نجيم (ص85 - 91).

وكلُّ مَنْ له علم بهذين العِلْمين يعلمُ ما ذكرناه وهذه القواعدُ أيضًا مستعملةٌ في كتب الفروع قد عمل بها جميع الطوائف الإسلامية ودوَّنوها في كتبهم، فَمَنْ زعم أن في شيء منها خلافًا لمخالفٍ فليهدِهِ إلينا، وهي أيضًا منطبقة على محل النزاع انطباقًا لا يخفى على عارف. أما الطريقةُ الأولى: فظاهرةٌ؛ إذ لا نزاعَ في كون ذلك الماءَ ليس من فعل أهل الأموال العالية، ولا تسببوا لإحداثه. وأما الطريقة [3أ] الثانية: فواضحةٌ؛ إذ الإيجابُ على أهل الأموال العالية بأن يقبلُوا ذلكَ الماءَ ويُدْخِلُوه أملاكَهم، ليندفع الضررُ عن أهل الأملاك السافلة يستلزمُ أنه يجب عليهم أن يدفعوا الضَّرر عن مُلْكِ غيرهم بجَلْب الضررِ على أملاكِهم. وأما الطريقة الرابعةُ: فلا ريبَ أن رفع المفسدة عن أهل الأموال السافلة يستلزمُ حصولَ تلك المفسدةِ على الأموال العالية.

وأما الطريقةُ الخامسة: فلا مِرْيَةَ أن جَلْبَ مصلحةِ الأموال السافلة لا يتمُّ إلاَّ بتفويتِ ماكان من المصلحة لأهل الأموال العاليةِ الحاصلةِ بعدم دخولِ الماء. وأما الطريقةُ السادسة: فلا نشكُّ أن تكليفَ أهل الأموالِ العالية برفعِ الماء عن أهل الأموال السافلةِ من باب تحصيل مصلحةٍ خالصةٍ، وذلك لا يجبُ على فرض عدم حصول مفسدة، ولا فوات مصلحةٍ، لأنَّ تحصيلَ المصحلة للغير لا يجبُ ابتداءً، ولا سيما [3ب] إذا كان فواتها ليس بفعل أحدٍ من المكلَّفين بل من فعل الله ـ سبحانه ـ. وأما الطريقةُ السابعة: فلا شكَّ أن رفعَ الماء عن الأموال السافلة دفعُ مفسدة عن أهلها، وذلك لا يجبُ على فرض عدم المعارضة بحصول مفسدةٍ أخرى، ولا فواتِ مصلحة لا يقالُ: يجبُ من باب إنكار المنكر، لأنا نقولُ: ليس انصبابُ هذا الماء إلى تلك الأموالِ منكرًا، إذ ليس من فعل المكلَّفين، بل من فعل الله ـ سبحانه ـ. وأما الطريقةُ الثامنةُ: فلا ريبَ أن انصباب هذا الماء الذي ضاقتْ عنه الأرضُ، وضاق به ذَرْعُ أهلِها هو من الأمور الغالبة، على أنَّا لو فرضنا أن أهل الأملاكِ العالية يفتحون مداخل الماء إلى أملاكهم لما انقطعَ عن عن أهل الأملاك السافلة، إلاَّ ريثَما تضيقُ به الأملاكُ العالية، وتعجزُ عن قَبُولهِ، ثم ينزلُ إلى أهل الأملاك السافلة، فحينئذ لا يفيدُ فتحُ مداخل الأملاك العالية إلاَّ مجرَّد فسادها مع فساد الأملاك السافلة [4أ]، فكان في إيجاب ذلك على أهل الأموال العالية ضمُّ مفسدة إلى مفسدة، وتشفيعُ ضررٍ بضرر، وجَلْبُ مصيبة إلى مصيبة، وهذا ما لا يفعله عاقلٌ فضلاً عن عالِمٍ؛ إذ هو منافٍ للعقل والنقلِ، وهو أيضًا من تكليف ما لا يُطاقُ. وقد اتفقَ أهلُ الحق على أن الله لم يكلِّف به أحدًا، وهو نصُّ القرآن (¬1). وما روي من ......................... ¬

(¬1) قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. وقال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]. وقال سبحانه: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286].

الخلاف (¬1) فيه لأبي الحسن الأشعري، وثلةٍ معه فلم يقل أحدٌ منه بأن التكليف به واقعٌ، بل قالوا: يجوز ولا يقعُ، وحينئذٍ فالتكليفُ بما لا يُطاقُ لا يقعُ اتفاقًا، ومسألة النزاع من هذا القبيل، لأن المفروضَِ أن فَتْحَ المداخل إلى الأملاك العالية لا يصرفُه عن الأملاك السافلة إلاَّ وقتًا يسيرًا ثم يعود منصبًّا إلى الأملا السافلة، وهذه الطرقة التي ذكرناها وهي كونه من تكليفِ ما لا يطاق طريقةٌ منضمة إلى تلك الطرق [4ب] الثماني، فتكون الطرقُ تسعًا. فيا لله ذرُّ حكمٍ وقع الإجماع عليه من جميع طوائف المسلمين من طرق تسعٍ، وهي التي أمكن خطورها بالبال حالَ تحرير هذه الأحرف، فكيف لو حصل التتبعُ الكامل، والاستقراءُ التام! ويا للعجب كيفَ يقال يسوغُ الحكمُ على أهل الأملاك العالية بصرف الماء عن أهل الأملاك السافلة! مع كونه الأمر كما ذكرناه سابقًا، وهل هذا إلاَّ مخالفةٌ لقواعدَ شرعيةٍ قطعيةٍ أصوليةٍ إجماعيةٍ! وكيف يسعُ المسلمُ أن يقتحمَ مخالفةَ إجماع المسلمين المنقولِ من طريقة واحدة فضلاً عن المنقول من طرق عدَّة! وهل يوقعُ نفسَه في ذلك مَنْ يعلمُ بما في مخالفة الإجماع من الخطر، وأنه من أسباب ردِّ الحكم وبطلانه، وأن المخالفةَ للقواعد القطعيةِ فيها من الخطر ما هو معروفٌ! فما حال من جَمَعَ بين مخالفة الإجماعاتِ والقطعياتِ والقواعدِ [5أ] اليقينياتِ! فإن هذا لا ريبَ أنه ممن جمع بين فُقْدانِ العقل والعلم؛ إذ لو كان معه أحدُهما لاهتدى بنوره لما تقدم من أن تلك القواعدَ التي عددناها معلومةٌ عقلاً وشرعًا. نعم. ذكر بعضُ أهل العلم والصلاح أن بعضَ العلماء المتأخرينَ قد صرح بما يفيدُ أنه يجب في مثلِ المسألةِ التي ذكرناها على أهل الأملاكِ العاليةِ أن يصرِفوا الماءَ المذكور عن ¬

(¬1) أن شرط الفعل الذي وقع التكليف به أن يكون ممكنًا. فلا يجوز التكليف بالمستحيل عند الجمهور وهو الحق وسواء كان مستحيلاً بالنظر إلى ذاته أو بالنظر إلى امتناع تعلّق قدرة المكلف به. - وقال جمهور الأشاعرة بالجواز مطلقًا، وقال جماعة منهم إنَّه ممتنع في الممتنع لذاته جائزٌ في الممتنع لامتناع تطلّق قدرة المكلف به. انظر: "نهاية السول" (1/ 315) "روضة الناظر" (1/ 220) "الإحكام" للآمدي (1/ 181).

الأملاك السافلة، وقال ـ عافاه الله ـ: إنه صرَّح بذلك ابنُ حابس في كتابه المعروف "بالمقصد الحسنِ" أنْ سمعتُ منه هذه الرواية وهو ثقةٌ كدت أقطعُ بأنه وقع الاشتباهُ عليه، لأنَّ ابن حابس من المحققينَ الذين لا يخفى عليهم المداركُ الاجتهاديةُ. ومثل ما ذكرناه ما أظنُّه يخفى على المجتهد. ثم راجعت الكتابَ المذكورَ فوجدتُه قد ذكر في موضعينِ منه كلامًا ربما كان أحدُهما أو كلاهما هو المراد للناقل ـ عافاه الله ـ[5ب] وإن كان بينهما وبينَ ما نحن بصدده مفاوزُ لا يُدْرَكُ مقدارُها، وها نحن نذكرهما رفعًا للإشكال، ودفعًا للوهْمِ. فنقولُ: الموضع الأول: قال في الكتاب المذكور ما لفظه: مسألةٌ: إذا أخربَ السيلُ أموالاً على ظهرِ وادٍ، وتحوَّلَ فجرى ماءُ ذلك الوادي إلى تلك الأموال، وادَّعى من له مالٌ تحتَ تلك الأموالِ إصلاحَ ذلك المال الخرابِ حتى يمنعَ الماءَ من الجَرْي في الأموال السفلى إما بالكليةِ، وذلك حيث لا يستحقُّ عليه في الأصل الإشاحةُ، أو ما زاد على ما يُعْتَادُ من الإشاحة حيث يستحقُّها من الأصل، فإنه يجب على صاحب المال الخرابِ أن يُصْلِحَ مالَهُ بما يُعْتَادُ في الجهة كما ذكروا في الجدار المائلِ إلى طريق أو حقّ عامّ أنه يجبُ عليه إصلاحُهُ مع الإمكان والعلم بالخلل، وإلاَّ ضمنَ ما أفنت وقد ورد في سؤالاتٍ [6أ] فأجيب بما ذكر ـ والله أعلم ـ انتهى. نقل الموضعَ الأولَ من الكتاب المذكور. الموضع الثاني: قال ما لفظه: مسألةٌ: إذا دخل الماءُ المملوكُ إلى أرض الغير بغير اختيارِ مالكه وجبَ إزالتُه على مالكه، لكن إذا كان يضرُّ الأرضَ إزالتُه وبقاؤُه ماذا يكون الاهرُ ـ والله أعلم ـ أنه لا يجبُ على المالك أرشُ ما نقصَ من الأرض؛ إذا لم يرضَ مالكُ الأرضِ ببقائه، وإن رضي ببقائه لم يكن لصاحبِ الماء رفعُه ولا أجرةَ عليه للأرض، ولا يضْمَنُ مالِكُها الماءَ لمالكهِ، هكذا اقتضاه النظرُ ـ والله أعلم ـ. انتهى نقل الموضعَ الثاني من الكتاب المذكورِ وليس فيه ما يُظَنُّ أنه يشتبهُ على الناظرِ لمسألةِ السؤالِ مع عدم إمعان النظر سوى هذين الموضعينِ. ولا يخفى على عارفٍ أن بين هذين

البحثينِ المنقولين من الكتاب المذكور، وبين المسألة التي نحن بصددها ما بين السماء والأرض، فإن كنت ممن يستغني بفهمه لم تحتجْ إلى إيضاح التفاوتِ، وإن كنت محتاجًا إلى الإيضاح [6ب]. فاعلم ـ أرشدني الله وإياك ـ أن المسألةَ الأ, لى المنقولَة من الكتاب المذكور قد صرَّح فيها أن سببَ انصبابِ الماء إلى الأملاك السافلةِ هو خرابُ الأرض العالية كما تراه صريحًا في كلامه، ولا شك أنه يجبُ عليه إصلاحُ أرضِه إذا كان خرابها سببًا لعدم انتفاعِ مَنْ تحتَه، وقد ذكروا لذلك نظائِرَ: منها: المسألة التي أشار إليها ـ رحمه الله ـ وهي مسألة الجدارِ المائلِ. ومنها: قولُهم: أنه يجبُ على صاحب السُّفلِ من الأبنيةِ أن يُصْلِحَ مُلْكَهُ لينتفعَ ربُّ العُلُوِّ، وغيرُ ذلك. وهذا شيءٌ آخر غيرُ ما نحن بصدده؛ إذ المفروضُ فيما نحن بصدده أنه لم يكن لصاحب الأموالِ العاليةِ سببٌ يوجبُ انصبابَ الماء إلى ملك أهل الأموال السافلة، بل دَفَعَ عن نفسه الضَّرَر فسدَّ المداخلَ، لئلا يدخلَ من الماء ما يفسدُ أرضَه بخلاف هذه المسألةِ التي ذكرها صاحب المقصد، فغنه كان السببُ للإضرارِ بأهل الأموال السافلةِ خرابَ الأموالِ العاليةِ، وذلك سببٌ ظاهرٌ [7أ]، وإصلاحُهُ يعود على صاحبه بفائدة، وهي مصير أرضه صالحةً سالمةً من الخراب، بخلاف المسألةِ التي نحن بصددها، فإنه لا سببَ منه كما تقدَّم، وفَتْحُ المداخل للماء إلى أرضه يوجب فساد أرضه لإصلاحها، فكم الفرق بين من يقول لصاحب الأملاك العالية يُصْلِحُ أرضَه بالعمارة، ليندفعَ الضررُ الذي كان بسببه، وبين من يقول لصاحب الأرض العاليةِ يفسدُ أرضَه بإدخال ما لا يحتاجُ إليه من الماء، ليندفعَ الضَّررُ عن أهل السافلة الذي لم يكن له فيه سببٌ. والحاصلُ أن المسألة التي نحن بصددها لا سببٌ ولا إصلاحٌ بل إفسادٌ. والمسألة التي ذكرها ابنُ حابس وُجِدَ الإصلاحُ وفُقِدَ. فانظرْ كم بين المسألتين من التفاوت، بل التقابل، فإن أحدَهما فيها الأمرُ بالغصلاح لدفع الإفسادِ، الذي وُجِدَ

فيه السببُ والآخَرَيْنِ فيها الأمرُ بالإفسادِ لدفع الإفسادِ مع عدم وجود السببِ، ومن لم يظهرْ له الفرقُ بين الطرفين فلا يُتْعِبْ نفسَه [7ب] بالنظر في المسائل العلميةِ، فإنه محجوبٌ. وأما الاختلافُ ما بين المسألةِ الثانيةِ التي نقلناها من المقصدِ، وبين المسألةِ التي نحن بصددها فهو أوضحُ من أن يلتبسَ، فإن صاحبَ المقصد قال في صدر المسألة: إذا دخل الماءُ المملوكُ، وليس كلامُنا في الماء المملوكِ الذي قد وقع عليه النقلُ والإحراز حتى صار مملوكًا، بل في ماءٍ حدثَ بسببِ كثرة الأمطارِ، وتَنَزَّلَ من شواهقِ الجبال، وبطونِ الأوديةِ، فأين هذا من ذاك! فعرفت بهذا أن كلام ابن حابس في شيء آخر غير ما نحن بصدده، وكيف يُظَنُّ بمثلهِ أنْ يَحْكُمَ تلك الإجماعات، وينافي تلك المسائلَ القطعياتِ والقواعدَ المقرَّراتِ! هذا مالا يُظَنُّ بعالمٍ، على أنه لو قال عالمٌ بمثل ذلك لكان كلامُهُ مُطَّرَحًا لمخالفتهِ لما لا يجوزُ مخالفتُه، والحقُّ مقدّضمٌ على كل أحدٍ، وإقدامُ أئمة الاجتهاد تتفاوتُ، فقد يدركُ بعضُهم من المداركِ ما لا يدركُ الآخر بعضَه. نسأل الله إصلاحَ الأقوالِ والأفعالِ. وفي هذا المقدرا كفاية لمن له هداية. حرر في الثلث الأوسط من ليلة الجمعة لعلها ليلة تاسع وعشرين شهر ربيع الآخر سنة 1210 كتبه جامعه الحقير محمد الشوكاني ـ غفر الله له ـ. [8أ]

رفع منار حق الجار بالإجبار على البيع مع الضرار

(126) 36/ 2 رفع منار حق الجار بالإجبار على البيع مع الضرار تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: "رفع منار حق الجار بالإجبار على البيع مع الضرار". 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده الأمين وعلى آله الغُرِّ المكرمين، وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول الفقير إلى الله ... ". 4 - آخر الرسالة: " ... وقد وقع في مؤلفات جماعة، من الأئمة من أهل البيت، وغيرهم ما يغني عن التطويل. وفي هذا المقدار كفاية إن شاء الله. حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 14 صفحة. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 23 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 11 - 12 كلمة. 9 - الناسخ: المؤلف محمد بن علي الشوكاني. 10 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعدَه الأمين، وعلى آله الغُرِّ المُكرمينَ، وصحبِة أجمعين. وبعدُ: فيقولُ الفقيرُ إلى الله ـ سبحانه ـ يحيى بنُ مطهر بن إسماعيل: هذا سؤال لشيخنا العلامةِ بهجت المحافل، والبحر الذي لا ينتهي، ولكل لجٍّ ساحل، البدرِ الأوحد محمد بن علي بن محمد ـ كثر الله تعالى فوائده ـ وأتحفه سلامًا يلتحفُ البدرُ سناهُ، ويختم السعدِ في ساحاته وفَنَاه، عن حديث سَمُرَةَ بنِ جندبٍ عند أبي داودَ (¬1) أنه كانت له عَضُدٌ (¬2) من نخلٍ في حائط رجلٍ من الأنصار، قال: ومع الرجل أهلُهُ، قال: وكان سمرةُ يدخلُ إلى محلِّه فيتأذَّى به الرجلُ، ويشقُّ عليه، فطلبَ إليه أن يناقِلَه فأبى فأتى النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فذكر ذلك له، فطلب إليه النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ أن يبيعَه فأبى، فطلب إليه أن يناقلَه فأبى، فقال: "فهبْه لي ولك كذا وكذا" أمرًا رغَّبَهُ فيه فأبى، فقال: "أنت مُضَارٌّ" فقال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ للأنصاري: "اذهب فاقلعْ نَخْلَهُ". ¬

(¬1) في "السنن" رقم (3636). وأخرجه في "المراسيل" رقم (407) وفيه: محمد بن عبد الله: هو ابن أبي حماد الطرسوسي القطان. روى عنه جمع. وباقي السند رجاله ثقات إلا أن أبي إسحاق مدلس وقد عنعن. وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 158) من طريق أبي اليمان عن شعيب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب. وهو حديث ضعيف. (¬2) العضد من النخل الطريقة منه قال ابن الأثير: "وقيل إنما هو عضيد من نخل وإذا صار للنخلة جذع يتناول منه فهو عضيد". " النهاية " (4/ 252).

هل يصحُّ الاستدلالُ به على دفعِ الضرار في الأملاك؟ إن قلتُم: لا، فظاهر الحديث يدلُّ عليه، وإن قلتُم: نعم، ففيه إشكالٌ، لأنه من رواية الباقرِ عن سمرة، وقد ذكرتُم في شرح المنتقى (¬1) ما لفظُه: وفي سماع الباقرِ من سمرةَ نظرٌ، فقد نُقِلَ بينَ مولدهِ ووفات سمرة ما يتعذَّر معه سماعه انتهى. فلم يبقَ حجةً. وثانيًا: أن سياقَ القصةِ من حيثُ قولُه: في حائط رجلٍ من الأنصار، يحتملُ أن سمرةَ لم يكن مالكًا في الأصل، وإنما لعله شَرَى الأشجارَ فقط، أو غارسَهُ الأنصاريُّ بعضَ حائطهِ، فجعل ذلك ذريعةً إلى مُضَارَرَةِ مالك الأصل ففاوضَه النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، ولما لم يمتثلْ قضى له بما يستحقُّه، وكافأه النقصَ عقوبةً له بما وقع منه من المخالفة، وعدم الامتثال. وثالثًا: أنها واقعةُ عينٍ لا عمومَ لها، فَتُوقَفُ في محلِّها، ثم إنه دعوى الضرارِ في الأملاك بعد القسمةِ التي شُرِعَتْ لدفع ذلك، ولم يُرَخَّصْ فيها بحال، بل وجبت ولو بالمهاباةِ، يعود على الفرضِ من شرعيَّتها [1أ] بالبطلان. والملكُ في الجملة متحقّقٌ قبل القسمة وبعدَها مُلِكَتِ الأنصباءُ ملكًا لا خروجَ له إلاَّ فطنته نفسٌ محقِّقةٍ. ولا يصحُّ القياس على حديث سَمُرةَ على فرض صلاحيتِه للاحتجاج، وإن كانت العلَّةُ منصوصةً وهي الضِّرار لوجوده في كل من الشريكين. أما غير الساكن فلأنه لفقرِه وحاجته الماسَّةِ إلى ثمن نصيبه محتاجٌ، ولم يجدْ من يشتري نصيبَه بسبب الشركةِ، ولا حاجةَ له إلى سكونه وتعليقه، أو سكونِ الأمر يؤدي إلى الإهمال المقتضي للأعمال، فيلزمُهُ قصدُهُ من إغرام الجصِّ، والقصَّاصِ، والتطيينِ، ونحوِ ذلك. وأما الساكنُ فمن حيثُ كونُ خروجِه من ملكه يضرُّ به، أما لو [ ... ] (¬2) ولكن ثمن ¬

(¬1) (3/ 801). (¬2) كلمة غير مقروءة.

نفسهُ لا يحصل له ما يقومُ به هو وعيالُه، ولأنه لا يجب عليه دفع ضرر غيره بضرر نفسه مع بذلِه لنصيبِه، وطلبِ الآخر للثمن طلب من ليس له طلبُه، فَلِمَ اعتبرَ الضررَ الحاصلَ على أحدهما دون الآخر؟ ولا يقال ترجَّح الأكْثرُ ضررًا لأن النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ يوقل: "لا ضرر ولا ضرار" (¬1). وقد اتفقت كلمةُ العلماءِ على أنه لا يجوز الضرار، وإنما اختلفوا في جزئيات، فمنهم مَنْ نفى الضِّرار فيها، ومنهم من أثبتَه ورجَّح دفعَ مفسدة الضرارِ لمصلحة هي أعظمُ منه، وممن أثبَته بعضُ أئمتنا حيث قال: إن للمالك في ملكه (¬2) ما يشاء، وإن ضرَّ الجارَ مستدلاً بأن موجبَ الملك الانتفاعُ كيف شاء المالكُ، وهو مقيَّدٌ بأدلة الوصية بالجار (¬3)، وتحذير الجار من البوائق، وحديث: "لا ضررَ ولا ضرارَ" (¬4) وما في معناه، وإن كانت عامَّةً فالعمل بالعامِّ (¬5) مما اتفقَ عليه أهلُ العلم، وإنما النزاعُ هل ذلك قبل البحثُ عن المخصِّص أو بعده؟ وهذا جارٍ في كل دليل، وكونُ دلالتِه ظنيةً لا يمنعُ من العمل؛ فأكثرُ الأحكام كذلك، ويعود النزاعُ إلى جواز العملِ بالظن، وهي مسألة أخرى على أنَّ الشارع قد جعل مناطَ دفعِ الضِّرار هو القسمةَ أو الإجبارَ في قضية مخصوصةٍ على أسلوب خاصٍّ إن صح ذلك، ثم إن الواقعَ من النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ[1ب] في هذه القصة ليس في ما يقتضي توقُّفَ الأمر ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه رقم (2340) وهو حديث صحيح. من حديث عبادة بن الصامت. وسيأتي في الجواب مفصلاً. (¬2) قال ابن قدامة في "المغني" (7/ 52): "وليس للرجل التصرُّف في ملكه تصرُّفًا يضرُّ بجاره ... وبهذا قال بعض أصحاب أبي حنيفة وعن أحمد رواية أخرى لا يمنع، وبه قال الشافعيُّ وبعض أصحاب أبي حنيفة، لأنّه تصرّف في ملكه المختصِّ به، ولم يتعلَّق به حقُّ غيره فلم يمنع منه. ولنا: قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا ضرر ولا ضرار" لأنّ هذا إضرارٌ بجيرانه فمنع منه اهـ. (¬3) ستأتي في الجواب. (¬4) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح. (¬5) انظر "البحر المحيط" (3/ 222 - 322). "المسودة" (ص115) وقد تقدم.

على اعتبار الرضى المقتضى للإجبار والتغريم في الغالب، بل أَمَرَ بقلعِ النخلِ. فسبيلُ من أراد العملَ بهذا الدليل الأمرُ بالهدمِ، أو البَيْعِ. وأما الإجبارُ على البيع فغيرُ ظاهرٍ، ولا مجدٍ للقطع بأنه لا يكفرُ (¬1) من قال كلمةَ الكفر وهو مطمئنٌ بالإيمان، والله تعالى يقول: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} (¬2) وعن حنيفةَ الرَّقاشي عن النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ أنه قال: لا يحلُّ مالُ امرئ مسلمٍ إلاَّ بطيبةِ نفسٍ منه" رواه أبو داودَ (¬3)، وعلى تسليم أن سمرةَ كان مالكًا في الأصل، فهل مجرَّدُ أمرِ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ بقلع النخلِ أبطلَ الملكَ، أم وقع الشراء، أم أُهْدِر أم ماذا وقع؟ وهذه المسألةُ ذكرها المؤيدُ بالله في شرح البحر (¬4)، ولفظه: مسألة: قال: فلو أن رجلاً كان له نصيبٌ في جُرْبَةٍ، أو عبدٍ، واضْطُرَّ إلى بيعه، وكان لا يُشْتَرَى نصيبُه منفردًا حُكِمَ على شركائه بابتياع نصيبه منهم، أو بيعِ حِصَصِهم معه. هذا قولُ يحيى، وغن كان له وجهٌ في النظر فإني لا أقولُ به، لأني لا أعرفُه لأحدٍ قبلَه، ولا آمنُ أن يكون خارجًا عن الإجماع، فإن كان له قائلٌ ولم يكن خارجًا عن الإجماع فوجهُهُ من النظر أن يقالَ إنه إجبارٌ لبعض الشركاء على المعاوضة على ما يملكونَ على سبيل الشركةِ توخِّيًا للصلاح من حيثُ لا ضررَ فيه، فأشبه القسمةَ، فوجبَ أن يلزمَ الحكمُ به كما يلزمُ الحكمُ بالقسمة. ألا ترى أن إزالة الشركة لا ضررَ فيها دليلُه الشُّفعةُ (¬5)؛ فإنها موضوعةٌ لدفع ضررِ المشاركةِ والمجاورة انتهى. فالمطلوبُ الكلامُ على هذه المسألةِ، وما يُشْكِلُ في المقام، وما يدفعُ ما يردُّ على الحديث ـ كثر الله فوائدكم ـ آمينَ. ¬

(¬1) تقدم توضيح ذلك مرارًا. (¬2) [النساء: 29]. (¬3) وهو حديث صحيح. تقدم. (¬4) (4/ 96 - 97). (¬5) انظر الرسالة رقم (116).

بسم الله الرحمن الرحيم إيك نعبدُ، وإيَّاك نستعينُ، وصلى الله على الرسول الأمينِ، وآله الطاهرينَ. أقولُ: الجوابُ عن سؤال السائل العلامةِ ـ اعلا الله مقامه، ورفع في ميادين العلوم أعلامه ـ ينحصرُ في بحثينِ: البحثُ الأولُ: تقرير دلالة الأدلةِ الصحيحةِ على أنه يسوغُ للحاكم دفعُ الضررِ بين الشُّركاءِ بالإجبار على البيعِ نحوِه. فمنها حديثُ "لا ضرر ولا ضرار" أخرجه أحمد (¬1) من حديث ابن عباس، وقد ¬

(¬1) وهو حديث صحيح. وري من حديث عبادة بن الصامت، وعبد الله بن عباس، ,ابي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وجابر، وعائشة، وثعلبة بن أبي مالك القرضي، وأبي لبابة. - أما حديث عبادة: فقد أخرجه ابن ماجه رقم (2340) وأحمد (5/ 326 - 327) وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" (1/ 344) بسند ضعيف. - وأما حديث ابن عباس: فقد أخرجه ابن ماجه رقم (2340) وأحمد (1/ 313) والطبراني في "الكبير" (11/ 302 رقم 11806) وسنده ضعيف جدًا. وله متابعة، أخرجها الدارقطني (4/ 228 رقم 86) والخطيب في الموضح (2/ 97) والطبراني في "الكبير" (2/ 86 رقم 1387) بسندٍ لا بأس به في الشواهد. - وأما حديث أبي هريرة: فقد أخرجه الدارقطني (4/ 228 رقم 86) وقال الزيلعي في "نصب الراية" (4/ 385) وأبو بكر بن عباس مختلف فيه. قال الألباني: هو حسن الحديث، وقداحتجَّ به البخاري، وإنما علة هذا السند من شيخه يعقوب بن عطاء، وهو ضعيف. - وأما حديث أبي سعيد الخدري: أخرجه الدارقطني (4/ 228 رقم 85) والحاكم (2/ 57 - 58) والبيهقي (6/ 69) وقال: تفرَّد به عثمان بن محمد. قلت: وهو ضعيف. - وأمّا حديث جابر: أخرجه الطبراني في "الأوسط" (1/ 141 من زوائد المعجمين) وفيه تدلي ابن إسحاق. - وأما حديث عائشة: أخرجه الدارقطني (4/ 227 رقم 83) وسنده واهٍ جدًا من أجل الواقدي. - وأما حديث ثعلبة: فقد أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" رقم (1387) بسند فيه ضعف. - وأما حديث أبي لبابة: فقد أخرجه أبو داود في "المراسيل" رقم (407) وفيه انقطاع. والخلافصة: أن الحديث صحيح بمجموع طرقه والله أعلم.

وردَ في منع الضرارِ أحاديثُ: منها ما أخرجه داودَ (¬1)، والنسائي (¬2)، والترمذي (¬3) وحسَّنه من حدي ثأبي صِرمةَ ـ بكسر الصاد المهملة، واسمه مالكُ بنُ قيس، ويقال: ابن أبي أنيس [2أ]، ويقال: قيسُ بنُ مالك، ويقال: مالك بن أسعد، وقيل: لبابةُ بنُ قيس، وهو أنصاري نجَّاري، شهد بدْرًا. قال ابن عبد البَرِّ (¬4): لم يختلفوا في شهوده بدرًا وما بعدها، وكان شاعرًا محسنًا ـ قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "من ضارّ أضرَّ الله به، ومن شاقّ شاقّ الله عليه"، وإسنادُ هذا الحديثِ أئمةٌ ثقاتٌ من رجال الحديث إلاَّ لؤلؤةَ (¬5) ¬

(¬1) في "السنن" رقم (3635). (¬2) لم يخرجه النسائي انظر "تحفة الأشراف" (9/ 228 رقم 12063). (¬3) في "السنن" رقم (1940). (¬4) في "الاستيعاب" رقم (2323). (¬5) انظر "التقريب" رقم (8677).

مولاةَ الأنصارِ الراويةَ له عن أبي صِرْمةَ؛ فإنها من رجالِ الحسن، قد حسَّن الترمذيُّ (¬1) حديثَها، وأخرجَ لها أهل السنن، وقال في التقريب (¬2): مقبولةٌ من الرابعة؛ فهذانِ الحديثانِ، وما ورد في معناهما قاضيان بمنع الضرار على العموم من غير فرق بين الجار وغيره. وقد صرح النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في الحديث الأول بنفي الضرار بين الأُمَّةِ، وهذا النفي يدلُّ على أن الضَّرَر والضِّرار ليسا من شأن هذه الأمةِ، ولا هما مما شرعهُ الله لهم، فكان علينا دفعُه وإبطالُه، ومحوُ أثرِه، والضربُ به فيه وجه فاعله بأي وجهٍ كان، وعلى أي صفةٍ وقع، فإذا وجدنا أحدَ الرجلين المتجاورينِ، أو غيرَ المتجاورينِ قد ضارَّ الآخَرَ بوجه من وجوه المضارَّةِ أمرْنا برفع ما أحدثَهُ قائلينَ له: هذا ليس من أمرِ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، ولا من شرعهِ، وكل أمرٍ ليس من أمره، ولا من شَرْعِهِ ردٌّ على فاعله. فهذا ردٌ عليكَ لأنه ضرارٌ، ولا ضرار في الإسلام. وقد ثبت في الصحيح ثبوتًا لا يختلفُ المسلمونَ فيه عن رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "كل أمرٍ ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ" (¬3). فإذاكان الضرار حادثًا بين الشركاء بنفس الاشتراك نحو: أن يموتَ رجلٌ فيتركَ دارًا بين ورثتِه فيقتسمونَها، ويكونُ نصيبُ كلِّ واحد منهم يسيرًا على وجه يحصلُ بينَه وبين الشركاءِ الضرارُ، إما بالاطلاع على عورات بعضِهم بعضًا، أو بحدوث عداوةٍ بينهم لا يمكنُ دفعُها ما بقوا في تلك الدارِ أو بالتزاحُمِ في المشاعاتِ التي لا يستغني عنها كلّث واحد منهم، كالمُسْتَرَاحِ، والمطبخِ، والطريق. فاعلم أن هذا مع كونه ضِرارًا ممنوعًا بما تقدَّم هو أيضًا ضرارٌ بين الجيرانِ؛ فإن الجوارَ ¬

(¬1) في "السنن" (4/ 332) وقال: هذا حديث حسن غريب. (¬2) رقم (8677). (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (18/ 1718) من حديث عائشة. وأخرجه البخاري رقم (2697) ومسلم رقم (1718) وأبو داود رقم (4606) وابن ماجه رقم (14) من حديث عائشة رضي الله عنها "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس في فهو ردٌّ".

إذا كان ثابتًا في الدور المتلاصقةِ، بل والمتباعدةِ، فكيف لا يكون ثابتًا بين الساكنينَ في دار واحدة، أو المالكين لحديقة واحدة! فحقٌ على الحاكم أن يرفعَ الضِّرار الحادث بينَهم فإن أمكن بغير إجبارٍ على البيعِ ونحوِه فعلَه، وغن لم يمكن إلاَّ به أرشدَ كلَّ واحد منهما إلى أن يبيعَ من صاحبِه، أو يناقله [2ب]، أو يهبَ له، أو يبيعانِ من آخر، فإنْ أجابا إلى ذلك فذاك، وإن لم تقع الإجابةُ أخبرَهما على أمر يرتفع به بينهما الضرار من بيع أو غيره، وعليه أن يمعن النظر في الدفع بوجهٍ أيسر مُؤنة، وأخف مشقة حسبما يقتضيه الحالُ باديًا بالأخفِّ، وإذا كان الضرارُ ناشئًا من أحدهما كان الخطابُ معه والإيجابُ عليه، والحاكم بعد الترافُعِ إليه، والخصومةُ عنده قد لزمه رفعُ الضرارِ الذي نفاه رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ عن المسلمين وردَّه على صاحبه فلو لم يرد من الأدلة إلاَ ما أسلفنا ذِكْرَهُ لكان مسوِّغً للحاكم أن يرفَعه بالبيع ونحوه، بل موجبًا لذلك عليه، فكيف وقد ورد ما هو أخصُّ من ذلك في أحاديثِ الجوازِ، كحديث: "والذي نفسي بيده لا يؤمنُ أحدكم حتى يأمنَ جارُهُ بوائِقَهُ"، وهو في الصحيح (¬1)، وكذلك حديثُ: "من كان يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخر فلا يؤذِ جارَهُ"، وهو أيضًا في الصحيح (¬2)، وكذلك حديثُ: "ما زال جبريلُ يوصيني بالجار حتى قلت: إنه سيورِّثُه" (¬3) أخرجه أبو داود، والترمذي وحسنه، وفي الباب أحاديثُ (¬4) كثيرةٌ أقلُّ ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (6016) ومسلم رقم (46) وأحمد في "المسند (2/ 288) من حديث أبي هريرة. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6136، 6138) ومسلم رقم (48) من حديث أبي هريرة. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6014، 6015) ومسلم رقم (2624، 2625) والترمذي رقم (1942، 1943) وأبو داود رقم (5151، 5152) وابن ماجه رقم (3673، 3674) وابن حبان رقم (512، 513) من حديث ابن عمر وعائشة. (¬4) منها ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6016) ومسلم رقم (46) من حديث أبي شريح رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن"، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يأمن جارُهُ بوائقه".

أحوالها أن يكون رفعُ الضِّرارِ بين المتجاورينَ آكدَ من رفعِه بين غيرِهم، وأحقَّ، وأوْلى، وألزمَ، فكيف وقد وقعَ ذلك من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بعينه! فيما أخرجه أبو داود (¬1) من حديث سمرة بن جندب أنه كان له عضدٌ من نخل في حائطِ رجل من الأنصار، قال: ومع الرجل أهلِه، قال: وكان سمرة يدخل إلى نخلِه فيتأذى به، ويشق عليه، فطلب إليه أن يناقله فأبى، فأتى النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فذكر ذلك له، فطلبَ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ أن يبيعه فأبى، فطلبَ إليه أن يناقلَه فأبى، قال: "فهبْه لي، ولك كذا وكذا" أمرٌ رغَّبه فيه فأبى، فقال: أنتَ مُضَارٌّ" فقال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ للأنصاري: اذهبْ فاقطعْ نخلَه" ورجالُ هذا الحديثِ كلُّهم ثقاتٌ، فإنَّ أبا داود (¬2) قال: حدثنا سليمان بن داود العتكيُّ، وهو من رجال الصحيحِ، قال: حدثنا حماد بن زيد، وهو أيضًا كذلك، قال: حدثنا واصلٌ العابدُ مولى أبي عيينةَ، وهو أيضًأ كذلك، قال سمعتُ أبا جعفر محمدَ بن علي الباقر، وهو أيضًا كذلك يحدِّثُ عن سمرةَ، فذكره. قال المنذريُّ في مختصر السنن (¬3): في سماع الباقر من سمرةَ بنِ جندب نظرٌ؛ فقد نقل عن مولدِه (¬4)، ووفاةِ سمرةَ ما يتعذَّر معه سماعُهُ وقلّ فيه ما يمكنُ السماعُ منه انتهى. قلتُ: قد ثبتَ أن موتَ سمرةَ بن جندب ثمانٍ، أو تسعٍ وخمسينَ، وموتَ الباقر سنةَ أربعَ عَشْرَةَ ومائةٍ. ¬

(¬1) في "السنن" رقم (3636) وهو حديث ضعيف. (¬2) في "السنن" (4/ 50). (¬3) (5/ 140). (¬4) قال ابن حجر في "الإصابة" رقم (3488): قيل مات سنة ثمانٍ وقيل سنة تسع وخمسين. وقيل في أول سنة ستين. انظر: "الاستيعاب" رقم (1068)، "أسد الغابة" رقم (2242).

وقد نقلَ بعضُ أهل العلمِ أنه مات عن ثلاثٍ (¬1) وسبعينَ سنةً، فيكون ملوده على هذا سنةَ تسعٍ وثلاثينَ، فهو عند موتِ سمرةَ [3أ] في عشرينَ سنةً، وهذا سِنُّ الطلبِ، ووقتُ التحصيلِ، بل لو كان عند موتِ سمرةَ في سبعٍ أو ثمان سنينَ لم يتعذّر معه السماع. وقد سمع (¬2) من جماعة من الصحابة، كجابرٍ، وابن عمرَ، وأبي سعيد. فذهب إعلال الحديثِ بتلكَ العلَّةِ وكان صحيحًا. هذا إذا صح ما نقله ذلكا لبعض أن عُمْرَهُ ثلاثٌ وسبعونَ، فإن لم يصحَّ وكان عمرهُ دون ذلك، فقد أخرج المحبُّ الطبريُّ في أحاديث الأحكام عن واسعِ بن حِبَّانَ قال: كان لأبي لُبابَةَ عِذْقٌ في حائط رجلٍ، فكلَّمه فقال: إنك تطأُ حائطي إلى عِذْقِكَ، فإما أن أعطيك مثلَه في حائطكَ، وأخرِجْهُ عني، فأبي فكلَّم النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فقال ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "يا أبا لبابةَ خذْ مثلَ عِذْقِكَ فَحُزْها إلى مالكَ، وكُفَّ عن صاحبِك بما يكره" فقال: ما أنا بفاعلٍ قال: "فاذهبْ فأخرجْ له مثلَ عِذْقِهِ إلى حائطِه، ثم اضرب فوق ذلك بجدارٍ، فإنه لا ضرر في الإسلام ولا ضرار" هكذا ساقه المحبُّ، وعزاه إلى أبي داودَ، فيُنْظَرُ، فإن لم أجدْه. وهذا الحديثُ يعضِّدُ الحديثَ الأولَ ويقوِّيه، ويتبينُ به أنَّ هذه الحكومةَ منه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ ليست بخاصَّةٍ لرجل دون رجل، أو في قصةٍ دون قصةٍ، بل لو لم يردْ إلاَّ حديثُ سمرةَ لم يكن خاصًّا، لأن العلَّة التي ربطها به لا تختصُّ بفردٍ دون فرد من الأمة، وهي قوله: "أنت مُضارّ"، على أنه لو لم يرد حديثُ سمرةَ، ولا حديثُ واسعِ بن حبّان لكان فيما ذكرنا من منع الضرار ما يغني عن ذلك، فانظر معاوضةٌ لا نقصَ فيها ولا غبنَ، فلما أبى أخبرَهُ بأنه مُضارّ، وعاقبه بإتلاف مالِه، وسوَّغ لخصمه قطع نخله. ومن اقتدى برسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في مثل هذه الحكومة فقد ¬

(¬1) ذكره ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (9/ 312). (¬2) ذكره ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (9/ 312).

جاء بالشرع، واتبع الهدي المصطفويّ، وحكمَ بسُنَّةِ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، وأخذ الحقَّ مع معدنِه، واغترفَ الصوابَ من منبعِه؛ فالشريكان في الأرض أو الدار إذا كان يحصل باجتماعِهما ضرارٌ عليهما، أو على أحدهما، ولا محالة بوجهٍ من الوجوه المتقدِّمة كان على القاضي أن يعرض على كل منهما ما عرضَه رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ على مسرةَ وأبي لبابةَ، فإنْ قَبِلَهُ فذاكَ، وإن أبى عاقبه بمثل العقوبة التي فعلها رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ إذا كان الاشتراك في الحوائط ونحوها، أو بما يماثلُها إن كان الاشتراك في الدور ونحوِها، فإن مجرَّد الامتناع عن القبول يصيره به الممتنع مُضارًا كما قال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ. وأقلُّ أحوال العقوبةِ إجبارُهُ على البيع أو المناقلةِ؛ فإن ذلك معاوضةً ليس على فاعلها [3ب] ظلامةٌ ولا غرامةٌ، فإنه يأخذُ مثلَ ما يملِكُه أو قيمتَه. وإذا أمكنَ القاضي العارفُ بالمسالك الشرعية أن يدفع ما بين الشريكين من الضرارِ بنوعٍ من أنواع السياسةِ الشرعيةِ فعلَ ذلك، فقد فعلَه رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ كما أخرجه أبو داودَ (¬1) من حديث أبي هريرة قال: جاء رجلٌ إلى النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ يشكو جارَه فقال: "اذهب فاصبر" فأتاه مرتين أو ثلاثًا فقال: "اذهب فاطْرَحْ متاعَك في الطريق" فطرحَ متاعَه في الطريق، فجعل الناس سيألونَه فيخبرُهم خبَرهُ، فجعل الناس يلعنونَه: فعلَ الله به وفعلَ، فجاء إليه جارُه فقال: ارجعْ لا ترى منِّي شيئًا تكرهُهُ. هذا إذا كان الضرار موجودًا بنفسِ الاشتراكِ كالدارِ الضيقةِ، والأرض التي لا يمكن ¬

(¬1) في "السنن" رقم (5153). قلت: وأخرجه ابن حبان في صحيحه رقم (521) والحاكم (4/ 160) والبخاري في "الأدب المفرد" رقم (124). وهو حديث حسن.

انتفاعُ أحد الشريكين بنصيبه إلاَّ بالإضرار بالآخر، كاستطراق أرضه أو الاطلاع على عورات أهلِه، كما يرشدُ إليه حديث سمرة حيث قال فيه: ومع الرجل أهلُه مما لو كانت الدار واسعةً بحيثُ ينتفعُ كلُّ واحد من الشريكين بملكه من دون تزاحم في المشاعات المتقدِّمِ ذكرُها؛ بل يمكن كلَّ واحد منهما أن يجعل لنفسه طريقًا مستقلةً، ومطبخًا منفرِدًا ومُسْتراحًا مستقلاً، ونحو ذلك، ولا شركة بينَهما في نفس النازل المعدَّةِ للسكون ونحوه فلا ضرار حينئذ، ولا وجه للإجبار على البيع ونحوه إلا إذا كانت الدار مثلاً لا تنفقُ إلا إذا بيعت جميعُها، ولا ينفُق نصيبُ الشريك منفردًا، وكان محتاجًا إلى بيع نصيبه على وجهٍ لا يندفعُ عنه تلك الحاجةُ إلاَّ بالبيع، فهاهنا قد حصل الضرارُ على الشريكِ المحتاجِ إلى البيع، فيعرضُ القاضي على شريكه أن يشتري نصب ذلك المحتاج إن كان متمكنًا، فإن كان غير متكن فإجباره على بيع نصيبه مع نصيب شريكه لا ندفع الضِّرارُ عن ذلك الشريك المحتاج إلاَّ به، وليس على هذا المأمور بالبيع ظلمٌ ولا تغريمٌ، لأنه يبيعُ نصيبَه بقيمتِه، ويربحُ الاستراحة من معرَّةِ الاشتراك والانفراد بنفسه، ويخلُص عن الوقوعِ في ضرار جاره، وليس هذا من باب دفع الضرارِ عن الغير بإنزال الضرار بالنفس، بل من باب دفع الضرار الذي نفاه الشارعُ عن الإسلام وأهلِه. وقد أخرج البخاريُّ (¬1)، ومسلم (¬2)، وأبو داود (¬3) [4أ]، والترمذيُّ (¬4)، والنَّسائيُّ (¬5)، وابن ماجه (¬6) من حديث أبي هريرةَ قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: ¬

(¬1) في صحيحه رقم (2463). (¬2) في صحيحه رقم (136/ 1609). (¬3) في "السنن" (3634). (¬4) في "السنن" رقم (1353). (¬5) لم أجده عند النسائي. (¬6) في "السنن" رقم (2335). قال الحافظ في "الفتح" (5/ 110): استدل به على أن الجدار إذا كان لواحد وله جار أراد أن يضع جذعه عليه جاز سواء أذن المالك أم لا فإن امتنع أجبر وبه قال أحمد وإسحق وغيرهما من أهل الحديث وابن حبيب من المالكية والشافعية في القديم. وعنه في الجديد قولان أشهرهما اشتراط إذن المالك فإن امتنع لم يجبر وهو قول الحنفية. وحملوا ذلك على الندب النهي على التنزيه جمعًا بينه وبين الأحاديث الدالة على تحريم مال المسلم إلا برضاه قال البخاري وفيه نظر. - قال البيهقي: "لم نجد في السنن الصحيحة ما يعارض هذا الحكم إلا عمومات لا يستنكر أن تخصها. أي إذا امتنع أجبر". قال القرطبي في "المفهم" (4/ 530 - 531): اختلف العلماء في تمكين ربّ الحائط من ها عند السؤال، فصار مالكٌ في المشهور عنه وأبو حنيفة إلى أنّ ذلك من باب الندب، والرِّفق بالجار والإحسان إليه ما لم يضرُّ ذلك بصاحب الحائط. ولا يُجبر عليه من أباه، متمسكين في ذلك بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه" ولأنه لما كان الأصل المعلوم من الشريعة: أنَّ المالك لا يجبر على إخراج ملكٍ عن يده بعوض كان أحرى وأولى ألا يخرج عن يديه بغير عوض، وكما قال الحافظ في "الفتح" في هذا القول نظر.

"لا يمنعنَّ جارٌ جارَهُ أن يغْرِزَ خشبةً في جدارِه" فهذا نهيٌ منه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ يدلُّ على تحريم المنعِ للجارِ أن يغرزَ الخشبَ في جدارِ جارِه، مع أن تضرُّرَ الجار الذي يريد أن يغْرِزَ الخشبَ بمنعه من ذلك غيرُ معلومٍ، فإنه يمكنُه أن يجعل لنفسه جدارًا مستقلاً يغرزُ فيه خشبة. فهاهنا قد أرشد الشارعُ إلى رعاية جَلْبِ المصالح إلى الجار، ولم يلتفت إلى مظنَّة ما يحصل من صاحب الجدار من التضرُّر بغَرْزِ الخشبِ في جدارِه، وهاهنا طاحتِ المقاييسسُ، وذهبتِ العِللُ، وارتفعت مسالك الرأي، ومباحثُ الموازنةِ، فمن لم يقبل عقلُه هذا فليتَّهم نفسَه، ويحمل الغلط على عقله وفهمه، ويدع كيف وفيم، وعلام ولِم، ويذعِن لأحكام الشرع، ويعلم أنّ صلاحَ الدين والدنيا مربوطٌ بها، منوطٌ بما فيها. دعوا كلَّ قولٍ عند قولِ محمدٍ ... فما آمنٌ في دينِه كمخاطرِ وقد وقع لكثير من أهل العلم في ..........................................

تأويل (¬1) مثل حديث أبي هريرةَ هذا، وحديث سمرة، وواسع بن حبّان المتقدّمين من التعسُّفات والتكلُّفات ما يتبرى الإنصافُ منه، ويمجُّه طبع كل متشرعٍ مُؤْثِرٍ لما جاء به الشرع على ما جاء به أهلُ الرأي من الآراء المخالفةِ له (¬2) ومَن صاحبُ الرأي حتى يردّ كلام الشارع إلى كلامه! وتُطلْلَبُ له التأويلاتُ لأجلِه، ويُذادُ عن معارضتِه! وهل هو إلاَّ في عداد المتعبدين بالشرع، المأخوذين بأحكامه، المطلوبين بما فيه، لا فرق بينه وبين سلائر الأمة من هذه الحيثية، فرأيه المخالِفُ لما جاء عن الشارع ردٌّ عليه، مضروب به في وجهه، مرميّ به وراء الحائط. البحث الثاني: في الكلام على سؤال السائل ـ كثر الله فوائده ـ وقد عرف من البحث الأول إجمالاً، فلنعرفْ من هذا تفصيلاً فنقول: أما قوله: وقد ذكرتم في شرح المنتقى (¬3) ما لفظه: وفي سماعِ الباقرِ من سمرةَ نظرٌ ... إلخ. فجوابه ما قدمنا من النقل [4ب]، على أنا قد قدمنا أنه قد وردَ مثلُه من طريق أخرى ومن ذلك فلو فرضنا عدَم ورود حديث سمرةَ، والحديث الذي عضَّده وشهد له لكان في الأحاديث الواردة بنفي الضِّرار، وما في معناها ما يسوغُ ما ذكرناه من بيع المشتركِ مع وجود الضِّرار. وأما ما ذكره من أن في القصة ما يفيد أنَّ الحائط لم يكن مُلكُ سمرةَ. فليسَ فيه ما يفيدُ ذلك بمطابقة، ولا تضمُّنٍ، ولا التزامٍ؛ فقد أثبتَ في لفظ الحديث ملكَه لعضد النخلِ في حائط الأنصاري، ومجرَّدُ نسبتِه إلى الأنصاري لا تنفي أن يكون بعضُه لغيرِه، فإن الأشياء تُنْسبُ باعتبار الغالبِ والأكثر فيقال: حائط فلانٍ لمن يملكُ ¬

(¬1) انظر "فتح الباري" (5/ 110 - 111). (¬2) "المغني" (7/ 35 - 36). (¬3) (3/ 801 - 802).

أكثرُه، وهذا شائعٌ في اللغة، معلومٌ عند أهلها لا ينكرونه. وأما قوله: إنها وقعة عينٍ لا عمومَ لها. فقد عرفتَ ما تقرَّر في الأصول (¬1) أن ما شرعه الشارعُ لفردٍ من أفرادِ أمّته أو لبعضِ الأفراد يكون شرعًا لسائر الأمّة، ولم يقعِ الخلافُ بين أهل الأصولِ إلاَّ في نفس الصيغةِ كما هو محرَّرٌ في مواضعهِ حتى قيلَ إنه مجمعٌ على أن الحكمَ على الواحدِ حكمُ (¬2) الجماعة ما لم يتبيَّن الشارعُ الاختصاص بذلك الواحد كقوله: يجزيك ولا يجزئ أحدًا بعدك (¬3)، ونحو ذلك. مع هذا فقد قدمنا أنَّ الحديثَ مربوطٌ بعلَّةٍ لا تخصُّ فردًا من الأمة دونَ فرد، وهي قوله: "أنت مضارٌّ" (¬4) هذا على فَرضِ أنه لم يدلّ على ما ذكرناه دليل إلا هذه الواقعة فكيف وقد وقعَ منه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ الحكمُ في وقاعة أخرى بمثل ذلك! كما في حديث واسعِ بن حبان المذكور، على أنا لو فرضنا عدم وقوع هاتين الوقعتين من النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ لكان الدليلُ موجودًا مغنيًا عن غيره كما أسلفنا. وأما ما ذكره ـ كثر الله فوائده ـ من أن دعوى الضرار بعد القسمة التي شُرِعَتْ لدفع الضرار يعودُ على الغرض المقصود منها بالنقص. فنقول: نعم، القسمةُ شرعتْ لدفع الضرارِ (¬5)، فإذا لم يندفع الضرارُ بها فليست [5أ] بقسمة شرعيةٍ، والمفروضُ في مسألة السؤال أن الضرار موجودٌ بوجه من الوجوه المتقدمة، وليس النزاعُ في شيء لم يبق بعد قسمته ضرارٌ، فالحاصلُ أن هذه القسمة التي وُجِدَ الضرارُ بعدها ليست بقسمةٍ شرعيةٍ، لأنه لم يحصل الغرضُ الذي شرعت لأجله ¬

(¬1) انظر "البحر المحيط" (3/ 190)، "تيسير التحرير" (1/ 252). وقد تقدم توضيحه. (¬2) تقدم تخريجه مرارًا. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) انظر "المغني" (7/ 46)، "الحاوي" (8/ 67 - 70).

وهو دفعُ الضِّرار. فنقول: في القسمة الصحيحة هذه قسمةٌ، وكل قسمةٍ مشروعةٍ لدفع الضرار فهذه مشروعةٌ لدفع الضرار، وكل مشروع لدفع الضرار ثابتٌ في الشريعة فهذه ثابتة في الشريعة، وكل ثابت في الشريعة صحيح فهذه صحيحة. ونقولُ في القسمة التي لم يندفع بها الضرار: هذه قسمة لم يندفع بها الضرار، وكل قسمةٍ لم يندفع بها الضرار غير شرعية، فهذه قسمة غيرُ شرعية، وكل قسمة غير شرعية باطلةٌ فهذه قسمةٌ باطلةٌ. وأدلة هذه المقدمات مسلمة عند المتشرع، فإذا لم يندفع الضرارُ بقسمة الشيء المشترك على المواريث فقد تعذّرت فيه القسمةُ الشرعية على الوجه الذي يريدُه كل واحد من الشركاء، وهو أن يتعين له ينصيبه في المشترك، وإذا تعذّرت القسمةُ على هذا الوجه وجب المصير إلى وجهٍ آخر يندفعُ به الضِّرار، وهو أن يبيعَ بعض الشركاء من بعض، أو يهب له، أو يناقِلَه، ولا مانع من أن يسمَّى ذلك قسمةً شرعيةً، لأنه قد انتفع كلُّ شريك بنصيبه، واندفع عنهم الضرارُ، بل لو قال قائلٌ أن لا قسمةَ [5ب] شرعيةً في ذلك المشتركِ الذي يستلزمُ تقسيطَه بين جميعِ الشركاء وجودُ الضرارِ إلاَّ هذه القسمة التي لا يندفعُ الضرار إلا بها لم يكن ذلك بعيدًا من الصواب، ولا يقدح في هذا ما يقال من أنه يمكنُ دفعُ الضرار بالمهاياة، والمهاياةُ قسمةٌ شرعية كما صرح به القرآن الكريم في قوله تعالى: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} (¬1) لأنا نقول: المفروضُ أنه لم يحصل التراضي على قسمة المهاياة، أو كان الضرارُ موجودًا معَها، وذلك إذا كان بعضُ الشركاء لا يجدُ مثلاً مسكَنًا يسكُنه في نوبةِ شريكِه، أو كان محتاجًا إلى بيعِ نصيبِه للانتفاع به في سد جوْعَتِه، أو سَتْرِ عورتِه، أو نحو ذلك. وأما قوله ـ كثر الله فوائده ـ: وأما الساكنُ فمن حيث كونُ خروجِه من ملكِه يضرُّ ¬

(¬1) [الشعراء: 155].

به ... إلخ. فنقول: لا ضرار على من باع نصيبَه بقيمته، ولو كان ذلك ضرارًا لكان كل بيع ونحوُه ضرارًا، وإنما الضرارُ على من يريدُ أن ينتفعَ بنصيبه في حاجةٍ من حوائجه الماسة فقيل له: لا سبيل لك إلى ذلك، ولا تجدُ منه فرجًا ولا مخرجًا، بل اتركُهُ مَحْبسًا، واسكُنُه شئتَ أم أبيت، واصبر على الضَّرر رضيتَ أم كرهتَ. وأما ما أورده ـ كثر الله فوائده ـ من أدلة اعتبار التراضي وطيبة النفس. فنقول: ذلك مُسَلَّمٌ، ولكن المفروضَ هنا أنه قد حدثَ بين الشريكين ما يقتضي الضرارَ، وقد قدمنا تحريرَ الأدلة وتقريرَ وجه الدلالة على أن ذلك مسوغٌ للإجبار على البيع، أو المناقلة، أو نحوهما؛ فهذه الأدلةُ مقيِّدةٌ لأدلةِ التراضي [6أ]، وطيبةُ النفس إن كانت مطلقةً أو مخصِّصَةً لها إن كانت عامَّةً كما أن الأدلة الواردة في بيع (¬1) مال المديون، وفي بيوت الشفعةِ (¬2) والقِسامةِ (¬3)، ونحوِ ذلك مقيدةٌ أو مخصصةٌ لأدلة التراضي، وطيبةِ النفسِ بلا خلافٍ بين أهل العلم. وأما ما ذكره ـ كثر الله فوائده ـ: من استشكال أمره ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ بقطع النخل، وهل هو من باب إبطال الملكِ والإهدار له؟ أم ماذا وقع؟. فنقول: بل أتلفَ نخلَهُ بالقطعِ عقوبةً له، وأبطل ملكَه، وهذا حكمٌ ثبتَ لنا عن الذي جاءنا بالصلاة، والزكاة، والحجّ، والصيام، وسائر الفرائض الشرعية، وكان علينا قبولُه، والإذعانُ له، والسكوتُ عنده، وما أحقَّ من سعى في ضرار جاره، وضمَّ الغليظة! وليس مثلُ هذا ببدعٍ في الشريعة الغرَّاء، ولا هو بمستنكرٍ، فقد شُرِعَ لنا أخذُ ¬

(¬1) تقدم ذكره. (¬2) انظر الرسالة (116). (¬3) انظر "المغني" (7/ 46 - 47).

شطر مال مانع الزكاة (¬1) عزمة من عزمات ربنا كما ورد الحكم بذلك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وورد القرآن الكريم (¬2) بتسويغ رأس مال المربي إذا لم يتب، وورد الحكم النبوي (¬3) بتضعيف الغرم على من أتلف الضالة، وكذلك ورد تحريق مال (¬4) المحتكر. وقد ثبت في الصحيحين (¬5) وغيرهما (¬6) في شأن المتخلفين عن صلاة الجماعة أن النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ قال: "ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال إلى قوم [6ب] لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار". وفيه أعظم دلالة على جواز عقوبة العاصي بتحريق بيته. وقد ثبت هذا الحديث في دواوين الإسلام وغيرها من طريق جماعة من الصحابة كأسامة بن زيد عند ابن ماجه (¬7)، وابن أم مكتوم عند أحمد (¬8) بسند صحيح، وأنس ¬

(¬1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أحمد (5/ 2 - 4) وأبو داود رقم (1575) والنسائي (5/ 15 - 16 رقم 2444) والحاكم (1/ 398) من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "في كل سائمة إبل، في أربعين بنت لبون، لا تفرق إبل عن حسابها، من أعطاها مؤتجرًا بها فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا لا يحل لآل محمد منها شيء" وهو حديث حسن. (¬2) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278 - 279]. (¬3) تقدم ذكره. (¬4) تقدم ذكره. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (657) ومسلم رقم (252/ 651). (¬6) كأحمد (2/ 244). (¬7) في "السنن" رقم (795). وهو حديث صحيح. (¬8) في "المسند" (3/ 423) وهو حديث صحيح لغيره.

عند الطبراني في الأوسط (¬1)، وابن مسعودٍ عند الحاكم في المستدرك (¬2)، وأخرج ابنُ مردويهِ في تفسيره عن ابن عباس أن النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ أمرَ أصحابه فحرقوا مسجد الضرار، وهدموه، وخرج أهلُه فتفرَّقوا عنه (¬3). وأخرج نحوَه ابن إسحاقَ من حديث أبي رَهْمٍ، وأخرج نحوَه ابنُ جرير عن جماعة. وأخرج أبو داود (¬4)، والترمذي (¬5)، والحاكم (¬6) وصحَّحه من حديث عمرَ عن النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "إذا وجدتم الرجلَ قد غلَّ فأحرقوا متاعَهُ واضْربُوه". وأخرج مسلمٌ (¬7) والنسائيُّ (¬8) من حديث عبد الله بن عمْرو قال: رأي النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ عليَّ ثوبين مُعَصْفَريْنِ فقال: "أمُّك أمرتك بهذا" قلت: اغسلْهُما قال: "بل أحرقُهما" قال النوويُّ (¬9): الأمرُ بإحراقهما عقوبةٌ وهتكٌ لزجرِه وزجرِ غيرِه عن مثل هذا الفعلِ. وقد أخرج الحديثَ الحاكمُ (¬10) بسياق أطولَ من هذا. وأخرج ابن سعد في الطبقات (¬11) أن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه أحرقَ بيتَ رويشدٍ ¬

(¬1) رقم (2763). وأورده الهيثمي في "المجمع" (2/ 43) وقال رواه الطبراني في "الأوسط" ورجاله موثقون. (¬2) (1/ 292). قلت: بل أخرجه مسلم في صحيحه رقم (652) ووهم فيه الحاكم. (¬3) ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/ 276، 277). (¬4) في "السنن" رقم (2713). (¬5) في "السنن" رقم (1461) وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. (¬6) في "المستدرك" (2/ 127) وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وهو ضعيف. (¬7) في صحيحه (27، 28/ 2076، 2077). (¬8) في "السنن" (8/ 203 - 204). (¬9) في شرح مسلم (14/ 55 - 56). (¬10) في "المستدرك" (4/ 190). (¬11) لم أجده.

الثقفيِّ، وكان حانوتًا للشرابِ. وأخرج نحوَه عبد الرزاق في المصنّفِ (¬1) وابن أبي شيبة (¬2) وأخرج ابن سعد في الطبقات (¬3) أن عمر أحرقَ بابًا لسعد بن أبي وقاص. وأخرج ابن عبد الحكم في فتوحِ مصرَ أن عمرَ هدم غرفةً لخارجةَ بنِ حذافةَ، وقال: "لقد أراد خارجةُ أن يطلع على عورات جيرانِه" (¬4). وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (¬5) أن عبد الرحمن بنَ عوف دخلَ ومعه ابنٌ له وعليه قميصٌ من حرير على عمرَ فشقَّ القميصَ. وأخرج البخاريُّ في الأدب المفرد (¬6) أن عثمانَ بن عفانَ رضي الله عنه قال في النرد: "لقد هممتُ أن آمر بحزم من حطبٍ، ثم أرسلُ إلى بيوتِ الذينَ [7أ] هم في بيوتِه فأحرِّقها". وأخرج نحوَه البيهقيُّ في شعبِ الإيمان (¬7) عنه. وأخرج سعيد بن منصور (¬8)، والبيهقيُّ (¬9) أن عثمانَ كان يأمرُ بذبحِ الحمامِ التي يُلْعَبُ بها. وأخرج البيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه أتاه ابنٌ له قد ألبستْهُ أمُّه قميصًا من حرير فشقَّه. وأخرج نحوَه ابنُ أبي شيبة (¬10) عنه. ¬

(¬1) في مصنفه (6/ 77 رقم 10051). (¬2) في مصنفه (8/ 3). (¬3) (3/ 282). (¬4) انظر "جامع الفقه" (6/ 548 - 549). (¬5) في مصنفه رقم (4709). (¬6) رقم (1275) موقوف بإسناد حسن. (¬7) رقم (6511). (¬8) لم أجده. (¬9) في "شعب الإيمان" رقم (6536). (¬10) في مصنفه رقم (4709).

وأخرج ابنُ أبي الدنيا (¬1)، والبيهقيُّ (¬2) عن ابن الزبير أنه خطبَ بمكةَ فقال: بلغني عن رجال يلعبونَ بلعبةٍ يقال لها النردشيرُ، وإني أحلق بالله لا أوتي بأحدٍ يلعبها إلاَّ عاقبته في شعره وبَشَرِهِ، وأعطيتُ سَلَبَهُ من أتاني به. وأخرج ابن أبي الدنيا (¬3)، والبيهقي (¬4) عن ابن عمرَ أنه مرًّ بقوم يلعبونَ بالشاهِ فأحرقها بالنارِ. ويعني بالشاهِ الشطرنجَ، وأخرجَ البيهقيُّ (¬5) عن ابن عباس أنه أحرق آلةَ شطرنجٍ وجدَها في مال يتيمٍ. فهذه أحاديثُ عن رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ وآثارٌ عن جماعةٍ في أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ فيها العقوبةُ لأهل المعاصي بالهدْمِ والإحراقِ والتمزيقِ، ولا فرقَ بينها وبين قطع نخلِ المُضارّ الذي استشكلَه السائلُ ـ ـ كثر الله فوائده ـ وأما نصوصُ أهلِ العلم من أئمةِ المذاهبِ وغيرهم في العقوبة للعصاة بإتلافِ أموالِهم بالهدمِ والإحراقِ والكسرِ والتمزيقِ، وأخْذِ أموالِهم وَوَضْعِها في مصارِفها فهي كثيرةٌ (¬6) جدًا، لا يتّسع لها ¬

(¬1) في "ذم الملاهي" (ص73 رقم 85) بإسناد حسن. (¬2) في "السنن الكبرى" (10/ 216). قلت: وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" رقم (1275). (¬3) في "ذم الملاهي" (ص80 رقم 101) بإسناد صحيح. (¬4) في "الشعب" رقم (6530) و"السنن الكبرى" (10/ 212). (¬5) في "الشعب" رقم (6518). (¬6) انظر "جامع الفقه" موسوعة الأعمال الكاملة لابن قيم الجوزية (6/ 548 - 549): قال ابن تيمية: واجبات الشريعة التي هي حق الله تعالى ثلاثة أقسام: عبادات: كالصلاة، والزكاة، والصيام، وعقوبات إما مقدرة وإما مفوضة وكفارات. وكل واحد من أقسام الواجبات ينقسم إلى بدني، وإلى مالي، وإلى مركب منهما. فالعبادات البدنية: كالصلاة والصيام. فالعبادات المالية: كالزكاة، والمركبة: كالحج. الكفارات المالية: كالإطعام، والبدنية، كالصيام، والمركبة كالهدي يذبح ويقسم. العقوبات البدنية: كالقتل والقطع، والمالية: كإتلاف أوعية الخمر. والمركبة: كجلد السارق من غير حرز، وتضعيف الغرم عليه، وكقتل الكفار وأخذ أموالهم. العقوبات البدنية: تارة تكون جزاء على ما معنى، كقطع السارق، وتارة تكون دفعًا عن الفساد المستقبل، وتارة تكون مركبة، كقتل القاتل. وكذلك المالية، فإن منها ما هو من باب إزالة المنكر. وهي تنقسم كالبدنية إلى إتلاف وإلى تغير، وإلى تمليك الغير. فالأول: المنكرات من الأعيان والصور، يجوز إتلاف محلها تبعًا لها مثل الأصنام المعبودة من دون الله، لما كانت صورها منكرة جاز إتلاف مادتها، فإذا كانت حجرًا أو خشبًا ونحو ذلك جاز تكسيرها وتحريقها، وكذلك آلات الملاهي ـ كالطنبور ـ يجوز إتلافها عند أكثر الفقهاء. انر: "مجموع الفتاوى" (11/ 659) (28/ 119) (34/ 148)، "الاختيارات" للبعلي (515). قال ابن قيم الجوزية: "وكذلك لا ضمان في تحريق المكتب المضلة وإتلافها". قال المروزي: قلت لأحمد: استعرت كتابًا فيه أشياء رديئة، ترى أن أخرقه أو أحرقه؟ قال: نعم. وقد رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيد عمر كتابًأ اكتتبه من التوراة، وأعجبه موافقته للقرآن، فتمعَّر وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى ذهب به عمر إلى التنور، فألقاه فيه". أخرجه ابن كثير في تفيسره (4/ 296) وأخرجه أحمد (3/ 387) بنحوه. قال الألباني في "الإرواء" حديث حسن (6/ 34 - 38 رقم 1589). قال ابن القيم: فكيف لو رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما صنف بعده من الكتب التي يعارض لها من القرآن والسنة؟ والله المستعان. وكل هذه الكتب المتضمنة لمخالفة السنة غير مأذون فيها، بل مأذون في محقها وإتلافها، وما على الأمة أضر منها. وقد حرق الصحابة جميع المصاحف المخالفة لمصحف عثمان، لمّا خافو على الأمة من الاختلاف، فكيف لو رأو هذه الكتب التي أوقعت الخلاف والتفرق بين الأمة؟!.

هذا المجموعُ. وقد وقع في مؤلفاتِ جماعةٍ من الأئمةِ من أهلِ البيتِ وغيرِهم ما يغني عن التطويل. وفي هذا المقدار كفايةٌ إن شاء الله. حرره المجيبُ محمد بن علي الشوكاني ـ غفر الله لهما ـ.

الأبحاث الحسان المتعلقة بالعارية والتأجير والشركة في الرهان

(127) 20/ 2 الأبحاث الحسان المتعلقة بالعارية والتأجير والشركة في الرهان تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: "الأبحاث الحسان المتعلقة بالعارية والتأجير والشركة في الرهان". 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، وبه نستعين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين. وبعد: فإنّه وصل السؤال من سيدي العلامة المفضال صفيِّ الكمال أحمد بن يوسف زبارة ... ". 4 - آخر الرسالة: " ... ويتمكن صاحب العين من استخلاصها بتسليم الدين. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. والله ولي التوفيق. بقلم: المجيب محمد الشوكاني غفر الله له. 5 - نوع الخط: خط نسخي عادي. 6 - عدد الصفحات: 7 صفحات + صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 23 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 11 كلمة. 9 - الناسخ: المؤلف محمد بن علي الشوكاني. 10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله ربّ العالمين، وبه نستعين، والصلاةُ والسلامُ على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين. وبعدُ: فإنه وصلَ السؤالُ من سيدي العلامة المفضال، صفيّ الكمال أحمد بن يوسف زيارة (¬1) ـ كثر الله فوائده ـ ولفظُهُ: صدر هذا السؤالُ عن شأن ما يقعُ من الرِّهان الذي يحصلُ من رجل مشتركٍ هو وجماعةٌ، وظاهرٌ أنَّ التقديمَ والتأخيرَ بيده، فيرهنُ مثلاً مالاً له ولشركائه، ولا يعلم المرتهِنُ بحصولِ الإذن منهم ولا عدمِهِ إلاَّ مجرَّدَ ظهور تقديمِهِ وتأخيرِه وإنفاقِه، فهل يكون القولُ للراهنِ، لأنّ الأصلَ عدمُ الإذنِ أو للمرتهِنِ، لأنَّ الظاهر صارفٌ عن الأصل المذكور؟ الثاني: مَنِ استأجر الشيءَ يرهنُه فهل يصحُّ؟ أو استعارَهُ أيضًا لرهنِهِ؟ ومع فرضِ الصحةِ فلا شكَّ في ضمان المرتهن لذلك، لكنْ بقي الكلامُ لو أفلسَ الراهن عن قضاء الدَّين، فهل للمؤجِّر والمعير أن يقضيا الدَّيْنَ ويفكَّاهُ، ويرجعانِ على الراهن الثاني لو أعْسَرَ المعيرُ والراهنُ جميعًا، ولم يبقَ سوى العينِ المعارة، هل يجوزُ للحاكم أن يبيعَها لقضاء دين المرتهنِ، لا سيَّما والمعيرُ لا يعرف بالإعسارِ من الراهنِ، ولا يعرف أن العاريةَ قد تؤدي إلى خروج العينِ عن ملكِه؟ انتهى. ¬

(¬1) تقدمت ترجمته.

وأقول ـ مستعينًا بالله ـ: قد اشتملَ هذا السؤالُ على أبحاث: الأول: قوله: عن شأن ما يقعُ من الرِّهان (¬1) ـ إلى قوله ـ: لأن الظاهر صارفٌ عن ¬

(¬1) الرَّهن في اللغة: الثبوت والدّوام يقال ماءٌ راهنٌ. أي راكدٌ ونعمةٌ راهنة أي ثابتة دائمة، وقيل: هو الحبس. قال تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21]. وقال سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38]. والرَّهن في الشرع: المال الذي يجعل وثيقة بالدّين ليستوفى من ثمنه إن تعذر استيفاؤه ممَّن هو عليه حائر بالكتاب والسنة والإجماع. في الكتاب: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]. أمّا السنة: ستأتي الأحاديث خلال الرسالة. أمّا الإجماع: أجمع المسلمون على جواز الرهن بالجملة. انظر: "المغني" (6/ 444). الرّهن لا يخلو من ثلاثة أحوال: 1 - أن يقع بعد الحقِّ فيصحُّ بالإجماع. لأنَّه دين ثابتٌ تدعو الحاجة إلى أخذ الوثيقة به فجاز أخذها به كالضمان ولأن الله سبحانه قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} فجعله بدلاً عن الكتابة، فيكون في محلها، ومحلها بعد وجوب الحقّ وفي الآية ما يدلُّ على ذلك وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} فجعله جزاء للمداينة مذكورًا بعدها بفاء التعقيب. 2 - أن يقع الرهن مع العقد الموجب للدين، فيقول: بعتك ثوبي هذا بعشرة إلى شهر، ترهنني بها عبدك سعدًا. فيقول: قبلت ذلك. فيصح أيضًا، وبه قال مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي، لأنَّ الحاجة داعيةٌ إلى ثبوته، فإنّه لو لم يعقده مع ثبوت الحقِّ ويشترط فيه لم يتمكن من إلزام المشتري عقده، وكانت الخيرةُ إلى المشتري، والظّاهر أنَّه يبذله، فتفوت الوثيقة بالحقِّ. 3 - أنْ يرهنه قبل الحقِّ، فيقول: رهنتك عبدي هذا بعشرة تقرضنيها. فلا يصح في ظاهر المذهب، وهو اختيار أبي بكر والقاضي وذكر القاضي: أن أ؛ مد نص عليه في رواية ابن منصور. وهو مذهب الشافعي، واختار أبو الخطّاب أنّه يصح. فمتى قال: رهنتك ثوبي هذا بعشرة تقرضنيها غدًا، وسلَّمه إليه، ثم أقرضه الدراهم لزم الرّهن. وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، لأنّه وثيقة بحقِّ، فجاز عقدها قبل وجوبه، كالضَّمان، أو فجاز انعقادها على شيء يحدث في المستقبل. قال ابن قدامة: ولنا أنَّه وثيقةٌ بحقٍّ لا يلزمُ قبله فلم تصح قبله كالشَّهادة، ولأنّ الرهن تابعٌ للحقِّ، فلا يسبقه، كالشهادة والثمن لا يتقدم على البيع، وأمَّا الضمان فيحتمل أن يمنع صحّتُهُ، وإنْ سلمنا فالفرق بينهما أنَّ الضّمان التزام مالٍ تبرُّعًا بالقول، فجاز من غير حقِّ ثابت، كالنَّذْرِ، بخلاف الرّهن.

الأصل المذكور. أقول: إنْ كان هذا الرجلُ الذي صار التقديمُ والتأخيرُ بيده مفوَّضًا من شركائه، وكانوا مكلَّفين، والمرادُ بالتفويض هنا أن يظهرَ منهم ما يدلُّ على أنهم قد ألقَوْا مقاليدَ أمرِهم، ووجوهَ تصرفاتِهم مدخولاً ومخروجًا إليه من قولٍ أو فعلٍ، وارتَضَوْهُ لتدبير دنياهم، ولم يعارضوه في شيء من ذلك كما يقعُ كثيرًا من أهل بيت [1أ] لمن هو الأرشدُ منهم، ولم يكن ذلك الرضى والتفويضُ لرهْبةٍ، ولا لشيء من الأمور التي تخالفُ الرضى المحققَ، والتفويضَ الخالصَ فلا شكَّ ولا ريبَ أنَّ من كان بهذه المثابةِ يكون تصرُّفُهُ بما تصرَّفَ به من أموال شركائهِ المكلّفين صحيحًا ناجزًا بموجب التفويض الذي هو مناطٌ شرعيٌّ لإشعاره بالرِّضى، بما وقع منه من التصرفات، وهذا الرضى هو المناطُ المعتبرُ في الكتاب والسنة في تحليل بعض أموال العبادِ لبعض، وإذا كان مجرّدُ الوكالةِ للأجنبيِّ مناطًا شرعيًا في نفوذ تصرُّفاته فبالأولى أن يكون التفويضُ للقريب المشارك مناطًا شرعًا، فإذا وقع من هذا الشريكِ المفوِّضِ رهنُ شيء مما هو مشتركٌ بينَه وبين شركائِهِ المكلّفين فقد صح ونَفَذَ وثبتتْ له أحكامُ الرَّهن، وليس لواحد منهم أن يقولَ بعد ذلك ما أذنتُ، أو ما رضيتُ، أو نحوَ ذلك. وأما إذا لم يكنْ ذلك المتصرِّفُ بهذه المثابةِ، بل كان كلُّ واحدة من شركائه مستقِلاًّ بالتصرُّفِ بماله، أو كان المتصرِّف واحدًا منهم، ولكن لا على طريق التفويضِ، بل لا يتصرفُ في شيء إلاَّ بإذنهم ورضائِهم، ولا يستبدُّ بأمر دونَهم، فإذا كان هذا هو المعروفَ من حالهم، ووقع منه التصرفُ ببعض الأعيان المشتركة برهنٍ أو غيرِه،

وخاصمَهُ الشركاءُ، وطلبوا ملكَهم فالقولُ قولُهم، ويكون لهم استخلاصُ ملكِهم من يدِّ مَنْ قد صار إليه ببيعٍ أو رهن أو غير ذلك، لأن الأصلَ والظاهرَ قد تطابقا هاهنا، وبيانُه أنه لا ريبَ أن الأصلَ بقاءُ الشء على ملك مالكِه، وقد عضَّدَ هذا الأصلَ الظاهرُ لأن عدمَ التفويض والاستبداد من ذلك المتصرِّف بالتصرُّفِ في غير هذا الشيء الذي وقع النزاعُ فيه، يستفادُ منه بطريق الظهورِ عدمُ وجود المناط الشرعي، وهو الرِّضى من الشركاء المذكورينَ [1ب]، وهكذا يتعاضَدُ الأصلُ والظاهرُ إذا كان شركاءُ ذلك المتصرِّفِ من النساء اللاتي يباشِرْنَ التصرفاتِ، ويمارِسْنَ ما يمارسهُ الرجالُ من الأمور المتعلِّقة بالأموالِ، أو كان الشركاءُ قاصرينَ، فإنه كما يكون الأصل عدَم الرضى من النساء يكونُ الأصلُ أيضًا عدمَ المصلحةِ للقاصرينَ، وكما يكون الظاهرُ من أحوالِ النساءِ عدمَ الرضى للعلَّةِ التي ذكرناها يكون الظاهرُ عدمَ المصلحة للقاصرينَ، لا سيما في التصرفات التي لا أعواضَ لها هي أصلحُ وأريحُ للقاصرينَ من العينِ أو الأعيانِ التي تصرَّفَِ فيها ذلك المتصرِّفُ بالبيع ونحوِه، فتقرَّر بما ذكرناه أنه قد يعاضِدُ الأصلَ والظاهِرَ في هذه الصورة، والتي قبلَها على عدمِ لزوم تصرُّفِ ذلك المتصرِّف ببيعٍ أو رهنٍ لشركائه. وأما الصورةُ الأولى، وهي صورة التفويضِ فقد تعارِضُ الأصلَ والظاهرَ، فالأصلُ يقتضي بقاءَ الملكِ لمالِكه، والظاهرُ قد دلَّ على نفوذ تصرُّفِ لمكان التفويض الذي هو مناطٌ شرعيٌّ، فلو فرضنا التباسَ الأمرِ، وعدمِ الوقوف على الحقيقة من تفويض أو عدمِه مع كون الشركاء مكلَّفينَ عارفينَ بما فيه مصلحةٌ، وما لا مصلحة فيه من التصرُّفات، فالواجب الرجوعُ إلى الأصل، وهو بقاءُ الملك، وعدمُ حصولِ الرضى المستفادِ من التفويضِ، ولم يوجدْ هاهنا ما يستفادُ منه ما يخالفُ الأصلَ من ظاهرٍ أو غيره فكان الأصلُ خالصًا عن المعارض، فوجبَ البقاءُ عليه والعملُ به، ويكون للشركاء استخلاصُ ملكهم من يد مَنْ هو في يده، ببيعٍ أو رهنٍ، وكذلك إذا كان الشركاء نساءًا أو قاصرينَ. فإن قلتَ: هذا التعويلُ على مجرَّد الأصلِ، والظاهرُ وإن كان قاعدةً كليةً من القواعد الأصوليةِ والفروعية، لكنَّ مثلَ السائلِ ـ كثر الله فوائده ـ لا يقنعهُ إلاَّ الدليلُ [2أ] لا مجرَّدُ القالِ والقيلِ. قلتُ: ليس التعويلُ منا هاهنا إلاَّ على ما صرَّح به الكتاب العزيز، والسنَّة المطهَّرة من اعتبار الرِّضى، وطيبة النفس في تحليل أملاك العباد لبعض، وأنَّها لا تؤكلُ بالباطل فإن دلَّتِ القرائنُ المعمولُ بها شرعًا على حصول الرضى، وطيبة النفس فقد حصل المناط الشرعيُّ، فلم يُرَدْ بالظاهر الذي ذكرناه إلاَّ دلالةُ تلك القرائنِ المقبولة على وجود المناطِ الذي اعتبرهُ الكتاب (¬1) والسنة (¬2)، ولم نُرِدْ بالأصل إلاَّ عدمَ وجود تلك القرائنِ الدالةِ على وجود المناطِ، فكان الدليلُ على نفوذ التصرُّفِ في صورة التفويض هو الكتابُ والسنةُ، وعلى عدم نفوذِ التصرُّف في غير تلك الصورةِ هو عدمُ وجودِ الدليل الدالّ على انتقال الملكِ عن مالكِه، أو استحقاق حَبْسِهِ عنه. البحثُ الثاني: سؤالُ السائلِ ـ كثر الله فوائده ـ عن إفلاس الراهنِ عن قضاء الدَّين (¬3) إذا كان موجودًا، فهل للمؤجِّر للرهن والمعيرِ أن يقضيا الدَّين ويفكَّاه، ويرجعا على الرَّاهن؟. أقول: جوابُ هذا البحث يتوقف على تحرير أمرين: الأول: أن المؤجِّر والمعير إنما حصل منهما الرِّضى بحبس تلك العين المرهونة حتى يقيضيَ الراهنُ ما عليه من الدَّين، ولم يحصل منهما الرضى بإخراج العينِ عن ملكِهما كما هو مقتضى .... .... .... .... .... .... .... .... ..... ¬

(¬1) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. (¬2) منها قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه". وهو حديث صحيح تقدم تخريجه. (¬3) انظر "المغني" (6/ 462).

الإجارةِ (¬1) والعارية (¬2)، وهذا معلومٌ لا لَبْسَ فيه. الأمر الثاني: أنَّ المرتهِنَ لا ملك له في العين المرهونة، سواءٌ كانت ملكًا للراهن، أو ¬

(¬1) الإجارة من الأجر وهو العوض قال تعالى: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77]. ومنه سمِّي الثواب أجرًا لأن الله يعوِّض العبد به على طاعته، أو صبره على مصيبته. وهي نوع من البيع، لأنّها تمليك من كل واحد منهما لصاحبه فهي بيع منافع، والنافع بمنزلة الأعيان لأنه يصح تمليكها في الحياة وبعد الموت، وتضمن باليد والإتلاف ويكون عوضها عنيًا ودينًا. وإنما اختصت بلفظ الإجارة والكراء لأنهما موضوعان لها. والأصل فيها الجواز في الكتاب والسنة والإجماع. - أمّا الكتاب فقول الله سبحانه: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]. وأخرج ابن ماجه في سننه (2/ 817) عن عتبة بن النُّدَّر، قال: كنا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقرأ {طس} حتى إذا بلغ قصة موسى قال: "إنّ موسى عليه السلام آجر نفسه ثماني حجج، أو عشرًا على عفة فرجه وطعام بطنه". وقال تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77]. وهذا يدل على جواز أخذ الأجر على إقامته. - وأمّا السنة، فثبت أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبا بكر، استأجرا من بني الدِّيل هاديًا خرِّيتًا. - وأجمع أهل العلم في كل عصر وكل مصر على جواز الإجارة. " المغني" (8/ 5 - 10). (¬2) العاريَّةُ: إباحة الانتفاع بعينٍ من أعيان المال مشتقةٌ من عار الشيء: إذا ذهب وجاء ومنه قيل للبطَّال: عيَّارٌ: لتردُّده في بطالته والعرب تقول: أعاره، وعاره: مثل أطاعه وطاعه. والأصل فيها الكتاب: قال تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7]. والسنة فما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبة عام حجَّة الوداع: "العاريةُ مؤدّاة، والدّين مقضيّ، المنحة مردودةٌ والزّعيم غارم". وأجمع المسلمون على جواز العارية واستحبابها. " المغني" (8/ 340).

مستأجَرَةً، أو مستعارةً للهرن، وليس له إلاَّ مجرَّدُ حَبْسِها حتى يقبضَ دَيْنهُ، لا أنه يستحقُّ زيادةً على ذلك (¬1). وإذا تقرَّر هذا فالمؤجِّرُ للعين، والمعيرُ لها للرَّهن [2ب] قد رضيا بحبْسِها حبسًا مقيَّدًا بغاية هي قضاءُ الدَّين، فإذا وقع منها التسليمُ لذلك الدّين التي حُبِسَت العينُ به فليس للمرتهِن أن يمتنعَ من تسليمِ العين، لأنَّه قد حصل له مطلوبُهُ من الرِّهان، ولم يبقَ على المؤجِّر والمعيرِ ما يوجبُ بقاءَ العينِ، لأنَّ الغايةَ التي رضيا بحبس العين إلى حصولها قد حصلتْ، وهي تسليمُ الدَّيْنِ، وقد سلَّماه راضيين مختارينِ، وأما رجوعُهُما على الراهين الذين هو المستأجرُ والمستعيرُ للعين ليرهنَها، فإن كان تسليمُ الدّين منهما بأمرِه، أو بحكمِ حاكمٍ فلهما الرجوعُ عليه، إما كونُ ذلك بأمره فظاهرٌ، لأنَّ التسليمَ منهما يكون بسبب الأمر منه عنه قضاءًا لدينه، وإما كونُ التسليم بحكمِ حاكمٍ فلأنَّ ذلكَ الحكمَ قد تضمَّن الأمرَ لهما بقضاء دين المديونِ، وللحاكم أن يقضيَ ديونَ المديون إذا كان له مالٌ كما وقع في قصةِ معاذ بن جبل (¬2) وجابر (¬3) بنِ عبد الله، وهما مشهورتان، معروفتانِ، ثابتتان في دواوين الإسلام. وهذا المديونُ وغن لم يكن له مالٌ لكنه لما حبسَ ملكَ غيره بيد مَنْ له الدينُ عليه كان ¬

(¬1) انظر "المغني" (6/ 462). (¬2) أخرجه أبو داود في "المراسيل" رقم (172) وعبد الرزاق في "المصنف" رقم (15177) وهو منقطع وهو من حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك مرسلاً. وهو حديث ضعيف. وأخرجه الدارقطني في "السنن" (4/ 230 - 231 رقم 95) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 48) والحاكم في "المستدرك" (2/ 58). وقال: صحيح على شرط الشيخين وأقرّه الذهبي. من حديث كعب بن مالك قال: "أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجر على معاذ ماله وباعه في دين كان عليه". (¬3) تقدم تخريجه.

ذلك وجهًا لوقوع الحكم من الحاكم بالرجوع عليهِ، ولكنه لما كان فقيرًا كان معذورًا من القضاء إلى ميسرة، كما شرعه الله لعباده في محكم كتابه، وأما إذا كان تسليمُ الدين من المؤجِّر والمعيرِ لا بإذن من الراهن، ولا بحكمٍ من الحاكم، فلا مناطَ شرعيٌّ يوجب الرجوعَ على الراهن، بل قد وقع منهما الاستخلاص لملكهما بتسليم الدَّين، والراهنُ معذورٌ بالفقر، والدَّيْنُ باقٍ في ذمَّته، فمتى أيْسَرَ كان للمؤجر والمعير [3أ] أن يلزما المرتهِنَ بالمطالبة للراهن بدينه، فإذا قبضه منه كان لهما أن يرجعَا على المرتهنِ بما دفعاه إليه استخلاصًا لتلك العينِ، لأنه قد قبض دينَه ممن عليه الدينُ، وهو الموجِبُ لحبس العين، فيجبُ عليه ردُّ ما قبضَهُ منهما، لأنه لم يقبضْ ذلك إلاَّ في مقابلة فكِّ الرّضهن لصاحبه، لا أنه دينُه الذي يستحقُّه على مَنْ هو عليه. فإن قلتَ: إذا كان الراهنُ شريكًا للمؤجِّر والمعير، وأعسرَ قبل قضاء الدين فماذا يكون؟. قلتُ: إذا كانت قسمةُ العين ممكنةً قسَمَها الحاكم (¬1)، وسلَّم للمؤجِّر أو المعير نصيبَهما حيث قد سلَّما ما يقابلُ ذلك من الدَّين، وبقي نصيبُ الراهنِ رهنًا حتى يتمكَّنَ من قضاء الدين، أو يحكمَ الحاكم عليه بقضاء الدين من نصيبه من تلك العينِ المرهونةِ. وحكم المؤجِّر أو المعيرِ فيما سلَّماه لاستخلاص تلك العينِ يكونُ على التفصيل السابق. وأما إذا كانت العين مما لا يمكن قِسْمَتُه فليس للمؤجِّر أوا لمعير أن يطالِبَا باستخلاص نصيبهما، إلاَّ إذا بذلا جميعَ الدين المتعلِّق بالعين، لأ، هما قد رضيا بِحَبْسِ العينِ إلى غايةٍ هي قضاءُ جميع الدَّين، أو قضاءُ ما يقابل نصيبَهما من العين، لكن بشرط عدم دخول النقص على المرتهنِ، ولا يتمُّ ذلك إلاَّ في مث لالصورة الأولى، لا في مثل هذه الصورة، لعدم إمكان القسمةِ. البحث الثالثُ: سؤالُ السائلِ ـ كثر الله فوائده ـ عن إعسار المؤجِّرِ للعين، أو المعيرِ ¬

(¬1) انظر "المغني" (8/ 451)، "المجموع" (12/ 323).

لها للرهنِ مع إعسارِ الراهنِ، ولم يبقَ سوى تلك العين هل يجوزُ للحاكم أن يبيعَها لقضاء دين المرتهن؟ ... إلخ. أقول: ليس له ذلك لأمرين: الأول: أنه لا يحلُّ مالكُ المؤجِّرِ أو المعيرِ إلاَّ بطيبةٍ من نفسه وبرضائه، كما صرح بذلك الكتابُ العزيزُ، والسنةُ المطهرة، وهما لم تطب أنفسُهُما بذلك، ولا رَضِيَا به [3ب]. والثاني: أنهما إنما رضيا بِحَبْس العين فقط، ولم يحصلْ منهما الرِّضى بزيادةٍ على ذلك فضلاً عن إخراجها عن ملكهما إلاَّ في مثل صورة الاشتراك والتفويض الذي قدمنا ذِكْرَهَا وهي مسألةٌ أخرى غيرُ مسألةِ العينِ المؤجرة أو المُعارة للرَّهن. ومع هذا فقد ثبتَ في الصحيح عنه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ من حديث (¬1) أبي هريرةَ أنه قال: "لا يغلقُ الرهنُ بما فيه" قال في النهاية (¬2): يقال: غلقَ الرهنُ غلوقًا إذا قي في يد المرتهن لا ¬

(¬1) أخرجه الشافعي في "المسند" (2/ 164 رقم 568) والدارقطني (3/ 32 رقم 126) وقال: "هذا إسناد حسن متصل". والحاكم في "المستدرك" (2/ 51) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 39) وابن حبان رقم (1123 ـ موارد). قال ابن حجر في "بلوغ المرام" رقم (6/ 812) بتحقيقنا: أن رجاله ثقات إلا أن المحفوظ عند أبي داود وغيره إرساله في "المراسيل" لأبي داود رقم (186). ورجاله ثقات رجال الصحيح، غير محمد بن ثور، وهو ثقة، وأخرجه البيهقي (6/ 40) من طريق أبي داود. وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" رقم (15033) ومن طريقه الدارقطني (3/ 33) عن معمر به. وأخرجه الطحاوي (4/ 102) من طريق أبي النعمان، عن سفيان، عن الزهري به وأخرجه الطحاوي (4/ 100) من طريق ابن وهب أنَّه سمع مالكًا ويونس وابن أبي ذئب يحدثون عن ابن شهاب. عن ابن المسيب أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا تغلقُ الرهن" وهو في "الموطأ" (2/ 728 رقم 13) من طريق ابن شهاب. وأيضًا في "المراسيل" لأبي داود رقم (187) ورجاله ثقات رجال الشيخين. (¬2) (3/ 379).

صاحبُه على تخليصه، والمعنى أنه لا يستحُّه المرتهن إذا لم يستفِكُّهُ صاحبُه، وكان هذا من فعل الجاهليةِ أن الراهنَ إذا لم يؤدِّ ما عليه في الوقت المعيَّنِ ملكَ المرتهنُ الرَّهنَ، فأبطله الإسلامُ. انتهى. فإذا كان هذا حُكمُ الرهنِ الذي يرهنُه مالكُه في دين عليه، فكيفَ إذا لم يكنِ الرهنُ ملكًا للراهِن! بل كان مستأجرًا له، أو مستعيرًا! فإنه لا وجْهَ يقتضي غلاقَهُ، ويسوغُ إخراجَهُ عن ملك مالكهِ (¬1). فإن قلت: قد ذكرتَ سابقًا أنَّه ثبت شرعًا ما يدلُّ على أن الحاكمَ يقضي دينَ المديون من ملكهِ الذي هو باقٍ تحتَ يده لم يخرجْ عنه إلى يد مَنْ له الدَّيْنُ كما وقع منه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في قصَّة معاذ بن جبل، فكيف لا يجوزُ للحاكم أني قضيَ دينَ المديون من عينٍ قد سُلِّطَ صاحبُ الدين عليها بالرهن، وجعلها محبوسة في يده!. قلت: هذا يتمُّ في الرهن المملوكِ للراهن الذي عليه الدينُ، ويكون ذلك مخصِّصًا لحديث: لا يغلقُ الرهنُ، لأنَّه عامٌّ؛ إذِ الفعلُ يتضمَّنُ النكرةَ، فهو في قوة الإغلاقِ للرهن، والنكرةُ في سياق النفي من صيغ العمومِ (¬2)، فيكون بيعُ الرهن للقضاء مخصَّصًا بهذا العموم، وصورة التخصيصِ. أما الإعسارُ من الراهن، أو مطالبةُ الغرماءِ تضييقُهم كما وقع في قصة معاذٍ (¬3)، وأما إذا كان الرهن غيرَ مملوكٍ، بل مُسْتَأْجَرٌ، أو مستعارٌ، فلا وجْهَ لإخراجه عن ملك مالكه بحال من الأحوال، بل غايةُ ما هناك أنه يبقَى محبوسًا حتى يتمكَّن الراهنُ من القضاء، أو يتمكنَ صاحبُ العين من استخلاصِها بتسليم الدَّيْنِ. وفي هذا المقدار كفايةٌ لمن له هدايةٌ. والله ولي التوفيق. بقلم المجيب محمدٍ الشوكاني ـ غفر الله له ـ. ¬

(¬1) انظر "المغني" (8/ 450 - 458). (¬2) تقدم توضيح ذلك. (¬3) تقدم تخريجه.

المباحث الوفية في الشركة العرفية

(128) 27/ 2 المباحث الوفيّة في الشركة العرفية تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: "المباحث الوفيّة في الشركة العرفية". 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله والطاهرين ورضي الله عن أصحابه الراشدين. فإنه سأل سيدي العلامة ... ". 4 - آخر الرسالة: " ... وإن لم يحصل التراضي عليه فلا حكم له ولا اعتبار به. وإلى هنا انتهى الجواب على سؤال السائل ـ كثر الله فوائده ـ وكان الفراغ من تحريره نهار الأحد سلخ شهر محرَّم سنة 1221هـ. 5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول. 6 - عدد الصفحات: 10 صفحات + صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 25 سطرًا ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها 4 أسطر. 8 - عدد الكلمات في السطر: 10 - 11 كلمات. 9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

على صورة الغلاف ما نصُّهُ: الحمدُ لله: لما اطلعتُ على هذا الجوابِ الشافي، وتأمَّلْتُهُ قلتُ مرتجِلاً: إليَّ أبحاثٌ أتتْ وفيَّة ... مفيدةٌ في الشركةِ العُرفيةِ كأنها الرياضُ في الذاتية ... أو الفصوصُ في السَّنا الياقوتيةِ أو حُسْنُ هيفا واصلتْ عشيةً ... فاقت بِدّلِّها على البريّةِ فصَّلها بالفصلِ والجنسيةِ ... العالم الفردُ بأحوذيةِ محمدٌ مخلصُ حسن النيةِ ... الشمسُ في علومنا الدينيةِ والبدرُ في الإغلاسِ وفي العشيةِ ... جوزي بها الأياديَ السنيَّةِ في داره الأولى والأُخرويةِ

بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله ربّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيدنا محمدٍ وآله الطاهرينَ، ورضي الله عن أصحابه الراشدين. وبعدُ: فإنه سأل سيدي العلامةُ المفضالُ، صفيُّ الكمالِ أحمدُ بن يوسفَ زباره (¬1) ـ لا برح في حماية ذي الجلال ـ فقال ـ كثر الله فوائده ـ في جميع الأحوال ـ: المطلوبُ أيضاحُ ما أشكلَ في شأن الشركة العرفية، وما وقع به التعاملُ من المشتركات في المكتَسَبات، والتأجيرات ونحوِها مما تشملُه التسميةُ. أولاً: ما حكمُ الاشتراك بين جماعة اشتركوا في أعمالٍ من دون عقدٍ، بل مثلاً اجتمعُوا في مكانٍ، ثم مازالوا يكتسبونَ بتأجيرٍ أو سؤالٍ حتى نَمَى له مالٌ، فهل هذا يسوغُ الذي هو مجرَّدُ الاجتماعِ أن يُقَالَ له: اشتراكٌ أم لا؟ وهل يسوغُ مثلاً أن يستأثِرَ أحدُهم بزائدِ المكْتسبِ أو من لم يكن له بسعي ولا طلب؟ أم ماذا يكون الحكمُ؟ الثاني: مثلاً من كان لهم مالٌ مشتركٌ وأنصباؤهم متفاوتةٌ، وسعيهم مختلِفٌ بالقوة والضعفِ، هل يعتبرُ مثلاً المساواةُ فيما نَمَى من الكسْبِ، أو يعتبرُ تفصيلُ مَنْ مالُهُ أكْثَرُ، أو مَنْ سعيه أكْثَرُ أم ماذا يكون الحكمُ؟ الثالث: ما حكم من تساوَوْا مالاً وكَسْبًا، ولكن كان أحدُهم صاحبَ عائلة وتكليفٍ، والبعض عازبٌ لا تكليفَ له؟ الرابع: مَنْ كان له دخلٌ خاصٌّ من غير ما حصلَ التكافي عليهِ، بل له جرايةٌ، أو نذورٌ، أو هِباتٌ، ماذا يكون حكمُ الخاصِّ؟ الخامس: لو اكْتُسِبَتْ من نماء المشترك، وأضاف لنفسه ماذا يكون حكم الإضافة؟ ¬

(¬1) تقدمت ترجمته.

السادسُ: لو كان ثمَّ صبيٌّ قاصرٌ هل يسوغُ مثلاً للوصيِّ أن يبقيَهُ على الشركةِ بين المكلَّفين، أو يقسمَه على الورثةِ، أو يتعيَّن عليه نظرُ الأصلحِ، وإذا التبسَ عليه ماذا يكونُ الحكم؟ السابعُ: لو اختلفَ المجتمعونَ فقال البعضُ: متكافئونَ، وقال البعض: لا يكافئ، بل أنتَ لا كَسْبَ لك، بل ينفقُ من مالي، وما فعلتَ فهو إلى مقابل الإنفاق؟ الثامن: إذا ماتَ أحدٌ المكتسبينَ المشتركينَ، أو تزوَّجَ، أو غابَ وَمَّ مالٌ والتبسَ بعدَه هل من غِلاَّتِ المالِ، أو من كَسِْبِ الباقين، هل يشركُ ورثَته أي الغائبَ في النامي، أو نقول: الظاهرُ مع الباقينَ ثابتي اليدِ في النماءِ الحادث؟ التاسعُ: لو تزوَّج، أو جنى، أو تأدب بأدب عليه خاصٍّ، هل يحسبُ عليه خاصٌّ، أو نقولُ يتسامحُ بذلك فيحسبُ على الجميع؟. العاشرُ: لو وقع شرطٌ بين المتشاركينَ أنَّ مثلاً لفلان نصفَ الكسبِ، ولفلان ثُلُثٌ، ولفلانٍ عُشْرٌ هل يصحُّ هذا الشرطُ أم لا؟ وكذلكَ لو فُضِّلَ غيرُ العامِل. فافضلوا بإيضاحِ الأطرافِ، فليس السؤالُ على جهة الامتحانِ، بل هذه أطرافٌ حادثةٌ في هذا الزمن وقبلَه، أحسن الله جزاءكم وتولاكم. انتهى بلفظه. [1أ] أقول ـ وبالله التوفيق، وعليه التوكُّل ـ: اعلم أنَّ ما سأل عنه السائلُ ـ كثر الله فوائده ـ من الأحكامِ المتعلِّقة بالشركةِ العُرفية فإيضاحُ الكلامِ فيها متوقِّفٌ على إيضاحِه في بيان ماهيَّة الشركة العُرفية. ولنقدِّم نقل ما ذكره أهلُ العلم في شأن الشركة، ثم نُتْبِعُهُ بما عندي فيها، ثم بالكلام على كلِّ بحثٍ من أبحاث السؤال فنقولُ: اعلم أنه لم يتكلَّمِ المتقدمونَ من أهل العلم على هذه الشركة، ولا دوّنوها في مصنَّفاتهم، ولكنه تكلَّم عليها بعضُ المتأخِّرينَ من العلماء الموجودين بعد الألفِ من الهجرة وقبلَه بقليلٍ، ألْجَأهم إلى ذلك وقوعُ الخصام فيها بين من يرثونَ رجلاً، ويتركون القسمة حتى يحصل لهم مكتسباتٌ من أموالٍ أو غيرها من غِلاَّت تلك الأموال المتروكة

لهم ميراثًا من مورِّثهم، وهم الحارثونَ لها، العاملون فيها جميعًا، أو كانوا يعملون أعمالاً مع غيرهم، فيجتمعُ لهم مالٌ يكتسبون به مكتسباتٍ، ويتنازعونَ فيها بعد ذلك. فيقولُ بعضُهم: إنه يريدُ أن يكون قسمةُ المكتسباتِ على قَدْرِ أنصباءِ الميراثِ إن كانت من غلّة الأموال الموروثة، أو على قَدْرِ السعي والعملِ إن كانت حاصلةً بالسعي والعمل، فيقولُ الآخرُ: يُقْسَمُ على السويَّةِ بلا تفضيلٍ للبعض على البعض، فهذا معنى الشركة العُرفية. وموجبُ كلام المتأخرين من أهل العلم على أبحاثها، وليست في أحد الشرك المدوّنة في كتب الفقه حتى يرد ما ورد من الخصومات المتعلقة بها إليها. قال شارح المسائل المرتضاة ناقلاً عن القاضي العلامة عبد الله بن يحيى الناظري (¬1)، ولفظُهُ: إذا كان جماعةٌ إخوةٌ أو غَيْرُهم مشتركينَ في الأعمالِ فكان بعضُهم يعمل المالُ، وبعضهم يخدمُ البقرَ، ويعلِفُهنَّ، وبعضهم لحوائج البيت وإصلاحه، وبعضُهم للبيع والشراء في الأسواق، فكلُّ واحد منهم لم ينتظم الحالُ في عمله إلاَّ بكافيه الآخرِ له في العلمِ، فإذا كان كذلك فهذه شركةُ أبدان، فكلُّ ما حصلَ من الصالح مع كلِّ واحد مشتركٌ بينَهم الجميعُ لا فضلَ لأحدٍ منهم [1ب] على أحدٍ، لأن ذلك حكمُ شركةِ الأبدان انتهى. أقولُ: قوله أولاً: فهذه شركةُ أبدانٍ (¬2)، ثم قولُه ثانيًا: إن ذلكَ حكمُ شركة الأبدانِ ¬

(¬1) عبد الله بن يحيى بن محمد الناظريم الظفيري اليمني، عالم فقيه كان من أصحاب الإمام المنصور بالله محمد بن علي السراجي. من مؤلفاته: - "شرح الكافية" لابن الحاجب. - " شرح المفتاح ". انظر: "أعلام المؤلفين الزيدية" رقم (649). "أئمة اليمن" (1/ 382). (¬2) شركة الأبدان: أن يشترك اثنان أو أكثر فيما يكتسبونه بأيديهم كالصناع ويشتركون على أن يعملوا في صناعتهم. فما رزق الله فهو بينهم وإن اشتركوا فيما يكتسبون من المباح. كالحطب، والحشيش، والثمار المأخوذة من الجبال والمعادن فهذا جائز نص عليه أحمد وفي رواية أبي طالب فقال: لا بأس أن يشترك القوم بأبدانهم، وليس لهم مال، مثل الصيَّادين والنَّقالين والحمَّالين. وقال الماوردي في "الحاوي" (8/ 164): شركة الأبدان: وهو أن يشترك صانعان ليعملا بأبدانهما ويشتركان في كسبهما، فهذه شركة باطلة. وقال مالك: تجوز إذاكانا متفقي الصنعة، ولا تجوز إذا كان مختلفي الصنعة. قال أبو حنيفة: تجوز مع اتفاق الصنعة واختلافها، ولا تجوز في الأعيان المستفادة بالعمل كالاصطياد والاحتطاب. وقال أحمد: تجوز في كل ذلك، كما تقدم. انظر: "الأم" (7/ 286)، "المغني" (7/ 110). قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوي" (30/ 73، 99): شركة الأبدان وتسمى (شركة الصنائع) و (شركة التقبل) وهي أن يتفق شخصان أو أكثر على تقبل الأعمال وعملها والأجر بينهم على ما شرطوا. أنواعها: شركة الأبدان نوعين: 1 - أن يكون الاشتراك فيما يتقبلانه من العمل في ذمتهما كالنجارين والخياطين الذين تقدر أجرتهم بالعمل لا بالزمن ـ وهو الأجير العام ـ ولا فرق بين أن تكون هذه الشركة في تقبل الأعمال بأجر كالنجارين ونحوهم أو في تحصيل المباحات كالاشتراك في الاحتطاب والاصطياد بحيث يخلط ما اصطاداه ثم يقتسمانه على ما شرطا. وكل واحد من الشريكين يتصرف لنفسه بحكم الملك ولشريكه بالوكالة فما عقده من العقود عقد لنفسه ولشريكه وما قبضه قبضه لنفسه ولشريكه. 2 - أن يكون الاشتراك فيما يؤجران فيه بأبدانهما ودابتيهما، ويكون الأجر مقدرًا بالزمن لا بالعمل، وهو الأجير الخاص. 3 - توزيع عائداتها: مطلق عقد الشركة يعني المساواة في الأجر والعمل فإن عمل أحدهم أكثر جاز له أن يطالب بقية الشركاء بأجر ما زاد من علمه وإن اشترط أحدهم أن تكون له زيادة عنهم في الأجر جاز. انظر: "مجموع الفتاوى" (30/ 74، 81، 99).

ليسَ على ما ينبغي؛ فإن الأول يفيد أن هذه الشركة شركةُ أبدان، والثاني يفيد أنها غيرها، ولكنها مُلْحَقَةٌ بها قياسًا، والكلُّ ممنوعٌ، أما كونها عينَ شركة الأبدان فلا شك في بطلانه، فإن هذا المتكلم إنما تكلم على مقتضى ما ذكره أصحابنا في الفروع، وهم مصرِّحون بأن شركة الأبدان ماهيتُها: وقوعُ التوكيل من كلِّ من الصانعين للآخر أن يتقبَّل ويعمل عنه في قدر معلومٍ مما استُؤجِر عليه مع تعيين الصنعةِ، وصرَّحوا بأن هذه الشركة هي من باب الوكالةِ (¬1). فتقرر بهذا أنَّ الشركة العرفية ليست عين شركة الأبدان، بل لا يصح قياسُها، لوجود الفارق، فضلا عن أن يكون عينَها، ثم ما حَكَمَ به آخرًا من أنَّ لكلِّ واحدٍ من المصالِح مثلُ الآخرِ لا يفضلُ أحدٌ على أحد، وتصريحُهُ بأن ذلك حكمُ شركةِ الأبدانِ مخالفٌ لما قرروهُ في شركة الأبدان كما عرفتَ؛ فإن الرِّبْحَ فيها على قَدَرِ الثقيل كما هو مصرَّحٌ به، ومع هذا فقد قرَّرَ المتأخرونَ كلام الناظري هذا، وعملوا عليه، فإنه قال شيخ مشايخنا العلامةُ الحسنُ بن أحمد الشبيبي ـ رحمه الله ـ: أنَّ المختارَ كلامُ العرف، وهو الذي جرت له فتاوى مولانا المتوكِّل على الله، وبه عملَ المتأخرون، فما كسبه أحدُ الشركاء فهو للجميعِ وعلى الجميعِ، ولو أضافه إلى نفسه. هكذا قال: وهو الذي يختاره شيوخُ المذهبِ الموجودونَ في عصرِنا الآنَ، فانظر كيف وقعَ العملُ على كلام الناظري، وأطبقَ عليه المتأخرونَ مع أنَّه لم يقلْ ذلك اجتهادًا، بل قاله زاعمًا أنَّ الشركة العرفية هي شركةُ أبدان، أو كشركة الأبدان. وقد تقرَّر أنها ليست بشركة أبدان، لا في الماهية، ولا في اللوازم. ثم لو فُرِضَ أنها شركة أبدان لم يكن للجزم بالاستواء وَجْهٌ، فإنَّ شركة الأبدان كما عرَّفناك الرِّبْحُ (¬2) فيها ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة. (¬2) قال ابن قدامة في "المغي" (7/ 113) والرِّبح في شركة الأبدان علىما اتفقوا عليه، من مساواةٍ أو تفاضل، لأنَّ العمل يستحقُّ به الربح، ويجوز تفاضلهما في العمل، فجاز تفاضلهما في الرِّبح الحاصل به ولكلِّ واحدٍ منهما المطالبة بالأجرة، وللمستأجر دفعُها إلى كل واحدٍ منهما وإلى أيهما دفعها برئ منها".

تابعٌ للتقبُّلِ. وعلى فَرَضِ أن العمل قائمٌ مقامَ التقبُّل فالربح فيها يتبع العمل، وأيضا قد صرَّحوا بأن القولَ لكلٍّ فيما هو في يدِه في هذه الشركةِ، بل وفي غيرها، فكيف يكونُ ما ذكره صحيحًا! وقد حمل العلامةُ أحمدُ بن علي الشامي صاحبُ الحواشي في شرح الأزهارِ [2أ] والبيانِ كلامَ الناظري هذا علىأ، ه لم يعتبر الإضافة من أحد المشتركين إلى نفسه، واعترضه شيخُ مشايخنا المذكور سابقًا بما تقدم من العرف، وفتاوى المتأخرين. وبالجملة فليس المرادُ هاهنا إلاَّ بيان بطلان ما زعمه الناظريُّ من أن ذلك شركة أبدانٍ، أو كشركة الأبدانِ. وإذا تبيَّن ذلك علمت أن ما أفتى به ليس هو منقولاً عن كتب أهل المذهب، ولا عن غيرهم من أهل المذاهب، وإنما هو كلام جرى منه على طريق الفتوى التي يفعلها أمثاله، ولم يصح ما زعمه من أنها شركة أبدان، أو كشركة الأبدان. وستعرف ـ إن شاء الله ـ ما هو الحقُّ الذي ينبغي اعتمادُه، والعملُ عليه بعد الفراغ من نقل ما قاله المتأخرونَ في هذه الشركة العُرْفيَّة. ومن جملة ذلك ما حكاه أيضًا شارحُ المسائل المرتقاة عن فتاوى الإمام شرف الدين فإنه قال ـ بعد نقله لكلام الناظري (¬1) السابق ـ ما لفظُهُ: ومثل هذا نُقِلَ عن فتاوى الإمام شرف الدين (¬2) في قصة تَقْرُب من هذا. قال: وسواء كانتِ الشركة صحيحة أو فاسدة، أما مع الصحة فظاهرٌ، وأما مع الفساد فالواجبُ أُجرةُ المِثْل، وهي هنا حِصَّتُهُ مما يخرجُ إذا قُسِّمَ على الرؤوس، ولو كان عملُ بعضهم أكثرَ من بعض (¬3)، لأن من عمل أكْثَر فقد ¬

(¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) تقدمت ترجمته. (¬3) قال ابن قدامة في "المغني" (7/ 114) وإنْ عمل أحدهما دون صاحبه فالكسب بينهما، قال ابن عقيل: نصَّ عليه أحمد في رواية إسحاق بن هانئ وقد سئل عن الرَّجلين يشتركان في عمل الأبدان، فيأتي أحدهما بشيء ولا يأتي الآخر بشيء؟ قال: نعم، هذا بمنزلة حديث سعد: وابن مسعود يعني حيث اشتركوا، فجاء سعدٌ بأسيرين وأخفق الآخران، ولأنّض العمل مضمونٌ عليهما معًا، وبضمانهما له وجبت الأجرة، فيكون لهما كما كان الضّمان عليهما ويكون العامل عونًا لصاحبه في حصَّته. ولا يمنع ذلك استحقاقه.

رضي بمشاركة ذي العمل الأقل، والعرف جار بالاستواء في ذلك. قال انتهى بلفظه. أقولُ: قوله سواء كانت الشركةُ صحيحةً أو فاسدةً إنما يتمُّ بعد معرفة ماهيَّة الشركة العرفية الصحيحة والفاسدة، ولم يقع التدوين لشء مما يتعلق بها من الشروط والأركان، حتى يُقال: هذه صحيحةٌ، وهذه فاسدةٌ. فإن كان جازمًا بأنها راجعةٌ إلى أحدِ الشِّرَكِ المدونة في كتب الفقهِ فما هي؟ وإن كان بناءً على كلام الناظري من أنها شركة أبدان، أو كشركة الأبدان فقد تقدم بيانُ بطلان ذلك. وأما قوله: لأن من عمل أكْثر فقد رضي بمشاركة ذي العمل بالأقلّ. فأقولُ: إن كان هذا الرِّضى معلومًا عند التنازع فهو المناطُ في تحليل ذلك، وإن يكن معلومصا فلا وجْهَ للتسوية على فرض الاختلاف في العمل أو المال. وبالجملة فكلامُ الإمام شرف الدين هذا رجوعٌ إلى الرضى، وهو باب آخرُ غيرُ باب الشركة كما سيأتي بيانُه إن شاء الله. وأما قولُه: والعرف جارٍ كالاستواء فلعلَّه يجعل ذلك دليلا على حصول التراضي، ولا شك أنه يُسْتَفَادُ منه كون الظاهر الرِّضى إذا كان معلوما لكل واحدٍ منهم، والإطباقُ عليه كائنٌ بين الناس، أما إذا لم يكن معلومًا [2ب] للمشتركينَ، أو كان العرفُ مختلفًا كما نشاهدُه الآن فلا يتمُّ ما ذكره من الاستدلال بالعرف، وأيضًا هو ليس بمناط شرعيٍّ، بل هو قرينةٌ على وجود المناط الشرعيِّ أعني: التراضيَ، هذا على فَرَضِ الإطباقِ، وعدم الاختلاف فيه، فكيف إذاكان مختلفًا غاية الاختلاف كما نشاهده فيما يردُ من الخصومات والسؤالات! فإن المعلوم من أحوال الناس في هذه الأزمنة أنه لو علم الأكثرُ نصيبًا في المال، أو الأكثرُ عملاً في مداخل الرزق وأسبابه أنّ من كان أقلّ منه

نصيبًا أو دونَه سعيًا في المكتسبات لم يرض بالاشتراك لحظةً من اللحظات، فضلاً عن أزمنة متطاولةٍ. دع عنك لو عَلِمَ أن الإناثَ يشاركنه ويَفُزْنَ بمثل نصيبه، فإن كان هذا العرفُ المدَّعى عرفًا لأهل عصرِ الإمام شرف الدين فهو لا يجوزُ الحكمُ به على أهل هذه الأزمنة للعلم بأنه غير موجود لديهم، ولا شائعٌ بينهم، ولا يحلُّ الحكمُ على قوم بأعراف قومٍ آخرين بلا خلافٍ بين المسوِّغينَ للعمل بالعرف والعادة. ومن جملة كلام أهل العلم في الشركة العرفية ما نقله شارح المسائل المرتضاة عن العلامة الحسن بن يحيى حابس (¬1) ولفظه: اعلم أن تصرف عنه وعن غيره له ثلاثة أحوال: الأول: أن يكون التصرف من جماعة متصادقين على الشركة في متصرفاتهم، فهذا لا إشكال فيه. الثاني: أن يكون جماعة يتصرفون بحكم الظاهر، كل واحد عنه وعن الجميع، حتى علم ذلك من ظاهر الحال، فالواجب في مثل هذا أن يحكم بالشركة للجميع في جميع ما جرى به التصرف، ولا سبيل إلى نقض شيء منه لما تقدم، وليس لأحدهم أن يستند بشيء من شركائه، فلو وجد شيء مما اكتسبه منسوبًا غليه في الصكوك ولا .... ..... (¬2) لشركائه فيه حكم به للجميع، ولا يجعل لنسبته إليه حكم. الثالث: أن يعلم أن يصرف كل واحد عن نفسه (¬3)، ويصرفه عن شركائه إنما كان بأمر خاص، وهذا لا إشكال فيه، وأنه يحتاج إلى تثبيت الوكالة في كل فرد فرد انتهى. وأقول: أما الطرف الأول وهو التصادق على الشركة في التصرفات، فإن أراد أن التصادق بينهم كائن على أن ما حصل لهم من الربح كان مقسومًا بينهم على كذا، وما ¬

(¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) كلمة غير واضحة في المخطوط. (¬3) انظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (30/ 73، 76، 77) "الاختيارات للبعلي" (ص253).

حصل من الخُسْرِ كان عليهم على كذا فلا شكَّ أن هذا لا إشكالَ فيه، أولا خصومة [3أ] بين المتصاقينَ بهذه المصادقة، وإن أراد التصادُقَ الكائنَ منهم هو مجردُ التصادق على الاجتماع في الحاصل والمستفاد فهذا تصادقٌ لا يقطعُ خصومةً، ولا يقال إنه لا إشكال فيه، لأنه لا تلازُمَ بين هذا التصادق وبين كيفية قسمة الربحِ والخسرِ بين المشتركين، لا شرعًا، ولا عُرْفًا، ولا عقلاً. وأما ما ذكره من الوجه الثاني من أنه يُحْكَمُ بالشركة للجميع في جميع ما جرى به التصرفُ، فيقال له: هلِ المرادُ مجردُ الاشتراك أعمُّ من أن يكونَ على الاستواء أو على الاختلافِ فلا جدوى في هذا الكلام، وإن كان المراد خصوصَ الاشتراكِ وهو الكائنُ على طريق التساوي بين الأقلّ مالاً، أو سعيًا، والأكثرِ مالاً أو سعيًا، فما هو المسوِّغُ الشرعي لمثل هذا؟ مع فرض اختلافِ قَدْرِ المال، وتبايُنِ صفةِ الأعمالِ؟ إن قال: إنْ ذلك لدليلٌ فأينَ هو؟ وإن قال: هذا هو راجعٌ إلى نوع من أنواع الشركة فما هو؟ وإن كان ذلك مجرد اجتهاد مجتهدٍ، أو تقليد مقلِّدٍ فلا تقومُ به الحجةُ، ولا يلزمُ قبولُه من حاكمٍ، ولا مخاصِمٍ، فكلُّ ما لم يُرْبَطْ بدليل تنتهضُ به الحجةُ لا تقومُ به الحجةُ. ومع هذا فلا نشكُّ أن هذا القائلَ ـ رحمه الله ـ لم يتكلَّمْ هاهنا على ما يقتضيه الاجتهادُ، بل على مقتضى ما قرره أصحابُنا، وقد عرفتَ أنهم صرَّحوا بأن الربحَ (¬1) والخسرَ في شركة الأبدان على قدرِ التقبُّل، وصرَّحوا بأن القولَ في تلك الأنواعِ المحرَّرةِ في كتبهم في شركة المكاسبِ لكلٍّ من الشريكين فيما هو في ديه فكلامُهم هذا الذي تكلَّم ابن حابس على مقتضاهُ يخالفُ فتواهُ، ويباينُ ما أبداه. وأما ما ذكره من الطرف الثالث فواضحٌ، وذلك وكالةٌ لا شركةٌ، وهو خارجٌ عن محلِّ النِّزاع، وهو مستفادٌ من كلام الإمام المتوكِّل على الله في المسائل المرتضاة حيث قال: إن الحاكمَ إذا عَلِمَ من حال الشركاء والأخوةِ التصرفَ عن الجميع فلا ينقضُ ما فعلَه ¬

(¬1) انظر "المغني" (7/ 113) وقد تقدم.

أحدُهم، والظاهرُ أنه وكيلٌ مفوَّضٌ. انتهى. وهذا كلامٌ صحيحٌ، لأن غايةَ ما فيه إن عَلِمَ الحاكمُ بأن ذلك التصرفَ الكائنَ على تلك الصفةِ يستفاد منه وقوعُ التوكيلِ والتفويضِ، وليس فيه ما يدلُّ على أن ذلك الذي وقع التصرفُ فيه [3ب] يكون للجميعِ، إما على الاستواء، أو على الاختلاف، بل هو أو قيمتُه لصاحبه، ولا يخرجُها عن ملكهِ ما وقع منه من قوائنِ التوكيلِ والتفويضِ، بل ذلك يوجبُ صِحَّةَ التصرُّف فقط، فإذا كان في الشراء كان ذلك الشيءُ المشترى لمن دفعَ الثمنَ، وإذا كان في البيع كانت قيمةُ ذلك المبيعِ لمالكه، لا لمن تصرَّف فيه بالوكالة المدلولِ عليها بالقرائن التي أفادت الحاكمَ العِلْمَ. ومن جملة كلامِ المتأخرينَ من أهل العلم في الشركة العُرفيةِ ما قاله شارحُ المسائلِ المرتضاة ولفظهُ: قلتُ: وما أحقَّ الحكامَ بين الناس بمعرفةِ هذه المسألةِ لكثرة حصورِ هذا الاشتراكِ على هذه الصفةِ، لا سيما بين الإخوة والقراباتِ، ويشارِكهُم في ذلك النساءُ، كالأخواتِ، والبناتِ، والزوجات بقيامهنَّ بعمل البيوتِ، وعمل الطعام، بطحنه وصَنعته، وتحصيل مَؤُنَةٍ من ماء، وحطبٍ، وغير ذلك مما لا تقومُ به الرجالُ، ولا ينتظم لهم مالُ الاكتسابِ والأعمال من حرثٍ وغيره، إلاَّ بقيام النساء بذلك. وقد يكون معهم أو مع أحدهم أولاد، ويقومُ كلُّ واحد منهم بعملٍ، ثم قد يحصل بعد ذلك تشاجُرٌ وترافعٌ إلى الحكام عند القِسْمَةِ، وترك الاشتراك، وانفراد كلٍّ منهم بعمله، وخاصَّةِ نفسه، ويريدُ بعضُهم الاختصاص بشيء من المكتسبات، أو أن يجعلَ أكثَرَ من أنصباءِ شركائِه، ويدلي بكثرة العمل من قبله، أو يكون عملُه أنفعَ، أو أجْلَبَ للمصالح التي يرتزقُ منها كالبيع والشراء، وقد يريد الجميع أو البعضُ حِرْمان النساء، ويعتقدون أنه لا حَظَّ لهنَّ في الاشتراك مع قيامهنَّ بما ذكر من أمر البيوتُ الذي لا عمل أنفعُ، ولا أجلبُ للاكتساب منه، وكلُّ ذلك لاي قتضي شيئًا من الاختصاص ولا التفصيل، وإنما يُقْسَمُ الكلُّ على لؤوس المشتركين المجتمعين على التعاون في الأعمال، وقيام كلٍّ منهم بعملٍ من الرجال والنساء، وإن حصلَ في الأعمال تفاوتٌ بجهةِ كثرةِ عملِ أحدهم، أو

زيادة نفعه فلا تأثيرَ له، لما ذكره الإمامُ شرفُ الدين ـ عليه السلام ـ من وقوع التراضي بمشاركة ذي الأقل في العمل، وجرى العرفُ بالاستواء، ويمكن أن يُحتَجَّ لذلك بما روى عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي ـ عليه السلام ـ أن رجلين كانا شريكين على عهد رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فكان أحدُهما مواظبًا على السوق والتجارة، والآخر مواظبًا على المسجد والصلاة، فلما كان وقتُ [4أ] قسمةِ الربح قال صاحب السوق: فضِّلْني في الربح؛ فإني كنت مواظبًا على التجارة، فقال النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "إنما كنت ترزقُ بمواظبة صاحبك على المسجد" رواه في الشفاء (¬1)، ونحوه في أصول الأحكام والمجموع الذي في الجامع عن أنس قال: كان أخوانِ على عهد رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فكان أحدهما يحترفُ، وكان الآخر يلزمُ رسولَ الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ ويتعلَّمُ منه، فشكى المتحرفُ أخاه إلى رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فقال: "لعلك به ترزقُ" رواه الترمذيُّ (¬2)، وينبغي للشركاء تخصيصُ ذي الأكثر عملاً بشيء، أو تفضيلُه مكافأةً له وتطييبًا لنفسه، لأنه محسنٌ، وما جزاءُ الإحسانِ إلاَّ الإحسانُ، والله أعلم. انتهى. أقول: محصّضلُ كلامشه هذا أنه يُقْسَمُ الحاصلُ على الرؤوس، من غير فرقٍ بين الكبير والصغير، والذكر والأنثى، وصاحب المال ومن لا مال له، وصاحبِ العمل الكثير ومن لا عمل له، وغيرُ خافٍ عليك أن الأصلَ في أموال المسلمين العصمةُ، وأنها لا تحلُّ إلا بطيبة نفس، ولا تؤكل بالباطل كما صرَّح به الكتابُ العزيز والسُّنَّةُ المطهرة "إنما أموالكم ودماءكم عليكم حرامٌ" (¬3) كما صحَّ ذلك عن رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، فكيف يَحِلُّ لمن لا مالَ له مثلاً أنْ يشارك صاحب المال في المكتسبات من ¬

(¬1) "شفاء الأوام" (3/ 36) بدون سند. (¬2) في "السنن" رقم (2345) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وهو حديث صحيح. (¬3) تقدم تخريجه.

ذلك المالِ، أو يحلُّ لمن لا سعيَ له أن يشاركَ من له سعيٌ في عملٍ بتحصيلٍ منه مكتسباتٍ لا عمل لغيره فيها! وتكون تلك المشاركةُ بمجرد أ، هم يجتمعونَ في تحصيل الطعام والشرابِ، ويقومُ كلٌّ منهم بشيء منه، ويجتمعون على أكله، أوا شتركوا في غيره اشتراكًا لا يوجبُ التسويةَ، كأن يكون لأحدهم من المستغلات ما يتحصلُّ ألفَ درهم، وللآخَرِ ما يتحصلُ منه درهمٌ، أو يسعى أحدُهم سعيًا يكون الحاصلُ منه مثلُ عُشْرِ معشارِ الحاصلِ من سعي الآخرِ! فهل يوجبُ العدلُ الذي قامت به السمواتُ والأرضُ أن يُقْسَمَ الحاصلُ بينهما على السوية؟ وما الوجه في الحكمِ بهذا؟ إن كان لدليل من كتاب أو سنة يقتضي ذلكفما هو؟ وإن كان لحصول المناط الشرعي، وهو الرضى وطيبةُ النفس، فالمفروض أنَّهم في الخصومة، وكلُّ واحد منهم يطلبُ ما يوجبهُ الشرع، وينكرُ الرضى بغيره، وإن كان ذلك تقليدًا للإمام شرف الدين من وقوع التراضي بمشاركة الأقلِّ في العمل، وجرى العرفُ [4ب] بالاستواء، فقد عرَّفْنَاكَ فيما سلف على كلام الإمام شرف الدين بما يغني عن الإعادة، ويستقلُّ بالإفادة؛ إذ المفروضُ في هذه الشركة العرفية الواقعة في هذه الأزمنة أنه لا تراضي، وأن العُرْفَ المدعَى غيرُ كائنٍ، ولو سلَّمَ وجودُهُ في تلك الأزمنةِ فوجُودُهُ في هذه الأزمنة غيرُ مسلَّمٍ كما قدمنا تقريرَهُ. ولا يخفى على مَنْ له ممارسةٌ لأحوال الناس، وخبرةٌ بما يجري بينهم أنه لو عَلِمَ صاحبُ المال والسعي الكثيرِ أن من لا مالَ له، أو له سعيٌ حقيرٌ سيشارِكُه في المكتسباتِ الحاصلةِ من غِلاَّتِ أمواله، أو من سعيه، ويأخذُ مثلَ نصيبهِ بمجرَّدِ المشاركةِ له في أيسرِ عمل، وأحقرِ سعي لم يرضَ بالشركةِ قطُّ، بل المعلومُ أنه كان سيفرُّ منها فِرارًا شديدًا، ويأباها إباءً عظيمًا، وكيف يحسنُ بالعالمِ بل العاقلِ أن يحكمَ جزمًا، ويقطعَ بتًّا بأن من كان له مثلاً من المستغلاتِ أو الأعمالِ ما يحصلُ منه في العام ألوفٌ مؤلَّفَةٌ من الدنانير يرضى بمشاركة من لا يحصلُ له درهم ولا دينارٌ! وليس له إلاَّ مجردُ سعيٍ خفيفٍ، ومعاونةٍ في أمر حقير! فهل يقولُ بهذا قائلٌ، أو يسوِّغه عقلُ عاقلٍ! حتى يجزمَ بأنه

الظاهرُ ويرتبُ عليه قسمةُ المالِ على السويةِ! فإن العاقلَ إذا رجع في مثل هذا إلى عقلِه علمَ الأمرَ بالعكس، وأن الأصل والظاهرَ يشهدانِ بخلاف ذلك، والمتشرعُ، إذا رجع إلى الشرعِ علمَ أن الشرعَ قاضٍ بعصمة الأموالِ {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (¬1)، "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرامٌ" (¬2)، "لا يحلُّ مالُ امرئ مسلم إلاّض بطيبة من نفسه" (¬3). فأقلُّ الأحوال أن يكون القولُ قولَ صاحبِ المال الكثيرِ، أو السعي الواسعِ بأنه لم يرضَ بمصير شيءٍ منه إلى غيره حتى يقومَ البرهانُ على وقوع الرضى منه، وحصولِ طيبةِ النفسِ به، مع أن عدمَ الوقوعِ يُسْتَفادُ من العقل، وهو كون الأصل عدمَ وقوع الرضى، لاتفاقِ العقلاءِ على أن المَلَكاتِ مسبوقةٌ بالعدمِ، وأن الأصلَ في كل شيء له وجودٌ خارجيٌّ أو ذِهنيٌّ إذا حصل النزاعُ في وجوده أنه غيرُ موجودٍ، حتى يقومَ الدليلُ على وجوده قيامًا يقبله الخصمُ، والإمامُ شرفُ الدين ـ رحمه الله ـ إن كان كلامُهُ في الخصومات التي قد تقرر حصولُ الرضى من أهل الشركةِ العُرفية فيها بالاستواء في جميع المكتسبات كما يدلُّ عليه ظاهر كلامِه السابِق الذي نقلناه عنه فهذا مسلَّمٌ لا ينبغي النزاع فيه، ولا المخالفةُ له. وإن كان في كل شركةٍ عُرفيةٍ سواءٌ حصلَ الرضى [5أ] أو لم يحصلْ استدلالاً بما ذكره من جَرْي العُرْفِ بالاستواء فقد عرفناك أن جريَ مثلِ هذا العرفِ في زمنه لا يستلزمُ جَرْيَهُ في غيره من الأزمنة، لا سيَّما الأزمنةُ التي قد عُلِمَ من أحوال أهلها ما يخالفُ ذلكَ، وعرفناك أن الإجماعَ كائنٌ على أنه لا يُحٍْكَمُ بعرفٍ جرى بين قومٍ على قوم آخرينَ لم يجرِ بينهم ذلك العرفُ، فإنه لو جرى العرفُ بين طائفةٍ من الناس في قطر من الأقطار أن الإدامَ تختصُّ عند الإطلاقِ بالسمنِ، وعند آخرينَ في قطر آخرَ أن الإدامَ إذا أُطْلِقَ اختصَّ بالزيت لم يقل قائلٌ من أهل العلم أن من حلفَ: لا آكلُ ¬

(¬1) [البقرة: 188]. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه.

طعامًا مأدومًا من إحدى الطائفتين يحنثُ بما يُسَمَّى إدامًا عند الطائفة الأخرى، وهذا أمرٌ يستغني عن الإيضاح، ولا يحتاجُ إلى البيان. ولكنا أردنا بمثل هذه التكريرات والترديدات اشتراكَ المقصِّرِ والكاملِ في الانتفاع بمثل هذ البحث، لكثرة ورود هذه الشركة العرفية في هذه الأزمنة، فالإمام شرفُ الدين أجلُّ قدرًا، وأعلى محلاً أن يقولَ بأصله الرضى في مثل ذلك، أو يحكمَ بِعُرف يخالفه، فليس لأحد أني قول في قضيةٍ اختصمَ فيها جماعةٌ بينهم شركةٌ عرفيةٌ لم يثبتْ بينهم فيها تراضٍ، ولا جرت فيها أعرافٌ أنه قال الإمامُ شرف الدين كذا، ومن قال ذلك فهو لا يفهم كيفيةَ التقليد، فضلاً عن أن يكون مفتيًا أو قاضيًا، بل لا يفهم كلامَ أهلَ العلم. فإن قلتَ: قدر أشار صاحبُ الكلام السابقِ بأنه يمكن أن يحتجَّ لما ذكره من التسويةِ بين المشركين شركةً عرفيةً بقصةِ الرجلينِ المشركينِ على عهد رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فكان أحدهما مواظبًا على السوق والتجارة، والآخرُ مواظبًا على المسجد في الصلاة، فلما كان وقتُ قسمةِ الربح قال صاحب السوق: فضِّلْني في الربح، فإني كنت مواظبًا على التجارة فقال النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "إنما كنتَ تُرْزَقُ بمواظبة صاحبك على المسجد" (¬1). فيقال للمستدلّ بهذا الحديثِ: أخبرنا ما هذه الشركةُ التي دخلَ فيها هذان الرجلان؟. إن قلت: هي الشركةُ العرفيةُ التي كلامنا الآن فيها طالبناك بالدليل على ذلك، فإن هذه الشركةَ العرفيةَ لم يسمعْ بها الموجودونَ قبل القرن العاشرِ، فضلاً عن أن يسمعَ بها [5ب] أهلُ عصرِ النبوَّة. وإن قلتَ: إنها شركة من شرك المكاسبِ المعروفةِ، وليست بالشركة العرفية فهذا لا ¬

(¬1) تقدم تخريجه: وهو حديث صحيح.

ينفعُكَ ولا يضرُّنا؛ فإن شركَة المفاوضةِ (¬1) قد حصلَ فيه التراضي المسوِّغُ للاشتراك في ¬

(¬1) سمي هذا النوع من الشركة مفاوضة لاعتبار المساواة في رأس المال والربح وفي القدرة على التصرف وغيرها. وقيل: لأنَّها شركة عامة في جميع التجارات، يفوض كل واحد من الشريكين أمر الشركة إلى صاحبه على الإطلاق. وقيل: هي من التفويض لأن كل واحد منهما يفوض التصرف إلى صاحبه على كل حال في غيبته وحضوره. وقال المالكية والشافعية: سميت مفاوضة من تفاوض الرجلان في الحديث شرعا فيه جميعًا. وفي الاصطلاح: أن يتعاقد اثنان فأكثر على أن يشتركا في عمل بشرط أن يكونا متساويين في رأس مالهما وتصرفهما ودينهما أي (ملتهما) ويكون كل واحد منهما كفيلاً عن الآخر فيما يجب عليه من شراء وبيع، أي أن كل شريك ملزم بما ألزم شريكه الآخر من حقوق ما يتجران فيه، وما يجب لكل واحد منهما يجب للآخر، أي أنهما متضامنان في الحقوق والواجبات المتعلقة بما يتاجران فيه ويكون كل واحد منهما فيما يجب لصاحبه بمنزلة الوكيل له وفيما يجب عليه بمنزلة الكفيل عنه. فهما يتساويان في رأس المال وفي الربح، فلا يصح أن يكون أ؛ دهما أكثر مالاً من الآخر، كأن يملك أحدهما ألف دينار والآخر خمس مئة ولو لم يكن المبلغ مستعملاً في التجارة، أي أنّه لا يجوز أن يبقيا شيئًا من جنس مال الشركة إلا ويدخلانه في الشركة، ويشترط التساوي في التصرف فلا تصح بين صبي وبالغ ولا بين مسلم وكافر. ولا يصح أن يكون تصرف أحدهما أكثر من تصرف الآخر. فإذا تحققت المساواة الكاملة انعقدت الشركة، وكان كل واحد منهما وكيلاً عن صاحبه وكفيلاً عنه يطالب بما يعقده صاحبه، ويسأل عن جميع تصرفاته. فإذا اختل شرط من هذه الشروط، أو تملك أحد الشريكين مالاً يصلح أن يكون رأس مال لشركة العقد، تحولت الشركة إلى شركة عنان، لعدم تحقق المساواة. وعلى هذا فإن هذه الشركة تتطلب الاشتراك بين الشريكين في كل مالهما من الحقوق كإرث نقدي وركاز ولقطة، وما عليهما من الواجبات التي يلتزم بها كل واحد من دين بسب التجارة واستقراض وضمان عصب وقيمة متلف وأرش جناية على الدابة أو الثوب مثلاً ونحوها من مغارم الأحوال في قول أبي حنيفة ومحمد. وقد أجاز الحنفية والزيدية هذه الشركة. - والواقع أن شركة المفاوضة بالمعنى المذكور عند الحنفية غير متيسرة الوجود إن لم تكن متعذرة التحقيق. - أما المالكية: فأجازوا شركة المفاوضة: وهو أن تعقد الشركة على أن يكون كل شريك مطلق التصرف في رأس المال استقلالا، دون حاجة إلى أخذ رأي شركائه، حاضرين أم غائبين، بيعا وشراء وأخذا وعطاء .... " وهذا المفهوم شركة المفاوضة عند المالكية لا خلاف فيه عند الفقهاء. - أما شركة المفاوضة بالمعنى الذي ذكره الحنفية والزيدية، فلا يجيزها الشافعية. والحنابلة وجمهور الفقهاء: 1 - لأنه عقد لم يرد الشرع بمثله. 2 - لأن تحقق المساواة بالمعنى المطلوب في هذه الشركة أمر عسير. 3 - لأن فيها غررًا كثيرًا وجهالة لما فيها من الوكالة بالمجهول والكفالة به فلم تصح كبيع الغرر. قال الشافعي رضي الله عنه: "إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة فلا باطل أعرفه في الدنيا". "الأم" (7/ 286). انظر: "المغني" (7/ 122 - 125)، "البدائع" (6/ 58)، "المبسوط" (11/ 153، 177).

الربح على السوية، ثم العقد بالرضى أتم إشعار، وشركة العنان (¬1) قد حصل فيها أيضًا من هو من أعظم أدلة الرضى، وهو العقد والخلط، مع أن الربح والخسر فيها يتبعان المال، فيكون لكل واحد بقدر ماله من غير نظر إلى العمل، وشركة الوجوه (¬2) قد حصل ¬

(¬1) قال ابن قدامة في "المغني" (7/ 122 - 123). شركة العنان: أن يشترك رجلان بماليهما على أن يعملا فيهما بأبدانهما والربح بينهما. وهي جائزة بالإجماع. ذكر ابن المنذر. وإنما اختلف في بعض شروطها. واختلف في علة تسميتها شركة العنان: فقيل: سميت بذلك لأنهما يتساويان في المال والتصرف. كالفارسين إذا سويا بين فرسيهما وتساويا في السير. فإن عنانيهما يكونان سواء. وانظر: "مجموع الفتاوى" (25/ 62)، "المبسوط" (11/ 151). (¬2) شركة الوجوه: وهي أن يشترك الرجلان ولا مال لهما، فيشتريان السلع بالدين بناء على ثقة التجار بهما، أي بوجاهتهما، ويبيعان، وما يرزق الله من الربح فهو بينهما على ما شرطا. وهي جائزة. انظر "مجموع الفتاوى" (30/ 74، 81)، "المجموع" (14/ 63 - 64).

التراضي فيها على أن يكونَ أحدُهما وكيلاً للآخرِ يجعلُ له فيما اشترى أو استدانَ حرًا معلومًا، ويتَّجر فيه، والربحُ والخسر فيها يكونان على قدر ما أضيفَ إلى كل واحد منهما من ذلك المال المشترى أو نحوه، وشكرةُ الأبدان قد حصل التراضي أيضًا بين أهلِها. وقد تقدم بيانُ ماهيَّتِها فعرفتَ أن هذه الشِرَكَ الأربعَ الرضى فيها موجودٌ، والمفروض في الشركة العرُرفية عدم وجوده، بل وجود الخصومة فيه. فإن قلتَ: ما الذي ينبغي أن يُحْمَلَ عليه الحديثُ من هذه الشركة؟ قلت: ينبغي أن يُحْمَلَ على الشركة التي كان الناسُ يتعاملونَ بها في زمن النبوة، وهي شركة العنانِ، بل وقعت من روس الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ كما أخرجه أهل السننِ (¬1) إلاَّ الترمذيَّ أن السائبَ بنَ أبي السائب كان شريكَ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في أول الإسلام في التجارةِ، فلما كان يومُ الفتح قال: "مرحبًا بأخي وشريكي، ولا يداري ولا يماري". وأخرجه أيضًا أبو نعيم في المعرفة (¬2)، والطبرانيُّ في الكبير (¬3)، والحاكم (¬4)، وصحَّحَهُ؛ فإن هذه الشركة وسائر الشرك التي كان يفعلُها الصحابة، بل وأهل الجاهلية قبلهم هي أن يجمع الشريكان ما معهما من النقد، ويجعلاهُ ثمنًا لشيء من أنواع التجارة، على أن يكون الربح بينهما على قَدْرِ المالِ، وقد يقع نادرًا بين الصحابةِ شركةُ الوجوهِ كما ¬

(¬1) أبو داود في "السنن" رقم (4836) وابن ماجه رقم (2287) والنسائي عزاه إليه المنذري في المختصر (7/ 187 رقم 4669). (¬2) "معرفة الصحابة" رقم (3456). (¬3) رقم (6618). (¬4) في المستدرك (2/ 61). وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي وخلاصة القول أن الحديث صحيح والله أعلم.

أخرجه البخاريُّ (¬1) من حديث زهرةَ بن معبدٍ عن جدِّه عبدِ الله بن هشام، وكان قد أدرك رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فدعا له بالبركة أنَّ ابنَ عمرَ، وابنَ الزبير كانا يليقيانِه في السوقِ فيقولان له: أشرِكْنا فيما شريتَ؛ فإنَّ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ قد دعا لك بالبركة، فيشرِكُهُما، فربما أصاب الراحلة كما هي فيبعث بها إلى المنزل. فإذا عرفت أن الشركة [6أ] المذكورة في الحديث هي الشركة المعروفة بالعنان في لسان أهل الفقه، لأنها هي الأعمُّ الأغلبُ في شركة العرب لم يكن في ذلك دليلٌ على ما نحن فيه من الشركة العرفية، لأن شركة العنان الربح والخسر فيها على قدر المال، والمستدلُّ بالحديث يقول في الشركة العرفية أنَّ الربح يُقْسَمُ على التسوية من غير تفضيل، وإن كان المال متفاضلاً، بل وإن كان أحدُ الشركاء لا مالَ له إذا قام بعملٍ من الأعمال وإن قلّ، ومما يفيد أن الشركة المذكورة في الحديث هي شركةُ العنان قولُه فيه: فلما كان وقتُ قسمة الربحِ؛ فإنَّه يشعِرُ بأن لقسمة الربح وقتًا معلومًا عندهما، وهذا لا يكون في الشركةِ العرفية إنما يكونُ غالبًا في شركة العنان، ووجهٌ آخرُ أيضا، وهو أن وجود الربح مشعرٌ بوجود رأس مال ينشأ عنه الربح. فإن قلتَ: إذا كان الأمرُ على ما تقولُه فالربحُ والخسرُ يتبعان المالَ، فما وجه طلب من كان مقيمًا في السوق أن يفضِّلَهُ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ على صاحبه؟ قلتُ: وجههُ أنه لما كان هو العاملُ وحدَه في تحصيل سببِ الربحِ له ولشريكه اعتقدَ أنه يستحقُّ زيادةً بسبب انفراده بالسعي، على أن هاهنا مانعًا من استدلال مَنِ استدلَّ بالحديث المذكور على ما يزعمُهُ من الاستواء في الشركة العرفية، وهو أنّ الحديث قد دلّ على ثبوت الشركة العرفية على فرض صحة حمله عليها، وإن لم يكن لأحدِ الشركاء عملاً أصلاً كما كان الذي هو ملازمٌ للمسجد، وهم يجعلون ماهيَّتها التكافؤ في ¬

(¬1) في صحيحه رقم (2501) و (2502) وطرفه رقم (7210، 6353).

الأعمال. فإن قلتَ: إذاكان معنى الحديثِ باللفظ المذكور هو ما ذكرتَِ، فهل يكون محمولاً باعتبار لفظه الآخر الذي ساقَه المستدلُّ به حاكيًا له عنا لترمذي من حديث أنس قال: كان أخوان على عهد رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فكان أ؛ دُهما يحترفُ وكان الآخر يلزمُ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ ويتعلَّم منه، فشكى المحترفُ أخاُ إلى رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فقال: "لعلكَ به تُرْزَقُ" على ما حُمِلَ الحديثُ الأولُ؟. قلتُ: لا؛ فإن الروايةَ ليس فيها ما يدلُّ على اشتراكٍ أصلاً، ولا ما يشعر بربح، ولا مُكْتَسَبٍ، بل غاية ما فيها أن أحدَ الأخوين كان يعاني المعاشَ، ويلازمُ الاكتساب فيما يسدُّ فاقَتَهُ هو وأخوه [6أ]، ويقومُ بما يحتاجان إليه مع من يَعُولانِ، فشكى القائم بالحرفة المشتغل بالمعاش إلى رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ طالبًا منه أن يُلْزِمَ أخاه يعاونَه في تحصيل ما يحتاجان إليه، ويجعلَ لنصيبه من الدنيا وحصّتِه من أسبابا الرزق نصيبًا من أوقاته، فرغَّبه رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ ترغيبًا لا حَتْمَ فيه، ولا إلزامَ بأن يدع أخاه يلزمُ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ ويُفَرِّغَ نفسه للآخرة، معللاً ذلك بأنه قد يكون مجلبةً للرزق، قائلاً ذلك على طريق الترجي، قائمًا مقامَ الترغيب، فليس فيهذا من الدلالة على نوع من أنواع الشِّرَك شيءٌ، لا شِرَكُ المكاسب، ولا الشركةُ العرفية كما لا يخفى علىمن له فهمٌ لفقد ماهية كلّش واحدة منها، أما ماهية شِرَكِ المكاسب الأربع فظاهرٌ، وأما ماهيةُ الشركةِ العرفية ولا وجودَ للمكافأة في الأعمال، بل غايةُ ما فيه الترغيبُ للقادرِ على الكسبِ المتصدِّي له أن يدعَ مَنْ كان مشنْ قرابته مشتغلاً بالطاعةِ، ويقومَ بما يحتاجُ إليه من النفقة، وما يتبعُها؛ فإن ذلك باب الصِّلَةِ لِرَحِمِهِ، والإعناة لطالب الخير على مطلبه. فإن قلتَ: قد تعقَّبْتَه بما تكلَّم به المتأخرونَ على الشركة العرفية بهذه التعقبات، وأوضحت عدم انطباق بعض منه على محلِّ النزاع، وخروج البعض الآخر عن دائرة

الإنصاف، وعدم صلاحية ما جعلوه دليلاً على ما قالوه للاستدلال، فما الذي ينبغي اعتمادُه على ما تقتضيه الأدلةُ الشرعيةُ، وتوجبه الملَّةُ الإسلامية، وتوافقه المسالكُ الاجتهادية؟ قلتُ: قد تقرَّر بالأدلة الشرعية، والضرورة الدينية أن أموالَ العباد معصومةً، لا يحلُّ منها شيءٌ إلاّ بالمناط الشرعيّ، أما كونُها معصومةً لقوله تعال: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (¬1)، ولما ورد من الأدلة كتابًا وسنةً في لزوم العدل، وتقبيح الظلم، والنهي عنه، ووصف الآكلين لأموال اليتامى بأنهم {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (¬2)، وما صحّ عنه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في خُطْبَة الوداع قائلاً: "إنما دماءكم وأموالكم عليكم حرامُ" (¬3)، وقوله: "لا يحلّث مالُ امرئ مسلم إلاّض بطيبةٍ من نفسه" (¬4). وأما المناط الشرعيّ الذي تحلّ به هذه العصمةُ فما ذكره الله ـ عز وجل ـ من التراضي في قوله: {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ}، وما ذكره النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في هذا الحديث من طيبةِ [7أ] النفسِ، وهذا ليس فيه خلافٌ بين المسلمين أجمعينَ، بل هو إجماعٌ معلومٌ لكلِّ مشتغل بالعلم. ولا ينافي ذلك اشتراط من اشترطَ في بعض التصرفات ألفاظًا مخصوصة، أو صفاتٍ معينةً. وإذا تقرر هذا علمتَ أن مجرد اجتماع جماعةٍ في بيت يتكافؤن في تحصيل أسباب المعاش، وهذا الاجتماعُ المذكور هو المعروفُ بالشركةِ العرفيةِ لا يوجب خروجَ ما هو في ملك أحدِهم من الغلاَّت الحاصلةِ له من أموالِه، أو ما حصلَ من المكاسبِ بسعيهِ ¬

(¬1) [البقرة: 188]. (¬2) [النساء: 10]. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) تقدم تخريجه.

المختصّ به إلاّ بحصول المناط الشرعيّ، وهو الرضى، وطيبة النفس، فإن كان هذا المناط حاصلا إما بوقوع المصادقة من أهل الشركة العرفية على أنّهم تراضَوْا على الاشتراك في جمع ما يحصُلُ من سعيهم، وغِلاَّتِ أموالهم بأن يكونَ بينَهم على السويةِ، أو يكونَ بينهم على صفةٍ من صفات القِسمة يتضمَّنُ تفضيلَ البعض على البعض، أو يكون هذا المناطُ حاصلاً بقيام مُستَنَدًا للأحكام الشرعية فلا شكَّ ولا شبهةَ أن ما حصل لهم بعد التراضي يكونُ مشتركًا بينَهم على حسب ما تراضوا عليه، ولا يزال كذلك حتى يرجعوا أو بعضُهم عن ذلك التراضي، فإذا وقع الرجوعُ ارتفعَ المناط، وعادت أموالُهم أو أموالُ مَنْ رجع إلى تلك العصمة، فيكون له منوقت الرجوع ما حصل من غِلاَّتِ أمواله، وما استفاد من سعيه، وهذا أعني: كون التراضي مناطًا محلّلاً لما حصل لهم مشروطًا بأن لا يكونَ فيه حيلةٌ على صبيٍّ، أو امرأةٍ، أو مَنْ لا درايةَ له من الرجالِ. أما إذا كان كذلك بطلَ منه ما تضمنتْه الحيلةُ، وصح ما عداه، وفي حكم هذه المصادقةِ على التراضي أن يكونَ بين أهل ذلك المحلِّ عُرْفٌ يعلمُهُ كلُّ واحد من أولئك المشتركين على وجهٍ لا يخفى ولا يلتبسُ بأن من اجمتعوا هذا الاجتماع، واشتركوا هذه الشركة كان ما حصل من أموالهم، أو كَسْبِهم مقسومًا بينهم على السوية، أو على حسبِ الأموال والسعي، فإذا كانا لعرفُ كائنًا على الصفة المذكورة كان دخولُهم في الشركة المذكوة بمنزلة التراضي بما يقتضيه العرفُ، ويكونُ هذا بمنزلةِ الألفاظ المشعِرَةِ بالتراضي في دلالتها [7ب] على ما في النفس، لأن الرضيى هو أمرٌ قلبيٌّ، وليستِ الألفاظُ المشعِرَةُ به إلاَّ دوالاًّ عليه، ولا تختصُّ الدلالةُ على هذا الأمرِ القلبيّ بالأمور اللفظية، بل كل مالَه دلالةٌ على ذلك الأمر القلبيِّ فله حكمُ اللفظ، كالإشارة المفهِمة، وما يقوم مقامَها، فهكذا الأعرافُ الجاريةُ المعلومةُ التي لا تختلف، ويشترك في العلم بها كلّ فردٍ من أفراد المشتركين، فإنها لا تُفَسَّرُ في كونها دالةً على الأمر القلبيِّ عن الألفاظ والإشاراتِ والكتاباتِ، أما إذا لم يكن ثَمَّ تراضٍ ولا عُرْفٌ، أو وُجِدَتْ أعرافٌ

مختلفةٌ غيرُ مؤتلفةٍ فاجتماعُ جماعةٍ على الشركة العرفية لا يخرجُ ما حصلَ لكل واحد منهم عن العصمة، بل الواجب عند الخصومة إرجاعُ ما هو من غلات كلّ واحد منهم إليه بعينه إن كان باقيًا، أو مثلُه إن كان مثلَها، أو قيمتُه إن كان قيِّمًا، وهكذا يجب إرجاعُ ما حصَّلَه كلُّ واحد منهم من كسبِه بعد أن يُحْسَب عليه منه ما قدِ استهلكَهُ لنفسه ولمن يجبُ عليه إنفاقُه. فإن قتلتَ: إذا كانوا قدِ استمرُّوا على الشركةِ أزمنةً متطاولةً، وخلطوا ما حصلَ لكلِّ واحد منهم من الجهتين، واستنفقوا منه ما استنفقوا، وبقيت منه بقايا بأعيانها، أو كانوا قد اكتسبوا بما يفضُلُ عن كفايتهم مكتسباتس من منقولٍ أو غير منقول؟. قلتُ: يُقْسَمُ ذلك بينهم على قَدَرِ ما يحصلُ لكل واحد منهم من أملاكه وسعيه، فيكون لصاحبه النصيب الفاضل بقدر نصيبه، ولصاحب النصيب المفضول بقدر نصيبه، هذا إذا كان الدخول من مجموع غِلاَّت الأملاك والسعي، وإن كان من أحدهما فقط فبحسبه، وكثيرًا ما تعرضُ الخصومةُ بين جماعة مشتركينَ شركةً عرفيةً قد كسبوا بما فضُلَ عن نفقتِهم أموالاً، ولا سعي يختصُّ به أحدُهم، بل جميعُ سعينهم فيما يتعلَّق بحرث تلك الأملاك وإصلاحها، وحفظ غِلاَّتها عن الضياع، كما فعلُه الزُّراعُ، ومثل هذا ينبغي أن يَنْظُرَ الحاكمُ ما يقابل عمل العاملين، فيعطي كلَّ واحد منهم من تلك المكتسبات فاضُل الغلات بقدر عمله، ثم ينظرُ بعد أخراج أُجْرَةِ العاملينَ إلى ما بقي فيقسِمُهُ لأهل الأملاكِ التي حصلتْ منها الغلّةُ لكل واحد منهم بقدرِ مالِه، ويجهدُ نفسَه في الاستقصاء والتقريب والتحرِّي، فهذا هو العدلُ الذي يقتضيه الشرعُ، ولا عدلَ غيرُه، ولا شرعَ سواه [8أ]، لأنه إذا تعذّر إعطاءُ كلِّ ذي حقٍّ حقّه عَيْنًا أو مِثْلاً أو قيمَةً وجبَ الرجوعُ مع الاختلاطِ إلى القسمةِ التي شرعَها الله ـ عز وجل ـ بعد إسقاط ما استغرَقهُ كلُّ واحد منهم لنفقةٍ أو كسوةٍ أو غرامةٍ في نكاحٍ أو غيرِه من نصيبِه، وكذلك ما استغرقه مَنْ يجب عليه نفقتُه كما قدمنا. فإن قلت: قد يصعُبُ إعطاءُ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه بالقسمة على فرض اختلاف

المتغَلاَّتِ، واختلاف صفة السَّعي في المكاسب، فربَّما كان بعضُهم عاملاً في إصلاح المستغَلاَّتِ وتثميرِها، وبعضُهم كاسبًا بالتجارةِ، وبعضهم بأعمال يعملُها مع الملوك وأعوانِهم، ويكون لكلِ واحد من الدخولات ما يصعبُ ضبطهُ، ومن المستغرقات ما يبعدُ الوقوفُ عليه. قلتُ: ليس على من يتولَّى خصومتَهم، ويتصدَّرُ لِقِسْمَتِهم إلاَّ إبلاغُ الجهدِ، وإمعانُ النظرِ على وجهٍ لا يكون غيرُه أقرب منه، وليس عليه غيرُ ذلك، ولا يُكلَّفُ بما يخرجُ عن طاقتِهِ، فينظرُ غالبَ ما يحصِّلُه كلُّ واحد منهم من كسبه، وغالبَ ما يستغرقُهُ من الأرباح، ويعمل على ذلك. ومن ادَّعى زيادةً على ما هو الغالب، أو نقصًا كان عليه البيِّنةُ. وإذا أضافَ بعضُ المشتركينَ شيئًا من المكتسبات إلى نفسه فهذا على وجهين: أحدُهما: أن يكون قد سبقَ التراضي بينَهم على أن يكون ما كسبُوه بينهم على الاستواء، أو أن يكونَ لكل واحد منهم نصيبٌ معلومٌ. الثاني: أن لا يكون قد سبق بينهم تراض، ولا وُجِدَ عُرْفٌ مُتَّفقٌ عليه، معمولٌ به. فالوجه الأول: يكون العمل فيه على التراضي، ولا حُكْمَ لما وقع من الإضافات المخالفةِ له، بل هي لاغيةٌ باطلةٌ، لأنَّ المضيفَ قد سبق منه ما هو مناطٌ شرعيٌّ مخالفٌ لما خصَّ به نفسَه من الحِيَل الباطلة، والاستبدادِ المردود. ومَنْ جَعَلَ لتلكَ الإضافة المخالفةِ للتراضي حكمًا فهو لا يعقلُ ما توجِبُهُ المناطاتُ الشرعيةُ من بطلان ما يردُّ عليها مما يخالفُها، فيشتركُ المجتمعون في الأعيان المكسوبةِ على قدرِ ما تراضَوْا عليه، ولا اعتبارَ بالتخصيص. وأما الوجهُ الثاني: وهو عدمُ وجودِ التراضي بينَهم على صفة معلومةٍ في قسمة ما حصلَ لهم، فمن أضاف إلى نفسه شيئًا صار ملكًا له، لأن تلك الإضافة مناطٌ شرعيٌّ غيرُ مسبوقٍ بمناطٍ يخالفُه، فيختصُّ المضيفُ بما أضافه إلى نفسه كائنًا ما كان، ويحسب عند قسمة ما استفادُوهُ معهم من نصيب المضيف الحاصلِ له من مجموع ما حصلَ لهم من

الفوائد [8ب]، فإن كان ما أضافه إلى نفسه زائدًا على نصيبه من مجموع ما هو بينهم كان عليه تسليم ما يقابل نصيب غيره من ذلك الزائد ثمنًا لا عينا. وإذا خسر أحدهم، أو جنى، أو ظلم لغير وجه، فإن كان ذلك بسبب يختص به وجده لا يرجع إلى الجميع بوجه فهو محسوب عليه وحده من نصيبه، وإن كان لسبب يرجع إلى الجميع بوجه يقتضيه الشرع فهو على الجميع. فهذا جواب ما سأل عنه السائل ـ كثر الله فوائده ـ على طريقة الإجمال، وبه تحصل الفائدة في كل وجه من تلك الوجوه التي سأل عنها، ولا بأس بذكر كل وجه منها، وجوابه وإن حصل بذلك التكرير ففيه زيادة إيضاح، وتمام فائدة. أما الوجه الأول: أعني قوله: ما حكم الاشتراك بين جماعة اشتركوا في أعمال من دون عقد ... إلخ؟ فأقول: جوابه على التفصيل السابق فإن كانوا قد تراضوا على صفة من الصفات، وهيئة من الهيئات كان ما حصل لهم من النماء على ما تراضوا عليه، ولا فرق بين الفاضل كسبه وسعيه والمفضول، وإن لم يكن ثم تراض، ولا ما يقوم مقامه كان لكل واحد منهم بقدر سعيه وكسبه على الوجه الذي قدمناه. وأما الوجه الثاني: أعني قوله: من كان لهم مال مشترك، وأنصباؤهم متفاوتة، وسعيهم مختلف إلخ. فالجواب أنه يكون الحاصل من النماء بينهم على قدر الأموال والسعي؛ فيكون للفاضل مالا أو سعيا بقدر ماله وسعيه، وللمفضول بقدر ماله وسعيه ما لم يتراضو على صفة من الصفات لزمهم الوقوف عليها. وأما الوجه الثالث: أعني قوله: ما حكم من تساووا مالا وكسبا ولكن كان أحدهم صاحب عائلة ... إلخ؟ أقول: إذا لم يحصل التراضي كان ما استغرقه صاحب العائلة لنفسه ولعائلته محسوبًا

من نصيبه كما قدمنا. وأما الوجه الرابع: أعني قوله: من كان له دخل خاص ... إلخ. فالجواب: أنه إذا قد رضي بشيء لزمه ما رضي به وإن لم يرض كان له بمقدار ما دخل له مما يخصه إما عينًا، أو مثلا، أو قيمة، أو يقدره مما قد كسبوه. وأما الوجه الخامس: أعني قوله: لو اكتسب من نمى المشترك، وأضاف لنفسه ... إلخ. فجوابه: ما قدمنا من الفرق بين تقدم التراضي بينهم وعدمه فمع تقدم التراضي لا حكم للإضافة، بل يشتركون في عين ما أضافه، ومع عدمها يكون له محسوبًا عليه من نصيبه، فإن زاد على نصيبه حاسب بالزائد قيمة لا عينا [9أ]. وأما الوجه السادس: أعني قوله: لو كان ثم صبي ... إلخ. أقول: ليس على ولي الصبي إلا إمعان النظر في مصلحته بحسب ما يظهر له، فإن كانت المصلحة فيما يظهر له في ترك الصبي في الشركة العرفية تركه، وذلك بأن يكون أهلها من أهل الأمانة أو لهم أموال وسعي يكون بسبب ذلك انتفاع الصبي بما يفضل من غلات ماله انتفاعه زائدًا على ما يحصل له من النفع مع الانفراد، وأما إذا كانوا على غير هذه الصفات على وجه يحصل الظن بأنه لا نفع للصبي في البقاء معهم، أو أن نفعه أقل من نفعه مع الانفراد فإخراجه من تلك الشركة متحتم على وليه، وإذا حصل التقصير من ولي الصبي في طلب المصلحة له لم يلزمه ما وقع التراضي عليه بين المشتركين من المكلفين بل يحسب عليه ما يقوم بنفقته وكسوته ومؤن أمواله، ويرجع بالباقي على المشتركين. وأما ما ذكره في الوجه السابع: أعني قوله: لو اختلف المجتمعون ... إلخ. فأقول: إن كان الظاهر يشهد لما قاله أحد المختلفين كان القول قوله، والبينة على من يخالفه، وإن لم يكن ثم ظاهر بالبينة على مدعي أن له كسبا، وعلى مدعي أنه متفق من ماله فلا يثبت كسب مدعي الكسب إلا بالبرهان، ولا يثبت إنفاق مدعي الإنفاق إلا

بالبرهان، فإذا برهن كل واحد منهم على دعواه كان لصاحب الكسب قَدْرُ كسبه على ما يقوله العُدولُ المختبرون، وعليه قدرُ ما استنفقَه على ما تقتضيه العادةُ، فإن أقام مدعي الإنفاق البرهان على أنه رضي ذلك الكاسبُ بأن يكون ما استنفقَه أُجْرَةً له كان الرضى معمولاً عليه، ولا يستحق غيرَ ما رضي به، فالرِّضى مناطٌ كما عرفناك سابقًا، ودعْ عنك النَّظر إلى غيرِ هذا مما يُقَالُ إنه يقتضي فسادَ الإجارةِ أو صِحَّتَها فليس بعد الرِّضى من المكلَّف شيءٌ. وأما الوجه الثامنُ: أعني قولَه: إذا مات أحدُ المتسبينَ والمشتركيَ، أو تزوجَ، أو غابَ، وثَمَّ مالٌ، والتبس ما كُسِبَ بعدَه ... إلخ. فالجوابُ: أن القولَ قولُ المباشرينَ للاكتساب المحصِّلينَ لتلك الفوائدِ الثابتينَ عليها، فمنِ ادَّعى من ورثة مَنْ مات أو خرجَ من شَرِكَتِهم أنَّ له حقًّا فيها مع كونها حاصلةً بعد موتِه أو خروجِه فهو يدَّعي خلاف الظاهر فعليه البيِّنة، والقول قول المشتركين. هذا على فَرَضِ أنه [9ب] لم يكن ثَمَّ ظاهرٌ يخالفُ ذلك، فإن كان موجودًا فالقولُ قولُ من هو مستمسك بالظاهر، والبينة على مَنْ يخالِفُه هذا إذا كان للمتسبينَ سعيٌ تتحصل به فوائده من غير الأموال المشتركة بين ورثة مَنْ ماتَ أو خرجَ عن الشركة، وبينَهم كأهلِ التجاراتِ ونحوِها. أما إذا كان لا مدخَل للمشتركين إلاَّ من غِلاَّتِ الأموال التي نصيبُ مَنْ مات أو خرجَ عن الشركةِ فيها، فلا قبولَ لدعوى من يدَّعي الاختصاصَ، بل الظاهرُ قولُ من قال: أن له نصيبًا من الكسائب بقدر مالِ موروثه، أو بقدر ماله المتروك في أيديهم بعد خروجه من الشركة، فَيُقْسَمُ ما هو راجعٌ إلى المال على قدرِ الأموالِ. وما هو راجعٌ إلى العمل فيها على قدر العمل بين العاملين. وأما الوجه التاسعُ: أعني قولَه: لو تزوج أو جنى ... إلخ. فالجواب: أنَّ الشرعَ يفضي بلزوم ما صدرَ عن أحدِهم لمن صدر عنه، ولا يلزم غَيْرَهُ

{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬1) كما نطق به الكتاب العزيز: وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "لا يجن جان إلا على نفسه" (¬2)، وقال لرجل مع ولده: "لا جيني عليك، ولا تجني عليه" (¬3) كما في دواوين الإسلام، فمن جنى من الشركاء حتى لزمه الأرش، أو فعل ما يوجب عليه غرامة في المال فذلك عله، إلا أن يتقدم التراضي بين أهل الشركة على أنهم يغرمون مع من لزمه مغرم من أرش جناية أو غيرها كان ذلك عليهم على حسب التراضي فهو محكم معمول به، وهكذا إذا لزم أحدهم مغرم بسبب يرجع إلى الجميع، أما باعتبار الأشخاص أو المال فهو على الجميع وبالجملة فلا يختص أحدهم بالمغرم الراجع إلى ما تجمعهم كما لا يختص بالمغنم. وأما الوجه العاشر: أعني قوله: لو وقع شرط بين المتشاركين أن لفلان نصف ... إلخ. فجوابه: أنه إذا حصل التراضي [10أ] على ذلك صح ولزم كما قدمنا تحريره وتقريره، وإن لم يحصل التراضي عليه فلا حكم له ولا اعتبار به. وإلى هنا انتهى الجواب على سؤال السائل ـ كثر الله فوائده ـ وكان الفراغ من تحريره نهار الأحد سلخ شهر محرم سنة 1221. [10ب] ¬

(¬1) [الأنعام 164، الإسراء 15، فاطر 18]. (¬2) أخرجه الترمذي رقم (3087) من حديث سليمان بن عمرو بن الأحوص وقال: حديث حسن صحيح وهو كما قال. (¬3) أخرجه أحمد (2/ 227، 228) وأبو داود رقم (4495) رقم (4832) والحاكم (2/ 425) من حديث أبي رمثة. وهو حديث صحيح.

أسئلة من العلامة الحسين بن عبد الله الكبسي من كوكبان

(129) 21، 22، 23/ 2 أسئلة (¬1) من العلامة الحسين بن عبد الله الكبسي من كوكبان وتشمل على: 1 - بحث في بيع المشاع من غير تعيين. 2 - بحث فيمن وقف على أولاده دون زوجته. 3 - بحث في إنشاءات النساء. تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديث محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب ¬

(¬1) للرسالة عنوان آخر "أسئلة من محروس كوكبان وقعت فيها مراجعة بين العلامة الحسين بن عبد الله الكبسي وبين حكام كوكبان. وجواب الإمام الشوكاني عليها" (50/ 1).

وصف المخطوط (أ): 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: "أسئلة من العلامة الحسين بن عبد الله الكبسي من كوكبان .... .... ". 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، وآله وصحبه، وبعد: وصلت إلى أسئلة من محروس كوكبان ... ". 4 - آخر الرسالة: " وهجر الكثير الغالب خروج عن قوانين الاستدلال هذا ما يظهر لي، والله أعلم. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 7 صفحات. 8 - عدد الكلمات في السطر: 26 سطرا ما عدا الصفحة الأولى فعدد الأسطر فيها 7 أسطر والصفحة الأخيرة عدد أسطرها 12 سطرًا. 9 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة. 10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

وصف المخطوط (ب): 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: "أسئلة من محروس كوكبان .... .. ". 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، وآله وصحبه، وبعد: فإنها وصلت إليَّ أسئلة من محروس كوكبان .... ". 4 - آخر الرسالة: " وهجر الكثير الغالب خروجٌ عن قواني الاستدلال هذا ما يظهر لي، والله أعلم ..... 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 8 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 13 - 15 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

[بسم الله الرحمن الرحيم] (¬1) الحمدُ لله. [وحده، وصلى الله على من لا نبيَّ بعدَه، وآله وصحبه، وبعد:] (¬2) وصلتْ إليّ أسئلةٌ من محروس كوكبان، وقعتْ فيها مراجعةٌ بين سيدي العلامةِ شرف الإسلام الحسين بن عبد الله الكبسي (¬3)، وبين حُكَّامِ كوكبان. [بحثٌ في بيعِ المَشَاعِ من غيرِ تعيينٍ] السؤالُ الأولُ: فيمن باع خمسَ لَبنٍ مشاعًا، ولم يعيِّن مكانًا مخصوصًا من الأرض، هل يصحُّ ذلك أم لا؟ فأجاب حاكمان من حُكَّامِ كوكبان أن التقييدَ بلفظ المشاع يوجبُ صِحَّةَ البيع. وردَّ عليهما السيدّ المذكورُ ردًا حسنًا، وأجبت بما لفظُهُ: الحمدُ لله وحدَه، وبعدُ: فإني وقفت [1/ب] على هذا البحثِ النفيسِ، وقد استوفى محرِّرُهُ، بارك الله في علومه ـ أطرافَهُ، ولا أعرف قائلاً يقول بأنَّ مجرَّد التقييدِ بلفظِ المشاعِ مطلقًا يوجبُ صحةَ بيع ما كان لولا ذلك التقييدُ غيرُ صحيح، ولا من علماء الزيدية، ولا من غيرهم، اللهم إلاَّ أن يكون ذلك المشاعُ مرادًا للمتابعين، مقصودًا لكل واحد منهما؛ فإن البعضَ (¬4) قد جعل ذلك مصحَّحًا إذا وقع التصادقُ عليه، لأنه بذلك القصدِ، وتلك الإرادة يَؤولُ إلى بيع جزءٍ معلومٍ باعتبار الانتساب إلى الكلِّ، وهذا مما لا نزاعَ فيه، وله نظائرُ كبيع مجهولِ العينِ مع الخيارِ (¬5)، وبيعِ ميراثٍ عُلِمَ جنسًا ونصيبًا، وأما مطلقُ التقييدِ بالمشاع من غير انضمامِ قصدٍ إليه، فمع كونِه لم يقلْ به أحدٌ كما عرفتَ هو أيضًا مخالفٌ ¬

(¬1) في هامش المخطوط (أ، ب) ما نصه: "كما صرح بذلك في التذكرة والرياض". (¬2) في هامش المخطوط (أ، ب) ما نصه: "كما صرح بذلك في التذكرة والرياض". (¬3) تقدمت ترجمته (¬4) في (ب) كما صرَّح بذلك في التذكرة والرياض عن المؤلف. (¬5) انظر الرسالة رقم (110).

لنصوص المذهبِ في مواطنَ منها: اشتراطُهم في بيع بعض الصُّبرة مشاعًا (¬1) في المزروع المختلِفِ (¬2) أن تكون جهتُه معيّنةً، ولا شك أنَّ ذلك أمرٌ زائد على مجرد الشياعِ، مع أن ظاهر ما علَّلوا به قولَهم باشتراط التعيين في المختلف من تأديته إلى الشِّجار أنّه لا فرق بين السمتوي والمختلِف، لأنّ عدم التعيين قد يفضي في المستوي إلى الشجار كما يفضي إليه في المختلِف، وأكثريةُ الإفضاء في المختلف لا يستلزمُ الاختصاص به، كما ذلك معلومٌ لكل عارفٍ، والدليلُ على أن المستوي كالمختلِف في الإفضاء إلى الشجار ما عُلِمَ من اختلاف الأعراض بحسب اختلاف الحالات، مثلاً الموضعُ المستوي إذا كان له جارانِ فاشتري كلُّ واحد منهما خَمْسَ لِبَنٍ منه، فلا شك أن كلَّ واحد منهم يتعلَّق غَرضُه بأن يكون نصيبُه متَّصلاً بِمُلْكِهِ القديم، ¬

(¬1) في (ب) اشتراط تعين الجهةِ إنَّما هو المقدَّر لا في المشاع كما هو ظاهرُ كلام أهل المذهب فيُنظرُ. (¬2) أنَّ بيع الصبرة جزافًا خع جهل البائع والمشتري بقدرها مباح وبهذا قال: أبو حنيفة والشافعيُّ. ولا نعلم له خلافًا. وقد نص عليه أحمد، ولدَّ عليه قول ابن عمر. كنَّا نشتري الطَّعام من الرُّكبان جزافًا فنهانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نبيعه حتى ننقله من مكانه" متفق عليه. ولأنَّه معلومٌ بالرؤية، فصح بيعه، كالثياب والحيوان، ولا يضرُّ عدم مشاهدة باطن الصبرة فإن ذلك يشقُّ، لكون الحبِّ بعضه على بعض ولا يمكن بسطها حبةً حبَّةً. ولأنَّ الحب تتساوى أجزاؤه في الظاهر. فاكتفى برؤية ظاهره، بخلاف الثَّوب، فإنَّ نشرَه لا يشقُّ، ولم تختلف أجزاؤه، ولا يحتاج إلى معرفة قدرها مع المشاهدة لأنَّه علم ما اشترى بأبلغ الطرق. وهو الرؤية. وكذلك لو قال بعتُك نصف هذه الصبرة أوثلثها، أو جزءً منها معلومًا جاز، لأنَّ ما جاز بيع جملته. جاز بيع بعضه، كالحيوان، ولأنَّ جملتها ملعومة بالمشاهدة، فكذلك جُزؤها. قال ابن عقيل: ولا يصحُّ هذا إلا أن تكون الصبرة متساوية الأجزاء فإن كانت مختلفة، مثل صبرة بقَّال القرية، لم يصحَّ. ويحتمل أنْ يصح لأنَّه يشتري منها جزءًا مشاعًا، فيستحقُّ من جيِّدها ورديئها بقسطهِ. انظر: "المجموع" (9/ 376 - 377)، "المغني" (6/ 207 - 209).

فيقع النزاعُ بينَهما وبينَ البائع، وما يشاكلُ ذلكَ من الأغراض. وأما قولُ الحاكِمَيْنِ أنّه لا فرق بين قولِنا ربعٌ، أو نصفٌ، أو ثلثٌ، أو خُمْسُ لِبَنٍ مشاعًا ... إلخ فليسَ كما ينبغي؛ فإنّ الفرقَ [بين المقيَّد بالمشاع (¬1) مطلقًا، وبينَ المقيَّد بخصوصِ الجُزْءِ المعلومِ من ثلثٍ، أو رُبُعٍ كالفرق] (¬2) بين العامِّ والخاصِّ، لصدق اسم المشاع على ما كان مُنتَسِبًا إلى الأصل بجزءٍ معلوم، وعلى غيرِه. وعلى الجملةِ فالأصلُ الأصيلُ أن يكون المبيعُ معلومَ القَدْرِ، مُعَيَّنَ الجهةِ، لأنّ ما لم يكن كذلك في عِداد بيع الغَرَر (¬3) الذي نهى عنه الشارعُ، وأيضًا الرِّضا (¬4) الذي هو المناطُ للبيع المأذونِ فيه إنما يُتَصَوَّرُ على وجه الصِّحَّةِ فيما كان كذلك، فإذا وقع العقدُ على شيء غيرِ المقدارِ، أو الجهةِ فالرضا [1ب] المعتَبَرُ منتفٍ، وما يُظَنُّ من أنَّه قد يمكن الرِّضا مع عدم الأمرينِ ¬

(¬1) إذا قال بعتك ربع هذه الدار أو ثلثها، فيصح قطعًا، سواء علما ذرعانها أم لا. وإن قال: بعتك من هذه الدار كل ذراع بدرهم لم يصح قطعًا ولا يجيء فيه الوجه السابق في نظيره من الصبرة عن مربح أنّه يصح في صاع واحد. لأن أجزاء الدار تختلف بخلاف الصبرة ولو قال: بعتك من هذه الدار عشرة أذرع كل ذراع بدرهم، فإن كانت ذرعانها مجهولة لهما أو لأهدهما لم يصح البيع بلا خلاف. بخلاف نظيره من الصبرة، فإنّه يصح على الأصح، والفرق ما ذكرناه الآن من اختلاف أجزاء الدار دون الصبرة، وإن كانت ذرعانها معلومة لهما صح البيع عندنا. وحمل الإشاعة، فإذا كانت مائة ذراع كان المبيع عشرها مشاعًا وبه قال أبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة: لا يصح، وهو جه لبعض أصحابنا حكاه الرافعي. والصحيح المشهور الصحة، وبه قطع الأصحاب قال إمام الحرمين: إلا أن يقصد أذرعًا معينة فيبطل البيع كشاة من القطيع. " المجموع" (6/ 209). وقال ابن قدامة في "المغني" (6/ 2098): ولو باع ما لا تتساوى أجزاؤه، كالأرض والثوب والقطيع من الغنم ففيه نحو من مسائل الصُّبَرِ. وإن قال: بعتك هذه الأرض أو هذه الدار أو هذا الثوب، أو هذا القطيع بألفٍ صح. أو قال بعتك نصفه أو ثلثه، أو ربعه، بكذا صحَّ أيضًا، ... (¬2) زيادة من (ب). (¬3) تقدم مرارًا. (¬4) تقدم مرارًا.

أو أحدِهما فوهْمٌ ناشئ عن التباس الرضى المقيَّد المعتَبَرِ بما يصدُقُ عليه مطلقُ الرضا، وحينئذٍ لا يجوزُ بيعُ ما كان فيه نوعٌ من أنواع الغَرَرِ، كبيع المجهول قَدْرًا أو جِهَةً (¬1)، فإنه إن لم يكن مظنةً للغَرَر كان مظنَّةً، ولا بيعَ ماله يحصل فيه الرِّضا المعتَبَرُ شرعًا إلاَّ بدليل يدلُّ على ذلك بخصوصه، فإن لم يوجد الدليل فالواجب البقاءُ على المنع. وقد ورد ما يدلُّ على جواز بيع ما فيه بعضُ جَهَالةٍ، كحديث جابر عند مسلم (¬2)، والنسائي (¬3) قال: "نهى رسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ عن بيع الصُّبْرَةِ من التمر، لا يُعْلَمُ كيلُها بالكيل المسَّى من التمر"، فإنه يدلُّ بمفهومِه على أنه لو باعها بخنسٍ غير التمرِ لجاز، فمن أجاز العمل بمثل هذا المفهوم أجاز التخصيصَ به، ومن لم يُجِزْ لم يُجِزْ. والحاصلُ أن لا يجوزُ بيعُ شيء مما يتعلَّق به نوعٌ من أنواع الجَهَالةِ وإن قلَّ إلاَّ بدليل يخصُّه من عموم النَّهي عن بيع الغَرَر، ومن مُطْلَقِ الرِّضى المعتبرِ. وبيعُ المشاعِ (¬4) على الصورة التي وقعَ فيها النزاعُ من القبيل الممنوعِ لتناول العمومِ له. والله أعلمُ. ¬

(¬1) في حاشية المخطوط ما نصه: ينظر في اشتراط تعيين الجهة فإنَّ الميراث المعلوم حسًا ونصًا يصحُّ بيعه مع المشاع من غير تعيين الجهة وما الفرق بين مشاع ومشاع مع معرفة القدر فليتأمل. (¬2) في صحيحه رقم (42/ 1530). (¬3) في "السنن" (7/ 269، 270). (¬4) انظر تفصيل ذلك في "المغني" (6/ 209 - 210).

[بحث فيمن وقف على أولاده دون زوجته] السؤال الثاني: فيمن وقف (¬1) على أولاده دونَ زوجتِه، هل يصحُّ أم لا؟ فأجاب بعضُ أهلِ كوكبانَ بأنَّ إخراج الزوجة منافٍ للقُرْبَة. وأجاب السيدُ المذكور بأن ذلك غيرُ منافٍ، وأطال الكلامَ في ذلك. وأجبتُ بما لفظُهُ: الحمد لله وحده، وبعد: فإني وقفت على هذا البحث الشريف، وقد صار مستغنيًا عن التكميل والوقفُ على بعض الورثة (¬2) دونَ بعض الخلافُ فيه معروفٌ مشهورٌ، والذي يظهر لي أنَّ الوقفَ على ¬

(¬1) الوقف: هو لغة الحبس. يقال: وقفت كذا، أي حبسته وهو شرعًا: حبس مالٍ يمكن الانتفاع به مع بقاء عيينه بقطع التصرف في رقبته على مصرفٍ مباح. الوقف: مستحب، ومعناه تحبيس الأصل، وتسبيل الثمرة. والأصل فيه ما رواه ابن عمر قال: "أصاب عمر بخيبر أرضًا، فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أصبتُ أرضًا لم أصبت مالاً قطٌ أنفس منه، فكيف تأمرني به؟ قال: إن شئت حبَّست أصلها وتصدقت بها، فتصدَّق عمر أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث في الفقراء والقُربى والرِّقاب وفي سبيل الله والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم غير متموِّل فيه". أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2772) وأطرافه (2764، 2772) ومسلم رقم (1632) وأبو داود رقم (2878) والترمذي رقم (1375) والنسائي رقم (3599) وابن ماجه رقم (2396) وأحمد (2/ 12 - 13، 55) وغيرهم. (¬2) انظر "المغني" (8/ 194 - 206). قال ابن قدامة في "المغني" (8/ 206) والمستحب أن يقسم الوقف على أولاده، على حسب قسمة الله تعالى الميراث بينهم، للذَّكر مثل حظ الأنيين. قال القاضي: المستحب التسوية بين الذكر والأنثى، لأنَّ القصد القُربةُ على وجه الدوام. وقد استووا في القرابة. قال ابن قدامة: ولنا أنّه إيصالٌ للمال إليهم، فينبغي أن يكون بينهم على حسب الميراث كالعطيَّة، ولأنَّ الذّكر في مظنَّه ـ الحاجة أكثر من الأنثى، لأنّ كل واحدٍ منهما في العادة يتزوّج، ويكون له الولد، فالذّكر تجب عليه نفقة امرأته وأولاده، والمرأة ينفق عليها زوجها ولا يلزمها نفقة أولادها، وقد فضّل الله الذّكر على الأنثى في الميراث على وفق هذا المعنى، فيصح تعليله به ..... فإن خالف فسوَّى بين الذكر والأنثى، أو فضَّلها عليه، أو فضَّل عليه أو فضَّل بعض البنين أو بعض البنات على بعض أو خصَّ بعضهم بالوقف دون بعض، قال أحمد، في رواية محمد بن الحكم: إن كان على طريق الأثرة فأكرهه، وإن كان على أنَّ بعضهم له عيال وبه حاجةً. يعني فلا بأس به ووجه ذلك أن الزبير خصَّ المردودة من بناته دون المستغنية منهنَّ بصدقته.". انظر "المجموع" (16/ 245 - 247).

هذه الصِّفة لا تكون بمجرَّده باطلاً، بل لا بد من انضمام مانع من الصحةِ إليه، وهو ما لا يمكن قصدُ القُرْبَة معه قصدًا معتَبَرًا، وذلك كإرادة تخصيص بعض الورثة بذلك دون بعض بدونِ مخصِّص، بل لمجرَّد محضِ الهوى، وميل النفس إلى تأثير مَنْ تميل إليه، وإحرامِ من ينفُرُ عنه، فلا ريب أن هذه الإرادةَ لا يمكن وجودُ القُربة معها، وهكذا كلُّ صوره تصلُح لنسبة المانعيةِ إليها ويقدحُ في المقتَضَى الذي لا بد منه، فما كان من الأوقاف كذلك فالقضاءُ ببطلانِهِ متعيِّنٌ، لأنَّه قد عدم فيه المقتضي، وهو قَصْدُ القُرْبَةِ، وَوُجِدَ المانعُ، وهو الأمرُ المنافي لقصدها، وهذا إذا تبيَّن وجودَ المانع بقرينة حالٍ أو مقالٍ، فإن لم يتبيَّنْ فالأصلُ عدمُهُ، ويُنْظَرُ عند ذلك إلى المقتضى، فإن كان موجودًا فالقضاء بِصِحَّة الوقفِ متوجِّهٌ، لأنَّ كلَّ أمرٍ وُجِدَ فيه المقتضي وانتفى عنه المانعُ فهو صحيحٌ معتبرٌ شرعًا. والحاصل أنه إما أن يُعْلَمَ أو يُظَنَّ وجودُ المقتضي أو عدمُهُ. وعلى الثاني لا شك في عدم صِحَّةِ الوقف سواءٌ وُجِدَ المانعُ أو لم يوجد، وعلى الأول [2أ] إما أن يُعْلَمَ أو يُظَنَّ وجودُ المانعِ أو عدمَهُ أولا يعلمُ أصلاً، فإن كان الأول وفرضْنا إمكانَ اجتماعِ المانعِ والمقتضي في مسألة السؤالِ فالمقتضي من باب جلْبِ المصالحِ، وهو مما يجب إلغاؤهُ عند وجود مَفْسَدَةٍ راجحةٍ، أو مساويةٍ بلا نزاعٍ، وعند وجودِ مفسدةٍ

مرجوحة أيضًا على نزاع فيه: ولا شكّ أنّ وجود المانع مستلزمٌ لوجود المفسدة مطلقًا، وإلا لما كان مانعًا. وإن كان الثاني فالمتوجَّهُ القضاء بالصحةِ لما سلف. لا يقالُ تخصيصُ بعضِ الورثةِ إن لم يكن مانعًا مستقلاً فلا أقلَّ من أن يكون مظنَّةً لوجودِ المانعِ، ومظنَّةُ الشيءِ منزَّلةٌ منزلتَه غالبًا، فكيف صحَّ الجزمُ بعدم المانع في مثل مسألة السؤال، لأنَّا نقول لا نسلِّمُ أنّ ذلك التخصيص كذلك، فإنك لا تشكُّ أنّ من كان له ورثةٌ أغنياء، وورثة فقراء، فخصَّصَ الفقراء بالوقْفِ عليه (¬1)، وكذلك مَنْ كان له ورثةٌ قادرين على التكسُّب، وغيرُ قادرينَ فخصَّصَ غيرَ القادرينَ بذلك، وكذلك مَنْ كان له ورثةٌ أصِحَّاءُ ومَرْضَى فخصَّصَ المرضَى بذلك، فإنه لا يكون التخصيصُ المذكورُ مُنَافِيًا للقُرْبَة أصلاً، بل ربما كان من أقوى الأدلة الدالةِ عليها، فكيف يكون مانعًا أو مظنةً للمانع، وإن كان الثالثُ فالواجبُ القضاءُ بالصحة لأنّه قد وُجِدَ المقتضي، ولا يصح معارضَتُهُ بالشكِّ في وجود ¬

(¬1) قال ابن قدامة في "المغني" (8/ 206 - 207): " ... لو خصَّ المشتغلين بالعمل من أولاده بوقفه تحريضًا لهم على طلب العلم. أو ذا الدِّين دون الفُسَّاق. أو المريض، أو من له فضلٌ من أجل فضيلته، فلا بأس. وقد دلَّ على على صحَّة هذا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه، نحل عائشة جِذاذ عشرين وسقًا دون سائر ولده ـ أخرجه مالك في الموطأ (2/ 752)، والبيهقي (6/ 170، 178). وحديث عمر أنَّه كتب: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أوصى به عبد الله أمير المؤمنين، إن حدَثَ به حَدَثٌ، أن ثمغًا وصرمةَ بن الأكوع، والعبد الذي فيه، والمائة سهم النبي بخيبر، ورقيقه الذي فيه، الذي أطعمه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالواد، تليه حفصةُ ما عاشت، ثم يليه ذو الرأي من أهلها أن لا يباع ولا يشترى، ينفقه حيث رأى من السائل والمحروم، وذوي القربى لا حرج على من وليه إن أكل أو آكل أو اشترى رقيقًا منه". أخرجه أبو داود في "السنن" رقم (2879) وهو صحيح وجادة قاله الألباني في صحيح أبي داود. وفيه دليل على تخصيص حفصة دون إخوتها وأخواتها. انظر: "المجموع" (16/ 250)، "المغني" (8/ 207).

المانع على فَرَض أنه يترجَّح جانبُ عدمِه على جانب وجودِه، فكيف إذا كان عدمُهُ راجحًا كما نحن فيه! فإنّه لا شك أن الأصل عدمُ المانعِ، لأنّ الظاهر أنّ الرجل المعلوم إسلامُهُ ولا سيَّما إذا كان من أهل التمييز والتقوى لا يتقرَّبُ بأمرٍ في الظاهر، وثمَّ مانعٌ يبطلُ عنه ذلك التقرُّبَ، ويبقى الكلامُ هاهنا في صورة، وهي حيثُ لم تكنِ المقتضى معلومًا وجودُهُ ولا عدمُهُ. ولا شكَّ أن المانع إذا كان معلومًا أو مظنونًا مقدَّمٌ عليه، وإنما الإشكالُ فيما إذا كان المانعُ غَيْرَ معلوم وجودُهُ ولا عدَمُهُ، فهل يُجْعَلُ الأصلُ وجودَ المقتضي فيجبُ القضاءُ بالصحةِ، أو الأصلُ عدَمُهُ فيجبُ القضاءُ بعدمِها، أو يكون ذلك محلَّ تردُّدٍ؟ ويمكنُ أنْ يُقَالَ: الأصلُ العدمُ، لأنَّه السابقُ على الوجود، فإذا لم يَقُمْ دليلٌ يدلُّ على أن المقتضي موجودٌ فالواجبُ استصحابُ ذلك المتيقَّنِ، ولا يُتَنَقَّلُ عنه إلاَّ بناقلٍ، ولكن هاهنا أمرٌ آخَرُ يوجبُ المصيرَ إلى أنَّ المقتضي في تلك الحالِ موجودٌ، وهو الظاهر المرجَّحُ على الأصل عند التعارضُ، فإنه لا ريبَ أنَّ المسلمَ إذا فعلَ فِعْلاً من أفعال العباداتِ والقُرَبِ كان الظاهرُ أنَّه لم يفعل ذلك عَبَثًا بل فعلَه لمقتضٍ هو إرادةُ التقرُّب إلى الله تعالى، لأن الإسلام بمجرَّده باعثٌ على ذلك فضلاً عن الإيمانِ والعِرفَانِ، ولا ينبغي أن يُظَنَّ بمسلم من المسلمينَ أنَّه يُلْبَسُ ببعض القُرَبِ المقربة إلى الله تعالى غَيْرَ مستحضرٍ في تلك الحالِ لماهية ما تقرَّبَ به. فإن قلتَ: قد قامتِ الأدلةُ الصحيحةُ الصريحةُ القاضيةُ [2ب] بمشروعيته وقد ذكر السيدُ العلامةُ في جوابه على هذا السؤالِ شطرًا منها، وهو مذهب الجماهير من أهل العلم، حتى قال الترمذي (¬1): لا يَعْلَمُ بينَ الصحابةِ والمتقدَّمينَ من أهل العلم خلافًا في جواز وقفِ الأرضينَ، وجاء عن شُرَيْحٍ (¬2) أنه أنكر الوقفَ، وقد تأوَّل ذلك جماعةٌ من ¬

(¬1) في "السنن" (3/ 660). (¬2) ذكره ابن قدامة في "المغني" (5/ 185): قال: ولم ير شريح الوقف، وقال لا حبس عن فرائض الله. قال أحمد: وهذا مذهب أهل الكوفة.

أهل العلم، وأما أبو حنيفةَ (¬1) فلم يقل بعدم مشروعيته بل قال بعدم لزومه، وخالفَه في ذلك جميع أصحابه إلاَّ زفرَ بنَ الهذيلِ. وحكى الطحاويُّ (¬2) عن عيسى بن أبان قال: كان أبو يوسُفَ يجيزُ بيع الوقف، فبلغهُ حديث عمر يعني الذي في أنَّ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ قال له: "حبِّس الأصل، وسبِّلِ الثمرة" فقال: مَنْ سمعَ هذا من ابن عون؟ فحدثه به ابن عليَّةَ فقال: هذا لا يسعُ أحدًا خلافُهُ، ولو بلغ أبو حنيفة لقال به، فرجعَ عن بيع الوقف حتى صار كأنه لا خلافَ فيه بين أحد. وأما ما روى الطحاويُّ (¬3)، وابن عبد البَرِّ (¬4) من طريق مالكٍ عن ابن شهاب قال: قال عمرُ لولا أني ذكرت صدَقَتي لرسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ لردَدْتُها. فلا يدلُّ على جواز الرجوعِ في الوقف، وعدمِ لزومِه، لأنَّ قول عمرَ ليس بحُجَّةٍ، ولا سيَّما إذا عارض المرفوعَ. وقد ثبتَ من قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ الأمرُ بالتحبيس. ومفهومُ التحبيس لغةً مانعٌ من النقضِ، وأيضًا هو منقطعٌ، فإنَّ ابنَ شهاب لم يدركْ عمرَ. وأما ما روي عن الطحاويّ (¬5) أيضًا من أنَّ قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ لعمرَ: ¬

(¬1) ذكره ابن قدامة في "المغني" (8/ 185): "وذهب أبو حنيفة إلى أنَّ الوقف لا يلزم بمجرَّده، وللواقف الرجوع فيه، إلاَّ أن يوصى به بعد موته. فيلزم، أو يحكم بلزومه حاكم. وحكاه بعضهم عن علي وابن مسعود، وابن عباس. وخالفه صاحباه، فقالا كقول سائر أهل العلم". وانظر: "التمهيد" (1/ 213 - 214). (¬2) في "شرح معاني الآثار" (4/ 95). (¬3) في "شرح معاني الآثار" (4/ 96). (¬4) في "التمهيد" (1/ 214). (¬5) في "شرح معاني الآثار" (4/ 95).

"حبِّس الأصلَ وسبِّلِ الثمرةَ" لا يستلزم التأييدَ، بل يحتملُ أن يكون أراد مدة اختيارِه لذلك، ففي غاية الضعف، فإنه لا يُفْهَمُ لغةً وعرفًا التحبيس إلاَّ التأبيدُ (¬1). ويدلُّ على ذلك ما ثبت عند الدارقطني (¬2) من طريق عبيد الله بن عمرَ العمريّ، عن نافع مرفوعًا بلفظ: "حبّس ما دامتِ السمواتُ والأرضُ". وأما ما رواه البيهقيُّ (¬3) من حديث ابن عباس أن النبيّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ قال: "لا حَبْسَ بعدَ سورةِ النساءِ" ففي إسناده ابنُ لهيعةُ. وعلى فَرَض صلاحيتهِ للاحتجاج فقد فسَّره أئمةُ اللغة بأنَّ المراد به أنَّها لا تُحْبَسُ فريضةٌ عن الذي فرضَها الله له. وعلى فَرَض أن الحَبْسَ المذكورَ في الحديث يشملُ حَبْسَ الوقفِ لأ، ه نكرةٌ في سياق النفي فَنَعَم، ولا يُقْصَرُ على السبب، فعمومُهُ مخصوصٌ بما ورد في مشروعية الوقف من الأحاديث الصحيحةِ، لأنّ الوقفَ حَبْسٌ خاصٌّ. وبهذا القَدْرِ يتبينُ لك أنه لا متمسَّكَ بيد مَنْ قال بعدم مشروعيتِ الوقفِ مطلقًا، أو بعدم لزومِه بعد إيقاعه. قال القرطبيُّ (¬4): ردُّ الوقف مخالفٌ للإجماع فلا يُلْتَفَتُ إليه (¬5)، وأحسنُ ما يُعْتَذَرُ به عمن ردّه ما قال أبو يوسُفَ (¬6) من أنه لم يبلغِ الدليلُ أبا حنيفة، وهو أعلم بأبي حنيفةَ من ¬

(¬1) انظر "فتح الباري" (3/ 403). (¬2) في "السنن" (4/ 192 رقم 16). (¬3) في "السنن الكبرى" (6/ 162). (¬4) في "المفهم" (4/ 600). (¬5) ذكره الحافظ في "الفتح" (5/ 403)، "المغني" (8/ 207). ثم علل القرطبي قوله "وهذا خلافٌ لا يلتفت إليه، فإنّ قائله خرق إجماع المسلمين في المساجد والسّقايات إذ لا خلاف في ذلك ... ". وذهب الشافعي إلى أن الوقف من خصائص أهل الإسلام، أي وقف الأراضي والعقار، قال: ولا نعرف أن ذلك وقع في الجاهلية، وحقيقة الوقف شرعًا ورود صيغة تقطع تصدق الواقف في رقبة الموقوف الذي يدوم الانتفاع به وتثبت صرف منفعته في جهة خير. "الأم" (8/ 176 - 180)، "فتح الباري" (5/ 403). (¬6) ذكره الحافظ في "الفتح" (5/ 403)، "المغني" (8/ 207). ثم علل القرطبي قوله "وهذا خلافٌ لا يلتفت إليه، فإنّ قائله خرق إجماع المسلمين في المساجد والسّقايات إذ لا خلاف في ذلك ". وذهب الشافعي إلى أن الوقف من خصائص أهل الإسلام، أي وقف الأراضي والعقار، قال: ولا نعرف أن ذلك وقع في الجاهلية، وحقيقة الوقف شرعًا ورود صيغة تقطع تصدق الواقف في رقبة الموقوف الذي يدوم الانتفاع به وتثبت صرف منفعته في جهة خير. "الأم" (8/ 176 - 180)، "فتح الباري" (5/ 403).

غيره. وإذا تقررتْ مشروعيةُ الوقف، وأنه من القُرَب (¬1) فلا يتفاوتُ بتفاوت المصرِفِ، سواء كان مسجدًا أو فقيرًا أو غيرَهما، وسواءٌ كان الفقيرُ قريبًا، أو أجنبيًّا. ولنقتصر على هذا المقدارِ ففيه كفايةٌ. وأما لفظ الذرية فالظاهر [3أ] أنّ الرجلَ إذا قال: وقفتُ هذا على ذريتي كان لمن يصدقُ عليه اسمُ الذريةِ لغةً، أو شرعًا، أو عرفًا. ولا فرقَ (¬2) بين الذَّكَرِ والأنثى، والعالي والسافل، لأنّ الصيغةَ عامَّةٌ (¬3)، فإن وُجِدَ أمرٌ يفضي بتخصيصِ هذا العمومِ من قرينةحالٍ أو مقالٍ فذاك، وإلاَّ فالعملُ بما يدلُّ عليه ذلك اللفظُ وهو المتعيَّنُ. والله أعلم. ¬

(¬1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2737) ومسلم رقم (1632) وأحمد (2/ 12) وأبو داود رقم (2878) والترمذي رقم (1375) والنسائي (6/ 230) وابن ماجه رقم (296) من حديث ابن عمر قال: أصاب عمر أرضًا بخيبر ـ فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضًا بخيبر لم أُصب مالاً قطّ هو أنفس عندي منه، فما تأمر به؟ قال: "إنْ شئت حبَّست أصلها وتصدَّقت بها" قال: فتصدق بها عمر: أنّه لا يباع أصلها، ولا يورث، ولا يوهب، قال: فتصدّق عمر في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل والضعيف، ولا جناحعلى من ولياه أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقًا غير متمولٍ فيه وفي رواية غير متأثلٍ مالاً. وانظر: "فتح الباري" (3/ 402 - 404). (¬2) في حاشية المخطوط ما نصه: "ينظر لو خالف العرف الشرع أو اللغة في ما يصدق عليه اسم الذرية فما يُقدَّم هل الشرع أو عرف الواقع؟ فالمقام محتاج إلى تفصيل". "لا حاجة إلى التفصيل فالحقيقة الشرعية مقدمّة على اللغوية، فبالأولى العرفية فترك التفصيل للظهور". (¬3) انظر "الأم" (8/ 177).

[بحثٌ في إنشاءات النساء] السؤالُ الثالثُ: فيما يفعلُه النساءُ من الإنشاءات، هل يصحُّ رجوعُهُنَّ إذا رجعْنَ عنها؟، فأجاب بعضُ حكّامِ كوكبانَ بأ، ه يصحُّ رجوعُهُنَّ في جميع ما فعلْنَهُ، وإن تماليكَهُنَّ ونحوَها لا تنفذُ إلاَّ بالموت، وأجاب السيدُ المذكور بأن حكمهنَّ حكمُ الرجالِ، إلاَّ أن يتبينَ وقوعُ التغريرِ والتلبيسِ عليهنَّ، ونحوُ ذلك. وأجبتُ بما لفظُهُ: الحمدُ لله. لا مزيدَ على ما حرَّرَهُ السيدُ العلامةُ في هذا البحث النفيسِ، ولا شك أنّ للنساء حُكْمَ سائرِ المكلَّفينَ من الذكور، لشمول الأحكامِ الشرعيةِ لهنَّ في الجملة، وخروجهن عن البعض خروجًا بمخصص، ولكنَّ الغالبَ في هذه الأزمان أن الواحدةَ منهنَّ لا تسمحُ بشطرٍ من مالها لقريبٍ أو غيره إلاَّ لحيلة منصوبةٍ من ذلك المسموح له، يتسببُ بها إلى اقتناص مالِ تلك المسكينةِ لما جُبِلَتْ عليه من الخَوَرِ، وضَعْفِ العقلِ، وسوءِ التصرُّفِ، وهذا مشاهدٌ معروفٌ لا يمتري فيه من له أدنى ممارسةٍ لأحوال الناسِ، فكثيرًا ما نشاهدُ النساءَ يَخْرُجْن من أملاكهنَّ بأدنى ترغيب أوترهيب، حتى صار هذا الأمرُ هو الأعمَّ الأغلبَ عليهنَّ، وإن وقع من واحدة منهنَّ ما تخالفُ ذلك فعلى سبيل الندورِ الذي لا ينبغي التعويلُ عليه. وما أ، فعَ ما رواهُ لنا بعضُ الأعلامِ من شيوخنا عن بعض الأعلام من شيوخِه أنها جاءتْ إليها امرأةٌ تقرُّ لديه أنها قد ملّكَتْ بعضَ قرابتها جميع ما تملكُ، فاستفصلَها عن ذلك ففصلتْ وأقرَّتْ مرَّاتٍ أنها قد ملَّكَتْ ذلك القريبَ كلَّ ما تملِكُهُ من الأموال والدُّورِ والمنقولاتِ، فقال لها ـ وقد رأى في يدها خاتمًا ـ: وهذا الخاتَمُ من جملة ذلكَ؟ فقالت: لا أما هذا فهو حقِّي. فانظر هذه المسكينةَ كيف جعلتْ كلَّ ما غاب عن عينها من أملاكِها في حكمِ الخارجِ عن مُلْكِها. والحاصلُ أنه لا ينبغي لمن يُصَدَّرُ لإيرادِ الأحكامِ وإصدارِها، أو دارت عليه رحَى

الفتاوى أن يجرِّدَ نظرَهُ إلى أن الأصلَ أنَّ حُكْمِ الرجال في نفاذ التصرُّفِ، وعدمِ صحةِ الرجوعِ، بل ينبغي إمعانُ النظرِ وإعمالُ الفكرِ، وإكمالُ البحثِ عن صفة ذلك التصرُّفِ، والتفتيشُ عن الأمر [3ب] الحاملِ عليه، وملاحظةُ تلك المرأةِ التي وقع منها التمليكُ في حسن عقلها، وجَوْدَةِ اختيارِها، ومعرفتِها بمداركِ التصرفاتِ، فإنْ وجدَها لا تعرفُ لوازمَ التمليكِ بأي نوع من الأنواع، ولا تدري أن ذلك من موجباتِ انتقال المال عن ملكها بعد ذلك اللفظِ، رضيتْ أم كرهتْ، كما هو شأنُ أكثرِ النساءِ الساكناتِ في البوادي، بل وكثيرٌ من نساء الأمصارِ، فالواجب عليه القضاءُ ببطلانِ ذلك التصرُّف، وإرجاعِ المُلْكِ إلى مالكهِ، لأنَّ الله ـ سبحانه ـ قد أخبرنا بأنَّ الرِّضى معتبرٌ، وأخبرنا رسولُهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ بأنه "لا يحلُّ مالُ امرئ مسلم إلاَّ بطيبةٍ من نفسه" (¬1). وهذه المسكينةُ لا تعرفُ ما يلزمُها بلفظ التمليكِ الذي أوقعتْه، فضلاً عن أن تكون راضيةً به، طيبةً به نفسُها، فلا شكَّ ولا ريبَ أن القضاءَ بنفوذِ التصرف الخالي عن العِوَضِ على مَنْ كانت بهذه الصفةِ استنادًا إلى ما هو الأصلُ من أنَّ حكمَ المرأة حكمُ الرجلِ من الظلمِ البيِّن الذي لا يمتري فيه ممترٍ. وهكذا إذا كانت المرأة المذكورةُ عارفةً بلازم ما أوقعتْه من لفظ الهبة والنذرِ ونحوِهما، ولكنها إنما جعلتْ ذلك لحيلة ناشئةٍ عن ترغيب أو ترهيب، فإن ذلك من البطلان بمكانٍ لا ينبغي لأحد أن يشكَّ فيه، لما تقرَّر شرعًا من بطلان الحيلِ (¬2)، ومضادَّتِها للشريعة ¬

(¬1) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح. (¬2) قال الحافظ في "الفتح" (12/ 326): الحيل: جمع حيلة وهي وهي ما يتوصل به إلى المقصود بطريق خفي. وهي عند العلماء على أقسام بحسب الحامل عليها فإن توصل بها بطريق مباح إلى إبطال حق أو إثبات باطل فهي حرام أو إلى إثبات حق او دفع باطل فهي واجبة أو مستحبة، وإن توصل بها بطريق مباح إلى سلامة من وقوع في مكروه فهي مستحبة أو مباحة، أو إلى ترك مندوب فهي مكروهة. ومن أدلة من أجاز الحيل مطلقًا: قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} وقد عمل به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حق الضعيف الذي زنى، وهو حديث أبي أمامة بن سهل. ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} وفي الحيل مخارج من المضايق، ومنه مشروعية الاستثناء، فإن فيه تخليصًا من الحنث وكذلك الشروط كلها فإن سلامة من الوقوع في الحرج ... ". وأدلة من أبطل الحيل مطلقًا: - قصة أصحاب السبت وحديث "حرمت عليهم الشحوم فجمَّلوها فباعوها وأكلو ثمنها" وحديث النهي عن النجش وحديث: "لعن المحلل والمحلل له ". وانظر: أدلة تحريم الحيل مفصلاً في "إعلام الموقعين" (3/ 159 ـ وما بعدها).

المطهرة إلاَّ ما خصَّ، والنساءُ أسرعُ الناس انخداعًا، وأقلُّهم نظرًا في العواقب، وأوّلُهم إجابة إلى ما لا يجيبُ إليه العقلاءُ، ولا يُنْفَقُ على مَنْ له أدنى تمييز من الرجال، وهكذا إذا كانت المرأةُ المذكورةُ عارفةً بمدلول ما وقعَ منها من التصرفات، فاهمةً لما يلزم عن ذلك، ولكنها أرادت بذلك استجلاب عِشْرَةِ العشير أو غيرَهُ من القرائنِ، أو إزالةَ ما تجدُهُ من وحشة أخلاقهِ، فإن هذا ارتضاءٌ من النوع الذي ينبغي القضاءُ ببطلانهِ، لأن الرضى المعتبرَ شرعًا، وطيبةَ النَّفسِ مفقودانِ، وللنساء من هذه الأمور عجائبُ وغرائبُ تمنعُ المتديِّنَ أن يجزِمَ عليهنَّ بأمرٍ بمجرَّد أصالةِ صِحَّةِ التصرفِ، وكثيرًا ما ترى المرأة إذا كلَّمها القريبُ بكلمة حسنةٍ، وأظْهَرَ لها أدنى محبةٍ كانت في تلك الحالة طيبةَ النفسِ بأن تصيرَ إليه جميعُ ما تملكُه وإن كان بآلاف مؤلفةٍ، وإذا أظهر لها أدنى خشونةٍ، وأبدى لها بعضَ الميلِ عنها كانت أشدَّ الناسِ عداوةً له وبغضًا، وربما تمنَّتْ حالَ فورةِ غضبها نزولَ العظائم به التي لو نزلَ عليه بعضُها في تلك الحالِ وهي ثائرةَ الغضب [4أ] لعادتْ باكيةً عليه. وقد أرشدَ الصادقُ المصدوقُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ إلى هذا الأمرِ من خُلُقِ النساء، فأخبرنا أنَّ الواحدَ منَّا لو أحسن إلى إحداهنَّ الأيامَ المتطاولةَ، ثم لم يحسنْ إليها

في وقت من الأوقات لقالتْ: ما رأيتُ منك خيرًا قط، كما ثبت في الحديث الصحيحِ (¬1): ما ذاك إلاَّ أنَّ النساء يَعْتَبِرْنَ الوقت الذي هنَّ فيه، ولا يفكِّرْنَ في العواقب، ولا يحفظن العهود السالفةَ. وقليلاً ما تجدُ المرأةَ تعملُ على خلاف ذلك، فإذا كان الأعمُّ الأغلبُ من حالِ النساء هو ما أسلفنا، ووقوعُ خلافِه منهنَّ في حيِّز النُّدْرةِ، فينبغي عند التردُّدِ الرجوعُ إلى ما هو الأعمُّ الأغلبُ، ولا يتحوَّلُ عنه إلاَّ بدليل، لأنَّ المصير إلى النادر، وهَجْرُ الكثيرِ الغالبِ خروجٌ عن قوانين الاستدلالِ. هذا ما يظهر لي، والله أعلمُ. (¬2). حرره المجيبُ محمدَ بن علي الشوكاني في شهر جُمَادى الأُولى سنةَ 1208 [4ب]. ¬ ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (4/ 885) من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفيه " ... تصدَّقنَ، فإنَّ أكثركنَّ حطب جهنم" فقامت امرأةٌ من سطة النِّساء سفعاءُ الخدَّين، فقالت: لِم يا رسول الله؟ قال: "لأنكنَّ تُكثرنَ الشكاة، وتكفُرنَ العشير ". (¬2) في الحاشية للمخطوط ما نصُّهُ: "تحصَّلَ مما حرره الإمام الحُجَّةُ المجيبُ ـ دامت إفادته ـ تأييدُ ما أجاب به عالم كوكبانَ، وترجيحُ كلام السيد الحسين، وإن كان يتراءى في أول الكلام السالف على كلام الحسين، فقد أغرقَه في بحار الغلطِ بما يفحمُه في غضون الأبحاثِ المسددة ـ زاده الله كمالاً وجمالاً ورفعةً وجلالاً ـ.

عقود الزبرجد في جيد مسائل علامة ضمد

(130) 16/ 1 عقود الزبرجد في جِيْد مَسَائِل عَلامةِ ضَمَدْ تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقته وعلَّقت عليه وخرَّجت أحاديثه محفوظة بنت علي شرف الدين أم الحسن

1 - عنوان الرسالة من المخطوط: "عقود الزبرجد في جيد مسائل علامة ضَمَد". 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وبعد: فإنّها وصلت إلينا سؤالات من الأخ العلامة المحقق أحمد بن عبد الله بن عبد العزيز بن أحمد الضّمدي ... ". 4 - آخر الرسالة: "فرغ من تحرير هذه الأجوبة حسب نقل المجيب والمؤلف القاضي البدر عز الدين والإسلام وعين أعيان العلماء الأعلام محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما وكان الجواب والتحرير في شهر رمضان الكريم سنة 1207. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 18 صفحة. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرًا ما عدا الصفحة الأولى فعدد أسطرها 8 أسطر. 8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

عقودُ الزَّبَرْجَد في جيد مسائلِ علاّمة ضَمَد (¬1). بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله وحدهُ وصلاتُه وسلامُه على سيدنا محمدٍ وآله وبعد: فإنها وصلت إلينا سؤالاتٌ من الأخ العلاّمة المحقق أحمد بن عبدا لله بن عبد العزيز بن أحمد الضَّمدي (¬2)، وسنذكرُ ههنا كلَّ سؤالٍ ونذكرُ جوابَه بعده. قال حفظه الله ما لفظه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله ربّ العالمين والصلاةُ والسلامُ على النبي الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين وبعد: ¬

(¬1) ضَمَد: قرية من تهامة الشامة في المخلاف السليماني إليها يُنسب بنو الضمدي الذين عرفوا بالعلم في هذه البلاد. " معجم البلدان والقبائل اليمنية" لإبراهيم أحمد المقحفي (ص397). (¬2) أحمد بن عبد الله الضمدي مولده في هجرة ضمد سنة 1174 ونشأ بها وحفظ بعض المتون المختصرة في فنون العلم وتفقه على علماء ضمد ولازم خاله القاضي عبد الرحمن بن حسن البهكلي ثم ارتحل في سنة 1197 إلى مدينة زبيد وأخذ عن الشيخ عبدا لله الخليل في النحو والصرف والمعاني والبيان والمنطق. وقد ترجم له الشوكاني في "البدر الطالع" رقم (44): فقال: وقرأ ببلده على من بها من أهل العلم، ثم ارتحل إلى صنعاء فأخذ عن جماعة من أكابر علمائها كشيخنا السيد عب القادر بن أحمد ..... وعاد إلى وطنه، وقد برع في الفقه والحديث والعربية، ثم بعد وصوله إلى بلده عكف عليه الطلبة من أهلها ورغبوا في فأخذوا عنه فنونًا من العلم وعظم شأنه هناك وصار المرجع إليه في التدريس والإفتاء في ضمد وغيرها كصبيا وأبي عريش ثم راتحل إلى صنعاء رحلة أخرى فقرأ عليَّ في "شرح الغاية" وسألني بمسائل عديدة أجبت عليها بجواب سمَّيته: "العقد المنضدَّ في جيد مسائل علامة ضمد" ثم عاد إلى بلاده. مات رحمه الله سنة 1222هـ. انظر: "نيل الوطر" (1/ 135 - 136 رقم 59)، "نفح العود" (ص230)، "البدر الطالع" رقم (44).

فهذه أسئلةٌ موجَّهة إلى مولانا وأخينا القاضي العلامة النِّحْرير الفهّامة بدر الإسلام، والقائد من كل فنٍّ بزمام محمد بن علي بن محمد الشوكاني حفظه الله وأمته بحياته المسلمين آمين [1]: ماذا يقول سيِّدي ... زينةُ أهل اليمنِ في فِعْلِ أصحابٍ لنا ... يَرْوُون بعضَ السُّننِ وعند ذكر المصطفى ... المُجتبى المؤتَمن صلّى عليه ربُّنا ... والآلِ كلَّ الزمنِ لا يُكْمِلون حقَّه ... في الخطِّ يا ذا الفِطَنِ من بعد تحْريرٍ له ... فالرَّمزُ شأنُ المغتبنِ هل قد روى هذا لنا ... أيُّ إمامٍ بَيِّنِ غير الذي تعليله ... نقص البياض البيّن فبيِّنوا الإذْنَ لنا ... في رمزه بالسُّنن وتركُ رمزنا له ... مع لفظه بالألسُن قد قاله ابنُ حنبلٍ ... حافظُ قولِ المَدَني (¬1) انتهى السؤال. وبهذا الجواب بلفظه حفظه الله وكَلأَه بعين عنايتِه أجاب المجيب: أقولُ: بعَد حَمْدِ مَن ... طوَّقَنا بالمِنَنِ مُصَلِّيًا مسلّمًا ... على النبيِّ المَدَني وآلِه وصحبِه ... حلاّلِ عُقْدِ المِحَنِ لم يأتِ في الرَّمْز لنا ... على مرور الزمنِ كيفيّةٌ نسلُكُها ... في واضحات السُّننِ لأنه تواضُعٌ ... ما بين أهلِ الفِطَنِ ¬

(¬1) انظر: "ديوان الشوكاني" (ص353).

ما فيه تكليفٌ لنا ... ولا لزومُ سَننٍ فأيُّ نقْشٍ ناقشٍ ... يعرِفُه مَن يعتني يقومُ بالمقصود مِن ... بيانِ ما لمْ يَبِنِ فذلك الرسمُ الذي ... عليه ذا الأمرُ بُني (¬1) وكتب آخِرَ هذا الجواب اعتذارًا لما كان تحريرُه في شهر رمضانَ لفظُه: مباحثُ من يحرِّرُها نهارًا ... بشهر الصومِ طائشةُ السّهام فهذا يا ابنَ عبدِ الله حينٌ ... تَضِيقُ لديه دائرةُ الكلام فَمُدّ على المعايب منك سِتْرا ... فسَتْرُ العَيبِ أخلاقُ الكِرام (¬2) قد وقع من جماعة من المتأخرين الكلامُ على جواز اختصارِ الصلاةِ (¬3) على النبي صلى ¬

(¬1) انظر: "ديوان الشوكاني" (ص354). (¬2) انظر: "ديوان الشوكاني" (ص354). (¬3) قال صاحب "معجم المناهي اللفظية" (ص188 - 189): فطريق السلامة والمحبة والأجر والتوقير والكرامة لنبي هذه الأمة هو الصلاة والسلام عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند ذكره امتثالاً لأمر الله سبحانه، وهدي نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولهذا ينهى عن جميع الألفاظ والرموز للصلاة والسلام عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اختصارًا منها: ص، صعم، صلعم، صلم، وصليو، صلع. قال الأستاذ عبد القادر المغربي: وقد لاحظت في مخطوطة "النقلاء" أمورًا تدل على قدم المخطوطة واتصالها بالأولين من علمائنا. من ذلك أن جملة (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) التي تذكر عقب اسم سيدنا الرسول لا تكتب في المخطوطة إلاَّ مرموزًا إليها بحروف أربعة: الصاد (من صلى) واللام من (الله) والياء من (عليه) والواو من (وسلم) هكذا (صليوا) لا بكلمة صلعم كما نفعل نحن اليوم. وقد رأيت في (رسائل إخوان الصفا) رمزًا للتصلية بحروف ثلاثة فقط وهي (صلع) متصلة من دون ميم. أمَّا (صلعم) فيظهر أنها اخترعت في حدود التسعمائة للهجرة. جاء في شرح ألفية العراقي في مصطلح الحديث عند قول الناظم: (واجتنب الرمز لها والحذفا). أي: اجتنب الرمز للتصلية النبوية وحذف حرفٍ من حروفها وإنما أتت بها في النطق والتابة كلها. ثم ذكر شارحها الشيخ زكريا الأنصاري أن الشيخ (النووي) نقل إجماع من يعتد بهم على سنية الصلاة على النبي نطقًا وكتابة، إذن لا يكون من السنة أن يرمز إليها بحرف ما. ثم ذكر الشيخ الأنصاري أن الكاتب الذي كان أول من رمز للتصلية بحروف (صلعم) قطعت يده والعياذ بالله تعالى، ولا يخفى أن الشيخ الأنصاري توفي في القرن العاشر للهجرة سنة 926هـ. انظر: "ألفية الحديث" (ص33) للزين العراقي شرح (أحمد شاكر) "فتح المغيث" (2/ 163).

الله عليه وآله وسلم في نقش الكتابةِ إلى صورة لو وقع التلفُّظُ بحروفها المَزْبورةِ لم تكن صلاةً مُنتظِمَةً فمنهم من جوَّز ذلك ومنهم من مَنَعَه، ولم يذكُرْ أحدٌ لقوله مُستَنَدًا فلا نشتغِلُ بنقل كلامِهم فإنه مما لا ينتفِعُ به طالب الحقِّ. ولنتكلّم هاهنا على ذلك بما يلوحُ. فنقول: أجمع المسلمون أن الصلاةَ على رسول الله التي تعبَّدَنا اللهُ بها في كتابه (¬1) وعلى لسان رسولِه هي اللفظَّيةُ، ومِن جُملة أفرادِها الصلاةُ عليه عند ذكْرِه يحتاج إلى دليل لأن التكاليفَ الشرعيةَ لا تثبتُ إلا بدليل، سواءٌ كانت واجبةً أو مندوبةً، والبراءةُ الأصليةُ مُستصحِبَةٌ في انتفاء كلِّ فرْدٍ من أفراد الأحكامِ التكلْيفية والوضْعية فلا يُنْتَقَلُ عنها إلا بعد انتهاضِ الناقِلِ بحيث يكون معلومًا أو مظنونًا لا بمجرد الشكِّ والتخْمين وسلوكِ طريقِ التحرِّي والأولوية [2]، وليس في كتاب الله جل جلالُه ما يدل على التكليف بذلك ولا في سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قولاً ولا فِعْلاً ولا تقريرًا (¬2). أما عدمُ القولِ فلِعَدم وُجْدانِه بعد البحْثِ (¬3)، وأما عدمُ الفعلِ فظاهرٌ لأنه صلى الله ¬

(¬1) لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]. (¬2) تقدم تعريف ذلك كله. (¬3) بل هناك حديث ضعيف: أخرجه الخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (1/ 270 رقم 564) وابن عدي في "الكامل" (3/ 1100) عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "من كتب عني علمًا فكتب معه صلاة عليَّ لم يزل في أجرٍ ما قرئ ذلك الكتاب". وأورده ابن عرَّاق في "تنزيه الشريعة" (1/ 260 رقم 32) وقال: "فيه أبو داود النخعي ـ واسمه سليمان بن عمرو، قال عنه ابن عدي: اجتمعوا على أنّه يضع الحديث. تُعقِّب ـ أي: ابن الجوزي ـ بأنه لم ينفرد به، بل تابعه نصر بن باب، أخرجه الحاكم. قلت: نصر تركه جماعة ووثقه أحمد، وقال ابن عدي: يكتب حديثه والله أعلم". انظر: "تدريب الراوي" للسيوطي (2/ 74 - 75).

عليه وآله وسلم كان أميًّا (¬1) لا يكتب (¬2)، وإن اتفق منه ذلك نادرًا فهو من باب إظهارِ المُعجزةِ كما ثبت في صحيح البخاريِّ (¬3) أن عليًّا لما امتنع من مَحْو اسمِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أخَذَه ومَحاه، وكتب اسمَه ولم يُنْقَل أنه كتب الصلاةَ عليه بعد كَتْبِ اسمِه، فربما كان في هذا الفعلِ مُتَمسَّكٌ لعدم التعبُّدِ بالكَتْبِ المذكورِ، وغن كان لا يصفو عن شُرْب كَدَر النِّزاعِ لأنه يمكن أن يقال: إن ذلك موطنٌ وقع فيه المنْعُ من كتب صورة لفظِ رسول فكيف يمحى، ويثبت ما هو أشدُّ على قلوب الكفار وهو الصلاةُ من الله، فيمكن أن يكون الحاملُ على ترك كتْب الصلاةِ هو هذا، أو غاية هذا إنْ سُلِّم عدمُ انتهاضِ ¬

(¬1) قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ... } [الأعراف: 157]. وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]. (¬2) قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48]. (¬3) رقم (2698) ومسلم رقم (90/ 1783). عن أبي إسحاق، قال: "سمعت البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: لما صالح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل الحديبية كتب عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه، بينهم كتابًا، فكتب: محمد رسول الله فقال المشركون: لا نكتب: محمدٌ رسول الله لو كنت رسول الله لم نقاتلك، فقال لعليِّ: "امحهُ" فقال عليّ: ما أنا بالذي أمحاهُ، فمحاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده، وصالحهم على أن يدخل هو وأصحابه ثلاثة أيام، ولا يدخلوها إلا بجلبَّان السلاح، فسألوه: ما جلّبانُ السلاح؟ فقال: "القراب بما فيه". وفي رواية لمسلم رقم (92/ 1783): " ... فأمر عليًّا أن يمحاها فقال عليٌّ: لا. والله لا أمحاها. وكتب ـ يعني عليًّا: ابن عبد الله.

ترْكِه على الترْك لا الاحتجاجُ بفعله على المطلوب. وأما تقريرُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فلم يُنْقل إلينا أن أحدًا من الصحابة كتب الصلاة عليه عند ذكْرِه واطلع على ذلك وقرَّره بل ربما كان الأمرُ بالعكس فإن اسمَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كان يُكْتَب في المكاتبات والمهادَنات والإقطاعات ولم يُنقل أن أحدًا من الكُتَّاب كتب فيها بعد اسمِه الصلاةَ عليه وقد اطّلع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ على ذلك الترْكِ وقرَّره ولم يُنْكِرْه فكان دليلاً على عدم التعبُّد بذلك، وهذا الاستدلالُ وإن كان غيرَ مُحتاجٍ إليه من جهة القائلِ بالعدم لأنه في مقام المنْعِ والاستدلالُ وظيفةُ المُدّعي للمشروعية لأنه أثبَتَ ما الأصل (¬1) والظاهرُ عدمُه، لكنه لا يخلو عن فائدة. إذا تقرر هذا تبيّن للسائل كثّر الله فوائدَه عدمُ التعبُّدِ بكَتْب الصلاةِ عليه (¬2) صلى الله ¬

(¬1) هناك سقط لعله (زاد على الأصل). (¬2) قال النووي: "ينبغي أن يحافظ على كتابة الصلاةوالتسليم على رسول الله عند ذكره، ولا يسأم من تكريره، فإن ذلك من أكبر الفوائد التي يتعجلها طلبة الحديث وكتبته، ومن أغفل ذلك حرم حظًّا عظيمًا وما يكتبه فهو دعاء يثبته لا كلام يرويه، فلهذا لا يتقيد فيه بالرواية، ولا يقتصر على ما في الأصل إن كان ناقصًا، وهكذا الأمر في الثناء على الله تعالى كعز وجل وتبارك وتعالى وما أشبه هذا. قلت: وكذا الترضي والترحم على الصحابة والعلماء وساير الأخيار، وإذا وجد شيء من ذلك قد جاءت الرواية بشيء منه كانت العناية بإثباته أكثر، ثم ليجتنب في كتب الصلاة نقصين: أحدهما: نقصُها صورة بأن يرمز إليها بحرفين أو نحو ذلك. الثاني: نقصها معنى بأن يكتب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غير وسلم، أو يكتب عليه السلام، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]. انظر: "تدريب الراوي" (2/ 74 - 77)، "التبصرة والتذكرة" (2/ 128 - 133). وقال أحمد محمد شاكر في شرحه لألفية السيوطي (ص151): " ... وذهب أحمد بن حنبل إلى أن الناسخ يتبع الأصل الذي ينسخ منه فإن كان فيه ذلك كتبه، وإلاَّ لم يكتبه، وفي كل الأحوال يتلفظ الكاتب بذلك حين الكتابة، فيصلي نطقًا وخطًّا إذا كانت في الأصل صلاة، ونطقًا فقط إذا لم تكن. وهذا هو القول المختار عندي، محافظة على الأصول الصحيحة لكتب السنة وغيرها وكذلك اختاره في طبع آثار المتقدمين، وبه أعمل إن شاء الله". وانظر: "الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث" (ص130).

عليه وآله وسلم عند ذكْرِه لا وجوبًا ولا ندْبًا لأنه حكمٌ شرعيٌّ لا يثبتُ إلا بدليل، ولا دليل. ولو سُلّم أن الكَتْبَ أولى لأنه يكون من الإيقاظ للقارئ عند الغفْلةِ عن التلفظ بهذه السُّنةِ التي لا يَدَعُها إلا بخيل. كما أخرجه التِّرْمذِيُّ (¬1)، من حديث عليّ عليه السلام عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: حسنٌ صحيحٌ بلفظ: "البخيلُ من ذُكِرْتُ عنده فلم يُصلِّ عليّ ولا يَرْغَب عنها إلاَّ شقي" كما أخرجه الطبرانيُّ (¬2) من حديث جابر عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بلفظ: "شقيَ مَنْ ذُكِرتُ عنده فلم يُصَلِّ عليّ ولا يُحْرَمُ فضلَها إلا مُبعدٌ". كما أخرجه الطبرانيُّ (¬3) عن كعب بنِ عُجْرةَ مرفوعًا بإسناد رجالُه ثقاتٌ كما قال العراقيُّ بلفظ: "إن جبريلَ قال: بَعُدَ من ذُكِرْتَ عنده فلم يُصَلّ عليك". وأما ما أخرجه البزَّار (¬4) من حديث جابر. وفيه "رَغِمَ أنفُ من ذُكِرْتُ عنده فلم يصلّ عليّ"، ففي إسناده إسماعيلُ بنُ أبانَ .................. ¬

(¬1) في "السنن" رقم (3546) وقال: حديث حسن صحيح غريب. قلت: وأخرجه أحمد في "المسند" (1/ 202) والحاكم في "المستدرك" (1/ 549) وابن حبان في صحيحه (رقم 2388 ـ موارد) والنسائي في "السنن الكبرى" كما في تحفة الأشراف (3/ 66). قال ابن حجر في "الفتح" (11/ 168) "لا يقصرُ عن درجة الحسن". وهو حديث حسن بطرقه وشواهده. (¬2) عزاه إليه الحافظ في "الفتح" (11/ 168). (¬3) عزاه إليه الهيثمي في "المجمع" (9/ 166). وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (4/ 156 - 154) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. وأورده ابن قيم الجوزية في "جلاء الأفهام" ونقل تصحيح الحاكم وسكت عليه. (¬4) لم أجده من حديث جابر

العنَويُّ (¬1) كذَّبه يحيى بنُ مَعين وغيرُه. فعلى هذا التسليم الوفي بذلك يحصُل برسم النقْشِ الكتابيِّ الذي له إشعارٌ بالصلاة على أي صِفَةٍ كان لأن النقوشَ [3] الكتابيّةَ بأسرها أمورٌ اصطلاحيةٌ فأيُّ صورةٍ منها جرَى عليها الاصطلاحُ وحصَل بها التفهيمُ جاز (¬2) الاكتفاءُ بها إذا كانت تلك الصورُ متساويةَ الأقدامِ في حصول الفهمِ عند وقوعِ نظرِ الناظرِ عليها، وإن كان في بعضها مَظِنَّةُ لَبْسٍ على بعض الناظرين وبعضُها لا يَلْتبس على أحد كان تأثيرُها لا لَبْسَ فيه أولى. ¬

(¬1) قال ابن عدي في "الكامل" (1/ 304): "عامة ما يرويه لا يتابع عليه إما إسنادًا وإما متنًا". ومن الأحاديث التي تحث المسلم للصلاة على سيدنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 1 - (منها) ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (70/ 408) والترمذي رقم (485) وأبو داود رقم (1530) والنسائي رقم (1296) عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من صلَّى عليّ واحدةً صلى الله عليه عشرًا". (ومنها) ما أخرجه النسائي رقم (1295) وأحمد (4/ 29، 30) والحاكم في "المستدرك" (2/ 420) وابن حبان رقم (2391 ـ موارد). قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. وهو حديث صحيح بشواهده. عن عبد الله بن أبي طلحة، عن أبيه، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء ذات يومٍ والبِشرُ يُرى في وجهه، فقال: "إنَّه جاءني جبريل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أما يرضيك يا محمد أن لا يصلي عليك أحدٌ من أمتك إلا سلَّمت عليه عشرًا". (ومنها): ما أخرجه النسائي رقم (1282) وأحمد (1/ 387، 441، 452) والدارمي (2/ 317) وابن حبان رقم (2393 ـ موارد) والحاكم في "المستدرك" (2/ 421) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وهو حديث صحيح. عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنّ لله ملائكةٌ سيَّاحين في الأرض يبلّغوني من أمتي السلام". (¬2) انظر بداية الرسالة.

السؤال الثاني قال السائل كثّر الله فوائده: كذلك في ركعتي التحيّة في الأوقات التي تُكْره النوافلُ فيها، هل الأَولى فعلُها أو ترْكُها؟ قال ابنُ دقيقِ العيد: لم يَجْزِم في شرح العُمدةِ (¬1) بما هو الحقُّ في المسألة وإنما ذكَر المعارضَةَ بين الأدلة. فلكم الفضلُ بإيضاح الحقِّ في المشروع، فإن النفسَ لم تزَل تتردَّدُ في الفعل والترْك. الجواب أقول: هذه المسألةُ م المضائق التي يتحيَّرُ عندها الفُحولُ من علماء الأصول، ولا يسَعُ المُنْصِفَ عند إمعان النظر فيها غيرُ التوقُّفِ. وبيانُ ذلك أن أحاديث الأمر بفعل التحية (¬2) تعُمُّ جميعَ الأزمانِ التي من جُملتها الأوقاتُ المكروهة، وأحاديثُ النّهي (¬3) عن ¬

(¬1) أي "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" (2/ 49، 50). (¬2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (444) ومسلم رقم (714) وأبو داود رقم (467) والترمذي رقم (316) والنسائي (2/ 53) وابن ماجه رقم (1013) وأحمد (5/ 295). عن أبي قتادة، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا دخل أحدكم المسجد، فليركع ركعتين قبل أن يجلس". - وأخرج البخاري في صحيحه رقم (2097) ومسلم رقم (715): عن جابر بن عبد الله، قال: كان لي على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دينٌ فقضاني وزادني ودخلت عليه المسجد، فقال لي: "صل ركعتين". (¬3) أخرج مسلم رقم (293/ 831) وأحمد (4/ 152) وأبو داود رقم (3192) والترمذي (3/ 348 - 349 رقم 1030) وقال: حديث حسن صحيح والنسائي (1/ 275). وابن ماجه رقم (1519) والطحاوي في "شرح المعاني" (1/ 151) والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 454). عن عقبة بن عامر الجُهني قال: ثلاث ساعاتٍ كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهانا أن نصلِّي فيهنَّ أو نقبر فيهنَّ موتانا: حين تطلع الشمس بازغةً حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمي للغروب حتى تغرب. - وأخرج ابن ماجه رقم (1252) وابن حبان في صحيحه رقم (1540) والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 455). عن أبي هريرة قال: سأل صفوان بن المعطل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله: إني سائلك عن أمر أنت به عالمٌ، وأنا به جاهلٌ. قال: "وما هو؟ " قال: هل من ساعات الليل والنهار ساعةٌ تكره فيها الصلاة؟ قال: "نعم إذا صليت الصبح، فدع الصلاة حتى تطلُعَ الشمس، فإنها تطلع بقرني الشيطان، ثم صلّ فالصلاة محضورةً متقبَّلة حتى تستوي الشمس على رأسك كالرمح فإذا كانت على رأسك كالرمح فدع الصلاة، فإن تلك الساعة تُسجر فيها جهنم وتفتح فيها أبوابها، حتى تزيغ الشمس عن حاجبك الأيمن، فإذا زالت فالصلاة محضورةٌ متقبلةٌ حتى تصلي العصر ثم دع الصلاة تى تغيب الشمس" وهو حديث صحيح. - وأخرج البخاري في صحيحه رقم (581) ومسلم رقم (286/ 826) وأحمد (1/ 50) وابن ماجه رقم (1250) وأبو يعلى في مسنده (1/ 146 رقم 20/ 159) عن ابن عباس قال: حدثني رجال ـ وأعجبهم إليّ عمر ـ أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى على صلاةٍ بعد الغداةِ حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس. - وأخرج البخاري في صحيحه رقم (586) ومسلم رقم (288/ 827) والنسائي (1/ 277 - 278) عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يقول: "لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس".

الصلاة في أوقات مخصوصةٍ تعُمّ جميعَ الصلواتِ التي من جملتها صلاةُ التحية، فبين هذه الأحاديث عمومٌ وخصوصٌ من وجه يجتمع في مادة ويختص كلُّ واحدٍ منهما بمادة. فالمادةُ التي تختصّ بها أحاديثُ التحيةِ هي الأوقاتُ التي لا كراهة فيها، والمادةُ التي تختص بها أحاديثُ النهي عن الصلاة هي الصلواتُ التي ليست بتحية ولا تعارُضَ في هاتين المادتين، إنما التعارضُ في مادة الاجتماعِ وهي فعلُ التحيةِ في الأوقات المنصوص على النهي عن الصلوات فيها، فأحاديثُ التحيةِ تدل على أنه يُشرَعُ فِعلُها فيها، وأحاديث النهي تدل على أنه لا يُشْرَع فعلُها فيها، وليس تخصيصُ أحدِ العمومين بالآخر أولى من تخيص الآخرِ به، فلم يبقَ إلا سُلوكُ طريقِ الترجيح (¬1) ولا سيبلَ إليه، لأن كلَّ ¬

(¬1) قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" (ص907 - 908): ومن أعظم ما يحتاج إلى المرجحات الخارجة إذا تعارض عمومان بينهما عمومٌ وخصوصٌ من وجه وذلك كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلّها إذا ذكرها" مع نهيه عن الصلاة في الأوقات المكروهة فإنّ الأول عامٌّ في الأوقات خاصٌّ في الصلاة المقتضية. والثاني عام في الصلاة خاصٌ في الأوقات، فإن علم المتقدِّم من العمومين والمتأخر منهما كان المتأخر ناسخًا عند من يقول: إن العامّ التأخر يسنخ الخاص المتقدّم وأما من لا يقول بذلك فإنه يعمل بالترجيح بينهما، وإن لم يعلم المتقدم منهما من المتأخر وجب الرجوع إلى الترجيح على القولين جميعًا بالمرجّحات المتقدمة. وإذا استويا إسنادًا ومتنًا ودلالةً رجع إلى المرجحات الخارجة فإن لم يوجد مرجحٌ خارجيّ وتعارضا من كل وجه فعلى الخلاف المتقدم هل يخيَّرُ المجتهد في العمل بأحدهما أو يطرَحُهما ويرجع إلى دليل آخر إن وجد الذي فيه ذكر الوقت ولا وجه لذلك. قال ابن دقيق العيد: هذه المسألة من مشكلات الأصول والمختار عند المتأخرين الوقف إلا بترجيح يقوم على أحد اللفظين بالنسبة إلى الآخر، وكأن مرادهم الترجيح العامّ الذي لا يخص مدلول العموم كالترجيح بكثرة الرواة وسائر الأمور الخارجة عن مدلول العموم. ثم حكى عن الفاضل أبي سعيد محمد بن يحيى أنّه ينظر فيهما فإن دخل أحدهما تخصيصٌ مجمعٌ عليه فهو أولى بالتخصيص، وكذلك إذا كان أحدهما مقصودًا بالعموم رُجِّح على ما كان عمومه اتفاقيًا. قال الزركشي في "البحر" (6/ 146): وهذا هو اللائق بتصرف الشافعي في أحاديث النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة فإنه قال: لما دخلها التخصيص بالإجماع في صلاة الجنازة ضعفت دلالتها فتقدم عليها أحاديث المقضية وتحية المسجد وغيرهما. وانظر: "البحر المحيط" (6/ 145)، "الإحكام" للآمدي (4/ 284 - 173).

واحدٍ من العمومين في الصحيحين وبطرق متعدّدةٍ، وكلُّ واحدٍ منهما مشتملٌ على النهي أو النفي الذي في معناه فانتفى من هذه الحيثية الترجيحُ بصحّة المتْنِ والسندِ وتعدُّدِ الطرقِ والاشتمالِ على دليل الحصر. فإن أمكن الترجيحُ بغير ذلك فذاك. وقد ذهب إلى التمسك بعموم أحاديثِ التحية الشافعيةُ (¬1)، وإلى التمسك بعموم أحاديثِ النهي الحنفيةُ (¬2) والليثُ والأوزاعيُّ، وكلا المذْهبين مشتمِلٌ على محض التحكُّمِ لِما عرفت. ¬

(¬1) انظر "المجموع" (4/ 170). (¬2) انظر: "بدائع الصنائع" (1/ 295 - 296)، "المجموع" (4/ 171 - 173).

وقد احتجَّت الشافعيةُ على جواز فعلِ ذواتِ الأسباب في أوقات الكراهة بحديث أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ صلّى بعد العصر ركعتي الظهر (¬1)، وهو مع كونه أخصّ من الدعوى لا ينتهض للاحتجاج به على المطلوب، لِما ثبت عند أحمدَ (¬2) وغيرِه (¬3) أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لمّا قالت له أمّ سَلَمَة: أفنقضيهما إذا فاتتا؟ [4] قال: لا ففي ذلك إشعارٌ بأن فعلَهما في ذلك الوقتِ مختصٌّ به (¬4) ولو سُلِّم عدمُ الاختصاص لَما كان في ذلك إلا جوازُ قضاء سنة الظهر لا جوازُ جميع ذوات الأسباب، فيقتصِرُ على ذلك. فإن قيل: لم لا يُلْحق بقيةُ ذواتِ الأسبابِ بهاتين الركعتين ويُخصَّصُ عمومُ النهي بهذا القياس؟. قلنا: بعد تسليمِ صحّةِ هذا القياس (¬5) يصلحُ للتخصيص عند من جوّز التخصيص به، ولكن الشأن فيما قدمنا من الدليل القاضي بالاختصاص به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وحديثُ أمِّ سَلَمَة، وإن ضعّفه ................................. ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (1233) ومسلم رقم (297/ 834) وأحمد (6/ 313) وأبو داود رقم (1273) وفيه: قال: "يابنة أبي أمية، سألت عن الركعتين بعد العصر وإنّه أتاني ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين بعد الظهر فهما هاتان". (¬2) في "المسند" (6/ 315). (¬3) كابن حبان رقم (623 ـ موارد) وأبو يعلى في "مسنده" (12/ 457 رقم 150/ 7028) بإسناد صحيح. وذكره الهيثمي في "المجمع" (2/ 223 - 224) وقال: قلت: هو في الصحيح خلا قولها: أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال "لا" رواه أحمد، وابن حبان في صحيحه. ورجال أحمد رجال الصحيح. (¬4) ودليله ما أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (593) ومسلم رقم (301/ 835) من حديث عائشة قالت: "وما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتيني في يومٍ بعد العصر إلاَّ صلى ركعتين". (¬5) ذهب الجمهور إلى جواز التخصيص بالقياس وقال الرازي في المحصول (3/ 96) وهو قول أبي حنيفة والشافعيُّ ومالك وأبي الحسين البصري والأشعري وأبي هاشم أخيرًا. انظر: "إرشاد الفحول" (ص525)، "المسودة" (ص119).

البيهقيُّ (¬1) فهو يؤيده ما أخرجه أبو داودَ (¬2) عن عائشةَ أنها قالت: كان يصلّي بعد العصرِ وينهى عنها. نعم يُخَصَّصُ عمومُ النَّهي بحديث يزيدَ بن الأسود عند الخمسة (¬3) إلا ابن ماجه، قال: شهِدتُ مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ حَجَّتَه فصلّيتُ معه صلاةَ الصُّبْحِ في مسجد الخَيْف، فلما قضى صلاتَه انحرف فإذا هو برجلين في أُخرى القوم لم يُصلِّيا فقال: عَليَّ بهما، فجيء بهما ترعُدُ فرائصُهما فقال: ما منعَكُما أن تُصلِّيا، فقالا: يا رسول الله إنا كنا قد صلَّينا في رحالنا قال: فلا تفعلا، إذا صلّيتُما في رحالكهما ثم أتيتُما مسجد جماعةٍ فصلِّيا فإنها لكما نافلة". ففي هذا دليل على جواز فعل هذه النافلة المخصوصةِ مع الجماعة بعد صلاة الصبح، ويلحق بهذا الوقت بعد العصر، لأنهما سيان في ذلك. ولا يصحُّ إلحاقُ صلاة من دخل المسجد في ذلك الوقت وقد صلَّى، ولم يكن ثمَّ جماعةٌ بصلاته مع الجماعة، لظهور الفارق المانع مع الإلحاق، وهو أنَّ ترك الدخول مع الجماعة، والقعود عند قيام الصلاة، أمر منكر يتشنعه المطلع عليه، ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للرجلين: أمسلمان أنتما؟ ". ومن المخصصات لعموم النهي، حديث ابن عباس عند الدارقطني (¬4)، .......................................... ¬

(¬1) في "السنن الكبرى" (2/ 457) وهو حديث ضعيف. (¬2) في "السنن" رقم (1280) ورجال إسناده ثقات، ولكن ابن إسحاق مدلس وقد عنعنه. فالحديث ضعيف والله أعلم. (¬3) أخرجه أبو داود رقم (575) والنسائي (2/ 112 رقم 858) والترمذي رقم (219) وأحمد في "المسند" (4/ 160 - 161). قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وهو حديث صحيح. (¬4) في "السنن" (1/ 425 رقم 10).

والطبراني (¬1)، وأبي نعيم في "تاريخ أصبهان" (¬2) والخطيب في تلخيصه (¬3)، قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "يا بني عبد المطلب، أو يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدًا يطوف بالبيت، ويصلي، فإنه لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس، إلاَّ عند هذا البيت، يطوفون ويصلون". وهذا الحديث، وإن كان الحافظ في التلخيص (¬4) قال: إنَّه معلول فقد شهد له ما عند أهل السنن (¬5) وابن خزيمة (¬6) وابن حبان (¬7)، والدرقطني (¬8)، من حديث جبير بن مطعم، وقد وهم المجد ابن تيمية في المنتقى (¬9) فنسبه إلى مسلم، لأنَّه قال: رواه الجماعة كلهم إلاَّ البخاري. ¬

(¬1) في "الصغير" (1/ 55 رقم 55 ـ الروض الداني) وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 229) وقال: رواه الطبراني في الصغير وفيه سليم بن مسلم الخشاب وهو متروك. (¬2) (2/ 273). (¬3) عزاه إليه ابن حجر في "التلخيص" (1/ 190). (¬4) (1/ 190) (¬5) أبو داود رقم (1894) والنسائي (5/ 223 رقم 2924) وابن ماجه (1/ 398 رقم 1254) والترمذي (3/ 220 رقم 868) وقال: حديث حسن صحيح. (¬6) في صحيحه (2/ 263 رقم 1280). (¬7) في صحيحه (3/ 46 رقم 1550). (¬8) في السنن (1/ 425 رقم 7، 8). قلت: وأخرجه الدارمي (2/ 70) والبيهقي (2/ 461) وأحمد (4/ 80) والحاكم (1/ 448) وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، ووافقهما الألباني في "الإرواء" (2/ 239). والخلاصة أن حديث جبير بن مطعم صحيح. قلت: ليس المراد من هذا الحديث إباحة الصلاة في الأوقات المذكورة، بل هي نهي لبني عبد مناف من التعرض للمصلي في اي وقت شاء لما كانوا يزعمون لأنفسهم من السلطان على البيت وعلى زائريه، فهو حجر عليهم كف به أيديهم عن التعرض للناس. (¬9) رقم (994) بتحقيقي.

ويشهد له أيضًا، ما عند الدارقطني (¬1) من حديث جابر، وما عند ابن عدي (¬2) من حديث أبي هريرة. واعلم أن الإشكال الذي ذكرناه سابقًا، لا يخفى بتحية المسجد، بل هو كائنٌ في كل مكان دليلُه أعمُّ من أحاديث النهي من وجهٍ وأخصُّ من وجه كأحدايث [5] قضاءِ الفوائت (¬3) والصلاةِ على الجنائز (¬4) ............................ ¬

(¬1) في "السنن" (1/ 424 رقم 3، 4). (¬2) في "الكامل" (3/ 1225) في ترجمة سعيد بن أبي راشد، وقال ابن عدي: لا يتابع عليه. (¬3) (منها): ما أخرجه البخاري رقم (597) ومسلم رقم (684) والترمذي رقم (178) وأحمد (3/ 269) وأبو داود رقم (442) والنسائي (1/ 293 رقم 613). عن أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من نسيَ صلاةً فليُصلِّ إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]. (ومنها) ما أخرجه مسلم رقم (680) والنسائي رقم (619) وابن ماجه رقم (697) وأبو داود رقم (435) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} " [طه: 14]. (ومنها): ما أخرجه أبو داود رقم (443) والبخاري رقم (3571 مطولاً ومسلم رقم (682): عن عمران بن حصين أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كان في مسير له فناموا عن صلاة الفجر فاستيقظوا بحرِّ الشمس، فارتفعوا قليلاً حتى استقلَّت الشمس، ثم أمر مؤذنًا فأذّن فصلى ركعتين قبل الفجر، ثم أقام، ثم صلى الفجر". (¬4) (منها) ما أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 229 رقم 20) عن محمد بن أبي حَرْمَلَة، مولى عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حُويطب، أنَّ زينب بنت أبي سلمةَ تُوفيَّت، وطارقٌ أمير المدينة. فأُتي بجنازتها بعد صلاة الصُّبح، فوضعتْ بالبقيع. قال: وكان طارقٌ يُغلِّسُ بالصُّبح. قال ابن أبي حَرْملَة: فسمعتُ عبد الله بن عمر يقول لأهلها: إمَّا أن تصلّوا على جنازتكم الآن، وإمَّا أنْ تتركوها حتى ترتفع الشمس. وإسناده صحيح. (ومنها): ما أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 229 رقم 21): عن نافع ـ مولى ابن عمر ـ أن عبد الله بن عُمر قال: "يُصلِّي على الجنازة بعد العصر، وبعد الصبح إذا صلّيا لوقتهما". إسناده صحيح. وانظر: "فتح الباري" (3/ 190).

وصلاةِ الكسوفِ (¬1) والركعتين عقيب التطهُّر وصلاة الاستخارة. وما ورد هذا المورِدَ فالوقْفُ فيه متعيِّنٌ حتى يقعَ الترْجيحُ بأمرٍ خارجٍ وينبغي بالنسبة إلى مسألة السؤالِ تجنُّبُ دخولِ المساجدِ في أوقات الكراهةِ لأن الأدلةَ الصحيحةَ قد دلَّتْ على وجوب فعل التحية وتحريمِ ترْكِها وقد بسطْنا الكلامَ على ذلك في رسالة مستقلَّة (¬2)، وأحاديثُ النهي دلّت على تحريم مطْلق الصلاةِ (¬3) في تلك الأوقات فالداخل فيها يقع في أحد المحذورَيْنِ لا مَحالة. ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (91). (¬2) "الرد على القائل بوجوب التحية". (¬3) ما اشتهر في كتب الفقه من المنع عن الصلاة بعد العصر مطلقًا، ولو كانت الشمس مرتفعة نقية، مخالف لحديث علي وحديث أنس وحجتهم في ذلك الأحاديث المعروفة المتقدمة في النهي عن الصلاة بعد العصر مطلقًا، غير أن الحديثين الآتيين يقيدانتلك الأحاديث: عن علي رضي الله عنه قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يُصلّى بعد العصر إلا أن تكون الشمس مرتفعة" وهو حديث صحيح. أخرجه أبو داود رقم (1274) والنسائي رقم (573) وابن حبان رقم (1560) وابن خزيمة رقم (1284) وأبو يعلى رقم (581) وابن الجارود في "المنتقى" رقم (281) والبيهقي (2/ 458) وأحمد (1/ 129، 141). وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تصلُّوا عند طلوع الشمس، ولا عند غروبها فإنها تطلع وتغرب على قرن شيطان، وصلُّوا بين ذلك ما شئتم". أخرجه أبو عيلى في "مسنده" (7/ 220 رقم 1461/ 4216) بإسناد حسن من أجل أسامة بن زيد وهو الليثي. ويشهد له الحديث المتقدم فهو حديث صحيح.

السؤال الثالث قال: كذلك مسألة بيع الرجاء (¬1)، قد اختلفت فيها الأنطارُ فمِن قائلٍ بالصِّحَّة، ومِن قائل بِخلافه. وهل المجيزُ والمُصحِّحُ لبيع الشيءِ بأكثرَ من سِعْر يومِه لأجل النَّسا يُصحِّحُه أم لا؟ فإن الإمامَ عزي الدين بنى على بطلانه مطلقًا، وعلَّله بوجْهين. فأوضِحوا ما ينبغي الاعتماد عليه. وهل يُفرَّق بين أن يكون بالقيمة أو بدونها وبين أن يكونَ متوصِّلاً إلى العلة أم لا فإن هذه المسألة قد عمَّتْ بها البلوى فإنه لا يكاد يبيعُ أحدٌ من أرضه إلا بالتزامٍ مطلقٍ أو مؤقّتٍ انتهى. الجواب قال حفظه الله: أقول: بيعُ الرجاءِ (¬2) يقع على صُورٍ منها ما يُقْطَع ببُطلانه وهو ما كان المقصودُ منه التوصُّلَ إلى الزيادة على المِقْدار الذي وقع فيه الفرضُ وذلك نحوُ أن يُريدَ الرجلُ أن يستقرِضَ مائة درهم إلى أجل ولك نالمُقْرِض لا يرضى إلا بزيادة فيُريدان الخُلوص من إثم الزيادة في القَرْض، فيبيع منه أرضًا بتلك المائة الدِّرْهم ويجعلُ له الغَلَّة ينتفع بها عِوَضًا عن المائة الت يأقرضها، وليس المرادُ البيعَ والشراءَ الذي أذِنَ اللهُ فيه، بل إنكارُها لأنها أفضَتْ إلى ما لا يحِلّ شرعًا وهو الرِّبْحُ في القرض واستجلابُ النفْعِ به، وقد منع رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِن قَبول الهديّة ونحوها من المُستقرِض فكيف بمثل هذا الذي وقع به التواطؤُ من أول وهْلة! ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (115). (¬2) الرجاء: وهو بيع الشيء بالتأخير. انظر: "التوقيف على مهمات التعاريف "للمناوي (ص698)، "القاموس الفقهي" (ص351).

أخرجه ابن ماجه (¬1) عن أنسٍ أنه سُئل عن الرجل يُقرض أخاه المالَ فيُهدي إليه فقال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "إذا أقرض أحدكم قرضًا فأَهْدى إليه أو حمَلَه على الدَّابة فلا يركَبها، ولا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك". وأخرج البخاريُّ في تاريخه (¬2) [6] من حديث أنسٍ أيضًا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا أقْرَض فلا يأخُذ هدية" رواه البخاري في تاريخه. وعن أبي بَرْدَةَ بن أبي موسى قال: قدِمتُ المدينة فلقيتُ عبدَ الله بن سلام فقال لي إنك بأرض فيها الرِّبا فاشٍ فإذا كان لك على رجل حقٌّ فأهدَى إليك حِمْلَ تِبْنٍ أو حِمْلَ شعيرٍ أو حِمْلَ قتٍّ فلا تأخُذْه فإنه ربا. رواه البخاري في صحيحه (¬3) ولا يعارِضُ هذا ما ورد في جواز ما وقع من المُسْتقرِض من الزيادة بعد القضاء بطيبةٍ من نفسه بلا مُواطأةٍ ولا يطمع في التنفيس في الأجل أو التالفِ أو نحوِ ذلك كما أخرجه ¬

(¬1) في "السنن" رقم (2432) وفي إسناده يحيى بن إسحاق الهُنائي وهو مجهول. "التقريب" (2/ 342 رقم 13). وفي إسناده أيضًا عتبة بن حميد الضبي وقد ضعفه أحمد. "الميزان" (3/ 28 رقم 5470). والراوي عنه إسماعيل بن عياش وهو أيضًا ضعيف في غير الشاميين وشيخه الضبي كوفي. "التقريب" (1/ 73 رقم 541). انظر: "مصباح الزجاجة" (2/ 48 رقم 860). والخلاصة أن الحديث ضعيف والله أعلم. (¬2) لم أجده في التاريخ. (¬3) رقم (3814). قال الحافظ في "الفتح" (7/ 131): "قَتّ: بفتح القاف وتشديد المثناة وهو علف الدواب. قوله (فإنّه ربا) يحتمل أن يكون ذلك رأي عبد الله بن سلام، وإلا فالفقهاء على أنه إنما يكون ربا إذا شرطه، نِعمَ الورعُ تركه".

الشيخان (¬1) من حديث أبي هريرة قال: كان لرجل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ سِنٌّ من الإبل فجاءه يتقاضاه، فقال النبيُّ: "أعطوه" فطلبوا سِنَّه فلم يجدوا إلا سنًّا فوقَها فقال: "أعطوه" فقال: "أوفَيْتَني أوفاك الله فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "إن خيرَكم أحسنُكم قضاءً" وما أخرجه أيضًا الشيخان (¬2) من حديث جابر قال: أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وكان لي عليه دَيْنٌ، فقضاني وزادني. وأما ما أخرجه الحارثُ بنُ أبي أُسامةَ في مسنده (¬3) من حديث عليّ عليه السلام قال: نهى رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عن قَرضٍ جرَّ منفعةً. ففي إسناده سوّارُ بنُ مصعب، وهو متروكٌ (¬4) ورواه البيهقيُّ (¬5) عن فُضالة بن عبيد موقوفًا بلفظ "كل قرضٍ جرَّمنفعةً فهو وجهٌ من وجوه الربا" ورواه أيضًا في سننه الكبرى (¬6) من قول ابن مسعود وأُبيّ بن كعب وعبدِ الله بن سلام بن عباس ولم يصِحَّ في ذلك عن النبي شيء كما قال عمرُ بنُ زيدٍ في المُغني (¬7). ووهِم إمامُ الحرمين (¬8) فقال إنه صحَّ وتبعَه الغزاليُّ (¬9) ولا جَرَمَ فليس لهما بعلم الرواية خبرة، فإذا كان المقصودُ بالبيع هو ما قدّمنا فلا صِحَّة له ¬

(¬1) البخاري رقم (2305) ومسلم رقم (1601) وقد تقدم. (¬2) البخاري رقم (2394) ومسلم رقم (71/ 715). (¬3) عزاه إليه ابن حجر في "التلخص" (3/ 34). (¬4) انظر: "الميزان" (2/ 246)، "الجرح والتعديل" (3/ 34). (¬5) في "السنن الكبرى" (5/ 350). (¬6) (5/ 349 - 350). (¬7) اسمه الكامل "المغني عن الحفظ والكتاب" وقد قام بخدمة هذا الكتاب الشيخ أبو إسحاق الحوين الأثري مرتين. في المرة الأولى سماه "فصل الخطاب بنقد المغني عن الحفظ والكتاب" وفي المرة الثانية سماه "جنة المرتاب بنقد المغني عن الحفظ والكتاب" (2/ 403 رقم 56). (¬8) تقدمت ترجمته. (¬9) تقدمت ترجمته.

لأنه لم يقع التراضي بين المُتابعَيْن الذي شرطه الله عز وجل لعدم الانسلاخ، وإنما أراد حيلةَ يُحِلان بها ما حرّم الله فيُضرَب بها في وجوههما ويُحْكم ببُطلان البيعِ، وتُرَدّ الغَلاّتُ المَقْبوضةُ ويُرد الثمن بصفته بلا زيادة ولا نُقصان. ومنا لصور التي يقع عليها بيعُ الرّجا أني بيع الرجلُ من الرجل قاصدًا للبيع منسلخًا عن المبيع غيرَ متحيِّلٍ محرّم إلا أنه جعل لنفسه الخيارَ وإن تمكن من ردّ الثمن إلى وقت كذا فهذا بيعٌ مصحوبٌ بخيار شرطٍ (¬1) ولا بأس فيه، ولا تحري في هذا ما قال الإمامُ عزُّ الدين أن يَقَع الرجا مؤقّتًا في الحقيقة لأن البائع إذا ردّ مثل الثمنِ استرجعه رضي المشتري أم كرِه، لأنا نقول هذا شأنُ خيار الشرط الذي ينفرد به البائعُ وهذا منه كما صرح بذلك المحققون وهو لا يلتزم بُطلان كلّ بيع شرَطَ فيه الخيارَ البائعُ وقد [7] دلت الأدلّةُ على صِحّة الذي يتفرّق البائعان وبينهم صفقةُ خِيار. وأما قولُكم: هل المجيزُ لبيع الشيءِ إلخ. فنقول: قد رُوي عن المؤيَّد بالله (¬2) القولُ بجواز بيعِ الرَّجا على الصورة المتقدِّمة تخْريجًا له من تجويز بيعِ الشيءِ بأكثر من سعر يومِه لأجل النَّسا هو الجوازُ كما حقَّقْنا ذلك في رسالة مستقلَّة (¬3). وأما قولُكم: هل يُفرَّق بين كونِه بالقيمة أو بدونها فنقول: لا فَرْقَ باعتبار الصورة الأولى لأن الكلّ باطلٌ لتلك العِلَّة، وكونُه بالقيمة لا يرفع البُطلان. وأما باعتبار الصورة الثانية ففائدتُه أنها إذا انقضت المُدَّةُ ونَجزَ البيعُ وادّعى البائعُ أنه إنما باع بذلك الثمنِ الدُّونِ لرجاء عَودِ المبيعِ إليه ووجدْنا قيمةَ المبيعِ أزيدَ من الثمن فهل يستحِقُّ التَوْفِيةَ أم لا؟. ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (110). (¬2) تقدمت ترجمته. (¬3) رقم (114) وانظر الرسالة رقم (115).

الظاهرُ أنه يستحِقُّها لأن الرضا الذي شَرَطَه الله في حل التبايُع لا يحصل إلا بذلك إن ظهر لنا صدْقُ دَعْواه لأن ذلك يكشف عن عدم الرضا المُعتَبر، وأما مجرَّدُ التعلُّلِ والتَّمحّلِ وإظهار الدعاوي الباطلة تأسُّفًا على مُفارقة المَبيع ونَدمًا على خروجه من المُلْك فلا يُلْتَفتُ إلى شيء من ذلك.

السؤال الرابع قال: كذلك إذا اشتهر عند النساء أن فلانة رضيعة لفلان ولم يحصل معه الظن الراجح بل حصل التردد فهل يحرم عليه نكاحها ويكون الحكم كما في خبر الأمة السوداء الثابت في الصحيح (¬1)، إلا أن المرأة قد زعمت أن قد أرضعتهما، وأما هؤلاء النساء فإنما هو رجم بالغيب انتهى. الجواب قال حفظه الله أقول: ينبغي أني ينظر في تلك الشهرة الكائنة عند النساء بالرضاع: إلى أي أمر تستند؟ فإن أمكن الوقوف على مستندها عمل على حبسه، وإن لم يكن الوقوف على مستندها فلا ينبغي الاشتغال بهاولا التعويل عليها فإن كثيرًا من الاشتهارات لا مستند لها إلا مجرد الكذب والتخيلات الفاسدة، لا سيما الناقصات عقلا ودينا (¬2)، ¬

(¬1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (5104) ومسلم رقم (3603) والترمذي رقم (1151) والنسائي (6/ 109) وأحمد (4/ 7) والدارمي (2/ 157 - 158) والطيالسي في مسنده (ص190 رقم 1337) والبيهقي (7/ 463). عن عقبة بن الحارث، قال وقد سمعته من عقبة لكني لحديث عبيد أحفظ قال: تزوجت امرأة، فجاءتنا امرأة سوداء فقالت: أرضعتكما، فأتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: تزوجت فلانة بن فلان فجاءت امرأة سوداء. فقالت لي: إني أرضعتكما. وهي كاذبة، فأعرض عني، فأتيته من قبل وجهه. قلت: إنها كاذبة. قال كيف بها وقد زعمت أنها أرضعتكما، دعها عنك" وأشار إسماعيل بن إبراهيم بإصبعيه السبابة والوسطى يحكي أيوب. (¬2) أخرج مسلم في صحيحه رقم (132/ 79). عن ابن عمر قال: خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أضحى أو في فطر ـ إلى المصلى فمر على النساء فقال: "يا معشر النساء تصدقن، فإني أريتكم أكثر أهل النار" فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: "تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن" قلنا: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: "أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل" قلت: بلى قال: "فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى قال: فذلك من نقصان دينها".

فإنه يَنْفُقُ على عقولهن من الأكاذيب ما لا ينْفقُ على غيرهن. نعم إذا وقع الإخبارُ مِن عدْلة بأ، ها أرضعَتْ فلانًا وفلانةً أو نحوُ ذلك وجب العمل بهذا الخبر لحديث عُقْبَة بن الحارث عند البخاري (¬1) أنه تزوَّج أمّ يحيى بنت أبي إهاب فجاءت امرأةٌ فقالت: قد أرضعتُكما، فسأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فقال: كيف وقد قيل! ففارقَها عُقبةُ ونكحَتْ زوجًا غيرَه وفي هذا خلافٌ (¬2) بين الصحابة فمَن بَعدَهم، ولكن الحقَّ أن هذا احلديث الصحيح يخصِّصُ عمومَ الأدلة القاضية باعتبار الشاهِدَين كما خصَّصها عند أكثر المخالفين قَبولُ شهادة المرأة (¬3) في عورات النساء. وحملُ هذا الحديث على الاستحباب والتحرُّزِ عن مظانّ الاشتباه يرُدّه ـ مع كونه في بعض الروايات، وهو يُجيبُه فيجميع ذلك بقوله: كيف وقد قيل: وفي بعضها دعْهَا. وفي رواية للدارقطني (¬4): لا خيرَ لك فيها ولو كان من باب الاحتياط لأمره بالطلاق. وربما يعتذر من قُصر باعُه عن إدراك الحقائق عن عُهدة هذا الحديث بالقاعدة المعروفة في الفقه وهي عدم قبول الشهادة المقررة لقول الشاهد أو فِعْلِهِ، وهي عند من له إلمامٌ بالبحث والكشفِ مَبْنيةٌ على غير أساس، ترُدُّها أدلةُ هذا الحديث. ¬

(¬1) تقدم آنفًا. (¬2) قال ابن قدامة في "المغني" (14/ 134 - 135): لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في قبول شهادة النِّساء المنفردات في الجملة. قال القاضي: والذي تُقبل فيه شهادتُهنَّ منفردات خمسة أشياء؛ الولادة، والاستهلال، والرّضاع. والعيوب تحت الثِّياب كالرَّتق والقرن والبكارة الثيابة والبرص وانقضاء العدّة. وعن أبي حنيفة: لا تقبل شهادتهن منفردات على الرّضاع لأنّه يجوز أن يطلّع عليه محارم المرأة من الرِّجال. فلم يثبت بالنّساء مفردات كالنِّكاح. (¬3) انظر "المغني" (14/ 134 - 137). (¬4) في "السنن" (4/ 177 رقم 19).

أحدُها: تقييد القَبول لخبر المرأة بإفادته الظنَّ للزوج فيرُدُّه تركُه [8] صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لاستفصال عقبة بن الحارث في هذه الواقعة فإنه لم يقل له هل أفادك هذا الخبر ظنًّا؟ ولو كان ذلك معتبرًا لبيَّنة له لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز عليه، حتى قيل أنه مُجْمعٌ عليه (¬1)، على أن حصول الظنّ لازمٌ لإخبار الآحاد (¬2)، وانفكاك الملازمة لا يكون إلا لعلة في أصل الخبر أو المُخْبر. وأما اعتذار الجلال في "ضوء النهار" (¬3) عن هذا الحديثِ بأنه مخالفٌ للأصول فيجب الجمعُ بينه وبينها بحمله على الندْب. فنقول له: ما تريد بالأصول؟ هل الأدلةُ الدالةُ على اشتراط شاهدَين أو رجلٍ وامرأتين أو رجلٍ ويمينِ المدّعي فلا معارضة بينها وبين هذا الحديث لأنه خاصٌّ وهي عامةٌ. أو تريد بالأصول غيرَ ذلك فما هو؟ وكثيرًا ما يشتهر بين النساء ما لا يُجوِّزه عقْلٌ ولا نقلٌ، ولقد وقع في صنعاء مع ¬

(¬1) قال ابن السَّمعانِّي: لا خلاف بين الأمة في امتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة إلى الفعل ولا خلاف في جوازه إلى وقت الفعل لأن المكلف قد يؤخر النظر وقد يخطئ إذا نظر فهذان الضربان لا خلاف فيهما. " البحر المحيط" (3/ 494)، "اللمع" (ص29)، "تيسير التحرير" (3/ 174). (¬2) قال الشوكاني في "السيل الجرار" (2/ 521): " ... قد تعبدنا الله سبحانه بالعمل بالظنّ ولا سيما في مثل النكاح الذي يترتب عليه الخطر العظيم من اسحلال فرج حرّمه الله. ولحوق نسبٍ بغير من هو له. وقد ثبت التعبد بالعمل بأخبار الآحاد وهي لا تفيد إلا الظنّ ولا وجه لتقييد الظنّ هنا بالغياب بل يجب العمل بكل ظن يصدق عليه مسمى الظنّ إذا لم يكن مجرد شكوك ووسوسة ومقتضى العمل بالظن هو إخبار الزوج المُقِرّ بحصول الظنّ له ". (¬3) (3/ 113). وقال الشوكاني في "السيل الجرار" (2/ 512): تعقيبًا على حديث عقبة بن الحارث: "وهذا النهي والأمر يدلان أوضح دلالة على وجوب العمل بقول المرضعة، ولم يصب من تكلف لرد هذه السنة بما لا يسمن ولا يغني من جوع".

نسائها في بعض السنين القريبة قضيةٌ غريبةٌ هي أنه شاع عندهُنّ شيوعًا لا يكاد يخفى على أن القيامةَ ستقوم يوم الجُمعة من الأسبوع الفلاني، ثم إنهن ذلك اليومَ بادَرْن بالغداة في أول اليوم ولبس كثيرٌ منهن ثيابَ الزِّينة وانتظرن لقيام القيامة، وشاهدْنا من ذلك ما يُتعجَّب منه، وأخبرنا جماعةٌ من الرجال عن نسائهم بغرائبَ وقعتْ في ذلك اليوم، فكيف يثبُت بالشُّهرة عند طائفةٍ منهن حكمٌ شرعيٌّ ويُفَرَّقُ بين زوجَين وبرفع نكاحٍ صحيحٍ بمجرّد ذلك؟.

السؤال الخامس كذلك مسألة التعزير (¬1) بالمال فيمن فعل مَعصيةً لا تُوجب الحدّ هل يُسوَّغ لحاكم الصلاحية أن يُعزِّر به أم لا؟ فإن قلتم لا. فإذا كان يتعذّر الحبسُ ونحوُه أو يكون تغريم المال [9] أبلغَ في الزجْر فهل يكون له منْدوحةٌ في التعزير به لهذا المرجِّح كالإمام؟ فإن قلتم: نعم، فالمصرِفُ المصلحةُ ولا يمكن إذا سبّ رجلٌ آخر أن تطيبَ نفسُ المسبوب إلا بصرف ذلك المال إليه، وربما يكون غيرَ مصرِفٍ فإذا لم يُصْرَفْ ثارت منه الفتنةُ بيّنوا ذلك بالبراهين الصحيحة وجُزيتم خير الدارين بحق محمدٍ وآله. الجواب قولُه حفظه الله. أقول: ينبغي أولاً أن تُحقّق مسألة جواز التأديب بالمال لتتّضح التفاصيلُ. فاعلم أنه قد اختُلف في جواز التأديب بالمال على الإطلاق، فجوّزه الإمام يحيى والهادوية. قال في الغيث (¬2): لا أعلم في جواز ذلك خلافًا بين أهل البيت، وإلى ذلك ذهب الشافعيّ (¬3) في القديم من قولَيه ثم رجع عنه وقال إنه منسوخٌ وهكذا قال البيهقيّ (¬4) وأكثرُ الشافعية. قال في التلخيص: وتقّبه النوويُّ (¬5) فقال: الذي ادّعوه من كون العقوبة كانت ¬

(¬1) التعزير: - ضربٌ دون الحَدّ. - شرعًا: تأذيب على ذنبٍ لا حدّ فيه ولا كفارة غالبًا. انظر: "القاموس الفقهي" لسعدي أبو جيب (ص250). (¬2) تقدم التعريف به. (¬3) انظر: "المهذب" للشيرازي (5/ 463 - 464). (¬4) انظر: "مغني المحتاج" (4/ 191 - 194)، "السنن الكبرى" (8/ 327 - 328). (¬5) في "المجموع" (19/ 104).

بالأموال في أول الإسلام ليس بثابت ولا معروف ودعوى النسخ غير مقبولة مع الجهل بالتاريخ (¬1)، وقد نقل الطحاوي والغزالي الإجماع على نسخ العقوبة بالمال (¬2). وحكى بعضُ المتأخرين عن النووي مثل ذلك، وكلامه الذي ذكرناه سابقًا يدل على خلافه، وزعم الشافعي أن الناسخ حديث ناقة البراء (¬3) لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ¬

(¬1) قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (28/ 111): ومن قال: إن العقوبات المالية منسوخة وأطلق ذلك من أصحاب مالك وأحمد فقد غلط على مذهبما، ومن قاله مطلقًا من أي مذهب كان: فقد قال قولاً بلا دليل. ولم يجيء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيء قط يقتضي أنّه حرم جميع العقوبات المالية. بل أخذ الخلفاء الراشيدن وأكابر أصحابه بذلك بعد موته دليل على أن ذلك محكم غير منسوخ. وعامة هذه الصور منصوصة عن أحمد ومالك وأصحابه، وبعضها قول عند الشافعي باعتبار ما بلغه من الحديث. ومذهب مالك وأحمد وغيرهما: أن العقوبات المالية كالبدنية: تنقسم إلى ما يوافق الشرع، وإلى ما يخالفه، وليست العقوبة المالية منسوخة عندهما، والمدّعون للنسخ ليس معهم حجة بالنسخ، لا مع كتابٍ، ولا سنة. (¬2) انظر التعليقة السابقة. (¬3) يشير إلى الحديث الصحيح الذي أخرجه مالك في "الموطأ" (2/ 747 رقم 37) عن ابن شهاب عن حرام بن سعد بن مُحيصة، أنّ ناقةً للبراء بن عازب دخلت حائط رجلٍ فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنّ على أهل الحوائط حِفظها بالنّهار. وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامنُ على أهلها". قلت: وهذا سند مرسل صحيح، وقد أخرجه الدارقطني (3/ 156 رقم 222) والبيهقي (8/ 341) وأحمد (5/ 435 - 436) من طريق مالك به. وتابعه الليثب بن سعد عن ابن شهاب به مرسلاً. أخرجه ابن ماجه رقم (2332) وتابعهما سفيان ابن عيينة عن الزهري، عن سعيد بن المسيّب، وحرام بن سعد بن محيصة أن ناقة للبراء ... أخرجه أحمد (5/ 436) والبيهقي (8/ 342). وتابعهم الأوزاعي، لكن اختلفوا عليه، في سنده، فقال أبو المغير ثنا الأوزاعي عن الزهري عن حرام بن محيصة الأنصاري به مرسلا. أخرجه البيهقي (8/ 341). وقال الفريابي عن الأوزاعي به إلا أنه قال: "عن البراء بن عازب" فوصله. أخرجه أبو داود رقم (3570) وعنه البيهقي (8/ 341) والحاكم (2/ 48). وكذا قال محمد بن مصعب: ثنا الأوزاعي به موصلاً. أخرجه أحمد (4/ 295) والبيهقي (8/ 341) والدارقطني (3/ 155 رقم 219). وكذا قال أيوب بن سويد: ثنا الأوزاعي به، أخرجه الدارقطني (3/ 155 رقم 217) والبيهقي (8/ 314). فقد اتفق هؤلاء الثلاثة: الفرياني، ومحمد بن مصعب، وأيوب بن سويد، على وصله على الأوزاعي، فهو أولى من رواية أبي المغيرة عنه مرسلاً لأنهم جماعة. وهو فرد. وتابعهم معمر، واختلفوا عليه أيضًا، فقال عبد الرزاق؛ ثنا معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه أن ناقة للبراء الحديث. فزاد في السند "عن أبيه" أخرجه أبو داود رقم (3569) وابن حبان (رقم 1168 ـ موارد) والدارقطني (3/ 154 رقم 216) أحمد (5/ 436) والبيهقي (8/ 342). وقال: "وخالفه وهيب، وأبو مسعود الزجاج عن معمر، فلم يقولا: عنه عن أبيه". قال ابن التركماني في "الجوهر النقي" (8/ 342 مع السنن): "وذكر ابن عبد البر بسنده عن أبي داود، وقال: لم يتابع أحد عبد الرزاق على قوله في هذا الحديث: "عن أبيه" وقال أبو عمر: أنكروا عليه قوله فيه: "عن أبيه" وقال ابن حزم: هو مرسل .. ". قال المحدث الألباني في "الصحيحة" (1/ 425): "لكن قد وصله الأوزاعي بذكرالبراء فيه، في أرجح الروايتين عنه، وقد تابعه عبد الله بن عيسى عن الزهري عن حرام بن محيصة عن البراء به. أخرجه ابن ماجه رقم (2332) والبيهقي (8/ 341 - 342). وعبد الله بن عيسى هو ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو ثقة محتج به في الصحيحين، فهي متابعة قوية للأوزاعي على وصله، فصح بذلك الحديث ولا يضره إرسال من أرسله، لأن زيادة الثقة مقبولة، فكيف إذا كانا ثقتين؟ وقد قال الحاكم (2/ 48) عقب رواية الأوزاعي "صحيح الإسناد، على خلاف فيه بين معمر والأوزاعي" ووافقه الذهبي، كذا قالا، وخلاف معمر مما لا يلتفت إليه لمخالفته لروايات جميع الثقات في قوله: "عن أبيه" على أنَّه لم يتفقوا عليه في ذلك كما سبق، فلو أنهما أشارا إلى خلاف مالك، والليث، وابن عيينة في وصله لكان أقرب إلى الصواب، ولو أن هذا لا يُقلُّ به الحديث لثبوته موصولاً من طريق الثقتين كما تقدم".

حكَم عليه بضمان ما أفسدت. ولم يُنْقَل أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ في تلك القضية أضعف الغرامة. ولا يخفى أن تركَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ للمعاقبة بأخذ المال في هذه القضية لا يستلزم الترك مطلقًا ولا تصلح للنسخ بكل حلا، ومن جملة ما تعلّق به المانعون من العقوبة بالمال قوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬1) وقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} (¬2)، وكذلك قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ في خُطبة الوداع: "فإندماءكم وأموالكم عليكم حرامٌ كحُرمة يومكن هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلْقَونه". أخرجه البخاريُّ (¬3) وأحمد (¬4) وغيرُهما (¬5)، وكذلك حديثُ "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبعة من نفسه" (¬6). واحتج القائلون بجواز العقوبة بالمال بحُجج منها حديثُ بهزِ بن حكيم عن أبيه عن جدِّه عند أحمدَ (¬7) والنسائي (¬8) وأبي داود (¬9) ..................................................... ¬

(¬1) [النساء: 29]. (¬2) [البقرة: 188]. (¬3) في صحيحه رقم (67) وأطرافه رقم (105، 1741، 3197، 3197، 4406 و4662، 5550، 7087، 7447). (¬4) في "المسند" (5/ 37). (¬5) كمسلم رقم (1679) وأبي داود رقم (1948) كلهم من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. (¬6) وهو حديث صحيح بشواهده وقد تقدم. (¬7) في "المسند" (5/ 4). (¬8) في "السنن" (5/ 15 رقم 2444). (¬9) في "السنن" رقم (1575).

والحاكم (¬1) والبيهقيِّ (¬2) قال: سمعتُ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: "في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنةُ لَبون لا يُفَرَّقُ إبلٌ عن حسابها، ومن أعطاها مُؤتجرًا فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها وشطر إبله". وفي رواية (¬3) "وشطْر ماله عزمة من عزمات ربِّنا تبارك وتعالى لا يحل لآل محمد منها شيءٌ". قال يحيى بنُ معين: إسنادُه صحيحٌ إذا كان مَن دون [10] بهزٍ ثقةً. وأجاب المانعون عن هذا الحديث بأن في إسناده بهز بن حكيم وقد قال أبو حاتم (¬4) هو شيخٌ يُكتَب حديثُه ولا يُحتجّ به. وقال الشافعيُّ (¬5) ليس حجة. وهذا الحديث لا يُثْبتُه أهلُ العلمِ بالحديث، ولو ثبت لقُلنا به وسُئل (¬6) عنه أحمد بن حنبل فقال: ما أدري ما وجهُهُ، فسُئِل عن إسناده فقال صالح الإسناد. وقال ابن حبان (¬7) كان بهزٌ يُخْطِئ كثيرًا، ولولا هذا الحديثُ لأدخَلْتُه في الثقات. وقال ابن الطّلاّع (¬8) في أوائل الأحكام هو مجهولٌ، وقال ابنُ حزمٍ (¬9): غيرُ مشهور العدالة. ¬

(¬1) في "المستدرك" (1/ 397 - 398) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. (¬2) في "السنن الكبرى" (4/ 105). (¬3) في "السنن" عند أبي داود رقم (1575) وقد تقدم. (¬4) في "الجرح والتعديل" (2/ 431). (¬5) ذكره ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (1/ 437)، وفي "التلخيص" (2/ 161). (¬6) ذكره ابن حجر في "التلخيص" (2/ 161). (¬7) في "المجروحين" (1/ 194). (¬8) ذكره ابن حجر في "التلخيص" (2/ 161). (¬9) في "المحلى" (6/ 75). وقال ابن حزم في "المحلى" (8/ 169): ضعيف. وقال مرة في "المحلى" (11/ 132): ليس بالقوي.

قال الحافظ (¬1): وهو خطأٌ منهما، وقد وثّقه خلقٌ من الأئمة. ومما أجابوا به عن هذا الحديث ما رُوي عن إبراهيم الحربيِّ (¬2) أنه قال في سياق هذا المتْنِ ما لفظُه: وهِمَ فيه الراوي وإنما هو وأنا آخذها من شطر مالِه، أي يُجْعل ماله شطرين ويَتَخَيَّر عليه المُصَدِّقُ ويأخذ الصدقة من خير الشطرين عقوبةً لمنعه الزكاة، فأما ما لا يلزمُه فلا. نقله عن ابن الجوزي في جامع المسانيد، ورُدَّ هذا الجوابُ بأن الأخذَ من خير الشطرين صادقٌ عليه اسمُ العقوبة بالمال لأنه زائدٌ على القدر الواجب، ومما أجابوا به ما قال بعضهم إن لفظهُ: وشُطِرَ ماله بضم الشين المعجمة وكسر الطاء المُهملة، فعلٌ مبنيٌّ للمجهول، ومعناه مثلُ ما قال الحرْبيُّ ويُردّ بما رُدَّ به. ومن الأدلة القاضيةِ بجوار العقوبة بالمال حديثُ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ همّ بإحراق بيوت المُتخلِّفين عن الجماعة وهو في الصحيحين (¬3) وغيرِهما (¬4) وأُجيب عنه بمنع كون هَمِّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ دليلاً لاتفاق أئمة الأصول وغيرهم أن السُّنة أقوالٌ وأفعالٌ وتقريراتٌ لا سُوى. ويردّ بأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لا يَهُمُّ إلا بالجائز، والجوازُ هو المطلوب. ومن الأدلة أيضًا حديثُ عمرَ عند أبي داود (¬5) قال: قال النبي صلى الله عليه وآله ¬

(¬1) في "التلخيص" (2/ 161). (¬2) انظر: المصدر السابق. (¬3) البخاري رقم (644) ومسلم رقم (651). (¬4) كمالك في "الموطأ" (1/ 129) وأبي داود رقم (548) والنسائي (2/ 107) وابن ماجه رقم (791) والبيهقي (3/ 55) من حديث أبي هريرة. (¬5) في "السنن" رقم (2713). قلت: أخرجه أحمد (14/ 53 رقم 275 ـ الفتح الرباني) والترمذي رقم (1461) والحاكم في "المستدرك" (2/ 127) والبيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 103) من حديث عمر بن الخطاب. وفي إسناده صالح بن محمد بن زائدة تركه سليمان بن حرب، وقال عنه البخاري: منكر الحديث، كما في "الميزان" (2/ 299)، و"المجروحين" (1/ 367). والخلاصة أن الحديث ضعيف والله أعلم.

وسلم إذا وجدتم الرجلَ قد غلَّ فأحرِقوا متاعَه. وأُجيب عنه بأن في إسناده صالح بن محمد بن زائدة المديني. وقد قال البخاريُّ (¬1) عامةُ أصحابنا يحتجّون به وهو باطلٌ. وقال الدارَقُطْنيُّ (¬2): أنكروه على صالح ولا أصل له، والمحفوظ أن سالمًا أمرَ بذلك في رجل غَلّ في غَزاةٍ مع الوليد بن هشام، قال أبو داودَ (¬3): هذا أصحّ. ومن الأدلة أيضًا حديثُ ابن عمرِو بن العاص عند أبي داود (¬4) والحاكم (¬5) والبيهقي (¬6) أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر وعمر أحرقوا متاع الغالّ وضربوه. وأُجيب عنه بأن في إسناده زهير بن محمد. قيل هو الخُراسانيُّ وقيل غيرُه وهو مجهولٌ (¬7). ومن الأدلة أيضًا حديثُ سعد بن أبي وقاص عند مسلم (¬8)، قال: سمعتُ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: "من وجدْتُموه يصيد فيه ـ يعني حرم المدينة ـ فخُذوا سَلَبه" وأجيب أنه من باب الفِدية كما يجب على من تصيَّد [11] صيدَ مكةَ، وإنما عيَّن صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ هنا نوعَ الفدية بأنه سلب القاصد، فيقتصر على السبب لقصور العلة التي هتْكُ الحُرْمة عند التعْدية. ومنها حديثُ ابن عمرَ وأيضًا عند أبي ..................................... ¬

(¬1) ذكره ابن حجر في "التلخيص" (4/ 114). (¬2) عزاه إليه ابن حجر في "التلخيص" (4/ 114). (¬3) في "السنن" رقم (2714) وهو حديث ضعيف جدًّا. (¬4) في "السنن" رقم (2715). (¬5) في "المستدرك" (2/ 131) وقال: حديث غريب صحيح لم يخرجاه ووافقه الذهبي. (¬6) في "السنن الكبرى" (9/ 102) وهو حديث ضعيف. (¬7) انظر: "الجرح والتعديل" (3/ 589). (¬8) في صحيحه رقم (1364). وقد تقدم.

داود (¬1) وسكت عنه، والمنذريُّ (¬2) أن النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ سُئِل عن التمر المعلّق فقال: "من أصاب بفيه من ذي حاجة غير مُتّخذ خبنةً فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجَرينُ فبلغ ثمن المِجَنَّ فعليه القطعُ ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبةُ". وأخرج نحو النَّسائي (¬3) والحاكم (¬4) وصحّحه. ومن ذلك حديثُ تغريم كاتمِ الضالّةِ (¬5) إذا كتمها أن يردُّها ومثلَها. ومن ذلك قضيةُ المدَديِّ (¬6) الذي أغلظ لأجله عوفُ بنُ مالكٍ على خالدِ بن الوليد لما أخذَ سَلَبَه، فقال النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "لا يرد عليه" أخرجه مسلم (¬7). ويُجاب بأنه واردةٌ على سبب خاصٍّ فلا تجاوزَ بها إلى غيرها لأنها وسائر أحاديث الباب مما ورد على خلاف القياسِ لما تقدَّم من أدلة الكتاب والسنة القاضية بتحريم مال الغير على العموم فيكون ما صح من هذه الأدلة الخاصّة المتضمِّنة للعقوبة بالمال مُخصِّصًا لذلك العموم ويقتصر عليها. ولا يُلْحق بها غيرُها لقصور عِلَلِها عن التعدّي إلى الغير، فإن فُرِض صلاحيتُها أو بعضِها للتعدّي أُلحِقَ بها ما صح إلحاقُه على الحد المعتبرِ في الأصول ¬

(¬1) في "السنن" رقم (4390). (¬2) في "مختصر السنن" (6/ 223) وهو حديث حسن. (¬3) في "السنن" (8/ 58 رقم 4958). (¬4) في "المستدرك" (4/ 381). وهو حديث حسن. وانظر "الإرواء" رقم (3413). (¬5) يشير المؤلف إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (1718) عن أبي هريرة، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ضالة الإبل المكتومة غرامتها ومثلها معها". قال المنذري في "المختصر" (2/ 273): لم يجزم عكرمة بسماعه من أبي هريرة فهو مرسل. وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود". (¬6) أي رجل من المدد الذين أرسلهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اليمن مع جيش مؤتة لإمداده. (¬7) في صحيحه رقم (43/ 1753) وقد تقدم.

من كمال الأركان والشروط والسلامة من النقوض، ويكون من باب التخصيص (¬1) بالقياس عند مجوِّزيه، لا أنه يُلْحق بها كلُّ فردٍ من أفراد العقوبة بالمال. وقد استدل أيضًا على جواز العقوبة بالمال بآثار (¬2) عن الصحابة منها إحراقُ عليِّ عليه السلام الطعام المُحتكر ولدور قومٍ يبيعون الخمرَ وهدْمِه لدار جرير بن عبد الله ومشاطَرَةِ عمرَ لسعد بن أبي وقاصٍ في ماله الذي جاء به من العمل الذي بعثه إليه وتحريقه لقصر لما احتجب عن الناس فيه، وتضْمينه لحاطب بن أبي بَلْتَعة مِثْلَي قيمة الناقة التي غصبها عبيدُ وانتحروها وتغليظه هو وابن عباسٍ الدّية على من قتل في الشهر الحرام في البلد الحرام. وأُجيب عن جميع ذلك بعد تسليم صِحَّة أسانيدها إليه بأنها أفعالُ صحابةٍ لا تنتهض لتخصيص أدلةِ الكتابِ والسُّنة، ولا تَصلُح للاحتجاج بها في مقام النِّزاع. إذا تقرر هذا علم السائلُ كثّر الله فوائدَه أن العقوبة بالمال لا يجوز استعمالُها في كل قضية بل في قضايا خاصةٍ كما سلف، ثم في تلك القضايا الخاصة لا وجْهَ لتخصيص ذلك بالإمام لأن الأصْلَ في الأحكام الواردة عنه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ عدمُ اختصاصها بفردْ أو أفرادٍ ولكنه يُعلم بالضرورة اختصاصُها بأهل الولايات، لأن التأديبَ والتعزيزَ إليهم [12] ولو أجزْنا ذلك لكل فرد لزم أن يأكل الناس أموال بعضهم بعضًا بالباطل وهو باطلٌ، وحاكمُ الصلاحية إذا كان عالمًا من جُملة أهل الولايات الذين تجب طاعتهم. حتى قال بعض المفسِّرين (¬3): إن العلماء هم المُرادون بقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (¬4) فيجوز لهم التأيدبُ بالأموال على ذلك الحدِّ وصرْف المال فيمن يكون الصرفُ إليه مصلحةٌ، ولا شك أن الصرْفَ إلى أحد الخصمين ـ إذا ¬

(¬1) تقدم توضيحه. وانظر "إرشاد الفحول" (ص525). (¬2) تقدم ذكره. وانظر الرسالة رقم (126). (¬3) انظر "الجامع لأحكام القرآن" (5/ 259 - 261). (¬4) [النساء: 59].

كان لا يرضى إلا بصرْف المالِ إليه ويثور عن صَرْفه إلى غيره فتنةٌ، وتنشأ مفسدةٌ ـ مصلحةٌ، لأن المصالح لا تختصّ بنوع من الأنواع فلا أصْلَحَ من الصرْف إليه عند ذلك لأن الأمور التي تندفع بها المفاسدُ مصالحُ إذا لم يتسبَّبْ عنها مفاسدُ مُساويةٌ أو راجحةٌ.

السؤال السادس: قال: كذلك ما يقول مولانا المجتهدُ بدرُ الإسلامِ أمتع الله به في كيفة ردائه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ وأين كان يضعه؟ هل فوق العِمامة أو على عاتقه الأيمن أو على الأيسر، أو اضطباعٌ (¬1)؟ أم كيف كان يفعل فإن بعضَ الشافعيةِ من أهل زبيد (¬2) قال: لا يصنع الاضْطباعَ في غير الطوافِ إلا الدُّعارُ، وهو شعارهم فأوضِحوا الكيفية جُزيتم الجنَّةَ بحق محمدٍ وآله. الجواب: يقول حفظه الله: أقول: ثبت في صفته لُبْسِه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ لردائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كيفياتٌ وكلُّها جائزةٌ، وكان كثيرًا ما يتقنّع. قال الترمذيُّ في الشمائل (¬3): بابُ ما جاء في تقنّع رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ حدّثنا يوسفُ بن عيسى حدثنا وكيع حدّثنا الربيعُ عن صُبح عن يزيدَ بن أبانَ ¬

(¬1) الاضطباع: هو أنْ يأخذ الإزار أو البُرد فيجعل وسطه تحت إبطه الأيمن، ويُلقي طرفيه على كتفه الأيسر من جهتي صدره وظهره وسُمّي بذلك لإبداء الضّبعين. ويقال للإبط الضّبعُ للمجاورة. "النهاية" (3/ 73). (¬2) تقدم التعريف بها. (¬3) (ص61). قلت: وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (5/ 226 رقم 6464) وأورده السيوطي في "الجامع الصغير" رقم (7140) وعزاه للترمذي في "الشمائل" والبيهقي. ورمز السيوطي لحسنه. وقال الحافظ العراقي: سنده ضعيف. وقال المحدث الألباني في "مختصر الشمائل" (ص36) رقم 26 وفي إسناده ضعيفان، انظر "الضعيفة" رقم (2356). وقال ابن كثير: فيه غرابة ونكارة. والخلاصة أن الحديث ضعيف والله أعلم.

عن أنس بن مالك قال: كان رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يُكثر القِناعَ كأنه ثوبَه ثوبُ زيّات. والقِناعُ والتقنُّع وهو التَغَشّي بالثواب كما في القاموس (¬1) وغيره (¬2) من كتب اللغة. وثبت أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ جاء إلى أبي بكر متقنِّعًا بالهاجرة. فإن قلتَ يُشكل على هذا ما قاله ابنُ القيم (¬3) من أنه لم يُنقل عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه لبس الطَيْلَسان (¬4) ولا أحدٌ من أصحابه، بل قد ثبت في صحيح مسلم (¬5) من حديث النّواسِ بن سمعانَ (¬6) عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه ذكر الدّجال فقال: يخرج معه سبعون ألفًا من يهود أصفهان عليهم الطيالسة. ورأى أنسٌ جماعةً من الطيالسة فقال: ما أشبَهَهُم بيهود خيبر. قال ابنُ القيِّم (¬7): ومن هنا كرِه جماعةٌ [13] من السّلف والخلَفِ لُبْسَ الطيلسانِ لما رواه أبو داودَ (¬8) الحاكم في المستدرك (¬9) عن ابن عمرَ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ¬

(¬1) (ص978). (¬2) انظر "لسان العرب" (11/ 323). (¬3) في "زاد المعاد" (1/ 142). (¬4) الطيالسة: جمع طيلسان بفتح اللام، ولا تكسره العرب في المشهور وكاه والبكريُّ بكسر اللام وهو الكساء. وهو أعجميُّ معرَّب والهاء في جمعه للعجمة. "المفهم" (7/ 293). (¬5) رقم (124/ 2944). الطيالسة: جمع طيلسان. والطيلسان أعجمي معرب: ثوب يلبس على الكتف يحيط بالبدن ينسج للبس خالٍ من التفصيل والخياطة. (¬6) بل هو من حديث أنس بن مالك ولقد وهم ابن القيم وتبعه في ذلك الشوكاني. (¬7) في "زاد المعاد" (1/ 142). (¬8) في "السنن" رقم (4031). (¬9) لم أجده في المستدرك. قلت: وأخرجه أحمد (2/ 50، 92) والطحاوي في "مشكل الآثار" (1/ 88) وابن أبي شيبة في "المصنف" (5/ 313) وعبد بن حميد في "المنتخب" رقم (848) كلهم من حديث ابن عمر. وهو حديث صحيح.

أنه قال: "من تشبَّه بقوم فهو منهم" وفي الترمذيّ (¬1) عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "ليس منّا مَن تشبّه بقوم غيرِنا". قلتُ: هذا إنما يُشكِلُ إذا كان التقنُّعُ هو التَّطيْلُسُ، وليس كذلك بل هو غيرُه، وقد وقع من ظنَّ اتّحادهما في الإشكال، حتى قال ابنُ القيِّم (¬2): أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لم يتقنَّع إلا في تلك الساعةِ التي جاء فيها إلى أبي بكر ليختفي بذلك ففعلَه ولم يكن عادته التقنُّع. ثم أجاب عن حديث أنسٍ المذكور بأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كان يتقنّع للحاجة من الحرِّ ثم اعترف بعد ذلك بأن التقنُّع ليس هو التَّطَيْلُسَ فلم يبقَ موجِبٌ لتأويل ما ثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ من إكثار التقنُّعِ. وأما الاضطباعُ فلم يفعلْه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إلا في الحج عند الطواف كما في حديث يعلى بن أُميّة عند ابن ماجه (¬3) والترمذيّ (¬4) وصحّحه وأبي داودَ (¬5) وأحمد (¬6) وحديث ابن عباس عند أحمد (¬7) وأبي داود (¬8) ولكن لا مانِعَ مِن فعلِه، ومَن زعم عدم ¬

(¬1) في "السنن" رقم (2695). وقال الترمذي: هذا حديث إسناده ضعيف. ولكن يشهد له ما قبله فهو به حسن. (¬2) في "زاد المعاد" (1/ 142). (¬3) في "السنن" رقم (2954). (¬4) في "السنن" رقم (859) وقال: حديث حسن صحيح. (¬5) في "السنن" رقم (1883). (¬6) في "المسند" (4/ 222). وهو حديث حسن. (¬7) "المسند" (12/ 19 رقم 227 ـ الفتح الرباني). (¬8) في "السنن" رقم (1884) وهو حديث صحيح.

جوازِه فعليه الدليلُ، لأن الأصلَ جوازُ لُبْس الثياب على جميع الهيئات إلا على هيئة منهيّ عنها، كاشتمال (¬1) الصَّماء (¬2)، فإنه قد ثبت النهْيُ عنه من حديث أبي سعيدٍ عند الجماعةِ (¬3) كلّهم إلا الترمذيّ، وكالتّطيْلُس للدليل المتقدِّم بعد تسليم انتهاضه للاستدلال به على المطلوب. ويمكن أن يُستَدَلُّ لمن منع من الاضطباع في غير الطواف بما تقدم من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "من تشبَّه بقوم فهو منهم" (¬4). وتمامُ هذا الاستدلالِ يتوقّف على اختصاص الاضطباع بأهل الشّرارة من الدُّعار. والاضطباعُ (¬5) جعلُ الأردية تحت الآباط ثم قذْفُها على العاتق الأيسر. ¬

(¬1) الاشتمال: افتعال من الشملة، وهو كساء يُتغطّى به ويُتلفف فيه، والمنهيُّ عنه هو التحلل بالثوب وإسباله من غير أن يرفع طرفه. "النهاية" (2/ 501). (¬2) قال في "النهاية" (3/ 54): وإنما قيل صمّاء، لأنه يسدّ على يديه ورجليه المنافذ كلها، كالصّخرة الصّماء التي ليس فيها خرق ولا صدع. والفقهاء يقولون: هو أن يتغطى بثوبٍ واحد ليس عليه غيره، ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبه، فتنكشف عورته. (¬3) البخاري رقم (367) ومسلم رقم (1512) وأبو داود رقم (2417) والنسائي (8/ 210) وابن ماجه رقم (3559) وأحمد (3/ 6). (¬4) تقدم تخريجه وهو حديث حسن. (¬5) تقدم ذكره.

السؤال السابع: قال: كذلك مسألةٌ حدثتْ في بلادنا وهو أن رجلاً ادّعى على آخرَ نحوَ خمسين قرشًا وأوردَ شاهدًا واحدًا، ثم بعد إيرادِه للشاهد قال للمدّعى عليه: صالحني فهل يكون طلبُه للمصالحة إقرارًا أم لا؟ مع أن الشاهدَ عْدلٌ وإنما طلب المصالحةَ ليستريحَ من الخصام، ثم ترجَّح له من بعدُ أن يُكمل شاهدَه، فهل له ذلك أم لا؟ ولا يخفاكم ما في المقصد الحسنِ. بيِّنوا لنا ذلك جُزيتم خيرًا بحق محمدٍ وآلِه الطاهرين. الجواب: يقول حفظه الله تعالى: أقول: طلبُ المدّعي للمصالحة على فرض عدمِ قيامِ شاهدٍ ولا غيرِه من الأمور التي يثبُت بها الحقُّ على طريق الاستقلال أو مع الانضمام إلى الغير ـ لا يكون إقرارًا ببُطلان دعواه [14] ولا إبطالاً لِما يستحقّه زائدًا على ما وقعت به المصالحةُ، لما تقرَّر من أن المصالحات ليست بأحكام يجب على كل واحدٍ من المتصالِحَيْن التزامُها والتوقّفُ على مقتضى ما وقعتْ عليه. بل لكل واحدٍ منهما نقضها متى شاء، وهذا مما لا أعلمُ فيه خلافًا، فقولُ السائلِ كثّر الله فوائدَه: هل يكون طلبُه للمصالحة إقرارًا: إنْ أراد إقرارًا ببُطلان الدعوى فلا مِريَة أن مجرَّد الطلب للصُّلح لا يكون إقرارًا ببطلان الدّعوى. وإن أراد أن يكون إقرارًا بعدم استحقاقِ القدْرِ الزائدِ على ما وقعت به المصالحةُ فكذلك. نعم لو كان الطالبُ للمصالحة هو المدّعى عليه لكان لذلك الطلبِ شائبةُ إقرار بفَرْع الثبوت. والحاصلُ أنه يجوز للمدّعي بعد وقوعِ المصالحة ببعض المقدار الذي ادّعاه أن يُطالِبَ بالزائد عليه فإن كان له بُرهانٌ على ذلك فلا شكَّ في صحة ذلك ولزومِه، وإن لم يكن له برهانٌ فله طلبُ اليمين من المدعى عليه أنه لا يستحقُّ عليه ذلك المقدار، أو لا يستحقُّ عليه شيئًا من الأصل، أو لا يستحق عليه زائدًا على ما وقعتْ به المصالحةُ. ثم هذا الصلحُ مع كونه غيرِ ملازمٍ لما عرفْتَ هو أيضًا صلحٌ على إنكار، وقد جزَم أهلُ .........

المذهب (¬1) بأنه غير صحيحٍ وإن كان الحقُّ أن صحيحٌ. أما أولاً: فلعدم المانع والأصل الجواز. وأما ثانيًا: فلأنّ أدلة الكتاب (¬2) والسنة (¬3) دلّت على مشروعية مُطلق الصُّلح ومن ادعى مشروعية فرد من الأفراد فعليه الدليل. وأما ثالثًا: فلما ثبت في الصحيحين (¬4) وغيرهما أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لمّا سمع من مخاصمة أُبيِّ بن كعب وابن أبي حدْرد في المسجد قال: "يا كعب ضع الشطرَ" ¬

(¬1) قال صاحبُ "الأزهار" (3/ 427 ـ مع السيل الجرار): "ولا يصح عن حدّ ونسب وإنكار" ورده الشوكاني بقوله: "هذا الصلح مندرجٌ تحت عموم الحديث المتقدم، وليس فيه تحليل حرام، ولا تحريم حلال فلا وجه للمنع منه". (¬2) قال تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]. (¬3) أخرج ابن ماجه رقم (2353) والترمذي رقم (1352) وقال: هو حديث حسن صحيح. والحاكم (4/ 101) وسكن عليه وقال الذهبي "واهٍ" من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه، عن جده مرفوعًا: بلفظ "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا حرّم حلالا أو أحلّ حرامًا". وهو حديث صحيح لغيره. (¬4) البخاري رقم (457) ومسلم رقم (1558). قال ابن قدامة في "المغني" (7/ 6): أنّ الصلح على الإنكار صحيحٌ وبه قال مالك وأبو حنيفة وقال الشافعي لا يصح. لأنه عاوض على ما لم يثبت له فلم تصح المعاوضة. ثم قال: فلا يصح هذا الصلح إلا أن يكون المدّعي معتقدًا أنّ ما ادّعاه حقٌّ والمدّعى عليه يعتقد أنّه لا حقّ عليه فيدفع المدّعي شيئًا افتداءً ليمينه وقطعًا للخصومة، وصيانة لنفسه عن التبذل، وحضور مجلس الحاكم، فإنذ ذوي النفوس الشريفة والمروءة يصعب عليهم ذلك، ويرون دفع ضررها عنهم من أعظم مصالحهم، والشّرع لا يمنعهم من وقاية أنفسهم وصيانتها ودفع الشرّ عنهم ببذل أموالهم. والمدّعي يأخذ ذلك عوضًا عن حقه الثابت له، فلا يمنعه الشّرع من ذلك أيضًا، سواء كان المأخوذ من جنس حقّه، أو من غير جنسه بقدر حقّه أو دونه، فإن أخذ من جنس حقه بقدره فهو مستوفٍ له، وإن أخذ دونه، فقد استوفى بعضه وترك بعضه، وإن أخذ غير جنس حقه فقد أخذ عوضًا. ولا يجوز أن يأخذ من جنس حقِّه أكثر مما ادّعاه، لأن الزائد لا مقابل له، فيكون ظالمًا بأخذه ... ".

فقال: رضيتُ يا رسولَ الله، ثم قال لابن أبي حدْرد: "قم فاقْضه" هذا إن كانت المخاصمة الواقعةُ بينهما في المقدار (¬1)، وإن كانت في التعجيل والتأجيل فليس مما يدل على محل النِّزاع. ¬

(¬1) قال الشوكاني في "وبل الغمام على شفاء الأوام" (2/ 301): الظاهر أنها تجوز المصالحة عن إنكار، نحو أن يدعي رجل على آخر مائة دينار، فينكره في جميعها، فيصالحه على النصف من ذلك المقدار، لأن مناط الصلح التراضي والمنكر قد رضي بأن يكون عليه بعض ما أنكره. وأي مقتضٍ بمنع هذا وإن كان مثل حديث: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبعة من نفسه" فهذا قد سلم بعضًا مما أنكره طيبة به نفسه، وإن كان غير ذلك فما هو؟. ثم حديث كعب المتقدم المشتمل على وقوع التنازع بين الرجلين، إن كان التنازع بينهما في المقدار فهو أيضًا في التعجيل والتأجيل فهو أيضًا صلح عن إنكار لأن منكر الأجل قد صولح على أن يتعجل البعض من دينه، ويسقط الباقي إلى مقابل دعوى صاحبه للأجل ... ".

السؤال الثامن: قال: كذلك إذا اشتهر بين الناس أن هذه الأرض لآل فلان وهم كانوا أهل قوةٍ، وصار كلُ أحدٍ من أهل تلك المحلَّة ينسبُها إليهم ثم ادّعاها رجلٌ من أهل تلك المحلّة بعد التنبيه له من بعض المُميِّزين أن هذه الأرض أرضُ أبيك، وإنما بسطها هؤلاء عُدوانًا وأنا أشهدُ لك وستلْقَى غيري من الكبار يشهدُ لك معي، ثم ادّعى ذلك الرجل أنها أرض أبيه فأجاب الباسطون: أنك مَقِرٌّ أنها لنا فكيف تدّعيها؟ فقال: صحيح قلت ما يقولُ الناسُ لبُسوطكم والآن ظهر لي أنها لأبي وشهودي قيامٌ فهل تُقْبل هذه الدعوى والشهادةُ والحالةُ هكذا أم لا؟ أفيدوا في ذلك فإن المسألة (¬1) راهنةٌ [15]. ¬

(¬1) إذ توافرت وسائل الإثبات في دعواه فله الحق فيها. والإثبات لغة: إقامة الثبت وهو الحجة. والإثبات في اصطلاح الفقهاء: هو إقامة الحجة، أمام القضاء بالطرق التي حددتها الشريعة على حق أو واقعة تترتب عليها آثار شرعية. فالإثبات في الغالب هو المعيار في تمييز الحق من الباطل، والسمين من الغث وهو الحاجز أمام الأقوال الكاذبة، والدعاوي الباطلة، وهذا الذي نلمسه في الحديث الشريف الذي يعتبر منار القضاء، وأساس الإثبات فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لو يُعطى الناس بدعواهم لادعى رجالٌ دماء رجالٍ وأموالهم لكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر" ـ حديث صحيح متفق عليه ـ وجه الدلالة أنّه لا يقبل الادعاء بدون دليل، وإلا تطاول الناس على الأعراض وطالبوا بأموال الآخرين وزهقت الأنفس. فكل ادعاء يحتاج إلى دليل، وكل قول لا يؤخذ إلا بالحجة والبرهان وكل حق يبقى ضعيفًا مهددًا بالضياع، مجردًا عن كل قيمة إذا لم يدعم بالإثبات ويصبح الحق عند المنازعة فيه هو والعدم سواء، ولذلك قال بعض العلماء: إن الدليل فديةُ الحق، أو جزية الحق، ولولا الإثبات لضاعت الحقوق وزهقت الأنفس. ويشترط في الإثبات أن تتوافر فيه شروط منها: 1 - أن تسبقه دعوى. 2 - أن يوافق الإثبات الدعوى. 3 - أن يكون الإثبات في مجلس القضاء. 4 - أن يكون الإثبات منتجًا في الدعوى. 5 - أن يكون موافقًا للعقل والحس وظاهر الحال. 6 - أن يستند الإثبات إلى العلم أو غلبة الظن. 7 - أن يكون الإثبات بالطرق التي أقرها الشارع. يتم إثبات الحق أوالواقعة أمام القاضي بوسائل كثيرة: أهمها الإثبات بالشهادة، والإثبات بالإقرار، والإثبات باليمين والإثبات بالكتابة، والإثبات بالقرائن، والإثبات بعلم القاضي، والإثبات بالمعاينة والخبرة". "بدائع الصنائع" (6/ 277)، "تبصرة الحكام" (1/ 129)، "الطرق الحكمية" (ص88).

الجواب: قال حفظه الله: أقول: قد اجتمع لثابت اليد على الأرض أمورٌ: منها الثبوت الذي لا يعادله شيءٌ من القرائن القاضية بثبوت المُلْك ولا يُوازيه. ومنها الاشتهار والاستفاضة اللذان لا يقصران عن إثبات ظاهر لمن كانت الأرض منسوبةً إليه بهما. ومنها الأصل الأصيل الذي يكون عليه مدار التعويل، وهو أن من كان ثابت اليد على شيء فالأصل عدم دخوله إليه بوجه غصْبٍ ونحوِه، وعدم خروجه عنه إلا بما يقتضي التمليك للغير، فمن قام في مقابل هذه الأمور وادّعى ما يخالفها لم يكن لديه من إقامة البُرهان الذي ينقل عن الأصل والظاهر والثبوت، وإذا أقامه قبل. ولا يقال إن موافقته للناس في النِّسبة يكذّب دعواه لأنه قد أبان العُذر بأن ذلك كان لأمر فارتفع، فإذا جاء البرهان الصحيح بذلك علمنا صِدْق دعواه وعدم تقدم ما يُكذِّبُها على التحقيق ولكنه لا بد أن تكون الدعوى والبينة الصادرتان منه متضمّنتين لكون أبيه مات مالِكًا لتلك الأرض ولم يقع للشهود علمٌ بالانقال، فإذا أقام البيّنة على هذه الصفة، فتلك

الأمور الثلاثة التي ذكرناها سابقًا قد عُورضت بما هو أقوى منها، ولكنها لا تَبظُلُ بالمرّة وإنما يبطل كونُها موجبة لكون القول قول ثابت اليد، ويصير باعتبار المعارض الراجح القول قول من أقام البيّنة، وينعكس الأمر فيقال لثابت اليد: هل لك دليلٌ ينقُل عن الأصل والظاهر اللَّذين صارا بيد الوارث المذكور، فإن جاء بما يدلُّ على الانتقال من مُلك ذلك الميْتِ أو مُورّثه إلى مُلكه إما بيّنه أو حُكمِ حاكم، أو إقرارٍ كان ذلك أرجح من شهادة الوارث التي أقامها لأنها مُبْقيةٌ على الأصل وهي ناقلةٌ. ولأن غاية مستندها هو الاستصحاب وهو لا يُعوَّل عليه إلا عند فقدِ ما يَنْقُلُ عنه.

السؤال التاسع: قال: كذلك قد ظهر استقرار الملكين بابن آدم بعد موته أنهما يقومان على قبره (¬1)، ¬

(¬1) وهو حديث ضعيف، ورد من حديث أبي بكر، وأبي سعيد، وأنس. - أما حديث أبي بكر: فقد أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (3/ 228) والسيوطي في "اللآلئ" (2/ 432) من طريق إسماعيل بن يحيى التيمي حدثنا قطر بن خليفة، عن أبي الطفيل قال: سمعت أبا بكر يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا قبض العبد المؤمن صعد ملكاه إلى السماء، فقال الله لهما: ارجعا إلى قبره واحمداني وهللاني إلى يوم القيامة، فإنني قد جعلت له مثل أجر تسبيحكما وتحميدكما وتهليلكما، ثوابا مني له فإذا كان العبد كافرًا فمات صعد ملكاه إلى السماء، فيقول الله عز وجل لهما: ما جاء بكما؟ فيقولان: رب قبضت عبدك وجئناك، فيقول لهما: ارجعا إلى قبره والعناه إلى يوم القيامة، فإنه كذبني وجحدني، فإني جعلت لعنتكما عذابا أعذبه يوم القيامة". وفي سنده "إسماعيل بن يحيى التيمي" عامة ما رويه من الحديث بواطل عن الثقات وعن الضعفاء ـ قاله ابن عدي في "الكامل" (1/ 302). - وأما حديث أبي سعيد: فقد أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (3/ 228) والدارقطني في "الأفراد" كما في "الحبائك" رقم (378) والسيوطي في "اللآلئ" (2/ 432) وأبو نعيم في "الحلية" (7/ 253) من طريق إسماعيل بن يحيى، حدثنا مسعر عن عطية، عن أبي سعيد قال: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إذا قبض الله عز وجل روح العبد صعد ملكاه إلى السماء فقالا: يا ربنا إنك ولكتنا بعبدك المؤمن نكتب عمله، وقد قبضته إليك، فأذن لنا أن نسكن السماء فيقول: سمائي مملوءة من ملائكتي يسبحوني فيقولون: ائذن لنا أن نسكن الأرض، فيقول: أرضي مملوءة من خلقي يسبحوني، ولكن قوما على قبره، فسبحاني واحمداني وهللاني واكتباه لعبدي إلى يوم القيامة". قال أبو نعيم: غريب تفرد به سعدان عن إسماعيل. تقدم الكلام عليه. - وأما حديث أنس: فقد أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (3/ 229) والسيوطي في "اللآلئ" (2/ 432 - 433) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله عز وجل وكل بعبده المؤمن ملكين يكتبان عمله، فإذا مات قال الملكان اللذان وكلا به: قد مات فأذن لنا أن نصعد إلى السماء، فيقول الله عز وجل: سمائي مملوءة من ملائكتي يسبحوني، فيقولان: في الأرض، فيقول: أرضي مملوءة من خلقي يسبحوني، فيقولان: أين، فيقول: قوما عند قبر عبدي، فسبحاني واحمداني وكبراني وهللاني واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة". قال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح وقد اتفقوا على تضعيف "عثمان بن مطر" وقال ابن حبان يروي الموضوعات عن الأثبات لا يحل الاحتجاج به. وقال ابن عراق في "تنزيه الشريعة" (2/ 371): "تعقب: بأن البيهقي أخرج في "الشعب" (7/ 183 - 184 رقم 9931) حديث أنس وقال: عثمان بن مطر ليس بالقوي، ثم إنه لم ينفرد به، فقدتابعه الهيثم بن جماز أخرجه أبو بكر المروزي في "الجنائز" وأبو بكر الشافعي في "الغيلانيات" (1/ 633 رقم 846) و (1/ 634 رقم 847). قال البيهقي: وله شواهد أخرى عن أنس، ثم روى بإسنادين عنه مرفوعًا نحوه، والله تعالى أعلم.

وإنما الإشكالُ في مادة الشياطين المُسلَّطين أين يذهبون بعد موته، أفيدوا جُزيتُم خيرًا بحق محمدٍ وآله. الجوابُ: قال حفظه الله: أقول: لم أقِفْ إلى الآن على دليل يدُل على خصوص المكان الذي تذهبُ إليه الشياطينُ بعد موت الشخص الذي يلازمونه حال حياته كالقرين ونحوه، وإذا لم يرِدْ هذا عن الشارع فلا مانعَ من أن يقالَ فيه بالرأي نظنُّه أنهم يذهبون [16] إلى الأمكنة التي يستقِرُّ فيها إخوانُهم الشياطين لأن الغالبَ على الفرد من النوع أوا لجماعة منه إذا فارقوا أبناءَ نوعِهم في أمر من الأمور أن يعودوا عند فراغِهم من ذلك إليهم. والشياطينُ الملازمون للإنسان كذلك. لاسيما وقد ورد أنهم يعودون إلى كبارهم فيقولون: أغوينا فلانًا (¬1)، أوقعنا الفتنة بين بني فلان، فعلْنا كذا فعلْنا كذا وهؤلاء لعلهم ¬

(¬1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم رقم (67/ 2813) عن جابر بن عبد الله، قال قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن إبليس يضع عرشه على الماء ثيم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنةً، يجيء أحدهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئًا، قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركتُه حتى فرقت بينه وبين امرأته، قال فيدنيه منه ويقول: نعم: أنت". قال الأعمش: أراه قال: "فيلتزمه".

يعودون إلى كبارهم وأبناء نوعهم فيقولون أغوينا من كنا نصاحبه، ألهيناه عن الشهادة، سولنا له المضارة في وصيته، وعلى فرض أن يكون ذهابهم بعد ذلك إلى غير ما هو الغالب فليس مما يتعلق بها فائدة ولا يحتاج إلى الدراية به. نعم ورد ما يدل على أنه يأتي الشيطان الإنسان إلى قبره (¬1) ويتعرض لفتنته وهذا إن كان من الملازمين (¬2) له حال الحياة فهو يدل على أنهم لا يفارقونه عند الموت مفارقة لا يوافقونه بعدها. اللهم إنا نسألك العصمة من هذا العدو المسلط. ¬

(¬1) انظر "التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة" (1/ 100 - 102). (¬2) قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ، حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف: 36 - 38]. قال ابن كثير في تفسيره (7/ 228) هذا الذي تغافل عن الهدي نقيض له من الشياطين من يضله، ويهديه إلى صراط الجحيم، فإذا وافى الله يوم القيامة يتبرم بالشيطان الذي وكل به: {قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} وقرأ بعضهم: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} يعني القرين والمقارن. قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر: عن سعيد الجريري قال: بلغنا أن الكافر إذا بعث من قبره يوم القيامة سفع بيده شيطان فلم يفارقه، حتى يصيرهما الله إلى النار فذلك حين يقول: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ}. أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (2/ 161). وقال الآلوسي في "روح المعاني" (25/ 81): {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} أي نتح له شيطانا ليستولي عليه استيلاء القيض على البيض وهو القشر الأعلى. {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}: دائما لا يفارقه ولا يزال يوسوسه ويغويه وهذا عقاب الكفر بالختم وعدم الفلاح.

السؤال العاشر قال: مسألة عصمة أمير المؤمنين أفضِلوا بنقل الأحاديث الدالّة على ذلك وما الحقُّ في المسألة؟ وكذلك الزَّهراء وابْناها تفضّلوا، وإن شقّ عليكم الحالُ فإن السائلَ مستفيدٌ وفي النفس أشياءُ ولكن ستكون شفاءها إن شاه الله أو على حال غير هذا والسلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاته. أقولُ: عصمةُ علي وحُجَّة قولِه: ذهب إلى القول بهما جماعةٌ من أهل البيت عليهم السلام وذهبت جماعةٌ منهم وسائرُ المسلمين أجمعين إلى أن المعصوم إنما هو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ على الخصوص والحُجّة إنما هي ما جاء عن الله وعنه. وقد استدل الأولون لذلك بأدلة منها: ما أخرجه الحاكمُ (¬1) والطبرانيُّ في الأوسط (¬2) عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "عليَّ مع القرآن والقرآنُ مع عليِّ ولن يفترِقا حتى يرِدا عليَّ الحوضَ (¬3) ". ¬

(¬1) في "المستدرك" (3/ 124) وقال: صحيح الإسناد، وأبو سعيد التيمي هو عقيصاء ثقة مأمون. وأقره الذهبي. - ولكن الذهبي قال في "الميزان" (3/ 88 رقم 5701) "يقال: اسمه دينار، شيعي تركه الداقطني. وقال الجوزجاني: غير ثقة، وروى عنه الأعمش، والحارث بن حصير. وقال ابن عمين: رُشيد الهجري سيء المذهب، وعقيصًا شرُّ منه". (¬2) (5/ 135 رقم 4880) من حديث أم سلمة. وأورده الهيثمي في "المجمع" (9/ 134) وقال: فيه صالح بن أبي الأسود وهو ضعيف. وأخرجه الطبراني في "الصغير" (2/ 28 رقم 720 ـ الروض الداني). قلت: وقال الذهبي في "الميزان" (2/ 288 رقم 3771): "واهٍ". وقال ابن عدي في "الكامل" (4/ 1384 - 1385). أحاديثه ليست بالمستقيمة. والخلاصة أن الحديث ضعيف والله أعلم. (¬3) أما ما ورد في الحوض فقد أخرج البخاري رقم (6579) ومسلم رقم (2292) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك وكيزانه كنجوم السماء من شرب منها فلا يظمأ أبدًا".

ومنها ما أخرجه الطبرانيُّ (¬1) والحاكمُ (¬2) وأبو نُعيم (¬3) عن زيد بن أرقم من حديث وفيه: فإنه ـ يعني عليًّا ـ لن يُخرجكم من هدى، ولن يُدخلكم في ظلال. ومنها ما أخرجه أبو نُعيم في الحلية (¬4) عن حُذيفة أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: إن تُولّوا عليًّا تجدوه هاديًا مهديًا يسلك لكم الطريق المستقيم. وما أخرجه الدَّيلمي (¬5) عن عمار بن ياسر وأبي أيوب بلفظ: "يا عمار إن رأيت عليًّا قد سلك واديًا وسلك الناس واديًا غيرَه فاسلك مع علي". وما أخرجه الحاكم (¬6) عن أبي ذرٍ أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: من فارق عليًّا [17] فارقني، ومن فارقني فقد فارق الله". ¬

(¬1) في "الكبير" (5/ 194 رقم 5067). وأورده الهيثمي في "المجمع" (9/ 108) وقال: فيه يحيى بن يعلى الأسلمي، وهو ضعيف. (¬2) "المستدرك" (3/ 128) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد. وتعقبه الذهبي بقوله: أنَّى له الصحة والقاسم متروك، وشيخه ضعيف واللفظ ركيك فهو إلى الوضع أقرب. (¬3) في "الحلية" (4/ 349 - 350) وقال: غريب من حديث أبي إسحاق تفرد به يحيى عن عمار، وحدث به أبو حاتم الرازي عن أبي بكر الأعين عن يحيى الحماني عن يحيى بن يعلى". وخلاصة القول أن الحديث ضعيف جدًّا وهو إلى الوضع أقرب. (¬4) (1/ 64). (¬5) في "الفردوس بمأثور الخطاب" (5/ 385 رقم 8501). (¬6) في "المستدرك" (3/ 146) وصحح إسناده بلفظ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي: "من فارقني فقد فارق الله، ومن فارقك فقد فارقني". وأخرجه الطبراني في "الكبير" (12/ 423 رقم 13559) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من فارق عليًّا فارقني ومن فارقني فارق الله" وفيه أحمد بن صبيح لا يساوي شيئًا.

وما أخرجه الدَّيلميُّ (¬1) عن أبي ذرٍّ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "يا عليّ أنت تُبيّن للناس ما اختلفوا فيه من بعدي". وما أخرجه الطبرانيُّ (¬2) عن سلمان من حديث قال فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "هذا فاروق هذه الأمة يفرق بين الحق والباطل" يعني عليًّا. وأخرج نحوه أيضًا الطبراني (¬3) عن أبي ذرّ. وابن عديّ (¬4) والعُقَيليِّ (¬5) عن ابن عباس. وما أخرجه أبو يعلى (¬6) وسعيدُ بنُ ...................................... ¬

(¬1) في "الفردوس" (5/ 332 رقم 8347) من حديث أنس بن مالك. (¬2) عزاه إليه الهيثمي في "المجمع" (9/ 102) وقال رواه الطبراني والبزار (3/ 183 رقم 2522 ـ كشف) عن أبي ذر وحده (وزاد فيه) "أنت أول من آمن وقال فيه والمال يعسوب الكفار" وفيه عمرو بن سعيد المصري هو ضعيف. قلت: ليس في إسناد البزار عمرو بن سعيد، بل فيه عباد، وهو الرواجني، رافضي داعية. (¬3) عزاه إليه الهيثمي في "المجمع" (9/ 102) وقال رواه الطبراني والبزار (3/ 183 رقم 2522 ـ كشف) عن أبي ذر وحده (وزاد فيه) "أنت أول من آمن وقال فيه والمال يعسوب الكفار" وفيه عمرو بن سعيد المصري هو ضعيف. قلت: ليس في إسناد البزار عمرو بن سعيد، بل فيه عباد، وهو الرواجني، رافضي داعية. (¬4) في "الكامل" (4/ 1544) وفيه عبد الله بن داهر، وعامة ما يرويه في فضائل علي وهو فيه منهم. (¬5) عزاه إليه السيوطي في "اللآلئ" (1/ 324) وفيه ابن داهر. قال اعلقيلي: كان ممن يغلو في الرفض إسحاق بن بشر الأسدي: حدثنا خالد بن الحارث عن عوف عن الحسن عن أبي ليلة الغفاري قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "ستكون من بعيد فتنة فإذا كان ذلك فالزموا علي بن أبي طالب فإنّه أول من يارني، وأول من يصافحني يوم القيامة وهو الصديق الأكبر وهو فاروق هذه الأمة يفرق بين الحق والباطل وهو يعسوب المؤمنين والمال يعسوب المنافقين". قال الحاكم: إسناده غير صحيح. وفي الميزان (1/ 186 - 188) إسحاق بن بشر كذاب في عداد من يضع الحديث وأورد له هذا الحديث والله أعلم. (¬6) في "المسند" (2/ 318 - 319 رقم 78/ 1052). وأورده الهيثمي في "المجمع" (7/ 234 - 235) وقال: رواه أبو يعلى ورجاله ثقات.

منصور (¬1) عن أبي سعيد الخُدْري قال: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "الحقُّ مع ذا الحقُّ مع ذا" يعني عليًّا. وما أخرجه الخطيبُ (¬2) عن أنس بن مالك قال: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ "أنا وهذا حجةٌ على أمتي يوم القيامة" يعني عليًّا. وأخرج الحاكم في المستدرك (¬3) عن عليّ عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله ¬

(¬1) لم أجده. (¬2) عزاه إليه السيوطي في "اللآلئ" (1/ 365 - 366) من طريق مطر بن أبي مصر عن أنس به، وهو حديث موضوع آفته مطر. وقال السيوطي: قال الذهبي في "الميزان" (4/ 127 - 128) هذا باطل والمتهم به مطر فإن عبيد الله ثقة شيعي ولكنه آثم برواية هذا الإفك والله أعلم. (¬3) (3/ 135). قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (2310) ووكيع في "أخبار القضاة" (1/ 84 - 85) والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 86) وابن سعد من "الطبقات" (2/ 337) وأحمد في "المسند" (1/ 83) والنسائي في "تهذيب خصائص الإمام علي رضي الله عنه" (ص40 - 41 رقم 31) من طريق الأعمش عن عمرو بن مرَّة، عن أبي البخْتَري عن علي رضي الله عنه، قال: بعثني رسول الله إلى اليمن. فقلت: يا رسول الله بعثتني وأنا شاب أقضي بينهم ولا أدري ما القضاء! فضرب صدري بيده ثم قال: "اللهم اهد قلبه وثبت لسانه! فوالذي فلق الحبة ما شككتُ في قضاء بين اثنين". قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي. قلت: واعجبًا وقد صرح النسائي في "الخصائص" (ص44): بأن أبا البختري لم يسمع من علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ويؤيد ذلك رواية شعبة عن عمرو بن مرة، قال: سمعتُ أبا البختري الطائي قال: أخبرني من سمع عليًّا يقول: ... فذكره. أخرجه أحمد (1/ 136) والطيالسي في "المسند" (ص16 رقم 98) والبيهقي (10/ 86 - 87) ووكيع في "أخبار القضاة" (1/ 85) وإسناده صحيح لولا هذا المبهم. كما قال ابن حجر في "التلخيص" (4/ 182). وأخرجه أبو داود (4/ 11 رقم 3582) والترمذي (3/ 618 رقم 1331) وابن سعد في "الطبقات" (2/ 337) وأحمد في "المسند" (1/ 111) وابنه في "زوائده" (1/ 111، 149) والطيالسي في "المسند" (ص19 رقم 125) والحاكم في "المستدرك" (4/ 93) والبيهقي (10/ 86) ووكيع في "أخبار القضاة" (1/ 85، 86) من طرق كثيرة عن سماك بن حرب عن حنش بن المعتمر عن علي رضي الله عنه. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. قلت: ولم يتفرد به شريك بل تابعه زائدة بن قدامة عند أحمد (1/ 150) والطيالسي في "المسند" (ص119 رقم 125) وأسباط بن نصر، وأبان بن تغلب، وسليمان بن قدم وغيرهم عن وكيع. جميعهم عن سماك به. وسماك وهو ابن حرب في كلام، وحديثه حسن. وحنش بن المعتمر الكوفي ضعفه جماعة، وشريك وهو ابن عبد الله القاضي سيء الحفظ، ولكنه توبع كما تقدم. وأخرجه البزار كما في "نصب الراية" (4/ 61) وابن سعد في "الطبقات" (2/ 337) ووكيع في "أخبار القضاة" (1/ 85) وأحمد (1/ 88، 156) من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي رضي الله عنه فذكره بنحوه. وله شواهد عن ابن عباس. وبريدة الأسلمي. وأبي رافع وغيرهم. قال المحدث الألباني في "إرواء الغليل" (8/ 228) بعد الكلام على هذا الحديث. وجملة القول أن الحديث بمجموع الطرق حسن على أقل الأحوال والله أعلم.

وسلم قال له: "إن الله سيهدي قلبك ويثبِّت لِسانَك". وأخرج أبو نُعيم في الحلية (¬1) عن أبي بَرْدَةَ أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "إن عليًّا رايةُ الهدى وإمامُ الأولياء" ونحوُ هذه الأحاديث كثيرٌ وقد أجاب الجمهور عنها بأجوبة: منها: القدحُ في أسانيد بعضِها. ومنها: المنعُ من دِلالتها على المطلوب. ومنها: الإلزامُ بأنه لا يختص ذلك بعلي عليه السلام بل تثبُت العصمةُ وحُجّيّةُ القول لجماعة من الصحابة ورَدَ فيهم ما يدل على نحو ما دلّتْ عليه هذه الأحاديث كما ¬

(¬1) (1/ 66 - 67) بإسناد ضعيف.

ورد في حق ابن مسعود أن النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "رضيتُ لأمتي بما رضي لها ابنُ أمّ عبد" (¬1). وما ورد في أبي عُبيدةَ من أنه "أمينُ هذه الأمة" (¬2) بعد أن سُئل النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أن يبعثَ مع أهل اليمن رجلاً يعلِّمُهم السّنة. وما ورد في حق أبي بكرٍ وعمر من حديث حذيفة عند الترمذي (¬3) أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "اقتدوا باللذين بعدي أبي بكر وعمر" وما أخرجه الشيخان (¬4) والترمذي (¬5) من حديث ¬

(¬1) وهو حديث صحيح. أخرجه الحاكم في "المستدرك" (3/ 317 - 318) وقال: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي ووافهما الألباني في "الصحيحة" (3/ 225). (¬2) أخرجه البخاري رقم (3744)، ورقم (4382، 7255) ومسلم رقم (53، 54/ 2419). من حديث أنس. (¬3) في "السنن" رقم (3662) وقال الترمذي: حديث حسن. قلت: وأخرجه أحمد في "المسند" (5/ 382، 385، 402) وابن ماجه رقم (97) والحاكم في "المستدرك" (3/ 75) والطحاوي في "مشكل الآثار" (2/ 83 - 84) والحميدي في "مسنده" (1/ 214 رقم 449) وابن سعد في "الطبقات" (2/ 334) وأبو نعيم في "الحلية" (9/ 109) والخطيب في "تاريخ بغداد" (12/ 20) والبغوي في "شرح السنة" (14/ 101 رقم 3894، 3895) كلهم من طرق عن عبد الملك بن عمير عن ربعّي بن حراش عن حذيفة بن اليمان به. وأخرجه الترمذي رقم (3663) وأحمد في "المسند" (5/ 399) وابن حبان (رقم 2193 ـ موارد) من حديث حذيفة أيضًا لكن من طريق سالم بن عبد الواحد المرادي، وقيل: ابن العلاء المرادي أبو العلاء. وأخرجه الترمذي رقم (3805) وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه .. والحاكم (3/ 75 - 76) وقال: إسناده صحيح ورده الذهبي بقوله: قلت: سنده واهٍ، والبغوي في "شرح السنة" (14/ 102 رقم 3896) وقال: حديث غريب كلهم من حديث ابن مسعود. لكن من طريق أبي سلمة بن كهيل عن أبي الزَّعْرَاء. وانظر: "الصحيحة" رقم (1233). (¬4) البخاري في صحيحه رقم (75، 143، 3756، 7270) ومسلم رقم (138/ 2477). (¬5) في "السنن" رقم (3823) وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه ... وأخرجه الترمذي في "السنن" رقم (3824) وقال: حديث حسن صحيح.

ابن عباس أن النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قال لابن عباس: "اللهم فَقّهه في الدين" وفي رواية: "اللهم علّمه الكتابَ" وفي أخرى "الحِكمة". وأخرج الترمذيُّ (¬1) وأحمد وابن ماجه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "تمسكوا بهدْي عمّار وما حدّثكم ابن مسعود فصدِّقوه" ومن ذلك حديثُ العِرباضِ بن سارية عند أهل السُّنن وفيه وعليكم بسنّتي وسنّة الخُلفاء الراشدين الهادين (¬2) "، وحديث "أصحابي كالنجوم بأيِّهم اقتديتم اهتَدَيتُم" (¬3) وفي إسناده جعفر بن عبد الواحد الهاشميُّ (¬4) قال فيه الدارَقُطْنيُّ: يضع الحديث وتكلم فيه الحفّاظ بكلام طويل. قال الجمهور: فهذه الأحاديث ونحوها تدل على عصمة كلّ فرد من أفراد الصحابة أو جماعة منهم ولم يقل به أحدٌ، وعلى حُجيّة أقوالِهم كذلك وأنتم لا تقولون به وإنما قال به مالكٌ وأبو علي وأبو هاشمٍ وأبو عبد الله البصريُّ ومحمد بن الحسن والرازيُّ والبرذعيُّ من الحنفية وأحمدُ في رواية عنه ورجّحه الفناريُّ من متأخّري الحنفية وقال إنه الذي اختاره المتأخرون انتهى. وأما عِصمةُ الحسَنَين والبَتولِ رضْوانُ الله عليهم [18] فذهب إلى ذلك طائفةٌ يسيرةٌ من أهل البيتِ وخالفهم جميعُ الأمة من أهل البيت وغيرهم واستدلوا على ذلك بالأدلة القاضية بأنهم من أهل الجنة وهي أحاديث صحيحةٌ لا نزاع فيها ولكنه أجاب عنها الجمهور بأنها لا تدل على المطلوب لأن دخول الجنة يستلزم العِصْمة من وقوع كل ذنب، فإن الذنوب المكفّرة والتي وقعت التوبة عنها لا تمنع من دخول الجنة فلا تلازُمَ بين ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه مرارًا. وهو حديث صحيح. (¬3) تقدم تخريجه. وهو حديث موضوع. انظر الرسالة رقم (19، 21، 22، 23). (¬4) انظر ترجمته في "الميزان" (1/ 412 رقم 1511)، "اللسان" (2/ 117).

دخول الجنة وعدم التلبس بالذنب والعصمة عنه. ويجاب أيضًا بعد هذا المنع بأن ذلك يستلزم عصمة جماعة من الصحابة المنصوص على أنهم من أهل الجنة كما في عبد الله بن سلام عند الشيخين (¬1) من حديث سعد بن أبي وقاص وكما في حديث حارثة بن سراقة عند البخاري (¬2) والترمذي (¬3) عن أنس وكما في طلحة بن عبيد الله عند الترمذي (¬4) بل ورد في العشرة وأهل بدر (¬5) وأهل بيعة الرضوان (¬6) ما يدل على أنهم جميعا من أهل الجنة فلو كان دخول الجنة مستلزمًا للعصمة لكان أكثر أكابر الصحابة معصومين واللازم باطل فالملزوم مثله. ¬

(¬1) البخاري في صحيحه رقم (3812) ومسلم رقم (147/ 2483). (¬2) في صحيحه رقم (2809). (¬3) في "السنن" رقم (3174) وقال: حديث حسن صحيح. (¬4) في "السنن" (3747) عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد في الجنة، وسعيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة". وهو حديث صحيح. (¬5) أخرجه أبو داود في "السنن" رقم (4654) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال موسى: "فلعل الله". وقال ابن سنان: "اطلع الله على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم .. " وهو حديث صحيح. (¬6) أخرج مسلم في صحيحه رقم (163/ 2496) وأبو داود رقم (4653) والترمذي رقم (3860). قال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: أخبرتني أم مبشر أنها سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول عند حفصة: "لا يدخل النار، إن شاء الله، من أصحاب الشجرة أحد، الذين بايعوا تحتها". قالت: بلى، يا رسول الله، فانتهرها، فقالت حفصة: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71]. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قد قال الله عز وجل: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72].

واستدل على العصمة أيضًا بآية التطهير (¬1) وبالأحاديث التي فيها "اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا" (¬2) والكلام في هذا البحث يتشعب إلى مقاولات ومطاولات تستغرق كراريس كثيرة، والاختصار أولى. والصواب في هذه المسألة لا يخفى على مثل السائل في علمه وفهمه وإنصافه والله الهادي. فرغ من تحرير هذه الأجوبة حسب نقل المجيب والمؤلف لهذه النسخة القاضي البدر عز الدين والإسلام وعين أعيان العلماء الأعلام محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما وكان الجواب والتحرير في شهر رمضان الكريم سنة 1207. ¬

(¬1) قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] (¬2) أخرجه الترمذي رقم (3871) وقال: هذا حديث حسن وهو كما قال: من حديث أم سلمة رضي الله عنها. وأخرجه الترمذي رقم (3205) من حديث عمر بن أبي سلمة. وهو حديث حسن.

بحث في كون الولد يلحق بأمه

(131) 34/ 4 بحث في كون الولد يلحق بأمه تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: "بحث في كون الولد يلحق بأمه". 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله الطاهرين آمين، آمين. امتع الله العلي بحياة إمامها، وزين بوجوده وجوه أيامها ... " 4 - آخر الرسالة: "كتبه محمد بن علي الشوكاني غفر الله له والله يغفر لنا وله ويكفينا وإياه مهمات الدارين ويجعل الأعمال خالصة لوجهه الكريم، آمين آمين". 5 - نوع الخط: خط نسخي ضعيف لكنه مقروء بصعوبة. 6 - عدد الصفحات: 5 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 18 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 16 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاةُ والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين آمينَ آمينَ. أمتع الله العليُّ بحياة إمامِها، وزيَّن بوجوده وجوه أيامها، وأسبغَ عليه نعمَهُ منهمرة. وسلامُ الله الأسنى، ورحمته وبركاته الواسعة الأفياء، تخص المولى الوالدَ الهُمام البدر شيخ الإسلام. ما قولكم ـ رضي الله عنكم وأرضاكم ـ في قول الجماهير من العلماء في شأن الولد أنه يتبعُ الأمَّ في الحرِّية والرقية مع تبعه للأب في سائر الأحكام، هل له وجه صحيح أو لم تطمئن النفسُ؛ ولا ثبت بيان الشرع لها. منها أن الولد كجزء من أبيه، وهذا مما لا خفاء في ضعفه، ثم ادعى الإجماع أيضًا، والإشكال في ثبوته أشدُّ لأن قُصارى ما صار الإجماعُ عندهم عدمُ المخالفِ مع عدم البحث والاستقراء التام. وقد وجدنا كثيرًا ما يدّعون الإجماعوالخلافُ قائمٌ، بل وجدنا دعوى الإجماع على حكم وخالفتهم الشافعية بدعوى الإجماع على القضية فمن الإحسان الإفادةُ ـ أحسن الله جزاءكم، وأحيا بحياتكم منار العلم الشريف، وأعز بكم شامخ المجد المنيف ـ وصلى الله على النبي محمد والآل والأصحاب سرمدَ.

فأجاب المولى العلامة الأوحد جلالُه، وفخامة شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني ـ أمتع الله بحياته، وبارك في أوقاته ـ بما لفظه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة على سيد المرسلين وآله الأكرمين. أقول: الذي علَّلوا به في لحوق ابن الأمة بأمه إذا تزوجها حرًّا قد رضي العبودية لأولاده، لأن سيد الأمة لم يزوِّجه بها إلاَّ لانتفاعٍ بما يحصل من فوائدها، وأولادُها من فوائدها، مع أنهم يجعلون لهذا الولد الكائن من هذه الأمة لزوجها الحرّ حكم أبيه في النسب (¬1)، فيجعلونه عبدًا مملوكًا، ونسبه في الأحرار. بل قالوا: إنه لو تزوَّج القرشي بأمة غيرِه فجاءت ببنت كان لسيِّد هذه الأمة أن يطأ هذه البنت بالمُلك، مع كونها قرشية النَّسب، وهكذا ذكروا مسائل مترتبة على هذا اللحوق يضحكُ السامع منها عند سماعها كما وقع لهم عند الكلام على أنه يعتبر بالأم في الزكاة وبسنِّ الأضحية، وبالأب في النسب. ¬

(¬1) قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (31/ 376): "إذا تزوج الرجل المرأة، وعلم أنَّها مملوكة، فإن ولدها منه مملوك لسيدها باتفاق الأئمة، فإن الولد يتبع أباه في النسب والولاء، ويتبع أمه في الحرية والرق". - قال ابن قدامة في "المغني" (14/ 589): وإذا أصاب الأمة، وهي في ملك غيره، بنكاح فحملت منه، ثمَّ ملكها حاملاً، عتق الجنين وكان له بيعها. وجملتُه أنَّه إذا تزوّج أمة غيره، فأولدها، أو أحبلها، ثم ملكها بشراء أو غيره، لم تصر أمُّ ولدٍ له بذلك، سواءٌ ملكها حاملاً فولدت في ملكه أو ملكها بعد ولادتها. وبهذا قال الشافعي، رضي الله عنه لأنّها علقت منه بمملوك، فلم يثبت لها حكم الاستيلاد. كما لو زنى بها، ثم اشتراها، ولأنّ الأصل الرّق، وإنّضما خولف في الأصل فيما إذا حملت منه في ملكه، بقول الصحابة رضي الله عنهم ففيما عداه يبقى الأصل. ونقل القاضي ابن أبي موسى، عن أحمد رضي الله عنه أنَّها تصير أمّ ولدٍ في الحالين وهو قول الحسن وأبي حنيفة لأنّها أم ولد، وهو مالك لها فيثبت لها حكم الاستيلاء. كما لو حملت في ملكه.

والحاصل أنهم لم يُسندوا هذه المقالة إلى شيء من الأدلة قطُّ، ولو كان ما ذكروه من كون اختيار الأب الحرِّ لعبودية أولاده من أمَةِ الغير التي تزوَّجها صالحًا لذلك يلزم مثلُه في أولاده الحادثين بينه وبين الحُرَّة، وهذا لا يقول به عاقل فضلاً عن عالم، والوجه الجامعُ بين هذه الصورة وبين صورة النِّزاع أن سبب الحريَّةِ قد حصل في الجميع، وليس لمزيد وجود سبب الحرية من الجهتين زيادةٌ على وجوده من جهة، وأيضًا كان يلزم أن يكون اختيار السيد لعبودية ولده الحادث من أمَتِه لوطئه لها مؤثِرًا أن مصيره عبدًا لأنه لا سبب للحرية هاهنا إلاَّ من جهة الأب فقط، وهو خلاف الإجماع [1أ] بل خلاف الضرورة الدينية، فكيف لم يكن اختياره في أم نفسه الوالدة على قريبته لوطئِه مؤثرًا في عبودية أولاده، مع كونه مؤثرًا لعبودية أولاِده الحادثينَ من أمة الغير التي تزوَّجها. والعجبُ منهم أنهم حرموا بأن يقضي مسلم بإسلام أحد أبويه، وحرموا بأن الولد الحادث من الأمّ المشتركة، وكان أحدهما حرًا، والآخر عبدًا أنه يلحقُ بالحرِّ دون العبد، ليستفيد من أبيه الحريةَ، ولو كان العبد مسلمًا فإن مزية الحرية مقدَّمةٌ على ذلك كما في قوله في الأزهار (¬1): فإن اختلفوا فللحرِّ دون العبد ولو مسلمًا، والحال أن هذه أمة مشتركةٌ ليس ¬

(¬1) (2/ 350 مع السيل الجرار). قال الشوكاني في "السيل الجرار" (2/ 350): "ينبغي في مثل هذا بحديث زيد بن أرقم الذي أخرجه أحمد (4/ 373) وأبو داود رقم (2270) والنسائي رقم (3488) وابن ماجه رقم (2348) وهو حديث صحيح ـ قال: "أُتي عليٌّ وهو باليمن في ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر فسأل اثنين فقال: أتقران لهذا بالولد؟ قالا: لا. ثم سأل اثنين: أتقرّان لهذا بالولد؟ فقالا: لا فجعل كلما سأل اثنين: أتقران لهذا بالولد؟ قالا: لا. فأقرع بينهم فألحق الولد بالذي أصابته القرعة. وجعل عليه ثلثي الدية، فذكر ذلك للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بدت نواجذه". فهذا الحديث يدل على أن الحكم في الأمة المشتركة هو هذا الحكم العلوي مع هذا التقرير المصطفويّ والقُرعة قد ثبت العمل بها في السنة في مواضع كثيرة ... . وأما ما ذكره المصنف ـ صاحب الأزهار ـ فهو مجرد رأي لا يحمل الرجوع إليه مع ورود أقلِّ دليل وأبعد مستند. وانظر: "المغني (14/ 584).

للحرّ الذي يحق به الولد لنا نصيبٌ منها، فكيف كانت مزية الحرية هاهنا مؤثرة، ولم تؤثر مزية الحرية في الحر الذي تزوَّج بأمةِ الغيرِ! فإن كانت هذه المقالةُ راجعة إلى ما تقرر في الشريعة الإسلامية فها هو هذا الذي تقرر فيها، فإني لم أقف في ذلك على دليل ولا شبه دليل وإن كان باعتبار ما كان متقررًا في أعراف الجاهلية، فالأمر عندهم بخلاف ذلك، ولهذا يقول عنترةُ العبسيُّ (¬1): إني امرؤٌ من خَير عبسٍ مَنْصِبًا (¬2) ... شَطْرِي وأحْمي سائري بالمُنصُلِ (¬3) فإن هذا إنما كانت أُمُّه أَمةً، وكان أبوه سيِّدَ عبْس فأثبت لنفسه الحريةَ لحوقًا بأبيه، وجعل ما يلحقه من القالة لكونه ابن أمةٍ محميًا بالسيف يعني أنه يلحقُ بشجاعته، وفتكِه بأولاد الأحرار والحرائر، وإن كان هذا الذي قالوا لعرف متقرِّر عند أهل الإسلام لم يدلّ عليه شرع، فهذا مدفوع، فإن الخليفة المأمون يقول لما كان يعيّر بكون أُمه أَمةً: لا تزرينَّ بفتى من أن تكونَ له ... أمٌ من الرُّوم أو سوداءُ دعجاءُ فإن أمهاتِ الناس أوعيةٌ ... مستودَعاتٌ والماء بناء آباءُ هذا وإن كان في أولاد الإماء المستولَدَات، لكن مقصودنا دفعُ ما قدمنا من أن مجرد اختيار الأب الحر لعبودية أولاده ليس من أسباب [1ب] العبوديةِ لا شرعًا، ولا عقلاً، ¬

(¬1) انظر ديوانه (ص56) والقصيدة بعنوان (خير من معمّ مخول). غزت بنو عبس بني تميم وعليهم، قيس بن زهير، فانهزمت بنو عبس، وطلبتهم بنو تميم، فوقف لهم عنترة. ولحقهم بكوكبة من الخيل، فحامى عنترة عن الناس فلم يصب مدبر، وكان قيس بن زهير سيدهم، فساءه ما صنع عنترة يومئذ. فقال حين رجع: والله ما حمى الناس إلى ابن السوداء، وكان قيس أكولاً، فبلغ عنترة ما قال، فقال يعرض به. (¬2) المنصب: الأصل والحسب. (¬3) المنصل: السيف. انظر: "ديوان عنترة" (ص57).

وإلا لزمَ في أولاد الإماء المستولدات (¬1) كما تقدم، بل لزم في أولاد الحرائرِ والأحرارِ كما عرفت، لأن وجود ما يستقل بالسببية يوجب المضيَّ عليها، كما يوجب المضيَّ عليها وجودُ سببين، أو أسبابٍ، لأن المراد حصولُ ما يصلح للسببيةِ. وقد وجد هنا غير معارض بما هو مثلُه، أو رجح منه، فقد حصل المقتضى ولم يوجد مانع يمنع من اقتضاء ذلك المقتضى إلاَّ مجرَّد خيالات مختلَّة، وعلل باطلة معتلة. فإن قلت: قد ذكروا أن المكاتِبَ يردُّه في الرق اختياره حيث لا وفاء عنده لمال الكتابة (¬2). قلت: وأين هذا من ذاك! فإن المكاتب باقٍ في العبودية، وهو عبد ما بقي عليهم درهم (¬3)، والعبودية أصله، فمقتضى حريته لم تحصل بل وجد المانع منها، وهو عدمُ قدرته على الوفاء بمال الكتابة (¬4)، فهو هنا إخبار ما هو أصله لعجزه، ولو لم يختر لم يصرِحّوا قطُّ إلاَّ بألوف ما كوتب عليه، ولم يبطل عليه إلاَّ ما قد كان ثبت له من بعض الأحكام المشروطة بالوفاء، وأين هذا من رجل حرٍّ خالصِ الحريةِ، معلومِ النسبِ تزوَّج بأمةِ غيرِه لعدم قدرتِه على نكاح الحرَّةِ، عملاً بقوله ـ عز وجل ـ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ... الآية} (¬5) فكان هذا الدخول في هذا النكاح الذي أذن الله له به في كتابه العزيز موجبًا لعبودية أولاده شاء أم أبى، لمجرد زعم من زعم أنه لا يتزوَّج بأمة ¬

(¬1) قال ابن قدامة في "المغني" (14/ 854 - 858): وجملة ذلك أنَّ الأمة إذا حملت من سيِّدها، وولدت منه، ثبت لها حكم الاستيلاد وحكمها حكم الإماء، في حِلّ وطئها لسيدها، واستخدامها، وملك كسبها وتزويجها، وإجارتها، وعتقها، وتكليفها، وحدِّها، وعورتها، وهذا قول أكثر أهل العلم. وحكي عن مالك، أنَّه لا يملك إجارتها وتزويجها، لأنَّه لا يملك بيعها فلا يملك تزويجها وإجارتها، كالحُرَّة. قال ابن قدامة: ولنا، أنَّها مملوكة ينتفع بها، فيملك سيّدها تزويجها وإجارتها، كالمدبَّرةِ، ولأنّها مملوكة تعتق بموت سيدها، فأشبهت المدبَّرةَ، وإنَّما منع بيعها، لأنَّها استحقت أن تعتق بموته، وبيعها يمنع ذلك، بخلاف التزويج والإجارة. وانظر: "المجموع" (16/ 514 - 520). (¬2) قاله صاحب "الأزهار" (3/ 138 - مع السيل الجرار): قال الشوكاني تعليقًا على ذلك: "ليس للعبد هذا بعد الدخول في الكتابة والتراضي عليها، ولا وجه لقوله ولا وفاء عنده، فإن الظاهر عدم الجواز مطلقًا، لأنه تلاعبٌ بما قد تحقق فيه المناط الشرعي وهو التراضي، وأما عجزه فظاهرٌ لحديث عمرو بن شعيب ـ أخرجه أحمد (2/ 184) وأبو داود رقم (3927) والترمذي رقم (1260) وقال: حديث حسن غريب. وابن ماجه رقم (2519) والحاكم (2/ 218) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. عن عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أيّما عبد كوتب بمئة أوقيّة فأدّاها إلا عشر أوقيّات فهو رقيق". وهو حديث حسن. (¬3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (3926) بلفظ: "المكاتب رقيق ما بقي عليه من مكاتبته درهمٌ". وهو حديث حسن. انظر: "الإرواء" رقم (1674). (¬4) الكتابة: إعتاق السيِّد عبده على مالٍ في ذمّته يؤدّي مؤجَّلاً. سميت كتابة لأنَّ السيد يكتب بينه وبينه كتابًا بما اتفقا عليه. وقيل سميت كتابة من الكتب وهو الضمُّ لأن المكاتب يضمُّ بعض النجوم إلى بعض، ومنه سمِّي الخرز كتابًا لأنّه يضم أحد الطرفين إلى الآخر بخرزه. والنجوم هي الأوقات لأنّ العرب كانت لا تعرف الحساب، وإنّما تعرف الأوقات بطلوع النجوم. والأصل في الكتابة. الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]. أما السنة: تقدم ذكر الأحاديث. وأجمعت الأمة على مشروعية الكتابة. "المغني" (14/ 442). (¬5) [النساء: 25].

الغير (¬1) إلاَّ وهو راضٍ لعبودية أولاده، حتى كأنَّ هذه المسألةَ في أم الكتاب يعرفُها كل مسلم. وعلى تقدير أنه قد علم بذلك عند الدخول في النكاح، واختار عبودية أولاده فقد عرفتَ أن هذا الاختيار لا يسترقُّ أولاد الأحرارِ. وبعد هذا كلّه فاعلم أنهم قد اتفقوا على أن الولد يلحقُ بأبيه في النسب، وهذا عند التأمل يوجب بطلانَ (¬2) ما قالوه من عبودية أولاد الحرِّ الذي تزوّج [2أ] بأمةِ غيرِه، وبيان ذلك أنه لا معنى للحوقهِ بأبيه في النسب إلاّ أن يكون نسبه كنسبه، وإذا كان نسبه كنسبه فله ما للأحرار باعتبار الأنساب [ .... ] (¬3) ثبوت كونهم أحرارًا فكيف يكون ولد الحرِّ عبدًا، وهو يلحقُ بأبيه في النسب!، وهل هذا إلاَّ مناقضةٌ بينةٌ ظاهرةٌ دامغةٌ! فإنه إذا كان عبدًا فقد مسَّه الرِّقُ، ومن مسه الرقُّ فهو أدنى الناس كفاءة، وأضعفهم نسبًا، وأقلهم حسبًا، فما هو هذا النسب الذي استفاده من أبيه، وهو عبد يباع في الأسواق بالتافهِ النَّذْر من القيمة، ويستخدمه من دبّ وراح، ويملكه البّرُّ والفاجر! وإذا كان أمة وطِئَها بالملك الرفيعُ والوضيعُ والحقيرُ والكبير. وبالجملة فقد كفونا المؤنَة بقولهم: إنه لم يلحق بأبيه في النسب، وأبطلوا نصهم بنصِّهم، ودفعوا قولهم بقولهم، لأن إثبات نسب أبيه له موجبٌ لعدم عبوديته، أو لا يصح أن يقال: إن الفائدة له من إثبات هذا النسب هو كونه يرثُه، لأن المفروض أنه عبد للغير. والرق من موانع الإرث، ولا يصح أن يقال إنه يصير بهذا النسب الذي استفاده من أبيه كفوًا لأمثال أبيه من الأحرار، لأن المفروض أنه عبد، وأنه أدنى الناس كفاءةً، ¬

(¬1) تقدم ذكره. وانظر "المغني" (14/ 589 - 591). (¬2) انظر "المجموع" (16/ 515)، "مجموع الفتاوى" (31/ 376، 383). (¬3) كلمة غير واضحة في المخطوط.

وأنه لا ينكح إلاَّ بإذن سيده، وهو مالك الأمة فهو لا ينتفع بهذا النسب بمنفعة دنيوية قطٌّ لما عرفت، ولا ينتفع به أيضًا بمنفعة دينية، لأن المنافع الدينية إنما تكتسب بالأعمال، وإن كان غاية ما تحصلُ له من المنفعة بإثبات نسبِ أبيه له هو أن يقالَ له هذا ابن فلانٍ، فليس في هذا من النفع شيء، مع أنه هذا يقال له عبدُ فلان، فلا يقوم الرفع بالرق ولا الرفع بالوضع. فعرفت من مجموع ما ذكرنا التنافض (¬1) بين قولهم إنه يلحقُ بأمِّه في العبودية، وبأبيه في النسب، وهكذا الأقوال التي لا تنبني على دليل، ولا على رأي مستقيم تكون مضطربةً متناقضةً يدفع بعضُها بعضًا، ويردُّ بعضُها بعضًا. ¬

(¬1) نجد الشوكاني يخالف ما قاله ابن تيمية وغيره من العلماء. قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (31/ 376): سئل رحمه الله عن رجل قرشي، تزوج بجارية مملوكة، فأولدها ولدًا، هل يكون الولد حرًّا أم يكون عبدًا مملوكًا؟. فأجاب: الحمد لله رب العالمين، إذا تزوج الرجل المرأة، وعلم أنّها مملوكة، فإن ولدها منه مملوك لسيدها باتفاق الأئمة فإن الولد يتبع أباه في النسب والولاء، ويتبع أمه في الحرية والرق. ثم قال في "مجموع الفتاوى" (31/ 383): وأما إذا تزوج العربي مملوكة فنكاح الحر للمملوكة لا يجوز إلا بشرطين: خوف العنت، وعدم الطول إلى نكاح الحرة، في مذهب مالك والشافعي وأحمد. وعلَّلوا ذلك بأن تزوجه يفضي إلى استرقاق ولده، فلا يجوز للحر العربي ولا العجمي أن يتزوج مملوكة إلا لضرورة، وإذا تزوجها للضرورة كان ولده مملوكًا، وأما أبو حنيفة فالمانع أن تكون تحته حرة وهو يفرق في الاسترقاق بين العربي وغيره. وأما إذا وطئ الأمة بزنا فإن ولدها مملوك لسيدها بالاتفاق، وإن كان أبو عربيًّا، لأن النسب غير لاحق. وأما إذا وطئها بنكاح وهو يعتقدها حرة، أو استبرأها فوطئها يظنها مملوكته، فهنا ولده حر، سواء كان عربيًّا أو عجميًّا. وهذا يسمى "المغرور" فولد المغرور من النكاح أو البيع حر، لاعتقاده أنه وطئ زوجة حرة، أو مملوكته وعليه الفداء لسيد الأمة كما قضت بذلك الصحابة، لأن فوت سيد الأمة ملكهم، فكان عليه الضمان، وفي ذلك تفريغ ونزاع ليس هذا موضعه. والله أعلم". وانظر: "المغني" (14/ 589 - 595).

فالحاصل من البحث أن ولد الحر المتزوج بأمةِ غيره حرٌّ (¬1) خالص، سواء رضي لعبودية أولاده أو لم يرضَ [2ب]، وسواء رضي مالكُ أو لم يرضَ. ولا يلزم هذا الزوج لمالك الأمة شيئًا، وإن شرط عليه ذلك، لأن هذا الشرط قد تضمن تحليل ما حرَّمه الله ـ سبحانه ـ من عبودية الأحرار، فإن الحديث المتضمن لكون المؤمنين عند شروطهم مقيَّد بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "إلا شرطًا أحلَّ حرامًا، أو حرَّم حلالاً" (¬2) وهذا منه. وأيضًا في حديث بريرة: "ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله! " وفيه الزَّجر البالغ لمن اشترط أن يكون ولاءُ بريرةَ له كما في الصحيحين (¬3) وغيرهما (¬4). ومعلوم لكل من يفهم أن اشتراط مجرد الوالاء (¬5) على من عُتق (¬6) بعد أن كان عبدًا متحقق العبوديةِ لغير من له الولاء عليه أخف، وأخف من ¬

(¬1) وما نرجحه قول الشوكاني فتأمله. (¬2) تقدم تخريجه مرارًا. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2155) ومسلم رقم (8، 9/ 1504). (¬4) كأبي داود رقم (2233) والترمذي رقم (1154) والنسائي (6/ 164 - 165) وابن ماجه رقم (2521) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬5) انظر "المفهم" (4/ 327 - 329) (¬6) العتق في اللغة: الخلوصُ. ومنه عتاق الخيل، وعتاق الطَّير أي خالصتها وسمّي البيت الحرام عتيقًا، لخلوصه من أيدي الجبابرة. وهو في الشرع: تحرير الرقبة، وتخليصها من الرِّقِّ. يقال: عتق العبدُ، وأعتقته أنا، وهو عتيق، ومعتقٌ والأصلُ في الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3]. وقوله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13]. وأما السنة: ما أخرجه البخاري رقم (2517) ومسلم رقم (22/ 1509) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من أعتق رقبة مسلمةً أعتق الله بكل عضوٍ منه عضوًا من النار حتى فرجه بفرجه". وأجمعت الأمة على صحة العتق وحصول القربة به. والعتق من أفضل القرب إلى الله تعالى، لأن الله تعالى جعله كفارةً للقتل والوطء في رمضان، والأيمان، وجعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكاكًا لمعتقه من النّار، ولأنّ فيه تخليص الآدمي المعصوم من ضرر الرِّق وملك نفسه ومنافعه وتكميل أحكام، وتمكنه من التصرف في نفسه ومنافعه، على حسب إرادته واختياره، وإعتاق الرجل أفضل من إعتاق المرأة. انظر: "المجموع" (16/ 511 - 514)، "مجموع الفتاوى" (31/ 376).

اشتراط عبودية الأحرار الذين ثبتت لهم الحرية لحرية آبائهم، مع أنه ليس في اشتراط ولاء بريرةَ إلاَّ مجرَّد اختلافِ ثبوت الولاء لأحد الجهتين، مع كونه ثابتًا في الجملة على كل حال. فأين هذا من حظر إثبات عبودية الأحرار بالشروط المدفوعةِ بالأدلة!. وفي هذا المقدار كفاية، والله ولي التوفيق. انتهى جواب المفيد الشافي من المولى الوالد العلامة البدر محمد بن علي الشوكاني دام سعده، وخلد مجده، ومن خطه نقل وفي آخره: كتبه محمد بن علي الشوكاني ـ غفر الله له ـ والله يغفر لنا وله. ويكفينا وإياه مهمات الدارين ويجعل الأعمال خالصةً لوجهه الكريم، آمين آمين [3أ].

سؤال في الوقف على الذرية

(132) 52/ 1 سُؤالٌ في الوقفِ على الذُّريَّة تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: "سؤال في الوقف على الذُّرية". 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم. سؤال في الوقف على الذرية: قال السائل الذي يعرف من قصد الواقفين هو محبتهم أن يكونوا أولادهم أغنياء لا عالةً ... 4 - آخر الرسالة: فإن رجح المنقول إليه ساغ البيع وهذا يشمل كل ما يتصوَّره الذهن من صور الصَّلاح. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 9 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات. 9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم سؤال في الوقف على الذرية: قال السائل: الذي يعرف من قصد الواقفين هو محبتهم أن يكونوا أولادهم أغنياء لا عالةً يتكففون الناس، وخلاصة السؤال: هل يجوز البيع عند مسيس الحاجة اللاحقة للموقوف عليه أم لا؟ قال رضي الله عنه: ينبغي ههنا تقديمُ مقدمةٍ هي. مشروعيَّةُ مُطلقِ الوقف. لا ريب أنَّ النزاع واقعٌ فيها بين السَّلف والخلف، لكنَّ الحقَّ مشروعيَّتُه لما ثبت في المتَّفق عليه (¬1) من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر: "حبِّس الأصل، وسبِّل الثمر" وحديث إذْنِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي طلحة بوقف بيْرَحاء، وهو متّفقٌ عليه (¬2)، وحديث: "أما خالد فقد حبس أدرعه وأعْتُدَهُ في سبيل الله" وهو أيضًا متفق عليه (¬3). ولصدور الوقوع عن جماعةٍ من أكابر الصحابة كما حكاه البيهقيّ (¬4)، منهم أميرُ المؤمنين رضي الله عنه وكان صدور ذلك منهم بعد موته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتقرر بما ذكرنا ثبوت مشروعية مُطْلق الوقف (¬5) أعَمَّ مِنْ أنْ يكون على قرابة كما في وقف أبي طلحة وغيره، أو على المسلمين كما في وقف عمر، أو على الجهاد كما في وقف خالد، أو على قُرَبٍ من القُرب كما في حديث: "خيرُ ما يُخلِّفُ المرءُ بعدَهُ ثلاث منه الصدقة الجارية" أخرجه النسائيُّ (¬6)، وابن .............................. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2737) ومسلم رقم (15/ 1632) من حديث ابن عمر. (¬2) أخرجه البخاري موصولاً رقم (1468) ومعلقًا في صحيحه (3/ 311)، (6/ 99) ومسلم رقم (11/ 983). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1461، 2318، 2752) ومسلم رقم (42/ 998). وقد تقدم. (¬4) في "السنن الكبرى" (6/ 126). (¬5) انظر: "المغني" (8/ 186 - 190). (¬6) في "السنن" (6/ 251).

ماجه (¬1)، وابنُ حِبَّانَ (¬2). وحديث: "إذا مات ابنُ آدمَ انقطعَ عنه عملُه إلاَّ من ثلاث" أخرجهُ مسلمٌ (¬3) وحديثُ أنَّ عثمان وقف بئرَ رُومَة على المسلمين عند الترمذي (¬4)، والنَّسائيّ (¬5)، والبخاريّ تعليقًا (¬6). ولا شكَّ أنّ المشروعيَّة تثبتُ بدون هذا، فلا اعتبارَ بتشكيكِ مَن شكَّكَ في أصل مشروعيّةِ الوقف (¬7)، ولا متمسّك له، وما رُويَ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه قال: لا حبس بعد نزول سورة النساء (¬8)، [وليس فيها ما يمنع من هذا] (¬9)، وكذلك ما رُوي عن ¬

(¬1) في "السنن" رقم (241). (¬2) في صحيحه رقم (93). من حديث أبي قتادة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "خير ما يخلف الرجل بعده ثلاث: ولد صالح يدعو له، وصدقةٌ تجري يبلغه أجرها، وعلم ينتفع به من بعده". وهو حديث صحيح. (¬3) في صحيحه رقم (5/ 73 - ط الآفاق). (¬4) في "السنن" رقم (3699) وقال: حديث حسن صحيح غريب. (¬5) في "السنن" (6/ 235). (¬6) رقم الباب (7) في مناقب عثمان (7/ 52 - مع الفتح) وهو حديث صحيح. (¬7) يشير إلى ما يروى عن أبي حنيفة من أن الوقف لا يلزم وقد خالفه في ذلك جميع أصحابه إلا زفر. انظر: "حاشية رد المحتار" لابن عابدين (4/ 338) و"شرح فتح القدير" (5/ 418 - 419) لابن الهمام. (¬8) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 126). وفي إسناده ابن لهيعة. لا تقوم به الحجة. "الميزان" (4/ 166 - 168 رقم 4535/ 3613). قال الشوكاني في "السيل الجرار" (3/ 49 - 50): مع هذا فهو اجتهاد صحابي ليس بحجة على أحد على أن مراده شيءٌ آخر غير الوقف، وهو أنَّها لا تحبس فريضة عمن أعطاها الله سبحانه كما يدل عليه قوله لا حبس بعد نزول سورة النساء. ولو قدرنا أنه يريد الوقف لكان محجوبًا بالأدلة الصحيحة وبإجماع الصحابة. وانظر: "المغني" (8/ 190). (¬9) زيادة من نسخة أخرى.

شُريح (¬1) أنه قال: جاء محمدٌ يمنعُ الحَبْسَ؛ فليس مرادهما وقف المسلمين [بل المراد حبس الجاهلية السَّوائب ونحوها، وكيف يقال ذلك في أوقاف المسلمين] (¬2) وقد أذِنَ فيها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وماتَ وهي باقيةٌ، وفعلها أكابر الصحابة بعده! على أنّه لو كان مراد ابن عباس وشُريح ذلك ما قام بقولهما حُجَّةً على فرض عدم معارضته لما ثبت عن الشارع، فكيف وهو معارضٌ له! ثم أنّ ابن عباس قد أحال على سورة النساء، وليس فيها ما يمنع [1أ] من هذا. والحاصل أنّ الوقف قُرْبَةٌ (¬3) من القُرُبات، وصدقة من الصدقات. ومشروعية مطلق الصدقة مُجمعٌ عليه، والوقف صدقة لها وجه خصوصية يرفع من شأنها، وهو كونُها جاريةً لورود الترغيب في ذلك، وقد وقع النِّزاع في لزوم استمرار التحبيس، وعدم جواز نقضِهِ. ومن أهل العلم من زعم أنّه تأويل صدقة جارية، وفي تأويل احتبس أدراعَه، وأعتده في سبيل الله، والإنصافُ لزومُ الاستمرار، وأنّه مُستفادٌ من هذه العبارات، وما قيل من أنّ حسّأن باع نصيبَه من بيرَحاء التي وقفها أبو طلحة فيجاب أولاً أنَّه لا حجَّة في ¬

(¬1) قال الترمذي في "السنن" (3/ 660): "لا نعلم بين الصحابة والمتقدمين من أهل العلم خلافًا في جواز وقف الأرضين". وجاء عن شريح أنّه كره، وروى الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 96) عن عطاء بن السائب قال: سألت شُريحًا عن رجل جعل داره حبسًا على الآخر فالآخر من ولده، فقال: وإنما أفضي ولست أفتي قال فناشدته. فقال: لا حبس على فرائض الله. وانظر: "المغني" (8/ 185) حيث قال ابن قدامة: ولم ير شريح الوقف. وقال: لا حبس عن فرائض الله. قال أحمد: وهذا مذهب أهل الكوفة، وذهب أبو حنيفة أن الوقف لا يلزم بمجرده وللواقف الرجوع فيه، إلا أن يوصي به بعد موته، فيلزم، أو يحكم بلزومه الحاكم. وحكاه بعضهم عن عليِّ وابن مسعود وابن عباس. (¬2) زيادة من نسخة أخرى. (¬3) انظر "المغني" (8/ 182).

فعلِه. وثانيًا أنه قد أُنكر عليه ذلك كما ثبت في الصحيحين (¬1) وغيرهما (¬2) أنَّه لمَّا باعَ قيل له: أتبيعُ صدقة أبي طلحة؟ فقال: ألا أبيعُ صاعًا من تمرٍ بصاعٍ من ذهب؟ وما قيلَ من أنَّ الإنكارَ ليس لكونِ البيعِ ممنوعًا بل لكونِ المالِ جيّدًا فتعسُّفٌ؛ فإنه قيل له أتبيعُ صدقة أبي طلحة؟ ولم يقل [له] (¬3): أتبيعُ هذا المال الجيِّد. ولكن ينبغي أن يُعلمَ أنَّ هذا في الأوقافِ (¬4) التي يَغْلِبُ الظنُّ أنها لم تُفعلْ إلاَّ لقصدِ القُربةِ، متجرِّدةً عن المقاصدِ الفاسدةِ، والأغراضِ الدنيويةِ؛ وذلك كأوقافِ المشهورينَ بالعلم والصّلاح. فإن قلتَ: لِمَ لا [يُكتفى] (¬5) بالحملِ على الظاهر من دون اعتبارِ غلبة الظنّ؟ ¬

(¬1) البخاري في صحيحه رقم (2758) ومسلم رقم (998). (¬2) كأحمد (3/ 141). وهو من حديث أنس بن مالك قال: لما نزلت: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} جاء أبو طلحة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله يقول الله تبارك وتعالى في كتابه: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وإنَّ أحبَّ أموالي إليَّ بيرحاء ـ قال وكانت حديقةً كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدخلها ويستظلُّ بها ويشرب من مائها ـ فهي إلى الله عز وجل وإلى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرجو برّه وذخره، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بخ يا أبا طلحة ذلك مال رابح قبلناه منك ورددناه عليك، فاجعله في الأقربين". فتصدق به أبو طلحة على ذوي رحمه. قال وكان منهم أبيُّ وحسّان قال وباع حسّان حصتُه منه من معاوية فقيل له: أتبيع صدقة أبي طلحة؟ فقال: ألا أبيع صاعًا من تمر بصاعٍ من دراهم؟ قال وكانت تلكالحديقة في موضع قصر بني حُديلة الذي بناه معاوية". (¬3) زيادة من نسخة أخرى. (¬4) قال الحافظ في "الفتح" (5/ 388): قوله "باع حسان حصته من معاوية" هذا يدل على أن أبا طلحة ملّكم الحديقة المذكورة، ولم يقفها عليهم إذ لو قوفها ما ساغ لحسان أن يبيعها، فيعكر على من استدل بشيء من قصة أبي طلحة في مسائل الوقف إلا فيما لا تخالف فيه الصدقة الوقف. ويحتمل أن يقال شرط أبو طلحة عليهم لما وقفها عليهم أن من احتاج إلى بيع حصته منهم جاز له بيعها، وقد قال بجواز هذا الشرط بعض العلماء كعلي وغيره ... ". (¬5) في المخطوط: (يقتضي) والصواب ما أثبتناه.

قلتُ: إنّ اختلاط المعروف بالمنكر، وتخبطت المقاصِدِ، وعُلم بالاستقراء صدورُ غالِبَ الأوقاف في هذا العَصْر وما قاربه من العصور السَّالفة لأغراض غير مناسبة؛ فإنَّ من الناس من يُشُحُّ بالمال على ورثته بلا سبب من الوارث، فيحاول إخراجَهُ عن ملكه بعده بكل ممكن. ولو علم في حياته لا يحتاج إليه لأخرجه عن ملكه، ولكنَّه انتفع به مدَّةَ حياتِه، فلما لم يبق له مُستمتَعٌ قال: وقفتُ. وكثيرًا منهم مَن يتحدّثُ بهذا في حياتِهِ. وقد سمعْنا ورأينا وأبطللْنا من هذا الجنس في هذه المُدَّة القريبة ما لا يأتي عليه الحصرُ، والذي يفعل هذا بلا سبب مِنْ وارثه هو الأقلُّ، والأكثر يفعلُ ذلك لعداوةٍ تعرض بينه وبين وارثه وكراهيةٍ. وليت أنّ هذه العداوة والكراهة دينيَّةٌ، ومِن الناس مَن يفعل ذلك في حياتِه فرارًا من لوازمَ شرعيَّةٍ أو عُرفيَّةٍ، ومِن النَّاس من يقفُ [1ب] على الذكور من الأولاد دون الإناث، ومنهم من يقفُ على الذكور والإناث ومنهم من يُخرِجُ الزوجات (¬1)، وهذا وإن كان فيه خلافٌ لكنَّه مُنادٍ بأنَّ فاعلَهُ لم يُرِدْ بهِ وَجْه الله، وما كان كذلك فهو غيرُ الوقف الذي شرعه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل نهى [عنه] (¬2) من حيثيَّة أُخرى. ومِن الناس مَن يقفُ لمحبّضةِ الشُّهرةِ والذّكْرِ والمنافسة، كمن يقف من المسلمنَ وقفًا. وغيرُ هذه المقاصدِ الفاسدةِ مما يطول الكلام بتعداده. ولمَّا كان هذا هوا لأعمَّ الأغلب كان الأصلُ في كل وقفٍ عدم وجود القُربة، فلا يُحكُمُ الحاكمُ بصحَّته إلاَّ بعد غلبَةِ ظنِّهِ بالقُرْبَةِ مما لا يلتبسُ من القرائن الدالة على الخلوص وأقرب الأوقاف إلى الوقف على المسلمين أو على مصالحهم أو على جميع الورثة أو جميع القرابة؛ فهذه في الغالب لا بدَّ أن تقترن بقرائن الخلوص، فقد يغلبُ الظنُّ بأنَّ صدورَهَا كان لأجْلِ القُربة بسرعة (¬3)، وقد تحتاجُ إلى البحث، وذلك يختلفُ باختلاف الواقف والأحوال التي لا تخفى، فما غالبُ ¬

(¬1) انظر "الرسالة" رقم (129). (¬2) زيادة من نسخة أخرى. (¬3) انظر "فتح الباري" (5/ 380)، "المغني" (8/ 185).

الظنِّ بصاحبه أنَّه للقُرْبة المتجددة عن القاصد الفاسدة ـ أو حكم به حاكمٌ مُعتبرٌ له مزيدُ إدراك في أمرين: أحدُهُما: العِلْمُ؛ فإنَّ مَنْ لم يُطَوِّل الباع في فنونه لا يُوثَقُ بحكمه في الصحَّة والبُطْلان، لأَنَّه قد يَخْفَى عليه ما هو عند مَن هو أعْلَى كعبًا منه من موانعِ الصحّةِ (¬1). الأمرُ الثاني: جَوْدَةُ التَّفَرُّسِ، وصدقُ الْحَدْسِ، ومعرفةُ المقاصدِ، وممارسةُ الأحوالِ ¬

(¬1) قال الشوكاني في "السيل الجرار" (3/ 51 - 52): هذا الوقف الذي جاءت به الشريعة، ورغب فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفعله أصحابه هو الذي يُتقرب به إلى الله عزَّ وجلّ حتى يكون من الصدقة الجارية التي لا ينقطع عن فاعلها ثوابه. فلا يصح أن يكون مصرفه غير قُربة، لأن ذلك خلافُ موضوع الوقف المشروع لكن القرية توجد في كل ما أثبت فيه الشرعُ أجرًا لفاعله كائنًا ما كان، فمن وقف مثلاً على إطعام نوع من أنواع الحيوانات المحترمة كان وقفه صحيحًا لأنه قد ثبت في السنة الصحيحة: "أنّ في كل كبدٍ رطبة أجرًا" ومثل هذا لو وقف على من يُخرج القذاة من المسجد، أو يرفع ما يؤذي المسلمين في طرقهم، فإن ذلك وقفٌ صحيح لورود الأدلة الدالةِ على ثبوت الأجر لفاعل ذلك فقِسْ على هذا غيره مما هو مساوٍ له في ثبوت الأجر لفاعله. وما هو آكد منه في استحقاق الثواب، وأما الأوقاف التي راد بها قطع ما أمر الله به أن يوصل، ومخالفة فرائض الله عز وجل فهو باطل من أصله لا ينعقد بحال. وذلك كمن يقف على ذكور أولاده دون إناثهم وما أشبه ذلك فإن هذا لم يرد التقرب إلى الله بل أراد المخالفة لأحكام الله عز وجل. والمعاندة لما شرعه لعباده. وجعل هذا الوقف الطاغوتيّ ذريعةً إلى ذلك المقصد الشيطانيّ، فليكن هذا منك على ما ذكر فما أكثر وقوعه في هذه الأزمنة وهكذا وقف من لا يحمله على الوقف إلا محبةُ بقاء المال في ذريّته وعدم خروجه عن أملاكهم فيقفه على ذريته فإن هذا إنما أراد المخالفة لحكم الله عز وجل، وهو انتقال الملك بالميراث وتفويض الوارث في ميراثه فيتصرف به كيف يشاء وليس أمر غناء الورثة ولا فقرهم إلى هذا الوقف بل هو إلى الله عز وجل. وقد توجد القُربة في مثل هذا الوقف على الذرية نادرًا بحسب اختلاف الأشخاص فعلى الناظر أن يمعن النظر في الأسباب المقتضية لذلك. من هذا النادر أن يقف على من تمسك بطرق الصلاح من ذريته أو اشتغل بطلب العلم فإن هذا الوقف ربما يكون المقصد فيه خالصا والقربة متحققة والأعمال بالنيات ولكن تفويض الأمر إلى ما حكم الله به بين عباده وارتضاه لهم أولى وأحق. وانظر: "المغني" (8/ 185).

المختلفةِ؛ فإنَّ من لم يكن كذلك وإن تبَحَّرَ في المعارف ربَّما انخدع بأدنى تلبيس، ونفق عنده ما يقارِبُهُ من التَّدليس، فإذا كان جامعًا للأمرين، وحكم بصحة الوقف، أو بملزومِ الصحّة، وهو القُربةُ لم يحتج مَن يأتي بعدَه يُشغِلَ نفسَه فيعرّف أحوال ذلك الوقف. والحاصلُ في كلّ وقفٍ من الأوقاف التي أشرْنا إليها عدمُ القُرْبَة حتى تظهر القربة، [أوما] (¬1) يَحْكُمُ على الصفة المذكورة، أو يبحث فيما لا حُكمَ فيه، حتَّى يغلبَ مع الظنِّ وجودُ قصدِ القُرْبَةِ، وعند ذلك لم يحلُّ نقضُ التَّحبيس إلاَّ لأسبابٍ قد ذَكَر أهلُ الفروعِ منها أربع، فَلْنَذْكُرْ ههنا ما نُرجّحُهُ، فمِنها أن يبلُغَ الحالُ بالموقوفِ عليه إلى حدِّ لو لم يقع البيعُ [2أ] ذهب كمَنْ يقفُ على مسجدٍ ثم أشرفَ على الانهدام (¬2)، ولم يوجَدْ له ما يقومُ بإصلاحِهِ غيرُ الوقفِ الذي عليهِ؛ فإنَّ ذلك مُسوّغٌ للبيع. والوجْهُ أنَّ الواقف لم يقصد بالوقف عليه إلاَّ استمرار حياته، ودوام عمارته حقيقةً ومجازًا، فإذا تُرِكَ انهدَم، وإذا انهدمَ زال الغَرَضُ المقصودُ من الوقفِ عليه، وهذا معلومٌ من مراد كلِّ واقفٍ، وكذا ¬

(¬1) زيادة من نسخة أخرى. (¬2) قال ابن قدامة في "المغني" (8/ 220 - 221): مسألة: وإذا خرب الوقف، ولم يَرُدّ شيئًا، بيع واشترى بثمنه ما يردّ على أهل الوقف، وجعل وقفًا كالأول، وكذلك الفرس الحبيس إذا لم يصلح للغزو بيع، واشترى بثمنه ما يصلح للجهاد. وجملةُ ذلك أن الوقف إذا خرب، وتعطلت منافعه، كذار انهدمت أو أرضٍ خربت، وعادت مواتًا، ولم تمكن عمارتُها، أو مسجد انتقل أهل القرية عنه، وصار في موضع لا يصلى فيه، أو ضاق أهله، ولم يمكن توسيعه في موضعه، أو تشعب جميعه فلم تمكن عمارته ولا عمارة بعضه إلاَّ ببيع بعضه، جاز بيع بعضه لتعمر به بقيته، وإن لم يمكن الانتفاع بشيء منه بيع جميعه. وقال مالك والشافعي لا يجوز بيع شيء من ذلك لقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لا يباع أصلُها، ولا تبتاع، ولا توهب، ولا تورث" تقدم تخريجه. ولأنَّ ما لا يجوز بيعه مع بقاء نافعه، لا يجوز بيعه مع تعطّلها، كالمُعْتِق والمسجد أشبه الأشياء بالمُعْتَقِ. انظر: الرسالة رقم (129).

إذا كانَ الموقوفُ عليه آدميًا مُعيَّنًا، أو جماعةً مُعيَّنين لم يذكر الواقف غيرَهُم من أولادهم، وبلغُوا في الفاقة إلى حدِّ خُشِيَ عليه التَّلفُ، فإنَّ البيعَ يَسُوغُ حينئذٍ. وأمَّا إذا كان الوقف على بطنٍ، ثم كذلك فحصل مع أحد البطون من الفاقة ما يُخشى عليهم فيها الهلاكُ فإنْ كان هلاكُهُم مُستَلْزِمُ بطلان حدوث الذرية منهم مثل أن يكونوا جماعةً مُعيّنينَ لم يكن لهم ذرّية حينئذٍ أو كان معهم ذرّيةٌ يُخْشى هلاكُها بهلاكهم، فلا ريب أنه يجوز إبطال الوقف وإن كان معهم ذرية لا يخشى عليه الهلاك بهلاكهم فربَّما يقالُ أنَّ الواقفَ قصدَ بالوقفِ الصَّدقة الجارية التي ورد الترغيب فيها، فبيعُه لخشية هلاك بعض البطون مفوِّتٌ لِغَرَضِهِ، لأنَّ أولئك إذا هلكُوا خلفَهم بطنٌ آخرُ ينتفعونَ بذلك الوقف، ثُم كذلك وخشية هلاك بعض البطون لا يستلزمُ أنَّ مَن بَعْدَهُم من البطون كذلك، لأنَّ الأزمنة تختلف، فقد يحصل في بعض الأزمنة من غِلاَّتِ الوقف ما يقوم بكفاية الموقوف عليهم، فلا يُخشى عليهم الهلاك، وقد يتحصل لهم الأرزاق من وجهٍ آخر ما يكون بانضمامه إلى الوقف معينًا لهم، فحينئذٍ قد لا يُجوز طيبة نفس الواقف بانقطاع الصدقة الجارية الواصل إليه ثوابها، ما دامت كذلك، بسبب خشية هلاك فرد، أو جماعة مُعيَّنين. وقد يجوزُ طيبة نفس الواقف بانقطاع الصدقة الجارية لاغنتام هذه الفرصة التي لا يقادَرُ قدَرُها؛ وهي حفظُ حياة نفس أو نفوس، ولا سيّما إذا كان الموقوف عليهم الأولاد، فأولادهم؛ فإنَّ الواقف قد يفتدي نفس الواحد بجميع الدنيا لو كانت في يده، فضلاً عن جُزءٍ يسير وصل إليه منها، ويلحقُ بهذا لو لم تبلغ الفاقة بالموقوف عليهم إلى حدِّ خشية الهلاك، إنما بلَغَ به الحالُ إلى الفَقْرِ المُدْقِعِ [2ب]، وتكَفُّف الناس، ورِثَّة اللِّباس، وأعوازِ ما لا بدَّ منه من الطعام والشراب في بعض الحالات، والوصول إلى حدٍّ يرقُّ له الشَّامِتُ، ويبكي له الرَّاحمُ. وفي قيمة ذلك الوقف إغناء ومُستمتعٌ؛ فهذا أيضًا وإن كان دونَ الأُول فهو لا يمنع أن يقال: ربَّما كان في سدّ فاقته من الأجر المتتابع ما لو علم به الواقف لآثره على جريان تلك الصدقة، ولا سيَّما إذا كان من الأولاد، وأولاد الأولاد؛ فإنه لو فُرِضَ مشاهدةُ الواقف لهم على تلك الحال

لباعَ نفائس الأموال كما نُشاهده في كثير من الأحياء من الجدِّ، والاجتهاد، وارتكاب الأخطار، ومتابعة الأسفار، والاغتراب من الوطن، ومفارقة الإلف والمسكن، كلُّ ذلك للقيام بما يسدُّ فاقة قرائبه، ويغنيهم عن تكفّف الناس، وقد يرْتَكبُ الأهوال لتحصِّل الفضلات لهم، التي لا تمسُّ الحاجة إليها كتشييد الدُّور، ورفاهة العيش، ورونق الثياب، وركوب فاره الدَّواب، قاصدًا بذلك أن يتجمَّلوا بما جلبه إليهم، وينبلُوا في الأَعيُن، ويُجلُّوا في الصدرو، ويكفوا مؤونة الاحتقار والاضطهاد. وربَّما يقتحم لمثل هذه التخيُّلات، بَحُوْرُ الهَلَكات، ونُحُور المعضلات، فيجود بدينه تارةً في جمع الحطام من الحرام، ويُسمِّحُ بنفسه أخرى في معارك الحروب والصَّدام، وكثيرًا ما ترى الأعناق تُضْرَبُ، والأطراف تُقطَعُ، ومارِنُ (¬1) المروةِ (¬2) يُجْدَعُ في محبَّةِ الأولادِ والأحفادِ، وربَّما يقال أنّ الواقف لمّا صار في دار غير هذه الدار، ورحل عن دار الاغترار إلى دار القرار ذهَبتْ عنه هذه التُّرهاتُ، وانْقَشَعَ عنه ظلالُ الغرورِ؛ فلم تبق له رغبةٌ في غير الأجورِ، ولا يخطرُ ببالِهِ ما كان عليه من أحوالِ الدنيا وبتصوُّره يُحسِنُ الآن من عطفيه للأقارب، فهو في موطن يفرُّ المرءُ فيه عن أخيه، وصاحبته وبنيه، وفصيلته التي تُؤويه (¬3)؛ فليس له بِدَفْعِ فاقَتِهِم من حاجةٍ، ولا عنده في بُؤسِهِم وفَقْرِهم لحاجة، فهو ¬

(¬1) مارنُ: مَرن، يمرن مرانة ومرونة وهو لين في صلابة ومرن الشيء يمرن مرونًا إذا استمر. ومرنت يد فلان على العمل أي صلبت واستمرَّت. وقيل: المارن: الأنف، وقيل ما لان منه. وقيل طرفه. "لسان العرب" (13/ 86). (¬2) المروة: حجر أبيض براق، وقيل هي التي يقدح منها النار. ومروة المسعى التي تذكر مع الصَّفا وهي أحد رأسيه اللذين ينتهي السعي إليهما سميت بذلك. "لسان العرب" (13/ 89). (¬3) يشير إلى قوله تعالى: {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ، وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ} [المعارج: 11 - 14].

يؤثر أجر استمرار الصدقة [3أ] الجارية، وثواب الانتفاع بوقفه من البطون التي تأتي بعد هذا البطن الذي أصابته الحاجة، وكيف يسمح بانقطاع الخير الواصل إليه بمجرَّد توفير غرض غيره، وصونه عن ذلك الفقر، واستكانة الحاجة، وضراعة الفاقة، وخضوع القلّة، ولا يقول نفسي نفسي! وقد قال هذه المقالة (¬1) ذلك الجمع الجم من الأنبياء والمرسلين، وكيف تلتحق هذه الخشية على الموقوف عليه مع وجودا لفرق الذي يتبلَّج وجهُهُ، فإنَّ خشْيَةَ هلاك الموقوف عليه كالمسجد، والمعيَّن من المسلمين، ومصالحهم يستلزم انقطاع ثواب تلك الصدقة الجارية باعتبار الأمر المفعول لأجله، بخلاف ما نحن بصدده فلا خشية هلاك ولا انقطاع. فإن قلت: هذه مسألة السؤال، وقد سُقْتَ في شأنها هذه الأحوال، فماذا الذي لديكَ؟ فإنَّ هذه ثمرةُ التَّعويلِ عليكَ. قلتُ: الذي أراده عدم الجَزْمِ بأَمْر مُعيَّن، بل يُفوَّضُ الأمرُ إلى الحاكم المعْتَبَرُ بعد أن تُعْرَض على [عقلِهِ] (¬2) هذه الأحوال، [ويحيط بما سُقناه من القال، فإن الأحوال] (¬3) تختلف باختلاف الأشخاص، ولكن مع قصر النَّظر على الموزنة بين أجر التعجيل الموفّر لكونه بالرَّقبة مع شدَّة الحاجة وبين أجر الاستمرار مع بقاء الرَّقبة، وإنّما قلنا هذا لأن الحكم على ميِّت قد صار بين أطباق الثَّرى؛ فإنه لا بُدّ يسألُ عن حرمةُ الثَّواب الواصل إليه فيم حرمه؟ ولم قطع الصداقة الواصل ثوابها إليه، ولا ينفع الجواب إلاَّ بما يرْجُحُ في موازين الحساب، لا بما يصفه الأحياء من أنَّ ذلك لو كان حيًّا لفَعل؛ فإنَّه بموطنٍ ¬

(¬1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (3340، 3361، 4712) ومسلم رقم (327/ 194) الترمذي رقم (2434) وأحمد (2/ 435 - 436) من حديث أبي هريرة" ... يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إنّ ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعد مثله، وإنّه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح ". (¬2) زيادة من نسخة أخرى. (¬3) زيادة من نسخة أخرى.

قد طاحتْ عنه مراعاةُ المروءة، وذهبت عنه المحافظات على ما تُوجِبُهُ الحميَّات، وأنا إلى الآن لم أزل مضطربًا بين أطراف هذا الكلام، مُتردِّدًا إن تصوَّرتُ حقيقة بين الإقدام والإحجامم، وقد نقضتُ وأبرمتُ بحسبِما يقتضيه الحال، وراجيًا من الله عدم المؤاخذة لاستفراغ وُسعي في كلا الطرفين. وقد يعرض بعد التنفيذ ما يوقع في الحيرة والندامة فأداويه بمرهم دلَّ عليه المختار صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وهو ما صحَّ عنه "أنَّ الحاكم إذا اجتهد فأصاب فلَهُ أجران" (¬1) وفي رواية: جرَّبْتُهُ في الشِّفاء من التهاب [3ب] الأسف على ما فرَّط، وهو أنَّ القصد بهذا الاجتهاد هو باعتبار الوقت الذي وقع فيه النَّقض والإبرام، لا باعتبار ما بعدَهُ، ولو كان كذلك لما صحَّ اجتهادُ المجتهد إلاَّ عند آخر جُزْءٍ من حياتِهِ؛ لأنَّ تجويزَ تصيير الرَّاجح مرجوحًا، أو المرجوح راجحًا لا ينقطعُ ما دامت الحياةُ. وهنا يستلزم ألاَّ يُنجز حكمٌ من أحكام الشريعة من حاكمٍ، ولا مُفتٍ، وهو باطلٌ إجماعًا وعقلاً ونقلاً، ولِنُتمَّ الكلام في بقيةِ المقتَضَيَاتِ للنَّقض باعتبار ما لديّ كما ذكرتُه سابقًا، وإن كان ذلك خارجًا عن سؤال السائل، فهو لا يخلُو عن فائدة. وقد أشار ـ حفظه الله ـ في آخر الأسئلة أنَّ المجيب يتكلَّمُ على ما يقتضيه المقامُ ممَّا له دَخْلٌ، وعلى ما يتفرَّعُ عليه ممَّا لا يقتضيه، فما وقع في بعض هذه الأجوبة من الاستطراد هو من باب الامتثال لِما رسَمه، فَمِن جُمْلَةِ المقتضياتِ للنقض إذا بلغَ الوقفُ نفسه إلى حالٍ إذا لم يُستدرك عندَها بالبيع أو المعارضة بطل الغرض المقصودُ منه كُلاًّ أو بعضًا؛ فإنه يسوغ بيعُ الكُلِّ إذا كان بيع البعض لا يقومُ بالإصلاح (¬2)، ويسوغ بيعُ البعضِ إذا ¬

(¬1) تقدم مرارًا. (¬2) تقدم ذكره. انظر الرسالة (129)، "المغني" (8/ 195).

كان يقومُ بإصلاح البعض. ثُم إذا بيع الكل وجب التعويض لذلك المبيع بمقدار الثَّمن من جنسه، أو من غير جنسه، ممَّا يبقَى وتتأبَّدُ منفعتُهُ. والوجه في تسويغ البيع أنه يُعْلَمَ أنّ غرض الواقف استمرار الصَّدَقة الجارية، وأنَّ انقطاعها ليس من غرضه، ولا مقصوده، لأنّ المفروض أنَّه من العُقلاء ومِن طلبة الأجْرِ، فوجب حينئذ العمل بما يُعْلَمُ أنَّه من مراده، والمبالغة في نفعه بالثَّواب بكل مُمكن، وليس في الإمكان أبدعُ ممَّا كان. ولا يُعارض هذا تجويز أنَّ بعض ما بطل نفعه قد يرجَى عَوْدُهُ في زَمَنٍ آخرَ، فإنَّ هذا التَّجويزَ ليسَ ممَّا يَعتبرُه العُقلاء في نفع أنفسهم. مثلاً إذا انقطع [الماء] (¬1) الذي [4أ] تُسقى به الأرض انقطاعًا يَغْلِبُ على الظنِّ عدمُ عَوْدِهِ، والأرضُ لا تُزْرَعُ إلاَّ بذلكَ، فإنّه يُسَوِّغُ البيعَ إن أمكنَ، أو بيعَ البعض لاستخراج الماء، إذا كان العمل يفيدُ في مثل ذلك. ولا يقال أنّ تجويز عَوْدِ الماءِ في زمانٍ مُسْتَقْبَلٍ يمنعُ البيعَ لما سلفَ. [ومن جُمْلَةِ المقتَضَياتِ للبيع أن يكون ذلك الوقف في مكان مخافة بعد أن كان في مكان أَمِن بحيثُ يتعذَّرُ الانتفاعُ به؛ فإنَّ هذا لاحقٌ بالأولِ، ومثلُهُ أنْ يكون في أرضٍ فارقها سُكَّانُها] (¬2). ومن جُملةِ المقتضيات للبيع (¬3) نَقْلُ مصلحةٍ إلى أصلحَ منْها؛ فإنه إذا كان الوقف في محلٍّ تكثُرُ عليه الغرامات والنَّفقَاتُ، إمَّا لِبعدٍ عن الموقوف عليه، أو لاحتياجه إلى عملٍ كثيرٍ، أو لعروض آفة له في بعض الأوقاف، أو كونه إذا أريد إصلاحه احتاج إلى غرامةٍ لا يقومُ بها الحاصلُ منه، وغيرُهُ بالعكسِ من ذلكَ كالدَّارِ التي تُؤجَّرُ، والأرضُ التي تُزرعُ. والحاصلُ أنَّ المُعْتَبَرَ أنْ يكونَ الثاني أصلحَ من الأولِ بوجهٍ من الوجوهِ التي لها مدخلٌ ¬

(¬1) زيادة من نسخة أخرى. (¬2) زيادة من نسخة أخرى. (¬3) تقدم توضيحه.

في نفع الميِّتِ الواقفِ بما يصلُ إليه من الثَّواب، أو باستمراره، أو نحو ذلك. والوجه في تسويغ البيع لهذا أنَّ المفروض أنّ الواقف وقف لقصد وصول ثواب هذه الصَّدقة إليه، فالعلة معقولةٌ، فما كان أدخلَ في هذه الفائدة المقصودة، وأنفعَ لفاعِلِها فَفِعْلُهُ من باب المعاونَةِ على البِرِّ، وإدخالِ الخيرِ على الغير وهو مندوبٌ إليه للعلم بأنه لا مَقْصِدَ للواقف بتحبيس تلك العين بنفسها، وإن كان غيرُها أصلحَ منها. ولو فُرِضَ أنَّ ذلكَ مقصِدُهُ لكانَ من بابِ الشُّحِّ على بقاء المال، والمحبَّة له، وكراهةِ أن يدخل تحت ملك غيره، وهذا خارجٌ عن الغرض الذي نحن بصدَدِه، وهو أنْ لا مَقْصِدَ للواقفِ إلاَّ القُربة، ووصولَ الخير إليه. فإن قلتَ: يمكنُ أن يكون تعلُّقُ غَرَضِهِ بتحبيسِ هذه العين [4ب] بخصوصِها، لكونها أنفعَ من وجهٍ من الوجوهِ وأما باعتبار الحال الذي وقعَ فيه، أو باعتبار المآل؟. فإن اختلفَ وَجْهُ النفعِ أو الصَّلاح، فكان أحدُهُما أصلحَ من الآخرِ من وجهٍ من الوجوهِ، والآخرُ أصلحُ منه من وجهٍ، فلا بُدَّ من الموازنة بين الوجهين، فإن رجَحَ المنقولُ إليه ساغَ البيعُ، وهذا يَشْمَلُ كلَّ ما يتصوَّرَهُ الذّهن من صور الصَّلاح. انتهى. [5أ].

بحث في حديث (فدين الله أحق أن يقضى)

(133) 25/ 2 بحث في حديث (فدَين الله أحق أن يقضى) تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في حديث "فدَين الله أحق أن يقضى". 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين وبعد: فإنه ورد من سيدي العلامة ... 4 - آخر الرسالة: وليس ذلك من الدعاء كما لا يخفى. وفي هذا المقدار كفايةٌ لمن له هداية والله ولي التوفيق كتبه المجيب محمد الشوكاني غفر الله له. 5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول. 6 - عدد الصفحات: 7 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة. 9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني. 10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني. 11 - ملحوظة: فقدت مخطوطة السؤال بعد كتابته.

[بسم الله الرحمن الرحيم] [نص السؤال] الحمدُ لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلَّم. سأل لعهدة المسلمين اللامة الربّاني محمد بن علي بن محمد الشوكاني ـ كثر الله فوائده ـ وأطال مدَّته: هل يُقدَّمُ حقُّ الله تعالى على حق المخلوق، كما يدل عليه "فَدَيْنُ الله أحقُّ أن يُقْضَى" (¬1) أمِ العكسُ للإجماع على هجر ظاهر الدليل المذكور، فيما لو أن رجلاً مات ومالُه مستغرَقٌ بِدَيْنِهِ، وقد وجب عليه الحجُّ وقال: يُحَجُّ عنِّي، فالإجماع حاصلٌ على تقديم الدِّين المستغرَق على الحجِّ، ثم لفظ: "فدَينُ الله" من حديث الخثعميةِ (¬2)، وفيه اضطرابٌ من حيث إنَّ في رواية السائل رجلاً، وفي أخرى امرأة، وفي الصحيحين بغير زيادة: "أرأيت لو كان على أبيك دَيْنٌ ... إلخ" وفي غيرهما بها، وفيه أيضًا مغايرةٌ من الركوبَ على الراحلة، وفي القصة التي فيها الزيادةُ أنه مات. ويعارضُه أيضًا حديثُ المنع عن ابن عمرَ بلفظ: "لا يحجُّ أحدٌ عن أحد" ونحوُه، ثم هو ورد في الحج، وهو من محلّ النزاع، لأنه حقٌّ لله تعالى، فهل يُقَدِّمُ كما هو مدلول أفْعَلَ التفضيل أم لا؟ لكونه إنما ثبت قياسًا للمختلَف فيه على المتَّفق عليه، كما أفاده المسئولُ ـ كثر الله فوائده ـ في شرح المنتقى (¬3) له. وإذا تقرر كونُه أحقَّ، وانتفتِ المعارضةُ، فهل يلحقُ، ومن الولد فقط، كما في حديث الخثعمية أم منه، ومن الأخ، أو القريب، كما في حديث ابن عباس: "حُجَّ عن نفسك عن ........................... ¬

(¬1) سيأتي تخريجه. (¬2) "نيل الأوطار" (2/ 252). (¬3) "نيل الأوطار" (2/ 252).

شِبْرِمَةَ" (¬1) أم يتعدَّى إلى الغير، فما هو الدليلُ؟ وإذا كان الغيرُ ممنوعًا، فهل لمن أذِنَ له تأخيرُ غيره أم لا؟ فظاهر الأدلة المنع، وهل للوصية فائدةٌ، ويجب امتثالُها؟ فالذي في البحر (¬2) عن العترة، وأبي حنيفة (¬3) وأصحابه، ومالكٍ (¬4) أنه يسقطُ وجوبُ الحجِّ بالموت، وكذلك سائرُ ما ورد في مثل الصلاة، والصوم، ونحوِهما، هل يصحُّ لقول النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "من مات وعليه صومٌ فليصمْ عنه وليُّه" وهو أعمُّ من الولد وغيره، والحديث متَّفقٌ عليه (¬5) من حديث عائشةَ، وصححه أحمدُ (¬6)، وزاد البزَّار (¬7) إن شاء، وضُعِّفَتْ، وله شاهدٌ من حديث بريدةَ عند أحمدَ (¬8)، ومسلمٍ (¬9) أم لا يصحُّ؟ فظاهرُ قولِ الله تعالى: ............................... ¬

(¬1) أخرجه أبو داود رقم (1811) وابن ماجه رقم (2903) والدارقطني (2/ 270). عن ابن عباس أنّ النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة قال: "من شبرمة؟ " قال: أخٌ لي، أو قريبٌ لي، قال: "حججت عن نفسك؟ " قال: لا، قال: "حجَّ عن نفسك ثم حُجّ عن شبرمة". وعند ابن ماجه قال: "فاجعل هذه عن نفسك، ثم احجج عن شبرمة". وعند الدارقطني فيه: "قال: هذه عنك، وحُجَّ عن شبرمة". وهو حديث صحيح. (¬2) (2/ 395). (¬3) انظر "البناية في شرح الهداية" (4/ 430 - 431). (¬4) انظر: "المفهم" (3/ 444). (¬5) أخرجه البخاري رقم (1952) ومسلم رقم (1147). (¬6) في "المسند" (6/ 609). (¬7) في "مسنده" (2/ 481 - 482 رقم 1023 ـ كشف). وقال الهيثمي في "المجمع" (3/ 179) هو في الصحيح خلا قوله إن شاء الله رواه البزار وإسناده حسن. (¬8) في "المسند" (5/ 359). (¬9) في "صحيحه" رقم (1149).

{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (¬1) ولكونه قد ورد النَّهيُ عن ذلك بلفظ: "لا يصلِّ أحدٌ عن أحد، ولا يصم أحدٌ عن أحد" رواه النَّسائي (¬2) عن ابن عباس، ومثلُه عن ابن عمرَ (¬3). وفي البخاري (¬4) في بال النَّذر (¬5) عنهما تعليقًا مثلُه، فقد اضطربَ الكلامُ، وحصلتِ المعارضةُ والمغايرةُ، وقوي الإشكال والكشفُ عن تلك الإفادة مطلوبةٌ ـ كثر الله فوائده ـ آمين. بقلم كاتبه. وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم آمينَ. ¬

(¬1) [النجم: 39]. (¬2) في "السنن الكبرى" (2/ 175 رقم 2918/ 7). (¬3) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (9/ 61 رقم 16346). (¬4) في "صحيحه" (4/ 192 ـ مع الفتح). (¬5) الباب رقم (42).

[نصُّ الجواب] بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين. وبعد: فإنه ورد سؤال من سيدي العلامة المِفْضال يحيى بن مطهر (¬1) بن إسماعيل بن يحيى بن الحسين بن الإمام القاسم ـ رحمهم الله جميعًا وإياي ـ عن حديث: "فَدَيْنُ الله أحقُّ أن يُقْضَى"، وحاصلُ السؤال: هل يدلُّ على أن دَيْنَ الله مقدَّمٌ على دَيْنِ الآدميِّ؟ وهل يصح أن يحج عن الميت غير قريبه بأُجرة وغير أجرة، أم ذلك مختصٌّ بالقريب؟ وهل يلحق الإنسان ما فعله غيرُه من القُرَبِ أم ذلك مختصٌّ ببعض القُرَبِ، وببعض الأشخاص؟. وأقولُ: الجوابُ عن السؤال عن كون دَيْنِ الله مقدَّمٌ على دَيْن الآدميّ أم العكسُ، أنّ حديث ابن عباس الثابتَ في الصحيح (¬2) وغيرِه (¬3) أنّ امرأةً من جُهَيْنَةَ جاءت إلى النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فقالتْ: إنّ أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحجُّ عنها؟ قال: "نعم حجِّي عنها، أرأيتِ لو كان على أمك دينٌ أكنتِ قاضِيته؟ اقضوا الله؛ فالله أحقُّ الوفاء". وقد روي هذا من طرق عن ابن عباس، ففي بعضها امرأةٌ من جهينَة كما في الرواية السابقة (¬4)، وفي بعض الألفاظ من حديثه أنَّ امرأةً من خُثْعُمَ قالت: يا رسول الله، إنّ أبي أدركته فريضةُ الله في الحج شيخًا كبيرًا، لا يستطيع أن يستويى على ظهر بعيره، قال: "فحجِّي عنه"، وهذا ثابتٌ في الصحيحين (¬5) ...................................... ¬

(¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) أخرجه البخاري في "صحيحه" (1852). (¬3) كأحمد (1/ 329)، والنسائي (5/ 116). (¬4) أخرجه البخاري في "صحيحه" (1852). (¬5) البخاري رقم (1513) ومسلم رقم (1335).

وغيرِهما (¬1). وأخرج هذه القصة عن الخثعمية أحمد (¬2)، والترمذيُّ (¬3) وصححهمن طريق عليِّ ـ كرم الله وجهه ـ. وأخرجها أيضًا أحمدُ (¬4)، والنسائي (¬5) بإسناد صالح من حديث عبد الله بن الزبير، وفي لفظ: من حديث ابن عباس قال: "جاء رجل فقال: إنّ أختي نرت أن تحجَّ" (¬6). وأخرج النَّسائيّ (¬7)، والشافعي (¬8)، وابن ماجه (¬9)، والدارقطني (¬10) من حديث ابن عباس أيضًا قال: أتى النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ رجلٌ فقال: إنَّ أبي مات وعليه حَجَّةُ الإسلام، أفأحُجُّ عنه؟ قال: "أرأيت لو أنَّ أباك ترك دَيْنًا عليه أقضيتَه عنه؟ " قال: نعم، قال: "فاحْجُجْ عن أبيك". [1أ] فقد دلّت هذه الأحاديثُ، وما ورد في معناها أنَّ القريبَ يحجُّ عن قريبه (¬11)، سواءٌ أوصى، أو لم يوصِ، إذا طلب القريبُ ذلك وأراده. ¬

(¬1) كأحمد (1/ 213) وأبو داود رقم (1809) والترمذي رقم (885) والنسائي (5/ 118) وابن ماجه رقم (2907). (¬2) في "المسند" (1/ 76). (¬3) في "السنن" (885) وقال: حديث علي حديث حسن صحيح. وهو حديث صحيح إن شاء الله. (¬4) في "المسند" (4/ 5). (¬5) "السنن" (5/ 118). (¬6) أخرجه البخاري رقم (6699) وأحمد (1/ 329). (¬7) في "السنن" (5/ 118). (¬8) (1/ 385 - 386 رقم 992 ترتيب المسند). (¬9) في "السنن" رقم (2904). (¬10) في "السنن" (2/ 260). (¬11) انظر "المغني" (5/ 38 - 39).

وأما حجُّ الأجنبيَّ عن الأجنبيِ فلم يأت ما يدلُّ على ذلك، فإنّ حديث (¬1) ابن عباس عند أبي داود (¬2)، وابن ماجه (¬3)، وابن حِبَّان (¬4)، وصححه، والبيهقيُّ (¬5) وقال: إسناده صحيحٌ، أنَّ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ سمع رجلاً يقول: لبيك عن شِبْرِمَةَ، قال: "مَنْ شِبْرِمَةُ؟ " قال: أخٌ لي، أو قريبٌ لي، قال: "حججتَ عن نفسك؟ " قال: لا، قال: "حُجَّ عن نفسك، ثم حُجَّ عن شبرمة". ولفظُ ابن ماجه: "فاجعل هذه عن نفسك، ثم احْجُجْ عن شبرمةَ"، ولفظ الدارقطنيِّ (¬6) قال: "هذه عنك، وحُجَّ عن شبرمةَ" فيه التصريح بما يفيد القرابة بينهما، وقد أُعِلَّ الحديث بأنه موقوفٌ (¬7)، وليس ذلك بعلَّة، لأنّ الرفعَ زيادةٌ يتعيّنُ قبولُها على ما ذهب إليه أهلُ الأصول، وبعضُ أهل الحديث، وهو الحقُّ إذا جاءت الزيادةُ (¬8) من طريق ثقةٍ، وهي هاهنا كذلك؛ فإن الذي رفع الحديثَ عبده بنُ سليمانَ، وهو ثقةٌ من رجال الصحيح، وقد تابعه على ذلك محمدُ بن بشرٍ، ومحمد بن عُبَيْد الله الأنصاريّ. وقد اختلف أئمة الحديث في ترجح الرفع على الوقف، أو العكس (¬9)، فرجَّح الأول عبدُ الحقِّ، وابنُ القطَّان، ورجَّحَ الثاني ...................... ¬

(¬1) وهو حديث صحيح تقدم تخريجه. (¬2) في "السنن" رقم (1811). (¬3) في "السنن" (رقم 2903). (¬4) في صحيحه رقم (3988). (¬5) في "السنن الكبرى" (4/ 336)، (5/ 179 - 180). (¬6) في "السنن" (2/ 270، 271). (¬7) قال الزيلعي في "نصب الراية" (3/ 155): عن ابن القطان في كتابه أنّه قال: وحديث شبرمة علَّله بعضهم بأنّه قد روي موقوفًا والذي أسنده ثقة فلا يضره. (¬8) ذكره البيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 336). وانظر: "تلخيص الحبير" (2/ 426 - 427). (¬9) انظر: "تلخيص الحبير" (2/ 426).

الطحاويُّ (¬1). والحقُّ ما عرفتَ. وقد قيل (¬2): إنّ اسم الملبي نبيشةُ، وقيل: هو اسمُ الملبِّي عنه. وقد استدلَّ بعضُ القائلين بأنه يحجُّ الأجنبيُّ عن الأجنبيِّ بحديث ابن عباس هذا. وقد عرفت أنه صرَّح فيه بأنه أخٌ له، أو قريبٌ، فلا يصحُّ الاستدلالُ به على ذلك. وقد روى سعيد بن منصور وغيره عن ابن عمر بإسناد صحيح أنه "لا يحجُ أحدٌ عن أحد" (¬3) ونحوَه عن مالك والليث. وروي عن مالك أنّه إن أوصى بذلك فليحجَّ عنه، وإلاَّ فلا (¬4). ¬

(¬1) في "شرح مشكل الآثار" (6/ 384). (¬2) أخرجه الدارقطني في "السنن" (2/ 268 رقم 145، 146، 147). عن الحسن بن عمارة عن عبد الملك عن طاوس عن ابن عباس قال: سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً يلبي عن نبيشة، فقال: أيها الملبي عن نبيشة هل حججت؟ " قال: لا. قال: "فهذه عن نبيشة وحج عن نفسك". - وهذا وهم وقد بينه الدارقطني في الحديث رقم (148) عن الحسن بن عمارة، عن عبد الملك بن ميسرة عن طاوس، عن ابن عباس: أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من شبرمة؟ " قال: أخ لي، قال: "هل حججت"، قال: لا، قال: "حج عن نفسك، ثم احجج عن شبرمة". قال الدارقطني عقب هذا الحديث: "هذا هو الصحيح عن ابن عباس والذي قبله وهم، يقال إن الحسن بن عمارة كان يرويه ثم رجع عنه إلى الصواب فحدث به على الصواب موافقًا لرواية غيره عن ابن عباس، وهو متروك الحديث على كل حال. وانظر: "الحاوي الكبير" (5/ 27). (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) ذكره ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (26/ 14 - 17). وانظر: "المغني" (5/ 36). قال القرطبي في "المفهم" (3/ 443 - 444): وقد اختلف العلماء في النيابة في الحجِّ قديمًا وحديثًا، فحكى عن النخعي وبعض السلف: لا يحج أحدٌ عن أحد جملةٌ من غير تفصيل. وحكى مثله عن مالك. وقال جمهور الفقهاء: يجوز أن يحج عن الميت، عن فرضه، ونذره، وإن لم يوص به، ويجزئ عنه. واختلف قول الشافعيّ رحمه الله في الإجزاء عن الفرض. ومذهب مالك، والليث، والحسن بن حييِّ: أنَّه لا يحجُّ أحدٌ عن أحدٍ إلا عن ميِّتٍ لم يحجّ حجَّة الإسلام. ولا ينوب عن فرضه. قال مالك: إذا أوصى به. وكذلك عنده يتطوّع بالحج عن الميّت إذا أوصى به، وأجاز أبو حنيفة والثوري وصية الصحيح بالحجِّ عنه تطوُّعًا وروي مثله عن مالك. وانظر: "مجموع الفتاوي" لابن تيمية (26/ 17).

وإذا تقرّر هذا فقولُه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "فَدَيْنُ اللهِ أحقُّ بالوفاء"، وفي رواية: "فدين الله أحقُّ بالقضاء" يدلُّ على أن كل دَيْنٍ لله تثبتُ مشروعيةُ قضائه فهو أحقُّ بأن يُقْضَى (¬1)، وأقدمُ من حقوق الآدميينَ، لأنَّ ذلك مدلول أفعل التفضيل، والمفضَّلُ عليه مقدَّرٌ، وتقديره: فَدَيْنُ الله أحقُّ بأن يُقْضَى من كل دَيْن، لما تقرَّر في علم المعاني أن حذف المتعلّق (¬2) مشعِرٌ بالتعميم في المقامات الخطابية [1ب]. وعلى فرض أنه قد تقدَّم ما يخصُّه ببعض الدُّيون لقوله: "أرأيتَ لو كان على أبيك ¬

(¬1) قال الحافظ في "الفتح" (4/ 66) "أكنت قاضيته" كذا للأكثر بضمير يعود على الدّين وللكشميهني قاضية يوزن فاعله على حذف المفعول. وفيه أن من مات وعليه حج وجب على وليه أن يجهز من يحج عنه من رأس ماله كما أن عليه قضاء ديونه. فقد أجمعوا على أنّ دين الآدمي من رأس المال فكذلك ما شبه به في القضاء. ويلتحق بالحج كل حق ثبت في ذمته من كفارة أو نذر أوزكاة أو غير ذلك وفي قوله: "فالله أحق بالوفاء" دليل على أنَّه مقدم على دين الآدمي. وهو أحد أقوال الشافعي، وقيل بالعكس. وقيل هما سواء. قال الطيبي: في الحديث إشعار بأن المسؤول عنه خلف مالاً فأخبره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن حق الله مقدم على حق العباد وأوجب عليه الحج عنه والجامع علة المالية. قلت ـ أي البخاري ـ ولم يتمتم في الجواب المذكور أن يكون خلف مالاً كما زعم لأن قوله: "أكنت قاضيته" أعم من أن يكون المراد مما خلفه أو تبرعًا. (¬2) قال الحافظ في "الفتح" (4/ 66) "أكنت قاضيته" كذا للأكثر بضمير يعود على الدّين وللكشميهني قاضية يوزن فاعله على حذف المفعول. وفيه أن من مات وعليه حج وجب على وليه أن يجهز من يحج عنه من رأس ماله كما أن عليه قضاء ديونه. فقد أجمعوا على أنّ دين الآدمي من رأس المال فكذلك ما شبه به في القضاء. ويلتحق بالحج كل حق ثبت في ذمته من كفارة أو نذر أوزكاة أو غير ذلك وفي قوله: "فالله أحق بالوفاء" دليل على أنَّه مقدم على دين الآدمي. وهو أحد أقوال الشافعي، وقيل بالعكس. وقيل هما سواء. قال الطيبي: في الحديث إشعار بأن المسؤول عنه خلف مالاً فأخبره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن حق الله مقدم على حق العباد وأوجب عليه الحج عنه والجامع علة المالية. قلت ـ أي البخاري ـ ولم يتمتم في الجواب المذكور أن يكون خلف مالاً كما زعم لأن قوله: "أكنت قاضيته" أعم من أن يكون المراد مما خلفه أوتبرعًا.

دَيْنٌ"، وسلّمنا أنه لا عمومَ في هذه الصيغة، بل هي خاصة بِدَيْنِ الآدميّ فيكون المقدّرُ: فدَيْنُ اللهِ أحقُّ بأن يقضى، أو أحقُّ بالوفاء من دَيْنِ الآدمي، وهو المطلوب على أنّ الدَّيْنَ لا يكون إلاّ لله، أو لآدمي، فالعموم المستفاد من حذف المتعلّق هو كهذا الخاصّ الذي دل على سياق الكلام. وإنما قلنا: ثبتت مشروعية قضائه، لأن بعض حقوق الله الواجبة على العباد لم تثبت مشروعية قضائها إذا عجز مَنْ هي عليه عنها، أو مات. وبعضها ثبت مشروعية قضائها على صفة مخصوصة، كالحج، فإنه إنما ورد قضاؤه من القريب كما عرفت، وكذلك الصيامُ، فإنّه إنما ورد "أنّ مَنْ مات وعليه صوم، وصامَ عنه وليُّه" (¬1). ولم يَرِدْ ما يدلّ على أنه يصوم عنه غيرُ وليه. إذا تقرّر هذا فالقريب إذا قضى عن قريبه فريضة الحج كان ذلك صحيحًا مجزيًا إجزاءً أحقَّ من إجزاء قضاء القريب عن قريبه ما كان دينًا لبني آدم. وأما الحجُّ عن العاجز والميت إذا وقع من غير قريب، بل من أجنبيّ بأُجرة، أو بغير أجرة، فهذا لم يأتِ ما يدلُّ على أنه يجري حتى يكون من حقِّ الله الذي هو أحقُّ بأن ¬

(¬1) أخرجه أحمد (6/ 69) والبخاري رقم (1952) ومسلم رقم (1147) وأبو داود رقم (2400) عن عائشة رضي الله عنها. قال الحافظ في "الفتح" (4/ 194) واختلف المجيزون في المراد بقوله: "وليه"، فقيل: كل قريب، وقيل: الوارث خاصة، وقيل: عصمته، والأول أرجح، والثاني قريب. ويرد الثالث قصة المرأة التي سألت عن نذر أمها. واختلفوا أيضًا هل يختص ذلك بالولي؟ لأن الأصل عدم النيابة في العبادة البدنية، ولأنها عبادة لا تدخلها النيابة في الحياة فكذلك في الموت إلا ما ورد فيه الدليل فيقتصر على ما ورد فيه ويبقى الباقي على الأصل وهذا هو الراجح. وقيل يختص بالولي فلو أمر أجنبيًّا بأن يصوم عنه أجزأ كما في الحج. وقيل يصح استقلال الأجنبي بذلك وذكر الولي لكونه الغالب، وظاهر صنيع البخاري اختيار هذا الأخير، وبه جزم أبو الطيب الطبري وقواه بتشبيهه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك بالدن والدين لا يختص بالقريب.

يُقْضَى من دَيْنِ بني آدَم (¬1). وحاصلُ الكلام أن يقالَ: نحن نمنعُ أن يكون فعلُ الحجِّ من غير القريب بأُجرةٍ أو غيرِها مجزيًا، فضلاً عن أن يكون حقًّا من حقوق الله يجبُ قضاؤه، فلا يتمُّ إدراج مثل ذلك في حديث: "فَدَيْنُ الله أحقُّ أن يُقْضَى" إلاَّ بعد إثبات أنه يجري، وإثبات أنه دَيْنٌ من ديون الله التي يجب قضاؤها ببرهانٍ صحيح، لا بمجرد القياسات التي لا تقوم بها حُجَّةٌ، والمناسبات التي ليست من الأدلة في وِرْدٍ ولا صَدْرٍ، فمن جاءنا بالحُجَّةِ المقبولة فيها ونِعْمَتْ، ومن لم يأت بذلك فلا يُتْعِبْ نفسَه، ويتعب عباد الله بما لم يَشْرَعْهُ الله، ولا أوجبه [2أ]. وقد ظهر بما كرنا الجواب عن السؤال الأول، والسؤال الثاني من الثلاثة الأسئلة المتقدمة. وأما الجواب عن السؤال الثالث: وهو هل يلحق الإنسن ما فعله غيره من القرب؟ أم لك مختصٌّ ببعض القرب، وببعض الأشخاص؟ فنقول: اعلم أنّ العمومات القرآنية كقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (¬2) ونحو هذه الآية قد أفاد أنه يكون للإنسان شيءٌ من العمل إلاّ ما هو من سعيه، وقد خُصِّصَ هذا العمومُ بمخصَّصاتٍ. فمنها ما تقدم من حج القريب (¬3) عن قريبه. ومنها ما ثبت في الصحيح (¬4) من قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "من مات ¬

(¬1) قال ابن قدامة في "المغني" (5/ 23): وفي الاستئجار على الحجِّ والأذان، وتعليم القرآن والفقه، ونحوه ممّا يتعدّى نفعه، ويختصّ فاعله أن يكون من أهل القربة روايتان: إحداهما: لا يجوز، وهو مذهب أبي حنيفة، وإسحاق. الأخرى: يجوز. وهو مذهب مالك والشَّافعي وابن المنذر. وانظر: "مجموع الفتاوى" (26/ 14 - 17). (¬2) [النجم: 39]. (¬3) وهو حديث صحيح. وقد تقدم. (¬4) وهو حديث صحيح. وقد تقدم.

وعليه صومٌ صام عنه وليُّه". ومنها الصدقةُ من الولد، لما أخرجه مسلم (¬1)، وأحمدُ (¬2) والنسائيّ (¬3)، وابن ماجه (¬4) من حديث أبي هريرة أنّ رجلاً قال للنبيّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "إن أمي افتلتتْ نفسها، وأراها لو تكلّمت تصدقتْ، فهل لها أجرٌ إن تصدقتُ عنها؟ قال: (نعم) " (¬5)، ومثلُه عد البخاري (¬6) من حديث ابن عباس، وعند أحمدَ (¬7) والنسائي (¬8) أن السائلَ هو سعد بن عبادة، وفي البخاري (¬9) ما يفيد ذلك أيضًا. ومنها أيضًا العتق من الولد، كما وقع في ..................................... ¬

(¬1) في "صحيحه" رقم (1630). (¬2) في "المسند" (2/ 371). (¬3) في "السنن" (6/ 252). (¬4) في "السنن" رقم (2716). عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رجلاً قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنّ أبي مات ولم يوص، أفينفعه أن أتصدق عنه؟ قال: "نعم". (¬5) أمّا لفظ المصنف فهو من حديث عائشة أخرجه البخاري رقم (2760) ومسلم رقم (1004) وأحمد (6/ 51). (¬6) في "صحيحه" رقم (2770). عن ابن عباس: أنّ رجلاً قال للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنّ أُمي توفيت، أينفعها إن تصدَّقت عنها، قال: "نعم" فإنّ لي مخرافًا، فأنا أشهدك أني قد تصدقت به عنها. (¬7) في "المسند" (5/ 285). (¬8) في "السنن" (5/ 255). (¬9) في "صحيحه" رقم (2761) وطرفاه (6698، 6959). - افتلتت: أي ماتت فلتةً، أي فجأة ورواه ابن قتيبة: اقتتلت: بالقاف وفسَّره: بأنه كلمة تقال لمن مات فجأة وتقال أيضًا لمن قتلته الجن، والعشق. "المفهم" (3/ 49). وقال الحافظ في "الفتح" (5/ 389) افتلتت بضم المثناة بعد الفاء الساكنة وكسراللام أي أخذت فلتة أي بغتة وقوله نفسها بالضم عن الأشهر وبالفتح أيضًا وهوموت الفجأة بالنفس والروح.

البخاري (¬1) من حديث سعد. ومنها الصلاةُ من الولد، لما روَى الدارقطني (¬2) أن رجلاً قال: يا رسول الله، إنه كان لي أبوان أبرّهما في حال حياتِهما، فكيف لي بِبِرِّهما بعد موتهما؟ فقال ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "إنّ من البِرِّ أن تصلِّي لهما مع صلاتك، وأن تصوم لهما مع صيامك". ومنها الدعاء من الولد: لما أخرجه مسلم (¬3)، وأهل السنن (¬4) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "إذا مات الإنسانُ انقطعَ عملُه إلاَّ من ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنْتَفَعُ به، أو ولدٍ صالحٍ [2ب] يدعو له". ومنها الدعاءُ من الغير، لحديث فضل الدعاء للأخ بظهر الغيب (¬5)، وأن المَلَكَ يقول: ولكَ مثلُ ذلك، ولقوله تعالى: & وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ ¬

(¬1) لم أجده في صحيح البخاري بل أخرجه في "الأدب المفرد" كما سيأتي. ولكن أخرج مسلم في صحيحه رقم (25/ 1510) وأحمد (2/ 230، 445) وأبو داود رقم (5137) والبخاري في "الأدب المفرد" رقم (10) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 109) والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 289) من طرق عن سفيان عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يجزي ولدٌ والده إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقهُ". وهو حديث صحيح. (¬2) لم أجده في سننه. (¬3) في "صحيحه" رقم (1631). (¬4) أبو داود رقم (2880) والترمذي (1376) وقال حديث حسن صحيح والنسائي (6/ 251 رقم 3651) من حديث أبي هريرة. وهو حديث صحيح. (¬5) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2732) وأبو داود رقم (1534) عن أمّ الدرداء قالت: حدّثني سيدي أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إذا دعا الرَّجلُ لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة: ولك بمثلٍ". وهو حديث صحيح.

لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ {(¬1)، ولما ثبت من الدعاء للميِّت عند الزيارة، كما في الصحيح (¬2) وغيرِه (¬3)، فقد كان رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ يعلِّمُ الصحابَة أن يقولوا عند زيادة القبور: "السلام عليكم أهل الديار من المسلمين والمؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكمُ العافية"، وقد حكى النوويُّ (¬4) الإجماع على وصول الدعاء إلى الميت، وكذا حكى الإجماع على أن الصدقة تقعُ عن الميت ويصلُه ثوابُها، ولم يقيِّد ذلك بالولد، وكذلك حكى الإجماعَ (¬5) على لحوق قضاء الدَّيْنِ، ويدلُّ عليه حديثُ: من تبرَّع عن الميت المديونِ الذي امتنع النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ من الصلاة عليه، فقال ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "الآن بردتْ عليه جِلْدَتُهُ" (¬6)، وهو حديث معروفٌ. ومنها جميعُ أنواع البِرِّ من الولد، لحديث "وَلَدُ الإنسانِ من سَعْيهِ" (¬7). والحاصلُ أن كلَّ عمل من قول، أو فعل ورد في الشريعة المطهرة أنه يجزئ فعلُه من قريب أو غيرِه، بوصية أو غيرها، فهو مخصِّصٌ لعموم الآية الكريمة، ومخصصٌ لعموم حديث: "إذا مات الإنسانُ انقطعَ عملُه إلاَّ من ثلاث ..... " (¬8)، فمن وجدَ من الأدلة غيرَ ما ذكرناه في هذه الورقات فليُلحِقه بها، ويجعله من جملة المخصِّصاتِ لتلك العمومات إذا خرج من مخرج معمول به، وأما ما لم يرد فيه دليلٌ يخصُّه، فالحقُّ أنه باق تحت عموم:} وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى & (¬9) ونحوِها، وتحت عموم حديث: "إذا مات الإنسان انقطع عملُه" (¬10) وهذا [3أ] هو الحقُّ الذي لا ينبغي العدولُ عنه، وبه يحصلُ الجمعُ بين الأدلة. ومن قال بعدم اللحوقِ مطلقًا مستدلاً بالآية الكريمة، كالمعتزلةِ (¬11) فقد أهمل هذه المخصَّصات الصحيحة المقبولة. وكذلك مَنْ قال: إنه يلحقُ كلُّ عمل من كل شخص كما قال في شرح الكنز: أنَّ للإنسان أن يجعلَ ثواب عمله لغيره، صلاةً كان أو صومًا، أو حجًّا، أو صدقة، أو قراءة قرآن، أو غيرَ ذلك، من جميع أنواع البِرِّ، ويصلُ ذلك إلى الميت، وينفعُه عند أهل السنة انتهى. فقد أهمل العمومات، وخصَّصها بغير مخصِّص، فإنْ قال: إنه خصَّصَ ذلك بالقياس، ولا يخفى أن القياس في أكثر هذه المخصَّصات لا يصح، كقياس الأجنبي على القريب (¬12)، وغير الولد على الولد، وغير الدعاء على الدعاء، والمشهور من مذهب الشافعيّ، وجماعة من أصحابه أنّه لا يصل إلى الميت ثوابُ قراءة القرآن، وذهب أحمدُ بن حنبلٍ، وجماعةٌ من العلماء، وجماعةٌ من أصحاب الشافعي إلى أنه يصل. كذا ذكره النووي في الأذكار (¬13)، وفي شرح المنهاج لابن النحوي لا يصل إلى الميت عندنا ثوابُ القراءة على المشهور، والمختارُ الوصولُ إذا شاء إيصال ثواب قراءته، كذا قال علة ¬

(¬1) [الحشر: 10]. (¬2) "صحيح مسلم" رقم (104/ 975). (¬3) كأحمد في "المسند" (5/ 353، 360) والنسائي (4/ 94 رقم 2040) وابن ماجه رقم (1547) والبغوي في "شرح السنة" رقم (1555) من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه. وهو حديث صحيح. (¬4) في "المجموع" (5/ 294). (¬5) انظر "المجموع" (5/ 109 - 110) (¬6) أخرجه أحمد (3/ 330) والطيالسي رقم (1673) والبيهقي (6/ 75) والبزار رقم (1334) من حديث جابر بن عبد الله وسنده حسن. (¬7) تقدم تخريجه. (¬8) تقدم تخريجه. (¬9) [النجم: 39]. (¬10) تقدم تخريجه. (¬11) تقدم التعريف بها. (¬12) تقدم ذكره. (¬13) (ص278).

لجوازه عند الوصية. وعندي أنّ الميت إذا أوصى بذلك لحق وإلاّ فلا، لأنه قد ورد الإذن بالاستئجار على تلاوة القرآن، كما ورد في الصحيح (¬1): "إن أحق ما أخذتُم عليه أجرًا كتاب الله"، وفي حديث (¬2) الذي رقى بالفاتحة، وأخذ قطيعًا من الغنم، وسوَّغ له ذلك النبيُّ ـ صلى ¬

(¬1) تقدم تخريجه مرارًا. (¬2) تقدم تخريجه. انظر: "فتح الباري" (4/ 70). خلاصة: اتفق أهل السنة أن الأموات ينتفعون من سعي الأحياء بأمرين: أحدهما: ما تسبَّب إليه الميت في حياته. والثاني: دعاءُ المسلمين واستغفارهم له، والصدقة والحج على نزاع فيما يصل من ثواب الحج. فعن محمد بن الحسن أنه إنّما يصل إلى الميت ثواب النفقة والحجُّ للحاج، وعند عامة العلماء ثواب الحج للمحجوج عنه، وهو الصحيح. واختلف في العبادات البدنية كالصوم، والصلاة، وقراءة القرآن، والذكر فذهب أبو حنيفة وأحمد وجمهور السلف إلى وصولها، والمشهور من مذهب الشافعي. ومالك عدمُ وصولها. وذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام إلى عدم وصول شيء البتة، لا غيره. وقولهم مردود بالكتاب والسنة لكنهم استدلوا بالمتشابه من قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [يس: 54]. وقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]. وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعده" ـ تقدم ـ. فأخبر أنّه إنّما ينتفع بما كان تسبب فيه في الحياة، وما لم يكن تسبَّب فيه في الحياة فهو منقطع عنه. الدليل على انتفاع الميت بغير ما تسبب فيه: الكتاب: قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10]. فأثنى عليهم باستغفارهم للمؤمنين قبلهم فدلَّ على انتفاعه باستغفار الأحياء. وقد دل انتفاع الميت بالدعاء إجماع الأُمة على الدعاء في صلاة الجنازة والأدعية التي وردت بها النسة في صلاة الجنازة مستفيضة، وكذا الدعاء له بعد الدفن ـ من حديث عثمان قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، فقال: "استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت فإنّه الآن يُسأل" ـ أخرجه أبو داود رقم (3221) وكذلك الدعاء لهم عند زيارة القبور: وقد تقدم آنفًا. وكذلك وصول ثواب الصدقة ـ تقدم ذكر الأحاديث خلال الرسالة. وكذلك وصول ثواب الصوم. تقدمت أحاديثه. وذلك وصول ثواب الحج. وقد تقدمت أحاديثه. وكذلك أجمع المسلمون على أن قضاء الدين يسقطه من ذمة الميت ولو كان من أجنبي ومن غير تركته. تقدم ذكر الحديث. وكلّ ذلك جارٍ على قواعد الشرع وهو محضُ القياس، فإن الثواب حقٌّ العامل فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يمنع من ذلك تمام يمنع من هبة ماله له في حياته وإبرائه له من بعد وفاته. وقد نبَّه الشارع بوصول ثواب الصوم على وصول ثواب القراءة ونحوها من العبادات البدنية يوضحه: أن الصوم كف النفس عن المفطرات بالنية وقد نص الشارع عن وصول ثوابه إلى الميت فكيف بالقراءة التي هي عمل ونية. والجواب عمّا استدلوا به من قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] وقد أجاب العلماء بأجوبة أصحها جوابان: 1 - أن الإنسان بسعيه وحسن عشرته اكتسب الأصدقاء وأولد الأولاد، ونكح الأزواج وأسدى الخير، وتودَّد إلى الناس، فترحموا عليه، ودعوا له وأهدوا له ثواب الطاعات، فكان ذلك أثر سعيه، بل دخول المسلم مع جملة المسلمين في عقد الإسلام من أعظم الأسباب في وصول نفع كلٍّ من المسلمين إلى صاحبه في حياته وبعد مماته ودعوة المسلمين تحيط من ورائهم ... 2 - وهو أن القرآن لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره، وإنما نفى ملكه لغير سعيه، وبين الأمرين من الفرق ما لا يخفى. فأخبر سبحانه أنّه لا يملك إلا سعيه وأما سعي غيره فهو ملك لساعيه فإن شاء أن يبذله لغيره وإن شاء أن يبقيه لنفسه. وقوله سبحانه: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 38 - 39] آيتان محكمتان تقتضيان العدل الرباني. 1 - الأولى: تقتضي أنّه لا يُعاقِب أحدًا بجرم غيره، ولا يؤخذه بجريرة غيره كما يفعله ملوك الدنيا. 2 - الثانية: تقتضي أنّه لا يفلح إلا بعمله، ليقطع طعمه من نجاته بعمل آبائه وسلفه ومشايخه، كما عليه أصحاب الطمع الكاذب وهو سبحانه لم يقل: لا ينتفع إلا بما سعى. وكذلك قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة: 286] وقوله تعالى: {وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس: 54] على أن سياق هذه الآية على أن المنفي عقوبة العبد بعمل غيره. فإنّه سبحانه قال: {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس: 54]. انظر: "شرحا لعقيدة الطحاوية" (2/ 664 - 671) لعلي بن أبي العز "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (24/ 306، 313، 324، 366)، "الروح" لابن القيم (ص 159 - 193). وانظر: "البناية في شرح الهداية" (5/ 422 - 428). "المجموع" (5/ 293)، "فتح الباري" (4/ 69 - 70).

الله عليه وآله وسلم ـ، وهو حديث صحيحٌ. ووجهُ الاستدلال بذلك أن النبيّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ لما سوّغ الأجر على التلاوة أفاد ذلك أنه يلحقُ من سلَّم الأجر ثوابُ التلاوة، أوما هو مقصود بها. وأما ما قيل من أن تلاوة القرآن دعاء، وأنه يلحقُ مطلقًا كما تقدم من الإجماع على لحوق الدعاء [3ب] فغير مسلم أنه دعاءٌ، بل هو تلاوةٌ للفظٍ مخصوص، فيه أحكام شرعية وقصص، ومواعظ وعبر، وزواجر، وترغيبات، وترهيبات؛ وليس ذلك من الدعاء كما لا يخفى. وفي هذا كفايةٌ لمن له هدايةٌ. والله ولي التوفيق. كتبه المجيب محمد الشوكاني غفر الله له.

بدر شعبان الطالع في سماء العرفان

(134) 26/ 2 بدر شعبان (¬1) الطالع في سماء العرفان تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب ¬

(¬1) على صورة الغلاف ما نصه: وجه هذه التسمية أن هذه الرسالة جواب مذاكرة من بعض علماء العصر في شأن رجل يقال له شعبان ملّك بعض أولاده حانوتًا. ا. هـ

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: بدر شعبان الطالع في سماء العرفان. 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم. أحمدُك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك، وأصلي وأسلم على رسول وآل رسولك. وبعد ... فهذا بحثٌ تمسُّ الحاجةُ إليه، ويكثر اللَّبس فيه لا سيما على المتصدرين للقضاء 4 - آخر الرسالة: وفي هذا المقدار كفايةٌ لمن له هدايةٌ، والله وليُّ التوفيق. حرر في الثلث الأوسط من ليلة الخميس لعلَّه يوم عشرين من شهر صفر سنة 1216 بقلم جامعه غفر الله له. 5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول. 6 - عدد الصفحات: 15 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 19 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 8 كلمات. 9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم أحمدُك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآل رسولكَ. وبعدُ: فهذا بحثٌ تمسُّ الحاجةُ إليه، ويكثرُ اللَّبْسُ فيه، لا سيَّما على المتصدِّرين للقضاء والفُتْيَا فيما يفعلُه الإنسان لبعض أولاده من هبةٍ، أو تمليكٍ، أو نَذْرٍ في حال صحته، وجوازِ تصرُّفه، ويظهرُ الانسلاخُ عنه، والتنفيذُ له، فهذا قد يعتقد كثيرٌ من الناس أنه نافذٌ لا يتطرَّق إلى اختلافله متطرِّقٌ، ولا يطرقُهُ من الموانع طارقٌ، بل ربَّما يعتقدُ الغالبُ منا لناس أنَّ هذا متفقٌ عليه بين أهل العلم، وأنَّ القائل بخلافه خارجٌ عن القوانين الشرعية، والرسوم المرضية. وأقولُ: قد ثبت عن رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ من طرق يصعبُ حصرُها، حتى صارَ أصلُ هذا الحديث متواترًا تواتُرًا معنويًّا (¬1) مُتَلَقَّى بالقبول عند جميع طوائف الإسلام أنَّ امرأة بشيرٍ قالتْ لزوجها: انحلْ ابني غلامًا وأشهدْ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، فأتى النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فقال: إن ابنةَ فلان سألتني أن أنْحَلَ ابنَها غلامي، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "له إخوةٌ؟ " قال: نعم. قال: "فكلُّهم أعطيت مثلَ ما أعطيتَه؟ " قال: لا. قال: "فليس يصحُّ هذا"، أو "إني لا أشهدُ إلاَّ على حقّ" ............................ ¬

(¬1) المتواتر المعنوي: هو ما اختلف في لفظه ومعناه مع رجوعه لمعنى كليِّ. وذلك بأن يخبروا عن وقائع مختلفة تشترك كلها في أمر واحد فالأمر المشترك المتفق عليه بين الكل هو المتواتر فنمه أحاديث رفع اليدين في الدعاء، فقد روي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحو مئة حديث في رفع يديه في الدعاء لكنها في قضايا مختلفة، فكل قضية منها لم تتواتر، والقدر المشترك فيها وهو الرفع عند الدعاء تواتر باعتبار المجموع. انظر: "المسودة" (ص233).

وهذا اللفظ في الصحيح (¬1). وفي رواية أنّه قال: "لا تُشْهِدْني على جَوْرٍ"؛ إن [1أ] لِبَنِيكَ من الحقِّ أن تعدلَ بينهَم". وفي لفظ متفقٍ عليه (¬2) عن النعمان بن بشير أن أباه أتى به رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ فقال: إني نحلتُ ابني هذا غلامًا كان لي". فقال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "أَكُلَّ ولدِك نحلتَ مثلَ هذا؟ " فقال: لا، فقال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "فارجعه". وفي رواية عن النعمان بن بشير قال: تصدَّقَ عليّ أبي ببعض مالِه، فقالت أمي عَمْرَةُ بنتُ رواحةَ: لا أرضى حتى تُشْهِدَ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، فانطلق بي إليه يُشْهِدُهُ على صَدَقتي، فقال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "أفعلت هذا بولدِك كلِّهم؟ " فقال: لا، فقال: "اتقوا الله واعدِلُوا في أولادكم"، فرجع أبي في تلك الصدقة. وهذا اللفظ أيضًا في الصحيح (¬3) وفي لفظٍ العطيةُ مكان الصدقةِ. وفي لفظ (¬4): "اعدِلوا بين أولادِكم، اعدِلوا بين أولادِكم". ولهذا الحديث ألفاظٌ كثيرٌ، وطرقٌ متعددةٌ في دواوين الإسلام وغيرِها. وقد أوردها أئمتُنا ـ عليهم السلام ـ في كتبهم الحديثيةِ والفقهية، قال الإمام أحمد بن ¬

(¬1) أخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (19/ 1624). (¬2) أخرجه البخاري رقم (2586) ومسلم رقم (1623). قلت: وأخرجه أحمد (4/ 268) وأبو داود رقم (3542) والترمذي رقم (1367) والنسائي رقم (258، 259) وابن ماجه رقم (2375) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 85، 86) وابن حبان في صحيحه رقم (5098، 5099)، والبيهقي (6/ 176، 177). (¬3) أخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (13/ 1623). (¬4) أخرجه أبو داود رقم (3544) والنسائي رقم (3717).

سليمان (¬1) في أصول الأحكام (¬2) ما لفظُهُ: خبرٌ: وعن النعمان بن بشير أن أباه نَحَلَهُ غلامًا، فانطلق به إلى رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، فقال: "أكلَّ ولدك نحلتَه؟ " قال: لا، فامتنع. وقال ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في بعض الأخبار: "ارتجعْهُ (¬3)، وفي بعضها (¬4): "أشهِدْ عليه [1ب] غيري"، وفي بعضها (¬5): "إني لا أشهد إلاَّ على حقّ". قال الإمام أحمد بن سليمان ـ بعد ذكره هذه الألفاظَ ـ دلَّ على أنه لا يجوز إلاَّ التسويةُ بين الأولاد، ثم ذكر التخصيصَ بالبرِّ، وهو عندي تخصيصٌ بغير مخصِّص، ¬

(¬1) هو الإمام أحمد بن سليمان بن محمد الحسني، اليمني، ينتهي نسبه إلى الإمام الهادي ولد سنة 500هـ. من مؤلفاته:- - أصول الأحكام في الحلال والحرام. - حقائق المعرفة. - الحكمة الدُّرية والدلالة النورية. توفي سنة 566هـ. "أعلام المؤلفين الزيدية" (ص114 رقم 85). (¬2) وهو أصول الأحكام في الحلال والحرام. فيه ما يزيد على ثلاثة آلاف وثلاثمائة حديث في الحلال والحرام من الأحكام الفقهية، وهو مقسم على الكتب مبدوءًا بكتاب الطهارة الأخبار محذوفة الأسانيد ... (¬3) عند مسلم في "صحيحه" رقم (9/ 1623). (¬4) أخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (17/ 1623). قلت: وأخرجه أحمد (4/ 269، 270) وأبو داود في "السنن" رقم (3542). وهو حديث صحيح. (¬5) أخرجه مسلم رقم (19/ 1624)، وأبو داود رقم (3545). وهو حديث صحيح.

وذلك لأنَّ الأمر بالتسوية عامٌّ فلا يجوز تخصيصُه إلاَّ بمخصِّص، ولم يرِدْ ما يدلُّ على جواز تخصيصِ البارِّ بشيء دون غيرِه، وكيف يسوغُ ذلك وهذا التخصيصُ هو سبب العقوق! وقد أشار إلى ذلك رسولُ الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ حيث قال في سياق أمرِه اللبشير بالتسوية: "إن أحببتَ أن يكونوا لك في البِرِّ سواء" (¬1)، فأرشَد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ إلى أن عدمَ التسوية تسبَّبُ العقوق والقطيعة. ثم أورد الإمام أحمدُ بن سليمان هذا الحديثَ بلفظ آخَرَ من حديث ابن عباس فقال: (خبرٌ): وعن ابن عباس قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "سَوُّوا بين أولادكم في العطيَّة، فلو كنتُ مفضِّلاً فضَّلْتُ البناتِ" (¬2). قال الإمام أحمد بن سليمان ـ بعدهذا السياق ـ ما لفظُهُ: دل على ما قلناه، ولا خلاف في هذا بين العلماء، وإنما اختلفُوا في كيفية التسوية، فذهب أبو يوسُفَ إلى أنه يساوي بين الأنثى والذكر في العطية، وقال محمد: يجب أن يسوَّى بينهم على حسبِ المواريث: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (¬3)، ولا نصَّ ليحيى في هذ الاَّ أن مسائلَة تدل على أن التسوية بحسب المواريث ما ذهب إليه محمدٌ، ووجهه أنه لو ماتَ ولم يُعط لاستحقُّوا المالَ على هذا السبيل انتهى. فانظر كيف حكى إجماعَ العلماء على ما دلّ عليه [2أ] الحديثُ من التسوية، ثم ¬

(¬1) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح. (¬2) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 177) ومن طريقة الطبراني في "الكبير" (11/ 354 رقم 11997). وأورده الهيثمي في "المجمع" (4/ 153) وقال: وفيه عبد الله بن صالح كاتب الليث قال عبد الملك بن شعيب ثقة مأمون ورفع من شأنه وضعفه أحمد وغيره. وقال الحافظ في "الفتح" (5/ 214) إسناده حسن. وضعفه في التلخيص (3/ 73). وكذلك المحدث الألباني في الإرواء (6/ 67). (¬3) [النساء: 11].

أعاد الإمام أحمد بن سليمانَ هذا الحديثَ بلفظ آخرَ فقال: خبرٌ: وعن جابر قال: قالتِ امرأةُ بشير لبشير: انحلِ ابني غلامَك، وأشْهِدْ لي رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، فأتى النبيّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ وحكى قولَ زوجتِه فقال ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "له إخوةٌ"؟ قال: نعم، قال: "فكلُّهم أعطيتَه؟ " قال: لا، قال: "فإن هذا لا يصلُح، وإني لا أشهدُ إلاَّ على حقّ" (¬1)، وفي بعض الأخبار: "لا أشهدُ على جَوْرٍ" (¬2)، وفي بعض الأخبارِ قال: "أيسرُّك أن يكونوا في البِرِّ لك سواءٌ؟ " (¬3). ثم ذكر الإمام أحمد بن سليمانَ مَنْ قال: بأن التسويةَ ليست بواجبةٍ، بل مندوبةٍ، ومَنْ قال أنها واجبةٌ، وأنَّ مَنْ لم يسوِّ بين أولاده كان ما فعلَهُ باطلاً، ثم قال: ولم يُخْتَلَفْ في الخبر، وإنما اختُلِفَ في تفسيره. فقال قومٌ: هو على وجه الكراهةِ، وقال قوم ببطلانِ الزيادة على ما تقدم. انتهى. وقد ذكر الأمير الحسينُ في الشِّفاء (¬4) هذه الروايات التي ذكرها الإمام أحمد بن سليمان، ثم قال الأمير في آخر البحث: دلَّ ذلك على وجوب المساواة والعدل، لأنه أورده مورِدَ الأمرِ، والأمرُ يقتضي الوجوبَ، ثم ذكر بعد ذلك كيفية التسوية هل على حسب الميراث أم على الرؤوس؟ وذكر مذهب الإمام الهادي كما ذكره الإمام أحمد بن سليمان في ذلك، وهكذا سائر أئمة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ أوردُوا هذا الحديثَ في مصنَّفاتهم الشريفة، وتكلَّموا في ذلك [2ب] بما يشفي ويكفي، ومن أحبَّ الاستقصاءَ راجعَها، وإنما ذكرنا ما ذكره هذان الإمامان لأنَّ كتابَيْهِما هما العُمْدَةُ لأهل المذهب ¬

(¬1) أخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (19/ 1624). (¬2) أخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (14، 15/ 1623). (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) (3/ 59 - 62).

الشريف في الحديث، في هذه الديار، وهذه الأعصارِ، ولِيَعْلَمَ الواقفُ على هذا البحث أن الحديث متفقٌ عليه بين طوائف المسلمين، وأنه لم يُخْتَلَفْ فيه وإنما اختُلفَ في تفسيره كما قاله الإمام أحمد بنُ سليمان في كلامه السابق، وقاله غيرُهُ، وحينئذٍ فالواجبُ على العالم الذي يعلمُ أنه مسئولٌ عمَّا يقول أن يجعل هذه الحُجَّة الثابتة عن رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ باتفاق المسلمين نُصْبَ عينيهِ في قضائه وإفتائه وعملِه في خُوَيْصة نفسه، ثم ينظر في تفسيرها على الوجه المطابق للُغَةِ العربِ، ولقواعد الأصولِ، حتى يترجَّح له أحدُ القولينِ، فإنَّ العلماء أجمعَ أكتعَ لم يقل أحدٌ منهم بأن تركَ التسويةِ جائزٌ من غير كراهةٍ، بل قالت طائفة منهم بالتحريم (¬1)، وأن من أعطى أحدَ أولاده عطيَّةً دونَ الآخرين فهي باطلةٌ مردودةٌ (¬2)، من غير فرق بين أن يكون الذي أعطاهُ بارًّا أو غير بارٍّ، وقالت طائفة أخرى: إن ترك التسوية حرامٌ إلاَّ أن يكون الذي وقع له التخصيصُ بالعطيَّةِ بارًّا، أو عاجزًا، ..................................... ¬

(¬1) قال ابن قدامة في "المغني" (8/ 257) بعد ذكر حديث النعمان وهو دليلٌ على التحريم لأنَّه سمَّاه جَورًا، وأمر بردِّه، وامتنع من الشهادة عليه، والجور حرام والأمرُ يقتضي الوجوب، ولأنَّ تفضيل بعضهم يورث بينهم العداوة والبغضاء وقطيعة الرحم، فمنع منه. كتوازج المراة على عمتها أو خالتها. قال القرطبي في "المفهم" (4/ 586): أنَّه لا يجوز أنْ يخصَّ بعض ولد بعطاءٍ ابتداءً، وهل ذلك على جهة التحريم، أو الكراهة؟ قولان لأهل العلم. وإلى التحريم ذهب طاووس، ومجاهد، والثوريّ وأحمد وإسحاق وأنّ ذلك يُفسخ إن وقع. وذهب الجمهور: مالك في المشهور عنه والشافعيُّ وأبو حنيفة وغيرهم: إلى أنَّ ذلك لا يُفسخ إذا وقع. وقد حكى ابن المنذر عن مالك وغيره جواز ذلك ولو إعطاه ماله كله. (¬2) قال ابن قدامة في "المغني" (8/ 256) وجملة ذلك أنَّه يجب على الإنسان التَّسوية بين أولاده في العطية، إذا لم يختصّ أحدهم بمعنى يبيح التفضيل. فإن خصّ بعضهم بعطيّته، أو فاضل بينهم فيها أثم، ووجبت عليه التسوية بأحد أمرين، إمّا ردُّ ما فضلّ به البعض، وإمّا نصيب الآخر. قال طاووس: لا يجوز ذلك، ولا رغيفٌ محترقٌ وبه قال ابن المبارك.

أو أنثى (¬1). وقالت طائفةٌ: إنَّ تركَ التسويةِ مكروهٌ [3أ] فقط (¬2). وها نحن نوضِّح لك ما هو الحقَّ الذي يرضاه كلُّ واقف عليه من أهل العلم فنقول: اعلم أن الراويات السابقة التي سُقناها قدِ اشتملتْ على ألفاظٍ إذا نظرتَ في معانيها ظهرَ لك الحقُّ ظهورًا بيِّنًا. فمن ذلك قولُهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في الحديث الأول: "فليس يَصِحُّ هذا"؛ فإن هذا فيه التصريحُ منه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ بنفي الصِّحَّة الشرعية، وما لم يصحّ فليس من هذه الشريعة، بل هو باطل ردٌّ على صاحبه. وقد تقرر في الأصول أنَّ الصِّحَّة هي ترتُّبُ الآثار (¬3) وإذا انتفت الصِّحَّةُ انتفت الآثارُ، والآثارُ في مثل تمليك الابن لذلك الغلامِ هي أن ينتفعَ به من صار في ملكِه بالبيع والاستخدام ويغر ذلك من الآثار، فلما قال ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "ليس يصحُّ هذا" فكأنه قال: هذا لا تترتَّبُ عليه الآثارُ، فلا ينتفعُ به مَن صار إليه بأي وجهٍ، وإذا انتفتِ الآثار انتفى المُلْكُ، فكان الغلامُ باقيًا على ملك مالكه، وهو الأبُ. وهذا تحريرٌ لا ينكره مَنْ يعرِفُ عِلْمَ الأصولِ، وأصولُ أئمَّتنا مصرِّحةٌ بهذا، ومن أنكر ذلك فعليه بغايةِ السُول (¬4) وشرحِها، والمعيارِ وشروحِه. وإذا تقرر هذا فقوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "فليس يصحُّ هذا" قد أفاد بطلانَ ذلك التمليكِ إفادةً ¬

(¬1) انظر "فتح الباري" (5/ 214 - 215)، "المغني" (8/ 258). (¬2) انظر "فتح الباري" (5/ 214 - 215)، "المغني" (8/ 258). (¬3) قال صاحب "الكوب المنير" (1/ 468): فبصحة عقد يترتب أثره من التمكن من التصرف فيها هو له. كالبيع إذا صحَّ العقد ترتب أثره من ملكٍ، وجواز التصرف فيه من هبةٍ ووقفٍ وأكل ولبسٍ وانتفاع وغيره ذلك، وكذا إذا صحَّ عقدُ النكاح والإجارة والوقف وغيرها من العقود، ترتب عليها أثرها مما أباحه الشرع له به فينشأ ذلك عن العقد. وانظر: "تيسير التحرير" (2/ 238)، "نهاية السول" (1/ 199). (¬4) (1/ 199).

واضحةً لا تخفى. ومن ذلك قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في الحديث السابق [3ب]: "إني لا أشهدُ إلاَّ على حقّ" فمعناه: أن هذا غيرُ حقّ، يعني تلك النِّحلَة، ولو كانت حقًّا لشهدَ عليها، وما كان غيرَ حقّ فهو باطلٌ، فتلك النِّحلة باطلةٌ، وما أظنُّه يلتبسُ على من له أدنى فَهْمٍ أن مرادَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ بهذا الحصرِ التعريضُ ببطلانِ تلك النِّحلةِ، وهذا هو الدليلُ الثاني على أن تخصيصَ بعض الأولاد في حال الصحة بشيء باطلٌ غيرُ موافقٍ للشريعةِ المطهَّرة. ومن ذلك قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في الحديث السابق: "لا تُشْهِدْني على جَوْرٍ"؛ فإنَّه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ صرَّح بأن ما فعله بشيرٌ من تخصيص ولدِهِ النعمان في حال صحته جَوْرٌ، والجورُ باطلٌ بنصوصِ الشريعة الكلية والجزئية، وهذا دليلٌ ثالثٌ على البُطلان. ومن ذلك قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في الحديث السابق: "إن لبنيكَ عليك من الحقّ أن تعدِل بينَهم" فجعل ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ العدلَ بين الأولاد حقًّا لهم على أبيهم، وإذا كان ذلك حقًّا فهو واجبٌ عليه، وإذا وقعَ منه خلافُ ذلك كان الواجبُ علينا إيصال أولادِه بمالِهم من الحقِّ عليه أبيهم، وإبطالَ ما فعلَه مخالِفًا للحق الذي صرَّح به الصادقُ المصدوقُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ. وهذا دليلٌ رابعٌ على البطلان. ومن ذلك قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في الحديث السابق: "فأرجعْهُ" فهذا أمرٌ منه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ لبشير بإرجاع ما قد كان نَحَلَه ولدَهُ [4أ]، ولا شك أن الأمرَ بالإرجاع يدلُّ على أن ما فعله غيرُ صحيحٍ، ولو كان صحيحًا لما أمره بإرجاعه، وهذا دليلٌ (¬1) قاهرٌ لا يحتاج إلى تقريرٍ، بل قد أرشدنا الشارع ـ صلى الله عليه ¬

(¬1) انظر "فتح الباري" (5/ 211 - 212)

وآله وسلم ـ أن يقول لكلِّ مَنْ فعل هذا الفعل: "أرجِعْهُ" فإن كان متمكِّنًا من الإرجاع وجب عليه الامتثالُ، فإن لم يفعلْ أكرهْنَاه على ذلك، وإن كان قد مات أرجعناه وأبطلناه، وهذا دليلٌ خامسٌ على البطلان (¬1). ومن ذلك قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في الحديث السابق: "اتقوا الله واعدُلوا بين أولادكم" فانظر كيف قدَّم الأمرَ بتقوى الله، ثم عطفَ على ذلك الأمر بالعدل، فظاهره أنَّ مَنْ لم يعدِل بين أولادِه لم يتق الله، وقد أفاد الأمرُ، وهو قوله: "واعدُلوا بين أولادكم" (¬2) الوجوبَ، لأنَّه المعنى الحقيقيّ، وأفاد جَعْلَهُ مقترِنًا بالتقوى زيادةَ التأكيد، ومن فعلَ فِعلاً يخالفُ به أمر رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، ويخرج به عن التقوى فقد جاء بما يخالِفُ الشريعة المطهرة، ويُضادُّها. وقد قال ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "كل أمرٍ ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ" (¬3) وهذا أمرٌ ليس عليه أمرُ رسول الله، فهو ردٌّ على صاحبه، وذلك معنى البطلان، وهذا دليل سادسٌ على البطلان. ومن ذلك قولُ النعمان في الحديث السابق: "فرجعَ [4ب] أبي في تلك الصدقة" فإن هذا يدلُّ على أنه امتثل ما فهمه من رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ من عدم جوازِ ذلك، وهو صاحب القصةِ، وعربيُّ اللسان والفهم، فهو أولى مِنْ فَهْمِ مَنْ فَهِمَ ¬

(¬1) قال الحافظ في "الفتح" (5/ 214): "أن قوله "أرجعه" دليل على الصحة، ولو لم تصح الهبة لم يصح الرجوع، وإنما أمره بالرجوع لأن للوالد أن يرجع فيما وهبه لولده وغن كان الأفضل خلاف ذلك، لكن استحباب التسوية رجح على ذلك فلذلك أمره به. قال الحافظ ابن حجر ردًا على ذلك: وفي الاحتجاج بذلك نظرًا والذي يظهر أن معنى قوله "أرجعه" أي لا تمض الهبة المذكورة، ولا يلزم من ذلك تقدم صحة الهبة. (¬2) تقدم تخريجه". (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2697) ومسلم رقم (18/ 1718) وأبو داود رقم (4606) وابن ماجه رقم (14).

غيرَ ذلك، وهذا دليل سابع على البطلان. ومن ذلك قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في الحديث السابق: "اعدُلوا بين أولادكم، اعدُلوا بين أولادكم" (¬1)؛ فإنه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ كرَّر هذه الصيغة المتضمنَة للأمر، وهذا التكرارُ يفيدُ التأكيدَ، وقد تقرر في الأصول أن الأمر الصيغة المتضمنة للأمر، وهذا التكرار يفيد التأكيد، وقد تقرر في الأصول أن الأمر بالشيء نهيٌ عن ضدِّه (¬2)، والنَّهيُ عن الشيء يستلزمُ الفساد المرادف للبطلان (¬3)، وكل هذا معروف في الأصول، وهذا هو الدليل الثامن على البطلان. ومن ذلك قولُه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "أَشْهِد عليه غيري" (¬4) فلا يخفى ما في هذه الصيغة من التهديد المشعِرِ بأن هذا الأمر ليس مما يسوغ عنده ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، ولهذا قال محمد بن منصور المراديُّ حافظُ آل محمد في الجامع: أنه ليس المرادُ من قوله: "أشهدْ عليه غيري" الأمرَ له بالشهادة، وإنما هو أمرُ تهديد على سبيل الإنكار، نحو قوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} (¬5) انتهى. فعرفتَ أن هذا اللفظ دليلٌ على بطلان ذلك، وهذا هو الدليل [أ5] التاسعُ على البطلان. ومن ذلك قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في الحديث السابق: "ساووا بين ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر الرسالة رقم (66). (¬3) تقدم ذكره. وانظر: "الكوكب المنير" (1/ 474). (¬4) قال الحافظ في "الفتح" (5/ 215): ردًّا على ـ من قال: أنقوله: "أشهد على ذلك غيري" إذن بالإشهاد على ذلك ـ فليس كذلك بل هو للتوضيح لما يدل عليه بقية ألفاظ الحديث وبذلك صرح الجمهور في هذا الموضع. وقال ابن حبان: قوله: "أشهِد" صيغة أمر المراد به نفي الجواز وهو كقوله لعائشة: "اشترطي لهم الولاء". (¬5) [فصلت: 40]. انظر: "إرشاد الفحول" (ص348).

أولادكم في العطية" (¬1)؛ فإنه أمرٌ، والأمر قد تقدم معناه الحقيقيُّ، وهذا دليل عاشرٌ على البطلان. ومن ذلك قولُه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في الحديث السابق: "فإنّ هذا لا يصلُحُ" فلا يخفى أن هذا نفيٌ للصلاحيةِ الشرعيةِ، وما ليس بصالحٍ شرعًا فهو باطلٌ، وهذا الدليل الحادي عشرَ على البطلان. ومن ذلك قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "أيسرُّك أن يكون في البِرّ لك سواءٌ" (¬2)؛ فإن هذا إرشادٌ منه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ إلى التفضيلَ بين الأولاد سببٌ للعقوق، والعقوقُ من أكبر الكبائر (¬3)، فما كان سببًا له من أبطل الباطلاتِ، وأحرِم المحرِّماتِ، وهذا الدليل الثاني عَشَرَ على البطلان. فهذه اثنا عشر دليلاً مأخوذةٌ من قول رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في هذا الحديث الذي اتفق على أصله جميعُ المسلمين، ولم يقدحْ فيه قادحٌ، ولا تكلَّم عليه متكلّمٌ، ولا زاعمٌ بأنه منسوخٌ، بل اتفقوا كلهم على وجوب العمل به، وإنما اختلفوا في تفسيره، وها نحن قد شرحناه [5ب] شرحًا ما أظن أحدًا من أهل الإنصاف العارفينَ بكيفية الاستدلال، المطّلعين على العربية والأصول يخالف في ذلك، بل ما أظن أحدًا ممن هو قاصرٌ عن هذه الرتبة يلتبسُ عليه صحةُ ما ذكرناه، وجَرْيُهُ على قانون الإنصاف وتَنكُّبُهُ عن مسالك الاعتساف، وكل واحد من هذه الأدلة يدلُّك على أن تخصيص الرجل لبعض أولاده دون بعض بشيء من مالِه باطلٌ يجبُ على من وقَفَ عليه تغييرُهُ وردُّه ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر "فتح الباري" (5/ 215): حيث قال: وفي الحديث أيضًا الندب إلى التأليف بين الأخوة، وترك ما يوقع بينهم الشحناء أو يورث العقوق للآباء.

إلى الشريعة المطهَّرة، وهذا إنما فيمن فعلَ ذلك صحيحًا من غير فرقٍ بين أوائل عُمْرِهِ، أو أوسَطِهِ، أو آخرِه، فإن بشيرًا الذي هو سبب الحديث المذكور جاء بولده إلى رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ يحملُه على ظهره كما ورد في بعض الروايات، وإذا لم يكن في هذه الحالة ـ في حال الصحة ـ، فلا أدري ما هي الصحة، ولا فرق بين ما كان قاصدًا للتوليج والضِّرار، وبين من لم يكن قاصدًا لذلك، فإن من ترك الاستفصال في مقام الاحتمال يُنَزَّلُ منزلَة العموم في المقال كما تقرر [6أ] في الأصول (¬1)، ولم يثبت أن النبيّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ قال له: هل قصدت الضِّرار؟ هل أردت التوليج؟ بل أرشدَه إلى ما أرشد، وخوَّفه وحذَّره وهدَّده، وسمَّى ذلك جورًا تارةً، وغير حقٍّ أخرى وغير صحيح تارةً، وغير صالح أخرى، وأمرَه بالارتجاع تارةً، وبالردّ أخرى، فهذا حكمٌ شرعيٌّ شرعه لنا من شرَعَ لنا الصلاةَ والزكاةَ، وجاءنا به مَنْ جاءنا بأركان الإسلام، ومن زعم أنه مخصِّصٌ بشيء من المخصِّصات، أو مقيَّدٌ بشيء من القيود فهذا مقام الإفادة والاستفادة، ومن زعم أن له رخصةً عن العمل بالأدلة الأثنى عشر التي أسلفناها فالرخصة له في ترك سائر الأحكام الشرعية أظهرُ، فإن غالبَ المسائل ثبتت بقياس (¬2) متنازع فيه، أو استصحاب (¬3) أو .............................. ¬

(¬1) انظر "إرشاد الفحول" (ص452)، "المحصول" (2/ 386 - 387). (¬2) تقدم تعريفه. (¬3) الاستصحاب لغة: استفعال من الصحبة وهي الملازمة. قال في "المصباح المنير" (ص127): "وكل شيء لازم شيئًا فقد استصحبه واستصحب الكتاب وغيره. حملته صحبني. ومن هنا قيل: استصحب الحال إذا تمسكت بما كان ثابتًا، كأنك جعلت تلك الحالة مصاحبة غير مفارقة. الاستصحاب اصطلاحًا: قال العضد: الاستصحاب: أن الحكم الفلاني قد كان ولم يظن عدمه وكل ما هو كذلك فهو مظنون البقاء. "شرح العضد لمختصر" ابن الحاجب (2/ 284). وقال الغزالي في " المستصفى" (2/ 410): الاستصحاب عبارة عن التمسك بدليل عقلي أو شرعي وليس راجعًا إلى عدم العلم بالدليل، بل إلى دليل مع العلم بانتفاء المغير ـ أو مع ظن انتفاء المغير ـ عند بذل الجهد في البحث والطلب. -واختلفوا هل هو حجةً عند عدم الدليل على أقوال: الأول: أنه حجة وبه قالت الحنابلةُ والمالكية وأكثر الشافعية والظاهرية سواء كان في النفي أو الإثبات. الثاني: أنّه ليس بحجة وإليه ذهب أكثر الحنفية والمتكلمين كأبي الحسن البصري. والاستصحاب عند الأصوليين أنواع انظرها في "إرشاد الفحول" (ص773)، "الكوكب المنير" (4/ 403).

اجتهاد (¬1)، والقليلُ منها ثبتَ بمثل دليلٍ واحد من هذه الأدلة الاثنى عشر أو دونَه بمراحل في الصحة، فعلى من كان مجتهدًا أو متمكنًا من الترجيح والموازنة بين الأدلة أن يُمْعِنَ النَّظر فيما حرَّرناه، ويتقيَّدُ به إن رآه راجحًا [6ب]، وما أظنه بعد إمعان النظر يعدلُ عنه إلى غيره، فإن ما أورده القائلون بمجرد الكراهة من دون تحريم لا ينتهض شيء منه لمعارضة دليل من هذه الأدلة، فضلاً عن أن يكون مساويًا، فضلاً عن أن يكون راجحًا. وقد بسطتُ ما قالوه في شرحي للمنتقى (¬2) في كلام طويل، وكل ذلك مجردُ تأويلٍ (¬3) لم يلجئ إليه ملجئ، ولا دعت إليه ضرورةٌ، ولا سوَّغته حاجةٌ كقولهم: إن الموهوبَ للنعمان كان جميعَ مالِ بشير، وهذا تأويل فاسدٌ يرُدُّه التصريحُ في الحديث بأنه غلامٌ، وفي لفظ آخر: تصدَّقَ عليَّ أبي ببعض ماله، كما في صحيح ....................................... ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (61). (¬2) ك وهو نيل الأوطار (4/ 19). (¬3) قال القرطبي في "المفهم" (4/ 588): ومن أبعد تأويلات ذلك الحديث قول من قال: إنَّ النهي فيه إنّما يتناول من وهب ماله كّله لبعض ولده، وكأنّه لم يسمع في الحديث نفسه: إنّ الموهوب كان غلامًا فقط، وإنّما وهبه له لما سألته أمُّه بعض الموهبة من ماله. وهذا يعلم منه على القطع: أنّه كان له مالٌ غيره.

مسلم (¬1)، وكقولهم: إن قولَه: "أشهِدْ على هذا غيري"، أذنَ به بالإشهاد (¬2)، وهذا فاسدٌ، فإنه كما تقدم تهديدٌ بدليل قوله: "لا أشهدُ على جَوْرٍ"، وقوله: "إني لا أشهدُ إلاَّ على حقّ"، وكذلك سائر ما ذكروه مما هو أضعفُ من هذا (¬3)، وقد أوضحت فسادَ ذلك جميعَه في الشرح المذكور. نعم استدلّ بعضُ العلماء على الجواز مع الكراهة للبارّ بقوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (¬4) وهذا استدلالٌ لا يقعُ مثلُه لمتيقِّظٍ، فإنه عارضَ الدليل [7أ] الخاصّ، وهو التسويةُ بين الأولاد بالدليل العام، ولم يقنع بذلك حتى رجَّحه عليه، وقدِ اتَّفق أهلُ الأصول أجمعُ أكتعُ أنه يُبنى العامّ على الخاص، فهذا الاستدلال مخالفٌ لإجماع أئمتنا وسائر المسلمين أجمعين. واستدل بعضُهم على جواز نِحْلَةِ البارّ مع كراهةٍ بما روي من نِحْلَةِ بعضِ الصحابة لبعض أولادهم دون بعض (¬5)، وهذا أيضًا مدفوعٌ من وجوه: ¬

(¬1) رقم (13/ 1623). (¬2) قال القرطبي في "المفهم" (4/ 587) ليس إذنًا في الشهادة وإنّما هو زجرٌ عنها، لأنَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد سمّاه جورًا وامتنع الشهادة فيه، فلا يمكن أن يشهد أحدٌ من المسلمين في ذلك بوجه. وانظر: "المغني" (8/ 257). (¬3) انظر "فتح الباري" (5/ 214 - 215). (¬4) [الرحمن: 60]. (¬5) قال الحافظ في "الفتح" (5/ 215): " ... عمل الخليفتين أبي بكر وعمر بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على عدم التسوية قرينة ظاهرة في أن الأمر للندب". - أما أبو بكر فرواه مالك في "الموطأ" بإسناد صحيح عن عائشة أن أبا بكر قال لها في مرض موته، "إني كنت نحلتك فلو كنت اخترتيه لكان لك، وإنما هو اليوم للوارث". - وأما عمر فذكر الطحاوي وغيره أنَّه نحل ابنه عاصم دون سائر ولده قال ابن حجر: "وقد أجاب عروة عن قصة عائشة بأن إخوتها كانوا راضين بذلك ويجاب بمثلها عن قصة عمر". أخرج الأثرين البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 178). وانظر: "الحاوي الكبير" (6/ 412) و"المغني" (8/ 259).

الأول: المنعُ من كونهم فعلُوا ذلك، فما الدليل على أنهم فعلوه؟ ومَنِ الذي فعله منهم؟ فإنّه يبعد كلّ البعد أن يخالفوا ما تواتر عن رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ. الثاني: أنه لا بدّ أن يأتي المدّعي بالبرهان على ذلك، ويعيِّنَ فاعلَه، وأنه فعله من دون رضى سائر أولاده. الثالث: أنه على فرض وقوع ذلكمن واحد منهم، أو جماعة، فليسوا بحجة على الأمة، إنما الحجةُ قول رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ وما جاء به عن الله، وكيف يُعارض بأفعالهم قول رسول الله الثابت عنه ثبوتًا متفقًا عليه! وأيّ قائل من أهل العلم قد قال بهذا! أو سبق إليه! فإنه خلافُ إجماع أهل البيت، وسائر المسلمين. ثم هذه المسألة [7ب] قد قدمنا الإشارة إلى ما فيها من الخلاف بين أهل العلم، ذكرنا ما ذكره الإمامُ أحمدُ بن سليمان من اتفاق العلماء على ثبوت الحديث، وعلى دلالته على المنع، وتصريحه بأنّ الخلاف إنما هو في مجرّد التفسير والتأويل، وإذا كان الأمر كذلك فمَنْ أحقّ بالنجاة، وأولى بالحقّ هل العاملُ باثني عشر دليلاً ثابتةً عن رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ والمتقدي بجمهور أهل البيت ـ سلام الله عليهم ـ وسائر علماء المسلمين ـ رحمهم الله ـ، أم العاملُ بمجرد الخيالات من التأويلات والتعسُّفات من التفسيرات! مع شذوذ القائلِ بمقاله؟ ولعمري إن هذه موازنةٌ لا تلتبسُ على مَنْ لم يعرفِ العِلْمَ، فكيف بمن عرفَه!. بعد الفراغ من هذا خطر دليلٌ ثالثَ عشرَ وهو قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "لو كنت مفضِّلاً أحدًا لفضَّلْتُ البنات" كما سبق نقلُ ذلك، فإن لو حرف امتناع، فمعنى ذلك: لكني لا أفضِّلُ أحدًا، فلا أفضِّلُ البناتِ، وهذا يفيدُ نفيَ التفضيلِ، ويدلُّ

على بطلانه من الأصل (¬1). وفي هذا المقدار كفايةٌ لمن له هدايةٌ، والله وليُّ التوفيق. حرر في الثلث الأوسط من ليلة الخميس، لعله يوم عشرين من شهر صفر سنة 1216 بقلم جامعه ـ غفر الله له ـ. ¬

(¬1) قال الحافظ في "الفتح" (5/ 215 - 216) وفي الحديث: 1 - الندب إلى التأليف بين الأخوة وترك ما يوقع بينهم الشحناء أو يورث العقوق للآباء. 2 - أن عطية الأب لابنه الصغير في حجره لا تحتاج إلى قبض، وأن الإشهاد فيها يغني عنا لقبض وقد قيل إن كانت الهبة ذهبًا أو فضة فلا بد من عزلها وإفرازها. 3 - فيه كراهة تحمل الشهادة فيما ليس بمباح وأن الإشهاد في الهبة مشروع وليس واجب. 4 - وفيه جواز الميل إلى بعض الأولاد والزوجات دون البعض وإن وجبت التسوية بينهم في غير ذلك. 5 - أن للإمام الأعظم أن يتحمل الشهادة، وتظهر فائدتها إما ليحكم في ذلك بعلمه عند من يجيزه أو يؤديه عند بعض نوابه. 6 - فيه مشروعية استفصال الحاكم والمفتي عما يحتمل الاستفصال لقوله: "ألك ولد غيره" فلما قال "نعم" قال: "أفكلهم أعطيت مثله" فلما قال: "لا" قال: لا أشهد" فيفهم منه أنه لو قال نعم لشهد. 7 - فيه جواز تسمية الهبة صدقة. 8 - أن للإمام كلامًا في مصلحة الولد، والمباداة إلى قبول الحق. 9 - أمر الحاكم والمفتي بتقوى الله في كل حال. 10 - فيه إشارة إلى سوء العاقبة الحرص والتنطع. لأن عمرة لو رضيت بما وهبه زوجها لولده لما رجع فيه، فلما اشتد حرصها في تثبيت ذلك أفضى إلى بطلانه. 11 - فيه أن للإمام أن يرد الهبة والوصية ممن يعرف منه هروبًا عن بعض الورثة. انظر: "المفهم" (4/ 584)، "المغني" (8/ 256 - 260).

البحث المسفر عن تحريم كل مسكر ومفتر

(135) 47/ 2 البحثُ المُسْفِر عن تَحْريم كُل مُسْكِر ومُفْتِر تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: (أ) 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: البحث المسفر عن تحريم كل مسكر ومفتر. 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: "لفظ سؤال إلى القاضي العلامة محمد بن علي الشوكاني. 4 - آخر الرسالة: "غفر الله لهما في شهر ربيع الأول سنة 1209هـ وتاريخ النقل في شهر جمادى الأولى سنة 1327". 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 11 صفحة. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 30 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

وصف المخطوط: (ب) 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: البحث المسفر عن تحريم كل مسكر ومفتر. 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم ما يقول سيدنا وشيخنا مجدد العصر الحايز بعلمه الدليل كل الفخر، العالم النحرير البدر المنير أمدّه الله بالتوفيق ..... 4 - آخر الرسالة: "مما لا ينبغي أن يقع فيه خلاف بين أهل العلم. كمل من تحرير المجيب القاضي العمدة بدر العلماء الراسخين عزُّ الإسلام والدين محمد بن علي الشوكاني حفظه الله وأدام لنا في أيامه، إنَّه على كل شيء قدير، وحرّر الجواب في شهر ربيع آخر سنة 1209هـ. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 10 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 16 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

وصف المخطوط: (ج) 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: البحث المسفر عن تحريم كل مسكر ومفتر. 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم وبه الإعانة والتوفيق ما يقول سيدنا وشيخنا مجدد العصر الحايز بعلمه الدليل كل الفخر العالم النحرير البدر المنير آمين. 4 - آخر الرسالة: حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله له، في شهر ربيعة الأول سنة (1209هـ). انتهى بلفظه، وحرره الناقل في شهر القعدة سنة (1294هـ). 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 9 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 33 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 20 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

"لفظ سؤال القاضي العلامة محمد علي الشوكاني. لفظه". [بسم الله الرحمن الرحيم] (¬1) [وبه الإعانة والتوفيق] (¬2) ما يقول سيدُنا وشيخُنا مجدِّدُ العصرِ والحائزُ بعلم الدليل كلّ الفخر، العالم النحرير، [و] (¬3) البدرُ المنير ـ أمده الله بالتوفيق، وسلك به أوضحَ الطريق ـ في الزعفران والجوز الهنديّ ونوعٍ من القات، هل [يحرُم] (¬4) قياسًا على الحشيشة بجامع التفتير لنهي النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "عن كل مُسْكرٍ ومُفتر؟ " وهل التفتير العلّة الجامعة بين الحشيشة والخمر، فإن حُكم بتحريم ذلك فهل يحرُم القليلُ وإن لم يفتّر كما تحرُم القطرةُ من الخمر وإن لم تُسكِر؟ وهل يجوز بيعُه والانتفاع [به] (¬5) في غير مأكول؟ جزاكما لله خيرًا ونفع بعلومكم. [آمين اللهم آمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين] (¬6). ¬

(¬1) زيادة من (ب). (¬2) زيادة من (ج). (¬3) زيادة من (أ). (¬4) في (ب) يحرمن. (¬5) زيادة من (ب) و (ج). (¬6) زيادة من (ب).

[(الجواب)] الحمدُ لله وحده وصلاته وسلامه على رسوله وآله ورضي الله عن الصحابة الراشدين والتابعين لهم بإحسان أجمعين ـ كثّر الله فوائدكم ونفع بعلومكم ـ الذي يقوله الحقير: إن الذي قامت عليه الأدلةُ هو تحريمُ ما [يصدقُ] (¬1) عليه اسمُ المُسْكر لما في حديث ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "كل مسكرٍ خمرٌ وكلُ مسكرٍ حرامٌ" أخرجه مسلم (¬2) وأحمدُ (¬3) وأهل السنن (¬4) إلا ابن ماجه وفي لفظ: "كلُ مسكر خمرٌ وكل خمرٍ حرام" أخرجه مسلم (¬5) والدارقطني (¬6). [وأخرجه] (¬7) الشيخان (¬8) وأحمدُ (¬9) عن أبي موسى أن النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "كل مسكرٍ حرامٌ" وأخرج أحمدُ (¬10) ومسلمٌ (¬11) والنَّسائيُّ (¬12) عن جابر أن النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "كل مسكر حرامٌ" وأخرج أبو داود (¬13) عن ابن عباس ¬

(¬1) في (ب) و (ج) صدق. (¬2) في صحيحه رقم (74/ 2003). (¬3) في "المسند" (2/ 16) (¬4) أبو داود رقم (3679) والترمذي رقم (1861) وقال: حديث حسن صحيح والنسائي رقم (5582) من حديث ابن عمر. وهو حديث صحيح. (¬5) في صحيحه رقم (75/ 2003). (¬6) في "السنن" (4/ 248 رقم 11). (¬7) في (ب) و (ج) وأخرج. (¬8) البخاري في صحيحه رقم (4341، 4342، 4344، 4345) ومسلم رقم (1833). (¬9) في "المسند" (4/ 410\ 416، 417). (¬10) في "المسند" (3/ 343). (¬11) في صحيحه رقم (2002). (¬12) في "السنن" (8/ 327). (¬13) في "السنن" رقم (3680) وهو حديث صحيح.

عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "كل مخمَّرٍ خمرٌ وكل مسكرٍ حرامٌ". وأخرج أحمدُ (¬1) والترمذي (¬2) وصحَّحه والنَّسائيّ (¬3) وابن ماجه (¬4) من حديث أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "كل مسكر حرام". وأخرج ابن ماجه (¬5) من حديث ابن مسعود وأخرج أحمد (¬6) وأبو داود (¬7) والترمذي (¬8) وحسّنه عن عائشة [رضي الله عنها] قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "كل مسكرٍ حرام وما أسكر الفَرْقُ منه فملءُ الكفِّ منه حرامٌ" وأخرج أحمد (¬9) وأهل السنن (¬10) وابن حبان (¬11) في صحيحه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" وحسّنه التِّرمذي (¬12)، ورجال إسناده ثقاتٌ. وأخرج النسائيُّ (¬13) والبزّار (¬14) وابنُ ..................................... ¬

(¬1) في "المسند" (2/ 241، 279). (¬2) في "السنن" (4/ 292). قال الترمذي: هذا حديث حسن وقد روي عن أبي سملة عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحوه وكلاهما صحيح. (¬3) "السنن" (8/ 297). (¬4) في "السنن" رقم (3401). وهو حديث حسن. (¬5) في "السنن" رقم (3388). وهو حديث صحيح لغيره. (¬6) في "المسند" (6/ 71، 131). (¬7) في "السنن" رقم (3687). (¬8) في "السنن" رقم (1866) وقال: حديث حسن. وهو حديث صحيح. (¬9) في "المسند" (6/ 71، 72، 131). (¬10) أخرجه أبو داود رقم (3687) والترمذي رقم (1866). (¬11) في صحيحه رقم (5383). (¬12) في "السنن" (4/ 293). (¬13) في "السنن" رقم (5609). (¬14) في "مسنده" (3/ 306 رقم 1098، 1099).

حبّان (¬1) والدارقطني (¬2) عن سعد ابن أبي وقّاص: "نهى رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قليل ما أسكر كثيرُه". وفي الباب عن علي [بن أبي طالب] (¬3) رضي الله عنه عند الدارقطني (¬4) وعن ابن عمر غيرُ حديثه المتقدم عند الطبراني (¬5) وعن خوات بن جُبير عند الدارقطني (¬6) والحاكم (¬7) والطبراني (¬8) [و] (¬9) عن عبد الله بن [عمر] (¬10) عند الدارقطني (¬11). وكلُها مصرّحة: "بأنّ ما أسكر كثيرُه فقليلُه حرام". وقد تقرر بهذا أن الشارع لم يحرّم نوعًا خاصًّا من أنواع المسكر دون نوعٍ بل حرّمها على العموم بهذا أن الشارعَ لم يحرِّم نوعًا خاصًّا من أنواع المسكر دون نوعٍ بل حرّمها على العموم وسمّى كلّ ما ستصف بوصف الإسكار خمرًا، فيتناول النصُّ القرآنيُّ أعني قوله تعالى: & إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ¬

(¬1) في صحيحه رقم (5370). (¬2) في "السنن" (4/ 251 رقم 31). وهو حديث حسن. (¬3) زيادة من (أ). (¬4) في "السنن" (4/ 250 رقم 21). والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 296) من وجهين ضعيفين. (¬5) في "الأوسط" (1/ 197 رقم 626). (¬6) في "السنن" (4/ 254 رقم 44). (¬7) في "المستدرك" (3/ 413) وسكت عليه الحاكم والذهبي وضعّفه العقيلي. (¬8) أورده الهيثمي في "المجمع" (5/ 75) وقال: "رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه إسماعيل بن قيس بن سعدوهو ضعيف". (¬9) زيادة من (ب). (¬10) زيادة من (أ). (¬11) في "السنن" (4/ 250). قلت: وأخرجه أحمد (2/ 91) وابن ماجه رقم (3392) والبزار (3/ 350 رقم 2915 ـ كشف) والبيهقي (8/ 296). وهو حديث صحيح.

فَاجْتَنِبُوهُ & (¬1) كلّ ما صدُق عليه أنه مسكر، فيكون تحريمه ثابتًا بنص الكتاب وما تواتر من السنة. ويؤيد هذا أن جماعة من أئمة اللغة جزَموا بأن الخمر إنما سميت خمرًا لِمُخامرتها للعقل وستْرِها له، منهم الدِّينوريّ (¬2) والجوهري (¬3) وابن الأعرابيّ (¬4) وصاحب القاموس (¬5) والراغبُ في مفردات القرآن (¬6) وغيرُهم، ولكنه وقع الخلافُ: هل الخمرُ حقيقةٌ في عصير العنب فقط و [مجاز] (¬7) فيما عداه، أو هي حقيقةٌ في كل مسكرٍ أو في بعض المُسكراتِ دون بعض؟ قال الراغب في المفردات (¬8) [سُمّي] (¬9) الخمر لكونه خامرًا للعقل أي ساترًا له، وهو عند بعض الناس: اسمٌ لكل مسكرٍ وعند بعضهم: المُتَّخَذُ من العنب خاصةً، وعن بعضهم: للمتّخذ من العنب والتمر، وعند بعضهم: لغير المطبوخ، ثم رَجَّح أن كل شيء يستُر العقل يسمى خمرًا، وبذلك جزم من قدّمنا ذكْرَه من أئمة اللغة. قال في القاموس (¬10): "الخمرُ ما أسكر من عصير العِنب أو عامٌّ كالخمرة"، قال: والعموم أصحُّ لأنها حرِّمت وما بالمدينة خمرُ عِنَب، وما كان [شرابها] (¬11) إلا البسرُ والتمرُ .... انتهى. ¬

(¬1) [المائدة: 90]. (¬2) انظر "لسان العرب" (4/ 212 - 213). (¬3) في "الصحاح" (2/ 649). (¬4) ذكره الجوهري في "الصحاح" (2/ 649) قال: قال ابن الأعرابي: سمِّيت الخمرُ خمرًا لأنَّها تُركت فاختمرت، واختمارها تغيُّر ريحها، ويقال: سمِّيت بذلك لمخارتها العقل. (¬5) (ص495). (¬6) (ص298). (¬7) في (ب) مجازًا. (¬8) (ص299). (¬9) في (أ) يسمى. (¬10) (ص495). (¬11) في (ب) شرابهم.

[(زعْم الحنفية في تسمية الخمر للمعتصَر من العِنب حقيقةً، ومجازًا في غيره، ورد المؤلف عليهم)] [قال]: وجزم ابنُ سيده في المحكم (¬1) بأن الخمرَ حقيقةً إنما هي العنب، وغيرُها من المسكرات يسمى خمرًا مجازًا. وحكى صاحبُ فتح الباري (¬2) عن صحاب الهداية (¬3) من الحنفية أن الخمرَ عندهم ما اختمر من ماء العنبِ إذا اشتد، قال: وهو المعروف عند أهل اللغة وأهل العلم، قال: وقيل: اسمٌ لكل مسكرٍ لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كل مسكر خمرٌ" وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "الخمرُ من هاتين الشجرتين" (¬4)، ولأنه مُخامرة العقل وذلك موجودٌ في كل مسكر، قال: ولنا إطباق أهل اللغة على تخصيص الخمرِ بالعنب، ولهذا اشتهر استعمالُها فيه ولأن تحريمَ الخمرِ قطعيٌّ وتحريمَ ما عدا المتخذ من العنب ظنيٌّ، قال: وإنما سُمي الخمر خمرًا لتخمّره لا لمخامرة العقل، قال: ولا يُنافي ذلك كونُ الاسم خاصًا فيه كما في النجم، فإنه مشتقٌ من الظهور ثم هو خاصٌّ بالثريا اهـ. قال الحافظ (¬5): والجوابُ عن الحجة الأولى ثبوتُ النقلِ عن بعض أهلِ اللغة بأن غيرَ المُتخَذِ من العنب يسمى خمرًا. وقال الخطابي (¬6): زعم قومٌ أن العربَ لا تعرِف الخمرَ إلا من العنب، فيقال لهم: إن الصحابة الذين سمَّوا غير المتّخذ من العنب خمرًا فُصحاءُ، فلم لا يكون هذا الاسم ¬

(¬1) في "المحكم والمحيط الأعظم" (5/ 185). (¬2) (10/ 49). (¬3) "الهداية" المرغيناني (4/ 108). (¬4) أخرجه مسلم رقم (13/ 1985) والترمذي رقم (1875) وقال: حديث حسن صحيح. وأبو داود رقم (3678) والنسائي (8/ 294) ابن ماجه رقم (3378) من حديث أبي هريرة. (¬5) في "الفتح" (10/ 49). (¬6) في "معالم السنن" (4/ 78).

صحيحًا لما أطلقوه؟ قال ابنُ عبد البر (¬1): قال الكوفيون: الخمرُ من العنب [2] لقوله تعالى: {أَعْصِرُ خَمْرًا} قالوا: فدل على أن الخمر هو ما يعتصر لا ما [يُنبذ] (¬2)، قال: ولا دليل فيه على الحصر. وقال أهل المدينة وسائرُ أهل الحجاز وأهل الحديث كلهم: كل مسكر خمرٌ وحكمُه حكمُ المتّخذ من العنب. ومن الحجة لهم أن القرآن نزل بتحريم الخمر فهِمَ الصحابةُ وهم أهلُ اللسانِ أن كلّ شيء يسمى خمرًا يدخل في النهي، فأراقوا المُتخذ من التمر والرُطب ولم يخصّوا ذلك بالمتخذ من العنب. وعلى تقدير التسليم فإذا ثبت تسميةُ كل مسكرٍ خمرًا من الشارع كان حقيقةً شرعيةً، وهي مقدمةٌ على الحقيقة اللغوية، كما تقرر في الأصول (¬3). والجواب عن قوله: إن تحريم الخمر قطعيٌّ وتحريم ما عدا المتخذ من العنب ظنيٌّ بأن اختلاف مشتركين في الحكم في الغلط لا يلزم منه [افتراقهما] (¬4) في التسمية كالزنا مثلاً، فإنه يصدق على من وطِئَ أجنبيةً وعلى من وطئ امرأةَ جارِه، والثاني أغلظُ من الأول كما ثبت في الحديث الصحيح (¬5) أن ذلك من أكبر الكبائر، وكذلك يصدق اسمُ الزنا على وطئ المَحْرم وهي أغلظُ من وطء من ليست كذلك. وأيضًا الأحكامُ الشرعيةُ لا يشترط فيها الأدلةُ القطعيةُ ............................... ¬

(¬1) في "التمهيد" (1/ 244). (¬2) في (أ) ينبذه. (¬3) انظر "إرشاد الفحول" (107 - 112) وقد تقدم. (¬4) في (ب) اقترافها. (¬5) أخرج البخاري في صحيحه رقم (4477، 7461، 6001، 6811، 7520) ومسلم رقم (86) والترمذي رقم (3182) والنسائي (7/ 89، 90) عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: "أن تجعل لله ندًا، وهو خلقك" قلت: إنّ ذلك لعظيم، ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك" قلت: ثم أي؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك".

[ولا] (¬1) يلزم من القطع بتحريم المتخذ من العنب وعدم القطع بتحريم المتخذ من غيره أن لا يكون حرامًا، بل يحكم بتحريمه إذا ثبت بطريق ظني، فكذلك يحكم بتسميته إذا ثبت [بمثل] (¬2) تلك الطريق. وقد تقرر أن اللغة ثبتت بالآحاد وكذلك الأسماء الشرعيّة. وأما قوله: إن الخمرَ إنما سُمّي خمرًا لتخمّره لا لمُخامرة العقل، فهذا مع كونه مخالفًا لأقوال أئمة اللغة ـ كما تقدم ـ هو أيضًا مخالفٌ لما أسلفنا عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ من الحكم على كل مسكر بأنه خمر، ومخالفٌ لما أخرجه أحمد ومسلم وأهل السنن عن أبي هريرة [رضي الله عنه] (¬3) قال: قال رسول اله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "الخمرُ من هاتين الشجرتين النخلةُ والعِنبةُ" (¬4)، وما أخرجه الشيخان (¬5) عن أنس قال: "إن الخمرَ حُرّمت والخمرُ يومئذ البُسْرُ والتمرُ"، وفي لفظ قال: "حُرّمت علينا حين حُرّمت وما نجد خمر الأعناب إلا قليلاً وعامةُ خمرِنا البُسر والتمْرُ" رواه البخاري (¬6). وفي لفظ: "لقد أنزل اللهُ هذه الآية التي حرَّم فيها الخمرَ وما في المدينة شرابٌ إلا من تمر" أخرجه مسلم (¬7). وأخرج البخاري (¬8) عن أنس أيضًا قال: "كنت أسقي أبا عبيدةَ وأُبي بن كعبٍ من فضيحٍ وتمر فجاءهم آتٍ فقال: إن الخمر حُرّمت فقال أبو طلحة: قم يا أنسُ فأهرقها". ¬

(¬1) في (ب) فلا. (¬2) في (ب) من. (¬3) زيادة من (أ). (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) البخاري رقم (5582) ومسلم رقم (1980). قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3673) والنسائي (8/ 287، 288). (¬6) في صحيحه رقم (5580). (¬7) في صحيحه رقم (1982). (¬8) في صحيحه رقم (5582).

وأخرج البخاريُّ (¬1) عن ابن عمر قال: "نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربةٍ [ما فيها] (¬2) شرابُ العنب". وأخرج الشيخان (¬3) عن عمرَ أنه قال على منبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: أما بعدُ أيها الناسُ، إنه نزل تحريمُ الخمرِ وهي من خمسة: من العنب والتمرِ والعسل والحِنْطة والشعير، والخمرُ ما خامر العقل. وأخرج أحمدُ (¬4) وأبو داود (¬5) والترمذيّ (¬6) وابن ماجه (¬7) عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "إن من الحنطة خمرًا ومن الشعير خمرًا ومن الزبيب خمرًا ومن التمر خمرًا ومن العسل خمرًا" زاد أحمدُ وأبو داود: "وأنا أنهى عن كل مسكر". فإن قيل [3]: هذه الإطلاقاتُ لا تنافي أني كون ما عدا عصيرَ العنب من المسكرات خمرًا مجازًا، فيقال: وأيّ أمرٍ سوّغ المصيرَ إلى المجاز مع ثبوت إطلاق اسم الخمر على كل مسكر بنقل الجماهير من أئمة اللغة وثبوت ذلك عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعن أصحابه وجمهور أهل العلم، وقد تقرَّر أن الأصلَ في الإطلاق الحقيقةُ [فما] (¬8) الذي نقل عن هذا الأصل وأوجب المصيرَ إلى المجاز؟! ولو سلّمنا أن ذلك إطلاقُ مجازٍ عند أهل اللغة فلا ¬

(¬1) في صحيحه رقم (5575). (¬2) في (ب) منهما. (¬3) أخرجه البخاري رقم (5581) ومسلم رقم (3032) وأخرجه أبو داود رقم (3669) والترمذي رقم (1874) والنسائي (8/ 295). (¬4) في "المسند" (4/ 267). (¬5) في "السنن" رقم (3677). (¬6) في "السنن" رقم (1873) وقال: هذا حديث غريب. (¬7) في "السنن" رقم (3379). وهو حديث صحيح. (¬8) في (أ): فماذا.

نسلّم أنه مجاز عند الشارع وأهلِ الشرع، والحقائقُ الشرعيةُ مقدّمة. وبالجملة فالأدلةُ المتقدمةُ قد دلت على تحريم كلّ مسكرٍ، وذلك هو المطلوب. قال القُرطبي (¬1): الأحاديث الواردةُ عن أنس وغيره على صحّتها وكثرتِها تُبطل مذهب الكوفيين القائلين بأن الخمرَ [لا تكون] (¬2) إلا من العنب وما كان من غيره لا يسمى خمرًا ولا يتناوله اسمُ الخمر (¬3)، وهو قولٌ مخالفٌ للغة العرب والسنة الصحيحة وللصحابة، لأنهم لما نزل تحريم الخمر فهِموا من الأمر باجتناب الخمر تحريم كلّ مسكر، ولم يفرّقوا بين ما [اتُّخذ] (¬4) من العنب وبين ما يتخذ من غيره، بل سوَّوا بينهما وحرموا كلّ مسكر، ولم يتوقفوا ولا استفصلوا، ولم يُشْكِل [عليهم] (¬5) شيء من ذلك، بل بادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب، وهم أهلُ اللسانِ وبلُغتهم نزل القرآن، فلو كان عندهم فيه تردُّد لتوقَّفوا عند الإراقة حتى يستكشفوا ويستفصلوا ويتحققوا التحريمَ، لما كان مقرَّرًا عندهم من النهي عن إضاعة المال، فلمّا لم يفعلوا ذلك بل بادروا إلى الائتلاف علِمنا أنهم فهموا التحريمَ نصًّا، فصار القائل بالتفريق سالكًا مسلكًا غير سليم، ثم انضاف إلى ذلك خطبة عمر (¬6) بما يوافقه، وهو من جعل الله الحق على لسانه وقلبه، وسَمِعَهُ الصحابة وغيرهم فلم يُنقل عن أحد منهم إنكارُ ذلك. قال: وإذا ثبت أن كل ذلك يسمى خمرًا لزِم تحريمُ قليله وكثيره، وقد ثبتت الأحاديث ¬

(¬1) في "المفهم" (5/ 252). (¬2) في (أ) لا يكون. (¬3) "وإنما يسمى نبيذًا" كذا في "المفهم" (5/ 252). (¬4) في (ب) يتخذ. (¬5) زيادة من (ب). (¬6) وقد خطب عمر بن الخطاب الناس فقال: "ألا وإن الخمر نزل تحريمها يوم نزل، وهي من خمسة أشياء: من الحنطة، الشعير، والتمر، والزبيب، والعسل، والخمر ما خامر العقل" وقد تقدم تخريجه. انظر: "فتح الباري" (10/ 45).

الصحيحةُ (¬1) في ذلك، ثم ذكَرها. قال: وأما الأحاديثُ التي تمسّك بها المخالفُ عن الصحابة فلا يصِحّ منها شيءٌ على ما قال عبدُ الله بن المبارك وأحمدُ وغيرهما، وعلى تقدير ثبوت شيء [منها] (¬2) فهو محمولٌ على نقيع الزبيبِ والتمرِ من قبل أن يدخُل حدَّ الإسكار جمعًا بين الأحاديث ... انتهى (¬3). قال ابنُ المنذر (¬4): قال: إن الخمرَ من العنب ومن غير العنب، عمرُ وعليٌّ وسعدُ وابنُ عمرَ وأبو موسى وأبو هريرة وابنُ عباسٍ وعائشةُ، ومن التابعين ابنُ المسيِّب وعروة والحسن وسعيد بن جبير وآخرون. قال: وهو قول مالك والأوزاعي والثوري وابن المبارك والشافعيّ وأحمد وإسحاق وعامة أهل الحديث. قال الحافظ في فتح الباري (¬5): يمكن الجمعُ بأن مَن أطلق الخمرَ على غير المُتَّخذِ من العنب حقيقةً يكون أراد الحقيقةَ الشرعية، ومن نفى أراد الحقيقةَ [4] اللغوية، وقد أجاب بهذا ابنُ عبدِ البرِّ وقال: إن الحكمَ إنما يتعلق بالاسم الشرعيِّ دون اللغوي .. انتهى. وأيضًا يقال: ما وقع من مبادرة الصحابة إلى إراقة ما لديهم من غير عصيرِ العِنَب من المسكرات وعدم استفصالِهم عن ذلك، إما لفهمهم أن الخمرَ حقيقةٌ في الكل، أو يكونُ فعلُهم على تقدير أن حقيقةٌ في البعض مجازٌ في البعض دليلاً على جواز استعمال اللفظ في جميع معانيه الحقيقية والمجازية، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قرّرهم على ذلك ولم ينكر عليهم، فجاز إطلاقُ الخمرِ على كل مُسكرٍ بذلك، وهو المطلوب، فيكون تحريم كلِّ مسكرٍ ثابتًا بنص القرآن كما هو ثابتٌ بنص السُّنةِ كما تقدم. ¬

(¬1) تقدم ذكرها. (¬2) في (أ) فيها. (¬3) أي كلام القرطبي في "المفهم" (5/ 253). (¬4) عزاه إليه ابن قدامة في "المغني" (12/ 496). (¬5) (10/ 49).

وإذا تقرر لك هذا وعرفت قيام الدليل على تحريم كل مسكر من غير تقييدٍ فاعلم أن كلّ نوع ثبتت له خاصيّة الإسكار فهو محرّمٌ من غير فرقٍ بين المائعِ والجامدِ، وما كان بعلاج وما كان بأصل الخِلْقة. انتهى. (تعريفُ المُسْكِر والإسكار لغةً) والمُسكِرُ هو ما حصل به السُّكرُ، والسكرُ نقيضُ الصَّحْو، قال في القاموس (¬1): سكر كفرح سُكْرًا وسَكْرًا وسَكَرَانًا نقيض صحا ... انتهى. وقد حقق معنى السُّكْرِ جماعةٌ من أهل العلم، فمنهم من قال: هو الطرَبُ والنَّشاةُ، ومنهم من قال: هو زوالُ الهموم وانكشافُ السرِّ المكتوم. ومنهم من قال بغير ذلك مما هو في الحقيقة راجعٌ إليه. قال المحققُ الشريفُ في التعريفات (¬2): السُّكْرُ غفلةٌ تعرِض بغلَبة السُّرورِ على العقل لمباشرة ما يوجبها من الأكل والشرب. والسكرُ من الخمر عند أبي حنيفة أن لا يعلم الأرض من السماء، وعند أبي يوسف ومحمدٍ والشافعيّ هو أن يختلط كلامُه، وعند بعضِهم أن يختلِط في مشيه بحركة انتهى. وقال في شرح الفتح لابن حُميد: السكرُ مخامرةُ العقلِ وتشويشُه مع حصول طرَبٍ وسُلُوٍّ مخصوصَين قال: وإن لم يذهب إلا بعضُ علومِ العقل أو بعض المستعملين له دون بعض فإنه لا يخرُج بذلك عن كونه مسكرًا ... انتهى. فما كان يؤثّرُ أي هذه التأثيرات ـ على الخلاف ـ أو يؤثّرُها كلَّها ولو لم يحصُل إلا باستعمال الكثير منه دون القليل فهو حرامٌ لِما سلف من الأدلة. وإلى ذلك ذهب جمهور الصحابة والتابعين والعِتْرةُ جميعًا (¬3) وأحمد وإسحاق والشافعيّ ومالك. ¬

(¬1) (ص529). (¬2) (ص235). (¬3) انظر: "المغني" (12/ 497)، "المفهم" (5/ 253).

[(ضعيف قولُ من قال بحِل ما دون المسكر من غير عصير العنب والتمر)] وذهب النّخعيّ والثّوريّ وابن أبي ليلى وشريكٌ وابن شُبْرُمة وأبو حنيفة وأصحابه وسائرُ الكوفيين، وأكثر علماء البصرة إلى أنه يحل دون المُسكر من غير عصير العنب والرُّطَب، واستدلوا بما أخرجه البيهقيّ (¬1) في حديث عبد القيس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال لهم في النبيذ: "فإن اشتدّ فاكسروه بالماء فإن [أعياكم] (¬2) فأهْريقوه". وقال البيهقي (¬3) بعد إخراجه الروايات الثابتة عن وفد عبد القيس خاليةً عن هذه اللفظة، وأخرج نحو ذلك (¬4) من حديث ابن عباس، وفي ألفاظه أنه من قول ابن عباس، وأخر نحوه (¬5) أيضًا عن عائشة من قولها، وفي إسناده مجهولٌ، وأخرج نحوَه أيضًا عن أبي هريرةَ [5] مرفوعًا نحوَه وهو من طريق عكرمة بن عمار عن أبي كثير السّخيّ عنه، وهو إسناد ضعيف، لأن عكرمة اختلط، وأخرج أيضًا من حديث الكلْبي نحوَه، والكلبيّ متروك، وأخرج نحوه أيضًا عن ابن عباس من طريق أخرى وفي إسنادها يزيدُ بنُ أبي [زيادة] (¬6) وهو ضعيفٌ لا يُحتَجّ به. ونحوَه من حديث ابنِ عمرَ وفي إسناده عبدُ الملك بنُ نافعِ بنِ أخي القَعقاع قال يحيى بنُ معينٍ هم يُضعّفونه. وقال البُخاريّ: لم يتابَعْ عليه. وقال النَّسائي: لا يُحتَجّ بحديثه (¬7). وكل ما في هذا الباب .............................. ¬

(¬1) في "السنن الكبرى" (8/ 302). (¬2) في (أ) أعناكم. (¬3) في "السنن الكبرى" (8/ 302 - 303). (¬4) البيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 303). (¬5) انظر "تهذيب التهذيب" (6/ 378). (¬6) زيادة من (ب). (¬7) انظر "تهذيب التهذيب" (6/ 378).

[فلا] (¬1) يخلو من ضَعف حتى قال إسحاقُ بنُ راهويَه (¬2): سمعت عبد الله بن إدريس الكوفيّ يقول: "قلت لأهل الكوفةِ: يا أهل الكوفة: .. إنما حديثكم الذي تحدّثونه في النبيذ عن العُميان والعُوران، أين أنتم من أبناء المهاجرين والأنصار؟! ". وأيضًا هذه الأحاديث لا تدل على مطلوبهم، فإن كسر النبيذ لا يتعيّن أن يكون لأجل الشدة المستلزمة للسُّكر، فإنه قد يكون الكسرُ لاشتداد الحلاوة أو الحموضة، ومع الاحتمال لا تنتهض للاستدال غللا فرض تجرّدهِ عن المُعارِض فكيف إذا كان ذلك الضعيفُ معارضًا بالأحاديث الصحيحة الكثيرة والقاضية بأن ما أسكر كثيرهُ فقليلُه حرامٌ، كما تقدم! فإذا كان الكثيرُ من الزعفران والجَوزِ الهنديِّ ونوعٌ من القات يبلُغ بمُستعمِله إلى السُكر حرم عليه قليله كما يحرم عليه كثيره، وإذا كان يؤثر ذلك التأثير مع بعض المستعملين له دون البعض الآخر كان التحريم مختصًا بمن يحصل معه ذلك الأثر دون من عداه (¬3). فإن قيل: إن هذه الأمور المذكورة إنما يحصل بها التفتيرُ دون السكر، فيقال: إن بلغ هذا التفتير إلى حد السُكر كما يحصل من أكل الحشيش [وشربها] (¬4) فلا نزاع في أن ذلك من المحرمات وإن لم يبلغ إلى ذلك الحدِّ، بل مجرّد التفتير فقد ورد ما يدل على تحريم كلّ مفتّر، فأخرج أبو داود (¬5) عن أم سلمة قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه ¬

(¬1) في (أ) ولا. (¬2) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 306). (¬3) قال الحافظ في "فتح الباري" (10/ 40 - 41): "قال البيهقي حمل هذه الأشربة على أنهم خشوا أن تتغير فتشتد فجوزوا صب الماء فيها ليمتنع الاشتداد، أولى من حملها على أنها كانت بلغت حد الإسكار، فكان صب الماء عليها لذلك لأن مزجها باملاء لا يمنع إسكارها إذا كانت قد بلغت حد الإسكار. ويحتمل أن يكون صب الماء كون ذلك الشراب كان حِمض ... ". (¬4) في (ب) شرابها. (¬5) في "السنن" رقم (3686) وهو حديث ضعيف.

وآله وسلم عن كل مسكر ومفتّر. وهذا حديثٌ صالحٌ للاحتجاج به لأن أبا داودَ سكت عنه، وقد رُوي عنه أنه لا يسكُت إلا عمَّا هو صالحٌ للاحتجاج، وصرَّح بمثل ذلك جماعةٌ من الحفاظ كابن الصلاح وزين الدين والنووي وغيرُهم، وإذًا لأردنا الكشفَ عن حقيقة رجال إسناده فليس فيهم من هو متكلِّمٌ عليه إلا شهرُ بنُ حَوشب، وقد اختلف في شأنه أئمة الجرح والتعديل، فوثّقه الإمامُ أحمد ويحيى بن معين وهما إماما الجرَح والتعديل ما اجتمعا على توثيق رجلٍ إلا وكان ثقةً، ولا علىتضعيف رجلٍ إلا وكان ضعيفًا. فأقلُّ أحوالِ حديثِ شهرٍ المذكورِ أن يكون حسنا، والترمِذيّ يصححُ حديثه (¬1) كما يعرف ذلك من له ممارسةٌ لجامعه. [(تعريفُ المُفتِّر)] قال ابنُ رسْلانَ (¬2) في شرح السُنن: والمُفتِّرُ بضم الميم وفتْحِ الفاء وتشديد المُثنَّاة فوق المكسورة، ويجوز فتحُها ويجوز تخفيفُ التاء مع الكسر، وهو كلُ شرابٍ يورث الفُتورَ والخَدَرَ في أطراف الأصابع، وهو مقدِّمةُ السُكر (¬3) ... انتهى. [6] قال في النهاية (¬4) المُفْتِرُ الذي إذا شُرب أحمى الجسَدَ وصار فيه فتورٌ وهو ضعيفٌ وانكسار، يقال: أفتر الرجلُ فهو مفْترٌ، إذا ضعُفت جفونُه وانكسر طرفُه، فإما أن يكون أفتره بمعنى فتّره أي جعله فاترًا، وإما أن يكون أفتر الشرابُ إذا أفتر صاحبَه كأقطف الرجلُ إذا قُطفتْ دابتُه، ويقتضي هذا سكون الفاءِ وكسرَ المثنّاة فوقُ مع التخفيف. ¬

(¬1) ذكره المنذري في "مختصر السنن" (5/ 269). (¬2) عزاه إليه الآبادي في "عون المعبود" (10/ 92). (¬3) قاله الخطابي في "معالم السنن" (4/ 90). (¬4) (3/ 408).

وقال الخطابي (¬1): المُفترُ كلُ شرابٍ يورث الفتورَ والخدَرَ في الأعضاء، قال في القاموس (¬2): فتَر يفتِرُ فتورًا وفُتارى سكن بعد حدّة ولان بعد شدّة، وفتّره تفتيرًا، وفتر الماءُ سكَن حرُّه فهو فاتر وفاتور، وجسمُه فتورًا: لانت مفاصلُه وضعُف، والفَتَرُ محركةً الضعْف، قال: والفُتار كغراب: ابتداءُ النشْوة، وطرفٌ فاترٌ: ليس بحاد النظر، قال: وأفتر: ضعُفت جفونُه، وانكسر طرفُه، والشرابُ فترَ شاربُه. انتهى. وعطفُ المُفْتر على المُسكر يدل على أنه غيرُه، لأن العطفَ يقتضي المُغايَرةَ، قال ابنُ رسلانَ (¬3): فيجوز حملُ المُسكرِ على الذي فيه شدْةٌ مطْرِبةٌ وهو محرمٌ يجب فيه الحدُّ، ويُحمل المُفتِرُ على النبات كالحشيش الذي يتعاطاه السِّفْلةُ. وقد نقل الرافعيُّ والنَّووي (¬4) في باب الأطمعة عن الرُّوياني أن النبات الذي يُسكر وليس فيه شدةٌ مطربةٌ يحْرُم [أكله] (¬5) ولا حدَّ فيه. [(حكمُ البَنْج والزَّعفران والجوَز الهندي)] قال ابنُ رسلان (¬6): يقال: إن الزعفرانَ يُسكِر إذا استُعمل مفردًا بخلاف ما إذا استُهلك في الطعام، وكذا البنجُ شربُ القليل من مائة يُزيل العقْل وهو حرامٌ إذا زال العقلُ لكن لا حدَّ فيه ... انتهى. وإذا ثبت أن الزعفرانَ مسكرٌ (¬7) إذا استُعمل مفردًا كما ذكره فيحرُم استعمالُه مخلوطًا ¬

(¬1) في "معالم السنن" (4/ 90). (¬2) (583 - 584). (¬3) عزاه إليه الآبادي في "عون المعبود" (10/ 92). (¬4) في شرحه "لصحيح مسلم" (13/ 149). (¬5) في (أ) كله. (¬6) عزاه إليه الآبادي في "عون المعبود" (10/ 92). (¬7) قال علي بن العباس إمام الفن بلا نزاع قال في كامل الصناعة في الباب السابع والثلاثين: الزعفران حار يابس لطيف مجفف تجفيفًا مع قبض يسير، ولذلك صار يدر البول وفيه قوة منضحة وينفع أورام الأعضاء الباطنة إذا شرب وضمد به من خارج ويفتح السدد التي في الكبد أو في العروق ويقوي جميع الأعضاء الباطنة وينفذ الأدوية التي يخلط بها إلى جميع البدن. وقال محمد شمس الحق العظيم آبادي في "عون المعبود" (10/ 105) وقد سألت غير مرة من أدركنا من الطباء الحذاق صاحب التجربة والعلم والفهم، فكلهم اتفقوا على أنّه لا يسكر مفردًا.

بغيره من الأطعمة وغيرِها لما تقدم أن ما سكرَ كثيرُه فقليلُه حرامٌ، سواء كان مفردًا أو [مختلطًا] (¬1) بغيره وسواء كان يقوّي على الإسكار بعد الخلط أو لا يقوّي، وأما إذا لم يكن الزعفرانُ ونحوُه من جنس المُسكرات بل من جنس المُفتّرات فلا يحرُم منه إلا ما وُجد فيه ذلك المعنى، أعني التفتيرَ [بالعقل] (¬2)، ولا يحرم القليلُ منه كما يخلط [منه] (¬3) بين كثيرُه فقليلُه حرام، اللهم إلا أن يقال: يحرُم قليلُ المفْتر قياسًا على قليل المُسكر، بجامع تحريمِ الكثير من كل واحدٍ منهما، ولكن هذا إنما يتم بعد تصحيح هذا القياسِ وعدمِ وجودِ فارقٍ يقدَح في صحته. قال الإمامُ المَهدي في البحر (¬4) ما لفظُه: وما أسكر بأصل الخِلْقة كالحشيشة والبَنْج والجَزوة فطاهرٌ، وعن بعضهم: نجس. قلت: وهو القياسُ إن لم يمنعَ إجماعٌ. انتهى ... فهذا الكلامُ يدل على أن الأمورَ المذكورة مسْكرةٌ، وهكذا يدل على ذلك قولُه رحمه الله في الأزهار (¬5): والمُسكرُ وإن طُبخ إلا الحشيشةَ والبنْجَ ونحوَهما، وفسره شارحُه بالجوز الهندي والقُرَيط وظاهرُ الاستثناء [7] من المُسْكر أن الحشيشة وما معها مُسكرةٌ. ¬

(¬1) في (أ) مختلطًا. (¬2) في (ب) بالفعل. (¬3) زيادة من (ب، ج). (¬4) (1/ 11). (¬5) (1/ 137 ـ مع السيل).

وقال الجلال في "ضوء النهار" (¬1): إنه استثناءٌ منقطعٌ لأن المذكوراتِ لا تُسْكر وإنما تخدّر أو تغيّر، لأن السكرَ عبارةٌ عن الطرب المثيرِ للنخْوة ولو كانت من السُكر لافتقر تخصيصُها إلى دليل شرعي. انتهى. [(تحريمُ الحشيشة)] قال الحافظ ابنُ حجرٍ (¬2): مجيبًا على من قال: إن الحشيشةَ ليست بمسكرة بل مخدِّرة: إن ذلك مكابرةُ لأنها تُحدِث ما يحدث الخمرُ من الطرَب والنشاة ... انتهى. وعلى الجملة إنه إذا سُلّم أنها غيرُ مسْكرةٍ فهي مفتّرة، وكلُ واحدٍ من الأمرين يقتضي تحريمَها، وقد حكى الفِرْيابي (¬3) وابنُ تَيْميةَ (¬4) الإجماعَ على تحريم الحشيشة، قال: ومن استحلها فقد كفر، [قالا] (¬5): [وإن] (¬6) لم يتكلّم فيها الأئمة الأربعة، لأنها لم تكن في زمنهم وإنما ظهرت في آخر المائة السادسة وأول المائة السابعة حين ظهرت دولةُ التتار. وذكر ابنُ تيمية في كتابِ (السياسة) (¬7) أن الحدَّ واجبٌ في الحشيشة كالخمر، وحكى الماوَرديُّ (¬8) أن النباتَ الذي فيه شدةً مطربةٌ يجب فيه الحدُّ. وقال ابنُ البَيطار (¬9) ـ وإليه انتهت الرياسةُ في معرفة خواص النبات ـ إن الحشيشةَ مُسكرةٌ جدًّا، إذا تناول الإنسانُ منها قدْرَ دِرْهمٍ أو درهميت أخرجتْه إلى حد الرُّعونة، وقد استعملها قومٌ ¬

(¬1) (1/ 94). (¬2) ذكره الأمير الصنعاني في "سبل السلام" (7/ 180). (¬3) انظر: "عون المعبود" (10/ 92). (¬4) في "مجموع الفتاوى" (34/ 205). (¬5) في (أ) قال. (¬6) في (ب) وإنما. (¬7) "السياسة الشرعية" (ص144). (¬8) ذكره الآبادي في "عون المعبود" (10/ 92). (¬9) ذكره الآبادي في "عون المعبود" (10/ 92).

فاختلَّت عقولُهم. وقال ابن دقيق العيد (¬1) في الجوزة: إنها مسكرة، وقله عنه المتأخرون من الحنفية والشافعية والمالكية واعتمدوه وذكر ابنُ القسطلاني (¬2) في تكريم المعيشة أن الحشيشة ملحقةٌ بجوزة الطيب والزعفران والأفيون والبنج، وهذه من المسكرات المخدّرات، وقال الزركشي (¬3): إن هذه الأمور المذكورةَ تؤثر في مُتعاطيها المعنى الذي يدخله في حد السكران فإنهم قالوا: السكرانُ هو الذي اختل كلامهُ المنظوم وانشكف سرّه المكتوم، وقال بعضهم: هو الذي لا يعرِف السماءَ من الأرض. ثم نقل عن الغزالي الخلافَ في ذلك. قيل (¬4) والأولى أن يقال: إن أُريد بالإسكار تغطيةُ العقل فهذه كلُها صادقٌ عليها معنى الإسكار، وإن أريد بالإسكار تغطيةُ العقل مع الطربَ فهي خارجةٌ عنه، فإن إسكارَ الخمر يتولّد منه النشأة والنشاطُ والطرَبُ والعَرْبَدة والحميّة، والسكرانُ بالحشيشة ونحوها يكون مما فيه ضدُّ ذلك فتقرر من هذا أنها تحرمُ لِمضرّتها العقلَ ودخولِها في المفتّر المنْهيِّ عنه، ولا يجب الحدُّ على متعاطيها لأن قياسها على الخمر مع الفارق ـ[وقد انتفى] (¬5) بعضُ الأوصاف ـ لا يصح، كذا قيل. والحاصلُ أن الحشيشةَ وما في حكمها مما له عمَلُها لا شك ولا ريب في تحريمها لأنها إن كانت من المسْكرات فهي داخلةٌ في عموم أدلةِ تحريمِ المسْكر، وقد عرفْتَ مَنْ جزَم بأنها مسكرةٌ، وإن كانت من المُفترات والمخدّرات فهي محرمةٌ بالحديث المتقدِّم في تحريم كلّ مُفْتر [8]، ولا يخرُج عن هذين الأمرين أصلاً. ¬

(¬1) ذكره الأمير الصنعاني في "سبل السلام" (7/ 181). (¬2) ذكره الآبادي في "عون المعبود" (10/ 92). (¬3) ذكره الآبادي في "عون المعبود" (10/ 93). (¬4) ذكره الآبادي في "عون المعبود" (10/ 93). (¬5) كذا في المخطوط [أ. ب. جـ] وصوابه [وهو انتفاء]. انظر المصدر السابق.

[(تعريف الخَدَر)] والخَدَرُ ليس أمرًا غيرَ الفتور، بل هو فتورٌ مع زيادة. قال في القاموس (¬1): الخدَر بالتحريك [امذلال] (¬2) يغشى الأعضاءَ، خَدِرَ كفرح فهو خدِرٌ، وفتورُ العينِ أو ثقلٌ فيها مِن قَذى .... انتهى. ومع هذا فقد عرفتَ الإجماعَ على تحريمها بحكاية الإمامين الفرْيابي وابنِ تيميةَ (¬3) فلم يبقَ ارتيابٌ في التحريم (¬4). [(قصة يرويها المؤلِّف لبعض المُتهتكين)] [قال] (¬5) وقد وأعمى الله بصرَ وبصيرةَ بعض الأدباء المتأخرين من أهل اليمين، فاشتهر بالحشيشة الخبيثة، واستعملها بمَرْأى من العامة ومَسْمع، وكان المسكين رحمه الله ممن له صورة عند العامة جليلةٌ يعتقدون فيه أنه من أعيان العلماء، وليته كان يتكتّم باستعمال هذه الخبيثةِ ويعترف بالمعصية ويُعلن بالتحريم كما يفعله كثيرٌ من العصاة، ولكنه كان يصرِّح بأنها حلالٌ بلا برهان في مواقف جماعةٍ من العامة الذي هم أتباعُ كلِّ ناعق، فجعلوه حُجَّةً لهم، وبالغوا في تعظيمه ووصْفِه بالعلم لموافقته لأهوائهم. وقد روى لي هذه القصة جماعةٌ ممن لا أشك في صدقهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقد أحسن مَن قال: ¬

(¬1) (ص490). (¬2) في (ب) انذلالٌ والصواب ما أثبتناه من (أ. جـ) حسب المصدر. (¬3) "السياسة الشرعية في إصلاح الرعية" (ص144). (¬4) وهذا ما نرجحه. (¬5) زيادة من (أ).

فسادٌ كبيرٌ عالمٌ مُتهتِّكٌ ... وأفسدُ منه جاهلٌ متنسِّكُ هما فتنةٌ للعالمين كبيرةٌ ... لمن بهما في دينه يتمسّك وقد صارت مِحنةُ ذلك الأديبِ الذي ضلّ وأضل بما صدَر منه من قول وعملٍ في هذه القضية التي هي من أعظم مزالقِ الزّلل باقية إلى الآن كما أخبرني بذلك من له خِبْرةٌ بأحوال الناسِ والاطلاع على أمورهم. وقد سُقنا في هذه الورقات من الأدلة ونصوص العلماء الأكابرِ على مسألة السؤالِ ما فيه كفاية [لمن له هداية] (¬1). فالزعفران والجوز الهنْدي والأفيونُ ونحوُها لاحقةٌ بالمسْكرات إن صح قولُ من قال (¬2): ¬

(¬1) زيادة من (أ). (¬2) اختلفت أقوال العلماء وعباراتهم ولم يتفقوا على أمرٍ واحدٍ. تقدم ذكر بعضها: ومنها قال في "الدر المختار": ويحرم أكل البنج والحشيشة هي ورق القنب والأفيون لأنّه مفسد للعقل. وقال آخر: البنج بالفتح نبات يسمى شيكران يصدع ويسبت ويخلط العقل كما في التذكرة للشيخ داود، والمسبت الذي لا يتحرك. وذهبت أئمة الحنفية إلى أن ما أسكر كثيره حرم قليله وهو في المائعات دون الجامعات، وهكذا في غيره من الأشياء الجامعة المضرة في العقل أو غيره يحرم تناول القدر المضر منها دون القليل النافع لأن حرمتها ليست لعينها بل لضررها فيحرم عندهم استعمال القدر المسكر من الجامدات دون القليل منها. وقال القزويني: الزعفران الزائد على الدرهم سم قاتل. وقال الزركشي: إن هذه الأشياء لا تحرم إلا لمضرتها العقل ودخولها في المفتر المنهي عنه. وقال الأدبيلي: إن الجوز الهندي والزعفران ونحوهما يحرم الكثير منه لإضراره لا لكونه مسكرًا. - قال الشيخ ابن حجر المكي في "الزواجر" (1/ 491) الكبيرة السبعون بعد المائة آكل المسكر الطاهر كالحشيشة والأفيون والشيكران بفتح الشين المعجمة وهو البنج وكالعنبر والزعفران وجوزة الطيب. فهذه كلها مسكرة كما رح به النووي في بعضها وغيره في باقيها ومرادهم بالإسكار هنا تغطية العقل لا مع الشدة المطربة لأنها من خصوصيات المسكر المائع، وبما قررته في معنى الإسكار في هذه المذكورات علم أنَّه لا ينافي أنها تسمى مخذرة وإذا ثبت أن هذه كلها مسكرة أو مخدرة فاستعمالها كبيرة وفسق كالخمر فكل ما جاء في وعيد شاربها يأتي في مستعمل شيء من هذه المذكورات لاشتراكهما في إزالة العقل المقصود للشارع بقاؤه لأنّه الآلة للفهم عن الله تعالى وعن رسوله المتميز به الإنسان عن الحيوان والوسيلة إلى إيثار الكمالات عن النقائص فكان فيتعاطي ما يزيله وعيد الخمر.

إنها تُسكر ولو في حال من الأحوال، وإن صح قولُ من قال: إنها مفترةٌ فهي أيضًا محرَّمةٌ لذلك، لما سلف، فهي مشاركةٌ للمسكر على أحد التقديرين، وللمفتر على الآخر، وكل واحدٍ منهما يقتضي التحريم. وإن لم يصحّ فيها، وصف الإسكار ولا وصف التفتير والتخدير مطلقًا فلا وجه للحكم بتحريمها. فمن أراد العثور على الحقيقة فليسأل من له اختبارٌ عن التأثير الذي يحصل بالأمور المذكورة وبعد ذلك يحكمُ علىكل واحد منهما بما أودعناه في هذه الرسالة، وهذا إن لم يكتف بما نقلناه عن العلماء في وصف تلك الأمور كما سلف. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "الحلالُ بيِّن، والحرام بيِّنٌ، وبينهما مشتبهات والمؤمنون وقّافون عند الشبهات، فمن تركها فقد استبرأ لعِرضه ودينه" (¬1) وأقلُّ [أحوال] (¬2) الجَوز الهندي وما ذكر معه أن يكون من الأمور المشتبهات، وثبت [9] عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" صححه ابن حبان (¬3) والحاكم (¬4) والترمذي (¬5). وقد حكي في شرح الأثمار (¬6) عن الإمام شرف الدين أن الجوزَ الهندي والزعفران ونحوهما يحرمُ الكثير منه لأضراره لا لكونه ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (58). (¬2) زيادة من (ب). (¬3) في صحيحه رقم (722). (¬4) في "المستدرك" (2/ 13)، (4/ 99). (¬5) في "السنن" رقم (2518). من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (¬6) تقدم تعريفه.

مسكرًا وكذلك القريط وهو الأفيون. انتهى. [(حكمُ القات عند المؤلِّف وتفنيده لما قال ابنُ حجر فيه)] [قال]: وأما القاتُ فقد أكلتُ منه أنواعًا مختلفةً وأكثرتُ منها فلم أجد لذلك أثرًا في تفتير ولا تخديرٍ ولا تغيير، وقد وقعتْ فيه أبحاثُ طويلة بين جماعةٍ من علماء اليمن عند أول ظهورِه، وبلغتْ تلك المذاكرةُ إلى علماء مكة، وكتب ابن حجرٍ الهيثمي في ذلك رسالةً طويلة سماها (تحذير الثقات من أكل الكفتة والقات)، ووقفتُ عليها في أيام سابقةٍ فوجدته تكلم فيها بكلام من لا يعرف ماهية القات. وبالجملة أنه إذا كان بعض أنواعه تبلُغ إلى حد السكر أو التفتير من الأنواع التي لا نعرفها توجّه الحكمُ بتحريم ذلك النوع بخصوصه، وهكذا إذا كان يضُرّ بعضَ الطباع من دون إسكار وتفتير حرُم لإضراره وإلا فالأصلُ الحِلُّ كما يدل على ذلك عمومات القرآن والسنة. وأما قولُكم: وهل يجوز بيعه، فالظاهرُ من الأدلة تحريمُ بيع كلّ شيء انحصرتْ نفعتهُ في محرم لا يُقصد به إلا ذلك المحرّم، أو لم ينحصِرْ ولكنه كان الغالبُ الانتفاع به في محرم، أو لم يكن الغالبَ ذلك، ولكنه وقع البيعُ لقصد الانتفاع به في أمر محرم، فما كان على أحد هذه الثلاث الصور كان بيعه محرمًا، وما كان خارجًا عنها كان بيعه حلالاً. ومن أدلة الصورة الأولى أحاديث النهي (¬1) عن بيع الخمر والميتة والخنزير، لأن هذه الأمور لا يُنتفع بها إلا في محرم، ولا يُتصوّر الانتفاع بها في أمر حلال، ومن هذا القبيل الحشيشة فإن منفعتها منحصرةٌ في الحرام. ومن أدلة الصورة الثانية ما أخرجه الترمذي (¬2) من حديث أبي أمامة أن رسول الله ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (110، 114). (¬2) في "السنن" رقم (1282) وقال: حديث أبي أمامة، إنما نعرِفُهُ مِثْلَ هذا مِنْ هذا الوجه، وقد تكلم بعض أهل العلم في علي بن يزيد وضعفه وهو شامي. وأخرجه ابن ماجه رقم (2168). وهو حديث حسن.

صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "لا تبيعوا القينات والمغنيّات ولا تشتروهن ولا تُعلموهن ولا خير في تجارة فيهن، وثمنُهن حرام" ومن المعلوم أن منفعة القينات لم تنحصر في الحرام ولكن لما كان الغالب الانتفاع بهن في الحرام جعل الشارع حكمهن 5ث تحبثما فقثع حكم ما لا يُنتفع به في غير الحرام تنزيلاً للأكثر منزلة الكُلّ، ومن هذا القبيل البنجُ الجوز الهندي وما شابهما. ومن أدلة الصورة الثالثة ما أخرجه الطبرانيّ في الأوسط (¬1) بإسناد حسّنه الحافظُ ابن حجر (¬2) من حديث عبد الله بن بُريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "من حبس العنب أيام القطاف حتى يبعه ممن يتخذه خمرًا فقد تقحّم النار على بصيرة" ولا شك أن العنبَ في الغالب يُنتفع به في الأمور الجائزة ولكنه لما كان القصدُ بيعه إلى من يستعمله في أمر محرم كان بيعُه محرمًا، لأن وسيلة الحرام حرامٌ [10]، وأما ما عدم القصد فلا تحريم، ومن هذا الزعفران فمن باعه إلى من يستعمله في أمر جائز، أو مع عدم القصد فلا تحريم، ومن هذا الزعفران فمن باعه إلى من يستعمله في أمر جائز، أو مع عدم القصد فبيعه حلال، ومن باعه إلى من يستعمله في أمر غير جائز نحو أن يبيعه إلى من يعلم أنه يأكل منه مقدارًا يحصل به التفتير أو الإضرار بالبدن قاصدًا للبيع إلى من كان كذلك فبيعُه غير جائز، وإذا تقرر هذا التفصيل ارتفع ما يرد من الإشكالات على حديث ابن عباس عند الحاكم والبيهقيّ بإسناد صحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "إن الله إذا حرم [على قوم أكل] (¬3) شيء حرّم ....................... ¬

(¬1) رقم (5356) وأورده الهيثمي في "المجمع" (4/ 90) وقال: فيه عبد الكريم بن عبد الكريم، قال أبو حاتم: حديثه يدل على الكذب. (¬2) في "بلوغ المرام" (رقم 837). وهو حديث باطل. انظر الضعيفة رقم (1269). (¬3) زيادة من مصدر الحديث.

ثمنه" (¬1) فإنه قال بعض أهل العلم: إنه يلزم من الأخذ بظاهر هذا الحديث تحريم بيع الحمُر الأهلية وغير [ها] (¬2) مما يصلُح لحلال وحرام. ويُجاب بأن الحمر الأهلية إذا باعها البائع إلى من يأكلها كان البيعُ محرمًا مع القصد لما سلف من أن وسيلة الحرام حرامٌ وإن باعها إلى من لا يأكُلها أو مع عدم القصد [فلا وجه] (¬3) للتحريم، وهكذا كل ما كان من هذا القبيل. وقال ابن القيم (¬4): إنه يراد بحديث ابن عباس المذكور أمران: أحدُهما ما هو حرامُ العين والانتفاع جملة كالخمر والميتة والدم والخنزير وآلات الشرك (¬5)، فهذه ثمنُها حرامٌ كيفما اتفقت. والثاني ما يباح الانتفاع به في غير الأكل وإنما يحرم أكله كجلد الميتة بعد الدباغ وكالحمر الأهلية والبغال ونحوِهما مما يحرم أكلُه دون الانتفاع به، فهذا قد يقال: [إنه] (¬6) لا يدخل في الحديث وإنما يدخل فيه ما هو حرامٌ على الإطلاق، والصواب ما ذكرنا من التفصيل، فإن هذه الأمور يحرُم بيعها إذا بيعت لأجل المنفعة المحرمة، كما إذا بيع [الحمار والبغلُ لأكلهما وقد قيل إن بيعَ] (¬7) الشيء الذي يحرم في بعض الأحوال إلى من ينتفع به في ذلك الأمر المحرم مع القصد حرامٌ بالإجماع. ومما يؤيد تحريم بيع الشيء الذي يُنتفع به في الأمور الجائزة في الغالب إلى من يستعمله فيما لا يجوز ما أخرجه البيهقي (¬8) والبزّار (¬9) عن عِمران بن حصين مرفوعًا في النهي عن بيع السلاح في الفتنة. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (3/ 370) وأبو داود رقم (3488) من حديث ابن عباس وهو حديث صحيح. (¬2) زيادة من (أ). (¬3) زيادة من (ب). (¬4) انظر "زاد المعاد" (5/ 674 - 675) (¬5) قال ابن القيم في "زاد المعاد" (5/ 675) أما تحريم بيع الأصنام فيستفاد منه تحريم بيع كل آلة متخذة للشرك علىأي وجه كانت، ومن أي نوع كانت صنمًا أو وثنًا أو صليبًا، وكذلك الكتب المشتملة على الشرك وعبادة غير الله فهذه كلها يجب إزالتها وإعدامها. (¬6) زيادة من (أ). (¬7) زيادة من (ب). (¬8) في "السنن الكبرى" (5/ 327). (¬9) في مسنده (4/ 117 رقم 3333 ـ كشف).

وأما سؤال السائل حفظه الله عن تلك الأمور: هل يجوزُ الانتفاعُ بها في غير الوجه الذي حُرّمَت لأجله فنقول: نعم يجوز أن يُنتفعَ بها في غير الوجه الذي تحرُم من جهته، كما يجوز الانتفاعُ بالحيوانات التي يحرُم أكلُها في غير الأكل، والانتفاعُ بالعِنَب ونحوِه في جميع المنافع ما عدا الصورة المحرّمة التي هي جعلُه خمرًا، وهذا مما لا ينبغي أن يقع فيه خلافٌ بين أهل العلم والله أعلم. انتهى. [من خطه المعروفِ رحمه الله تعالى حرّره المجيبُ محمدُ بن علي الشوكاني غفر الله لهما في شهر ربيع الأول سنة 1209هـ وتاريخ النقل في شهر جُمادى الأولى سنة 1327] (¬1). [كمل من تحرير المجيب القاضي العمدة بدر العلماء الراسخين عز الإسلام والدين محمد بن علي الشوكاني حفظه الله وأدام لنا في أيامه، إنه على كل شيء قدير، وحرّر الجواب في شهر ربيع الآخر سنة 1209هـ] (¬2) [حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله له، في شهر ربيع الأول سنة (1209هـ). انتهى بلفظه، وحرره الناقل في شهر القعدة سنة (1294هـ)] (¬3). ¬

(¬1) زيادة من المخطوط (أ). (¬2) زيادة من المخطوط (ب). (¬3) زيادة من المخطوط (ج).

الوشي المرقوم في تحريم التحلي بالذهب على العموم

(136) 32/ 2 الوشي المرقوم في تحريم التحلي بالذهب على العموم تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: الوشي المرقوم في تحريم التحلي بالذهب على العموم. 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم أحمدك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآل رسولك. 4 - آخر الرسالة: حرر في شهر جمادى الأ, لى سنة 1224 بقلم الحقير علي بن أحمد هاجر غفر الله لهما وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 13 صفحة ما عدا صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 25 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة. 9 - الناسخ: علي بن أحمد هاجر. 10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم أحمدُك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسم، وأصلّي وأسلّمُ على رسولك، وآل رسولك. وبعدُ: فإنه وقع السؤالُ من بعض أهل العلم ـ كثر الله فوائدهم ـ على التحلي بالذهب للرجال، وهل يجوز تخصيص الأدلة الواردة في المنع من التحلي بالذهب لما ورد من أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كان في قبيعةِ سيفيهِ ذهبٌ وفضَّةٌ، فيكون ذلك دليلاً على جواز تحليلة السلاح بالذهب، كالسيف، والجنبية، ونحوهما أم لا يجوز التخصيصُ بمثل ذلك بالنسبة إلى أمّته ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ بل هو خاصّ به؟. وأقول: الجوابُ عن ذلك ينحصر في وجوه: الأول: الكلامُ على حديث أبي موسى الأشعري، وما ورد في معناه أنه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ قال في الذهب والحرير: "هذان حرامٌ على ذكور أمتي" أخرجه الترمذيّ (¬1)، والنسائيّ (¬2)، وأحمد (¬3) والطبراني (¬4)، ولفظ الترمذيّ: "حُرّم لباسُ الذهب والحرير على ذكور أمتي، وأُحِلّ لإناثهم" وقال: صحيح، وقد أعلّه أبو حاتم (¬5) بأنه من طريق سعيد بن أبي هند عن أبي موسى ولم يَلْقَهُ. وقد رواه أيضًا عن سعيدٍ ابنُه عبدُ الله، ونافع، واختُلِفَ على نافع، فرواه أيوبُ وعبيد الله بن عمر العمري عن نافع، عن سعيد، عن أبي موسى، ورواه عبد الله بنُ عمر العمريّ عنه، عن سعيد، عن رجل، عن أبي موسى، وقال ابنُ حبّان في صحيحه (¬6): حديثُ سعيد بن أبي هند عن أبي، عن أبي موسى معلولٌ لا يصحُّ، ولكنه يؤيدُ الحديثَ الذي رواه الدارقطني في العلل (¬7) عن يحيى بن سليمِ، عن عبيد الله بن عمرَ العمري، عن نافع، عن ابن عمر، وأيضًا فقد وافق الترمذيّ على تصحيحه الحافظُ ابن حزم (¬8) مع أنه لم يقف على كتاب الترمذي ولا عَرِفَهُ. ¬

(¬1) في "السنن" رقم (1720) وقال: حديث حسن صحيح. (¬2) "السنن" (8/ 190). (¬3) في "المسند" (4/ 394، 407). (¬4) لم أجده في "المعجم الكبير" من حديث أبي موسى. (¬5) في كتاب "المراسيل" (ص75). وهو حديث صحيح بشواهده. (¬6) (12/ 250). (¬7) (7/ 241 - 242). (¬8) في "المحلى" (4/ 37). قلت: وأخرجه الطيالسي في "المسند" رقم (506) والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 275) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 251). وهو حديث صحيح.

وقد أخرجه أيضًا أحمدُ (¬1)، وأبو داود (¬2)، والنسائي (¬3)، وابن ماجه (¬4)، وابن حبان (¬5) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أنَّ النبيّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ أخذ حريرًا فجعلَه في يمينه، وأخذ ذهبًا فجعلَه في شماله، ثم قال: "إن هذين حرامٌ على ذكور أمتي" زاد ابن ماجه (¬6): "حلٌّ لإناثهم" قال عبد الحق (¬7) حاكيًا عن علي بن المديني أنه قال: حديثٌ حسن، ورجالُه معروفونَ انتهى، وهو من رواية ابنِ المبارك [1أ] عن الليث، عن يزيدَ بن أبي حبيب، عن ابن أبي الصعبة، عن رجل من همدانَ، عن عبدِ الله بن زرير، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأما ابنُ أبي الصعبة فقد ذكره ابنُ ¬

(¬1) في "المسند" (1/ 115). (¬2) في سننه رقم (4057). (¬3) في سننه (8/ 160). (¬4) في سننه رقم (3595). (¬5) في صحيحه رقم (5434). (¬6) في سننه رقم (3595). قلت: وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (8/ 351) وأبو يعلى في "مسنده" رقم (272) و (325) والطحاوي في "شريح معاني الآثار" (4/ 250) والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 425) م طريق رجل سماه بعضهم: أبا أفلح وبعضهم صالح، وبعضهم أبا علي الهمداني عن ابن زرير وهو مجهول. قال الزيلعي في "نصب الراية" (4/ 223): وذكر عبد الحق في "أحكامه الوسطى" (4/ 184): هذا الحديث من جهة النسائي، ونقل عن ابن المديني أنه قال فيه: "حديث حسن ورجاله معروفون" قال ابن القطان في "كتابه" هكذا قال. وأبو أفلح مجهول، وعبد الله بن زرير مجهول الحال قال الشيخ في الإمام وعبد الله بن زرير ذكره ابن سعد في "الطبقات" ووثقه وقال: توفي سنة إحدى وثمانين في خلافة عبد الملك بن مروان". قلت: قال العجلي في "الثقات": أبو أفلح الهمذاني بصري تابعي ثقة. وقال الذهبي في "الكاشف" صدوق. وقال الحافظ في "التقريب" رقم (7944): مقبول. وخلاصة القول أن حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه حديث صحيح. (¬7) في "الأحكام الوسطى" (4/ 184).

حبان في الثقات (¬1)، واسمه عبد العزيز بن أبي الصعبةِ، وأما الرجلُ الهمدانيُّ فيقال له: أبو أفلحَ، ولا يعرف بغير هذا، وأما عبد الله بن زرير فوثّقه العجليُّ، وابن سعد (¬2). وأخرجه أيضًا البيقهيّ (¬3) من حديث عقبة بن عامر بنحوه قال الحافظ ابن حجر (¬4): إسنادهُ حسنٌ. وأخرجه البزَّار (¬5)، والطبراني (¬6) من حديث قيس بن أبي حازمٍ بنحوه، وفي إسناده عمرو بن جرير البجلي (¬7) قال ................ ¬

(¬1) (7/ 111) هو عبد العزيز بن أبي الصعبة وثقة ابن حبان. (¬2) انظر التعليقة رقم (6) في الصفحة السابقة. (¬3) في "السنن الكبرى" (3/ 275 - 276). قلت: وأخرجه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" رقم (4161، 4821) ورجاله ثقات غير هشام بن أبي رُقيَّة فقد أورده ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (4/ 2\ 75) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً. وهو من رجال "تعجيل المنفعة". وأورده ابن حبان في "الثقات" (5/ 501) وقد روى عنه ثقتان فهو حسن الحديث في الشواهد على الأقل قاله الألباني في "الإرواء" (1/ 308). (¬4) في "التلخيص" (1/ 88). وخلاصة القول أن حديث عقبة بن عامر حديث حسن. (¬5) في مسنده (1/ 467 رقم 333) وقال البزار: وهذا الحديث لا نعلم رواه عن إسماعيل عن قيس عن عمر إلاَّ عمرو بن جرير، وعمرو لين الحديث. (¬6) في "الأوسط" رقم (3604) و"الصغير" (1/ 167) وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن إسماعيل بن أبي خالد إلا عمرو بن جرير تفرد به داود بن سليمان. وأورده الهيثمي في "المجمع" (5/ 143): وقال: رواه البزار والطبراني في "الصغير" و"الأوسط" وفيه عمرو بن جرير وهو متروك. (¬7) عمرو بن جرير، أبو سعيد البجلي، عن إسماعيل بن أبي خالد، كذبه أبو حاتم، وقال الدارقطني: متروك الحديث، وأيضًا كان ضعيفًا، ذكره الساجي والعقيلي في الضعفاء. وقال ابن عدي: لعمرو ابن جرير مناكير في الإسناد والمتن غير ما ذكرت. انظر: "الجرح والتعديل" (3/ 1\ 224) "الضعفاء" للعقيلي (3/ 264 - 265) "الكامل" (5/ 1798).

البزّار (¬1): ليِّنٌ. وأخرجه البزّار أيضًا، وأبو يعلى، والطراني من حديث (¬2) عبد الله بن عمرو بنحو حديث أبي موسى، وفي إسناده الأفريقيُّ (¬3)، وهو ضعيفٌ، لكن ليس بقويِّ الضَّعْفِ، بل حديثُه إذا تُوبِعَ عليه صار حسنًا. وأخرجه أيضًا الطبرانيُّ (¬4)، والعقيليُّ (¬5)، وابن حبّان في الضعفاء (¬6) من حديث زيد بن أرقم، وفيه ثابت بن زيد، وهو ضعيفٌ، ولكنه قد رواه ابن أبي شيبة من حديث أمية بنت زيد بن أبي أرقم عن أبيها. ¬

(¬1) في "المسند" (1/ 467). وخلاصة القول أن الحديث حسن لغيره. (¬2) عزاه إليهم الزيلعي في "نصب الراية" (4/ 224) ولم يورده الهيثمي في "المجمع". قلت: وأخرجه الطيالسي في "المسند" رقم (2253) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 251) وفي "شرح مشكل الآثار" رقم (4819) وابن أبي شيبة في "المصنف" (8/ 352) بسند ضعيف. (¬3) هو عبد ارحمن بن زيادة بن أنعم الإفريقي ضعيف. انظر: "المجروحين" (2/ 50)، "الميزان" (2/ 561). وخلاصة القول أن حديث عبد الله بن عمرو صحيح لغيره. (¬4) في "الكبير" رقم (5125). (¬5) في "الضعفاء الكبير" (1/ 174). (¬6) لم أجده في "المجروحين" عند ترجمة ثابت بن زيد هذا. قلت: وأخرجه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" رقم (4820) و"شرح معاني الآثار" (4/ 251). وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/ 143) وقال: وفيه ثابت بن زيد بن ثابت بن أرقم، وهو ضعيف.

وأخرجه الطبرانيُّ (¬1) من حديث واثلَة بن الأسقع، وإسناده مقاربٌ كما قال الحافظ (¬2). وأخرجه أيضًا البزّار (¬3) من حديث ابن عباس بإسنادين واهيين، فهذا الحديث قد روي من هذه الطرق عن هؤلاء الصحابة، وهو إذا لم يكن صحيحا باعتبار طريق من هذه الطرق فهو حسنٌ لغيره باعتبار مجموعها، وهو معمولٌ به عند الجمهور، ومن خالفَ في العمل به، فإنما هو خلافٌ راجعٌ إلى اصطلاح في تسمية الحسن كما هو مبيَّن في مواطنه. الوجه الثاني: في الكلام على دلالته: اعلم أنَّ التحريمَ إذا تعلَّق بعينٍ من الأعيان فلا بدَّ من تقدير، لأنَّ المحرَّمَ في الحقيقة إنما هو فعلُ المكلَّف لا نفسُ تلك العينِ، فذهب جمعٌ من أهل الأصول (¬4) إلى أن المقدّر لا يكون عامًا إذا كان يتعلّق بتلك العين أفعالٌ كثيرةٌ من أفعال المكلّفين، وذهب جمعٌ منهم إلى تقدير الجميع، وعلى كل حال فلا يصحُّ أن يُقدَّرَ ما هو معلوم بالضرورة الدينية أنه حلالٌ كَلَمْسِ الذهبِ بالكف، أو حمْلِهِ، أو النظر إليه ولا يصحُّ [1ب] تقديرُ لُبْسِه أيضًا، لأنه لا يمكن أن يكون منسوجًا، والذي يوجدُ في ¬

(¬1) في "الكبير" (ج22 رقم 234) وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن المقدسي القشيري متروك الحديث. (¬2) انظر "التلخيص" (1/ 88 - 89). (¬3) في "المسند" (رقم 3006 ـ كشف) وقال: البزار: إسماعيل بن مسلم: ضعيف وقد روي هذا من غير وجهٍ وأسانيدها متقاربة. وأورده الهيثمي في "المجمع" (5/ 143): وقال: رواه البزار والطبراني في "الكبير" و"الأوسط" بإسنادين، في أحدهما: إسماعيل بن إسماعيل (كذا في الزوائد، والصواب. إسماعيل بن مسلم)، ابن مسلم المكي وهو ضعيف، وقد قيل: فيه صدوق يهم. وفي الآخر إسلام (كذا في الزوائد، والصواب سلام) الطويل وهو متروك. (¬4) انظر "إرشاد الفحول" (ص453)، "البحر المحيط" (3/ 162).

الثياب ويسميه الناسُ ذهبًا ليس بذهب، بل هو فضة كما يعرفُ ذلك من يعرفُهُ، بل كل ذهبٍ يجعلُه الإنسان على بدَنِه كالطوقِ والسوارِ ونحوِها والحلقةِ ونحوِها يقال له في لغة العرب حليةً (¬1)، وكذا ما يجعلُه على سلاحِه. فإن كان المقدّر هو واحدٌ فينبغي أن يكون هو التحلِّي، وإن كان المقدر عامًّا فينبغي أن لا يشملَ ما عُلم بالضرورة أنه حلالٌ من المنافع. وعلى كل حال فالتَّحلي هو أظهرُ ما يقدَّر إن لم يكن هو المقدَّر وحدَه، وأما الأكلُ والشربُ في آنية الذهب فقد ثبت تحريمُه بدليل على أنه لا يمتنعَ أن يُقدَّرا كما قدِّر التحلِّي فيقال: الذهبُ حرامٌ على الذكور أن يتحلَّوا به، أو يأكلوا أو يشربوا في آنيته. فإن قلتَ: فقد أخرج أحمدُ (¬2) والنَّسائيّ (¬3) من حديث معاوية قال: "نهى رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ عن ركوب النمارِ، وعن لُبْسِ الذهب إلاّض مُقَطَّعًا". قلتُ: يمكنُ أنْ يرادَ باللُّبس هنا معناه الأعمُّ، أعني المخالطةَ والملابسةَ، ومثلُه ما أخرجه أبو داود (¬4) من حديث المقدامِ بن معدي كربَ، وفيه النَّهيُ عن لبس الذهب والحرير، على أنَّه لو فُرِضَ أنه يمكن لُبْسُهُ غيرُهُ من الثياب لم يكن ذلك مانعًا من تقديره كما يُقدَّرُ التحلِّي (¬5). ¬

(¬1) انظر "النهاية" (1/ 435). (¬2) في "المسند" (4/ 95). (¬3) في "السنن" (7/ 176 - 177). وهو حديث صحيح. (¬4) في "السنن" (4131) وهو حديث صحيح. (¬5) قال العمراني في "البيان في مذهب الإمام الشافعي" شرك كتاب "المهذب" كاملاً (2/ 536). مسألة: [حرمة الذهب على الرجال]: ويحرم على الرجل استعمال قليل الذهب وكثيره، لما روى عليٌّ رضي الله عنه: "أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن لبْس القسيِّ، وعن لبس المزعفر، وعن التختم بالذهب". وهو حديث صحيح. ويجوز للرجل أن يتخذ خاتمًا من فضة، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كان له خاتم من فضة فصّها منها، وكان يجعل فصّها إلى راحته". أخرجه البخاري رقم (5870) ومسلم رقم (62/ 2094) ... - قال الشوكاني في "نيل الأوطار" (1/ 602 - 603) ركوب النمار وفي رواية "النمور" وكلاهما جمع نمر بفتح النون وكسر الميم ويجوز التخفيف بكسر النون وسكون الميم وهو سبع أخبث وأجرى من الأسد وهو منقط الجلد نقط سود ـ وفيه شبه من الأسد إلا أنه أصغر منه، وإنما نهى عن استعماله جلوده لما فيه من الزينة والخيلاء ولأنه زي العجم وعموم النهي شامل للمذكى وغيره. قوله: وعن (لبس الذهب إلا مقطعًا) لا بد فيه من تقيد القطع بالقدر المعفوّ عنه لا بما فوقه. جمعًا بين الأحاديث. قال ابن رسلان في شرح سنن أبي داود: والمراد بالنهي الذهب الكثير لا المقطع قطعًا يسيرة منه تجعل حلقة، أو قرطًا أو خاتمًا للنساء أو في سيف الرجل، وكره الكثير منه الذي هو عادة أهل السرف والخيلاء والتكبر ".

الوجه الثالثُ: أنه أخرج أبو داودَ (¬1) من حديث أبي هريرة: "من أحبَّ أن يُحَلَّقَ حبيبَه بحلقةٍ من نار فلْيُحَلِّقْهُ بحلقةٍ من ذهب، ومن أراد أن يطوِّق حبيبه طوقًا من نار فليطوِّقْهُ طوقًا من ذهب، ومن أحبَّ أن يسوِّرَ حبيبَه بسوار من نار فلْيُسَوِّره بسوارٍ من ذهب، ولكن عليكم بالفضة فالْعبُوا بها". وقد سكت عليه أبو داود، وهو لا يسكت إلاَّ عن صالح للاحتجاج به، وكذلك سكتَ عليه المنذريُّ (¬2) في تخريجه مع كثرة تحرِّيه، وعدمِ إهماله للكلام على ما يستحقُّ الكلام عليه. وأقول: هذا الحديثُ إسناده صحيحٌ؛ فإنه قال أبو داود في السنن (¬3): حدثنا عبد الله ابن مسلمةَ، حدثنا عبد العزيز بن محمدٍ، عن أُسيْدِ بن أبي أسيد البراد، عن نافع بن عياش، عن أبي هريرةَ، فعبدُ الله بن مسلمة هو القعنبيُّ، وهو إمام قد اتفق أهلُ الأمَّهات ¬

(¬1) في "السنن" رقم (4236). قلت: وأخرجه أحمد (2/ 334، 378). وهو حديث حسن. (¬2) في "مختصر السنن" (6/ 123 - 124 رقم 4071). (¬3) في "السنن" (4/ 436).

على إخراج حديثه، وهو متَّفقٌ على توثيقه، وأسيد بنُ أبي أسيد قال في التقريب (¬1): صدوقٌ، وقال ابن رسلان (¬2): صدوقٌ أيضًا، ونافعُ بنُ عياش قال في التقريب (¬3): ثقةٌ من الثالثة، وقال ابن رسلان (¬4): ثقةٌ فاضلٌ. وقد أخرج الطبرانُّ في الكبير (¬5) والأوسط (¬6) من حديث سهلٍ أنَّ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ قال: "من أحبَّ أن يسوِّر ولده سوارًا من نار فليسوره سوارًا من ذهب، ولكنِ الفضةُ العبوا بها كيف شئتم" قال في مجمع الزوائد (¬7): وفي إسناده عبد الرحمن بنُ زيد بن أسلمَ، وهو ضعيف. وأخرجَ أحمدُ (¬8) من حدث أبي موسى نحو حديث أبي هريرة المتقدم، وفي آخره: "ولكن عليكم بالفضة العبوا بها لعبًا" وحسَّنه صاحبُ مجمع الزوائد (¬9) فهذه الأحاديث فيها تحريم هذه الأنواعِ من الحليةِ، ولا فرق بينها وبين غيرها مما يصدُق عليه اسم الحلية. الوجه الرابع: أخرج أبو داود (¬10)، والنسائي (¬11) من حديث رِبعيْ بن خراش عن ¬

(¬1) (1/ 77 رقم 580). وهو أسيد بن أبي أسيد البرّاد، أو سعيد المديني. (¬2) انظر "عون المعبود" (11/ 199). (¬3) (2/ 295 رقم 18). (¬4) انظر "عون المعبود" (11/ 199). (¬5) (6/ 150 رقم 5811). (¬6) رقم (7296). (¬7) (5/ 147). (¬8) في مسنده (1/ 263 - 264). (¬9) (5/ 147). (¬10) في "السنن" رقم (4237). (¬11) في "السنن" رقم (5140) وهو حديث ضعيف.

امرأته، عن أختٍ لحذيفة أنَّ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ قال: "يا معشر النِّساء أما لكنَّ في الفضة ما تحلَّين به، أما إنه ليس منكنَّ امرأةٌ تحلَّى ذهبًا تظهرهُ إلاَّ عذِّبتْ به" وامرأةُ ربعي مجهولةٌ. ولكن يشهدُ له ما أخرجه أبو داود (¬1) والنَّسائي (¬2) من حديث أسماءَ بنت يزيد أنَّ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ قال: "أيُّما امرأة تقلَّدت قلادةً من ذهب قُلِّدت في عُنُقِها مثلُهُ من النار يومَ القيامة، وأيُّما امرأة جعَلَت في أُذُنِها خِرْصًا من ذهب جُعِلَ في أُذُنِها مثلُه من نار يومَ القيامة" (¬3). والحديث الأولُ والآخرُ إذا دلاَّ على تحريم التحلِّي بالذهب للنساء فدلالتُهما على تحريم ذلك على الرجال بفحوى الخطاب، ¬

(¬1) في "السنن" رقم (4238). (¬2) في "السنن" رقم (5142). وهو حديث ضعيف. - قال الألباني في "آداب الزفاف" (ص259): والجواب من وجهين: الأول: رد الحديث من أصله لعدم ثبوته فإنه في سنده امرأة ربعي وهي مجهولة كما قال ابن حزم (10/ 83). ثانيًا: لو كانت العلة هي الإظهار، لكان لا فرق في ذلك بين الذهب والفضة لاشتراكهما في العلة مع أن الحديث صريح في التفريق بينهما، ولا قائل بحرمة خاتم الفضة على المرأة مع ظهوره، فثبت بطلان التمسك بعلة الإظهار ولهذا قال أبو الحسن السندي: " (تظهره) يحتمل أن تكون الكراهة إذا ظهرت وافتخرت به لكن الفة مثل الذهب في ذلك، فالظاهر أن هذه الزيادة التقبيح والتوبيخ. والكلام لإفادة حرمة الذهب (يعني المحلِّق) للنساء مع قطع النظر عن الإظهار والافتخار". وهذا كله يقال على افتراض صحة الحديث، وإلا فقد عرفت صفته فسقطالاستدلال به أصلاً. (¬3) قال الخطابي في "معالم السنن" (4/ 437) وهذا يتأول على وجهين: أحدهما: إنَّه لما قال ذلك في الزمان الأول، ثم نسخ وابيح للنساء التحلي بالذهب. وقد ثبت أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام على المنبر وفي إحدى يديه ذهب وفيه الأخرى حرير، فقال: "هذان حرام على ذكور متي حلال لإناثها". والوجه الآخر: أن هذا الوعيد إنما جاء فيمن لا يؤدي زكاة الذهب دون من أداها.

وهذا هو مرادُنا من ذكرِ هذين الحديثين، وقد اختلفت الأحاديث في تحلِّي النساء بالذهبِ، وجمعنا في ذلك رسالة (¬1) جوابٍ عن سؤال ورد من بعض الأعلام ذكرنا فيها الجمعَ بين الأحاديث المختلفةِ في تحلِّي النساء بالذهب. الوجه الخامس: أخرج أحمد (¬2) من حديث عبد الرحمن بن غُنْمٍ قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "من تحلَّى ذهبًا، أو حلَّى بَخْرَ بصيصة من ذهب كُوي به يوم القيامة". قال في مجمع الزوائد (¬3): فيه شهرُ بنُ حوشبٍ، وهو ضعيفٌ يكتُبُ حديثُه، وبقيةُ رجاله رجال الصحيح. قلت: وقد أخرج حديثَ شهرٍ مسلمٌ في صحيحه (¬4)، والبخاريُّ في الأدب المفرد، وأهلُ السنن. وقال في التقريب (¬5): هو صدوقٌ [2ب] كثيرُ الإرسال والتدليس انتهى. ولكنَّ هذا الحديث لا إرسال فيه. قال في النهاية (¬6) ما لفظه: مَنْ تحلَّى ذهبًا، أو حلاه ولده مثلَ خُرَبْصيْصةٍ هي الهيئة التي تتراءى في الرمل لها بصيص كأنها عين جرادةٍ. ومنه الحديثُ: "أن نعيمَ الدنيا أقلُّ وأصغر من خربصيصةٍ" انتهى. فهذان الحديثان يدلاَّن أبلغ دلالة على تحريم التحلي بالذهب، وإن كان شيئًا يسيرًا كالخردلة وما دونَها مما يدركه الطرفُ. والحليةُ تصدقُ على ما هو متصلٌ بالبدن كالطوق، والسوار، وعلى ما هو منفصلٌ عنه ومتّصل بما يتصلُ به من الثياب الملبوسة كحلية السيف، والجنبيةِ، ونحوهما، لأنَّ الكلَّ يحصلُ به الزينةُ. قال في القاموس (¬7): ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (137). (¬2) في "المسند" (4/ 227). بسند ضعيف. لضعف شهر بن حوشب. (¬3) (5/ 147). (¬4) لم أجده. (¬5) رقم (2830). (¬6) (2/ 19). (¬7) (ص1647).

الحَلْيُ بالفتح ما تُزُيِّنَ به مصنوع المعدنيات أو الحجارة، الجمع حلِيٌّ كدُلي، أو هو جمع، الواحدة حليةٌ كظبيةٌ بالكسر الحَلْيُ، الجمعُ حِلَّى وحُلَّى، حلَّى السيفَ، وحلاته وحلَّيتُه، وحَلِيتِ المرأةُ كرَضيَ حلْيًا فهي حالٍ وحاليةٌ استفادتْ حَلْيًا أو لبستْه كَتحلَّتْ أو صارتْ ذات حَلْيٍ، وحلاَّها تحليةً ألبسها حَلْيًا أو اتَّخذه لها، انتهى. وقال في النهاية (¬1): الحَلْيُ اسمٌ لكل ما يُتزيّن به من مصاغ الذهب والفضة، والجمع حِلي بالضم والكسر انتهى. ولا شك أن الزينة تحصلُ بالحلية التي توضع على البدن بدون حائل، كالطوق، والسِّوار، وتحصل بالحلية التي بينها وبين البدن حائلٌ، كالمناطق التي توضع فوق الثياب، وكالسيف المحلَّى، ونحوِ ذلك. ومَنْ أنكر هذا فهو مكابرٌ ومخالفٌ لما يفيده لغةُ العرب، ولما يفهمه أهلُ اللغة منها، فما كان مثلَ عين الجرادة من الذهب فالتحلّي به حرامٌ، سواء كان على البدن، أو على شيء متصل به ـ بالبدن ـ، كالسيف والمنطقة، والجنبية إذْ صدقَ اسمُ الحلية عليه لغةً فلا يدخلُ في ذلك ما وضعه الإنسان في كُمِّه، أو طرف ثوبه، أو وسطه من الذهب لقصدا لانتفاع به بوجٍ من الوجوه كصرفه في حوائجه أو التداوي به أو نحوِ ذلك، فإن هذا ليس بحليةٍ لا لغةً، ولا شرعًا، ولا عُرفًا. الوجه السادس: أخرج أحمدُ (¬2) بإسناد رجالُهُ ثقاتٌ من حديث ابن عمرو عن النبيّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: "من مات من أمّتي وهو متحلٍّ بالذهب حرَّمَ الله عليه لباسه في الجنة"، وأخرجه الطبرانيُّ (¬3) أيضًا وهو يدلُّ على تحريم التحلّي بالذهب من غير فرقٍ بين قليله وكثيره، وبين ما كان منه متصلاً بالبدن أو بينَه وبين البدن حائلٌ، ¬

(¬1) (1/ 435). (¬2) في "المسند" (2/ 208) بإسناد صحيح. (¬3) عزاه إليه الهيثمي في "المجمع" (5/ 146) وقال: رواه أحمد والطبراني وزاد ومن مات من أمتي يشرب الخمر حرم الله عليه شربها في الآخرة.

وهو [3أ] عليه أنه حليةٌ، ويصدق على من هو عليه أنه مُتَحلٍّ. الوجه السابع: أخرج النّسائي (¬1)، والحاكم (¬2)، وقال: صحيحٌ على شرط الشيخين من حديث عقبة بن عامر أن رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ كان يمنع أهل الحلية والحرير ويقول: "إنكم تحبُّون حليةَ الجنةِ وحريرَها، فلا تلبسوهما في الدنيا". وفيه التصريح بالنّهي عن لُبْسِ الحلية، وأهل اللغة يقولون: لبسَ السلاحَ لبس لامة الحرب كما يقولون: لبس الثوب. وأما الفرق المذكور في كتب الفقه بين المحمول والملبوس فاصطلاحٌ غيرُ مستندٍ إلى لغة العرب، ولا إلى حقيقة الشرع. الوجهُ الثامن: حديثُ النَّهي عن لبس الذهب إلاَّ مقطَّعًا، وحديثُ النهي عن لبس الذهب والحرير، وقد تقدما في الوجه الثاني. وتقرير الاستدلال بهما كتقدير الاستدلال بالحديث المذكور في الوجه السابع. الوجه التاسعُ: حديث أبي أمامة أنه سمع رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ يقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيلا يلبس حريرًا ولا ذهبًا" أخرجه أحمدُ (¬3) بإسناد رجالُه ثقاتٌ، وتقريرُ الاستدلال به كما سبقَ. الوجه العاشرُ: قد ثبت في أحاديث النهي عن خاتم الذهب أنه علَّل ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ ذلك بأنه جمرةٌ من نار كما في صحيح مسلم (¬4) من حديث ابن عباس، وكما في حديث أبي سعيد عند النسائي (¬5)، وهذه العلّة المنصوصة مشعِرةٌ بأنه لا فرق بين ¬

(¬1) في "السنن" (8/ 156 رقم 5136). (¬2) في "المستدرك" (4/ 191) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال الذهبي لم يخرجا لأبي عشانة. وهو حديث صحيح. (¬3) في مسنده (1/ 265 رقم 107 ـ الفتح الرباني). (¬4) في صحيحه رقم (52/ 2090) عن ابن عباس أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى خاتمًا من ذهب في يد رجلٍ، فنزعه فطرحه وقال: "يعمد أحدُكم إلى جمرةٍ من نارٍ فيجعلها في يده". (¬5) في "السنن" (8/ 170 رقم 5188): عن أبي سعيد الخدري أنّ رجلاً قدم من نجران إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليه خاتم من ذهب فأعرض عنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال إنَّك جئتني وفي يدك جمرةٌ من نار". وهو حديث صحيح.

غيرِه من أنواع حلية الذهب؛ إذ لا تأثير لكونه ذهبًا في موضع خاصّ من البدن، وهو الأُصبع بل لكونه حليةً. فتقرر بجميع هذه الأدلة المذكورة في هذه الوجوه العشَرَةِ أن حليةَ الذهب محرَّمةٌ على الرجال. أما الحديثُ المذكور في الوجه الأول فالتصريح فيه بالتحريم، وأمَّا الحديثُ المذكور في الوجه الثالث فالتصريح فيه بأن تلكَ الحلية من الذهب تكون نارًا، وكذلك الحديثان المذكوران في الوجه الرابع، ومثل ذلك الحديثان المذكوران في الوجه الخامس، وأما الحديث المذكور في الوجه السادس فللتصريح فيه تارةً أنه يحرُم عليه لباسُهُ في الجنة، وأما الحديثُ المذكور في الوجه السابع فللتصريح فيه بالنهي، وكذلك الحديثان المشار إليهما في الوجه الثامن، وكذلك الحديثُ المذكورُ في الوجه التاسع، وأمَّا أحاديث الخاتَمِ فلما ذكرنا هنا في العلَّة من العلة المنصوصة المقتضية أنه لا فرق بين الخاتم وغيره، المصرِّحة بأنه جمرةٌ من نار، وقد تقرَّر في الأصول (¬1) أنَّ النهي عن الشيء [3ب] أو التوعُّد عليه بالعذاب، أو بدخول النار، أو بأنه يحرُم على فاعله في الجنة يقتضي كلُّ واحد منها التحريمَ فكيف إذا كانت مجتمعةً!. الوجهُ الحادي عَشَرَ: في الحديث الذي عورضتْ به هذه الأحاديثُ في بعض أنواع الحلية، وذلك حليةُ السلاح، أخرجه الترمذيُّ (¬2) وقال (¬3): حسنٌ غريب عن طالب بن حُجَيْر، حدثنا هُودُ بن عبدِ الله بن سعد عن جدِّه مزيدَةَ قال: دخل النبيّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ يوم الفتح وعلى سيفه ذهبٌ وفضةٌ. قال طالبٌ: فسألتُ عن القبيعة ¬

(¬1) انظر "إرشاد الفحول" (ص384)، "تيسير التحرير" (1/ 375). (¬2) في "السنن" رقم (1690) وهو حديث ضعيف. (¬3) الترمذي في "السنن" (4/ 200).

قال: كانت قبيعةُ سيفه فضةً. هكذا ساقه الحافظُ في التخليص (¬1)، ولم يتكلَّم عليه، بل اقتصر على نقل تحسين الترمذيّ له. وقد قال في التقريب (¬2) ما لفظه: طالب بنُ حجير بمهملةٍ وجيمٍ، مصغَّرٍ العبديُّ البصريُّ صدوقٌ من السابعة. وقال فيه (¬3) أيضًا ما لفظه: هودُ بن عبد الله العبديّ مقبولٌ من الرابعة انتهى. فعلى هذا يكون الحديثُ حسنًا كما قال الترمذي (¬4)، ولكنه قد ورد (¬5) ما هو أرجحُ منه مصرِّحًا بأن قبيعةَ سيفه كانت فضةً، وهو من رواية جرير بن حازم عن قتادة عن أنس، ورواه هشامٌ عن قتادةَ عن سعيد بن أبي الحسن مرسلاً، ورجَّح (¬6) المرسلَ أحمدُ، وأبو داودَ (¬7)، والنسائي (¬8)، وأبو حاتم، والبزار، والدارميُّ، والبيهقي، وقال: تفرد به جرير بنُ حازم، قال الحافظ (¬9): لكن أخرجه الترمذيُّ (¬10) والنسائي (¬11) من حديث هُمامٍ عن قتادةَ عن أنس، وله طريقٌ غيرُ هذه رواها النّسائي (¬12) من حديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: كانت قبيعة سيف رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ من فضة. وإسنادُهُ صحيح. ورواه الطبرانيّ في الكبير (¬13) من حديث محمد بن حمير، حدثنا أبو الحكم الصيقل، ¬

(¬1) (1/ 85). (¬2) (1/ 377 رقم 13). (¬3) أي ابن حجر في "التقريب" (2/ 322 رقم 199). (¬4) الترمذي في "السنن" (4/ 200). (¬5) أخرجه الترمذي في "السنن" رقم (1691) وهو حديث صحيح. (¬6) عزاه إليهم ابن حجر في "التلخيص" (1/ 85). (¬7) في "السنن" رقم (2583). (¬8) في "السنن" (8/ 219 رقم 5374). (¬9) في "التلخيص" (1/ 85). (¬10) في "السنن" (4/ 201). (¬11) في "السنن" (8/ 219). (¬12) في "السنن" (8/ 219 رقم 5373). (¬13) (20/ 360 رقم 844). وأورده الهيثمي في "المجمع" (5/ 271) وفيه أبو الحكم الصيقل ولم أعرفه وبقية رجال ثقات.

حدثني مرزوق الصيقل أنه صقلَ سيفَ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ ذا الفقار، وكانت له قبيعةٌ من فضة. هذا صحابيان قد رفعاه كما رفعه جرير بن حاتم على أنه لو لم يكن في الباب إلاَّ حديثُ أنس مع الاختلاف في رفعه وإرسالِهِ لكان الرفعُ زيادةً يجيب المصيرُ إليها، فمن عَلِمَ حُجَّةٌ على من لم يعلم، ولا سيما وقد تابعَ جريرَ بن حازم (¬1) على رفعه [4أ] همامٌ، لكنَّ الشأن في مخالفة هذه الأحادي المصرِّحة بأن قبيعة سيفه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ كانت فضةً لحديث (¬2) طالبِ بن حُجَيْرٍ المذكورٍ سابقًا، مع تصريحه بعد تمام حديثه بأن سأل عن قبيعة السيف فقيل له كانت فضة، فإن لم نعتبر هذه المخالفة، وقلنا: الرواية المصرِّحة بالذهب والفضة مشتملةٌ على زيادة مقبولة، ولا سيما في حديث طالب بن حجير أنّ الذهب كان على القبيعة، بل على السيف، فلا منافاة بينه وبين الروايات المصرِّحة بأن القبيعة كانت من فضة، فإن القبيعة هي التي تكون على رأس قائم السيف وطرف مَقْبَضِهِ، وقيل: ما تحتَ شاربي السيفِ، وقيل ما فوق المقبضِ. وعلى كل حال فالقبيعة موضعٌ خاصٌّ من السيف، فلا تَعَارُضَ بين الروايات، وقال الحافظ الذهبيُّ في حرف الطاء من الجزء الثاني من الميزان (¬3) ما لفظه: طالبُ بنُ حَجير عن هود بن عبد الله بنِ سعيد عن جده مَزِيدَة العَصري قال: دخل رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ يوم الفتح وعلى سيفِهِ ذهبٌ وفضة كانت قبيعةُ السيف فضةً، قال الترمذي (¬4): حسنٌ، وقال الحافظ (¬5) أبو الحسن القطان: هو عندي ضعيفٌ لا حَسَنٌ، ¬

(¬1) كذا في المخطوط ولعل الصواب حاتم كما تقدم آنفًا. (¬2) تقديم تخريجه وهو حديث ضعيف. (¬3) (2/ 333 رقم 3971). (¬4) (4/ 200). (¬5) في "الميزان" (2/ 333).

وصدق أبو الحسن. قلتُ: تفرَّد به طالب، وهو صالحُ الأمر إن شاء الله، وهذا منكر، فما علمنا في حلية سيفه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ ذهبًا. انتهى (¬1). الوجه الثاني عشر: في كيفية الجمع بين الأحاديث المتقدِّمة المصرِّحة بتحريم الذهب أو المستلزمة لذلك، وبين هذا الحديث المذكور في الوجه الذي قبل هذا أنّه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ دخل يوم الفتح وعلى سيفه ذهبٌ وفضةٌ. اعلم أنه قد صرّح أهل الأصول (¬2) بأنه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ إذا أمر بشيء أو نهى عن شيء، ثم تركَ ما أمرَ بفعلِه، أو فعلَ ما نَهَى عن فعله، فإن كان ذلك الأمرُ أو النهيُ ونحوُهما يختصَّان بالأمَّة، ولا يشملانِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ لا بطريق التنصيص، ولا بطريق الظهور كما إذا قال لا يحلُّ لكم، لأحدِكم، لا تفعلوا، أو افعلُوا أو هذا حرامٌ عليكم، أو واجبٌ على الأمَّة، أو واجبٌ أو حرامٌ عليها، فلا معارضة بين أمره أو نهيه لنا، وبين فعله أو تركِه المخالفِ لما أمرَ به أو نهى عنه [4ب]، وإن كان الأمرُ أو النهيُ أو نحوُهما يشملانِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ بطريق الظهور كأن يقول: ليفعل كلُّ مسلم كذا، أو لا يفعلْ، أو مَنْ فعلَ، أو هذا واجبٌ على المسلمين، أو حرام، فإنَّ فِعْلَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ لِمَا نهى عنه، وترْكَهُ لما أمر به يكون مخصِّصًا له من ذلك العموم، فيكون ذلك الفعلُ أوِ التَّركُ من خصوصياته، وإن كان ما أمر به أو نهى عنه أو نحوُهما يتناوله بطريق التنصيص عليه كأن يقول: أُمِرْتُ وأمرتم، أو نُهيتُ ونُهيتم عن كذا، أو يقول: واجبٌ عليَّ وعليكم، أو حرام عليّ وعليكم، ثم فعل ما يخالفُ ذلك كان هذا الفعل نسْخًا لما تقدَّمه من الأمر أو النهي أو نحوِهما في حقِّه. هذا إذا لم يظهر دليل يدلُّ على التأسّي به كان هذا الفعل ناسخًا لما تقدّمه من الأمر أو ¬

(¬1) كلام الذهبي في "الميزان" (2/ 333). (¬2) انظر "إرشاد الفحول" (ص170 - 180)، "تيسير التحرير" (1/ 252)، "العدة" (1/ 260).

النهي المخالفين له في حقِّه، وحق الأمَّة، أو دليلاً على الجواز في جانب الفعل والتّرك. إذا تقرر هذا فاعلم أنّه لم يكن في دخوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ يوم الفتح بسيف عليه ذهبٌ وفضة ما يدلُّ على التأسِّي به في ذلك، فلا يكون مخالفًا للأحاديث الدالّة على تحريم التحلّي بالذهب. لا يقالُ: إن أدلة التاسِّي العامّة كقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (¬1)، وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} (¬2) وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬3) ونحو ذلك، لأنا نقول: إن أدلة تحريم التحلِّي بالذهب على الأمة أخصُّ مطلقًا من أدلة التأسِّي العامّة، فتكون مخصِّصة بها. وقد صرح بهذا أهلُ الأصول. فإن قلت: أبِنْ لي ما زعمتَه من عدم المعارضة بين حديث تحلية سيفه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ بالذهب، وبين بعض الأحاديث التي سردتَها في تحريم الذهب، وكيفية التخصيص في البعض الآخر. قلتُ: أما الحديث المذكورُ في الوجه الأول فلا معارضة، لأنّه مصرِّحٌ بأن التحريم على ذكور أمَّته ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ، وهو ليس من ذكور أمَّتهِ، إذ المضافُ غيرُ المضاف إليه، والأمَّةُ هم المؤتمونَ به، المتابعون، وهو الإمام المتبوع والإمام غير المأموم، والتابعُ غيرُ المتبوع. وأم الحديثان المذكوران [5أ] في آخر الوجه الثاني، وهما المشارُ إليهما في الوجه الثامن فليس فيهما إلاَّ مُطْلَقُ النَّهي، فإن كان المخاطِبُ (¬4) غيرَ داخلٍ في الخطاب فلا ¬

(¬1) [الأحزاب: 21]. (¬2) [آل عمران: 31]. (¬3) [الحشر: 7]. (¬4) قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" (ص446 - 447): بعد أن ذكر الاختلاف في هذه المسألة. - ذهب الجمهور إلى أنه يدخل ولا يخرج عنه إلا بدليل يُخصِّصه. - وقال أكثر أصحاب الشافعية إنه لا يدخل إلا بدليل. - قال ابن برهان في "الأوسط": ذهب معظم العلماء إلى أن الأمر لا يدخل تحت الخطاب ونقل القاضي عبد الجبار وغيره من المعتزلة دخوله. وخالف ابن برهان في نقله عن معظم العلماء الرازي في "المحصول" (2/ 379) وابن الحاجب في "مختصر المنتهى" (2/ 127) ... ". قال الشوكاني: والذي ينبغي اعتماده أن يقال إن كان مراد القائل بدخوله في خطابه أن ما وضع للمخاطب يشمل المتكلّم وضعًا فليس كذلك، وإن كان المراد أن يشمله حكمًا فمسلّم إذا دل عليه دليلٌ وكان الوضع شاملاً له كألفاظ العموم. وانظر: "البحر المحيط" (3/ 192)، "نهاية السول" (2/ 82).

معارضةً، وإن كان داخلاً فهما شاملان له بطريق الظهور، فيكون تحليةُ سيفه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ تخصيصًا له في ذلك الأمر الخاصّ من الحلية دون ما عداه. وأما الحديث المذكور في الوجه الثالث فإذا كانت صيغة العموم (¬1) في قوله: "من أحبّ أن يحلّق حبيبه" شاملةً له، وكانت أيضًأ شاملةً لجميع أنواع الحلية بفحوى الخطاب أو بلحنِهِ فيكون حديثُ تحلية سيفه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ مخصِّصًا له. وأما الحديثان المذكوران في الوجه الرابع في نهي النساء عن حلية الذهب، فإذا كان داخلاً كغيره من المسلمين بفحوى الخطاب فتحليةُ سيفه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ مخصِّصةٌ له من عموم دليل الفحوى، وهكذا يكون مخصِّصًا له من عموم الحديثين المذكورين في الوجه الخامس، لما فيهما من الصيغة العامة له بطريق الظهور. وأما الحديث المذكور في الوجه السابع؛ فإن الخطاب لغيره. وأما الحديثُ المذكور في الوجه التاسع فالقبيعةُ (¬2) تشمله بطريق الظهور، فيكون تحليةُ ¬

(¬1) انظر "إرشاد الفحول" (ص404)، "البحر المحيط" (3/ 64). (¬2) القبيعة: هي التي تكون على رأس قائم السيف. وقيل: هي ما تحت شاربي السيف. "النهاية" (4/ 7).

سيفِه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ مخصِّصة له فيتلك الحلية الخاصة، وهكا ما ذكر في الوجه العاشر؛ فإن التعليل بأن الخاتَمَ الذهب جمرةٌ من نار يشملُه، فيكون تحليةُ سيفِه بالذهب مخصِّصةً له في ذلك النوع الخاصّ على ما قررناه من دلالة العلة على تحريم حلية الذهب على العموم. فتقرَّر لك من جميع ما حررناه أن التحلِّي بالذهب لا يحلُّ سواءٌ كانتِ الحليةُ متصلةً بالبدن كالطوقِ والسِّوارِ، أو كان بينَها وبينَه حائلٌ كمِنْطَقَةِ الذهب، وحليةِ السيفِ، والدِّرع، والجنبيةِ من غيرِ فرقٍ بينَ القليلِ والكثيرِ كما تقدم في حديث الخربصيصة (¬1)؛ فإنَّ مَنْ جعل على سيفِه أو درعِه أو جنبيته حرفًا من حروف الذهب المعروفة فقد جعل عليه زيادةً على مائة خربصيصةٌ، ومن قال: نحلية الرجل أو درْعَهُ، أو نحوَهُما ليست بحليةٍ للرجل فقد [5ب] خالف اللغةَ والشرعَ والعُرْفَ؛ فإن الرَّجُلَ إنما يجعلُ الحلية على السيف ونحوِه ليتزيَّنَ بها. وأما تزيين الجماد فليس مما يقصده العقلاء إلاَّ إذا أرادوا نفاقَهُ، ورفعَ ثمنه، وهذا صُنْعُ الصّاغةِ والباعة، وأهل التجارة لا صنعُ من يلبسُ السلاح ويتزيّن به، وبما عليه، ولو كانت الحلية حلالاً إذا كانت في شيء بينه وبين الجمس ما يمنعُ اتصالَه به لكان سوارُ الذهب الذي يكون زونُهُ رطلاً حلالاً إذا جُعِلَ بينَه وبين البدن ما يمنعُ اتصالُه من ثوبٍ أو جلدٍ أو نحوِها، أو كان على صفيحةٍ من فضةٍ أو نحوها، وهذا لا يقولُ به مَنْ يفهمُ لغةَ العرب، ويعرفُ مقاصدَ الشرع. الوجه الثالثَ عشرَ: اعلم أنه لم ينهضْ دليلٌ على تحريم استعمالِ الذهب والفضةِ، بل الحديثُ الصحيح (¬2) المجمع عليه، وما ورد في معناه من الأحاديث ¬

(¬1) تقدم توضيح معناه. (¬2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (5634) ومسلم رقم (1/ 2065) عن أم سلمة: "أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إن الذي يشرب في إناء الفضة إنّما يجرجر في بطنه نار جهنم".

الصحيحة (¬1) المصرِّحة بتحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضةِ، والتوعُّدِ على ذلك بأن من فعله فإنما يُجَرْجرُ (¬2) به في بطنه نار جهنم لا يدلّ على إلحاق سائر الاستعمالات بهما، لا بفحوى الخطاب ولا بِلَحْنِهِ. ولا يدلُّ عليه بمطابقة، ولا تضمّن، ولا التزام. وهكذا لم يرِدْ ما يدلُّ على منع اتخاذ آنية الذهب والفضة لغير الأكل والشرب (¬3)، وإنما ¬

(¬1) منها: ما أخرجه البخاري رقم (5426) ومسلم رقم (2067) من حديث حذيفة قال: "سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها، فإنَّها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة". (¬2) أي يحدر فيها نار جهنم، فجعل الشرب والجرع جرجرة، وهي صوت وقوع الماء في الجوف. قال الزمخشري: يروى برفع النار، والأكثر النَّصب، وهذا القول مجاز، لأن نار جهنم على الحقيقة لا تجرجر في جوفه، والجرجرةُ. صوت البعير عند الضجر، ولكنّه جعل صوت جرع الإنسان للماء في هذه الأواني المخصوصة لوقوع النذهي عنها واستحقاق العقاب علىاستعمالها كجرجرة نار جهنم في بطنه في طريق المجاز. هذا وجه رفع النار. ويكون قد ذكر يجرجر بالياء للفصل بينه وبين النار. فأمّا على النّصب فالشارب هو الفاعل، والنّار مفعوله، يقال جرجر فلان الماء إذا جرعه جرعًا متواترًا له صوت. فالمعنى كأنّما يجرع نار جهنم. " النهاية" (1/ 255)، "فتح الباري" (10/ 97). (¬3) قال القرطبي في "المفهم" (5/ 345): وهذا الحديث ـ أي حديث أم سلمة ـ دليل على تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب، ويُلحق بهما ما في معناهما مثل: التطيُّب، والتكحُّل وما شابه ذلك وبتحريم ذلك قال جمهور العلماء سلفًا وخلفًا. ورُوي عن بعض السلف إباحة ذلك، وهو خلاف شاذّ مطّرح للأحاديث الصحيحة الكثيرة في هذا الباب. وانظر: "فتح الباري" (10/ 97 - 98). - وقال القرطبي في "المفهم" (5/ 345 - 346): ثم اختلف العلماء في تعليل المنع، فقيل: إن التحريم راجعٌ إلى عينهما. وهذا يشهد له قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هي لهم في الدنيا، ولنا في الآخر". وقيل: ذلك مُعلّل بكونهما رؤوس الأثمان، وقيم المتلفات. فإذا اتخذ منهما الأواني قلّت في أيدي الناس، فيجحف ذلك بهم. وهذا كما حُرِّم فيهما رب الفضل، وقد حسّن الغزاليّ هذا المعنى، فقال: إنهما في الوجود كالحكّام الذين حقهم أن يتصرفوا في الأقطار ليظهروا العدل، فلو منعوا نم التصرّف والخروج للناس لأخلّ ذلك بهم، ولم يحصل عدلٌ في الوجود. وصياغةُ الأواني من الذهب والفضة حبسٌ لهما عن التصرُّف الذي ينتفع به الناس. وقيل: إنّ ذلك معلّل بالسّرف، والتشبُّه بالأعاجم. قلت: ـ القرطبي ـ وهذا التعليل ليس بشيء لأنه يلزم عليه أن يكون اتخاذُ تلك الأواني، واستعمالها مكروهًا، لأن غاية السّرف والتشبّه بالأعاجم أن يكون مكروهًا، والتهديد الذي اشتمل عليه الحديث المتقدم مفيدٌ للتحريم لا للكراهة. وكلُّ ما ذكرناه من التحريم إنَّما هو في الاستعمال، وأما اتخاذ الأواني من الذهب والفضة من غير استعمال: فمذهبنا، ومذهب جمهور العلماء: أن ذلك لا يجوز. وذهبت طائفة من العلماء: إلى جواز اتخاذها دون استعمالها. وفائدة هذا الخلاف بناء الخلاف عليه في قيمة ما أفسد منها، وجواز الاستئجار على عملها. فمن جوّز الاتخاذ، قوّم الصياغة على مفسدها. وجوّز أخذ الأجرة عليها. ومن منع الاتخاذ، منع هذين الفرعين. فأما ما ضُبِّب من الأواني بذهبٍ، أو فضة أو كانت فيه حلقةٌ من ذهب أو فضةٍ. فذهب الجمهور إلى كراهة استعمال ذلك. وأجازه أبو حنيفة وأصحابه، وأحمد، وإسحاق إذا لم يجعل فمه على التضبيب أو الحلقة، وروي أيضًا مثله عن بعض السلف. قالوا: وهو كالعَلَم في الثواب والخاتم في اليد بشرب به، وقد استحبّ بعض العلماء الحلقةَ دون التضبيب. انظر: "المغني" (1/ 103 - 105).

ذكرنا هذا الوجْهَ لئلا يظُنّ ظانٌّ بأن هذا لا يحلُّ قياسًا على تحريم الحِلْية، أو على تحريم الأكل والشرب. الوجهُ الرابعَ عشرَ: "اعلم أنَّه لم يكن في شيء من الأحاديث السابقة ما يدلُّ على تحريم حلية الفضة، فالواجب البقاء على الأصل، وهو أنها حلالٌ استصحابًا للبراءة الأصلية، وعملاً بالعمومات القرآنية: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} (¬1) و {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} (¬2) ونحوِهما. ¬

(¬1) [الأعراف: 32]. (¬2) [البقرة: 29].

وقد زاد ذلك الأصل، وهذه العمومات تأييدًا وتأكيدًا الحديث المذكور في الوجه الثالث بلفظ: "ولكن عليكم بالفضة فالْعبوا بها لعبًا" (¬1) فيدخلُ في ذلك التحلّي بها بكل نوع من أنواع الحلية [6أ]، ولبسُها على كل هيئة من هيئات اللُّبس. وقد ورد ما يدلّ على جواز بعض أنواع الحلية، وهو مما يزيد ذلك الأصل، وتلك العمومات تأييدًا أيضًا كحديث اتخاذه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ لخاتم الفضة، وإرشاده إلى اتخاذه كما في حديث بريدة عند أهل السنن (¬2). قال: جاء رجل إلى النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ وعليه خاتمٌ من حديد فقال: "ما لي أرى عليك حلية أهل النار! " ثم جاءه وعليه خاتمٌ من صِفْرٍ، وفي رواية من شبهٍ فقال: "ما لي أجد منك رائحةَ الأصنام! " ثم جاءه وعليه خاتَمٌ من ذهب، فقال: "ما لي أرى عليك منك رائحةَ الأصنام! " ثم جاءه وعليه خاتَمٌ من ذهب، فقال: "ما لي أرى عليك حلية أهل الجنة! " فقال: فَمِنْ أي شيء اتّخذهُ؟ قال: "من ورقٍ" قال الترمذي (¬3): هذا حديث غريبٌ، وفي إسناده عبد الله بن مسلم أبو طيبة السُّلمي المروزي (¬4)، قاضي مَروْ، روى عبد الله بن بريدة وغيره. قال أبو حاتم الرازي (5): يُكْتَبُ حديثُه ولا يُحتَجُّ به، فجمع أنواع الحلية واللُّبس والاستعمال والانتفاع بالفضة حلالٌ لا يخرج من ذلك إلاَّ ما خصَّه الدليلُ، كالأحاديث المصرِّحة بتحريم الأكل والشرب في صِحافِهما. فإن قلت: قد روى أبو داود (¬6) من حديث ثوبانَ أن النبيّ ـ صلى الله عليه وآله ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) أخرجه أبو داود رقم (4223) والترمذي رقم (1785) وقال: هذا حديث غريب. والنسائي رقم (5198). (¬3) في "السنن" (4/ 248). (¬4) انظر: "ميزان الاعتدال" (2/ 504 رقم 4605). (¬6) أخرجه أبو داود رقم (4213). قلت: وأخرجه أحمد في "المسند" (5/ 275) بسند ضعيف. - حميد الشامي: قال ابن عدي: أنكر عليه حديثه عن سليمان المنبهي ولا أعلم له غيره قال الذهبي: ولا أخرج له أبو داود سواه في ذكر فاطمة وتعليقها الستر وتحلية ولديها بقلبين. " الميزان" (1/ 617). - وسليمان المنبهي: تفرد عنه حميد الشامي، وقال ابن معين: لا أعرفهما. "الميزان" (2/ 229). قال الألباني في "ضعيف أبي داود": ضعيف الإسناد منكر. - قال الإمام النووي في "شرحه لصحيح مسلم" (14/ 33) وعبارته: "وأما الصبيان فقال أصحابنا ـ أي الشافعية ـ يجوز إلباسهم الحلي والحرير في يوم العيد لأنّه لا تكليف عليهم، وفي جواز إلباسهم ذلك في باقي السنة ثلاثة أوجه: أصحها: جوازه. والثاني: تحريمه. والثالث: يحرم بعد سن التمييز" اهـ. قلت: لا فرق بين الصغير والكبير في الحرمة بعد أن كاد ذكرًا لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أدار هذا الحكم على الذكورة يقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هذان حرام على ذكور أمتي" ـ تقدم تخريجه وهو حديث صحيح ـ إلا أن اللابس إذا كان صغيرًا فالإثم على من ألبسه لا عليه لأنه ليس من أهل التحريم عليه. هذا إذا كان كله حريرًا وهو المصمت، وهذا ما قاله الحنفية ـ "بدائع الصنائع" (5/ 131) ـ والمالكية ـ "حاشية العدوى على الرسالة (2/ 412) ط: عيسى الحلبي ـ وهوا لراجح عند الحنابلة ـ "المغني" (2/ 304) لعموم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حرام لباس الحرير على ذكور أمتي لا لإناثهم".

وسلم ـ قدم من غزاةٍ، وكان لا يقدُم إلاَّ حينَ يقدُم ببيتِ فاطمةَ ـ رضي الله عنها ـ فوجدها قد علّقت سِترًا على بابها، وحلّت الحسَنَيْنِ بقلبين من فضةٍ، فتقدّم فلم يدخل عليها، فظنّت أنه إنما منعه أن يدخل ما رأى فهتكت السِّتر، وفكّت القلبين عن الصبيين فانطلقا إلى رسول الله يبكيان، فأخذه منهما وقال: يا ثوبان اذهب بهذا إلى آل فلان إن هؤلاء أهل بيتي أكره أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا. يا ثوبان اشتر لفاطمة قلادة من عصب، وسوارًا من عاج. قلت: قد أوضح ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في هذا أنه إنما كره لأهل أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا، وأرشهدم إلى الزُّهد فيها، وليس في ذلك ما يدل على المنع لهم

جَزْمًا ولا لغيرهم. الوجه الخامسَ عشرَ: قد رخص [6ب]ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ في لُبْس الذهب مقطّعًا كما تقدم في الحديث المذكور في الوجه الثامن، ورخص أيضًا لعرفجةَ بن أسعد لما قُطِعَ أنفه يوم الكلاب أن يتّخذ أنفًا من ذهب، أخرجه أبو داود (¬1)، والنّسائي (¬2)، والترمذي (¬3)، وحسَّنه. فهذان وما ورد موردِهما يخصّص بهما عموم الأحاديث المتقدمة، ويمكن أن يُقالَ: إن اتّخاذ الأنفِ من الذهب، وكذلك السّنّ ليس من الحلية التي يراد بها الزينةُ، بل من التداوي والانتفاع المباح، فلا معارضة بينه وبين الأحاديث المصرّحة بتحريم الحلية. وفي هذا المقدار كفايةٌ. والله ولي التوفيق. انتهى نقلاً من خط سيدي القاضي العلامةِ عزّ الإسلام محمد بن أحمد مشحم ـ رحمه الله ـ نقلاً عن خط المجيب شيخنا الإمام العلامة المجتهد محمد بن علي الشوكاني ـ أدام الله فوائده آمين. حُرِّرَ في شهر جُمادَى الأولى سنة 1224 بقلم الحقير علي بن أحمدَ هاجر ـ غفر الله لهما ـ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. ¬

(¬1) في "السنن" رقم (4232). (¬2) النسائي رقم (5164). (¬3) في "السنن" رقم (1770). وهو حديث حسن.

تم المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني والله الحمد والمنة ويليه المجلد الخامس إن شاء الله

القول الجلي في حل لبس النساء للحلي

القول الجلي في حل لبس النساء للحلي تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " القول الجلي في حل لبس النساء للحلي ". 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وآله الطاهرين، ذكرتم - كثر الله فوائدكم ومد على الطلاب موائدكم - أنه أشكل عليكم. . . ". 4 - آخر الرسالة: والله ولي التوفيق. انتهى تحريره بقلم مؤلفه محمد الشوكاني - غفر الله له - في الثلث الأوسط من ليلة الأحد، لعله ليلة اثنين وعشرين من شهر رجب سنة 1216. 5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول. 6 - عدد الصفحات: 15 صفحة ما عدا صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 21 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 8 - 10 كلمات. 9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني. 10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وآله الطاهرين. ذكرتم - كثر الله فوائدكم، ومد على الطلاب موائدكم - أنه أشكل عليكم الحديث الذي أورده المحقق المقبلي - رحمه الله - في المنار (¬1) حيث قال: أخرج أحمد وأبو داود من حديث أسماء بنت يزيد مرفوعًا: " أيما امرأة تقلدت بقلادة من ذهب قلدت في عنقها مثله يوم القيامة، وأيما امرأة جعلت في أذنها خرصا من ذهب جعل في أذنها يوم القيامة ". فهذا الحديث أخرجه أبو داود في سننه (¬2) بإسناد لا مطعن فيه، وأخرجه أيضًا أحمد (¬3) والنسائي (¬4). وأخرج أيضًا أبو داود (¬5) عن ربعي بن خراش، عن امرأته، عن أختٍ لحذيفة أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " يا معشر النساء أما لكن في الفضة ما تحلين به! أما إنه ليس منكن امرأة تحلى ذهبًا تظهره إلا عذبت به ". وأخرجه أيضًا النسائي (¬6) من هذه الطريق. قال المنذري (¬7): وامرأة ربعي مجهولة. قال ابن عبد البر (¬8): إن صح فهو منسوخ. وحكى المنذري (¬9) عن بعض أهل العلم (¬10) ¬

(¬1) (2/ 263). (¬2) رقم (4238). (¬3) في " المسند " (6/ 460). (¬4) في " السنن " رقم (5142). وهو حديث ضعيف. (¬5) في " السنن " (4237). (¬6) في " السنن " (8/ 157 رقم 5138). وهو حديث ضعيف. (¬7) " مختصر السنن " (6/ 124). (¬8) في " الاستذكار " (9/ 75). (¬9) " مختصر السنن " (6/ 124). (¬10) تقدم ذكره في الرسالة رقم (136).

أنه قال: ذلك كان في الزمن الأول، ثم نسخ وأبيح للنساء التحلي بالذهب. وقيل: هذا الوعيد لمن لا يؤدي زكاة الذهب، وأما من أداها فلا. قلت: ويدل على هذا التأويل - على فرض أنه لم يعلم التاريخ - ما أخرجه أبو داود (¬1) والترمذي (¬2) والنسائي (¬3) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده أن امرأة أتت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال لها: " أتعطين زكاة هذا؟ " قالت: لا، قال: " أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار يوم القيامة " قال: فخلعتهما فألقتهما إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وقالت: هما لله ولرسوله. وبالجملة فإن صح النسخ كما قاله ابن عبد البر (¬4) فلا إشكال، وإن لم يصح لعدم العلم بالتاريخ فالرجوع إلى هذا التأويل متحتم؛ لأن الأحاديث المقتضية لحل الذهب للنساء لا شك أنها أرجح من الحديثين المتقدمين ومن غيرهما مما سيأتي ذكره؛ لأنها وردت من طرق كثيرة، فمنها عن أمير المؤمنين - كرم الله وجهه - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أخذ حريرًا فجعله في يمينه، وأخذ ذهبًا فجعله في شماله، ثم قال: " إن هذين حرام على ذكور أمتي " أخرجه أبو داود (¬5)، والنسائي (¬6)، وابن ماجه (¬7)، وأبو حاتم في صحيحه (¬8)، زاد ابن ¬

(¬1) في " السنن " رقم (1563). (¬2) في " السنن " (637) وقال: هذا حديث قد رواه المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب نحو هذا، والمثنى بن الصباح وابن لهيعة يضعفان في الحديث، ولا يصح في هذا الباب عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيء. (¬3) في " السنن " رقم (248). (¬4) في " الاستذكار " (9/ 75). (¬5) في " السنن " رقم (4057). (¬6) في " السنن " رقم (8/ 160). (¬7) في " السنن " رقم (3595). (¬8) رقم (5434).

ماجه (¬1): " حل لإناثهم "، وأخرجه أيضًا أحمد (¬2). قال عبد الحق في الإحكام (¬3): قال ابن المديني (¬4): حديث حسن، ورجاله معروفون، وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في الإمام (¬5): هذا حديث مختلف في إسناده يرجع إلى يزيد بن أبي حبيب، فقيل عنه: عن أبي أفلح الهمداني (¬6)، عن عبد الله بن زرير (¬7)، عن علي. هذه رواية ليث عن أبي داود، وقيل فيه: عن يزيد [1ب] عن عبد العزيز بن أبي الصعبة (¬8)، عن أبي أفلح، وهذه رواية ابن إسحاق عند ابن ماجه. قال ابن الملقن (¬9): وهي أيضًا رواية الليث بن سعد وعبد الحميد بن جعفر كما قال الدارقطني في علله (¬10). قال ابن دقيق العيد (¬11): وقيل عن أبي الصعبة - ولم يسم - عن رجل من همدان يقال له: أفلح، هذه رواية ابن المبارك عن الليث عن يزيد. قلنا: ورواه حجاج عن الليث أيضًا كما أخرجه أحمد في المسند (¬12)، وقيل عن يزيد ¬

(¬1) في " السنن " رقم (3595). (¬2) في " المسند " (1/ 115). (¬3) " الأحكام الوسطى " (4/ 184). (¬4) عزاه إليه ابن حجر في " التلخيص " (1/ 87). (¬5) عزاه إليه ابن الملقن في " البدر المنير " (2/ 475). (¬6) مقبول من الخامسة. " التقريب " (2/ 392). (¬7) الغافقي، المصري، ثقة رمي بالتشيع، من الثانية، مات سنة 80هـ. " التقريب " (1/ 415). (¬8) التميمي، مولاهم، أبو الصعب، المصري، لا بأس به، من الثالثة. " التقريب " (1/ 509). (¬9) في " البدر المنير " (2/ 476). (¬10) (3/ 260). (¬11) عزاه إليه ابن الملقن في " البدر المنير " (2/ 476). (¬12) (1/ 115).

بن أبي حبيب، عن عبد الله بن زرير، أسقط من الإسناد رجلين: ابن أبي الصعبة وأبا أفلح، قاله الدارقطني في علله (¬1) قال: وقيل عن رجل، عن أم حبيب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن رجل، عن آخر لم يسمهما، عن علي قال: وقيل عن ابن إسحاق، عن سعيد بن أبي هند، عن عبد الله بن شداد، عن عبد الله بن مرة، عن علي، رواه عن ابن إسحاق عمر بن حبيب، قال الدارقطني (¬2): وهم في الإسناد عمر هذا، وكان سيئ الحفظ، انتهى. وقيل (¬3): عن أبي الصعبة، عن أبي علي الهمداني، عن عبد الله بن زرير، وهذه الرواية للنسائي في مسند علي (¬4) أفادها الحافظ جمال الدين المزي في الأطراف (¬5). قال النسائي (¬6): حديث ابن المبارك أولى بالصواب إلا قوله: " أفلح " فإن أبا أفلح أولى بالصواب (¬7). وقد علل هذا الحديث بعلة أخرى، وهي جهالة حال أبي أفلح بالفاء لا بالقاف، ذكره ابن القطان (¬8) كذلك، وقال: عبد الله بن زرير مجهول الحال أيضًا. قال ابن دقيق العيد (¬9): أما أبو أفلح فلا يبعد ما قال فيه، وإن كان قد ذكر عن علي بن المديني أنه قال في هذا الحديث: حسن، وأما عبد الله بن زرير فقد ذكر أن العجلي (¬10) [2أ] ¬

(¬1) (3/ 261). (¬2) (3/ 263). (¬3) ذكره ابن الملقن في " البدر المنير " (2/ 477). (¬4) عزاه إليه ابن الملقن في " البدر المنير " (2/ 477). (¬5) (7/ 408). (¬6) في " السنن " (8/ 160). (¬7) كذا في المخطوط وصوابه: " وحديث ابن المبارك أولى بالصواب، إلا قوله: أفلح، فإن أبا أفلح أشبه والله تعالى أعلم ". " سنن النسائي " (8/ 160). (¬8) انظر " البدر المنير " (2/ 478). (¬9) عزاه إليه ابن الملقن في " البدر المنير " (2/ 478). (¬10) " تاريخ الثقات " (ص257).

ومحمد بن سعد (¬1) وثقاه، قال ابن دقيق العيد (¬2): وفي الحديث شيء آخر، وهو أن رواية من رواه عن يزيد عن عبد العزيز بن أبي الصعبة عن أبي أفلح إذا عملنا بها وسلكنا طريقهم في أن نحكم بأن يزيد لم يسمع من أبي أفلح، تصدى لنا النظر في حال عبد العزيز أيضًا. قال ابن الملقن (¬3): حالته جيدة، روى له النسائي، وابن ماجه، وروى عن أبيه، وأبي علي الهمداني، وعنه يزيد بن أبي حبيب وغيره، وذكره ابن حبان في ثقاته (¬4). قلت: الحديث وإن قصر عن رتبة الصحيح، فهو لا ينحط عن رتبة الحسن كما لا يخفى على من تدبر ما سقناه. ومنها عن سعيد بن أبي هند، عن أبي موسى الأشعري، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " حرم لباس الذهب والحرير على ذكور أمتي، وأحل لإناثهم " رواه أحمد (¬5)، والترمذي (¬6)، وهذا لفظ الترمذي، وقال: حسن صحيح. ولفظ أحمد: " أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي، وحرم على ذكورها ". ورواه النسائي (¬7) بلفظ: " إن الله تعالى أحل لإناث أمتي الحرير والذهب، وحرمه على ذكورها ". ورواه الطبراني في معجمه الكبير (¬8) ولفظه: " أحل الذهب والحرير لإناث أمتي، وحرم على ذكورها ". وله ألفاظ أخر بنحو هذا. ¬

(¬1) في " الطبقات الكبرى " (7/ 510). (¬2) عزاه إليه ابن الملقن في " البدر المنير " (2/ 478). (¬3) في " البدر المنير " (2/ 478). (¬4) (7/ 111). والخلاصة أن حديث علي حديث صحيح. (¬5) في " المسند " (4/ 394، 407). (¬6) في " السنن " رقم (1720). (¬7) في " السنن " (8/ 161) وهو حديث صحيح. (¬8) لم أجده من حديث أبي موسى.

ورواه الدارقطني (¬1) ولفظه: " أحل الذهب والحرير لإناث أمتي "، ثم قال في علله (¬2): هذا حديث يرويه عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن أبيه، ويرويه نافع مولى ابن عمر عن سعيد بن أبي هند عن أبيه، ويرويه نافع مولى ابن عمر عن سعيد بن أبي هند عن أبي موسى، ويرويه سويد بن عبد العزيز عن عبد الله بن سعيد المقبري. ووهم في موضعين: الأول: قوله: عن سعيد المقبري، وإنما هو سعيد بن أبي هند. والثاني: أنه ترك ذكر نافع في الإسناد، ورواه أيضًا عبد الله بن عمر العمري عن نافع، عن سعيد بن أبي هند، عن رجل، عن أبي موسى قال: وهو أشبه بالصواب؛ لأن [2ب] سعيد بن أبي هند لم يسمع من أبي موسى شيئًا، وفي حديث النهي عن اللعب بالنرد (¬3). قيل عن سعيد بن أبي هند، عن أبي مرة مولى عقيل، عن أبي موسى. وهذا يقوي أنه رواه سعيد عن رجل عن أبي موسى. قال الحافظ عبد الحق (¬4): هذا الحديث رواه جماعات عن عبيد الله بن عمر، عن نافع عن سعيد بن أبي هند، عن أبي موسى مرفوعًا، ورواه من لا يحتج به عن عبد الله، عن نافع عن سعيد، عن رجل من أهل العراق، عن أبي موسى. وذكره عبد الرزاق (¬5) عن معمر، عن أيوب، عن نافع، عن سعيد، عن رجل، عن أبي موسى. واختلف فيه على أيوب، ثم ذكر عبد الحق (¬6) قول الدارقطني (¬7) المتقدم أن سعيد بن أبي هند لم يسمع من أبي موسى، وقد أخرجه الترمذي (¬8) ¬

(¬1) (7/ 242). (¬2) (7/ 242). (¬3) أخرجه بهذا الإسناد أحمد في " المسند " (4/ 394). (¬4) في " الأحكام الوسطى " (4/ 184). (¬5) في " المصنف " (11/ 68 رقم 19930). (¬6) في " الأحكام الوسطى " (4/ 184). (¬7) (7/ 242). (¬8) في " السنن " رقم (1720).

والنسائي (¬1) من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع، عن سعيد بن أبي هند، عن أبي موسى مرفوعًا، قال ابن الملقن (¬2): وقد صححه الترمذي. فالظاهر سماع سعيد منه، لكن قد قال بمقالة الدارقطني (¬3) أبو حاتم الرازي (¬4) فقال: إن سعيد بن أبي هند لم يلق أبا موسى. قال أبو حاتم بن حبان في صحيحه (¬5): حديث سعيد بن أبي هند عن أبي موسى في هذا الباب معلول لا يصح، ولعله يشير إلى ما تقدم عن الدارقطني وأبي حاتم الرازي، لكنه قد أخرج في صحيحه (¬6) حديث: " من لعب النرد فقد عصى الله ورسوله " وهو من رواية سعيد عن أبي موسى، فالعلة التي ذكرها في حديث الباب واردة عليه في هذا الحديث، وصحح هذا الحديث أيضًا الذي سقنا الكلام عليه ابن حزم (¬7). ومنها عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " أحل الذهب والحرير لإناث أمتي، وحرم على ذكورها " ذكره الدارقطني في علله (¬8) فيما سئل عنه، وقال: هذا حديث يرويه عبد الله، واختلف عنه فيه، فرواه يحيى بن سليم الطائفي عن عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا، تابعه بقية بن الوليد [3أ] على معنى هذا القول في الحرير، ولم يذكر الذهب، وكلاهما وهم، والصحيح عن عبد الله، عن نافع، عن سعيد بن أبي هند، وعن أبي موسى، وسعيد لم يسمعه، وروى طلق بن حبيب قال: قلت لابن عمر: سمعت من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في ¬

(¬1) في " السنن " (8/ 161). (¬2) في " البدر المنير " (2/ 474). (¬3) تقدم ذكره. (¬4) في " المراسيل " (ص75). (¬5) (12/ 250) وقد تقدم. (¬6) (13/ 181 رقم 5872). (¬7) في " المحلى " (4/ 37). (¬8) (7/ 241 - 242 س 1320).

الحرير شيئًا؟ قال: لا. وهذا يدل على وهم يحيى بن سليم وبقية في حكايتهما عن ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. ومنها ما رواه من حديث ابن عمرو، وابن ماجه (¬1)، والبزار (¬2)، وأبي يعلى (¬3)، والطبراني (¬4) بإسناد فيه عبد الرحمن بن أنعم الإفريقي (¬5)، وهو ضعيف. وقال: رأيت البخاري يقوي أمره، ولفظه: قال ابن عمرو: خرج إلينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وفي إحدى يديه ثوب من حرير، وفي الأخرى ذهب، فقال: " إن هذين محرم على ذكور أمتي، حل لإناثهم ". ومنها عن عمر قال: خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وفي يده صرتان: إحداهما من ذهب، والأخرى من حرير، فقال: " هذان حرامان على الذكور من أمتي، حلال لإناثهم " رواه الطبراني (¬6) في الصغير (¬7)، ثم قال: لم يروه عن إسماعيل بن أبي خالد إلا عمرو بن جرير البجلي الكوفي، تفرد به داود بن سليمان، ورواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده (¬8)، ثم قال: هذا الحديث لا نعلم رواه عن إسماعيل عن قيس عن عمرة إلا عمرو بن جرير، وهو لين الحديث، وقد احتمل حديثه. ومنها عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " الذهب والحرير حلال لإناث أمتي، حرام على ذكورها " رواه الطبراني في أكبر ¬

(¬1) في " السنن " (3597) وهو حديث صحيح لغيره. (¬2) عزاه إليهم الزيلعي في " نصب الراية " (4/ 422). وقد تقدم. انظر الرسالة رقم (136) (¬3) عزاه إليهم الزيلعي في " نصب الراية " (4/ 422). وقد تقدم. انظر الرسالة رقم (136) (¬4) عزاه إليهم الزيلعي في " نصب الراية " (4/ 422). وقد تقدم. انظر الرسالة رقم (136) (¬5) تقدم. وانظر: " الميزان " (2/ 560 رقم 4860). (¬6) في " الصغير " (1/ 167) و" الأوسط " رقم (3604). (¬7) في المخطوط " الترمذي " وما أثبتناه من " البدر المنير " (2/ 482). وانظر " السنن الكبرى " (3/ 275). وانظر " الميزان " (2/ 561). (¬8) (3/ 250 رقم 3005 - كشف). وقد تقدم.

معاجمه (¬1)، والعقيلي في تاريخه (¬2) من حديث ثابت بن زيد بن ثابت بن زيد بن أرقم قال: حدثتني عمتي أنيسة بنت زيد بن أرقم عن أبيها زيد بن أرقم به. قال أحمد (¬3): ثابت هذا له مناكير، وقال ابن حبان (¬4): الغالب على حديثه الوهم، ولا يحتج به إذا انفرد، وقال العقيلي (¬5): هذا يروى بغير هذا الإسناد بأسانيد صالحة وأخرجه ابن أبي شيبة. حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد، حدثنا سعيد، حدثنا ابن زيد، أخبرتني أنيسة بنت زيد عن أبيها، رفعه فذكره. وابن زيد هو ثابت. ومنها عن أسماء بنت واثلة بن الأسقع عن أبيها قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقول: " الذهب والحرير حل لإناث أمتي، حرام [3ب] على ذكور أمتي " رواه الطبراني في الكبير (¬6) عن إسماعيل بن قيراط، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن، حدثنا محمد بن عبد الرحمن قال: حدثتني أسماء بنت واثلة عن أبيها به، قال ابن الملقن (¬7): وهذا سند لا أعلم به بأسًا، وشيخ الطبراني لا أعرفه، وسليمان ذكره ابن حبان في الثقات (¬8)، وأخوه وثقه أبو زرعة والنسائي. وقال أبو حاتم (¬9): هو من التابعين لا يسأل عن مثله، وأسماء تابعية لا أعلم حالها الآن. ومنها عن ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أخرج من يده قطعة من ¬

(¬1) رقم (5125). (¬2) في " الضعفاء الكبير " (1/ 174). (¬3) في " العلل ومعرفة الرجال " (3/ 94 - 95 رقم 4346). (¬4) في " الثقات " (4/ 63). (¬5) في " الضعفاء الكبير " (1/ 174). (¬6) (ج22 رقم 234) وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن المقدسي القشيري متروك الحديث. (¬7) في " البدر المنير " (2/ 484). (¬8) (6/ 385). (¬9) " الجرح والتعديل " (3/ 2\ 312).

ذهب وقطعة من حرير، فقال: " إن هذين حرامان على ذكور أمتي، وحلالان لإناثهم " أخرجه الطبراني في الكبير (¬1). وفي إسناده إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف متفق على ضعفه. وأخرجه الطبراني أيضًا من حديث محمد بن الفضل بن عطية، عن أبيه، عن عطاء، عن ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قبض على الذهب والحرير وهو يحركه ويقول: " هذا محرم على ذكور أمتي ". ومحمد بن الفضل متروك (¬2) بالاتفاق، بل قال: صالح بن محمد كان يضع الحديث، ووالده الفضل وثقه ابن راهويه (¬3)، وقال أبو زرعة (¬4): لا بأس به، وضعفه الفلاس (¬5)، وابن عدي (¬6). ومنها عن عقبة بن عامر بنحو حديث علي السابق، أخرجه البيهقي (¬7) من طريق يحيى بن أيوب عن الحسن بن ثوبان، وعمرو بن الحارث، عن هشام بن أبي رقية، سمعت مسلمة بن مخلد يقول لعقبة بن عامر: قم فأخبر الناس ما سمعت من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: سمعته يقول: " الحرير والذهب حرام على ذكور أمتي " وإسناده حسن (¬8)، وقال ابن الملقن (¬9): ولا أعلم بسنده بأسًا. فهذا ما أمكن الإطلاع عليه من طرق هذا الحديث، وبعضها صحيح، وبعضها ¬

(¬1) في " الكبير " (11/ 152 رقم 11333). (¬2) انظر: " تهذيب التهذيب " (9/ 402). (¬3) " التهذيب " (8/ 281). " الميزان " (3/ 354). (¬4) انظر " الجرح والتعديل " (3/ 2\ 64). (¬5) " التهذيب " (8/ 281). " الميزان " (3/ 354). (¬6) قال ابن عدي في " الكامل " (6/ 2040): " وروى محمد بن الفضل عن أبيه، أحاديث مناكير، والبلاء من ابنه محمد، والفضل خير من ابنه محمد ". (¬7) في " السنن الكبرى " (3/ 275). (¬8) ذكره الحافظ في " التلخيص " (1/ 54). (¬9) في " البدر المنير " (2/ 480).

حسن لذاته، وبعضها حسن لغيره، وبعضها لم يرتفع إلى رتبة الحسن، ولا يخفى أن البعض من هذه الطرق يصلح للاحتجاج به، فكيف بها جميعها! ومما يصلح للاستدلال به على حل الذهب للنساء ما أخرجه أبو داود [4أ] (¬1)، وابن ماجه (¬2) عن عائشة قالت: قدمت على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - حلية من عند النجاشي، أهداها له فيها خاتم من ذهب، فيه فص حبشي، فأخذه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بعود معرضًا عنه، أو ببعض أصابعه، ثم دعا أمامة بنة أبي العاص ابنة ابنته زينب فقال: " تحلي بهذا يا بنية "، وفي إسناده محمد بن إسحاق بن يسار. هذا مع ما قد ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من تحريم خاتم الذهب على الرجال كما في حديث ابن عمر عند البخاري (¬3) ومسلم (¬4) وغيرهما (¬5)، وحديث ابن مسعود عند أبي داود (¬6) والنسائي (¬7)، وغير ذلك، فإنه يدل لمفهومه على تحليله للنساء، فيكون مؤيدًا لحديث عائشة المذكور. ومن جملة ما يدل على ذلك حديث المرأة التي جاءت إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب، فإنه لم يقل لها: هذا حرام، بل قال لها: " أتعطين زكاة هذا؟ " وقد تقدم ذلك (¬8). وأما ما استدل به المحقق المقبلي - رحمه الله - من حديث عبد الرحمن بن غنم قال: ¬

(¬1) في " السنن " رقم (4235). (¬2) في " السنن " رقم (3644) بإسناد حسن. (¬3) في صحيحه رقم (5865). (¬4) في صحيحه رقم (53/ 2091). (¬5) كأبي داود رقم (4218) والترمذي رقم (1741) وأحمد (2/ 18) والنسائي (8/ 178). (¬6) في " السنن " رقم (4222). (¬7) في " السنن " رقم (5091). وهو حديث منكر. بلفظ: " كان نبي الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكره عشر خلال: الصفرة يعني الخلوق، تغيير الشيب، وجر الإزار، والتختم بالذهب. . . ". (¬8) تقدم تخريجه.

قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -[4ب]: " من تحلى أو حلى بحربصيصة من ذهب كوي به يوم القيامة " (¬1). قال المقبلي (¬2): وأخرج البخاري (¬3) من حديث أسماء بنت يزيد عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " من تحلى ذهبًا، أو حلى أحدًا من ولده مثل حربصيصة أو عين جرادة، كوي به يوم القيامة " هكذا ذكر هذا الحديث معزوًا إلى البخاري. ولا أذكر الآن أنه في صحيح البخاري فيبحث عنه، وقد أخرج أبو داود (¬4) من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " من أحب أن يحلق حبيبه بحلقة من نار فليحلقه بحلقة من ذهب، ومن أراد أن يطوق حبيبه طوقًا من نار فليطوقه طوقًا من ذهب، ومن أحب أن يسور حبيبه بسوارٍ من نار فليسوره بسوار من ذهب، ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها " فهذه الأحاديث بعد تسليم أنها عامة للرجال والنساء هي مخصصة بالأحاديث المتقدمة المصرحة بحل لبس الذهب والتحلي به للنساء. فإن قلت: قد أخرج النسائي (¬5) من حديث أبي هريرة قال: أتت امرأة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله، سوارين من ذهب! فقال: " سواران من نار " قالت: طوق من ذهب، قال: " طوق من نار " قالت: قرطين من ذهب، قال: " قرطين من نار ". وكان عليها سواران من ذهب فرمت بهما، وقالت: إن المرأة إذا لم تتزين لزوجها صلفت عنده، أي: لم تحظ عنده. فقال: " ما يمنع إحداكن أن تضع قرطين من فضة، ثم تصفره بزعفران " أو قال: " بعبير ". ¬

(¬1) تقدم تخريجه. انظر الرسالة رقم (136). (¬2) في " المنار " (2/ 263). (¬3) لم أجده. (¬4) في " السنن " رقم (4236) وقد تقدم. وهو حديث حسن. (¬5) في " السنن " (8/ 159 رقم 5142) وهو حديث ضعيف.

وأخرج النسائي (¬1) أيضًا [5أ] من حديث ثوبان قال: جاءت هند بنت هبيرة إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وفي يدها فتخ من ذهب - أي: خواتم ضخام - فجعل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يضرب يدها، فدخلت على فاطمة - رضي الله عنها - تشكو إليها، فانتزعت فاطمة سلسلة في عنقها من ذهب، فقالت: هذه أهداها أبو حسن، فدخل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - والسلسلة في يدها، فقال: " يا فاطمة أيسرك أن يقول الناس: ابنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في يدها سلسلة من نار؟ " ثم خرج فلم يقعد، فأرسلت فاطمة بالسلسلة فباعتها، واشترت بثمنها عبدًا فأعتقته، فحدث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بذلك فقال: " الحمد لله الذي نجى فاطمة من النار ". وأخرج أبو داود (¬2)، والنسائي (¬3) من حديث أخت حذيفة قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " يا معشر النساء، ما لكن في الفضة ما تحلين به، ليس منكن امرأة تتحلى ذهبًا تظهره إلا عذبت به " وهذا الحديث قد قدمنا ذكره في أول هذه الورقات، وذكرنا أن في إسناده امرأة مجهولة، وذكرنا ما قيل فيه من النسخ والتأويل، وهكذا يقال في الحديثين المذكورين قبله. فإن قلت: هذه أربعة أحاديث مصرحة بتحريم حلية الذهب على النساء، منها حديث أسماء بنت يزيد الذي ذكره المقبلي (¬4)، وذكرناه في أول هذا البحث، ومنها حديث أبي هريرة المذكور قريبًا، ومنها حديث ثوبان المذكور بعده، ومنها حديث أخت حذيفة، فكيف جعلتها [5ب] منسوخة أو مرجوحة؟ ¬

(¬1) في " السنن " (8/ 158 رقم 5140) وهو حديث صحيح، والله أعلم. (¬2) في " السنن " (4237). (¬3) في " السنن " (8/ 157 رقم 5138). وهو حديث ضعيف. (¬4) في " المنار " (2/ 263).

قلت: أما كونها منسوخة فلأن تصريح أكابر الأئمة بالنسخ كابن عبد البر (¬1) لا يكون إلا لدليل علمه يسوغ عنده الجزم بالنسخ، أقل الأحوال أن يكون قد علم أن أحاديث التحليل متأخرة عن أحاديث التحريم. وأما كونها مرجوحة فلما عرفناك سابقًا، وقد أمكن التأويل بما قدمنا ذكره. ومن أعظم الأدلة الدالة على ترجيح أحاديث التحليل ما روي من أنه قد قام الإجماع على ذلك. قال الإمام المهدي في البحر (¬2): فصل: وللنساء لبس الحلية على أنواعها، والحرير، وعن قوم منعهن من الحرير، وهو خلاف الإجماع. وقال في شرح الأثمار (¬3): تنبيه: أما الإناث فلا خلاف يعتد به في جواز الحلي والحرير ونحوه لهن مطلقًا، وما ورد من الأحاديث في نهيهن من التحلي بالذهب فمحمول على أنه خلاف الأولى، أو أنه منسوخ جمعًا بين الأخبار، انتهى. وعندي أنه لا وجه لحملها على خلاف الأولى مع تصريح أحاديث النهي بأن ذلك يوجب النار، نحو قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " سوارين من نار، طوق من نار، قرطين من نار، قلادة من نار، سلسلة من نار " فإن ما كان خلاف الأولى لا يوجب عذابًا كما تقرر في الأصول، بل الواجب هاهنا المصير [6أ] إلى القول بالنسخ لما تقدم، أو المصير إلى التأويل؛ لدلالة حديث عمرو بن شعيب المتقدم في أول هذا البحث في حديث المرأة وابنتها على ذلك، أو المصير إلى التعارض البحت على تسليم عدم إمكان التأويل، وحينئذ يتحتم ترجيح أحاديث التحليل على أحاديث التحريم؛ لكثرتها ولكونها صريحة في الحل، وللإجماع على العمل بها وترك ما عارضها، وللإجماع أيضًا على تحليل الحرير للنساء، وهو قرين الذهب في تلك الأحاديث. ¬

(¬1) في " الاستذكار " (9/ 75). (¬2) (4/ 365). (¬3) تقدم تعريفه.

فإن قلت: هل يمكن الجمع بغير ما تقدم؟ وذلك بأن يقال: إن الأحاديث القاضية بالحل تصرف إلى حل اللبس فقط بقرينة تحليل الذهب مع تحليل الحرير، والحرير لا يكون إلا ملبوسًا، ولا يكون حلية، وتكون الأحاديث القاضية بمنع التحلي بالذهب مقصورة على ما تضمنته من تحريم التحلي به، وحينئذ يمكن الجمع فيمتنع المصير إلى الترجيح. قلت: الذهب لا يكون ملبوسًا قط، ولا يمكن نسجه، بل لا يكون إلا حلية، أو آنية، أو سبائك، أو دنانير، وما يظن أنه ذاهب في المنسوج من الثياب فهو غلط، بل هو فضة يقينًا [6ب]، ومن لم يتيقن هذا فليأخذ قطعة من الثياب المخلوطة بما يظنه ذهبًا ويلقيها في النار، فإنه سيجد ذلك فضة لا ذهبًا، وهذا يعلمه كل من له خبرة بذلك. وإذا تقرر هذا علم منه أن أحاديث تحليل الذهب للنساء لا يراد منها إلا تحليل التحلي به فقط، فيحصل حينئذ التعارض الواضح على فرض عدم صحة دعوى النسخ، وعدم صحة التأويل، ويجب الرجوع إلى الترجيح، وأحاديث التحليل أرجح بما تقدم. فإن قلت: هل يصح أن يقال: إن أحاديث التحليل عامة، والأحاديث الواردة في المنع خاصة بما وردت فيه؟ فإن حديث أسماء بنت يزيد ليس فيه إلا ذكر القلادة والخرص، وحديث أبي هريرة ليس فيه إلا ذكر السوارين والطوق والقرطين، وحديث ثوبان ليس فيه إلا ذكر الفتخ والسلسلة، فيكون المحرم من حلية الذهب إنما هو هذه الأمور فقط، ويحل ما عداها من أنواع حلية الذهب، وهي كثيرة عملاً بالخاص فيما نتناوله والعام فيما بقي، كما هي القاعدة المقررة في الأصول في العام والخاص. قلت: لا يصح هذا لأمرين: الأول: أن هذه الأنواع المذكورة في هذه الأحاديث يصدق عليها أنها حلية، وأنها ذهب، ولا فرق بين حلية وحلية، وبين ذهب وذهب، فلا يظهر للتخصيص وجه حكمه، وأي فرق بين ما تضعه المرأة على يدها وهو مسمى باسم السوار، وبين ما تضعه على يدها أيضًا، وهو مسمى باسم آخر، وهكذا لا فرق بين ما تضعه على

عنقها وهو مسمى قلادة أو سلسلة، وبين ما تضعه على عنقها أيضًا وهو يسمى باسم غير ذلك، وهكذا لا فرق بين ما تضعه في أذنها، وهو يسمى خرصًا أو قرطًا، وبين ما تضعه في أذنها أيضًا وهو يسمى باسم غير ذلك. الوجه الثاني: أن مواضع الحلية من المرأة هي اليدان، والعنق، والأذن، ولا حكم للناذر من وضع الحلية في غير هذه المواضع. وقد صرح - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بالمنع من الحلية المختصة بكل موضع من هذه المواضع، فمنع السوارين والفتخ في حلية الأيدي، والقلادة والطوق والسلسلة في حلية العنق، والخرص والقرط في حلية الأذن. وبعد هذا كله فحديث أخت حذيفة المتقدم مصرح بمنع الحلية على العموم، فإنه بلفظ: ليس منكن امرأة تتحلى ذهبًا تظهره إلا عذبت به [7ب]. فتقرر بهذا عدم إمكان الجمع بما ذكر، فلم يبق إلا القول بالنسخ، أو الجمع بالتأويل المقبول، أو هو كونه لمن لا يؤدي الزكاة كما قدمنا، أو المصير إلى التعارض والترجيح لأحاديث (¬1) الحل بما قدمنا. ¬

(¬1) قال ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (25/ 64): وأما باب اللباس فإن لباس الذهب والفضة يباح للنساء بالاتفاق، ويباح للرجل ما يحتاج إليه من ذلك، ويباح يسير الفضة للزينة، وكذلك يسير الذهب التابع لغيره كالطرز ونحوه في أصح القولين من مذهب أحمد وغيره. . . ". قال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم (14/ 32): وأما النساء فيباح لهن لبس الحرير، وجميع أنواعه، وخواتيم الذهب، وسائر الحلي منه ومن الفضة، وسواء المزوجة وغيرها والشابة والعجوز والغنية والفقيرة. واستدل بحديث: " هذين - الذهب والحرير - حرام على ذكور أمتي حلال لإناثها ". قال ابن قدامة في " المغني " (2/ 607 - الشرح الكبير): ويباح للنساء من حلي الذهب والفضة والجواهر كل ما جرت عادتهن بلبسه مثل السوار والخلخال والقرط والخاتم، وما يلبسنه على وجوههن وفي أعناقهن وأيديهن وأرجلهن وآذانهن وغيره. . . ". وقال ابن حجر في " الفتح " (10/ 317) في أثناء شرح الحديث رقم (5863) عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - قال: نهانا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن سبع نهى عن خاتم الذهب أو قال: حلقة الذهب، وعن الحرير والإستبرق، والديباج، والميثرة الحمراء، والقسي، وآنية الفضة. . . ". قال ابن دقيق العيد: إخبار الصحابي عن الأمر والنهي على ثلاث مراتب: الأولى: أن يأتي بالصيغة كقوله: افعلوا أو لا تفعلوا. الثانية: قوله: أمرنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكذا ونهانا عن كذا، وهو كالمرتبة الأولى في العمل به أمرًا ونهيًا. وإنما نزل عنها الاحتمال أن يكون ظن ما ليس بأمر أمرًا، إلا أن هذا الاحتمال مرجوح للعلم بعدالته ومعرفته بمدلولات الألفاظ لغة. الثالثة: أمرنا ونهينا على البناء للمجهول، وهي كالثانية، وإنما نزلت عنها لاحتمال أن يكون الآمر غير النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وإذا تقرر هذا فالنهي عن خاتم الذهب أو التختم به مختص بالرجال دون النساء، فقد نقل الإجماع على إباحته للنساء. وقال ابن حجر في " الفتح " (10/ 330) باب الخاتم للنساء، وكان على عائشة خواتيم الذهب. ثم ذكر الحديث رقم (5880) عن ابن جريح: " فأتى النساء فأمرهن بالصدقة، فجعلن يلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال ". ونقل قول ابن بطال: الخاتم للنساء من جملة الحلي الذي أبيح لهن. انظر: " المحلى " (10/ 83).

وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. والله ولي التوفيق. انتهى تحريره بقلم مؤلفه محمد الشوكاني - غفر الله له - في الثلث الأوسط من ليلة الأحد، لعلها ليلة اثنين وعشرين من شهر رجب سنة 1216.

سؤال عن شأن لبس المعصفر وغيره من سائر أنواع الأحمر

سؤال عن شأن لبس المعصفر وغيره من سائر أنواع الأحمر للطف الله بن أحمد بن لطف الله جحاف ويليه: جواب القاضي العلامة: محمد بن علي الشوكاني: القول المحرر في حكم لبس المعصفر وسائر أنواع الأحمر تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " سؤال عن شأن لبس المعصفر وغيره من سائر أنواع الأحمر، للطف الله بن أحمد بن لطف الله جحاف. ويليه: جواب القاضي العلامة: محمد بن علي الشوكاني: القول المحرر في حكم لبس المعصفر وسائر أنواع الأحمر ". 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: الحمد لله على نعمائه الفرادى والثنى، فهو المستحق لكل حمدٍ صادق وله لا لغيره الثناء. . . . 4 - آخر الرسالة: ". . . إلى شمول القول له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بطريق التنصيص أو الظهور أو اختصاصه بسائر الأمة دونه، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والله ولي التوفيق، حرر الجواب في سلخ شهر ربيع الآخر سنة 1209 ". 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 13 صفحة. 7 - عدد الأسطر: 26 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

[صورة صفحة عنوان المخطوط]

[صورة الصفحة الأولى من المخطوط] سؤال لطف الله جحاف

[صورة الصفحة الأخيرة من المخطوط] سؤال لطف الله جحاف

[صورة الصفحة الأولى من جواب الشوكاني المخطوط]

[صورة الصفحة الأخيرة من جواب الشوكاني المخطوط]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على نعمائه الفرادى والثنى، فهو المستحق لكل حمد صادق، وله - لا لغيره - الثناء والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وأصحابه وجنده. وبعد: فهذه رسالة سائلة بلسان الحال عن جواز لبس الحمرة لا للنساء، بل للرجال، وهل ألفاظ السنة النبوية قاضية بالتحريم أم الإباحة للرجال في لبسها كالإباحة للحريم؟ والمقصود الاطلاع على بدور الأدلة والإشراف على شمس الحقيقة الهادية لا المضلة، وقد وجهتها إلى من أفاد الله بعلومه ومعلوماته، وزينه بالعلم وزاده جسام هباته، وقد سقت بعد المنظوم شيئًا مما لدي من الأدلة، وقلت: بدر الهدى بالحق أنت الصادع ... ولربقة التقليد أنت الخالع ولأنت في القوم المعد لفادح ... ذهل اللبيب له وحار البارع كم بالسهام رمى فكان مصابه ... آراء قوم في الضلال تتابعوا وأباد منتصبًا لحفظ ظواهر التنزيل ... وهو لدين ربي رافع قد عم كلاً هديه مذ خصني ... بفواضلٍ قل - للضلال - صوادع إن كان صمتًا عظمته أولو النهى ... أو فاه فهو لكل سمعٍ قارع والحق أعطى ما رقمت بواترًا ... في حدها سم المنايا قاطع فلذاك عزت شرعة المختار واز ... هدّت لشرع الجاهلين صوامع وبرفعها فرقت ودون محلها ... شمس الضحى والبدر ذاك الطالع ومنعت غير الكفء منها إنها ... أخذت عليك وللعهود شرائع وإذا أتاها خاطئ متمذهب ... فحذار لا أسفًا يكون الواقع وأنه العواذل واجعل التقوى لها ... تاجًا لئلا يطمعن الطامع واصدع بأمرك ما استطعت وعد عن ... لاحٍ فما ضر الحليم مقاطع فدقائق التنزيل في كاساتها ... بنمير فطنتك احتساها الشاجع

ورأى الذليل الجاهل المتكاسل ... الغر الحرام بها فظل ينازع وهي الحلال وأي هادٍ موصل ... جنات بارينا سواها شافع وإليك أنهيت الشكاية بعد مدح ... من أناس للشريعة ضاجعوا وهم اللصوص وأيم ربي إنهم ... جعلوا الهداية وصلةً وتراجعوا [1] وهم الحقيقون الجدير صنيعهم ... بالقتل إذ عرفوا النصوص وخادعوا والله أسأله السلامة منهم ... وبه أعوذ وما سواه نافع وإليك لطف الله أنهى سؤله ... إذ أنت للسؤل القويم التابع وأقول أما بعد فالتحريم في ... لبس المعصفر وهو قان ناصع فحديث ما شاهدت من ذي لمةٍ ... في حلةٍ حمراء حديث شائع والأمر بالإحراق والإيذان ... بالنهي الصريح يعد عندي مانع والقول إن ما دل وهو معارض ... بالفعل فهو لمقتضاه الدافع والحق مطلوب ولست مشاححًا ... في قول عمرو وارتضاه مجاشع أو ما يقرر بالرموز لمذهب ... يحكونه وله دليل ضائع بل حائم حول الدليل بمنهل ... التصحيح إن أومأ إليه الشارع وإلى محمد اللبيب نصًا منا ... متوجه وعلى خبير واقع نجم التقى المهدي ومن كمحمد ... في العلم وهو النور فينا الساطع فجوابه شافٍ وسحر نظمه ... لكن حلال للبديع مطاوع لا زال في الإنعام من خلاقه ... ولكل خير في البرية جامع [وما] (¬1) أشرنا إليه من لبس المعصفر هو الذي طفحت الأدلة بالمنع منه، وكذلك أحاديث وردت في لبس الحمرة على الإطلاق، وقد أشرت إلى [الأدلة المانعة والمجيزة] (¬2). ¬

(¬1) في المخطوط (وأما) والصواب ما أثبتناه. (¬2) في المخطوط (أدلة المانعة والمجيز) والصواب ما أثبتناه.

أما الأدلة التي في المنع فكثيرة واسعة: فمنها ما أخرجه مسلم (¬1) عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: " رآني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عليَّ ثوبين معصفرين، فقال: أمك أمرتك بهذا؟! قلت: أغسلهما يا رسول الله؟ قال: بل أحرقهما " زاد في رواية (¬2) أن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسهما. هذه رواية مسلم. وفي رواية للنسائي (¬3) " أنه رآه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وعليه ثوبان معصفران فقال: هذه ثياب الكفار. . .، فغضب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وقال: اذهب فاطرحهما عنك، قال: أين يا رسول الله، قال: في النار ". ولأبي داود (¬4) قال: " هبطنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من بيته، فالتفت إليّ وعليّ ريطة مضرجة بالعصفر، فقال: ما هذه الريطة عليك؟ فعرفت ما كرهه، فأتيت أهلي وهم يسجرون تنورًا لهم فقذفتها فيه، وأتيته من الغد فقال: يا عبد الله ما فعلت الريطة؟ فأخبرته فقال: أفلا كسوتها بعض أهلك فإنه لا بأس بها للنساء ". قال المنذري [2] في مختصره (¬5): وأخرجه ابن ماجه (¬6): نعم ومفهوم قوله: " فإنه لا ¬

(¬1) في صحيحه رقم (27، 28/ 2077). قلت: وأخرجه الحاكم (4/ 190) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي وابن سعد في " الطبقات " (4/ 265) من طرق. . . وهو حديث صحيح. (¬2) في " صحيحه " (27/ 2077). (¬3) في " السنن " (8/ 203) رقم (5316، 5317). (¬4) في " السنن " رقم (4066). (¬5) (6/ 39). (¬6) في " السنن " رقم (3603). قلت: وأخرجه أحمد (6/ 196) وابن أبي شيبة في " المصنف " (8/ 369) والحاكم في " المستدرك " (4/ 190) وقال الحاكم: " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وقد اتفق الشيخان - رضي الله عنهما - على النهي عن لبس المعصفر للرجل على حديث علي - رضي الله عنه - وهو حديث حسن. ريطة: بفتح الراء المهملة وسكون المثناة ثم طاء مهملة، ويقال: رائطة. قال المنذري في " مختصر السنن " (6/ 39): هي كل ملاءة منسوجة بنسج واحدٍ. وقيل: كل ثوب رقيق لين، والجمع ريط رياط. " النهاية " (2/ 289).

بأس بها للنساء ". يعني وأما الرجال ففيها بأس لهم. وأخرج أبو داود (¬1) والترمذي (¬2) عن عبد الله بن عمرو قال: " مر رجل وعليه ثوبان أحمران، فسلم على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فلم يرد عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ السلام " وقال الترمذي (¬3): حسن غريب من هذا الوجه. وأخرج مسلم في صحيحه (¬4) " عن علي - رضي الله عنه - قال: نهاني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن لباس المعصفر ". وأخرج الطبراني (¬5) عن عمران بن حصين بلفظ " إياكم والحمرة، فإنها أحب الزينة إلى الشيطان " وأخرج عبد الرزاق (¬6) عن الحسن مرسلاً " الحمرة زينة الشيطان ". وأخرجه الحاكم في الكنى (¬7)، وابن قانع (¬8)، ¬

(¬1) في " السنن " رقم (4069). (¬2) في " السنن " رقم (2807). (¬3) في " السنن " (5/ 116). وهو حديث ضعيف. (¬4) في " صحيحه " رقم (31/ 2078). (¬5) أخرجه الطبراني بإسنادين في أحدهما يعقوب بن خالد بن نجيح البكري العبدي ولم أعرفه، وفي الآخر بكر بن محمد يروي عن سعيد عن شعبة، وبقية رجالهما ثقات. كما في " مجمع الزوائد " (5/ 130). (¬6) في " المصنف " (11/ 79 - 80 رقم 19975) مرسلاً. (¬7) لم أجده في القسم المطبوع من الكنى. (¬8) لم يخرجه ابن قانع في " معجم الصحابة " المطبوع.

وابن عدي (¬1) والبيهقي في الشعب (¬2) عن رافع بن زيد بلفظ: " إن الشيطان يحب الحمرة، فإياكم والحمرة وكل ثوب ذي شهرة ". وأخرج ابن ماجه (¬3) عن عبد الله بن عمر - وفي بعض نسخ ابن ماجه: ابن عمرو - بلفظ: " نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن المفدم ". قال ابن الأثير في النهاية (¬4): وفيه " أنه نهى عن الثوب المفدم " وهو الثوب المشبع حمرة، كأنه الذي لا يقدر على الزيادة عليه لتناهي حمرته، فهو كالممتنع من قبول الصبغ، ومن حديث (¬5) علي - عليه السلام -: " نهاني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن أقرأ ¬

(¬1) في " الكامل " (3/ 1172). قلت: وأورده ابن حجر في " الإصابة " في الترجمة رقم (2555) وابن الأثير في " أسد الغابة " (2/ 247 رقم الترجمة 1605) وابن كثير في " جامع المسانيد والسنن " (12/ 108 رقم 94305). والمتقي الهندي في " كنز العمال " رقم (41161). والطبراني في الأوسط رقم (7708) وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (5/ 130) وقال: فيه أبو بكر الهذلي وهو ضعيف. قلت: بل هو متروك. وذكر الجوزجاني هذا الحديث في كتاب " الأباطيل " (2/ 248 رقم 646) وقال: باطل وإسناده منقطع. ورده الحافظ في " الإصابة " (2/ 371) وقال: وقوله باطل مردود، فإن أبا بكر الهذلي لم يوصف بالوضع. وقد وافقه سعيد بن بشير، وإن زاد في السند رجلاً فغايته أن المتن ضعيف. أما حكمه عليه بالوضع فمردود ". وخلاصة القول أن الحديث ضعيف، والله أعلم. (¬2) رقم (6327). (¬3) في " السنن " رقم (3601). (¬4) (3/ 421). (¬5) أخرجه أحمد (1/ 114) ومسلم رقم (2078) وأبو داود رقم (404) والترمذي رقم (1737) والنسائي (2/ 217) و (8/ 167 - 168) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وأبو يعلى رقم (415) وأبو عوانة (2/ 171) والطيالسي رقم (103) والبزار في " المسند " (919). وهو حديث صحيح.

وأنا راكع أو ألبس المعصفر المفدم " وفي حديث عروة أنه كره المفدم للمحرم ولم ير بالمصرح بأسًا. المصرح دون المفدم وبعده المورد. انتهى كلام النهاية، قال في الصحاح (¬1): ثوب مفدم، ساكنة الفاء، إذا كان مصبوغًا بحمرة مشبعًا. وأخرج البخاري (¬2) والترمذي (¬3) عن البراء قال: " نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن المياثر الحمر والقسي ". وأخرج الترمذي، (¬4) وأبو داود، (¬5) عن عمران بن حصين بلفظ: " نهى عن ميثرة الأرجوان " (¬6) قال في النهاية: إن الميثرة تعمل من حرير أو ديباج. والأرجوان: صبغ أحمر يتخذ كالفراش الصغير، ويحشى بقطن أو صوف، يجعلها الراكب تحته، قال: ويدخل في هذا سائر السروج؛ لأن النهي يشمل كل ميثرة حمراء، سواء كانت ¬

(¬1) (5/ 2001). (¬2) في صحيحه رقم (5849) ولفظه عن البراء قال: " أمرنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسبع: عيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، ونهانا عن لبس الحرير، والديباج، والقسي، والإستبرق، والمياثر الحمر ". (¬3) في " السنن " (3/ 299). (¬4) في " السنن " رقم (2808). (¬5) في " السنن " رقم (4051). من حديث علي - رضي الله عنه - قال: " نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن خاتم الذهب، وعن لبس القسي، وعن الميثرة ". (¬6) " النهاية " (4/ 378). وقال في " النهاية " (4/ 59): القسي هو ثياب من كتان مخلوط بحرير يؤتى بها من مصر، نسبت إلى قرية على شاطئ البحر قريبًا من تنيس يقال لها: القس، بفتح القاف، وبعض أهل الحديث بكسرها. وقيل: أصل القسي: القزي بالزاي، منسوب إلى القز، وهو ضرب من الإبرسيم، فأبدل من الزاي سينا.

على رحل أو سرج، هذا لفظه في النهاية (¬1). قلت: والافتراش يسمى لبسًا لغة كما في حديث أخرجه أبو داود (¬2) وفيه: " فقمنا على حصير قد اسود من طول ما لبس فنضحناه " هذا معنى الحديث أو قريب من معناه. قال العلامة المقبلي - رحمه الله - في المنار (¬3) كأنه أراد بالكراهة التحريم. كما يأتي في اللباس وكما هو مقتضى النواهي، ويرى علماء الشافعية (¬4) في عصرنا كأنهم ما سمعوا حديثًا يتخيرون الأحمر القاني. وساق كلامًا لابن القيم (¬5) وفيه: فكيف يظن بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه لبعض الأحمر القاني، كلا لقد أعاذه الله منه. وإنما وقعت الشبهة من لفظ الحلة الحمراء، انتهى كلام ابن القيم، وساق حديثًا بعد هذا [3] أخرجه الطبراني (¬6)، والظاهر أن كلام ابن القيم في جمعه بين النهي وفعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عند لبسه للحلة لا يصح حيث قال: وإنما الحلة الحمراء بردان يمانيان منسوجان بخطوط حمر مع الأسود. وذكر بعده بيسير أن في بعض السير أنهم كانوا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ¬

(¬1) (4/ 378). (¬2) في " السنن " رقم (658). وأخرجه النسائي رقم (738). وأخرج نحوه البخاري في صحيحه رقم (380) عن أنس بن مالك وفيه ". . . فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس، فنضحته بماء. . . ". (¬3) (2/ 266). (¬4) انظر " المجموع " (4/ 336). (¬5) انظر " زاد المعاد " (1/ 134). (¬6) ذكره المقبلي في " المنار " (2/ 266) من حديث عبادة بن الصامت: بصر رسول الله برجل عليه ملحفة معصفرة، فقال: " ألا رجل يستر بيني وبين هذه النار ".

فرأى على رواحلهم أكيسة فيها خطوط حمر، وقال: " ألا أرى هذه الحمرة قد علتكم، فقمنا سراعًا لقول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - حتى نفر بعض إبلنا فأخذنا الأكيسة فنزعناها " رواه أبو داود (¬1). فإن حمله على أن الحلة التي لبسها ذات خطوط بعيد. وهذا الحديث يقضي باختلال تأويله، والله أعلم. وأما المجيز فاستدل بما أخرجه الإمام أحمد (¬2) والبخاري (¬3) ومسلم (¬4)، عن البراء بن عازب قال: " كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مربوعًا بعيد ما بين المنكبين له شعر يبلغ شحمة أذنيه، رأيته في حلة حمراء لم أر شيئًا قط أحسن منه " وأخرجه أبو داود (¬5) والترمذي (¬6) والنسائي (¬7) بنحوه مثله، وبوب له الترمذي (¬8) باب (¬9) ما جاء [في الرخصة] (¬10) في الثوب الأحمر للرجال. وأخرجه ابن ماجه (¬11) بلفظ: " ما رأيت أجمل ¬

(¬1) في " السنن " رقم (4070) بسند ضعيف. قال الشوكاني في " النيل " في أثناء شرح الحديث (20/ 563): وهذا الحديث لا تقوم به حجة؛ لأن في إسناده رجلاً مجهولاً - هو الرجل من بني حارثة. (¬2) في " المسند " (4/ 290). (¬3) في " صحيحه " رقم (3551). (¬4) في " صحيحه " رقم (2337). قلت: وأخرجه أبو داود رقم (4072) والترمذي رقم (3635) والنسائي (8/ 183) وابن ماجه رقم (3599). (¬5) في " السنن " رقم (4072). (¬6) في " السنن " رقم (1724). (¬7) في " السنن " (8/ 202). (¬8) في " السنن " (4/ 219). (¬9) رقم (4). (¬10) زيادة من سنن الترمذي. (¬11) في " السنن " رقم (3599).

من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مترجلاً في حلة حمراء ". وأخرج أبو داود (¬1) عن عامر بن عمرو المزني قال: " رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بمنىً وهو يخطب على بغلة وعليه برد أحمر، وعليٌّ - عليه السلام - أمامه يعبر عنه " وذكر المنذري (¬2) أن في إسناده اختلافًا وأبانه. وهذا ما لدي من أدلة المجيز والمانع، والمعول عليه في تقوية الراجح لما يرضي الصانع، أو إظهار الجمع الصحيح إذا لم يكن بينهما تمانع. ولله الحمد رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. كمل تحرير السائل صبح يوم الأحد، لعله رابع وعشرون شهر ربيع الآخر سنة 1209 [4]. ¬

(¬1) في " السنن " رقم (4073). (¬2) في " مختصره " (6/ 43) وقال: اختلف في إسناده فقيل: انفرد بحديثه أبو معاوية الضرير، وقيل: إنه أخطأ فيه؛ لأن يعلى بن عبيد قال فيه: عن هلال بن عمرو عن أبيه. وصوب بعضهم الأول. وعمرو هذا هو ابن رافع المزني، مذكور في الصحابة، وقال بعضهم فيه: " عمرو بن رافع عن أبيه " وذكر له هذا الحديث.

القول المحرر في حكم لبس المعصفر وسائر أنواع الأحمر " بسم الله الرحمن الرحيم " والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وعلى آله الطاهرين، ورضي الله عن الصحابة الراشدين. بدر بأفلاك البلاغة طالع ... در على جيد الإجادة لامع أم نظم من لباه من أوج العلا ... ما رام فهو له مطيع سامع شكل الذكاء وينتجه (¬1) الفهم الذي ... ما كاد يطمع في مداه الطامع يا مغنيًا عصر الشبيبة جاهدًا ... في كل علم للعلائق قاطع يمشي على نص الدليل مباينًا ... للرأي وهو بنص طه قانع وغدا بهدي محمد وصحابه ... متلبسًا ولما عداه خالع ظفرت يداك بمنبع العلم الذي ... [من عين أسرار النبوة نابع] (¬2) [نفسي الفداء لعصبة نبوية ... مرضية نحو الدليل تسارع] (¬3) [لم يلهها عن منهج الحق الذي ... يروي عن المعصوم رأي خادع] (¬4) إن امرأً يأبى الدليل تعصبًا ... فهو الذي للأنف منه جادع من كان قدوته مقال محمد ... فهو الضليع ومن عداه الضالع كم بين من قال الرسول قضى بذا ... وله به سند صحيح قاطع وفتىً يقول أبو فلان قدوتي ... أرضى بما يرضاه لست أنازع ¬

(¬1) في " الديوان " (ص231) نتيجة. (¬2) كذا في المخطوط، والذي في الديوان (ص232) يروي عن المعصوم، رأي خادع. (¬3) زيادة من المخطوط غير موجود في الديوان (ص232). (¬4) زيادة من المخطوط غير موجود في الديوان (ص232).

فالعلم كل العلم إنصاف الفتى ... وبه أتى النص الصريح الشائع من كان أعرف بالصواب فحظه ... في العلم حظ في الحقيقة واسع أما الذي جعل التعصب مذهبًا ... فهو امرؤ في الجهل عندي واقع [5] لو كان في كل المعارف مفردًا ... وإليه كل في الدقائق راجع وأقول قد وافى إلينا منك يا ... بدر الهدى بحث بديع رائع عن حكم لبس للمعصفر ما الذي ... قد صح مما قال فيه الشارع وكذاك سائر كل ثوب أحمر ... هل جاء عنه من الأدلة مانع واعلم بأن الأمر فيه تخالف ... في السنة الغرآ وفيه تنازع والجمع بالإجماع صار مقدمًا ... ولديه ترجيح الأدلة ضائع وأراه فيما نحن فيه ممكنًا ... وهو الذي للشك عندي رافع قد تم مسلكه بغير تعسف ... فاسلكه فهو لما تفرق جامع والحق أبلج والدليل محكم ... والكل [من نهر] (¬1) النبوة كارع فاستمل ما أمليه دمت منعمًا ... يحبوك بالصنع الجميل الصانع واعذر فهذا النظم غير مهذب ... ما فيه مما يهوى البليغ البارع لكنه في بحث علم بيننا ... والشعر للمقصود منه تابع اعلم أن الثوب المعصفر هو نوع من الثياب الحمر؛ لأن العصفر إذا صبغ به الثوب صار أحمر، كما صرح بذلك جماعة من أهل العلم، فلا يظن أن المعصفر له لون آخر غير لون الحمرة، والأحاديث الواردة في تحريم لبس مطلق الأحمر وفي تحريم لبس نوع منه خاص وهو المعصفر معارضة بأحاديث أخر. وسنتكلم هاهنا على ذلك بحسب ما تبلغ إليه الطاقة، فنقول: أما الأحاديث الواردة في المنع من لبس مطلق الأحمر، فمنها حديث عبد الله بن عمرو عند أبي ..................... ¬

(¬1) في المخطوط (في نهر) والصواب ما أثبتناه.

داود (¬1)، والترمذي (¬2) وقال: حسن (¬3): " أنه مر على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - برجل وعليه ثوبان أحمران، فسلم فلم يرد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ". وهذا الحديث لا تقوم به حجة؛ لأن في إسناده أبا يحيى القتات (¬4)، وهو كوفي لا يحتج بحديثه. قال أبو بكر البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى بهذا اللفظ إلا عن عبد الله بن عمرو، ولا نعلم له طريقًا إلا هذا الطريق، ولا نعلم رواه عن إسرائيل إلا إسحاق بن منصور. قال الترمذي (¬5): بعد أن ساقه: معناه عند أهل الحديث أنه كره المعصفر. قال: ورأوا أن ما صبغ بالحمرة من مدر (¬6) أو غيره فلا بأس به إذا لم يكن معصفرًا. قال الحافظ في الفتح (¬7): هو حديث ضعيف، وإن وقع في نسخ الترمذي أنه حسن، ومنها حديث " أن امرأة من بني أسد قالت: كنت يومًا عند زينب امرأة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -[6] ونحن نصبغ ثيابها بمغرة، والمغرة صباغ أحمر، قالت: فبينما نحن كذلك، إذ طلع علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فلما رأى المغرة (¬8) رجع، فلما رأت ذلك زينب علمت أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قد كره ما فعلت، وأخذت فغسلت ثيابها، ووارت كل حمرة، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه ¬

(¬1) في " السنن " رقم (4069). (¬2) في " السنن " رقم (2807) وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وهو حديث ضعيف كما تقدم. (¬3) أي الترمذي في " السنن " (5/ 116). (¬4) قال ابن حجر في " التقريب " (2/ 489): " لين الحديث ". (¬5) أي الترمذي في " السنن " (5/ 116). (¬6) المدر - محركة -: قطع الطين اليابس - والمراد هاهنا هو الطين الأحمر الذي يصبغ به الثوب فيصير أحمر. (¬7) (10/ 306). (¬8) المغرة: المدر الأحمر الذي تصبغ به الثياب " النهاية " (4/ 345).

وآله وسلم -رجع، فاطلع فلما لم ير شيئًا دخل ". الحديث أخرجه أبو داود (¬1). وجهالة المرأة المذكورة غير قادحة؛ لأنها صحابية، وجهالة الصحابي مغتفرة؛ لأدلة ناهضة استوفيتها في القول المقبول في رد رواية المجهول من غير صحابة الرسول (¬2). ولكن في إسناد الحديث المذكور إسماعيل بن عياش (¬3) وابنه محمد بن إسماعيل (¬4)، وفيهما مقال مشهور، ومنها حديث رافع بن خديج عند أبي داود (¬5) قال: " خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فرأى على رواحلنا وعلى إبلنا أكسية فيها خيوط عهن حمر، فقال: ألا أرى هذه الحمرة قد علتكم! فقمنا سراعًا لقول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فأخذنا الأكسية فنزعناها عنها ". ولا تقوم بالحديث حجة؛ لأن في إسناده رجلاً مجهولاً (¬6)، وذلك لأن محمد بن عمرو بن عطاء المذكور في إسناده قال: عن رجل من بني حارثة عن رافع بن خديج، وهذه الثلاثة الأحاديث على فرض صلاحيتها للاحتجاج بها ليس فيها ما يدل على تحريم لبس الأحمر، بل غاية ما فيها الدلالة على الكراهة فقط. ومن أدلتهم ما أخرجه البخاري (¬7) وغيره من حديث البراء " أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المياثر الحمر ". ولا يخفى أن هذا الدليل أخص من الدعوى. ¬

(¬1) في " السنن " رقم (4071) بسند ضعيف. (¬2) انظر الرسالة رقم (42). (¬3) هو إسماعيل بن عياش بن سليم العنسي، أبو عتبة الحمصي: صدوق في روايته عن أهل بلده، مخلط في غيرهم. " التقريب " رقم (473). (¬4) هو محمد بن إسماعيل بن عياش الحمصي، عابوا عليه أنه حدث عن أبيه بغير سماع. قلت: وخلاصة القول أنه ضعيف. " التقريب " رقم (5735). (¬5) في " السنن " رقم (4070) بسند ضعيف. (¬6) تقدم ذكره. (¬7) تقدم في السؤال.

وغاية ما فيه تحريم الميثرة الحمراء، فما الدليل على تحريم ما عداها من الملبوس وغيره مع ثبوت لبسه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - للأحمر مرات كما سيأتي. فإن قيل: إن إلحاق غيرها بها بالقياس فسيأتي ما يدل على عدم صحته. ومن أدلتهم حديث رافع بن برد أو رافع بن خديج كما قال ابن قانع مرفوعًا بلفظ: " إن الشيطان يحب الحمرة، فإياكم والحمرة وكل ثوب ذي شهرة ". أخرجه الحاكم في الكنى (¬1)، وأبو نعيم في المعرفة (¬2)، وابن قانع (¬3)، وابن السكن (¬4)، وابن منده (¬5)، وابن عدي (¬6)، والبيهقي (¬7)، ويشهد له ما أخرجه الطبراني (¬8) عن عمران بن حصين بلفظ " إياكم والحمرة فإنها أحب الزينة إلى الشيطان ". وأخرج نحوه عبد الرزاق (¬9) من حديث الحسن مرسلاً، وهذا لو صح كان أنص ما احتجوا به على مطلوبهم، ولكنه سيأتي " أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لبس الحلة الحمراء في غير مرة، ويبعد عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن يلبس ما حذرنا من لبسه معللاً ذلك بأن الشيطان يحب الحمرة ". ولا يصح أن يقال هاهنا: إن فعله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لا يعارض القول الخاص بنا كما صرح بذلك أئمة الأصول (¬10) [7] لا نقول: تلك العلة - وهي كون الشيطان يحب ¬

(¬1) لم أجده في القسم المطبوع من الكنى. (¬2) (5/ 2675 - 2676 رقم 2883) في ترجمة (نافع بن يزيد الثقفي). (¬3) لم يخرجه ابن قانع في " معجم الصحابة " المطبوع. (¬4) عزاه إليهما ابن حجر في " الإصابة " (2/ 371 رقم الترجمة 2555) وقال ابن منده: رواه سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن رافع نحوه. (¬5) عزاه إليهما ابن حجر في " الإصابة " (2/ 371 رقم الترجمة 2555) وقال ابن منده: رواه سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن رافع نحوه. (¬6) في " الكامل " (3/ 1172). (¬7) تقدم تخريجه في السؤال. (¬8) تقدم تخريجه. (¬9) في " المصنف " (11/ 79 - 80 رقم 19975). (¬10) انظر تفصيل ذلك في " إرشاد الفحول " (170) " نهاية السول " (3/ 37 - 38).

الحمرة - مشعرة بعدم اختصاص الخطاب. إذ تجنب ما يحبه الشيطان أو يلابسه هو - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أحق الناس به. وأيضًا الحديث المذكور في إسناده أبو بكر البدلي وهو ضعيف، وقد صرح الحافظ (¬1) بتضعيفه، وبالغ الجوزقاني (¬2) فقال: باطل. فعرفت بهذا أن ما تقدم ذكره من الأدلة لا ينتهض للاحتجاج به على فرض انفراده عن المعارض، فكيف وقد ثبت في الأمهات كلها من حديث البراء قال: " كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مربوعًا، بعيد ما بين المنكبين، له شعر يبلغ شحمة أذنيه، رأيته في حلة حمراء لم أر شيئًا قط أحسن منه " (¬3). وأخرج البخاري (¬4) وغيره (¬5) عن أبي جحيفة: " أنه رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - خرج في حلة حمراء مشمرًا، صلى إلى العنزة بالناس ركعتين ". وأخرج أبو داود (¬6) بإسناد فيه اختلاف عن عامر المزني قال: " رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بمنى وهو يخطب على بغلة وعليه برد أحمر، وعليٌّ - عليه السلام - أمامه ". قال في البدر المنير وإسناده حسن. وأخرج البيهقي (¬7) عن جابر " أنه كان له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ثوب أحمر يلبسه في العيدين والجمعة ". وروى ابن خزيمة في صحيحه (¬8) نحوه بدون ذكر الأحمر، وقد ثبت لبسه - صلى الله ¬

(¬1) في " الإصابة " (2/ 371). (¬2) في كتاب " الأباطيل " (2/ 248 رقم 646). (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) في " صحيحه " رقم (376). (¬5) كمسلم في " صحيحه " رقم (250/ 503) وأحمد (4/ 308). (¬6) في " السنن " رقم (4073) وهو حديث صحيح. (¬7) في " السنن الكبرى " (3/ 247). (¬8) لم أجده في المطبوع.

عليه وآله وسلم - للأحمر بعد حجة الوداع، ولم يلبث بعدها إلا أيامًا يسيرة. وقد زعم ابن القيم (¬1) أن الحلة الحمراء التي لبسها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بردان يمانيان منسوجان بخطوط حمراء مع الأسود، وغلط من قال: إنها كانت حمراء بحتًا، قال: وهي معروفة بهذا الاسم. ولا يخفاك أن ما تقدم من الصحابة وصفوا ذلك الملبوس بالحمرة، وهم من أهل اللسان، والواجب الحمل على المعنى الحقيقي وهو الحمراء البحت؛ لأن إطلاق لفظ الأحمر أو الحمراء على ما بعضه أحمر دون بعض مجاز لا يحمل ذلك الوصف عليه إلا لموجب، فإن أراد أن ذلك معنى الحلة الحمراء لغة فليس في كتب اللغة ما يشهد لذلك، وإن أراد أن ذلك حقيقة شرعية فيها فالحقائق الشرعية لا تثبت بمجرد الدعوى، والواجب حمل ما قاله ذلك الصحابي على لغة العرب؛ لأنها لسانه ولسان قومه إلا أن يكتب بالنقل اصطلاح للشارع بخلاف الوضع اللغوي وجب حمل ما أطلق من ألفاظه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وألفاظ أصحابه عليه، كما تقرر في الأصول (¬2) أنها تقدم الحقيقة الشرعية فالعرفية فاللغوية، فإن ابن القيم (¬3) إنما فسرها بذلك التفسير؛ للجمع بين الأدلة، فمع كون كلامه يأبى ذلك لتصريحه بتغليط من قال: إنها الحمراء البحت لا ملجئ إليه لإمكان الجمع بدونه كما سيأتي، مع أن حمله الحلة الحمراء على ما ذكر ينافي ما احتج به [8] في أثناء كلامه من إنكاره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - على القوم الذين رأى على رواحلهم أكسية فيها خطوط حمر (¬4) كما سلف، وفيه دليل على كراهة ما كان فيه خطوط حمر، فلم ينفعه ذلك التفسير الذي فسر به الحلة؛ لاعترافه أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنكر على أولئك القوم ما فيه خطوط حمر، ولكنه لا يليق لمنصف الجزم بتحليل الثوب ¬

(¬1) في " زاد المعاد " (1/ 132). (¬2) انظر تفصيل ذلك: " إرشاد الفحول " (ص107 - 112) " البحر المحيط " (2/ 158 - 159) " المحصول " (1/ 298). (¬3) في " زاد المعاد " (1/ 132). (¬4) تقدم تخريجه.

الأحمر على العموم، فإن الثوب المعصفر نوع من الثياب الحمر كما سلف، وقد صح النهي عن لبسه، فأخرج أحمد (¬1) ومسلم (¬2) والنسائي (¬3) عن عبد الله بن عمرو قال: " رأى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليَّ ثوبين معصفرين، فقال: إن هذه ثياب الكفار، فلا تلبسها ". وعنه أيضًا قال: " أقبلنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ثنية، فالتفت إليَّ وعليَّ ريطة مضرجة بالعصفر، فقال: ما هذه! فعرفت ما كره، فأتيت أهلي وهم يسجرون تنورهم، فقذفتها فيه، ثم أتيته من الغد، فقال: يا عبد الله ما فعلت الريطة؟ فأخبرته فقال: ألا كسوتها بعض أهلك " أخرجه أحمد (¬4)، وأبو داود (¬5)، وابن ماجه (¬6) وزاد " فإنه لا بأس بذلك للنساء ". والريطة - بفتح الراء المهملة وسكون المثناة من تحت ثم طاء مهملة، ويقال: رايطة. قال المنذري (¬7): جاءت الرواية بهما، وهي كل ملاءة منسوجة نسج واحد. وقيل: كل ثوب رقيق لين، والجمع ريط ورياط (¬8). والمضرجة - بفتح الراء المشددة - أي: الملطخة بالعصفر. وأخرج مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أيضًا قال: " رأى عليَّ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ثوبين معصفرين فقال: أمك أمرتك بهذا؟ قال: قلت: أغسلهما يا رسول [الله]؟ قال: بل أحرقهما " وهذه الرواية تنافي الرواية الأولى، وقد جمع بعضهم بين الروايتين بأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أمر أولاً بإحراقهما ندبًا، ثم لما أحرقهما قال له ¬

(¬1) في " المسند " (2/ 162). (¬2) في " صحيحه " رقم (27/ 2077). (¬3) في " السنن " (8/ 203) وهو حديث صحيح وقد تقدم. (¬4) في " المسند " (4/ 96). (¬5) في " السنن " رقم (4066). (¬6) في " السنن " رقم (3603) وهو حديث حسن وقد تقدم. (¬7) في " مختصر السنن " (6/ 39). (¬8) " النهاية " (2/ 289).

النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لو كسوتهما بعض أهلك " إعلامًا له بأن هذا كان كافيًا لو فعله، وأن الأمر للندب. ولا يخفى ما في هذا من التكليف الذي عنه مندوحة؛ لأن القضية لم تكن واحدة حتى يجمع بين الروايتين بمثل هذا، بل هما قضيتان مختلفتان، وغايته أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في أحد القضيتين غلّظ عليه وعاقبه فأمره بإحراقهما، ولعل هذه المرة التي أمره فيها بالإحراق كانت بعد تلك المرة التي أخبره فيها بأن ذلك غير واجب، وهذا وإن كان بعيدًا من جهة أن صاحب القصة يبعد أن يقع منه اللبس للمعصفر مرة أخرى بعد أن سمع فيه ما سمع المرة الأولى، ولكنه دون البعد الذي في الجمع الأول؛ لأن احتمال النسيان كائن، وكذا احتمال عروض شبهة توجب الظن بعدم التحريم، ولا سيما وقد وقعت منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - المعاتبة على الإحراق. قال القاضي عياض (¬1) [9]: " أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بالإحراق من باب التغليظ والعقوبة " انتهى. وأخرج مسلم (¬2) وأبو داود (¬3) والترمذي (¬4) والنسائي (¬5) عن علي - عليه السلام - قال: " نهاني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن التختم بالذهب، وعن لباس القسي، وعن القراءة في الركوع والسجود وعن لباس المعصفر " وقد قيل: إن هذا النهي مختص بعلي عليه السلام؛ ولهذا ثبت في رواية (¬6) عنه أنه قال: " ولا أقول نهاكم " ويجاب بأن ¬

(¬1) في " إكمال المعلم بفوائد مسلم " (6/ 589). (¬2) في " صحيحه " رقم (2078). (¬3) في " السنن " رقم (4044). (¬4) في " السنن " رقم (1737) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬5) في " السنن " (2/ 217) (8/ 167 - 168) وهو حديث صحيح. (¬6) ". . . . بأن ظاهر قوله: " نهاني " أن ذلك مختص به؛ ولهذا ثبت في رواية عنه أنه قال: ولا أقول نهاكم. وهذا الجواب ينبني على الخلاف المشهور بين أهل الأصول في حكمه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الواحد من الأمة هل يكون حكمًا على بقيتهم أو لا. والحق الأول، فيكون نهيه لعلي وعبد الله نهيًا لجميع الأمة، ولا يعارضه صبغه بالصفرة على تسليم أنها من المعصفر؛ لما تقرر في الأصول من أن فعله الخالي عن دليل التأسي الخاص لا يعارض قوله الخاص بأمته. فالراجح: تحريم الثياب المعصفرة، والعصفر وإن كان يصبغ صبغًا أحمر كما قال ابن القيم - زاد المعاد (1/ 136) - فلا معارضة بينه وبين ما ثبت في الصحيحين - تقدم من حديث البراء - من أنه " صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يلبس حلة حمراء "؛ لأن النهي في هذه الأحاديث يتوجه إلى نوع خاص من الحمرة، وهي الحمرة الحاصلة عن صباغ العصفر. وقال البيهقي في " معرفة السنن والآثار " (2/ 452 - 454) رادًا لقول الشافعي: إنه لم يحك أحد عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النهي عن الصفرة إلا ما قال علي: " نهاني ولا أقول نهاكم " واعلم أن الأحاديث تدل على أن النهي على العموم، ثم قال بعد ذلك: ولو بلغت هذه الأحاديث الشافعي - رحمه الله - لقال بها.

ذلك ينبني على الخلاف المشهور في الأصول (¬1) في حكمه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - على الواحد من الأمة، هل يكون حكمًا على بقيتهم أو لا؟ والحق الأول، وأيضًا لفظ أبي داود وغيره نهي، وهو يفيد العموم؛ لما تقرر في علم المعاني أن حذف (¬2) المتعلق من المشعرات بالتعميم. وأخرج أبو داود (¬3) من طريق أخرى عن عبد الله بن عمرو قال: " رآني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وعليَّ ثوب مصبوغ بعصفر مورد، فقال: ما هذا؟ قال: فانطلقت فأحرقته، فقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ما صنعت بثوبك؟ فقلت: أحرقته، فقال: أفلا كسوته بعض أهلك " وفي إسناده إسماعيل بن عياش وشرحبيل بن مسلم الخولاني، وهما ضعيفان. وأخرج أبو داود (¬4) من حديث عمران بن حصين أن نبي الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ¬

(¬1) انظر " إرشاد الفحول " (ص444) وقد تقدم توضيحه مرارًا. (¬2) انظر " إرشاد الفحول " (ص453) و" البحر المحيط " (3/ 195). (¬3) في " السنن " رقم (4068) وهو حديث ضعيف. (¬4) في " السنن " رقم (4048) وهو حديث ضعيف.

قال: " لا أركب الأرجوان ولا ألبس المعصفر " وهو من رواية الحسن عن عمران بن حصين، ولم يسمع منه فهو منقطع. وأخرج الطبراني (¬1) عن عبادة بن الصامت قال: " بصر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - برجل عليه ملحفة معصفرة، فقال: ألا رجل يستر بيني وبين هذه النار؟ " فهذه الأحاديث قاضية بمنع لبس ما كان من الثياب الحمراء (¬2) المصبوغة بالعصفر، فيتعين الجمع بين الأحاديث المختلفة المتقدمة بأن يحمل ما روي من لبسه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - للأحمر على ما كان مصبوغًا بغير العصفر، ويحمل ما روي من النهي عن مطلق ¬

(¬1) أورده الهيثمي في " المجمع " (5/ 156) وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات. (¬2) قال الحافظ في " الفتح " (10/ 306): إن في لبس الثوب الأحمر سبعة مذاهب: الأول: الجواز مطلقًا جاء عن علي، وطلحة، وعبد الله بن جعفر، والبراء، وغير واحد من الصحابة، وعن سعيد بن المسيب، والنخعي، والشعبي، وأبي قلابة، وطائفة من التابعين. الثاني: المنع مطلقًا، ولم ينسبه الحافظ إلى قائل معين، إنما ذكر أخبارًا وآثارًا يعرف بها من قال بذلك. الثالث: يكره لبس الثوب المشبع بالحمرة دون ما كان صبغه خفيفًا، جاء ذلك عن عطاء وطاوس ومجاهد. الرابع: يكره لبس الأحمر مطلقا لقصد الزينة والشهرة، ويجوز في البيوت والمهنة. جاء ذلك عن ابن عباس. الخامس: يجوز لبس ما كان صبغ غزله ثم نسج، ويمنع ما صبغ بعد النسج، جنح إلى ذلك الخطابي. السادس: اختصاص النهي بما يصبغ بالعصفر، ولم ينسبه إلى أحد. السابع: تخصيص المنع بالثوب الذي يصبغ كله، وأما ما فيه لون آخر غير أحمر فلا، حكى عن ابن القيم أنه قال بذلك بعض العلماء. قال الحافظ: والتحقيق في هذا المقام أن النهي عن لبس الأحمر إن كان من أجل أنه لبس الكفار، فالقول فيه كالقول في المثيرة الحمراء، وإن كان من أجل أنه زي النساء، فهو راجع إلى الزجر عن التشبه بالنساء، فيكون النهي عنه لا لذاته، وإن كان من أجل الشهرة أو خرم المروءة فيمنع، حيث يقع ذلك، وإلا فلا فيقوي ما ذهب إليه مالك في التفرقة بين لبسه في المحافل وفي البيوت.

الأحمر وإنكاره على المقيد بكونه مصبوغًا بالعصفر، فيكون الممنوع لبسه من أنواع الأحمر هو المصبوغ بالعصفر فقط دون غيره، وهذا الجمع متعين وهو الراجح عندي (¬1). ويؤيده ما أخرجه أحمد (¬2) وأبو داود (¬3) والنسائي (¬4) عن ابن عمر: " أنه كان يصبغ ثيابه ويدهن بالزعفران، فقيل: لم تصبغ ثيابك وتدهن بالزعفران؟ فقال: إني رأيته أحب الأصباغ إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يدهن به ويصبغ به ثيابه " ولا شك أن المصبوغ بالزعفران يكون أحمر. ولا يعترض على هذا بأن يقال قد ثبت في الصحيحين عن ابن عمر " أنه قال: وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يصبغ بها، فأنا أحب أن أصبغ بها " لأنا نقول: المراد بالصبغ هاهنا خضاب اللحية. قال المنذري (¬5): واختلف الناس في ذلك، فقال بعضهم: أراد الخضاب للحية بالصفرة. وقال آخرون: أراد تصفير الثياب. انتهى. وقد جزم الخطابي (¬6) بأن المراد [10] خضاب اللحية، ولكنه زاد أبو داود (¬7) والنسائي ما لفظه: وكان يصبغ بها ثيابه كلها، ولا يخفاك أن الذي جزمنا بمنعه هو المصبوغ بالعصفر فقط، والمذكور في هذا الحديث الصبغ بالصفرة، وقد قدمنا أن العصفر (¬8) يصبغ صباغًا أحمر، حتى قال ابن القيم (¬9): ¬

(¬1) انظر " نيل الأوطار " (1/ 146 - 153) و" المفهم " (5/ 400). (¬2) في " المسند " (2/ 97). (¬3) في " السنن " رقم (4064). (¬4) في " السنن " (8/ 140) وهو حديث صحيح. (¬5) في " مختصر السنن " (6/ 38). (¬6) في " معالم السنن " (5/ 338 - هامش السنن). (¬7) في " السنن " رقم (4064). (¬8) انظر " القاموس " (ص567). (¬9) في " زاد المعاد " (1/ 131).

إن ذلك معلوم والصباغ بالصفرة خارج عما نحن بصدده، وهذا الجمع الذي رجحناه وهو المروي عن أهل الحديث كما تقدم عن الترمذي (¬1) في أول البحث، وفي لبس الأحمر خلاف منتشر، ومذاهب متعددة بلغت إلى سبعة كما في فتح الباري (¬2). قال النووي في شرح مسلم: واختلف العلماء في المعصفرة هل هي المصبوغة بعصفر؟ فأباحها جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك، لكنه قال: غيرها أفضل منها، وفي رواية أنه أجاز لباسها في البيوت وأفنية الدور. وكرهه في المحافل والأسواق ونحوها. وقال جماعة من العلماء: هو مكروه كراهة تنزيه، وحملوا النهي على هذا؛ لأنه ثبت " أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لبس حلة حمراء " (¬3). وفي الصحيحين (¬4) عن ابن عمر قال: " رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يصبغ بالصفرة ". وقال الخطابي (¬5): النهي منصرف إلى ما صبغ من الثياب بعد النسج، فأما ما صبغ غزله ثم نسج، فليس بداخل في النهي، وحمل بعض العلماء النهي هنا على المحرم بالحج أو العمرة؛ ليكون موافقًا لحديث (¬6) ابن عمر: " نهى المحرم أن يلبس ثوبًا مسه ورس أو زعفران " انتهى. ¬

(¬1) في " السنن " (4/ 116). (¬2) (10/ 306) تقدم ذكرها. (¬3) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح. (¬4) البخاري في " صحيحه " رقم (166) ومسلم رقم (1187). (¬5) في " معالم السنن " (5/ 338 - حاشية السنن). (¬6) أخرجه البخاري في " صحيحه " رقم (5852) ومسلم رقم (3/ 1177) وابن ماجه رقم (2930) (2932) والبيهقي في " السنن " (5/ 50) وابن حبان رقم (3787) وأحمد (2/ 66) من طرق. وهو من حديث عبد الله بن عمر.

قال البيهقي (¬1) في السنن: نهى الشافعي - رحمه الله - الرجل عن المزعفر، وأباح له المعصفر، قال الشافعي: إنما رخصت في المعصفر؛ لأني لم أجد أحدًا يحكي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - النهي عنه إلا ما قال علي - رضي الله عنه -: " نهاني ولا أقول نهاكم " قال البيهقي (¬2) وقد جاءت أحاديث تدل على النهي على العموم، ثم ذكر حديث عبد الله بن عمرو المتقدم وأحاديث أخرى ثم قال: لو بلغت هذه الأحاديث الشافعي - رحمه الله - لقال بها، ثم ذكر بإسناده ما صح عن الشافعي - رحمه الله - أنه قال: إذا صح حديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - خلاف قولي فاعملوا بالحديث ودعوا قولي. وفي رواية (¬3): فهو مذهبي. قال البيهقي (¬4): وقد كره المعصفر بعض السلف، وبه قال أبو عبد الله الحليمي، ورخص فيه جماعة. والسنة أولى بالاتباع. انتهى. وحكى الإمام المهدي - رحمه الله - في البحر (¬5) عن العترة وأبي حنيفة أنه يكره للرجل لبس المشبع صفرة وحمرة في غير الحرب، واستدل بحديث عليٍّ - عليه السلام - المتقدم، وظاهر تلك الحكاية عمن ذكر عدم الفرق بين الأحمر بالعصفر أو بغيره. وحكى أيضًا عن مالك والشافعي عدم الكراهة. وحكى أيضًا عن الإمام يحيى - رحمه الله - أنه لا يكره المصبوغ بالفوه والبقم، وقد [11] اقتصر الإمام المهدي على حكاية الكراهة فقط لمذهب العترة كما في البحر (¬6) في كتاب اللباس وكتاب الصلاة، والمعروف من مذهب الزيدية التحريم. وقد صرح في الغيث (¬7) أنهم صححوا التحريم؛ ولهذا جعل لبس المشبع صفرة وحمرة ¬

(¬1) في " معرفة السنن والآثار " (2/ 454 رقم 3434). (¬2) في " معرفة السنن والآثار " (2/ 454 رقم 3434). (¬3) أخرجه البيهقي في " معرفة السنن والآثار " (2/ 454 رقم 3435). (¬4) انظر " معرفة السنن والآثار " (2/ 454 - 455). (¬5) (4/ 360). (¬6) (4/ 360). (¬7) تقدم التعريف به.

في الأزهار (¬1) في باب اللباس من جملة المحرمات، والراجح ما أسلفناه، ويؤيده ما تقدم عن ابن عمر أنه كان يصبغ ثيابه بالزعفران (¬2). ويحكى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " أنه كان يصبغ ثيابه به " (¬3). وأخرج الترمذي (¬4) من حديث قيلة بنت مخرمة: " أنها رأت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وعليه مليتان كانتا بزعفران وقد نفضتا ومعه عسيب نخلة ". وأخرج أيضًا (¬5) من حديث سمرة مثله، فهذه ثلاثة أحاديث عن ثلاثة من الصحابة مصرحة بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان يصبغ ثيابه بالزعفران وهو يصبغ أحمر كما لا يخفى. وفي ذلك إرشاد إلى ما ألمحنا إليه من أن المحرم نوع مخصوص من الأحمر وهو المعصفر. وذكر الجلال في ضوء النهار (¬6): أنه يجمع بين الأحاديث بحمل النهي على الكراهة، ويبعد ذلك ما تقدم من أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لمن لبس بأن يحرقه، ولا يعاقب على ارتكاب المكروه بمثل هذا، يؤيده بعدًا قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها " (¬7) فإن المجيء بالنهي بعد بيان أنها مختصة بالكفار يفيد أنه للتحريم؛ لما تقرر من أن التشبه بالكفار حرام، وجعل النهي عن المعصفر مقترنًا بالنهي عن الحرير وخاتم الذهب كما تقدم في حديث عليٍّ - عليه السلام - مما يؤيد التحريم. قال المقبلي في المنار (¬8): والظاهر أن ما ساوى المعصفر في نصوع الحمرة فهو مثله، ¬

(¬1) (3/ 284 - مع السيل). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) لم أجده. (¬5) في " السنن " (4/ 219). (¬6) (4/ 1999 - 2002). (¬7) تقدم تخريجه. (¬8) (2/ 266).

كالأصباغ التي تكون في شيء من الجوخ هي أقنى وأزين من المعصفر إن لم تزد عليه لم تنقص. والشافعية اقتصروا عليه ولا وجه لذلك؛ لأنه لا خصوصية للمعصفر، فيتعدى الحكم بالقياس بعدم الفرق. وأحاديث كراهة الحمرة كقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " ألا إن هذه الحمرة قد علتكم " (¬1) تقوي التعميم، غايته أن المحقق المشبع كما ذكره المصنف، وقد مر في الصلاة ما هو أبسط من هذا. انتهى كلامه (¬2). وأقول هذا مبني على ما ذكره ابن القيم (¬3) من التأويل في الحلة الحمراء التي لبسها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كما تقدم، وقد عرفت عدم صحته، والمقبلي - رحمه الله - قد قلده في ذلك، ونقل كلامه في كتاب الصلاة من حاشية المنار (¬4)، فاستراح بذلك من الأحاديث الواردة في الصحيح وغيره أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لبس الحلة الحمراء والثوب الأحمر كما سلف؛ ولهذا رجح العمل بالقياس لما فيه من حمرة من الثياب مطلقًا على ما كان منها مصبوغًا بالعصفر، ولا يتم ذلك على ما قررنا من أن المعنى الحقيقي لما وصفه [12] الصحابي بالحمرة هو أن جميعه أحمر لا بعضه. وأيضًا ما كان البعض منه أحمر منهيًا عنه كما اعترف به ابن القيم (¬5). ولا يخفى أن إلحاق كل ما كان أحمر بما كان معصفرًا استلزم على ذلك التقرير إهدار الأحاديث الواردة بلبسه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - للأحمر أو التكليف لدعوى الاختصاص به، وكل ذلك غير مناسب، أما الأول فلا شك أن اطراح دليل صحيح بدليل آخر دونه في الصحة أو مثله بلا مرجح مما لا يقع فيه منصف، وعلى تسليم وجود المرجح كأن ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) المقبلي في " المنار " (2/ 266). (¬3) في " زاد المعاد " (1/ 131). (¬4) " المنار " (2/ 266). (¬5) في " زاد المعاد " (1/ 131).

يقال فيما نحن بصدده مثلاً، الأحاديث القاضية بتحريم الأحمر أقوال وهي أرجح من الأفعال، فلا يتم ذلك أيضًا؛ لأنه مصير إلى الترجيح مع إمكان الجمع وهو غير جائز إجماعًا. وأما الثاني فقد تقرر بنص الكتاب والسنة. أن التأسي بأفعاله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ثابت على الأمة كالتأسي بأقواله، فالقول بالاختصاص في غير ما تبين وجهه خلاف الظاهر بالإجماع فلا يصار إليه إلا لموجب. إذا تقرر هذا عرفت أن ما ذكرناه من الجمع بتحريم المعصفر وحده متعين، لا يتم العمل بجميع الأدلة المختلفة على وجه حسن، وعدم الترك لبعضها أو التعسف في تأويل ما لا ملجئ إلى تأويله إلا به. وهذا على فرض عدم العلم بالتاريخ، فكيف وقد علم أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لبس الأحمر بعد حجة الوداع (¬1)، ولم يلبث - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بعدها إلا نحو ثلاثة أشهر!. وقد تقرر في الأصول (¬2) أن المتأخر ناسخ للمتقدم مع عدم إمكان الجمع، سواء كان المتأخر قولا أو فعلا مصحوبًا بدليل التأسي الخاص والعام على خلاف في ذلك، مرجعه إلى شمول القول له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بطريق التنصيص أو الظهور، أو اختصاصه بسائر الأمة دونه. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والله ولي التوفيق، حرر الجواب في سلخ شهر ربيع الآخر سنة 1209 [13]. ¬

(¬1) انظر " فتح الباري " (10/ 259، 306). (¬2) انظر " البحر المحيط " (4/ 127)، و" إرشاد الفحول " (ص605) وما بعدها. انظر " فتح الباري " (10/ 306).

الأبحاث البديعة في وجوب الإجابة إلى حكام الشريعة

الأبحاث البديعة في وجوب الإجابة إلى حكام الشريعة تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " الأبحاث البديعة في وجوب الإجابة إلى حكام الشريعة ". 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، إياك نعبد، وإياك نستعين، أحمدك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآل رسولك. . . . 4 - آخر الرسالة: وهي موجودة في الصحيحين بالغة فيهما إلى حد التواتر المعتبر، فراجعوا ذلك ففيه ما يغني. والحمد لله أولاً وآخرًا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله، ورضي الله عن الصحابة الأخيار. 5 - نوع الخط: خط نسخي عادي. 6 - عدد الصفحات: 45 صفحة ما عدا صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 27 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 11 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم إياك نعبد، وإياك نستعين، أحمدك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآل رسولك. وبعد: فإنه وصل إلى الفقير محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما - سؤال من سيدي السيد العلامة الرئيس الفهامة شرف الدين بن أحمد بن محمد بن الحسين (¬1) - كثر الله فوائده - حاصله: هل ثم دليل يدل على وجوب إجابة أحد الخصمين إلى حاكم خارج عن المحل الذي يسكنه الخصم الآخر المطلوب؟ فأجبت بجواب لم يكن أصله محفوظًا لدي، وحاصله أن الإجابة إلى الشريعة المطهرة واجبة على كل مسلم، فمن دعا خصمه إلى قاض من القضاة الذين يعرفون حكم الله في تلك الخصومة، ويتمكنون من الحكم بما أمر الله بالحكم به في محكم كتابه، فإنه أمر رسله وسائر عباده بالحكم بما أنزل، وبالعدل وبالقسط، وبما أراهم الله، وجب عليه إجابته. ومعلوم أنه لا يعرف ذلك إلا من يعرف ما أنزل الله في كتابه وعلى لسان رسوله؛ فإن ذلك هو الشريعة المحمدية، وجميع ما يحصل من المسائل الشرعية بالمقايسة الصحيحة هو من جملة ما تناوله الكتاب أو السنة بتلك الواسطة، وكذلك ما كان من المسائل بدليل فحوى الخطاب (¬2) أو لحنه (¬3)، ¬

(¬1) ابن عبد القادر بن الناصر بن عبد الرب بن علي بن شمس الدين بن الإمام شرف الدين أمير كوكبان وبلادها. ولد في ربيع الآخر سنة 1159هـ. قال الشوكاني في " البدر الطالع " رقم (193): وقد كاتبني غير مرة، وذاكرني في مسائل ونصحته فأظهر القبول ولم يفعل. كانت وفاته سنة 1241هـ. " نيل الوطر " (1/ 158). (¬2) المفهوم ينقسم إلى مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة. فمفهوم الموافقة حيث يكون المسكوت عنه موافقًا للملفوظ به، فإن كان أولى بالحكم من المنطوق به فيسمى فحوى الخطاب. وإن كان مساويًا له فيسمى لحن الخطاب. وقال الماوردي والروياني في الفرق بين فحوى الخطاب ولحن الخطاب وجهين: أحدهما: أن الفحوى ما نبه عليه اللفظ، واللحن ما لاح في ثنايا اللفظ. وثانيهما: أن الفحوى ما دل على ما هو أقوى منه، واللحن ما دل على مثله. " إرشاد الفحول " (ص589)، " البحر المحيط " (4/ 8). مثال: فحوى الخطاب: كدلالة تحريم التأفف على تحريم الضرب؛ لأنه أشد، فتحريم الضرب من قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} [الإسراء: 23]. من باب التنبيه بالأدنى - وهو التأفيف - على الأعلى وهو الضرب. مثال: لحن الخطاب: تحريم إحراق مال اليتيم الدال عليه قوله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما} [النساء: 10]. فالإحراق مساوٍ للأكل بواسطة الإتلاف في الصورتين. انظر " الكوكب المنير " (3/ 482)، " المستصفى " (3/ 411 - 412). (¬3) المفهوم ينقسم إلى مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة. فمفهوم الموافقة حيث يكون المسكوت عنه موافقًا للملفوظ به، فإن كان أولى بالحكم من المنطوق به فيسمى فحوى الخطاب. وإن كان مساويًا له فيسمى لحن الخطاب. وقال الماوردي والروياني في الفرق بين فحوى الخطاب ولحن الخطاب وجهين: أحدهما: أن الفحوى ما نبه عليه اللفظ، واللحن ما لاح في ثنايا اللفظ. وثانيهما: أن الفحوى ما دل على ما هو أقوى منه، واللحن ما دل على مثله. " إرشاد الفحول " (ص589)، " البحر المحيط " (4/ 8). مثال: فحوى الخطاب: كدلالة تحريم التأفف على تحريم الضرب؛ لأنه أشد، فتحريم الضرب من قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} [الإسراء: 23]. من باب التنبيه بالأدنى - وهو التأفيف - على الأعلى وهو الضرب. مثال: لحن الخطاب: تحريم إحراق مال اليتيم الدال عليه قوله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما} [النساء: 10]. فالإحراق مساوٍ للأكل بواسطة الإتلاف في الصورتين. انظر " الكوكب المنير " (3/ 482)، " المستصفى " (3/ 411 - 412).

ثم ذكرت ذلك في الجواب دليلين من كتاب الله تعالى على وجوب الإجابة إلى الشريعة المطهرة، وهما قول الله - عز وجل -: {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا} (¬1) [1أ] وقول الله - سبحانه -: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} (¬2). وأوضحت ما في هاتين الآيتين الشريفتين من الأسرار الربانية التي يمكن الاطلاع على بعضها للبشر بممارسة العلوم الموضوعة لبيان دقائق العربية وأسرارها، جازمًا بأن الدعاء إلى الله وإلى رسوله هو الدعاء إلى ما شرعه الله ورسوله، مبرهنًا على ذلك بإجماع المتشرعين عليه، وبيانه أنه لا يعرف خلاف لفرد من أفراد المسلمين سابقهم ولاحقهم في وجوب إجابة من دعا خصمه إلى التحاكم إلى الشريعة المطهرة، فمن ادعى أن ذلك لا يجب إلا في زمن النبوة إلى رسول ¬

(¬1) [النور: 51]. (¬2) [النساء: 65].

الله وحده فقد طوى بساط الشريعة بعد عصر الرسالة، وخالف جميع أهل الملة الإسلامية من لدن الصحابة إلى الآن، فإنهم متفقون على وجوب الإجابة إلى الشريعة، متقيدون بأحكامها قولاً وفعلاً واعتقادًا، فإن قال من قصر وجوب الإجابة على أيام النبوة إلى رسول الله وحده إنه قائم مقام المنع وطالب للدليل، فهذا الإجماع الذي نقلناه يكفي في الجواب عليه، على أن في الكتاب العزيز، وفي السنة المطهرة من الأدلة المصرحة بوجوب الإجابة لما شرعه الله في محكم كتابه وعلى لسان رسوله ما لا يأتي عليه الحصر. ولا فائدة في إيراد شيء من ذلك؛ لأن هذا الأمر هو المقصد الأهم، والغرض الأقدم من الدعوة المحمدية، بل من دعوة جميع الرسل، ولا يظن بمسلم أن يخالف في ذلك، ولو فرضنا وجوده فرضًا اختراعيًا لكان هو المطالب بالدليل؛ لأنه يزعم أن بساط الشريعة قد طوي بعد أيام النبوة [1ب]، وارتفع تعبد الأمة بها. فيقال له: ما الدليل على ذلك مع كونه [. . . . .] (¬1) الضرورة الدينية؟ فإن خص ذلك بمسائل الخصومة دون غيرها وقال: لا تجب إجابة دعوة الخصم لخصمه إلى الشريعة بعد عصر النبوة مع تسليمه أن الأمة متعبدة بهذه الشريعة المطهرة قبل مضي عصر النبوة، فيقال له: ما الفرق بين مسائل الصلاة والصيام مثلاً، وبين مسائل البيع والهبة والنذر حتى بقي التعبد بالمسائل الأولى دون المسائل الثانية؟ فإن قال: لا فرق كما هو الظن بكل مسلم، فيقال له: إذا اختلف المسلمان في شيء من المعاملات الشرعية، فقال أحدهما: الحق بيده، وقابله الآخر بمثل دعواه، فما الحيلة في رفع ما بينهما من الاختلاف؟ هذا على فرض عدم الدعوة من أحدهما لخصمه إلى الشريعة المطهرة، فكيف إذا دعاه إليها، وهذا التقدير إنما هو مقدمة لما يأتي في غضون هذه الأبحاث؛ إذ النزاع لم يتعلق به في الظاهر، وإن استلزمه كلام المعترض - عافاه الله - كما سيأتي بيانه. وإذا تقرر وجوب إجابة الطالب لخصمه إلى الشريعة المطهرة بالضرورة الدينية. فلا ¬

(¬1) كلمة غير واضحة في المخطوط.

بد أن يكون القاضي المدعو إليه على الصفة التي [2أ] قدمنا من العلم بالشريعة التي هي الكتاب والسنة وما يلتحق بهما، وهو لا يعلم بكتاب الله حتى يعرف محكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه، وعامه وخاصه، ومجمله ومبينه، ومطلقه ومقيده، وتنزيله وتأويله (¬1)، ولا يعرف ذلك إلا نحارير العلماء، على أن فهم مدلول تركيباته المشتملة على المسائل الشرعية لا يتم إلا بعد معرفة لغة العرب على الصفة التي كانت عليها، وذلك يتوقف على معرفة علم اللغة، والنحو والصرف، والمعاني والبيان، كما أن بعض الأوصاف السابقة لا يعرف إلا بمعرفة علم الأصول، ومعرفة ما قاله علماء الصحابة فمن بعدهم في تفسير آيات الكتاب العزيز، وبيان أسباب النزول، وتاريخ الوقائع، وهكذا معرفة السنة المطهرة تتوقف على ما يتوقف عليه معرفة الكتاب العزيز من العلوم، مع زيادة البحث عن أحوال الرواة، ومعرفة من يجوز العمل على روايته ومن لا يجوز، وما يكون به الحديث صحيحًا، أو حسنًا، أو ضعيفًا، أو موضوعًا. ولا يعرف ذلك إلا من يعرف علوم الحديث معرفةً يفهم بها هذا الشأن، وهذا عندي هو العقبة الكؤود، فإن أقدام العلماء فيه متفاوتة غاية التفاوت، فمنهم من لا يفهمه ولا يهتدي إليه، ومنهم من يأخذ منه بقدر فهمه. وأما بلوغ [2ب] درجة التحقيق فيه والإتقان له فقليل جدًا، خصوصًا في ديارنا هذه، فإن وجود من يعرف الأمهات الست فضلاً عن غيرها قليل جدًا، مع أن التوسع في معرفة السنة المطهرة لا بد منه لمن يدعي أنه يقتدر على الحكم بين المتخاصمين بما في الكتاب والسنة؛ لأن دليل المسألة قد يوجد في كتاب ولا يوجد في كتاب آخر، فإن كثيرًا من المسائل التي تقع فيها الخصومة لا يوجد دليلها في الأمهات الست، وهو موجود في غيرها من المسانيد والمستدركات والمستخرجات ونحوها. هذا يعلمه كل باحث عن الأدلة، وناظر في مواطنها، فإذا اختصم الرجلان إلى قاض يعلم بما في الأمهات الست، ¬

(¬1) انظر " أدب القاضي " (ص19 - 25)، " تبصرة الحكام " (1/ 11).

ولا يعلم بما في غيرها، وكان دليل ما اختصما فيه غير موجود فيها، وهو موجود في غيرها، وقد علمه قاض آخر، فمعلوم أن القاضي الآخر هو الذي يعلم بالحكم الشرعي في تلك المسألة، وهكذا إذا كان أحد القاضيين أوسع رواية ودراية من الآخر، فإن كل خصومة تعرض للقاضي المفضول ولا يجد دليلها لا بد أن يختلج في خاطره، بل وفي خاطر الخصمين إن كان لهما بعض تمييز، بل وفي خاطر غيرهما من الناس أن القاضي الفاضل قد يجد دليل تلك المسألة، وهذا إنما ذكرته ليعلم الواقف عليه أن من كان أكثر علمًا كان أعلم بحكم الله في المسألة، ولا أقول: إنه يجب أن يكون التخاصم إلى الأفضل غير مقيد بقيد القرب الذي لا يكون فيه كثير مشقة على المتخاصمين؛ لأن كل عالم يوجد لا بد أن يجوز العقل أن غيره أعلم منه، بل أقول: إن التخاصم إلى من هو أعلم بالمسائل الشرعية المأخوذة عن الأدلة متعين إذا كان في مكان معلوم لا يحصل به الإتعاب للخصمين، الخارج عن مسلك الشريعة السمحة السهلة، وهذا على تقدير أن يكون في المكان الذي يسكنه الخصمان قاض مفضول، لكنه عالم بالكتاب والسنة ومقدماتها علمًا دون علم الفاضل. أما إذا لم يكن في ذلك [3أ] قاض كذلك، بل كان من فيه من القضاة ممن له بعض فهم، ولكن لا يتمكن من استخراج الحجة الشرعية؛ لعدم اشتغاله بذلك، أو كان قاصر الفهم على وجه لا يتعقل الحجة الشرعية إذا جاءته، فهذا وجوده كعدمه، وترافعُ الخصمين إليه ليحكم بينهما بالشريعة المطهرة جهل على جهل؛ فإنهما جهلا كونه لا يعلم بالشريعة فترافعا إليه، وهو أيضًا جهل أنه غير عالم بها فقبلهما، وصدر نفسه للحكم بينهما. ولو كشف للخصمين أن القاضي لا يعلم بالشريعة لم يتخاصما إليه؛ لأنهما إنما طلبا الحكم الشرعي؛ فلهذا سلما وقنعا وأذعنا لما حكم به، ولو علم المحكوم عليه منهما أن الحكم عليه في تلك الحادثة مخالف للشريعة المطهرة لم يقنع إلا إذا أكره إكراهًا لا يتمكن معه من طلب حكم الله، وهكذا لو علم القاضي الجاهل بأنه غير عالم بالشريعة المطهرة لم يصدر نفسه للحكم إذا كان فيه أدنى نصيب من الدين وأحقر حصة

من التقوى. ولكنه شبه عليه الأمر، فظن لجهله أن الشريعة المطهرة هي ما يحفظه بعض الممارسين للخصومات من تلك القوانين التي قد وقع الاصطلاح عليها، قأقدم على الحكم إقدام من جهل الحكم الشرعي وجهل أنه جاهل به، وهذا القاضي لا فرق بينه وبين من يتكسب بالوكالة للخصوم في ديارنا هذه، فإن من كان من المتخاصمين غير قادر على الخصومة يقصد رجلاً من الممارسين للخصومة فيجعله وكيلاً له، ويسلم له أجرًا؛ لأنه ظن أن ذلك الوكيل يعرف الشريعة، وأنه سيكفيه مؤونة الخصام؛ فلهذا بذل له ماله وألقى إليه مقاليد أمره، وذلك الوكيل قد ظن أن الشريعة هي تلك المسالك الاصطلاحية التي قد مارسها وتمرن فيها، فصدر نفسه للوكالة، وتكلم في مواقف الخصام بملء فيه، كما ظن ذلك القاضي الجاهل بأنه قد علم بالشريعة المطهرة بمجرد حضوره في مواقف الخصام قبل أن يصير قاضيًا، أو بمجرد اطلاعه على مختصر من المختصرات المدونة في هذا الشأن، ولو رجع إلى عقله واستعان بفهمه، لعَلِمَ [3ب] أن الشريعة المطهرة هي ما شرعه الله في محكم كتابه وعلى لسان رسوله، وأنه لا يعرف ذلك، فإنه لو قال له قائل: هل قرأت العلوم التي يتوقف معرفة كلام الله وكلام رسوله على معرفتها؟ لقال: لا، ولو قال له قائل: هل تروي سنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن شيوخها العارفين بها، وهل قعدت بين أيديهم، وسمعت منهم متونها وأسانيدها، واستوضحت معانيها؟ لقال: لا، ولو قال له قائل: هل أخذت علم تفسير كتاب الله عن شيوخه العارفين به؟ لقال: لا، فلم يبق حينئذ إلا أن يقول: حضرت مواقف الخصومة لدى القاضي الفلاني، فرأيته يصنع كذا، وسمعته يقول كذا، أو حضرت في قراءة المختصر الفلاني ففهمت منه كذا، وعرفت منه كذا. فإذا قيل له: هل تعلم أن هذا الذي كان يفعله القاضي الفلاني أو رأيته في المختصر الفلاني هو حكم الله الذي شرعه لعباده، وعلى لسان رسوله فلا بد أن يقول: لا أدري؛ لأن المفروض أنه جاهل به، بل لو كان من المقلدين الممارسين لكتب التقليد ممارسة طويلة لم يقدم على هذه المقالة؛ لأن المفروض أنه مقلد، والمقلد هو من يقبل قول

الغير من دون أن يطالبه بحجة. ولهذا قال أهل الأصول (¬1) في حد التقليد أنه قبول قول الغير دون حجته، فكل مقلد يعترف على نفسه بأنه لا يطالب بالحجة ولا يتعقلها، فضلاً عن أن يعلم بحكم الله سبحانه. إذا تقرر هذا، فاعلم أن خلاصة ما أجبت به في الجواب المشار إليه سابقًا عن السؤال المتقدم ذكره هو: أن المحل الذي يسكنه الخصمان إن كان فيه من يتمكن من الحكم بينهما بالشريعة المطهرة على الوجه الذي لخصناه هاهنا، فلا يجوز لأحدهما أن يطالب الآخر بالخروج إلى قاض آخر في مكان غير المكان الذي يسكنانه؛ لأن ذلك مجرد إتعاب، ومحض مشقة، وإن لم يكن فيه من هو كذلك بل لم يوجد فيه قاض، أو وجد فيه، وهو غير عالم بحكم الله - سبحانه - على الوجه المتقدم ذكره، فالواجب [4أ] الترافع إلى قاض يعرف ما شرعه الله لعباده، وإن بعد مكانه؛ لأن الترافع إلى من لا يعرف الشريعة ليس بترافع إلى الشريعة، ومجرد وجود اسم القاضي لا يستلزم أن يوجد في ضمنه المسمى بلا خلاف. وسنورد الآن لفظ الاعتراض الواقع من السائل - كثر الله فوائده - على جوابي الذي هذا خلاصته، وأتعقب كل بحث منه بما يرد عليه، سالكًا في جميع ذلك مسلك الإنصاف، واقفًا على ما ينبغي الوقوف عنده من القواعد العلمية، ماشيًا على قواعد علم المناظرة (¬2)، غير خارج عن قوانينها المدونة، فأقول: قال - كثر الله فوائده -: وأشكلت علينا فيما ذكرتموه مسألتان، أحببنا عرضها عليكم. المسألة الأولى: إلزامكم لأولاد القاضي تسليم نصف الأجرة. المسألة الثانية: في الاستدلال على تكليف الغرماء للرحيل من جهة إلى جهة بالآيتين الكريمتين، فأما المسألة الثانية فالإشكال فيها من وجوه: ¬

(¬1) انظر " إرشاد الفحول " (ص860). وانظر الرسالة رقم (60). (¬2) تقدم ذكرها.

الأول: أن آية النور وما قبلها من قوله تعالى: {إذا دعوا إلى الله ورسوله} (¬1) الآيات نزلت في المنافق واليهودي حين اختصما إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وليس الدعاء إلى غير رسول الله للحكم كالدعاء إليه؛ للفرق الذي لا يخفى على أحد، ولا يقال: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (¬2)؛ لأنه يقال: عموم اللفظ مسلم في المؤمنين الذين دعوا إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ليحكم بينهم، فيكون العموم من نفس اللفظ في من دعى إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ولا يختص بمن كان سببًا في نزول الآية. وأما العموم في الحاكم المدعو إليه فمشكل؛ لعدم شمول لفظ الرسول لغيره من الأمة. وقد قال الزمخشري في كشافه (¬3) في تفسير قوله تعالى: {إذا دعوا إلى الله ورسوله} ما لفظه: معنى: إلى الله وإلى رسوله: إلى رسول الله، كقولك: أعجبني زيد وكرمه، تريد كرم زيد. . . إلخ. أقول: نورد عليه - كثر الله فوائده - قبل الكلام على كلامه هذا سؤال الاستفسار. فنقول: هل إجابة من دعا إلى حاكم من حكام الشريعة المطهرة بعد عصر النبوة ليحكم بينهم بما أنزل الله، وهو في بلد المتخاصمين أو خارج عنها، ولا حاكم فيها (¬4) ¬

(¬1) [النور: 51]. (¬2) انظر " إرشاد الفحول " (ص454)، " البحر المحيط " (3/ 198). (¬3) (4/ 313). (¬4) قال ابن قدامة في " المغني " (14/ 5 - 6): والقضاء من فروض الكفايات؛ لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه، فكان واجبًا عليهم، كالجهاد والإمامة، قال أحمد: لا بد للناس من حاكم، وإلا أتذهب حقوق الناس؟! وفيه فضل عظيم لمن قوي على القيام به وأداء الحق فيه؛ ولذلك جعل الله فيه أجرًا مع الخطأ وأسقط عنه حكم الخطأ، ولأن فيه أمرًا بالمعروف ونصرة المظلوم، وأداء الحق إلى مستحقه، ورد للظالم عن ظلمه، وإصلاحًا بين الناس، وتخليصًا لبعضهم من بعض، وذلك من أبواب القرب؛ ولذلك تولاه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والأنبياء من قبله، فكانوا يحكمون أممهم، وبعث عليًا إلى اليمن قاضيًا، وبعث أيضًا معاذًا قاضيًا.

يحكم بما أنزله الله واجبة لديكم أم لا؟ إن قلتم: واجبة، وليست المناقشة [4ب] منكم إلا في مجرد دلالة الآيتين المذكورتين على ذلك فالخطب يسير، والوفاق كائن، وأنتم تقولون بما أقوله، وتوجبون ما أوجبه، إما بعين دليلي، أو بدليل آخر، وحينئذ لا يضرني تسليم ما أوردتم، ولا ينفعكم؛ لأن تقرير المسألة بدليلها في الجملة اتفقنا عليه، ولم يبق الكلام إلا في مجرد تطبيق دليلي على ذلك المدلول المتفق على صحته، وأمره سهل؛ لأن المطلوب قد حصل بالموافقة، وليس من شرط حصول المطلوب أن يكون بدليل خاص، بل المعتبر وجود دليله في الجملة، وهو لازم للوجود المتفق عليه. وإن قلتم: إن الإجابة إلى حاكم يحكم بما أنزل الله بعد عصر النبوة غير واجبة، لزمكم طي بساط الشريعة، وارتفاع التعبد بها، وعدم لزوم حكمها لجميع الأمة بعد موته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. واللازم باطل بالإجماع؛ فالملزوم مثله. أما الملازمة فبيانها أنه إذا لم يجب على المطلوب من الخصمين الإجابة لطالبه إلى حاكم من حكام الشريعة، عند أن يطلب ذلك منه، وهو ظالم له في شيء من الحقوق المالية أو البدنية، ولا يمكن رفع الظلامة وكشفها إلا بالتخاصم إلى الحاكم المذكور، فقد وقعت التخلية بين الظالم والمظلوم، وعدم الإنكار عليه، والأخذ على يده، وهو في نفسه استمر على مخالفة قطعي من قطعيات الشريعة، وتمرد على الله وعلى شريعته، وعلى الحاملين للحجة الشرعية والمبينين لها، الذين أخذ الله عليهم الميثاق في البيان في محكم كتابه، وأما بطلان اللازم فبإجماع المسلمين، وبالضرورة الدينية إما بيان كون ذلك إجماع المسلمين، فغير خافٍ على من له أدنى انتماء إلى الشريعة؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم - بعد موته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قاتلوا الممتنعين من تسليم الزكاة، وأقاموا الحدود، وجاهدوا الكفار، وألزموا الناس القيام بجميع الواجبات الشرعية، وحالوا بينهم وبين المحرمات الدينية، وأنصفوا المظلوم من الظالم، ونصبوا الحكام، وأوجبوا على الناس الإجابة إليهم، وامتثال أحكامهم، والوقوف على الحدود التي يرسمونها من الشريعة لهم. ثم فعل ذلك التابعون وتابعوهم، ومن بعدهم إلى هذه الغاية، ولو قال قائل في أي عصر

من العصور [5أ] الإسلامية: إن التعبد بهذه الشريعة المحمدية قد ارتفع بموته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وأنه لم يبق على هذه الأمة شيء من أحكامها - لما جاوبه المسلمون عن هذه المقالة إلا بالسيف، كائنًا من كان، وفي أي عصر كان، فضلاً عن أن يسمعوه الحجج الشرعية ويناظروه في ذلك مناظرة من خالف في مسألة من مسائل الدين، وإنما قلنا: إنه يلزم من ذلك طي بساط الشريعة؛ لأنا قد قدمنا أنه لا فرق بين مسائل العبادات وبين مسائل المعاملات، وأن من قال: لا تجب الإجابة إلى حكام الشريعة في مسائل المعاملات، فقد لزمه رفع التعبد بها من بعد عصر النبوة. ولا وجه لتخصيص عدم التعبد للأمة بمسائل المعاملات دون مسائل العبادات؛ لأن الكل شريعة شرعها الله لعباده في محكم كتابه، وعلى لسان رسوله، فنسبة الكل إلى مطلق الشريعة نسبة واحدة، وليس البعض بالانتساب إلى الشريعة المطهرة أولى من بعض بإجماع المسلمين. وإما كون ذلك معلومًا بالضرورة الدينية فيما يجده كل متشرع من نفسه، سواء كان مقصرًا في معرفة الشريعة، أو كاملاً من العلم الضروري الحاصل عنده في جميع الأوقات أنه وسائر المسلمين متعبدون بهذه الشريعة الموجودة بين ظهراني المسلمين. وإذا قد فرغنا من سؤال الاستفسار بعد تقريره على هذا الوجه الموجب للاتفاق على أحد شقيه، وهو وجوب إجابة الدعوة إلى الشريعة المطهرة بعد عصر النبوة، فلنتكلم الآن على ألفاظ المناقشة التي أوردها المناقش - كثر الله فوائده -. فنقول: أما ما ذكره فيما كتبناه سابقًا من كلامه أن الآية التي وقع الاستدلال بها - أعني قوله تعالى -: {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون} (¬1) نزلت في المنافق واليهودي، فهذا على تقدير تسليمه لا ¬

(¬1) [النور: 51]. قال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (12/ 294): هذه الآية دليل على وجوب إجابة الداعي إلى الحاكم؛ لأن الله سبحانه ذم من دعي إلى رسوله ليحكم بينه وبين خصمه بأقبح الذم، فقال: {أفي قلوبهم مرض}. قال ابن خويز منداد: واجب على كل من دعي إلى مجلس الحاكم أن يجيب، ما لم يعلم أن الحاكم فاسق. . . ". وانظر " روح المعاني " للألوسي (18/ 196 - 197).

يضرنا؛ فإن الله - سبحانه وتعالى - قال في هذه الآية الكريمة: {إنما كان قول المؤمنين} ولم يقل: إنما كان قول اليهودي، ولا قال: إنما كان قول المنافق، وهذا القول منسوب إلى جميع المؤمنين كما يفيد ذلك الألف واللام التعريفية، أو الموصولية على اختلاف [5ب] الرأيين كما تقرر ذلك في علم النحو وعلم المعاني، وانهدام الجمعية، ومصير الصيغة جنسية شاملة محيطة كما هو معروف في علم المعاني أيضًا (¬1)، فيكون ذلك في قوة إنما كان قول كل مؤمن إذا دعي إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقول: سمعنا وأطعنا. وأما دعوى أن الدعاء إلى غير رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ليس كالدعاء إليه، فهذا مسلم، لكن بالنسبة إلى الحاكم لا بالنسبة إلى المحكوم به، فإنا نعلم أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لو وزن بجميع أمته لوزنها ورجح عليها، ونعلم أن الحكم المذكور في الآية الكريمة ليس هو مطلق الحكم على أي وجه كان وبأي صفة وقع، بل المراد الحكم بالشريعة المطهرة. وقد بلَّغه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلينا كما أمره ربه - عز وجل - ولم يكتم علينا شيئًا مما أوحى إليه، بل قال الله - عز وجل -: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} (¬2). وقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فيما صح عنه: " تركتكم على ¬

(¬1) انظر " مغني اللبيب " (1/ 50 - 53). (¬2) [المائدة: 3].

الواضحة، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا جاحد " (¬1). وقال سلمان الفارسي - رضي الله عنه -: " لقد علمنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كل شيء حتى الخراءة " (¬2) فتقرر بهذا أن الشريعة التي أوجب الله على عباده الإجابة إليها في حياة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - هي هذه الشريعة التي تركها بين أظهرنا المزبورة بين دفتي المصحف، والمنقولة في دواوين الإسلام، وما يلتحق بها. ولم يكن إيجاب الإجابة إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لكونه رسول الله، ولا لكونه مختصًا بما لم يكن لأمته من الفضائل والفواضل التي لا يحاط بها، بل لكونه حاكمًا بين الداعي والمدعو بهذه الشريعة الموجودة. فإن قلت: العصمة الثابتة له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - دون غيره من أمته فارقة بينه وبينهم. قلت: محل النزاع أن الدعوة بعد موته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلى حاكم يحكم بتلك الشريعة التي جاء بها المعصوم، لا إلى حاكم يحكم بمجرد الرأي الذي يكون تارة صوابًا وتارة خطأ، على أن الحكم بالرأي عند عدم وجود الدليل في الكتاب والسنة إن صح دليله فهو من شريعته التي أرشد إليها أمته، فإنه قد أخرج أبو داود من حديث معاذ أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لما أراد أن يبعث معاذًا إلى اليمن قال: " كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ " قال: أقضي بكتاب الله، قال [6أ]: ¬

(¬1) وهو جزء من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - وهو حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 126 - 127) وأبو داود رقم (4607) والترمذي رقم (2676) والدارمي (1/ 44 - 45) وابن ماجه رقم (43، 44) وابن حبان في صحيحه (1/ 104 رقم 5) والحاكم في " المستدرك " (1/ 95 - 97) وقال: هذا حديث صحيح ليس له علة ووافقه الذهبي. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (262) وأبو داود رقم (7) والترمذي رقم (16) وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي (1/ 38 رقم 41) وأحمد (5/ 437، 439) والبيهقي (1/ 91، 102، 112) وأبو عوانة في مسنده (1/ 217).

" فإن لم تجد؟ " قال: فبسنة رسول الله، قال: " فإن لم تجد في سنة رسول الله، ولا في كتاب الله؟ " قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - صدره وقال: " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله " قال المنذري (¬1): وأخرجه الترمذي (¬2) وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده عندي بمتصل. انتهى. وقد أخرجه أيضًا أحمد (¬3)، والطبراني (¬4)، والبيهقي (¬5)، وابن عدي (¬6)، وهو من طريق الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة، عن إياس من أهل حمص من أصحاب معاذ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه بعث معاذًا. وفي رواية لأبي داود عن معاذ عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال البخاري (¬7): الحارث بن عمرو روى عنه أبو عون، ولا يعرف إلا بهذا المرسل. قلت: قد جمع الحافظ ابن كثير في طرقه وشواهده جزءًا وقال: هو حديث حسن مشهور اعتمد عليه أئمة الإسلام في إثبات أصل القياس، وقواه أيضًا أبو بكر بن العربي المالكي شارح الترمذي. وقد ذكر الدارمي في مسنده (¬8) بعضًا من طرقه وشواهده. وقال الدارقطني في العلل (¬9): رواه شعبة عن أبي عون هكذا، وأرسله ابن مهدي ¬

(¬1) في " مختصر السنن " (5/ 213). (¬2) في " السنن " رقم (1327). (¬3) في " المسند " (5/ 230، 242). بسند ضعيف؛ لإبهام أصحاب معاذ وجهالة الحارث بن عمرو. (¬4) في " الكبير " (20/ 170 رقم 362). (¬5) في " السنن الكبرى " (10/ 114). (¬6) في " الكامل " (2/ 194). (¬7) في " التاريخ الكبير " (2/ 277). والخلاصة: أن حديث معاذ ضعيف. انظر: " الضعيفة " رقم (881). (¬8) (1/ 60). (¬9) عزاه إليه ابن حجر في " التلخيص " (4/ 377).

وجماعات، والمرسل أصح. وقال ابن حزم (¬1): لا يصح؛ لأن الحارث مجهول، وشيوخه لا يعرفون. قال: وادعى بعضهم فيه التواتر، وهذا كذب، بل هو ضد التواتر؛ لأنه ما رواه أحد غير أبي عون عن الحارث، فكيف يكون متواترًا! وقال عبد الحق (¬2): لا يسند ولا يوجد من وجه صحيح. وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية (¬3): لا يصح، وإن كان الفقهاء كلهم يذكرونه ويعتمدون عليه، وإن كان معناه صحيحًا. وقال ابن طاهر في تصنيف له مفرد في الكلام على هذا الحديث: اعلم أني فحصت عن هذا الحديث في المسانيد الكبار والصغار، وسألت عنه من لقيته من أهل العلم، فلم أجد له غير طريقين: إحداهما عن شعبة، والأخرى عن محمد بن جابر، عن أشعث بن أبي الشعثاء عن رجل من ثقيف، عن معاذ وكلاهما لا يصح. قال: وأقبح ما رأيت قول إمام الحرمين في كتاب أصول الفقه أن العمدة في هذا الباب على حديث معاذ. قال: وهذه زلة منه، ولو كان عالمًا لما ارتكب هذه الجهالة. قال الحافظ ابن حجر (¬4): أساء الأدب على إمام الحرمين، وكان يمكنه أن يعبر بألين من هذه العبارة [6ب]، مع أن كلام إمام الحرمين أشد مما نقله عنه، فإنه قال: والحديث مدون في الصحاح، متفق على صحته، لا يتطرق إليه التأويل. قال: وقد أخرجه الخطيب في كتاب الفقيه والمتفقه (¬5) من رواية عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ بن جبل، فلو كان الإسناد إلى عبد الرحمن ثابتًا لكان كافيًا في صحة الحديث. وقد استند أبو عباس القاضي في صحته إلى تلقي أئمة الاجتهاد والفقه له بالقبول. قال: وهذا القدر مغن عن مجرد الرواية، وهو نظير أخذهم بحديث: " لا وصية لوارث " مع كون رواية ¬

(¬1) في " الإحكام " (6/ 35). (¬2) في " الأحكام الوسطى " (3/ 342). (¬3) (2/ 758 رقم 1264). (¬4) في " التلخيص " (4/ 337). (¬5) (1/ 114)، (2/ 284).

إسماعيل بن عياش. وقد اعترض صاحب البدر المنير (¬1) على ابن كثير في تحسينه للحديث في كلامه السابق بأنه لم يصب في ذلك، وأنه جنوح منه إلى قول الجويني. قال: والحديث ضعيف بالإجماع. وقال ابن دحية: هذا الحديث لا أصل له، ورجاله مجهولون، وهو حديث مشهور عند ضعفاء أهل الفقه. وقد استند الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير (¬2) - رحمه الله - في تقوية هذا الحديث إلى ما قاله ابن كثير. وقد عرفت ما تعقب به، وما قاله من هو أعلم منه بهذا الشأن من الأئمة. وبالجملة فالاستدلال بهذا الحديث الذي لم يرتق إلى درجة الحسن لغيره، فضلاً عن الحسن لذاته، فضلاً عن الصحيح مشكل غاية الإشكال، لا سيما على مثل هذا الأصل العظيم المقتضي لثبوت ما لا يحصى من المسائل، وعلى كل حال فالحديث إنما يستدل به ¬

(¬1) انظر " خلاصة البدر المنير " (2/ 424). (¬2) في " العواصم والقواصم " (1/ 258). قال الألباني في " الصحيحة " (2/ 286): هو صحيح المعنى فيما يتعلق بالاجتهاد عند فقدان النص، وهذا مما لا خلاف فيه، ولكنه ليس صحيح المعنى عندي فيما يتعلق بتصنيف السنة مع القرآن وإنزاله إياه معه منزلة الاجتهاد منهما، فكما أنه لا يجوز الاجتهاد مع وجود النص في الكتاب والسنة، فكذلك لا يأخذ بالسنة إلا إذا لم يجد في الكتاب، وهذا التفريق بينهما مما لا يقول به مسلم، بل الواجب النظر في الكتاب والسنة معًا وعدم التفريق بينهما؛ لما علم من أن السنة تبين مجمل القرآن وتقيد مطلقه، وتخصص عمومه كما هو معلوم ". وقد ذكر حمدي بن عبد المجيد السلفي في تحقيق كتاب " المعتبر " للزركشي (ص68) العلماء الذين ضعفوا الحديث: 1 - البخاري. 2 - الترمذي. 3 - العقيلي. 4 - الدارقطني. 5 - ابن حزم. 6 - ابن طاهر. 7 - الجوزقاني. 8 - ابن الجوزي. 9 - الذهبي. 10 - السبكي. 11 - العراقي. 12 - ابن الملقن. 13 - ابن حجر. 14 - الألباني.

على رأي من يعرف الكتاب والسنة حتى يصح قوله: إنه لم يجد ذلك الحكم في كتاب الله، ولا في سنة رسوله، فأما رأي من لم يجهد نفسه بالبحث عن الدليل في الكتاب والسنة على فرض أنه يقدر على ذلك فهو باطل لا يلزم المتخاصمين قبوله، ولا يحل لأحد من قضاة المسلمين تقريره، وأما رأي القاصر الذي لا يعرف كتابًا ولا سنة فليس هو الرأي المذكور في الحديث، بل هو طاغوت بحت وجاهلية خالصة. وهذا القاضي هو أحد القاضيين اللذين هما في النار بنص (¬1) رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لأنه لا يدعي أن ما حكم به هو ما شرعه الله لعباده في محكم كتابه وعلى لسان رسوله؛ إذ هو مقر بأنه لا يعرف إلا مجرد ما قاله فلان دون دليله، ولا يدعي أيضًا أن ذلك الرأي الذي حكم به هو في قضية لم توجد في الكتاب ولا في السنة؛ لأنه لا يصح الحكم منه بالعدم إلا بعد علمه بما حكم بالعدم عليه، وأنه [7أ] لا يعلمه؛ لأن الإعدام إنما تعرف بالملكات، ومن يقر على نفسه بأنه لا يدري بكتاب ولا سنة، كيف يدعي أن ما حكم به غير موجود فيهما!. فالحاصل أنه إن كان ما حكم به حقًا مطابقًا للشريعة فهو قد حكم بالحق، وهو لا ¬

(¬1) يشير الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (3573) والترمذي في " السنن " رقم (1322) وابن ماجه رقم (3315) والنسائي في " السنن الكبرى " (3/ 461 رقم 5922/ 1). والحاكم في " المستدرك " (4/ 90) وقال: صحيح الإسناد، ورده الذهبي بقوله: " قلت: ابن بكير الغنوي منكر الحديث ". قال الألباني في " الإرواء " (8/ 236): " وشيخه حكيم بن جبير مثله أو شر منه، فقال فيه الدارقطني: متروك، ولم يوثقه أحد، بخلاف البغوي، فقد قال الساجي: " من أهل الصدق، وليس بقوي. وذكر له ابن عدي مناكير، وهذا كل ما جرح به. وذكره ابن حبان في الثقات ". فقول الذهبي: " منكر الحديث لا يخلو من مبالغة، وقد قال في " الضعفاء " ضعفوه ولم يترك ". وخلاصة القول أن الحديث صحيح، والله أعلم. عن بريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار ".

يعلم بأنه الحق، وهو أحد قاضيي النار، وإن حكم بغير الحق عالمًا بأنه غير الحق، أو جاهلاً أنه غير الحق، فهو أيضًا القاضي الآخر من قضاة النار، فهو لا يخرج عن كونه في النار على كل تقدير، فانظر في هذا بعين الاعتبار؛ لتعلم ما في قضاء المقصرين من الخطر العظيم، فإن القضاة المقصرين إن كانوا يعلمون بالحديث المصرح بأن القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة، فقد تهافتوا في النار تهافت فراش عمدًا، وإن كانوا يجهلونه فذلك غير نافع لهم، فإنه يجب عليهم أن يتعلموا العلم، خصوصًا مثل هذا الحديث الذي يخصهم، أعني القضاة، فتفريطهم في العلم به مع توثبهم على التسمي بالقضاة ومباشرة ما يباشره القضاة لا يكون عذرًا لهم، وهذا الحديث قد اتفق على إخراجه أهل السنن (¬1)، والحاكم (¬2)، والبيهقي (¬3) من حديث بريدة، وله طرق غير هذه، جمعها الحافظ ابن حجر في جزء مفرد كما قال في التلخيص (¬4): فهؤلاء القضاة المقصرون ليسوا بأهل للحكم بنص الكتاب والسنة؛ لأنهم لا يتعقلون الحجج الشرعية، فكيف يكونون أهلاً للحكم بمحض الرأي الذي لا مستند له من كتاب ولا سنة! فإنه لا رأي لهم، ولا رواية، ولا فهم، ولا دراية، بل هم على عاميتهم التي نشؤوا عليها، وإن ظنوا أنهم قد خرجوا عنها بالاطلاع على بعض أقوال أهل العلم، أو على قول عالم واحد، فإن العلم وراء ذلك كله وظنونهم فاسدة، فإنه إنما يعرف العلم أهله. ومعرفة أسماء العلوم لا تستلزم معرفة المسمى، ومن أنكر هذا فليسأل واحدًا منهم عن حد علم من علوم الاجتهاد، أو فائدته، أو موضوعه، أو غايته، أو مسألة من مسائله، وينظر ما يجد عنده من ذاك. وأما القاضي العالم بالشريعة المطهرة على الوجه الذي قدمنا تحقيقه فهو وإن كان على خطر في مباشرته [7ب] باعتبار الأحاديث الواردة في الترهيب عن ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة. (¬2) انظر التعليقة السابقة. (¬3) في " السنن الكبرى " (10/ 116 - 117). (¬4) (4/ 430).

الأمارة على العموم، وعن القضاء على الخصوص، لكن له مروحات ومسليات، وهي الأحاديث الواردة في الترغيب في ذلك. وقد أوردت الجميع في شرحي للمنتقى (¬1)، ولو لم يكن من الترغيبات في ذلك إلا حديث عمرو (¬2) وأبي هريرة (¬3) المتفق عليهما بلفظ: " إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران "، ورواه الحاكم (¬4) والدارقطني (¬5) من حديث عقبة بن عامر، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمر بلفظ: " إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله عشرة أجور " ورواه أحمد (¬6) أيضًا من حديث عمرو، وطرقه يشهد بعضها لبعض، فيكون ثبوت العشرة الأجور بدليل هو حسن لغيره، وثبوت الأجرين بدليل صحيح، والزيادة مقبولة إذا كانت غير منافية للأصل، كما في هذا. فالحاكم المجتهد هو في كل ما يأتي من الأحكام فائز مع الإصابة بعشرة أجور، ومع الخطأ بأجر، وهذا مرغب عظيم، ومحسن جليل، فإن الخطأ بالنسبة إلى غير القاضي غاية أمره أن لا يكون فيه عقوبة أخروية مع ثبوت غالب اللوازم الدنيوية كالدية في قتل الخطأ والكفارة ونحو ذلك، فلله در قوم يؤجرون على الخطأ! ويا ويح قوم يعذبون على الإصابة وهم القضاة الذين يحكمون بالحق، ولا يعلمون بأنه الحق، فانظر كم هذا ¬

(¬1) " نيل الأوطار " (1/ 501) (5/ 536). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7352) ومسلم رقم (1716). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7352) ومسلم رقم (2716) وأبو داود رقم (3574) وابن ماجه رقم (2314) وقد تقدم في الرسالة (1)، وفي الرسالة (2). (¬4) في " المستدرك " (4/ 88). (¬5) في " السنن " (4/ 210 رقم 4) بإسناد ضعيف. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ورده الذهبي بقوله: " فرج ضعفوه ". وانظر الرسالة رقم (60) (¬6) في " المسند " (4/ 198، 204، 205).

التفاوت، فإنه من أعظم الثمرات التي يستفيدها أهل العلم من علمهم. ومن أعظم البليات التي يبتلى بها أهل الجهل بجهلهم. وقد استوفيت الكلام على هذا، وأوضحت ما على المقصرين المتوثبين على هذا المنصب من الوزر والمحن الأخروية والدنيوية في الكتاب الذي سميته: " القول المفيد في حكم التقليد " وهو مختصر جمعته في العام الماضي جوابًا عن سؤال من سأل عن حكم التقليد (¬1). إذا تقرر هذا فاعلم أن المناقش - كثر الله فوائده - يجل عن أن يلتزم ما قدمنا من ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (60). قال الشوكاني في " نيل الأوطار " (5/ 537): ولكن هذه الترغيبات إنما هي في حق القاضي العادل، الذي لم يسأل القضاء، ولا استعان عليه بالشقاء، وكان لديه من العلم بكتاب الله وسنة رسوله ما يعرف به الحق من الباطل بعد إحرازه مقدارا من آلاتهما يقدر به على الاجتهاد وفي إيراده وإصداره. وأما من كان بعكس هذه الأوصاف أو بعضها، فقد أوقع نفسه في مضيق وباع آخرته بدنياه؛ لأن كل عاقل يعلم: أن تسلق القضاء وهو جاهل بالشريعة المطهرة جهلاً بسيطًا، أو جهلاً مركبًا، أو من كان قاصرًا عن رتبة الاجتهاد، فلا حامل له على ذلك إلا حب المال والشرف أو أحدهما؛ إذ لا يصح أن يكون الحامل من قبيل الدين؛ لأن الله لم يوجب على من لم يتمكن من الحكم بما أنزل من الحق أن يتحمل هذا العبء الثقيل قبل تحصيل شرطه الذي يحرم قبوله قبل حصوله، فعلم من هذا أن الحامل للمقصرين على التهافت على القضاء والتوثب على أحكام الله بدون ما شرطه ليس إلا الدنيا لا الدين. وقال ابن قدامة في " المغني " (14/ 6) وفيه - أي القضاء - خطر عظيم ووزر كبير لمن لم يؤد الحق فيه؛ ولذلك كان السلف - رحمهم الله - يمتنعون منه أشد الامتناع، ويخشون على أنفسهم خطره. قال خاقان بن عبد الله: أريد أبو قلابة على قضاء البصرة، فهرب إلى اليمامة، فأريد على قضائها فهرب إلى الشام فأريد على قضائها وقيل: ليس ههنا غيرك، قال: فأنزلوا الأمر على ما قلتم، فإنما مثلي مثل سابح وقع في البحر، فسبح يومه، فانطلق، ثم سبح اليوم الثاني، فمضى أيضًا، فلما كان اليوم الثالث فترت يداه. وكان يقال: أعلم الناس بالقضاء أشدهم له كراهة. ولعظم خطره قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من جعل قاضيًا فقد ذبح بغير سكين " من حديث أبي هريرة. وهو حديث صحيح أخرجه أحمد (2/ 230، 365) وأبو داود رقم (3571، 3572) وابن ماجه رقم (2308) والترمذي رقم (1325) وقال: حديث حسن غريب.

اللوازم اللازمة لمن لم يوجب الإجابة إلى الشريعة بعد موته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لأن التزام ذلك طي لبساط الشريعة المطهرة كما قدمنا، وهو مع كونه خلاف الإجماع القطعي هو أيضًا خلاف [8أ] الضرورة الدينية كما سبق تقريره، ولم يبق النزاع إلا في كون الحكم المذكور في الآيتين منسوبًا إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - والجواب عن ذلك من وجوه: الأول: ما قدمنا من أن الدعاء إليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - هو للحكم منه بالشريعة المطهرة لا لأمر يخصه. الثاني: ما قدمنا من الإجماع القطعي على وجوب إجابة الداعي إلى الشريعة بعد موته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. ومن زعم أنه قد خالف في ذلك مخالف فليأتنا به، فإنا قد صححنا إجماع المسلمين في كل قطر وعصر على أن التعبد بالشريعة باق بعد عصر النبوة كما كان قبلها، وهذا الفرد المتنازع فيه الذي هو الإجابة إلى الشريعة داخل في ذلك، ومن زعم أنه خارج فعليه البيان، لا سيما وهو يفضي إلى بطلان التعبد بغيره من مسائل الشريعة؛ لعدم الفرق، ففرديته إنما هي باعتبار كونه قد تعلق به النزاع، لا من حيث ذاته، فإنه إن لم يصح وصف كل حكم من الأحكام الشرعية به، فلا شك أنه يصح وصف أكثرها به. وبيانه أن الاختلاف في مسائل العبادات قد يتسبب عنه وقوع الدعوة من أحد المختلفين للآخر إلى عالم من علماء الإسلام؛ ليبين لهما الحق مما اختلفا فيه، كما يدعو أحد الخصمين الآخر في مسألة من مسائل المعاملات إلى حاكم يحكم بينهما في ما اختصما فيه، فتندرج مسائل العبادات على اختلاف أنواعها من هذه الحيثية تحت قوله تعالى: {إنما كان قول المؤمنين. . .} (¬1) الآية. وتحت قوله تعالى: {فلا وربك. . .} (¬2). ¬

(¬1) [النور: 51]. (¬2) [النساء: 65].

الوجه الثالث: الضرورة الدينية الحاصلة لكل فرد من أفراد المسلمين أن التعبد بهذه الشريعة ثابت بعد عصر النبوة كما كان قبلها؛ فهذه الوجوه الثلاثة يستفاد منها أن تخصيصه في الآيتين الكريمتين بالدعوة إليه، والتحكيم له، ونسبة الحكم إليه إنما كان لكونه صاحب الشرع، وإلا فالدعوة إلى غيره ليحكم بشريعته حكمها حكم الدعوة إليه، وإذا لم يصلح الإجماع القطعي، والضرورة الدينية للتسوية بينه وبين غيره، فما ذاك الذي يصلح [8ب] بعدهما ويسد مسدهما؟! الوجه الرابع: أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قد نصب القضاة في حياته (¬1)، وبعث الولاة، وأمَّر الأمراء، وأوجب على الناس طاعتهم وامتثال أمرهم ما لم يأمروا بمعصية الله، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. فلو كانت إجابة الدعوة والتحكيم مختصين برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لم يثبت ذلك للحكام المبعوثين من جهته، وهو خلاف المعلوم؛ فإنه بعثهم إلى جهات بعيدة كاليمن، ومكة، ونحوهما. ولو كانت الإجابة إليهم غير واجبة لكان بعثهم عبثًا لا فائدة فيه للباعث ولا للمبعوث، ولا للمبعوث إليه، واللازم باطل بالملزوم مثله. الوجه الخامس: أن إفراده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في الآيتين بنسبة التحكم إليه والحكم منه هو كإفراده في قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} (¬2)، {جاهد الكفار} (¬3)، {لم تحرم ما أحل الله لك} (¬4)، {أقم الصلاة لدلوك الشمس} (¬5)، {ادفع بالتي هي ¬

(¬1) انظر " المغني " (14/ 8 - 9)، " الحاوي الكبير " (20 - 58 - 60)، " أدب القاضي " (ص11 - 15)، " تبصرة الحكام " (1/ 12 - 18). (¬2) [التوبة: 103]. (¬3) [التوبة: 73]، [التحريم: 9]. (¬4) [التحريم: 1]. (¬5) [الإسراء: 78].

أحسن} (¬1)، ونحو ذلك من الآيات القرآنية التي يكثر تعدادها، ويطول إيرادها. ومنه الآيات التي فيها (قل)، والآيات التي فيها الخطابات للرسول والنبي، فإن قلتم باختصاصه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بجميع ذلك خالفتم الإجماع والضرورة الدينية. وإن قلتم بعدم الاختصاص فما وجه التعميم في هذه الأمور دون المتنازع فيه؟ وإن قلتم: الدليل يدل على التعميم فهكذا محل النزاع، فإن كل دليل يفرض في هذه الأمور سواء كان من الكتاب أو السنة أو الإجماع فهو كذلك في وجوب الإجابة، فإن الأدلة الدالة على وجوب الإجابة إلى الحكم بالشريعة المطهرة موجودة كثيرة. الوجه السادس: أنه قد تقرر في الأصول (¬2) أن خطابات الله ورسوله لواحد من الأمة تعم إذا لم يوجد ما يفيد اختصاص ذلك الواحد بذلك الحكم، ووجوب الإجابة [9أ] لمن دعا إلى الشريعة كذلك، ولا يقدح في ذلك تخصيصه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بالخطاب بقوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك} (¬3) ولا إفراده بالحكم في قوله تعالى: {ليحكم بينهم}. الوجه السابع: أن الله - سبحانه - قد شرع لنا التحكيم في أمر الزوجين (¬4)، وفي صيد الحرم (¬5)، وأوجب علينا الامتثال لما يحكمان به، بل وقع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - التحكيم في الحديبية (¬6) ما بين طائفة المسلمين والكافرين لسهيل بن ................... ¬

(¬1) [المؤمنون: 96]، [فصلت: 34]. (¬2) انظر " إرشاد الفحول " (ص444)، " البحر المحيط " (3/ 190). وقد تقدم ذكره مرارًا. (¬3) [النساء: 65]. (¬4) لقوله تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما}. (¬5) لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم}. (¬6) انظر " فتح الباري " (7/ 453 - 455).

عمرو (¬1): وهو إذ ذاك كافر، ووقع ذلك من أمته بعده، فتارة يدعو إلى كتاب الله من كان محقًا كما وقع في صفين (¬2)، ولم يقل أمير المؤمنين - كرم الله وجهه - يوم صفين إنها لا تجب إجابة الداعين إلى كتاب الله، بل قال: إنهم فعلوا ذلك خدعًا ومكرًا، وأنهم لو كانوا صادقين في الدعوة إلى كتاب الله لكان أولى لذلك منهم، وأحق به، فلم ينكر أصل الدعوة، ووجوب الإجابة إليها، بل أبان أن الداعي لم يرد الدعوة الحقة، بل أراد المكر والخدع، وأنه لو أراد الدعوة الحقة لكان المدعو أحق منه بها، ولو كانت الإجابة للدعوة الحقة عند أمير المؤمنين غير واجبة لم يدع إلى كتاب الله يوم الجمل (¬3)، ولا يوم النهروان (¬4)، وكيف ينسب ذلك إليه وهو كاتب كتاب المقاضاة في يوم الحديبية (¬5)! فإذا كانت الإجابة لدعوة من دعا إلى التحكيم واجبة فكيف لا تجب إجابة من دعا إلى حاكم من حكام الشريعة ليحكم بحكم الله! وكيف يقال: إن الإجابة في الآيتين المذكورتين مختصة برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -!. الوجه الثامن: أنه قد تقرر في الأصول (¬6) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إذا فعل فعلا أو شرع الله له شرعًا كان التأسي به في ذلك ثابتًا على جميع أمته إلا أن يقوم دليل يدل على اختصاصه به [9ب]، وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين، وقد دل عليه كتاب الله - سبحانه - قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} (¬7) وقال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (¬8)، ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4180، 4181). (¬2) انظر " البداية والنهاية " لابن كثير (7/ 264 - 270). (¬3) انظر " البداية والنهاية " (7/ 241). (¬4) تقدم ذكرها. (¬5) انظر " فتح الباري " (7/ 454). (¬6) " إرشاد الفحول " (ص429)، " البحر المحيط " (3/ 167). (¬7) [آل عمران: 31]. (¬8) [الأحزاب: 21].

وقال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (¬1). والآيات والأحاديث الدالة على التأسي به - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كثيرة جدًا، وهي مفيدة أن أمته أسوته في كل حكم لم يقم دليل يدل على اختصاصه به، فسيكون الدعاء إلى غيره من الأئمة والحكام والعلماء للحكم بما أنزل الله كالدعاء إليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لعدم وجدان دليل يدل على اختصاصه بهذا الحكم، فلو فرضنا أنه لا دليل يدل على أن الدعوة إلى غيره من المتأهلين للحكم من أمته لها حكم الدعوة إليه لكان دليل التأسي به المجمع عليه كافيًا في ذلك، ولو قال قائل: إن خطابات الله لرسوله بالأحكام الشرعية خاصة به لأن غيره مفضول، وهو فاضل لوقع في مضايق في كثير من الأحكام الشرعية، وخالف ما أجمع عليه المسلمون، وسلك في مسالك قد أراح الله الأمة من سلوكها، وولج في مهاوٍ ولم يلجها غيره، ولا أذن الله له بولوجها وهو - لا محالة - راجع إلى الطريق الواضح، وسالك في المسالك التي يسلكها سلف الأمة وخلفها. ولنقتصر على هذا المقدار؛ ففيه كفاية يندفع بها بل بالبعض منها ما أوردتم على الاستدلال بالآيتين الكريمتين. وأما ما ذكرتم من قول الزمخشري في كشافه (¬2) فهو تأويل الدعوة إلى الله، فجعل الدعوة إلى الله تعالى هي الدعوة إلى رسوله كقول العرب: أعجبني زيد وكرمه أي أعجبني كرم زيد، وليس فيه إن إجابة الدعوة إلى الشريعة مختصة برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ولا تجب إلى غيره، فإن ذلك لا يخفى عليه، ومن رام أن يعرف ما يقول به في مثل هذه الآية فلينظر إلى تفسيره لغيرها من الآيات التي فيها الخطاب [10أ] لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وذلك كثير في القرآن؛ ففي كل سورة من ¬

(¬1) [الحشر: 7]. (¬2) (4/ 313).

سور القرآن خطابات كثيرة لا تخلو عن ذلك إلا النادر كبعض قصار المفصل، على أن ذلك موجود في غالبها. انظر إلى قوله: {قل أعوذ برب الناس}، {قل أعوذ برب الفلق}، {قل هو الله أحد}، {فصل لربك وانحر}، {فسبح بحمد ربك واستغفره}، {قل يا أيها الكافرون} فإن المأمور بهذه الأوامر كلها هو رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. فإن قلت: ما ذكره الزمخشري (¬1) هاهنا أن الدعوة إلى الله هي الدعوة إلى رسوله، هل هو متعين أم لا؟ بل يمكن التأويل بما هو مساوٍ له أو راجح عليه. قلت: ليس بمتعين بل هاهنا تأويل آخر هو أرجح منه، وهو أن تفسر الدعوة إلى الله بالدعوة إلى كتابه الذي أنزله، وهو وإن كان مجازًا لكنه أقرب المجازين فإن ملابسة الكلام للمتكلم أتم من الملابسة الكائنة بين الرسول والمرسل، هذا باعتبار ما نجده في الشاهد، لا باعتبار الجناب الإلهي، فإنه يتنزه ويتعالى ويتقدس عن نسبة الملابسة إليه، ولكنا نسلك في مثل هذه المجازات المسالك التي نجدها في الشاهد كما يفعله أهل العلم في مثل ذلك، وأيضًا في تفسير الدعوة إلى الله - سبحانه - بالدعوة إلى كتابه تأسيس، وهو أولى من التأكيد الذي يستفاد من تفسير الدعوة إلى الله بالدعوة إلى رسول الله، وإني أظن أن هذا الذي قلته قد قال به غيري من أهل التفسير، ولكني لم أنظر عند تحرير هذا في شيء من التفاسير، لا في الكشاف ولا في غيره. قال - كثر الله فوائده -: ويؤيد هذا إفراد ضمير الفاعل في {لتحكم} الراجع إلى ما قبله فلا يثبت هذا الحكم لغير رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلا بالقياس، وللمانع أبدًا الفارق، وهكذا يقال في آية سورة النساء وهي قوله: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك} (¬2) الآية. والخصوص فيها أوضح. ¬

(¬1) (4/ 313). (¬2) [النساء: 65].

أقول: إن كانت الإشارة في قوله: ويؤيد هذا [10ب] إلى ما أسلفه من كون الآية واردة في سبب خاص، وهو اختصام المنافق واليهودي فلا تأييد في ذلك أصلا، لأن ذلك السبب هو باعتبار المحكوم عليه وإفراد الضمير في {لتحكم} هو باعتبار الحاكم، فقد اختلف المؤيد اسم مفعول، والمؤيد اسم فاعل على أنه - عافاه الله - قد بادر في كلامه السابق إلى تسليم كون الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فقال: ولا يختص بمن كان سببًا فتأييد ما قد سلمه وجزمه بخلافه لا وجه له، بل هو شبه تناقض. وقد قدمنا أن الله - سبحانه - يقول: {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا} ولم يقل: إنما كان قول المنافق، ولا قول اليهودي، وإن كان التأييد لما قرره سابقًا من أنه لا عموم في الحاكم لعدم شمول لفظ الرسول ... إلى آخر كلامه فلا يصح لتأييد إفراد الضمير في قوله {ليحكم} (¬1) لأن مرجع الضمير هو الرسول، فهو تأييد لنفس الدعوى بنفس الدعوى، ولمحل النزاع بمحل النزاع، وهو يندرج تحت المصادرة باعتبار المآل. وقد صرح أهل علم آداب المناظرة (¬2) بمنعه ثم قوله: فلا يثبت هذا الحكم لغير رسول الله إلا بالقياس، وللمانع أبدًا الفارق يستلزم ما قدمنا ذكره من طي بساط الشريعة بعد عصر النبوة، والوقوع في مخالفة جميع الأمة، ومخالفة الضرورة الدينية، واللازم باطل فالملزوم مثله. وقد قدمنا بيان الملازمة وبيان بطلان اللازم، وهو - حفظه الله - أجل قدرًا من أن يقع في مثل هذا فإن حكم المخالف لقطعي من قطعيات الشريعة معروف، فكيف بالمخالف لضروري من ضرورياتها! بل كيف بالمخالف لها بأسرها، والجازم بارتفاع حكمها وانقراض التعبد بها! ومعلوم أنه لم يتصور عند تحرير كلامه هذا لزوم ما يستلزمه، بل جرد النظر إلى مناقشة دلالة الدليل على المدلول غير ملتفت إلى ما يستفاد من كلامه، ولو تأمله أدنى تأمل لم يكتبه ولا أورده، ولا اعترض به، فإنه قد صرح بأن ¬

(¬1) انظر: " إعراب القرآن الكريم وبيانه " (6/ 638). (¬2) انظر " الفقيه والمتفقه " (2/ 25)، " الكافية في الجدل " (ص529).

إجابة دعوة الداعي إلى الشريعة لا تجب على المدعو إلا إذا كان المدعو إليه هو رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وأن إلحاق غيره بالقياس عليه ممنوع بإبداء الفارق، فكان حاصل هذا أن من دعا غيره إلى الشريعة المطهرة بعد عصر النبوة غير مجاب الدعوة. وقد قدمنا أن الدعوة كما تكون في المعاملات تكون في العبادات [11أ]، وأنه إذا ارتفع التعبد بهذا الأصل العظيم ارتفع بغيره بفحوى الخطاب. أقل حال أن يكون ارتفاعه بلحن الخطاب لتساوي أقدام جزئيات الشريعة في الانتساب إليها. وأما قوله: إن الخصوص في آية سورة النساء أوضح، فإن كان ذلك لقوله تعالى: {حتى يحكموك} فمعلوم أن إيقاع التحكيم من الأمة على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ليس بأوضح من إسناد الحكم إليه من قوله في سورة النور: {ليحكم} بل لو قال قائل: إن الأمر بالعكس لم يبعد عن الصواب لما لا يخفى على من يعرف علم النحو وعلم المعاني، وإن كانت الأوضحية لكون ما في سورة النساء خطابًا له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وما في سورة النور ليس بخطاب له، بل إثبات حكم يتعلق به. فغير خاف على ذي فهم أن إثبات الشيء لمن كان غائبًا غير مخاطب يتضمن التسجيل والجزم تضمنًا لا يفيده إثبات ذلك في الخطاب باعتبار ما يستفاد من دقائق العربية وأسرارها بالنسبة إلى المحاورات البشرية، فإن تفويض فرد من أفراد النوع الإنساني لآخر في أمر وهو غير حاضر أقوى من تفويضه وهو حاضر مخاطب لما نجده في الطباع البشرية من أن للحضور مدخلية في التحاشي، وهذا إنما هو باعتبار المحاورات البشرية كما قدمنا، والخالق - عز وجل - يتنزه عنه ولكنه لا يتم البيان في مثل هذا المقام إلا بالتمثيل بما يقع بين أهل اللغة حتى يتضح للسائل - حفظه الله - أن ما ادعاه من الأوضحية غير واضح وإن كان المستند لما ادعاه من الأوضحية هو غير ما ذكرناه فهو لا يصلح لذلك كالقسم وتكرير الضمير، فإن ذلك لا مدخل له فيما يتعلق بالدعوى كما لا يخفى. قال - كثر الله فوائده -: الوجه الثاني: أن هاتين الآيتين لو دلتا على وجوب

الإجابة إلى غير رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فالدلالة إذًا إنما يكون على وجوب الإجابة إلى الحاكم بحكم الله تعالى في تلك الحادثة التي تشاجر فيها الغرماء، وحكم الله تعالى في تلك الحادثة مظنون كل مجتهد والتعيين بحكم، والاجتهاد في استنباط حكم الله تعالى في تلك الحادثة ليس مما يختص به بعض العلماء دون بعض [11ب]؛ إذ العمدة في ذلك على حصول شروط الاجتهاد في المتأهل لذلك وشروطه هينة على من استعد للتحصيل، ووفقه الله لسلوك ذلك السبيل، وفضل الله غير مقصور ولا محجوز. ولدينا من هو متأهل للنظر، وجامع لكل شرط معتبر. والمراد وجود ما لا بد منه الشروط. وأما زيادة التفنن والتضلع من العلوم العقلية والنقلية، وبلوغ غايات الكمال في تحقيق المعارف الأصلية والفرعية فنحن لا ننكر أن لكم فيها النصيب الأعلى والقدح المعلا، ولكن المفضول في الاجتهاد حكمه صحيح كالفاضل فيه، إذ المراد استفراغ الوسع لطلب ظن بالحكم. وأما اليقين فهو عند الله تعالى، والأحكام التي يجوزها حكامنا لا نمنع من المراجعة فيها لمن اطلع على خلل، وتنبيه الحاكم على ما وهم فيه فذلك أمر مطلوب من كل متأهل للنظر، وإنما نمنع تكليف الغرماء للرحيل من جهة إلى جهة أخرى مع وجود الحكام بتلك الجهة، والمتصدين لإقامة الشرع الشريف، وإنصاف المظلوم من الظالم. أقول: هذا الكلام إنما يرد على من قال بوجوب الإجابة إلى حاكم يحكم بحكم الله - سبحانه - في غير جهة الخصمين، مع وجود من يحكم بحكم الله في جهة الخصمين، مع كون كل واحد من الحاكمين عالمًا بكتاب الله وبسنة رسوله، وبما يتوصل به إلى معرفتهما، قادرًا على استخراج الحكم منهما عند حدوث الحادثة، متمكنًا من الجمع بين المتعارضات عند الإمكان، والترجيح عند عدمه. ولم يتقدم مني ما يدل على هذا لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام، بل حاصل ما أجبت به عن سؤالكم - دامت إفادتكم - أن الواجب الإجابة إلى حاكم يحكم بحكم الله من الحكام المجتهدين، فإن كان في جهة المتخاصمين من هو كذلك فلا يجاب الداعي إلى غيره، لأن ذلك مجرد إتعاب،

وإن لم يكن في بلد المتخاصمين من هو كذلك وجبت إجابة الداعي إلى حاكم متصف بتلك الصفة، ولا اعتبار بمن في البلد من القضاة الذين لا يتمكنون من الحكم بما أمر الله بالحكم به، ومن كان هذا جوابه لم يرد عليه شيء مما أوردتم، فراجعوا ما أجبت به عليكم، فهو لديكم حتى تعلموا أن ما أوردتم هاهنا غير وارد عليَّ، ولا لازم لي، فهذا دفع إجمالي، ونقض لما أوردتم في هذا الكلام، فلنعد الآن إلى الكلام [12أ] على تفاصيل هذا الكلام. فنقول: قلتم: وحكم الله في تلك الحادثة مظنون كل مجتهد، والتعيين تحكم، وأقول: هو ممنوع؛ فإن حكم الله - سبحانه وتعالى - في تلك الحادثة وفي غيرها من الحوادث ليس إلا واحدًا يصيبه من أصابه من أهل الاجتهاد، ويخطئه من أخطأه. ولو كان حكم الله هو مظنون كل مجتهد لكان تابعًا لاجتهادات المجتهدين، ومرادات المريدين، وهو يستلزم أنه لا حكم لله في تلك الحادثة أصلا، بل حكمه فيها متجدد بوجود كل مجتهد على حسب ما يقتضيه اجتهاده، وهذا باطل وإن قال به بعض متأخري المعتزلة (¬1)، وقلده من قلده ممن جاء بعده، فمن جاء بالقول الفاسد فهو رد عليه ¬

(¬1) قال الماوردي: وهو قول أبي الحسن الأشعري والمعتزلة. قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص851): فهذا الحديث يفيدك أن الحق واحد وأن بعض المجتهدين يوافقه فيقال له مصيب ويستحق أجرين، وبعض المجتهدين يخالفه ويقال له مخطئ. واستحقاقه الأجر لا يستلزم كونه مصيبًا، وإطلاق اسم الخطأ عليه لا يستلزم أن لا يكون له أجر، فمن قال: إن كل مجتهد مصيب، وجعل الحق متعددًا بتعدد المجتهدين فقد أخطأ خطأ بينًا وخالف الصواب مخالفة ظاهرة، فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل المجتهدين قسمين قسمًا مصيبًا وقسمًا مخطئًا، ولو كان كل واحد منهم مصيبًا لم يكن لهذا التقسيم معنى. وهكذا من قال إن الحق واحد ومخالفه آثم فإن هذا الحديث يرد عليه ردًا بينًا ويدفعه دفعًا ظاهرًا؛ لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمى من لم يوافق الحق في اجتهاده مخطئًا ورتب على ذلك استحقاقه للأجر. فالحق الذي لا شك فيه ولا شبهة أن الحق واحد ومخالفه مخطئ مأجور إذا كان قد وفى الاجتهاد حقه ولم يقصر في البحث بعد إحرازه لما يكون به مجتهدًا. انظر " الفقيه والمتفقه " (2/ 60)، " مجموع الفتاوى " (19/ 124).

كائنًا من كان، وما استلزم الباطل باطل، وأيضًا ذلك يستلزم باطلا آخر هو أن يكون حكم الله في الحادثة متناقضًا؛ فإنه إذا ذهب بعض أهل العلم إلى أن عينًا من الأعيان الموجودة في الخارج حلال، وذهب آخر إلى أنها حرام كان حكم الله في تلك العين بأنها حلال، وبأنها حرام وهذا باطل، وما استلزم الباطل باطل. مثلا قد قال بعض أهل العلم بأن الخيل والضبع (¬1) يحل أكلهما، وقال آخر، إنه يحرم، فيكون حكم الله في الخيل أنها حلال حرام، وحكم الله في الضبع أنها حلال حرام، وهذا بمكان من الفساد لا يخفى على عارف، ولو لم يثبت في دفعه إلا الحديث الصحيح الوارد من طرق كما بيناه سالفًا: " إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن اجتهد فأصاب فله أجران " (¬2) أو " عشرة أجور " (¬3)؛ فهذا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يصف المجتهد بأنه يكون تارة مخطئًا، وتارة مصيبًا، فكيف يتقول على الله وعلى رسوله متقول فيقول: إنه مصيب دائمًا، وأن حكم الله تابع لاجتهاده! مع أن القائلين بتصويب المجتهدين لم يقولوا: إنه مصيب من الإصابة المنافية للخطأ، بل قالوا: إنه مصيب من الصواب الذي لا ينافي الخطأ، وإنما كان صوابًا لكونه يؤجر عليه، وإن كان خطأ كما في الحديث المذكور، ولهذا قال [12ب] بعض المتكلمين على هذه المسألة: إن القائل بأنه مصيب من الإصابة قد تشبه في مقالته هذه بالفرقة الموسومة بالعندية (¬4)، فإنهم يعتبرون ما عند كل واحد منهم بمجرد الدعوى مثلا إذا قال الرجل لواحد منهم: أنت موجود قال: لست بموجود، فإذا قال: فما هذا الشبح الذي أراه شاغلا للحيز، وأجده عند اللمس، وأسمع حسه؟ قال له: أنا موجود عندك غير موجود عندي، فلا يلزمني ما عندك كما لا يلزمك ما عندي، فهذه أحد الفرق الثلاث المشهورة ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (71). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) انظر " مقدمات في الأهواء والافتراق والبدع " (1/ 43 - 46). الدكتور. ناصر بن عبد الكريم العقل \ دار الوطن الرياض ط2.

بالمشاغبة، والدعاوي الباطلة، الخارجة عن الضرورة، المخالفة للعقل والحس، وما أشبه الفرقة القائلة بأن المجتهد مصيب من الإصابة بها، والفرقة الثانية: العنادية (¬1)، والفرقة الثالثة: الأدرية (¬2)، ومقالات هذه الطوائف الثلاث مبنية في كتب الفن الموضوع لبيان هذا، وما يشابهه. وقد قال كثير من الأئمة أن هؤلاء لا يجاوبون إلا بالضرب، فإنه أقرب إلى اعترافهم بفساد ما هم عليه. والحاصل أن الكلام على هذه المسألة طويل الذيول، وليس المراد هاهنا إلا الإشارة إلى فساد ما ذكره السائل - عافاه الله - من أن حكم الله هو مظنون كل مجتهد. وقد زعم صاحب ضوء النهار (¬3) أن الحق في هذه المسألة التفصيل، وهو أن ما فوض إلى العدلين كجزاء الصيد، والتفريق بين الزوجين، أو الجمع، وتقدير النفقات، وتقويم المتلفات. ولا نزاع في أن كل اجتهاد فيه صواب، وإصابة. وأما غير ذلك من ما فيه على خصوص الحكم دليل ظني. فإن أريد أن كل مجتهد فيه مصيب من الصواب فلا نزاع فيه، وإن أريد أنه مصيب من الإصابة وأن خصمه مصيب من الإصابة فسرف في الغفلة، هكذا قال. وغير خاف عليك أن كلام الأزهار (¬4) المشروح بهذا الكلام لا يشمل ما ذكره في القسم الأول، بل هو خاص بالمجتهد في الدليل الظني وهكذا كلام سائر القائلين بأن كل مجتهد مصيب، ومن قال بخلاف قولهم. وأما تقدير النفقات وتقويم المتلفات ونحوهما فليس هو من الاجتهاد الذي هو المراد هنا في شيء، ولم يشترط اجتهاد من يتولى ذلك أحد من أهل العلم، بل يصح أن يكون متوليه مقلدًا بلا خلاف، فخلط البحث بغيره، وإدخال ما هو أجنبي عنه فيه سرف في الغفلة أيضًا. وقلتم: والاجتهاد في استنباط حكم الله تعالى [13أ] ليس مما يختص به بعض العلماء ¬

(¬1) انظر " مقدمات في الأهواء والافتراق والبدع " (1/ 43 - 46). الدكتور. ناصر بن عبد الكريم العقل \ دار الوطن الرياض ط2. (¬2) انظر " مقدمات في الأهواء والافتراق والبدع " (1/ 43 - 46). الدكتور. ناصر بن عبد الكريم العقل \ دار الوطن الرياض ط2. (¬3) (4/ 2202 - 2203). (¬4) (3/ 448 - مع السيل).

دون بعض ... إلخ. وأقول: هذه الكلية ممنوعة الصحة، فإن لمريد التوسع في المعارف الزائدة على العلوم المعتبرة في الاجتهاد مدخلا في ذلك، فقد يختص من هو أكثر علمًا باستنباط ما لا يقتدر على استنباطه والوصول إليه من هو دونه في ذلك، وهذا معلوم لكل عارف، فإن من كان مثلا أرسخ في علم البلاغة يمكنه أن يستخرج بفاضل عرفانه من الكتاب العزيز، والسنة المطهرة ما لا يمكن من هو دونه، وهكذا من كان متبحرًا في أصول الفقه، مطلعًا على دقيقها وجليلها، متدربًا في مباحثها، فإنه يمكنه أن يسلك في مسالك الجمع والترجيح والاستنباط ما لا يسلكه الذي هو دونه في ذلك، مع كونه قد حصل القدر المعتبر في الاجتهاد عنده، وهكذا من توسع في علم السنة، ولم يقف على كتاب، ولا على كتب معينة، بل طول باعه في ذلك تطويلا لم يصل إليه غيره من المجتهدين المعاصرين له، أو بعضهم، فإنه قد يقف على دليل الحكم من مخرج صحيح أو حسن من هو دونه في ذلك لا يدري بأن الدليل موجود فضلا عن أن يستدل به، ومع ذلك فالقرائح مختلفة والأفهام متفاوتة، والإدراكات متباينة، فقد يكون بعض المجتهدين المستويين في المقروءات والمحفوظات أقدر على الاستنباط من الآخر بفاضل ذهنه، وصافي قريحته، وصحيح إدراكه، فكيف يقال: إن الاستنباط لا يختص به بعض العلماء دون بعض، فإن كل عالم قد شاهد الاختلاف في أهل عصره، وطالع مؤلفات المجتهدين فوجدها متفاوتة تفاوتًا يزيد على التفاوت الكائن بين السماء والأرض، والمشرق والمغرب، ومن أنكر هذا فهو مكابر بلا شك ولا شبهة. وقلتم: وشروطه (¬1) هينة على من استعد للتحصيل ... إلخ. ¬

(¬1) ومن أحسن ما يعرفه القضاة كتاب عمر بن الخطاب الذي كتبه إلى أبي موسى. قال الشيخ أبو إسحاق: هو أجل كتاب فإنه بين آداب القضاة، وصفة الحكم، وكيفية الاجتهاد واستنباط القياس. ولفظه: " أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فعليك بالعقل والفهم وكثرة الذكر، فافهم إذا أدلى إليك الرجل الحجة فاقض إذا فهمت وامض إذا قضيت، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آس بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف في عدلك. البينة على المدعي واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا، أو حرم حلالا. ومن ادعى حقًا غائبًا أو بينة فاضرب له أمدًا ينتهي إليه، فإن جاء ببينة أعطيته حقه، وإلا استحللت عليه القضية، فإن ذلك أبلغ في العذر، وأجلى للعمى. ولا يمنعك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم الفهم فيما يختلج في صدرك مما ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله تعالى وأشبهها بالحق، المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودًا في حد، أو مجربًا عليه شهادة زور، أو ظنينًا في ولاء أو نسب أو قرابة، فإن الله تعالى تولى منكم السرائر، وادرأ بالبينات والأيمان وإياك والغضب والضجر، والتأذي بالناس عند الخصومة، والتفكر عند الخصومات، فإن القضاء عند مواطن الحق، يوجب الله تعالى به الأجر ويحسن به الذكر، فمن خلصت نيته في الحق، ولو على نفسه كفاه الله تعالى ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما ليس في قلبه شانه الله تعالى، فإن الله تعالى لا يقبل من العباد إلا ما كان خالصًا فما ظنك بثواب من الله تعالى في عاجل رزقه، وخزائن رحمته والسلام ".

وأقول: هذا صحيح، فإن كامل الاستعداد يظفر من علوم الاجتهاد في المدة اليسيرة بما لا يظفر به من لم يكمل استعداده في المدة الطويلة، وذلك موجود بالمشاهدة لكل ممارس لأهل العلم [13ب]، أو تصدر للقضاء بين المسلمين بما شرعه الله، أو للفتيا بما أنزل الله في كتابه، وعلى لسان رسوله، فهؤلاء لا يتم اجتهادهم إلا بالتبحر في كل علم من تلك العلوم مع إشرافه على ما يرجع إليها ويقويها من سائر العلوم على وجه يحصل له الظن بأنه لم يقصر في واحد منها تقصيرًا يكون بسببه حمل الناس على العمل بخلاف ما شرعه الله لعباده، فإنا قد قدمنا أن استنباط المسائل يتفاوت بتفاوت المجتهدين في العلوم الشرعية، وأنه قد يقف الواحد منهم على الدليل من كتاب الله، أو مما صح عن رسول الله، مع عدم وقوف الآخر عليه، وقد يستخرج المتبحر في العلوم الاجتهادية ما لا يقتدر

من دونه على استخراجه، وأحق هذه العلوم بالتوسع، وأولاها بالتبحر علم السنة (¬1)، وإمعان النظر فيما لا يتمهر فيها إلا به من الاطلاع على أحوال رواتها، ومعرفة أسباب الجرح والتعديل، وعدم القنوع بالجرح المجمل، حتى يقف على السبب والترجيح عند تعارض التعديل والتجريح، ومعرفة رجال إسناد كل حديث ذاتًا وصفةً، والتدرب في علوم اصطلاح المحدثين، فلهم اصطلاحات موضوعة بينهم لا يمكن تخريجها على المدلول اللغوي، والبحث عن المؤلفات في متون الأحاديث وأسانيدها على ما تبلغ إليه القدرة، ويقبله الفهم، ويحصل عنده الظن بأنه لم يكن في المسألة غير ما قد علمه وحصل له من حفظه وبحثه، ثم أحق العلوم بعد علم السنة بالاستكثار منه، والتوسع فيه علم الأصول، فإنه العلم الذي تدور عليه دوائر الاجتهاد، ويترتب على تحقيقه الإصدار والإيراد، ثم علم البلاغة، ثم سائر العلوم المتعلقة باللغة؛ فإن التوسع فيها يوجب لصاحبها ملكةً في الاستدلال لا توجد عند من هو دونه، فإنه يصير بذلك مفسرًا لكتاب الله من دون مراجعة كتب التفسير، وشارحًا لسنة رسول الله من غير مراجعة للشروح، ثم على هذا المجتهد الذي يتصدر لإرشاد هذه الأمة أن يمعن النظر في أقوال [14أ] المجتهدين، ويحفظ مذاهبهم، أو يراجع المؤلفات الموضوعة لذلك عند الحاجة، فإنه إذا عرف ذلك وجد له في كل مسألة سلفًا، فيقوى جنابه، وينثلج قلبه، ويطمئن خاطره، ويديم النظر في كتب التفسير وشروح الحديث، وإن كان له من الملكة ما يقتدر به على ما يحتاج إليه من ذلك لكنه يجد ثمرات اجتهادات المجتهدين، وأبكار أفكار المحققين محررة هنالك، فيستفيد منها ما لا تفيده ملكته خصوصًا تأليفات الأئمة الكبار، ومجاميع العلماء المشهورين بقوة الأنظار. ومن أنفع ما يستفيد به من أراد نشر العلم أن يكرر النظر في المؤلفات الموضوعة لتحقيق الحق في مسائل الفقه، فإنه يجد فيها ما يستعين به على مطلوبه، ولا يبادر ¬

(¬1) تقدم ذلك مرارًا. وانظر الرسالة رقم (60).

بتحرير مسألة يبرزها للناس في تأليف، أو حكم، أو فتيا حتى يروض فكره في الأدلة القرآنية، ويبحث في مجاميع السنة، فينظر مثلا في جامع الأصول، فإن لم يجد فيه مطلوبه فليبحث الجامع الكبير للسيوطي، أو كنز العمال؛ فإن هذين الكتابين لا يشذ عنهما شيء من السنة إلا النادر الذي لا يقدح تجويز وجوده في الظن الحاصل للمجتهد، فهذه هي علوم الاجتهاد للمجتهد الناصب نفسه للإرشاد، فإن قصر في شيء منها وهو يظن وجوده عند غيره من المجتهدين الموجودين في عصره وقطره فهو لا يحصل له ذلك الظن الذي هو المعيار للاجتهاد إن كان ممن يتقي الله، ويخشى عقابه. وأما إذا لم يوجد إلا من هو مثله أو دونه في عصره وقطره فعليه أن يبلغ غاية ما يقدر عليه، ويتعلم ما يجده من هذه العلوم على من يجده من أهلها ويبحث كلية البحث، ولا يضره بعد ذلك أن يكون في المجتهدين الأموات من هو أعلم منه، ولا في من سيحدث بعده من أهل الاجتهاد من هو أرسخ منه، ولا يقدح في ظنه الإصابة تجويز أن في أقطار الدنيا البعيدة عنه من هو أعلم منه، لأن الله لم يكلف أهل كل عصر بعلم الأموات، ولا بعلم من سيوجد، ولا بعلم من لا يعرف من الأحياء، بل أقام الله الحجة [14ب] على أهل كل عصر بمن يوجد لهم من الراسخين في العلم، وأخذ على العلماء البيان. فإن قلت: الأحكام الشرعية متساوية الأقدام بالانتساب إلى الشرع، ومتساوية الأقدام من حيث التعلق بالمتشرعين عند وجود المقتضي، وفقد المانع، فكيف جعلت علوم الاجتهاد المعتبرة في عمل الرجل لنفسه دون العلوم المعتبرة في اجتهاد الرجل لإرشاد غيره!؟. قلت: لأن الله - سبحانه - لم يتعبد عباده بالبيان للناس، إلا إذا كانوا أهلا للبيان والإرشاد، والمتأهلون لذلك هم الذين يثقون من أنفسهم بأنهم إنما أرشدوا العباد إلى ما هو حق، ولا تحصل هذه الثقة الحاصلة عن ظن الإصابة إلا لمن كان له من العلوم ما ذكرناه، بخلاف عمل الرجل لنفسه في أمر دينه الذي كلفه الله به، فإنه لا يجب عليه أن يقلد من هو أعلم منه، بل عليه أن يأتي بما أوجب الله عليه على الوجه الذي يطيقه ويقدر

عليه، فإن كان عاطلا عن المعارف العلمية وسعه ما وسع المقصرين من الصحابة والتابعين وتابعيهم من سؤال أهل العلم عن الحكم في الحادثة التي هي من مسائل العبادة، أو المعاملة على وجه استروى النص لا على وجه التقليد، وإن كان قادرًا على الاطلاع على النص، محصلا لما يفهمه به، وهو من جمع تلك العلوم فليس عليه إلا ما تبلغ إليه قدرته، وإذا عجز في بعض الحوادث سأل عنها سؤال من يطلب الرواية لا من يطلب الرأي، ونظر في ذلك المروي بما لديه من تلك العلوم، وهذا اجتهاد لا تقليد. ولا يحل له أن يقوم في مقام الإرشاد للعباد في شيء لم يبلغ إليه دليله مع وجود من هو أعلم منه بالشريعة في عصره وقطره، لأنه يظن في كل من هو أعلم منه أنه يعلم بدليل لا يعلمه، ويقدر على استنباط لا يقدر عليه، وهذا يجده كل رجل من نفسه [15أ]. وقلتم: ولدينا من هو متأهل للنظر ... إلخ. أقول: هذا مسلم فإن في أهل ذلك البيت الشريف، والمحتد العالي المنيف من هو كذلك وفوق ذلك، بل وفي الواردين إليه المستقرين فيه، ولسنا ممن ينكر وجود المجتهدين في ذلك المحل الذي هو محط رجال العلوم والآداب، ولكنا نقول: يجب عليكم تفويض ما عرض من الشجار بين أهل المحل، وما يرجع إليه إلى من تعرفون أهليته للحكم بما أنزل الله في محكم كتابه، وعلى لسان رسوله، مع الثقة بدينه وأمانته وورعه، وإذا أشكل الأمر، أو تعارضت الأنظار فرفع ما أشكل، ودفع ما تعارض ممكن، ولا تفوضون في القضايا التي لا يرفع الخصام فيها إلا الحكم الشرعي من ليس له أهلية، وملكة يقتدر بها على الحكم بما شرعه الله لعباده، ثم يجب عليكم إذا كان المتخاصمان في مكان بين جهتكم وجهة أخرى، وطلب أحدهما الآخر إلى حاكم جامع للأمور المعتبرة أن تأمروا الآخر بالإجابة له؛ فإن الطالب هو الداعي إلى شرع الله، ولا حجر عليه أن يدعو خصمه إلى حاكم ليس في الجهة التي فيها المتولي عليهما، أو على أحدهما، أو ليس في الجهة التي يسوق أحدهما أو كلاهما زكاته إليها، لأن المفروض أن الخصمين في مكان بين الجهتين وصاحب الدعوة إلى الشريعة مخير في الدعاء إلى قضاة الشرع، ولا أتعاب هنا،

ولا بعد مسافة. وقد وجبت إجابة الداعي إلى الشريعة بمجرد كونه الطالب لها، الداعي إليها. ووجب على المسلمين خصوصًا، وعلى أولي الأمر عمومًا أن يأمروا المدعو بالإجابة إلى الشريعة المطهرة إذا كان الأمر على الصفة التي ذكرناها، ثم إذا تظلم متظلم، وصرخ صارخ بأنه قد وقع الحكم بخلاف الشريعة المطهرة، إما من حاكم متأهل غلطًا، أو جرأة، أو من مقصر خبطًا وجزافًا، وطلب منكم أن ينظر في قضيته [15ب] حاكم آخر ممن تثقون بعلمه ودينه فإجابته واجبة، لأن الحكم المذكور إن كان صوابًا فالحق لا يرد ولا يدفع، وإن كان غلطًا أو جزافًا كما زعمه المتظلم فإنصافه بإيصاله إلى الحق واجب، وليس في ذلك ما يخدش في العزيمة، ولا ما يفت في عضد الرياسة، بل هو من كمال العدل، وتمام البر، لأن نصر الشريعة، وإيصال طالبها إليها، وافتقاد تظلم المتظلم لا يزيد أهل الرياسة إلا فخامة، ولا يكسب أرباب الحل والعقد إلا ضخامة، بهذا جرت عادة الله في المتحملين للأعباء، المتقلدين للأمر والنهي، فأنفدهم أمرًا وأقواهم إيرادًا وإصدارًا، وأشدهم عضدًا، وأكثرهم مددًا، أنصرهم لهذه الشريعة، وأعظمهم اهتمامًا بشأنها، وأكثرهم إشادة لأركانها، ومن كان مطلعًا على أحوال الدول في قديم الزمان وحديثه لم ينكر هذا. وقلتم: والمراد وجود ما لا بد منه من الشروط ... إلخ. وأقول: هذا الذي لا بد منه هو الذي وقع فيه الاضطراب والاختلاف؛ فقد تفاوتت مذاهب أهل العلم في بيان ذلك القدر الذي لا بد منه (¬1)، فقد يكون القاضي مجتهدًا عند بعض أهل العلم غير مجتهد عند البعض الآخر، فالوقوف على مقدار معين لا سبيل إلى التقليد فيه، وأهل الاجتهاد يختلفون في ذلك لاختلاف قرائحهم وفهومهم وعلومهم، فحينئذٍ المقدار الذي لا بد منه لم يقع على تعيينه إجماع حتى يقال هو كذا، ولا هو أمر ¬

(¬1) انظر تفصيل ذلك " البحر المحيط " (6/ 199)، " المغني " (14/ 10 - 24)، " الفقه والمتفقه " (2/ 152).

مبرهن عليه حتى يكون تقديره مستندًا إلى ذلك البرهان، بل كل عالم يقدره بحسب استعداده، وقابليته، ونفوذ ذهنه، وثقوب فهمه كما نجده في كتب المجتهدين، ويستفيده [16أ] من أنظار الناظرين. وعلى هذا فلا تثبت حجية حكم الحاكم على الخصمين إلا إذا كان مجمعًا على أهليته؛ إذ المختلف في أهليته ليس بمجمع على حجية قوله، وهذا بحث نفيس ينبغي إمعان النظر في تدبره وعدم المسارعة إلى رده بمجرد الاستبعاد له. وقلتم: ولكن المفضول في الاجتهاد حكمه صحيح كالفاضل فيه. وأقول: التسوية بين أحكام الحكام، ولزومها للمحكوم عليه على أي صفة كانت إذا كان الحاكم جامعًا للشروط المعتبرة إنما هو باعتبار ما قد رسخ في الأذهان من القواعد المقررة، كقول أهل الفقه: إنه لا ينقض (¬1) حكم حاكم إلا بدليل علمي ونحو ذلك. ¬

(¬1) قال ابن قدامة في " المغني " (14/ 34): وجملة ذلك أن الحاكم إذا رفعت إليه قضية قد قضى بها حاكم سواه، فبان له خطؤه أو بان له خطأ نفسه، نظرت. فإن كان الخطأ لمخالفة نص كتاب أو سنة أو إجماع، نقض حكمه، وبهذا قال الشافعي وزاد: إذا خالف قياسًا جليًا نقضه. وعن مالك وأبي حنيفة، أنهما قالا: لا ينقض الحكم إلا إذا خالف الإجماع. ثم ناقضا ذلك، فقال مالك: إذا حكم بالشفعة للجار نقض حكمه. وقال أبو حنيفة: إذا حكم ببيع متروك التسمية، أو حكم بين العبيد بالقرعة نقض حكمه. وهذه مسائل خلاف موافقة للسنة. واحتجوا على أنه لا ينقض ما لم يخالف الإجماع بأنه يسوغ فيه الخلاف، فلم ينقض حكمه فيه. كما لا نص فيه. وحكي عن أبي ثور، وداود، أنه ينقض جميع ما بان له خطؤه، لأن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى أبي موسى: لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس، ثم راجعت نفسك فيه اليوم، فهديت رشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ولأنه خطأ فوجب الرجوع عنه كما لو خالف الإجماع. وحكي عن مالك أنه وافقهما في قضاء نفسه. قال ابن قدامة: ولنا، على نقضه إذا خالف نصًا أو إجماعًا، أنه قضاء لم يصادف شرطه، فوجب نقضه، كما لو لم يخالف الإجماع، وبيان مخالفته للشرط، أن شرط الحكم بالاجتهاد عدم النص. انظر " الحاوي الكبير " (20/ 70 - 76).

والذي عندي أن حكام الشريعة إنما هم مترجمون لها، مبينون لما فيها، فمن أصاب الحق فقد أصاب، ومن أخطأه فقد أخطأ، وكون المخطي مأجورًا لا يستلزم لزوم حكمه، وقيام الحجة به. فإذا حكم حاكم بمحض الرأي، ظنًا منه أن دليل ذلك الحكم لا يوجد في الكتاب، ولا في السنة، ثم وجد غيره النص الدال على ذلك الحكم على وجه لا يتطرق إليه الرد، ولا يتعاوره النقض كان حكم الحاكم الأول منقوضًا باطلا، وإن كان له في ذلك الرأي الذي حكم به سلف من أهل العلم قد قالوا بقوله، وإن لم يكن ذلك الدليل الذي وجده غيره قطعيًا. ويقال لذلك الحاكم الذي لم يجد النص: قد اجتهدت فأخطأت، فلك أجر، وأما أن حكمك لازم لغيرك فلا، ولا كرامة بل هو رد عليك، ولم تكن شارعًا للعباد شريعة من عندك حتى تلزمهم ما جئت به من الرأي الذي قد وجد النص من الشارع بخلافه، بل أنت وسائر عباد الله متعبدون بهذه الشريعة التي بين أظهرنا، ليس لكم أن تزيغوا عنها، أو تخالفوها، أو تعارضوها بمحض الرأي، وجهل من جهل النص رد عليه، لأنه أمر مخالف لما كان عليه أمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وكل أمر مخالف لما كان عليه أمر رسول الله رد، فهذا رد، أما الصغرى فلأنه قد وجد النص من الشارع، ونصه هو الذي كان عليه أمره بلا شك ولا شبهة، وأما الكبرى فللحديث الصحيح المتلقى بالقبول عند جميع الطوائف الإسلامية، وهو كل ما لم يكن عليه أمرنا فهو رد. لا يقال: إن ترافع الغريمين إلى الحاكم بمنزلة تحكيمهما له في تلك القضية التي اختصما فيها، لأنا نقول: إنه لو كان ذلك كذلك فهما إنما ترافعا إليه ليحكم بينهما بالشريعة المطهرة، لا بمحض رأيه، فإنهما لم يقصداه لذاك، ولا نصبه في منصب القضاء من نصبه إلا ليريح الخصوم بالشريعة المطهرة، ولا يعدل عنها إلى الرأي

إلا عند عدمها. والمفروض أنها هنا موجودة لم تعدم. وجهل من جهل الشريعة [16ب] لم يتعبد الله به أحدًا من عباده، ولا أمر فردًا من أفرادهم باتباعه. أما إذا لم يكن في المسألة نص، أو ظاهر، أو قياس صحيح، ولم يكن بيد ذلك الحاكم، ولا بيد غيره إلا مجرد الرأي فليس لغيره أن يخالف حكمه بمحض الرأي، فليس رأي أحد الحاكمين بأرجح من رأي الآخر، وهكذا إذا كان كل واحد منهما قد تمسك بنص، أو ظاهر، ولم يترجح أحدهما على الآخر بحجة ظاهرة قاهرة، فليس لأحدهما المخالفة للآخر، ولا نقض حكمه لعدم المرجح، ولأنه لو ساغ النقض والأمر كذلك لم يستقر حكم من أحكام المسلمين. وقلتم: والأحكام التي يحررها حكامنا لا تمنع المراجعة فيها لمن اطلع على خلل ... إلخ. وأقول: هذا دأب المنصفين، ومسلك المتورعين، ولكنه ربما قال الحاكم الذي لم يكن متأهلا للحكم: إن حكمه بعد تمسك الغرماء به لا ينقض إلا بدليل علمي باعتبار ما قد عرفه من الأزهار (¬1)، ذاهلا عن كون الاجتهاد شرطًا من شروط الحاكم في نص الأزهار (¬2) كما نجده عند كثير من الحكام الذين لم تكن لهم أهلية، وحينئذٍ يطول النزاع، ويكثر الخصام، وربما يقول: إنه حكم بقول عالم من العلماء الذين تضيق أذهان العوام عن تصورهم لما هم عليه من جلالة القدر، ونبالة الذكر، وسعة العلم، فيظنون هم ومن يلتحق بهم أن الحاكم المجتهد إذا نقض حكم ذلك المقلد الذي حكم بقول ذلك العالم قد جاء بإحدى الكبر، وتلبس بأعظم الفواقر، ولا يتعلقون بأن الحاكم الذي حكم بذلك المقول غير متأهل للحكم، وأن نقض حكمه ليس إلا لعدم أهليته، لا لكونه حكم بقول ¬

(¬1) (3/ 439 - مع السيل): حيث قال: " يجب على من لا يغني عنه غيره ويحرم على مختل شرط، ويندب ويكره، ويباح ما بين ذلك حسب الحال، وشروطه الذكورة، والتكليف والسلامة من العمى والخرس، والاجتهاد في الأصح، والعدالة المحققة وولاية من إمام حق .... ". (¬2) (3/ 439 - مع السيل): حيث قال: " يجب على من لا يغني عنه غيره ويحرم على مختل شرط، ويندب ويكره، ويباح ما بين ذلك حسب الحال، وشروطه الذكورة، والتكليف والسلامة من العمى والخرس، والاجتهاد في الأصح، والعدالة المحققة وولاية من إمام حق .... ".

فلان. وإذا لم يتعلقوا لهذا مع كونه مصرحًا باشتراط اجتهاد الحاكم في المختصرات الفقهية، فكيف يتعقلون ما هو أدق من ذلك! مثلا لو قال لهم القائل: إنه قد وقع الإجماع على عدم جواز تقليد الأموات كما نقل ذلك العلامة محمد بن إبراهيم الوزير في القواعد (¬1)، وتابعه على تقرير ذلك من جاء بعده من العلماء المنصفين، أو قال لهم القائل مثلا: إن هذا الإمام الذي حكم الحاكم القاصر بقوله قد صح عنه أنه لا يجوز التقليد للأموات أو مطلقًا؛ فإنهم لا يتعقلون هذا، ولا ما يماثله من الحجج، بل ربما يعدونه هم والحاكم الذي لم يكن متأهلا من مسائل أهل النصب [17أ]، ومن أكاذيب المبتدعة ومن دسائس المنحرفين عن المذهب الشريف. وهذه اللطائف قد تلقنها غالب المقصرين، وجعلوها منفقة لما يأتون به من الجهالات، وتستروا بها عن كشف عوارهم وبوارهم، وفضائح جهلهم، فكانت لهم مجنًا يدفعون به ما يرد عليهم من العلماء المتأهلين، وحصنًا حصينًا يمنعهم عن انتقاد المنتقدين المبرزين، وذلك لأنهم عرفوا من أنفسهم العجز عن ربط ما يأتون به بدليله، والقصور عن دفع ما يرد عليه، لكونهم لا يعرفون الحجج الشرعية، بل لا يعقلونها، فعدلوا إلى هذه اللطيفة، ونفقها لهم من هو مثلهم، فكانت من أعظم الوسائل الشيطانية، والذرائع الطاغوتية، وداراهم من داراهم من المتأهلين، إما لمحبة السلامة والعافية، أو لفتوره عن البيان الذي أمر الله به، أو لمخافة فوات غرض من أغراض الدنيا، أو لحفظ قلوب السواد الأعظم عن النفور عنه، ورغوب النفس إلى عدم ذهاب الجاه الذي يعيش في ظله، ويشرب من وبله وطله، فطم الأمر، وعم، ووجد الشيطان اللعين السبيل إلى طمس معالم الشريعة، وإطفاء نورها، واهتظام حملتها القائمين ببيانها للناس، والله المستعان. قال - كثر الله فوائده -: وغير خاف عليكم أن اختيار من هو متأهل للحكم بأحوال ¬

(¬1) القواعد: مخطوط بالجامع الكبير " مجاميع " (96 ق 62/ 100) وأخرى في مكتبة عبد الله الحبشي. انظر: " مصادر الفكر " (176).

الغرماء والشهود مرجح له على غيره، لكثرة ملابسته لهم، ومعرفة مبطلهم من محقهم، ومعرفة المواضع المتشاجر فيها، إلى غير ذلك من تسهيل الأمر عليهم، وعدم تكليفهم للغرامات التي تشق عليهم، وتضييعهم لمن يعولون. أقول: هذا المرجح لا شك فيه باعتبار إذا كان الشهود في محل الخصمين، أو كان الشجار في شيء من الدور أو العقار يحتاج إلى المشاهدة، وكذلك للاختبار بحال الخصمين مزيد خصوصية في ظهور المحق من المبطل، وفي تخفيف الأمر عليهما. ولهذا ذكرنا في الجواب السابق أن طلب أحد الخصمين لخصمه الذي في جهته الخروج إلى حاكم في غير تلك الجهة ليس فيه إلا مجرد إتعاب ومشقة إذا كان الحاكم في الجهة من المتأهلين للحكم بما أنزل الله في كتابه، وعلى لسان رسوله، ولكن هذا المرجح إنما هو باعتبار الأمور التي ذكرها - كثر الله فوائده - وذكرنا. وأما باعتبار [17ب] حكم الله في تلك الحادثة فالمرجح هو التوسع في علم الشريعة. وإنا قد قدمنا أن من كان أكثر علمًا كان أبصر بالحق، وأقمنا على ذلك البراهين التي مرجعها إلى الوجدان والتجريب والاستقراء. ومن المرجحات أيضًا كثرة الورع، والتعفف عن الحطام، وتأثير الحق حيث كان، وتقديم الأدلة الشرعية على اجتهادات المجتهدين، وعدم التعصب لمذهب من المذاهب، أو عالم من العلماء، فهذه هي المرجحات بالنسبة إلى حكم الله تعالى في تلك الحادثة. وإذا عارضتها تلك المرجحات التي هي بالنسبة إلى حال الخصمين والشهود فهذه أرجح منها، لأن الحاكم ليس عليه إلا النظر في الدليل الشرعي، والموازنة بين المتعارضات من النصوص والظواهر وترجيح الراجح منها عند تعذر الجمع، وهو لا يجد عن هذه المرجحات بالنسبة إلى حكم الله بدلا ولا عوضًا، بخلاف المرجحات بالنسبة إلى حال الخصمين والشهود والمكان المتنازع فيه، فإنه يتمكن من معرفة ذلك بسؤال العارفين بأحوال الخصمين، وبطلب المعدل والخارج بالنسبة إلى الشهود، ويبعث العدول بالنسبة إلى المكان المتنازع فيه. وأما ما يلزم الغرماء من الغرامات فإن كان منها شيء للقاضي فليس هو القاضي الذي نحن بصدد الموازنة بينه

وبين غيره من القضاة، بل هو من جملة أهل المكس، وأرباب الظلم. وإن كانت الغرامة للغريمين أنفسهما ولشهودهما ومن ينفعهما بوجه من وجوه النفع، فليس على القاضي من ذلك شيء، بل عليه إمعان النظر في القضية، وعدم التراخي عن فصلها بحسب الإمكان، فإن كان فصلها محتاجًا إلى تكثير الخصام، وتطويل البقاء فذلك من أوجب الواجبات على القاضي، وأهم المهمات، فإنه إذا لم يثبت ويستوفي [18أ] المدارك الشرعية كان حكمه قبل أن يعلم بأنه الحق، فيكون من قضاة النار، ولا سيما مع ما قد صار في طبائع الخصوم من التباعد عن الحق والغمط لوجه الصواب، وإظهار التعمية والتلبيس والتمسك بالشبه، وتكثير الجدل والمغالطة؛ فإن الحاكم محتاج أتم حاجة إلى الاستقصاء، حتى يستوعب جميع ما يبطنه الغريمان ويكتمانه، وهما إذا طالت مدة خصومتهما، وتكاثرت غرامتهما فبجنايتهما على أنفسهما؛ فإنهما لو قعدا بين يدي الحاكم، وتكلما بنفس ما فيه الخصام، وكشفا وجه القضية على ما هو عليه، وأبانا محل اختلافهما لم يحتاجا إلى تطويل خصومة، ولا إلى تكثير غرامة، بل قد لا يقعدان بين يدي الحاكم غير ذلك المقعد الذي وصلا إليه فيه، فما على الحاكم إذًا ممن جنى على نفسه بنفسه، واختار المشقة على ما هو أخف عليه. قال - كثر الله فوائده -: وهذا الوجه الثاني إنما هو فيمن دعا إلى حاكم بحكم الله في تلك الحادثة، وأما في من دعا إلى من يفصل بينهما بالرأي والاستحسان (¬1) والأعراف المألوفة، أو بوجه الإصلاح كما هو الواقع كثيرًا، أو إلى حاكم مجتهد، لكنه لا يتولى النظر بنفسه في شجار الغرماء، بل يصرفهم إلى منصوبين مقلدين، أو إلى أحد من أعوانه، أو نحو ذلك ففي تكليف الغريم بوجوب الإجابة إلى غير جهته أعظم الإشكال. ¬

(¬1) تقدم تعريفه. وانظر " إرشاد الفحول " (ص786).

أقول: هذا الحاكم الذي يحكم بالرأي والاستحسان، إن كان عالمًا متأهلا متمكنًا من الحكم بما أنزل الله في كتابه، وعلى لسان رسوله، فالحادثة التي حكم فيها بالرأي والاستحسان لا تخلو إما أن يكون دليلها موجودًا في كتاب الله، أو في سنة رسوله، أو في قياس صحيح، أو إجماع معلوم، فعدول الحاكم عن ذلك إلى الرأي والاستحسان يخرجه عن مسمى القاضي إلى مسمى الخائن لله وللمسلمين وللشريعة، بل يلحقه ويلحق حكمه بالطاغوت وأهله، لأنه عدل عن حكم الله إلى حكم نفسه، وقدم رأيه على رأي الشارع، وآثر هذيانه [18ب] على ما رضيه الله لعباده، ودبر الأمة بغير التدبير الذي دبرها الله به، فهو عن الحاكم الذي يحكم بالشريعة المطهرة بمعزل، ولا تلزمه الإجابة إليه، ولا امتثال حكمه، بل يجب على كل مسلم عزله، والحيلولة بينه وبين المسلمين، فإنه مع كونه ظالمًا للعباد بالحكم عليهم بغير الشرع هو أيضًا ظالم للشريعة، معاند لله ورسوله وشريعته؛ فهو أشر من الظلمة الذين يظلمون الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، لأنه شاركهم في ظلم الناس، وزاد عليهم بكذبه على الله، وعلى رسوله، وعلى الشريعة، وحكم بين العباد بالطاغوت بصورة الشرع، لكونه منتصبًا في منصب المترجمين عن الشرع، هذا على فرض أنه متأهل لا يخفى عليه ما شرعه الله في تلك الحادثة، وأما على فرض أنه جاهل لا يعقل الحجة بل يقر على نفسه بذلك، ويظهره للناس كما هو شأن غير المتأهلين، فهذا وإن كان من قضاة النار، ومن أشر الأشرار لكنه ليس كمن ذهب يكذب على الله وعلى شريعته، عالمًا بأنه كذلك، متعمدًا للعدول عما يعلمه من الشرع إلى رأيه الفاسد، لأن غير المتأهل هو لا يعلم الشرع حتى يقال عدل عنه إلى رأيه، أو رأي غيره، بل ذلك عنده هو الشرع بعينه. ومن هذه الحيثية كررت في هذه الورقات، وفيما قبلها من التأليفات التحذير والإنذار عن تولية غير المتأهلين لمثل هذا المذهب الذي هو أساس الدين، وأما إذا كان ذلك المتأهل الذي قضى بالرأي والاستحسان إنما قضى به بعد أن لم يجد في كتاب الله، ولا في سنة رسوله، ولا في القياس الصحيح، مستندًا لتلك الحادثة فهذا لا إنكار عليه؛ فقد عمل

بحديث معاذ (¬1) الذي تقدم ذكره، وهو رخصة له تمنع من الإنكار عليه إلا لمن وجد النص كما تقدم تحريره وتقديره. ثم الجزم على حاكم من حكام الشريعة بأنه يعدل إلى الرأي مع وجود النص لا ينبغي أن يقوله إلا من كان يعلم بالشريعة، علمًا يفرق به بين ما هو منها وما هو من غيرها، فإن الحاكم الذي قد رسخ قدمه في الشريعة ربما يترك الاستدلال [19أ] على حكمه بأدلة الكتاب والسنة مع كونه متمكنًا من ذلك، قادرًا عليه لقصد الاختصار، أو لقصور كثير من الأذهان عن تعقل الحجة، أو لكونه مبتلى بقوم يعادون ما وجدوه مربوطًا بالأدلة لاعتقادهم أن الصواب ما أدركوا عليه الحكام المقصرين العاجزين عن إيراد الحجج من القضاء بمحض الآراء، وتغليق باب الاجتهاد مع ما قدمنا الإشارة إليه من إيهامهم العامة بأن ذلك الذي يقضون به هو الموافق لقول العالم الفلاني الذي إليه الاعتزاء، ونحو ذلك من الدسائس، فإذا وجد كثير من العامة حكمًا مربوطًا بالأدلة، مشحونًا بالكتاب والسنة اعتقدوا .... أنه مخالف لما يألفونه، فيكون ذلك سببًا لفتحهم باب الاستفتاء لمن يشاركهم في الغالب في مسمى العامية، وإن ظن وظنوا أنه متميز عنهم فهو ظن فاسد؛ فإن الارتفاع عن هذه الطبقة إنما تكون بالعلوم الاجتهادية، أو بالمدارك العقلية، لا بما عداهما. ولقد تعاظمت المحنة على الإسلام وأهله بقوم نفروا عن الأحكام والفتاوى المستندة إلى نصوص الكتاب والسنة، ويأنسون بالأحكام والفتاوى المنسوبة إلى بعض أفراد الأمة الذين هم مكلفون بالشريعة كغيرهم، ومتعبدون بأحكامها كسائر الناس، وليسوا بشارعين بل متشرعين، ولا متبوعين بل تابعين، وناهيك خسارًا وبوارًا وجهلا بمن يؤثر كلام من هو من جملة المتعبدين بالشرع على كلام من جاء بالشرع فضلا عن أن يسوي بينهما، فضلا عن أن يقدم ما يجب تقديمه. وقد رأينا من هذا وسمعنا ما يحجم القلم عن سرده حياءً من الله - سبحانه -؛ فإنه من أعظم التجري عليه، والتنقص له، تعالى عن كل ذلك. ولا يستبعد هذا من لم ¬

(¬1) وهو حديث ضعيف تقدم تخريجه.

يشاهده، بل عليه أن يحمد الله على السلامة والعافية. وأما الاستناد في الأحكام الشرعية إلى الأعراف (¬1) [19ب] المألوفة فلا ينبغي أن ينسب ذلك إلى الشرع إلا في مثل حمل إقرار المقر، وحلف الحالف، ونحو ذلك من المحاولات على عرف بلده وتشابهه، فإن هذا له مدخل فيما يتعلق بالقضاء من هذه الحيثية، لا من حيث جعله دليلا للحكم؛ فإن ما وقع في كتب الأصول والفروع من الكلام على الأعراف (¬2) لا يراد به إلا هذا، إلا في مثل تقديمهم مثلا لعرف الشرع على ¬

(¬1) تقدم تعريف العرف والكلام عنه. انظر الرسالة رقم (128). (¬2) الاستعمالات الفقهية للعرف تنحصر في أربعة استعمالات وهي: (أ): العرف الذي يكون دليلا على مشروعية الحكم ظاهرًا: وهو أن العرف يكون دليلا على الحكم ظاهرًا، والدليل في الحقيقة: ما رجع إليه من السنة أو الإجماع أو اعتبار المصالح أو أصل إباحة، أو غير ذلك من الأدلة، ومن أمثلته المعاملات، التصرفات التي بعث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والناس يعتادونها، ويتعاملون بها، فأقرهم عليها، كالمضاربة، والسلم والاستصناع، وكالقسامة. (ب): العرف الذي يرجع إليه في تطبيق الأحكام المطلقة على الحوادث، والمراد من هذا النوع: الرجوع إلى العرف في إقامة الأحكام الكلية حال تطبيقها على جزئيات الحوادث .. فالفقيه إذا عرضت له حادثة، لم يرد من الشرع إلا حكم كلي مطلق يجمعها مع أمثالها ونظائرها " رجع في تطبيق هذا الحكم على هذه الحادثة الجزئية إلى تحكيم العرف والعوائد وضابط هذا النوع. وكليته الدالة عليه هي " كل ما ورد به الشرع مطلقًا، ولا ضابط له فيه، ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف ". ومن أمثلة هذا الاستعمال العرفي الكبير: مالية الأشياء، التعزير وأسبابه - إحياء الموات ما يخل بالمروءة، وما يحقق شروط العدالة، الإذن في الضيافة، انتفاع المستأجر للعين المؤجرة بما جرت به العادة ومن أمثلة الرجوع إليه فيما يقدر: الحيض، والطهر أقله وأكثره، ومدته أكثر مدة الحمل، سن اليأس. ومما يندرج تحت هذا الاستعمال: الرجوع إلى العرف في معرفة أسباب الأحكام من الصفات الإضافية، ومن أمثلته: 1 - صغر ضبة الفضة وكبرها، ثمن مثل، مهر مثل، كفء نكاح مؤنة، ونفقة وكسوة وسكنى. فالعرف في كل هذه الأمثلة وتظافرها هو ضابط مطلقات الأحكام الكلية المستفادة من النصوص. (ج): العرف الذي ينزل منزلة النطق بالأمر المتعارف: تجري بين الناس في تصرفاتهم عادات وأعراف دالة على الإذن في الشيء أو المنع منه أو تفيد الإلزام به، أو بيان نوعه أو قدره، وقد تكون قرينة تسوغ للشاهد أن يشهد، وللقاضي أن يقضي، وللمفتي أن يفتي. فهذه الفوائد تجري مجرى النطق بالعبارات الدالة على مضمونها .. ويكون للعرف الجاري بها قوة النطق باللفظ في اعتبار الشارع، يرتب عليه ما رتبه على الألفاظ من الأحكام، بمعنى أن قيام هذا النوع من العرف بين الناس يكون بمثابة نطق المتصرف، وإنما تركوا التلفظ به اتكالا على إفادة العرف له، وإعفاءً لأنفسهم من عمل تكلفت به طبيعة زمنهم. ودليله من حديث عروة بن أبي الجعد البارقي - رضي الله عنه - " أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطاه دينارًا ليشتري به أضحية، أو شاة، فاشترى به شاتين، فباع إحداهما بدينار، فأتاه بشاة ودينار، فدعا له بالبركة في بيعه ... ". فأنت ترى عروة - رضي الله عنه - اشترى شاتين وباع إحداهما بغير إذن لفظي وأقره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما ذاك إلا اعتمادًا من عروة على الإذن العرفي، فإن مما جرى به العرف أن الوكيل مأذون له في مخالفة موكله إلى خير مما أمره به. (د): الاستعمال الرابع: العرف القولي: أهم مجال يطبق فيه ويظهر فيه مداه الرحب الألفاظ المتعلقة بالتصرفات والعقود، ألفاظ الوصايا والأوقاف، الطلاق والعتاق، ذلك لما تقرر من أن كل متكلم إنما بقصد ما يتعارفه، وأن مطلق الكلام بين الناس ينصرف إلى المتعارف انظر مزيد تفصيل: " الأشباه والنظائر " (ص98)، " فتح الباري " (4/ 406)، " إعلام الموقعين " (2/ 393).

اللغة، ونحو ذلك من المباحث، فإنه يراد به عرف الشارع، وأهل الشرع، لا ما اصطلحه قوم بينهم، وجعلوه عرفًا لهم؛ فإن ذلك لا مدخل له في الشرع إلا من تلك الحيثية، وأما ما في الكتاب العزيز (¬1) من الإرشاد إلى العمل بالعرف والمعروف، وكذلك ¬

(¬1) اعلم أن كل ما تكرر من لفظ " المعروف " في القرآن فالمراد به ما يتعارفه الناس في ذلك الوقت من مثل ذلك الأمر، وضابطه: كل فعل رتب عليه الحكم ولا ضابط له في الشرع ولا في اللغة. نجد أن الكلمة الكريمة الطيبة " المعروف " وردت في القرآن الكريم ثمانيًا وثلاثين مرة. منها: قال تعالى: {الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف} [البقرة: 180]. قال تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} [البقرة: 228]. وانظر الآيات: [178، 229، 231، 232، 233، 234، 235، 236، 240، 241، 263] من سورة البقرة. ومنها: قال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف} [آل عمران: 104] وانظر الآيات [110، 114] من آل عمران. " القول المعروف " جاء في ستة مواضع: منها: قوله تعالى: {ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا} [البقرة: 235]. ومنها قوله تعالى: {وقلن قولا معروفا} [الأحزاب: 32]. و" الأمر بالمعروف " جاء في أحد عشر موضعًا: منها قوله تعالى: {تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران: 104].

في السنة المطهرة من الأحاديث المصرحة بالأمر بالمعروف (¬1) فهو المقابل للمنكر، والمراد المعروف في الشرائع، وعند أهلها، والمنكر في الشرائع وعند أهلها، وكذلك ما يلائم عقول المتشرعين من تحسين العدل، وسائر الملكات النفسانية المستحسنة؛ فإنه من المعروف، وما كان منافرًا لها من الظلم وما يشابهه فهو من المنكر. وبالجملة فتحقيق هذا المبحث يحتاج إلى تطويل يشتمل على بيان ما في كل آية من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية من المعاني الخاصة ببعض المعاني تارة، والعامة ¬

(¬1) منها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7056) ومسلم رقم (1709) عن عبادة بن الصامت وفيه: " .. وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم ". ومنها: ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (49) من حديث أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ".

لجميعها أخرى. وأما ما ينسبه أهل الأصول (¬1) إلى بعض الطرائق الإسلامية من العمل بالأعراف والعادات فينبغي حمله على ما ذكرناه، لأنه يبعد كل البعد أن يقول عالم من علماء الإسلام أن ما اصطلح عليه قوم فيما بينهم بعد عصر النبوة بعصور يكون شرعًا لهم. وأما الاصطلاح الذي أشار إليه - كثر الله فوائده - فهو مما أرشد إليه القرآن الكريم، والسنة المطهرة، ومما يستحسن تقديمه قبل الحكم في كل خصومة، فذلك من الشرع إذا كان على وجه التراضي، وإلا فليس هو هذا الصلح المشروع، بل هو حكم، فإن خرج مخرج الحكم الشرعي فذاك، وإلا كان مما قدمنا [20أ] الإشارة إليه. ¬

(¬1) كما قلنا أن العرف ليس بدليل مستقل ولكنه يرجع إلى أدلة الشريعة المعتبرة، كالإجماع، المصلحة المرسلة وسد الذرائع. ومن أشهر أدلة العرف على الإطلاق: - قوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} [الأعراف: 199]. - حديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما رآه المسلمون حسنا فهو حسن ". أورده الهيثمي في المجمع (1/ 177 - 178) وقال: " رواه أحمد (22/ 170 - الفتح الرباني) والبزار (1/ 81 رقم 130 كشف) والطبراني في الكبير (9/ 118 رقم 8582) ورجاله موثقون ". وأخرجه الطيالسي في " المسند " (ص33 رقم69) وأبو نعيم في " الحلية " (1/ 375) وأورده السخاوي في " المقاصد " (581) وقال عقبة: " وهو موقوف حسن " على عبد الله بن مسعود. وابن بديع في " تمييز الطيب " (ص146)، والزرقاني في " مختصر المقاصد " (ص168) والعجلوني في " كشف الخفاء " (2/ 245). وأخرجه الحاكم (3/ 78 - 79) من قوله: " فما رأى المسلمون " وزاد: وقد رأى الصحابة جميعًا أن يستخلفوا أبا بكر - رضي الله عنه - وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. والخلاصة أنه موقوف حسن ولا أصل له في المرفوع. انظر تفصيل ذلك في " البحر المحيط " (3/ 41)، " الطرق الحكمية " (ص92)، " مدارج السالكين " (2/ 304). وانظر أدلة المانعين والمجيزين هنا. " أصول مذهب الإمام أحمد " (ص540 - 541).

وأما ذكره الحاكم المجتهد الذي لا يتولى النظر بنفسه ... إلخ. فينبغي أن يفصل في ذلك فيقال: إن كان ما وقع من الحاكم المجتهد من الأمر لأعوانه أو بغيرهم من الحكام المقصرين (¬1) بالنظر فيه هو نفس الحكم، أو ما يترتب عليه الحكم ترتبًا قريبًا فالآمر والمأمور شريكان في المظلمة وفي المخالفة للشريعة، وإن كان الذي أمر بالنظر فيه هو غير ذلك، كتحرير ما يأمره الحاكم بتحريره إجمالا، أو النظر لمكان وقع عليه الخصام ليحكي له الصورة التي يشاهدها كما يقع في الشفعة ونحوها، أو يأمره بأن يقسم ميراثًا بين أهله بعد أن عرفه كيف يكون التقسيم، أو يرقم ما يدعيه أحد الخصمين وما يجيب عليه به الخصم الآخر، ويعرض ذلك عليه بمحضر الغرماء فهذا ونحوه لا بأس بتفويضه إلى من تعرف عدالته وأمانته، وإن لم يكن من أهل العلم في ورد ولا صدر. وهؤلاء هم الذين كان يلقبهم السلف العدول، ويلقبهم أهل عصرنا في هذه الديار الأمناء، وما بمثل هذا بأس؛ فإن قبول أخبار العدول ليس من التقليد في شيء، وتوليهم لما يتولونه ليس من الحكم الذي هو من عمل القضاة، ولو كلف القاضي بأن يقسم التركات، وينظر مكان الخصومات، ويحرر السجلات لكان قد كلف بما لا يطيقه، ولا يدخل تحت قدرته، وأضر ذلك بأهل الخصومات، لا سيما عند أن يشد الرحل، ويتزود للسفر إلى مكان بعيد ينظر أسباب الشفعة بين البدوي الفلاني وغريمه، أو يقسم تركتهما المفرقة في جوانب الأرض؛ فإن هذا يعود على الغرض المقصود من نصيبه للأحكام ¬

(¬1) انظر " تبصرة الحكام " (1/ 60 - 63). وانظر الرسالة رقم (142). يحتاج القاضي في وظيفته إلى أعوان يعينونه على تمشية أعمال القضاء منهم: 1 - جماعة من أهل العلم والفضل يشاورهم فيما يعرض عليه من قضايا وما ينبغي لها من أحكام شرعية مناسبة. وهذه المشاورة مطلوبة من القاضي ولو كان عالمًا. 2 - أعوان القاضي: الكاتب، الحاجب، البواب، المترجم، الجلواز، الشهود، الأجرياء، صاحب السجن، المزكون، والمؤدبون. انظر تفصيل ذلك " أدب القاضي " للماوردي (1/ 261 - 265).

الشرعية بالنقض. ومن قال: إن هذا من عمل القاضي فهو لا يدري ما هو القضاء، بل الذي يجب على القاضي [20ب] أن يقول للورثة المتخاصمين إليه بكيفية القسمة على الفرائض الشرعية، ويقول للمتخاصمين في الشفعة بعد أن يحكي له العدل صورة الأسباب: إن المستحق للشفعة صاحب هذا السبب دون هذا، ونحو ذلك، وينبغي له أن يقول للخصوم قبل بعث العدل أو العدول: عرفاني بصفة الأسباب التي تتنازعان فيها، فإن اتفقا على أمر كان ذلك مغنيًا له عن بعث غيرهم، وإن لم يتفقا أخذ على العدل أو العدول تصوير صورة ذلك على وجه التمام، فربما تقصر عبارة بعض الناس عن حكاية ما قد شاهده على التمام. وهكذا في سائر الأمور المشابهة لهذا. وأما إذا كان من يأمره القاضي بالنظر في القضية من المتأهلين للحكم فيها بالشريعة المطهرة، فلا حرج على القاضي في ذلك، وسواء كان المأمور قاضيًا أو غير قاض؛ فإن تفويضه من القاضي يجعله بمنزلة القاضي، وله أن يفوض الحكم إليه، لأنه يثق منه بأنه لا يزيغ عن الحق لورعه وأمانته، ولا يحكم خبطًا وجزافًا لعلمه بالشريعة المطهرة، وتأهله للحكم بها، ولكنه لما كان مأمورًا بأمره مباشرًا بتفويضه كان عليه أن ينظر في حكمه، ومستنده أخذًا بالجزم، وعملا بالعزيمة؛ فإن المتأهل غير معصوم من الخطأ، وقد يخفى عليه مع علمه بالشريعة بعض دقائقها، فإذا اعتضد نظره بنظره، واجتمع علمه مع علمه كان ذلك غاية ما يجب، ونهاية ما يلزم. قال - كثر الله فوائده -: ولو صح لمجتهد وجوب الإجابة إلى غير الجهة مع وجود حاكم معتبر في البريد (¬1) لما لزم الغير اجتهاده، ولا وجب على الراعي إلزام رعيته بذلك، سواء كان مجتهدًا أو مقلدًا. ولا يخفاكم أن الحاكم لا يلزم غيره اجتهاده إلا بعد حصول شرائط التداعي بين الخصمين، هذا إذا كان المقصود هو السلوك في المنهج الشرعي [21أ]، وإبلاء العذر بين يدي الله تعالى، وإن كان القصد غير ذلك من نفوذ الكلمة ¬

(¬1) تقدم التعريف به وكذلك توضيح مقداره.

- وحاشاكم عن ذلك - فالجواب عنه لا يخفى. أقول: قد ذكرت في هذه الأبحاث غير مرة أن الذي أجبت به في الجواب السابق هو أن الإجابة ليست إلا مجرد إتعاب ومشقة مع وجود حاكم في الجهة يتمكن من الحكم بما أنزل الله في كتابه، وعلى لسان رسوله. والجواب لدى السائل - عافاه الله - فليراجعه حتى يعلم ذلك ويتيقنه. وأما ما ذكره من أن الحاكم لا يلزم غيره اجتهاده إلى آخر الكلام. فليعلم - أدام الله بقاءه - أن هذه الكلمة وإن كانت دائرة على الألسن، محررة في الدفاتر ففيها من الإشكال ما لا يحيط به المقال، وبيانه أن كلامنا وكلامه في حاكم يحكم بما أنزل الله، وما جاءت به السنة المطهرة، والأحكام العامة للأمة في الكتاب والسنة التعبد بها قدر مشترك بين العباد في قديم الدهر وحديثه، لا يختص بالتكليف بها هذا دون هذا، هذا معلوم لكل متشرع، فالحاكم المذكور هو لم يأت بشيء من تلقاء نفسه، ولا بشيء جاء به غير الشارع، ولا بحكم يلزم البعض دون البعض، بل بشريعة عامة، وحكم شامل قد تعبد الله به عباده. وإذا كان هذا هو المراد من الحاكم، فما معنى قولكم: إنه لا يلزم غيره اجتهاده؟ إن كان المراد بهذا الاجتهاد جميع ما يحكم به من الأحكام الواردة على منهج الشريعة الموافقة لها فإن هذا الذي جاء به هو ما جاء به القرآن، أو ما نطقت به السنة. وقد وقع الإلزام به للأمة من عند البعثة المحمدية، فهذا القاضي إنما بين للناس ما شرع لهم، وحكم عليهم بما حكم الله به عليهم، فكيف لا يكون لازمًا لهم! وبهذا يتقرر أن المسألة على شهرتها [21ب] وتنزيلها عند المتمسكين بها منزلة القواطع مبنية على شفا جرف هار. وإن كنتم تريدون باجتهاد القاضي الذي لا يلزم غيره هو محض رأيه الذي لا مستند له من كتاب ولا سنة فنحن معكم على هذا، فإن رأي هذا العالم لا يلزم هذا العالم، وكذلك رأي هذا الحاكم لا يلزم هذا الحاكم. أما إذا كان في المسألة دليل يخالف ذلك الرأي فلا يلزم الخصمين ولا غيرهما، وأما إذا

لم يكن فيها دليل بل ليس إلا مجرد الرأي فليس رأي هذا بأولى من رأي هذا، ولا ينقض رأي برأي. فإن كنتم تريدون هذا فهو صحيح مسلم، ولكن لا يستقيم لكم إيراد هذه المسألة على إرادة هذا المراد في هذا الموضع؛ فإنكم أوردتم هذا الكلام في مساق الاحتجاج على عدم لزوم الإجابة إلى قاض خارج عن الجهة، مع وجود قاض فيها، وإنما يتم لكم الاحتجاج بهذه القاعدة إذا أردتم المعنى الأول من اجتهاد القاضي كما أراده المدونون لها، وقد أبطلناه. أما إذا أردتم المعنى الثاني المستقيم فنقول لكم: من أين علمتم أن القاضي الذي وقع الطلب إليه سيحكم بالرأي في تلك الحادثة التي ستحدث حتى يقولوا: لا يلزم اجتهاده غيره! وقد علمتم أن محل النزاع بيننا هو القاضي الذي يحكم بالشريعة المطهرة بعد تأهله للقضاء بها. قال - كثر الله فوائده -: الوجه الثالث: ما ذكرتموه في شأن القضاة المقلدين (¬1)، وكلامكم هو الحق الذي لا ريب فيه، ولكنه أشكل علينا أنكم خليتم بينهم وبين المتشاجرين، ولم تنكروا عليهم ذلك مع إمكانه عليكم بالفعل، بل تصرفون إليهم الغرماء، وتأمرونهم بالحكم بينهم، وفصل شجارهم، وتلزمون الغرماء بمقتضى ما رقموه في المراسيم، وتنفذون لهم جميع ما رأوه ورجحوه، ولا يصح الاعتذار بأنهم يعرضون عليكم المراسيم، وأنكم لا تنفذون وتلزمون إلا بعد النظر فيها، والتقرير [22أ] لما ترجحونه أنتم، لأنا نقول: إنهم لا يعرضون عليكم الأشياء مفصولا قد رقمن في ¬

(¬1) قال ابن قدامة في " المغني " (14/ 14): أن يكون أهل الاجتهاد، وبهذا قال مالك، والشافعي، وبعض الحنفية. وقال بعضهم: يجوز أن يكون عاميًا فيحكم بالتقليد، لأن الغرض فصل الخصومات فإذا أمكنه ذلك بالتقليد جاز، كما يحكم بقول المقومين. قال ابن قدامة: ولنا قوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 49] ولم يقل بالتقليد. وقال: {لتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء: 105].

مراسيمهم، ولم يعرضوا عليكم الدعوى والإجابة حتى تنظروا صحة ذلك من فساده، ولا عرضوا عليكم البينات، ولا جميع ما يحصل من أسباب الحكم وشرائطه، وكل ذلك لا يصح النظر فيه إلا لمجتهد، وإلا فلا وجه لترجيح الإنكار على هذا دون هذا. أقول: الحكام المتصفون بهذه الصفة لا يخلى بينهم وبين الغرماء إلا في مثل هذه الأمور التي قدمنا ذكرها في بحث الاستعانة بالأمناء والقضاة المقصرين على التحقيق الذي سبق، وإنما يفوض الحكم إلى من كان منهم متأهلا كما تقدم تقريره، ولدينا من القضاة من هو مجتهد متبحر في كل علم، ولدينا منهم من هو في الورع والتأني والتثبت راسخ القدم، مع تحليه من المعارف العلمية بما يوجب له الأهلية، فإن كنتم تريدون أنا نصرف الغرماء إلى هؤلاء، ونركن عليهم فمسلم، مع أنا لا نترك الأشراف على ما يحكمون به تحريًا وتحوطًا لكون السرف إليهم له مدخلية في مشاركتهم في الصواب والخطأ، وإلا فهم ممن تبرأ الذمة بالتفويض إليه. وإن كنتم تريدون من صرحتم بقصورهم فلا نسلم أنا نخلي بينهم وبين الغرماء في الأحكام الشرعية. وغاية ما يفعلونه هو ما يفعله الأمناء والعدول على حسب التفصيل السابق. وأما أنهم يستقلون بحكم شرعي يفتقر إلى النظر والاجتهاد فلا؛ فإنه إذا نابهم شيء من ذلك أحالوه على من هو من أهله، ولا يستبدون به، ولو فرضنا استبداد واحد منهم من ذات نفسه لم يقبل الحكم منه الخصم المحكوم عليه، بل يأتي ويتظلم ويصول ويجول، فيكون فعله هذا سببًا لكشف القضية والبحث عن أولها وآخرها ومستندها وإعادتها جذعة، وإنما يستبد هؤلاء بتحرير ورق المصادقة، وتقدير النفقات، وقيم المتلفات والنكاحات، والطلاقات، وضروب المعاملات الجارية بين الغرماء على حساب تراضيهم، ولهم من العدالة ما يعتبر في العدول على وجه لا يفترون كذبًا، ولا يكتبون باطلا.

وقد قال تعالى: {وليكتب بينكم كاتب بالعدل} (¬1) وقال: {وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد} (¬2)، وهذا ليس من الحكم في شيء، ولا هو مما يقوم به الحكام وحدهم. وهكذا قد يتولون قسمة التركات، والنظر في المحلات المتنازع فيها، ونحو ذلك. وقد قدمنا أن هذا يصح من العدول الذين لا تعلق لهم بالعلم، لأنهم إنما يقسمون كما يؤمرون، أو يحكمون الصورة التي يشاهدونها، فإن كنتم تريدون أنا خلينا بينهم وبين المشتجرين، وصرفنا إليهم في مثل هذه الأمور فمسلم، ولا يضرنا ذلك، وإن كنتم تريدون تفويض الأحكام الشرعية في الأمور التي تحتاج إلى الحكم بالشريعة فممنوع. وحاصله أن هؤلاء ليسوا بقضاة على التحقيق بل هم النواب عن القضاة. وقد كان السلف يصنعون ذلك، فإن الذي كان يفعله حكام العصور السالفة في جميع أقطار الأرض هو أن ينصب (¬3) الخليفة أو السلطان قاضيًا، ويقتصر عليه في مملكته جميعًا وإن كانت متسعة الأطراف، ولا ينصبون قاضيًا غيره، بل يأذنون له بالاستنابة فيستنيب في كل بقعة من بقاع الأرض نائبًا، وقد يستنيب في المكان [22ب] الواحد جماعة إذا كان واسعًا كالمدائن الكبار، وكانوا لا يعرضون عليه إلا ما يحتاج إلى النظر والبحث من المسائل بعد أن يلخصوا له أطراف المسألة الحادثة تلخيصًا لا يحتاج الحاكم معه إلا بيان وجه الحكم، وكشف ما عرض فيه الإشكال. وأما ما ذكرتم من عدم الإنكار عليهم فالذنب في هذا الاعتقاد محمول على من نقله إليكم؛ فإنه محض الزور. فقد علم الناس أنا لا نسمع متظلمًا في أمر يتعلق بالشريعة المطهرة إلا وكشفنا ظلامته، وفحصنا عن أمره، ولا نرى رقمًا يخالف المنهج الشرعي إلا وأبطلناه، وإن كان راقمه من المتأهلين فضلا من غير المتأهلين. ولا يختص بهذه ¬

(¬1) [البقرة: 282]. (¬2) [البقرة: 282]. (¬3) انظر " مجموع الفتاوى " (18/ 763) " أدب القاضي " للماوردي (1/ 137).

الخصوصية بعض البقاع دون بعض، بل لا ندع شيئًا باطلا نقف عليه، وإن كان القاضي الذي حرره في أطراف القطر اليمني، وليس علينا إلا إنكار ما بلغنا، وإبطال ما علمنا بطلانه، ولم يكلفنا الله في علم ما لم نعلمه، ولا إنكار ما لم يبلغ إلينا، وهذا غاية ما يجب علينا. ومع هذا فإني لا أدعي لنفسي ما لا تستحقه، فإني لست بمعصوم عن الخطأ، بل أطلب من غيري إذا وجد كلامًا لي في حكم أو فتيا مخالفًا للشريعة المطهرة أن يصلحه، أو يرشدني إلى إصلاحه، ويفعل معي ما أفعله مع غيري. وأما ما أشرتم إليه من أنه لا يصح النظر في أسباب الحكم وشرائطه إلا لمجتهد (¬1)، فهذه الكلية ممنوعة، فإن الذي يحتاج إلى المجتهد إنما هو نفس الحكم وما يترتب عليه ترتبًا قريبًا كما قدمنا تقريره، وأما مثل تحرير ما يتحاور به الخصمان، ومثل رقم ما يقربه كل واحد منهما على نفسه، ومثل النظر لمحل الشجار، ومثل تقويم التالف، وتقدير الباقي، ونحو ذلك من الأمور، فهذا يقوم به العدول الذين يوثق بدينهم وأمانتهم، وإن لم يكونوا من أهل العلم فضلا عن أهل العلم. وقد كررنا هذا في هذه الورقات لتكريره في هذه الأبحاث التي تكلمنا عليها. وفيما سبق ما يغني عن تكريره. وأما ما لمحتم إليه من أجرة الرسول، وكيفية [كان] (¬2) تقسيطها، وما المستند في ذلك؟ فهذا البحث إذا بسطنا القول فيه، ونقلنا كلامكم عليه خرجنا إلا ما لا حاجة بنا وبكم إليه لاستلزامه للكلام على مباحث وجوب الطاعة، ومن تجب له. وقد كفانا وكفاكم عن هذا نصوص القرآن الكريم، والأحاديث الصحيحة المتواترة، وهي موجودة في الصحيحين، بالغة فيهما إلى حد التواتر المعتبر، فراجعوا ذلك ففيه ما يغني. والحمد لله أولا وآخرًا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله، ورضي الله عن الصحابة الأخيار [23أ]. ¬

(¬1) تقدم ذكره وانظر الرسالة (60). (¬2) في المخطوط [كان] أسقطت لعدم الضرورة.

الجوابات المنيعة على الأبحاث البديعة

الجوابات المنيعة على الأبحاث البديعة تأليف شرف الدين بن أحمد أمير كوكبان حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " الجوابات المنيعة على الأبحاث البديعة ". 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين الطاهرين. وبعد: فإنها وصلت إلينا الرسالة التي اشتملت على أبحاث تشد إليها الرحال ويعجز عن مثلها العلماء الأمثال .... " 4 - آخر الرسالة: " وهو يهدي السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. حرر صبح الأحد 13 شهر شعبان الكريم سنة 1218هـ ". 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 17 صفحة ما عدا صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة 24سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الطاهرين. وبعد: فإنها وصلت إلينا الرسالة (¬1) التي اشتملت على أبحاث تشد إليها الرحال، ويعجز عن مثلها العلماء الأمثال، إلا أنها وإن تضمنت أنواعًا من الفوائد المتعددة، وعقودًا من الفرائد المتبددة، فهي لم تفد في حل ما أشكل من الأبحاث المسددة، بل سلك المجيب - كثر الله فوائده - في غالبها واديًا لم نرده فيما أوردناه، ولا ورد عين ما أوردناه، واستدل في بعضها بما لا ينهض في حل ما استشكلناه، فهو في بابه من بدائع الفوائد، يجب أن يعتمده كل من جعل في عنقه من أمور المسلمين القلائد، فلا تناط أحكام الله تعالى إلا بمن يعرف صحة ما يحكم بدليله الوارد عن الله ورسوله. ولا يخفى المجيب - كثر الله فوائده - أن ملخص الجواب الذي أجبنا به عليه هو أن الاستدلال بالآيتين الكريمتين على وجوب الإجابة إلى الحاكم مشكل، وأن دلالتهما لو تمت على وجوب الإجابة إلى الحاكم لما دلت على محل النزاع، وهو وجوب إجابة الغرماء إلى الخارج عن البريد (¬2)، مع وجود حاكم معتبر في البلد، وأن في بلدنا من كملت فيه الشروط المعتبرة في صحة الحكم، ولا يلزم من القول بعدم دلالة الآيتين على هذا المعنى طي بساط الشريعة، ولا أن يكون القائل بذلك مخالفًا للإجماع القطعي، وللشريعة المطهرة، ورافعًا للتعبد بها، ولا يفضي به ذلك إلى كفر وفسق، بل كتب أئمتنا - عليهم السلام - وغيرهم مصرحة بعدم وجوب الخروج مع وجود حاكم معتبر في البلد، ولم يلزمهم بذلك طي بساط الشريعة، ومخالفة القطعي الموجب لما يخفاكم، ¬

(¬1) يشير إلى الرسالة رقم (139). (¬2) تقدم توضيحه.

فالتهويل منكم في غير محله. نعم. هو مفيد فيمن نفى وجوب الإجابة إلى الحكام رأسًا، ولم يقل به أصلا، كيف ولفظ كلامنا في الجواب هو ما صورته، وأشكلت علينا فيما ذكرتموه مسألتان: المسألة الأولى: إلزامكم لأولاد القاضي تسليم نصف الأجرة. المسألة [1أ] الثانية: في الاستدلال على تكليف الغرماء للرحيل من جهة إلى جهة بالآيتين الكريمتين ... إلى آخر كلامنا. وبهذا التقرير يندفع جميع ما أوردتم علينا من التهويل بلزوم طي بساط الشريعة، وبمخالفة الإجماع القطعي، والنصوص القرآنية، والأحاديث المتواترة، ونحو ذلك من التطويل بالتبكيت العريض الطويل. قوله - كثر الله فوائده -: فإنه وصل إلى آخر كلامه - عافاه الله تعالى -. نقول: الذي استشكلناه هو إيجاب الرحيل على الغريم إلى خارج البريد لإجابة الحاكم، مع وجود حاكم معتبر في البلد، وأن الإيجاب لذلك لا يذهب إليه أحد من أهل البيت، ولا من أئمة المذاهب، ولم يستشكل ما ذكره - عافاه الله - لأنه لم يتعرض لذكر ما هو مصب الغرض من الاستشكال الأصلي، وهو قولنا: مع وجود حاكم معتبر في البلد. قوله - أبقاه الله تعالى -: أقول: نورد عليه قبل الكلام على كلامه هذا سؤال الاستفسار (¬1) فنقول: هل إجابة ... إلخ. نقول: هذا الترديد ليس واردًا من أصله، لأنه في وجوب الإجابة إلى الحاكم الخارج عن البريد، مع عدم وجود مثله في البلد، وكلامنا في حكم الإجابة إلى الحاكم الخارج عن البريد مع وجود مثله في البلدة، فاندفع الترديد وما ترتب عليه. قوله - عافاه الله -: فلنتكلم الآن على ألفاظ المناقشة - إلى قوله -: فهذا على ¬

(¬1) انظر تعليق الشوكاني في الرسالة رقم (141).

تقدير تسليمه لا يضر ... إلخ. نقول: السياق في الآيات قاض بأنها نزلت (¬1) فيمن يظهر الإيمان، ويعرض عن الإجابة إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ليحكم بينه وبين غريمه، فبكت الله عليهم ذلك، وأخبر بأن المؤمن لا يكون قوله إذا دعي إلى رسول الله ليحكم بينه وبين غريمه إلا أن يقول: سمعنا وأطعنا، وهذا التقرير لا يدافع بأنه لو كان المراد ذلك لقال: إنما كان قول المنافق أو اليهودي كما لا يخفى. قوله - أبقاه الله -: كما يفيد ذلك الألف واللام التعريفية أو الموصولية على اختلاف الرأيين ... إلخ [1ب]. نقول: ليس اللام في مثل المؤمن والكافر ونحوهما اسمًا موصولا، وإن كان صفة، إنما ذلك في الصفات التي يقصد بها الحدوث فتعمل، لا في الصفات التي صارت بمنزلة الصفة المشبهة كالمؤمن ونحوه، فاللام فيها حرف تعريف اتفاقًا. وقد بسط الكلام على ذلك السعد في حاشية الكشاف، وأما تقرير العموم بانهدام الجمعية، ومصير الصيغة جنسية شاملة محيطة فلا حاجة إليه، لأن الجمع (¬2) المعرف باللام المشار بها إلى الجنس نفسه من حيث الوجود على الإطلاق من صيغ العموم عند الجمهور من الأصوليين بدون ذلك التقدير. قوله: فهذا مسلم لكن بالنسبة إلى الحاكم لا بالنسبة إلى المحكوم به ... إلخ. نقول: قال الله تعالى - بعد تلك الآيات في آخر سورة النور -: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا} (¬3) وهو اسم جنس مضاف من صيغ العموم وإن كان سببه خاصًا، والمراد العموم في الدعاء إلى تعليم الشرائع أو فصل الخصومات، ¬

(¬1) انظر " روح المعاني " للآلوسي (196 - 197). " الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي (12/ 294). (¬2) انظر " إرشاد الفحول " (ص415)، " تيسير التحرير " (1/ 191 - 192). (¬3) [النور: 63].

أو غير ذلك، وسر ذلك أن من دعي إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فأبى عن الإجابة عليه عنادًا كفر باتفاق الأمة، ومن امتنع عن الإجابة إلى حاكم كامل الشروط بالإجماع لم يكفر بالاتفاق. غاية الأمر أنه يكون عاصيًا وهذا هو الذي أردناه بالخصوص في قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} (¬1) من القسم العظيم على نفي الإيمان عنهم حتى يحكموه فيما شجر بينهم، ثم نفي الحرج فيما قضى، والتسليم المؤكد لذلك. وأما ما ذكره المجيب - كثر الله فوائده - من الكلام على حديث معاذ (¬2)، وما يتعلق به فكلام نفيس جدًا، ونحن قائلون به، ولكنه لا يفيد في إبطال ما قلناه. قوله - أبقاه الله -: الثاني ما قدمنا من الإجماع القطعي على وجوب الإجابة للداعي إلى الشريعة ... إلخ. نقول: إن أراد ما ذكره دليل على صحة الاستدلال بالآيتين على وجوب الإجابة إلى الحاكم فهو لا يفيد [2أ] ذلك، وإن أراد أن ذلك دليل على وجوب الإجابة إلى الحاكم في البلد من غير نظر إلى كونه مدلول الآيتين فمسلم ولا ننكر ذلك أصلا، ولم يكن في كلامنا ما يدل على الإنكار بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام، إنما استشكلنا الاستدلال بالآيتين فقط، وهكذا نقول في الوجه الثالث. قوله: الوجه الرابع: أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قد نصب الحكام ... إلخ. نقول: نعم نصب الحكام (¬3)، وبعث بالولاة، وأمر الأمراء، وهو دليل لنا ليستكفي ¬

(¬1) [النساء: 65]. (¬2) تقدم مرارًا وهو حديث ضعيف. (¬3) انظر " المغني " (4/ 11)، " تبصرة الحكام " (1/ 12 - 15).

أهل كل قطر بما لديهم من الحكام، وغيرهم مع وجوده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وهو إمام الكل، ولم يوجب على الغريمين الوصول إليه، بل نصب لهم الحكام تسهيلا للأمر الذي بعث به من الشريعة السمحة السهلة، ولم يؤثر عن أحد من قضاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يوجب على المتشاجرين الوصول إليه من الأقطار البعيدة، مع وجود حاكم عندهم، وعلى مدعي ذلك بيانه. نعم. لو لم يكن في اليمن إلا قاض واحد لوجب الوصول إليه، فليس كلامنا إلا في وجوب الخروج عن البريد مع وجود الحاكم المعتبر في البلد. قوله - كثر الله فوائده -: الوجه الخامس: أن إفراده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في الآيتين بنسبة التحكيم إليه والحكم منه هو كإفراده في قوله: {خذ من أموالهم صدقة} (¬1) ... إلى آخر ما ذكره - عافاه الله - بما محصله أن خطاب الله لرسوله يفيد التعميم لكل الأمة. نقول: قد تقرر في الأصول (¬2) عند الجماهير من أئمتنا وغيرهم أن الخطاب الخاص بالرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لا يتناول الأمة إلا بدليل خارجي كما هو معروف، وهذه الآيات التي ساقها قد قامت الأدلة الخارجية على عمومها، ولم يذهب إلى أن الخطاب الخاص بالرسول - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - عام بنفس اللفظ إلا أبو حنيفة وأحمد (¬3). قوله - كثر الله فوائده -: إنه تقرر في الأصول أن خطابات الله ورسوله لواحد من الأمة يعم إذا لم يوجد ما يفيد اختصاص ذلك الواحد ... إلخ. نقول: الذي تقرر في الأصول [2ب] عند أئمتنا وغيرهم من جماهير العلماء أن ¬

(¬1) [التوبة: 103]. (¬2) تقدم ذكره. وانظر: " إرشاد الفحول " (ص430). (¬3) " البحر المحيط " (3/ 167)، " الكوكب المنير " (3/ 255).

خطاب الواحد (¬1) لا يكون للعموم، ولا يتناول سائر الأمة إلا بدليل. وقد أخرج مسلم (¬2) عن علي بن أبي طالب - عليه السلام - قال: " نهاني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عن القراءة في الركوع والسجود، ولا أقول: نهاكم " ولم يذهب إلى عمومه إلا الحنابلة وجماعة من الناس، والمسألة مشهورة مدونة في كتب الأصول (¬3). قوله - أبقاه الله تعالى -: الوجه السابع: أن الله تعالى قد شرع لنا التحكيم ... إلخ. نقول: التحكيم باب آخر، ولا يشترط في المحكم الاجتهاد، ولا نزاع في ذلك، بل ولا نزاع في وجوب الإجابة إلى الحاكم الخارج عن البريد مع عدم وجود الحاكم في البلد ومنع الاستدلال بالآيتين لا يلزم منه منع الإجابة مطلقًا، وليس في كلامنا ما يدل على المنع الكلي. ¬

(¬1) انظر " إرشاد الفحول " (ص444)، " البحر المحيط " (3/ 191)، " تيسير التحرير " (1/ 252). (¬2) في صحيحه رقم (211/ 480). قلت: وأخرجه أحمد (1/ 81) وأبو داود رقم (4046) والنسائي (2/ 188 - 189). قال القرطبي في " المفهم " (2/ 86 - 87): وقول علي - رضي الله عنه -: " نهاني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا أقول نهاكم " لا يدل على خصوصيته بهذا الحكم، وإنما أخبر بكيفية توجه صيغة النهي الذي سمعه فكأن صيغة النهي التي سمع: " لا تقرأ القرآن في الركوع " فحافظ حالة التبليغ على كيفية ما سمع حالة التحمل وهذا من باب نقل الحديث بلفظه. ولا شك أن مثل هذا اللفظ مقصور على المخاطب، من حيث اللغة، ولا يعدى إلى غيره إلا بدليل من خارج، إما عام كقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " حكمي على الواحد كحكمي على الجميع " تقدم تخريجه - أو خاص في ذلك الحكم كقوله: " نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا، أو ساجدًا ". وانظر: " تلخيص الحبير " (1/ 377). " إرشاد الفحول " (ص444). " البحر المحيط " (3/ 191) تقدم مرارًا. (¬3) انظر الرسالة رقم (137).

قوله - عافاه الله -: الوجه الثامن: أنه قد تقرر في الأصول (¬1) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إذا فعل فعلا، أو شرع الله له شرعًا كان التأسي به في ذلك ... إلخ. نقول: الذي تقرر في الأصول أن فعله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إذا لم يكن جبليًا (¬2) ولا دل دليل على الخصوصية فيه إما أن يكون معلوم جهته أو لا، فمعلوم الجهة افترقت فيه الأصوليون إلى أربعة مذاهب: الأول: أن أمته مثله (¬3). الثاني: لا تكون مثله. الثالث: أنهم مثله في العبادات. الرابع: أنه يكون كمجهول الجهة، ومجهول الجهة فيه أربعة أقوال أيضًا وهي: الوجوب (¬4)، والندب (¬5)، والإباحة (¬6)، والوقف (¬7). هذا في فعله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. ¬

(¬1) انظر " إرشاد الفحول " (ص145)، " البحر المحيط " (4/ 64). (¬2) كالقيام والقعود ونحوهما فليس فيه تأس ولا به اقتداء ولكنه يدل على الإباحة عند الجمهور. " نهاية السول " (3/ 16)، " إرشاد الفحول " (ص157). (¬3) أي أن أمته في ذلك الفعل إلا أن يدل دليل على اختصاصه به وهذا هو الحق. (¬4) وقد روي عن ابن سريج قال الجويني في " البرهان " (1/ 493 - 494) وابن خيران وابن أبي هريرة والطبري وأكثر متأخري الشافعية. " إرشاد الفحول " (ص165). (¬5) قال الزركشي في " البحر " (4/ 183) وهو قول أكثر الحنفية والمعتزلة ونقله القاضي وابن الصباغ عن الصيرفي والقفال الكبير. (¬6) اختاره الجويني في البرهان (1/ 194) وهو الراجح عند الحنابلة. (¬7) الوقف حتى يقوم دليل. نقله ابن السمعاني عن أكثر الأشعرية قاله الزركشي في " البحر المحيط " (4/ 183 - 184). انظر أدلة كل قول ورد الشوكاني عليهم في " إرشاد الفحول " (ص164 - 166).

وأما في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فإن كان عامًا فلا شك في عمومه، وإن كان لواحد فقد قدمنا الكلام عليه من أنه لا يعم غيره إلا بدليل. وأما خطابات الله تعالى له فإن كانت عامة بنفس اللفظ فلا خلاف فيها، وإن كانت خاصة به فقد قدمنا أنه لا يتناول غيره إلا بدليل، فقول المجيب - كثر الله فوائده -: وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين غير مسلم لما ذكرناه من الخلاف، والمسألة معروفة في الأصول. قوله: وأما ما ذكرتم من كلام الزمخشري [3أ] في كشافه (¬1) - إلى قوله -: وليس فيه أن إجابة الدعوة إلى الشريعة مختصة برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ولا تجب إلى غيره ... إلخ. نقول: ومن أين فهم من كلامنا أن الدعوة إلى الشريعة مختصة برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -؟ فليس في كلامنا ما يدل عليه بشيء من الدلالات، ويأبى الله أن نريد ذلك، أو أن يريده متدين. ولم نذكر كلام الزمخشري للاستدلال على ذلك، وإنما ذكرناه استظهارًا لما قررناه من كون دلالة الآية نفسها على مدعاكم مشكلا وأن الدعاء إلى الله هو الدعاء إلى رسوله، وسياق الآيات واضح في ذلك. قوله: فإن قلت: ما ذكره الزمخشري ... إلخ. نقول: تفسير الزمخشري لذلك يجعله من باب أعجبني زيد وكرمه بعد مطابقة المقام لأن المقام للتبكيت على من أعرض عن الدعاء إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فبكت الله تعالى عليهم بما يفيد تلك النكتة البديعة. ولا يخفى أن التفسير بما وافق بلاغة القرآن وإعجازه هو المتعين، ولهذا كان الإمام الزمخشري هو المجمع على تفسيره العظيم عند المؤالف والمخالف. قوله - كثر الله فوائده -: أقول: إن كانت الإشارة في قوله: ويؤيد هذا إلى أسفله من كون الآية .. إلخ. ¬

(¬1) (4/ 313).

نقول: الإشارة في هذا إلى كلام إمام البيان الزمخشري (¬1) - رحمه الله - من جعله الدعاء إلى الله تعالى هو الدعاء إلى رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وأن ذلك من باب أعجبني زيد وكرمه لكونه هو المطابق لمقتضى الحال، ولما كان المراد في هذه الآية من الدعاء إلى الله هو الدعاء إلى رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أفرد الضمير (¬2) أي ليحكم أي: ليحكم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بينهم، وهذا واضح لا يخفى. قوله - أبقاه الله -: ثم قوله: فلا يثبت هذا الحكم لغير رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلى قوله: يستلزم ما قدمنا ذكره ... إلخ. نقول: قد أكثر المجيب - غفر الله له - من التهويل بطي بساط الشريعة، والوقوع في مخالفة جميع الأمة، ومخالفة الضرورة الدينية، وغير ذلك، وهو تهويل في غير محله؛ إذ صريح [3ب] كلامنا إنما هو استشكال للاستدلال بالآيتين على المدعي فقط، وأنشده بالله هل يجزم متدين بأن الحكم بالآيتين ثابت على من دعي إلى التحاكم لدى قاض معين من نفي إيمانه حتى يحكمه فيما شجر بينه وبين غريمه، ثم ينتفي وجدان الحرج في نفسه مما قضى، ثم التسليم لذلك، وأن يقول: سمعنا وأطعنا. وقد قدمنا أن من امتنع عن الإجابة إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنادًا كفر بالإجماع ولا كذلك من امتنع عن الإجابة إلى حاكم. قوله: وأما قوله: إن الخصوص في آية سورة النساء أوضح ... إلخ. نقول: وجه الأوضحية واضح بما قدمناه قريبًا، ومن ملاحظة المقام الذي لا يكون الكلام بليغًا إلا بمطابقته على وفق مقتضى الحال. ¬

(¬1) (4/ 313). (¬2) قال صاحب " الدر المصون " (8/ 426) قوله (ليحكم) أفرد الضمير وقد تقدمه اسمان وهما: الله ورسوله، فهو كقوله تعالى: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} [التوبة: 62] لأن حكم الله ورسوله هو حكمه.

قوله - عافاه الله تعالى -: أقول: هذا الكلام إنما يرد على من قال بوجوب الإجابة إلى حاكم يحكم بحكم الله تعالى ... إلخ. نقول: فما عدي مما بدا فإذا قد اتفقنا نحن وإياكم على تكليف الغريم للرحيل من الظلم مع وجود من يحكم بحكم الله تعالى في جهة الخصمين، فما شأن إلزامكم بعد ذلك لمن في بلاده من كملت فيه شروط الاجتهاد المجمع عليها عند أئمتنا - عليهم السلام -!؟ وغيرهم من أئمة الأصول!. وإن قلتم: إن ذلك دعوى فالعمر هو الشاهد. وهذا الفرس وهذا الميدان. وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان، وملاحة الدينار يظهر فضله في حكه لا في ملاحة نقشه. والمناظرة لم تزل دائرة بين العلماء في جميع الأزمان. والله المستعان. قوله - كثر الله فوائده -: فنقول: قلتم: وحكم الله تعالى في تلك الحادثة مظنون كل مجتهد ... إلخ. نقول: قولنا: حكم الله مظنون كل مجتهد صادق على القولين، وهما قول من يقول بالإصابة أو بالصواب، أما من يقول بالإصابة فواضح، وأما من يقول بالصواب فحكم الله هو مظنون للمجتهد في المسائل الظنية لا متيقن له، والفرض [4أ] أن حكم الله واحد والمصيب له غير متعين، فالتعيين له بأنه هذا دون ذاك تحكم ولم نعتبر بهذه العبارة إلا لاحتمالها للقولين. وتقديرنا صحيح عليهما؛ إذ المراد من ذلك أن قول المجتهد لا يلزم التكليف به دون قول المجتهد الآخر بل هما سواء، لأنهما مصيبان إما من الصواب أو الإصابة فجزمكم بأحد الاحتمالين لمدلول عبارتنا فيه ما فيه، وهذه المسألة كما ذكرتم طويلة الذيول، وهي معروفة في جميع كتب الأصول، إلا أنه ليس للخلاف (¬1) فيها ثمرة، ¬

(¬1) قال ابن فورك: في المسألة ثلاثة أقوال: أحدهما: أن الحق في واحد وهو المطلوب وعليه دليل منصوب، فمن وضع النظر موضعه أصاب ومن قصر عنه فقد الصواب فهو مخطئ ولا إثم عليه، ولا نقول إنه معذور لأن المعذور لن يسقط عنه التكليف لعذر في تركه كالعاجز عن القيام في الصلاة، وهو عندنا كلف إصابة المعين لكنه خفف أمر خطابه وأجر على قصده الصواب وحكمه نافذ على الظاهر. وهذا مذهب الشافعي وعليه نص كتاب الرسالة (ص496). الثاني: أن الحق واحد إلا أن المجتهدين لم يكلفوا إصابته وكلهم مصيبون لما كلفوا من الاجتهاد وإن كان بعضهم مخطئًا. الثالث: أنهم كلفوا الرد إلى الأشبه على طريق الظن. وذهب قوم إلى أن الحق واحد والمخالف له مخطئ آثم ويختلف خطؤه على قدر ما يتعلق به الحكم، فقد يكون كبيرة وقد يكون صغيرة. ومن القائلين بهذا القول الأصم والمريسي وابن علية. وحكي عن أهل الظاهر وعن جماعة من الشافعية وطائفة من الحنفية. انظر: " إرشاد الفحول " (ص849 - 850)، " المسودة " (ص495)، (البحر المحيط) (6/ 245).

لأن القائل بتخطئة البعض قائل بأنه يثاب المخطئ، ولا مخالف في عدم ثوابه إلا الأصم، وابن علية، والمريسي (¬1). وقد ذكر العلماء أنهم خالفوا العقل والنقل، ولا أرى إلا أن المخطية يعينون الشيطان في تفريق المذاهب، ونشر العداوة، وجعل الدين عضين، وكل حزب بما لديهم فرحون، لأنهم يقولون الحق مع واحد، ويسكتون عن كون المخطئ مأجورًا. وينبغي التنبه لفائدة ذكرها شيخ الإسلام الوجيه عبد القادر بن أحمد - رضي الله عنه - وهي: أن الأحاديث (¬2) الواردة في أجر المصيب والمخطئ هي في الحاكم المجتهد، لا في مطلق المجتهد؛ فالحاكم إذا اجتهد وعمل بشهادة عادلة، وقطع بها الحق فقد أصاب حكم الله تعالى، فإن كانت الشهادة زورًا إما لوهم الشهود، أو لنحو ذلك فقد أخطأ الواقع مع إصابته لحكم الله، فإنه تعالى أمره بالعمل بالشهادة بدليل قطعي لا تجوز مخالفته، ولا إثم على من عمل بحكم الله تعالى وأخطأ الواقع، ولذا قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " فإنما أقطع له قطعة من نار " (¬3) فجعل أحاديث الحاكم وتخطئته في ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة. (¬2) انظر الرسالة رقم (139). (¬3) أخرجه البخاري رقم (457) ومسلم رقم (1558) من حديث أم سلمة قالت: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار ".

الواقع لا في الحكم دليلا على تخطئة المجتهد، وأنه ليس بمصيب من الإصابة من نصب الدليل على خلاف محل النزاع. وإذا تقرر أن الخلاف في هذه المسألة لا ثمرة له فلا تشنيع على من ذهب إلى أن كل مجتهد مصيب من الإصابة، ولا يليق الإنكار عليه [4ب]، ولا يقال في حقه: إنه متقول على الله وعلى رسوله، وإنه جاء برأي فاسد، ومذهب باطل خصوصًا مثل الإمام المهدي أحمد بن يحيى (¬1) - عليه السلام - فالناس في القطر اليمني عالة عليه، وإن ادعوا خلاف ذلك. قوله - أبقاه الله -: وقلتم: والاجتهاد - إلى قوله - وأقول: هذه الكلية ممنوعة ... إلى آخر الكلام، وهو قريب من نصف كراسة اشتملت على بيان تفاوت العلماء في الاستنباط، وعلى تقسيم المجتهد لنفسه، ومجتهد يحكم أو يفتي، أو يؤلف، وأنه يشترط في الثاني ما لا يشترط في الأول. نقول: أما تفاوت العلماء (¬2) فلا شك في ذلك، وقل أن يترشح أحد من أبناء الزمان ¬

(¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) انظر " المغني " (14/ 15 - 16). وقال الحافظ في " الفتح " (13/ 146): قال أبو علي الكرابيسي صاحب الشافعي في " كتاب آداب القضاء " له: لا أعلم بين العلماء ممن سلف خلافًا أن أحق الناس أن يقضي بين المسلمين من بان فضله وصدقه وعلمه وورعه، قارئًا لكتاب الله، عالمًا بأكثر أحكامه، عالمًا بسنن رسول الله حافظًا لأكثرها وكذا أقوال الصحابة، عالمًا بالوفاق، والخلاف وأقوال فقهاء التابعين، يعرف الصحيح من السقيم يتبع في النوازل الكتاب فإن لم يجد فالسنن فإن لم يجد عمل بما اتفق عليه الصحابة، فإن اختلفوا فما وجده أشبه بالقرآن ثم بالسنة ثم بفتوى أكابر الصحابة عمل به، ويكون كثير المذاكرة مع أهل العلم والمشاورة لهم مع فضل وورع، ويكون حافظًا للسانه وبطنه وفرجه، فهمًا بكلام الخصوم، ثم لا بد أن يكون عاقلا ماثلا عن الهوى، ثم قال: وهذا وإن كنا نعلم أنه ليس على وجه الأرض أحد يجمع هذه الصفات، ولكن يجب أن يطلب من أهل كل زمان أكملهم وأفضلهم.

للنظر في الأدلة إلا وهو متوسع في العلوم النافعة، ويعتقد أنه بلغ إلى رتبة لم يبلغها غيره مع إقامته الدليل على ما ادعاه من تأليفه لمسائل، وتقريره لمباحث، وتحريره لأنظار ونحو ذلك مما يدل البعض فيه على الكل، ولا يشترط في إقامة الدليل على دعواه أن يكون بتصنيف الكتب الكبار، أو بتأليف الرسائل المتعددة، وربما كان ميل بعضهم إلى الخمول، أو عدم الرغوب إلى التأليف فلا يشتهر كاشتهار غيره. وفضل الله تعالى ليس مختصًا بواحد بعينه حتى لا يتجاوزه إلى غيره، ولا يشار بالبيان إلا إليه، ولا تؤخذ أحكام الله إلا منه. وأما تقسيم المجتهد إلى ما ذكره المجيب - كثر الله فوائده - فهو غريب، وقد أكثر العلامة الجلال في مؤلفاته من تقرير أن العامل بنصوص الأدلة ليس بمقلد ولا مجتهد، قال: وهو الذي كان عليه عامة الصحابة والصدر الأول. وهذا الكلام موافق لما ذهبتم إليه من حيث المعنى، ولكن الجلال لم يجعل العامل كذلك مجتهدًا ولا سيما العمل بالنصوص اجتهادًا، وذلك لأن الاجتهاد هو استفراغ الوسع في تحصيل ظن بحكم شرعي، فالعامل بالنصوص ليس بمستفرغ [5أ] للوسع في ذلك، وكذلك العمل بالأدلة القطعية ليس باجتهاد، بل الاجتهاد أمر خاص فيما تعارضت فيه الأدلة، أو لم يوجد دليل على المطلوب بخصوصه أو نحو ذلك. ثم غير خاف عليكم أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قد نصب قضاة، وكان في الصحابة من هو أعلم منهم، وقد حكم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بأن أمير المؤمنين عليًا - رضي الله عنه - (أقضى الصحابة) وقد قامت الأدلة أنه أعلم الناس بعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. ومع هذا فلم تكن أحكام القضاة الآخرين مع وجوده غير صحيحة ولا متوقفة على اجتهاده، بل مع وجود النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الذي هو أعلم الناس أجمعين، ولولا أن ذلك ظاهر للعالم بالأخبار لوسعنا البحث فيه، وأطلنا ذيوله، ولكن الإشارة كافية في ذلك، وبذلك يندفع ما قرره المجيب - عافاه الله - في آخر البحث. فقال - أبقاه الله -: إنه لا يحل لأحد أن يقوم في مقام الإرشاد للعباد مع وجود من

هو أعلم منه بالشريعة في عصره وقطره، لأنه يظن في كل من هو أعلم منه أنه يعلم بدليل لا يعلمه ويقدر على استنباط لا يقدر عليه، وهذا يجده كل رجل من نفسه. انتهى كلامه. وبهذه الطريقة سد المتأخرون من مقلدي الفقهاء أبواب الاجتهاد بعد أئمتهم، لأن الشافعية مثلا لما أحسنوا الظن بالإمام الشافعي قالوا: إنه يعلم بدليل لا نعلمه، ويقدر على استنباط لا نقدر عليه، فما بقي إلا التقليد له، وإذا وجدوا حديثًا صحيحًا يخالف مذهب الشافعي قالوا: من البعيد أن لا يطلع عليه الشافعي، بل قد اطلع عليه ولم يعمل به، إما لعدم صحته عنده، أو لكونه منسوخًا لديه، أو لوجوده لدليل أصح منه وأقوى لم نعلمه نحن ولا اطلعنا عليه، ونحو ذلك من التعصبات والتمذهبات التي يلزم منها طي بساط الشريعة، ومخالفة الأدلة ورد الشريعة المطهرة، وكذا وكذا من ذلكم التهويل [5ب] الذي كررتموا ذكره. قوله - كثر الله فوائده -: ولكنا نقول يجب عليكم تفويض ما عرض من الشجار ... إلى آخر ما ذكره. نقول: هذا هو صنيعنا وديدننا، فإنا نجمع الحكام لدينا للنظر في الخصومات، ثم نعرض ما صح على من لدينا من العلماء، فإن وقع خلاف وقفنا الشجار حتى يحصل الاتفاق، ثم نجزم بما حصل الاتفاق عليه بعد التثبت والبحث، هذا إذا كان في حكم، وأما إذا كان على جهة الصلح فالعمدة رضى الغريمين على أي جهة كانت. وأما تكليفنا للغريمين بالوصول إليكم مع وجود المجتهدين لدينا فشيء لم يقم عليه أثارة من علم، ولم يكلف معاذ أهل اليمن الوصول إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وهو سيد ولد آدم، وكذلك غيره من قضاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بل اكتفى بهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وأقرهم على أن يحكموا بين الناس، ولم يقل لهم: لماذا تحكمون ولا ترفعون إلينا، لأن عندنا من العلم ما لم يكن عندكم، ونحن نعلم بدليل لا تعلموه، ونقدر على استنباط لا تقدرون عليه، هذا وقد أعطاه الله علم

الأولين والآخرين، وسلك الخلفاء الراشدون بعده هذا المسلك، وكل ذلك تسهيل للأمة من التعسير الذي نهى عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -؛ فإنه لم يبعث إلا بالشريعة السمحة السهلة، وبعد ذلك تعرفون أن قولكم: إن ذلك من كمال العدل، وتمام البر ليس على ما ينبغي، بل تكليف الغريم بما لم يجب عليه من كمال الجور، وتمام العقوق. على أنا - والله - لو نعلم بأن تظلم الغريم من حكامنا لأمر ديني لبادرنا إلى إلزام الغريم بإجابته إلى الخارج عن البريد، ولو نحتمل غرامة مؤنته من بيت المال، إنما نحن نعلم يقينًا أن هرب الغريم من الحكام، ونفوره إلى غيرهم لشهوة نفسانية، ومنافسة دنيوية، وتشوش شيطاني لدواع تظهر لمن يعرف الحقائق، ويميز بين الخطأ والصواب، ويمارس أحوال الناس، ويجرب حوادث الأيام. والله المستعان. [6أ] قوله: فلا يثبت حكم الحاكم على الخصمين إلا إذا كان مجمعًا على أهليته ... إلخ. نقول: إن أردتم بالإجماع عليه في مذهب المتشاجرين فقد عرفتم أن المتشاجرين في هذا القطر أكثرهم زيدية، والحاكم المجمع عليه عندهم على المذهب أعز من بيض الأنوق (¬1). وإن أردتم بالإجماع عليه بين العلماء جميعهم فلا يخفاكم ما على الإجماع من الإشكالات في الأصول. وإن أردتم علماء مدينته أو غالب أهل قطره فلا يفيد. قوله - كثر الله فوائده -: والذي عندي أن حكام الشريعة - إلى قوله -: فإذا حكم الحاكم بمحض الرأي ظنًا منه أن دليل ذلك الحكم لا يوجد في الكتاب ولا في السنة، ثم وجد غيره النص الدال على ذلك الحكم ... إلخ. نقول: وهذا الذي عنده - كثر الله فوائده - هو الذي عند بعض العلماء. ¬

(¬1) قالوا: الأنوق الرخمة، وعز بيضها لأنه لا يظفر به، لأن أوكارها في رءوس الجبال والأماكن الصعبة البعيدة، قال الأخطل: من الجاريات الحور، مطلب سرها ... كبيض الأنوق المستكنة في الوكر " مجمع الأمثال " (2/ 390).

قال أي الإمام في الغاية (¬1): مسألة: اختلف في نقض الحكم إن لم يخالف قاطعًا فقيل بالمنع لفوات مصلحة نصب الحكام، وقيل بالجواز إن خالف نصًا أو حديثًَا، وهو على التخطئة ظاهرًا، انتهى. وإنما لم يذهب الإمام المهدي إلى هذا لأن مذهبه أن كل مجتهد مصيب من الإصابة، ولهذا قال: ولا ينقض حكم حاكم إلا بدليل علمي (¬2). قوله - عافاه الله -: لأنا نقول إنه لو كان ذلك كذلك فهما إنما ترافعا إليه ليحكم بينهما بالشريعة المطهرة لا بمحض رأيه ... إلخ. نقول: قد قدمنا أن غالب المتشاجرين بل جميعهم زيدية المذهب، وهم إنما يترافعون إلى الحاكم ليحكم بينهم بمذهب من قلدوه، ولم يحكموه إلا لظنهم الحكم بذلك، ولو أنه يقال لهم: إن الحاكم الفلاني سيحكم بينكم في هذه الحادثة باجتهاده، وبما أداه إليه نظره، أو يحكم بما يخالف مذهبكم، أو بما يذهب من قلدتموه إلى خلافه لم يرضوا بذلك، ولنفر الغريم وغريمه من ذلك الحاكم، وهذا شيء قد سمعناه عنهم، وشاهدناه منهم، ولا يوقف الغرماء من النفور إذا علموا بذلك إلا الخوف من الحبس والتنكيل ونحو ذلك لأجل ذلك، مع ملاحظة عدم التنفير وجمع القلوب التي أرشد إليها الشارع. كان بعض أكابر العلماء المحققين وهو من مشائخنا ومشائخكم إذا أداه نظره إلى [6ب] الحكم بما يخالف المذهب نظر إلى من يقول بذلك الذي ذهب إليه من أهل البيت - عليهم السلام - ثم يصدره فيما يحرره من الأحكام، لئلا يظن به المتشاجرون مخالفة أهل البيت - عليهم السلام - في حكمه، وهم لا يريدون منه إلا الحكم بمذهب أهل البيت، مع كون ذلك موافقًا لاجتهاده، وكان بعض شيوخ هذا العلامة إذا ورد إليه سؤال أجاب فيه بأنه إذا كان السؤال عن المذهب الشريف فالأمر على كيت وكيت، وإن كان السؤال عما يترجح لدي فكيت وكيت، فسأله تلميذه عن سبب صنيعه هذا فقال: إن هؤلاء يسألون هذه السؤالات ليس قصدهم بها إلا أن يجاب عنها بالمذهب. ¬

(¬1) انظر: " مؤلفات الزيدية " (2/ 293). (¬2) تقدم ذكره.

قوله: مثلا لو قال لهم القائل أنه قد وقع الإجماع على عدم جواز تقليد الأموات كما نقل ذلك العلامة محمد بن إبراهيم الوزير في القواعد (¬1) ... إلخ. نقول: الذي في الذهن أن السيد محمد بن إبراهيم إنما نقل عن الإمام الهادي - عليه السلام - عدم جواز تقليد الأموات (¬2)، ثم بكت على من يقلد الهادي بعد موته بأنه مقلد لمن لا يجوز تقليده. وأما نقل الإجماع فلم يكن في الذهن أنه نقله، ولا يظن به ذلك؛ إذ هو بمحل من التثبت في النقل، كيف وقد قال الإمام المهدي في الأزهار (¬3): والحي أولى من الميت، وهو أجل من أن ينقل ما أجمعت الأمة أو أهل البيت على خلافه. قوله: لمثل هذا المنصب الذي هو أساس الدين. نقول: أساس الدين هو اتباع القدم المحمدي في جميع ما جاء به، ونشر العلم، والعكوف على العبادة والجهاد في سبيل الله الذي هو سنام الدين، والنهي عن المنكر، والأمر بالمعروف، وإقامة حدود الله على الوجه المشروع، فمجموع هذا هو أساس ¬

(¬1) تقدم ذكره. (¬2) قال الزركشي في " البحر المحيط " (6/ 297 - 300) فإن قلد ميتًا ففيه مذاهب: أحدها: وهو الأصح وعليه أكثر أصحابنا كما قاله الروياني، الجواز، وقد قال فيه الإجماع، وأيده الرافعي بموت الشاهد بعدما يؤدي شهادته عند الحاكم فإن شهادته لا تبطل. الثاني: المنع المطلق: إما لأنه ليس من أهل الاجتهاد، كمن تجدد فسقه بعد عدالته، لا يبقى حكم عدالته. وإما لأن قوله وصف له وبقاء الوصف مع زوال الأصل محال، وإما لأنه لو كان حيًا لوجب عليه تجديد الاجتهاد، وعلى تقدير تجديده، لا يتحقق بقاؤه على القول الأول فتقليده بناءً على وهم أو تردد والقول بذلك غير جائز. وهذا الوجه نقله ابن حزم عن القاضي، وحكى الغزالي في " المنخول " فيه إجماع الأصوليين. الثالث: الجواز بشرط فقد الحي، وجزم به إلكيا وابن برهان. الرابع: التفصيل بين أن يكون الناقل له أهلا للمناظرة، مجتهدًا في ذلك الاجتهاد الذي يحكى عنه، فيجوز، وإلا فلا قاله الآمدي والهندي. (¬3) (1/ 111 - مع السيل).

الدين، وليس أساس الدين مجرد وصول قبيلي يدعي في شفعة أو نحوها ليحكم الحاكم له أو عليه. نعم هذا من الدين لا أنه أساس الدين. قوله: وأما إذا كان ذلك المتأهل الذي قضى بالرأي ... إلخ. نقول: العمل بالرأي المحض غير صحيح، وحديث معاذ (¬1) مع ضعفه ظني لا ينهض في محل النزاع، والمسألة أصولية لا يثبت بالظنيات كما علم، فالحاكم الذي لم يجد إلا الرأي لم يكلفه الله بالتشريع لعباده، ولا أذن له في ذلك، ولا أوجب عليه الحكم في كل جزئي من جزئيات المتشاجرين، فإذا وقع مثل ذلك فلا وصمة عليه أن يقول: لا علم لي [7أ] بذلك، اذهبوا إلى غيري، بل هو من كمال العلم، ومزيد الورع، وشدة التقوى، وتمام البر. وقد قال بعض السلف: من ترك لا أعلم أصيبت مقاتله. وما أحسن ما قيل: قد كان لا أدري (¬2) لهم في دينهم ... تلبية بل كانت عمود نصابه وقد كانت الفتوى تدور في أيام الصحابة حتى ترجع إلى الأول. قوله: وأما الاستناد في الأحكام الشرعية إلى الأعراف المألوفة ... إلخ. نقول: مرادنا بالأعراف المألوفة الإشارة إلى أحد القواعد الكلية التي يذكرونها أئمة الأشباه والنظائر في قواعد الفقه، وهي أن العادة محكمة، وفرعوا عليها مسائل كثيرة. وقد بسط الكلام عليها الحافظ السيوطي (¬3)، وصدر الدين ابن الوكيل (¬4) في كتابيهما: ¬

(¬1) تقدم تخريجه وهو حديث ضعيف. (¬2) وحكي أن مالكًا سئل عن أربعين مسألة فقال في ست وثلاثين منها: لا أدري. ولم يخرجه ذلك عن كونه مجتهدًا. وقيل: من يجيب في كل مسألة فهو مجنون، وإذا ترك العالم: لا أدري أصيبت مقاتله. انظر: " المغني " (4/ 16). (¬3) في " الأشباه والنظائر " (ص119). (¬4) في " الأشباه والنظائر " (1/ 165).

الأشباه والنظائر. ومن الأعراف المألوفة لحكام زماننا ما صاروا يعتمدون عليه في مثل مسألة بيت العاضي، وهي شركة الأولاد في الكسائب مع أبيهم من جعلهم ذلك نصفًا على النفقة، ونصفًا على التركة، وهذا هو الذي ذكرنا في الجواب عليكم أن دلالة الآيتين لو تمت فإنما تدل على وجوب الإجابة إلى الحاكم بحكم الله في تلك الحادثة، وشجار بيت العاضي لم يكن الحكم فيه إلا بما عرفتم، ولم يستند الحكم إلى دليل يخصه من كتاب أو سنة. وقد ورد " أنت ومالك لأبيك " (¬1) فكان الأولى العمل به، ولا يعدل إلى الرأي إلا بعد فقدان النص كما قررتم سابقًا. منحوه بالجزع السلام وأعرضوا ... بالغور عنه فما عدى مما بدا قوله: وأما ما ذكره الحاكم في المجتهد الذي لا يتولى النظر بنفسه ... إلخ فينبغي أن يفصل في ذلك فيقال ... إلخ. نقول: هذا كلام حسن، ولكن الواجب أن المأمون ينفذ إلى محل الشجار ينظره ويصف لكم كيفية تحضره الغرماء جميعهم ليصدقوه أو يكذبوه، ثم ترجحون ما أدى إليه نظركم. وأما أنه ينفذ إلى محل الشجار، ثم يرقم ما يريده ولا يجيء إليكم إلا بورقة محررة، وغاية ما تصنعونه أن تعلموا على تلك الورقة من دون استفصال لشيء، أو تستفصلون من المأمون من دون حضور الغرماء، أو في حضورهم. ولا يلتفتون إلى كلامهم، فلا ينبغي الركون على المأمون، فكم أمين رأينا غير مأمون فيأكل أموال الناس وأنتم لا تشعرون، وحاشاكم أن ترضوا [7ب] بذلك، وأن تعلموا به وتغضوا عنه، فإنا نعلم قطعًا أنه لم يأت حاكم في الدولة القاسمية مثلكم، ولا جمع حاكم ما جمعتموه من الفضائل، ولله الحمد. قوله: أقول: قد ذكرت في هذه الأبحاث غير مرة إلى آخر كلامه. نقول: لفظ كلامنا الذي أجبنا به عليكم هو قولنا: ولو صح لمجتهد في وجوب الإجابة ¬

(¬1) تقدم تخريجه مرارًا.

إلى غير الجهة ... إلخ، فمرادنا بذلك أن المجتهد لا يلزم الغير اجتهاده، وهذا مجمع عليه عند الكل. وأما الحاكم فلا يلزم اجتهاده غيره إلا بعد حصول شرائط التداعي بين الخصمين، فالمراد من ذلك أنه إذا كان اجتهادكم وجوب إجابة المدعي إلى الحاكم الخارج عن البريد مع وجود حاكم معتبر في البلد، فإن هذا الاجتهاد لا يلزم غيركم، سواء كان الغير مجتهدًا أو مقلدًا. أما إذا كان مجتهدًا فهو لا يجوز له العمل باجتهاد غيره، وأما إذا كان مقلدًا فهو إنما قلد إمامه ولا إنكار على من فعل ما يجوزه إمامه. قوله: الحكام المتصفون بهذه الصفة ... إلخ. نقول: نعم. إذا كان الأمر على ما وصفتم فقد أحسنتم، ولكنه لم يبلغنا إلا أن كل من نصب في صنعاء وغيرها يحكم فيما يريد، ولا يتوقف على أمر دون آخر بل قد يصل المتظلم شاكيًا إليكم من الحاكم الذي ظلمه فتجيبون عليه أنه قد تقلد بكم حاكم خصوصًا إذا كان من كبارهم، ولا ينقضون حكمًا من حاكم خالف اجتهادكم مع كونه مقصرًا مقلدًا. هذا الذي تواتر عنكم ولم ينقم عليكم إلا هذا، وكفى المرء نبلا أن تعد معايبه. قوله - كثر الله فوائده -: وأما ما لمحتم إليه ... إلخ. نقول: قد عرفتم أن الأحاديث كلها مقيدة لوجوب الطاعة بما لم يكن إثمًا، وأي إثم أعظم من أكل أموال الناس بالباطل! الذي أطبقت الشرائع كلها على حرمته!؟. وعلى الجملة إن تحسين الألفاظ، وحسن المسلك في الاستدلال مع المعرفة للحقيقة لا ينفع بين يدي الله تعالى، والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. حرر صبح الأحد 13 شهر شعبان الكريم سنة 1218. [8ب]

الذريعة إلى دفع الأجوبة المنيعة على الأبحاث البديعة

الذريعة إلى دفع الأجوبة المنيعة على الأبحاث البديعة تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " الذريعة إلى دفع الأجوبة المنيعة على الأبحاث البديعة ". 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي أرشد إلى الهداية، وأوضح طرائق الحق بما علم من علم الرواية والدراية ... " 4 - آخر الرسالة: " وأنه قد يتمكن من وجود الدليل في المواطن التي لم تكن بيد غيره فيها إلا محض الرأي. وفي هذا المقدار كفاية إن شاء الله ". 5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول. 6 - عدد الصفحات: 15 صفحة ما عدا صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة 27 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أرشد إلى الهداية، وأوضح طرائق الحق بما علم من علم الرواية (¬1) والدراية (¬2)، وجعل الإنصاف في مواضع الخلاف والاعتراف بالحق، لا الاعتساف من سيما المتقين، وشمائل المتورعين، والصلاة والسلام على من قال: " أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس " كما أخرجه الحاكم في مستدركه، وصححه، وعلى آله الذين دانوا بقبول الحق، وتنكبوا مزالق الجدل، ووقفوا عند الشبه، وبعد، فإنها وصلت الجوابات (¬3) المنيعة المكتوبة على جوابي الذي سميته بالأبحاث البديعة (¬4) في وجوب الإجابة إلى حكام الشريعة، ورأيتها مع رصانة أبحاثها، ومتانة معانيها، وقوة مبانيها محتاجة إلى إيضاح بعض ما تضمنته معاونة على البر والتقوى فأقول: قوله - كثر الله فوائده -: فهي لم تفد في حل ما أشكل من الأبحاث المسددة ... إلخ. أقول: ينبغي هاهنا أن يحرر حاصل سؤال السائل، ثم جوابي الأول عليه، ثم جواب ¬

(¬1) علم الحديث رواية: هو علم يشتمل على أقوال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأفعاله وتقريراته وصفاته وروايتها وضبطها وتحرير ألفاظها، وموضوعه هو ما أضيف إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو الصحابي أو التابعي فإنه يبحث في هذا العلم عن روايتها وضبطها ودراسة أسانيدها ومعرفة كل حديث أنه صحيح أو حسن أو ضعيف، كما أنهم يبحثون في هذا العلم عن معنى الحديث وما يستنبط منه من الفوائد. " تدريب الراوي " (1/ 21). (¬2) قال ابن جماعة " علم بقوانين يعرف بها أحوال السند والمتن ". وقيل: " علم يعرف منه حقيقة الرواية، وشروطها، وأنواعها وأحكامها وحال الرواة، وشروطهم وأصناف المرويات وما يتعلق بها ". انظر: " تدريب الراوي " (1/ 22)، " منهج النقد في علوم الحديث " (ص30 - 33) نور الدين عتر. (¬3) الرسالة رقم (140). (¬4) الرسالة رقم (139).

السائل على جوابي على السؤال. أما تحرير سؤال السائل فحاصله أنه سأل هل يكلف الغرماء بالإجابة إلى حاكم خارج عن الجهة التي هم فيها مع وجود الحكام فيها؟ ثم قال - أطال الله بقاءه - بعد هذا السؤال ما لفظه: فإذا لديكم وجه شرعي مسوغ للإجبار على ذلك، وتكليف الغرماء للحضور إلى خارج البريد أجبتم بالإفادة به، وسنقلدكم في ذلك، ويجعل عذرًا لنا عند الله لما أنتم عليه من الاجتهاد والتضلع من العلوم، ولا يركن على غيركم من الحكام أصلا، انتهى. فهذا حاصل السؤال. وأما حاصل جوابي على هذا السؤال فهو: أن الجهة التي فيها [1أ] الغريمان إن كان فيها حاكم يحكم بما أنزل الله في كتابه، وعلى لسان رسوله، ويعلم من علم الشريعة ما يبلغ به إلى رتبة الاجتهاد فلا تجب الإجابة إلى غيره، وإن لم يكن فيها من هو كذلك وجبت الإجابة إلى حاكم يتصف بتلك الصفة. وأما حاصل ما أجاب به على الجواب فهو المناقشة في بعض ما أوردته من الأدلة في جواب السؤال، ثم الرجوع إلى الكلام على أن في جهة السائل - كثر الله فوائده - حكامًا مجتهدين، وأن الإجابة إلى غيرهم من الحكام الذين هم خارجون على الجهة لا يجب، ثم ذكر مباحث آخرة خارجة عن ذلك، فكان الجواب مني على ذلك الجواب الذي هو جواب عن جواب السؤال بدفع ما أورده من المناقشة على ما أوردته من الأدلة ثم بالتصريح مرة بعد مرة بأن الإجابة مع وجود الحاكم المجتهد في الجهة التي لا تجب، وكررت هذا في ذلك الجواب الذي سميته " الأبحاث البديعة في وجوب الإجابة إلى حكام الشريعة " (¬1) تكريرًا كثيرًا، وأوضحت أن جوابي الأول لم يكن فيه ما يدل على وجوب الإجابة مع وجود حاكم مجتهد في الجهة لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام، بل فيه التصريح بعدم الوجوب، وأن القول بالإجابة - والحال كذلك - مخالف للشريعة. وأحلت ¬

(¬1) الرسالة رقم (139).

السائل - عافاه الله - على جوابي الأول ليعلم أن ما أورده في جواب الجواب لم يصدر عن تدبر. وإذا تقرر هذا فكيف يقول هاهنا أن الجواب لم يفد في حل ما أشكل، وهو قد أفاده مرة بعد مرة، فعليه - أدام الله فوائده - أن يتدبر سؤاله، ثم جوابي الأول عليه، ثم ما حرره وحررناه بعد ذلك، هذا إذا كان مراده بالأبحاث المسددة مضمون السؤال وما يتعلق به، وإن كان مراده بها ما أورده على جوابي من عدم انطباق دلالة الدليل على المدلول فقد أوضحته إيضاحًا يفهمه كل فاهم، ويعرفه كل عارف. فإن قال: هذا [1ب] الذي تزعمه واضحًا لم يتضح لي، فنقول: كان ينبغي أن يطلب - عافاه الله - زيادة الإيضاح، ويدع ما جزم به من عدم الإفادة بادي بدء، اللهم إلا أن يريد أن نفي الإفادة لم يكن باعتبار الواقع، ولا باعتبار أصل الكلام، ولا بالنسبة إلى كل المستفيدين، بل بالنظر إلى من يحتاج إلى زيادة الإيضاح، وتكرير التصوير، وتكميل التمثيل، فسيأتي في ذلك ما يفيد السائل - كثر الله فوائده - بهذا الاعتبار، ومن هذه الحيثية. قوله - كثر الله فوائده -: ولا يخفى المجيب أن ملخص الجواب الذي أجبنا به عليه ... إلخ. أقول: الجواب الذي وصل إلينا مشتمل على أطراف ثلاثة: الطرف الأول: قال السائل فيه ما لفظه: فلا يثبت هذا الحكم لغير رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلا بالقياس، وللمانع إبداء الفارق، انتهى. وهذا الكلام مصرح باختصاص ذلك برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وعدم إلحاق غيره به في ذلك، إلا بمجرد القياس الممنوع بإبداء الفارق الموجب له طلاق الإلحاق فكانت المؤاخذة منا على هذه العبارة التي يفهم مضمونها كل ناظر فيها مع أنا لا نظن به أن يكون قائلا بذلك، بل هو بمكان مكين من العدل والدين. وقد أشرنا إلى هذا في " الأبحاث البديعة " ولكنا أوردنا على الكلام ما يحتمله كما جرت بذلك قاعدة المتناظرين

في العلم، ولم يكن إيراد ما أوردناه على من قال بأنها لا تجب الإجابة إلى حاكم خارج عن الجهة مع وجود حاكم مجتهد فيها، وكيف يورد ذلك على شيء قد جزمنا به غير مرة، وارتضينا، فما معنى قوله - كثر الله فوائده -: بل كتب أئمتنا وغيرهم مصرحة بعدم وجوب الخروج (¬1) إن أراد بهذا المغالطة فهو أجل من ذلك، وإن أراد التهويل على المجيب فهو لا يهاب إلا الدليل، لا القال والقيل. قوله - عافاه الله -: لأنه لم يتعرض لذكر مصب الغرض ... إلخ. أقول: سبحان الله وبحمده، تعرضنا له في الجواب الأول الذي بخطي لديكم، وتعرضنا له في الأبحاث البديعة مرة بعد مرة، فما هذا الإنكار؟ وأين الإنصاف؟. قوله - عافاه الله -: هذا الترديد ليس واردًا من أصله ... إلخ. أقول [2أ]: لم أسمع إلى الآن في علم المناظرة بأنه يجاب عن سؤال الاستفسار بمثل هذا الجواب؛ لأنه في حكم سؤال مستقل، فكيف يقال لا يرد، فإنه لو جاز دفع الأسئلة بمثل هذا لاستراح كل مسئول، ثم لو فرضنا أن هذا السؤال لم يحرر هذا التحرير بل حرر تحرير النقص الإجمالي أو التفصيلي، أو المعارضة فهو ناشئ عن منشأ صحيح مقبول؛ لأنكم قلتم: إن الآيتين مختصتان برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فلو فرضنا أنه لم يكن في كلامكم إلا هذا فقط لصح أن يقال: هل لغيره بعد موته حكمه في هذا الأمر أم لا؟ فهل يقال هذا الترديد غير وارد على مثل هذا الكلام على فرض أنه لم يكن في الكلام سواه، فكيف وقد صرحتم بأن ذلك مختص برسول الله، ولا يلحق به ¬

(¬1) قال الشوكاني في " السيل الجرار " (3/ 476 - 477): ولكن إنما تجب الإجابة بشرطين: 1 - أن يكون الحاكم الذي طلب إليه جامعًا للشروط السابقة وإلا فهو ليس بحاكم بل متوثب على ما ليس له، داخل فيما لا يحل له الدخول فيه قاعد في مقعد يجب من باب النهي عن المنكر إقامته منه. 2 - أن لا يكون في طلب الوصول إلى الحاكم الذي طلب الوصول إليه إضرار بالخصم وإتعاب له إذا كان يمكن وجود غيره بدون ذلك.

غيره إلا بقياس قد اعترفتم ببطلانه. قوله: فاللام فيها حرف تعريف اتفاقًا ... إلخ. أقول: المطلوب بيان هذا الاتفاق بنقل صحيح صريح، فإن ما كان مشتقًا إذا لم يقصد به الحدوث جاز اعتبار أصله، وهو الصفة، وجاز اعتبار ما هو عليه عند عدم القصد، ولا أظن أحدًا من علماء هذا الشأن ينكر هذا، بل قد صرحوا بجواز اعتبار المعنى الوصفي في الصفات التي قد صارت أعلامًا، فكيف بالصفات التي لم تصر أعلامًا بل استعملت استعمال غير المشتقات. قال المحقق الرضي في شرح الكافية (¬1) ما لفظه: والدليل على إمكان لمح الوصفية مع العلمية قولهم: " إنما سميت هانئًا لتهنأ " (¬2) وقول حسان (¬3): وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد (¬4) ثم تكلم بكلام (¬5) طويل قبل هذا أو بعده فليراجع، بل قد أجاز جماعة من النحاة أن يكون الاسم الجامد المعرف باللام موصولا، قال الرضي في شرح الكافية (¬6) أيضًا ما لفظه: وقد ذهب أهل الكوفة إلى أنه يجوز أن يكون الاسم الجامد المعرف باللام موصولا ¬

(¬1) (1/ 129). (¬2) وهو مثل يضرب في الحث على العطاء. " جمهرة الأمثال " (1/ 513)، " لسان العرب " (1/ 186). (¬3) وهو حسان بن ثابت. انظر: ديوانه (ص338). (¬4) والشاهد فيه: أنه يمكن ملاحظة الوصف مع العلمية، أي يمكن أن نلمح بعد العلمية الوصف الذي كان في الاسم قبل جعله علمًا، فـ (محمد) وضع علمًا لنبينا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع ملاحظة معناه في اللغة وهو كثرة خصاله الحميدة. (¬5) أي " الرضي " في " الكافية " (1/ 128 - 129). (¬6) (3/ 97 - 98).

قالوا في قوله: لعمري [لنعم] (¬1) لأنت البيت أكرم أهله ... وأقعد في أفيائه بالأصائل إن التقدير: لأنت الذي أكرم أهله. وعند البصريين أن اللام [2ب] غير مقصود قصده، والمضارع صفة له كما في قوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني (¬2) انتهى. فإذا جاز اعتبار الوصفية في الأعلام المنقولة من الصفات، فكيف لا يجوز اعتبارها في الصفات الباقية على ما هي عليه من دون نقل! وكيف لا يجوز أن يقال الرجل الكافر، أو الرجل المؤمن، أو الكافر بالله، أو المؤمن بالله، فإنه لا شك أن الكافر والمؤمن إذا وقعا صفات لموصوف، أو تعلق بهما ظرف من الظروف الحقيقية أو المجازية كان ذلك رجوعًا إلى معنى الحدوث والاشتقاق، فكيف يقال: لا يكون التعريف الذي فيهما موصولا! وقد جاز أن يكون التعريف في الجامد البحث موصولا عند طائفة من النحاة! وكيف يدعى الاتفاق في مثل هذا! وقد أشار السائل - كثر الله فوائده - إلى أن السعد بسط ذلك في حاشية الكشاف، فإن كان ذلك البسط إنما هو باعتبار جواز كون التعريف فيهما غير موصول في حال عدم ملاحظة الوصفية فهذا قد ذكره الجمع الجم من أهل الفن، وإن كان السعد قد ادعى الاتفاق كما ادعاه السائل فهذه الدعوى باطلة مردودة على ناقلها كائنًا من كان. قوله - كثر الله فوائده - وأما تقرير العموم بانهدام الجمعية، ومصير الصيغة شاملة محيطة فلا حاجة إليه ... إلخ. ¬

(¬1) زيادة من الكافية. (¬2) وهو من (الكامل) لرجل من سلول في " الدر " (1/ 78). ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فمضيت ثمت قلت لا يعنيني وقيل لشمر بن عمرو الحنفي. " الأصمعيات " (ص126). وبلا نسبة في " الأشباه والنظائر " (3/ 90) و" مغني اللبيب " (1/ 102)، " لسان العرب " (12/ 781).

أقول: ليس ذلك تقريرًا لمجرد العموم، بل هو تقرير للشمول التام والإحاطة، وقد صرحت بهذا في الأبحاث البديعة، بل صرح به السائل - عافاه الله - في كلامه هذا الذي نقلناه عنه، ولعله لم يخطر ببال السائل - عافاه الله - عند تحرير هذا الكلام ما في التلخيص حيث قال: واستغراق المفرد أشمل بدليل صحة: لا رجال في الدار، إذا كان فيها رجل أو رجلان دون لا رجل، انتهى. وقد شرحه السعد في المطول بشرح طويل. فالمراد بقولنا: وانهدام الجمعية ومصير الصيغة جنسية (¬1) شاملة محيطة الإشارة إلى هذا المعنى، فإن الجمع لو لم ينهدم لم يكن محيطًا بل يكون عمومه متناولا للجموع لا لكل فرد فرد. وقد أحلت السائل في الجواب الأول على علم المعاني، ولكنه لم يتدبر الكلام كما ينبغي، وبادر بالاعتراض [3أ] قبل التأمل فإنه لو فهم مدلول قولي: شاملة محيطة لم تحتج إلى تحرير هذا الاعتراض. وقد ذكر أهل العلم أن المعترض غير معذور إذا كان للكلام المعترض عليه وجه صحة، فكيف يعذر إذا كان الكلام مشتملا على ما يدفع الاعتراض اشتمالا في غاية الوضوح والجلاء!. قوله - كثر الله فوائده -: قال الله تعالى بعد تلك الآيات في آخر السورة: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا} (¬2) ... إلخ. أقول: محل النزاع هو الدعاء الكائن من بعض الأمة لبعض إلى الرسول ليحكم بينهم بالشريعة، كما يدل عليه قوله تعالى: {وإذا دعوا إلى الله} وقوله: {حتى يحكموك}. وأما دعاء الرسول فهو شيء آخر سواء كان ذلك من باب إضافة المصدر إلى الفاعل أو إلى المفعول. قوله - عافاه الله - ومن امتنع عن الإجابة إلى حاكم كامل الشروط بالإجماع لم يكفر ¬

(¬1) انظر " معترك الأقران في إعجاز القرآن " (2/ 56 - 57). انظر: " البحر المحيط " (3/ 93)، " اللمع " (ص15). (¬2) [النور: 63].

بالاتفاق. أقول: المطلوب صحة النقل، فإن دعوى الاتفاق هنا فائدة إن صحت؛ لأن رد القطعي فضلا عن الضروري الديني له حكم معروف. وإذا نقلتم البحث إلى هذا بعد تصحيح تلك الدعوى تكلمنا فيه. قوله - كثر الله فوائده -: إن أراد ما ذكره دليل على صحة الاستدلال بالآيتين ... إلخ. أقول: لا وجه لترديد ما أردناه بعد أن أوضحنا ما هو مرادنا قبل هذا الكلام وبعده، وصرحنا بأن تخصيصه في الآيتين الكريمتين ليس إلا لكونه صاحب الشرع، فهو كسائر الخطابات العربية التي يخص بها كبير قوم في شيء يعمهم، وهذا معلوم في لغة العرب. قوله - عافاه الله -: ولم يؤثر عن أحد من قضاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يوجب على المتشاجرين الوصول إليه ... إلخ. أقول: هذا هو الذي نريده؛ لأن كلامنا في إيجابه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - للإجابة إلى قضاته في الأقطار كالإجابة إليه، ولو لم يكن حكمهم حكمه في ذلك (¬1) لما بعثهم، ولا أوجب الإجابة إليهم. وقد أوضحنا ذلك في تلك الأبحاث فهذا القلب لا يقبله القلب. قوله - كثر الله فوائده - قد تقرر في الأصول عند الجماهير من أئمتنا وغيرهم أن الخطاب الخاص بالرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لا يتناول الأمة ... إلخ (¬2). أقول: الانتقال إلى مسألة الخطاب خروج عن البحث، أو مغالطة، ومقصودنا أن أمته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أسوته في وجوب الإجابة [3ب] إلى القائمين بالهداية والبيان للناس كما كانت إليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وهذا هو مذهب أئمتنا والجمهور، ولم يذهب إلى الاختصاص إلا ................................................................ ¬

(¬1) تقدم في الرسالة رقم (139). (¬2) تقدم في الرسالة رقم (139).

الكرخي (¬1) ومن بايعه، فقالوا: يختص بالرسول حتى يقوم دليل الشركة. وأما ما ذكرتم من أن تلك الآيات التي ذكرناها قد قامت الأدلة الخارجية على عمومها فأوضحوا لنا هذه الأدلة الخارجية حتى نبين لكم صدق ما قلناه من أن كل دليل يفرض في تلك الآيات فمحل النزاع مثله. قوله: الذي تقرر في الأصول عند أئمتنا وغيرهم من جماهير العلماء أن خطاب الواحد لا يكون للعموم ... إلخ (¬2). أقول: إن أردتم أنه لا يعم باعتبار الصيغة فلا نخالفكم في هذا، وإن أردتم أنه لا يعم لا من حيث الصيغة، ولا من حيث الأدلة الدالة على العموم كقوله: حكمي على الواحد حكمي على الجماعة، وكقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " ما قولي لامرأة واحدة إلا قولي لمائة امرأة " (¬3) فباطل، بل خلاف الإجماع، وهذا الوجه الآخر هو الذي ¬

(¬1) انظر " البحر المحيط " (3/ 189). قال في " البحر المحيط ": واعلم أن مثل هذا الخطاب نوعان: نوع مختص لفظه بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولكن يتناول غيره بطريق الأولى كقوله: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك} [التحريم: 1]. ثم قال: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} [التحريم: 2]. وقوله: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} [الطلاق: 1]. ونوع يكون الخطاب له وللأمة، وأفرده بالخطاب، لكونه هو المواجه بالوحي وهو الأصل فيه. والمبلغ للأمة والسفير بينهم وبين الله، وهذا معنى قول المفسرين: الخطاب له، والمراد غيره ولم يريدوا بذلك أنه لم يخاطب بذلك أصلا كما يقول السلطان لمقدم العساكر: اخرج غدًا، أو انزل بمكان كذا. ومنه قوله تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} [النساء: 79]. وقوله تعالى: {وأرسلناك للناس رسولا} [النساء79]. (¬2) تقدم. انظر الرسالة رقم (139). (¬3) تقدم تخريجه مرارًا.

أردناه في تلك الأبحاث، فإنما قلنا إن الخطابات لواحد تعم، ولم نقل أن ذلك العموم مستفاد من الصيغة حتى يرد ما اعترضتم به، فكان عليكم أن تقولوا إن أراد المجيب كذا فمسلم، وإن أراد كذا فممنوع، كيف وقد أوضحت هذا المراد بقولي بعد ذلك: ولا يقدح في ذلك تخصيصه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بالخطاب! فإني لو أردت العموم من حيث الصيغة لكان هذا التخصيص قادحًا وأي قادح!. قوله: قال: نهاني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن القرآن في الركوع والسجود. أقول: هذا عليكم لا لكم، فإنه لو كان الخطاب للواحد خاصًا على كل تقدير لم يحتج - كرم الله وجهه - إلى أن يقول هذا، بل كان فهم العرب على مقتضى لغتهم يغني عن هذا البيان، فلم يقل هذه المقالة إلا دفعًا لما يفهمه السامعون من كون غيره له حكمه في ذلك، وهذا واضح لا سترة به. قوله: التحكيم باب آخر ... إلخ. أقول: لعله - كثر الله فوائده - لم يتدبر ما ذكرناه في هذا الوجه، فإنا قلنا في آخره ما لفظه: فإذا كانت الإجابة لدعوة من دعى إلى التحكيم واجبة فكيف لا تجب إجابة من دعى إلى حاكم من حكام الشريعة، انتهى!. فهذا الكلام هو في قوة القياس بفحوى الخطاب، فكيف غاب عنه - عافاه الله -!. قوله - كثر الله فوائده -: فقول المجيب: لا خلاف فيه بين المسلمين غير مسلم ... إلخ. أقول: ما كان من أفعاله جبليًا (¬1) يعلم كل من لديه علم أنه غير مراد، ولا يحتاج [4أ] إلى إخراجه إلا إذا كان الكلام مع من لم يعرف كلام أهل الأصول، وأما الخاص فقد أخرجناه في تلك الأبحاث. ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (140).

وأما ما ذكرناه من الإجماع فقد صرح به أهل الأصول عند تحرير الأدلة في هذه المسألة فقالوا: إن السلف كانوا يرجعون إلى فعله من دون تخصيص، ولم ينكر عليهم أحد فكان إجماعًا. وهذا موجود منصوص عليه في كتب الأصول (¬1) فليراجعها السائل - عافاه الله - حتى يعلم أنا لم نتكلم في ذلك إلا بما تكلم به غيرنا. قوله: لأن المقام للتبكيت ... إلخ. أقول: التبكيت لهم قد حصل بجعل الدعوة إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مقترنة بالدعوة إلى الله، ولا يختص حصول هذا المعنى بما قاله الزمخشري (¬2) من جعل الكلام من باب أعجبني زيد وكرمه، بل قد حصل النعي عليهم، والتبكيت لهم بأن هذا الرسول الذي لا يجيبونه الدعوة إليه كالدعوة إلى الله تعالى للعطف المؤذن بذلك إيذانًا يفهمه من يفهم أسرار كلام العرب كما يقول القائل: من كان صادق الطاعة لهذا الملك فليلب دعوته عبده، فإن في هذا الاقتران من رفع شأن العبد، والتبكيت على من لم يجب دعوته ما لا يقادر قدره، ولا يتوقف حصول ذلك على كون تلك الدعوة إلى الملك هي الدعوة إلى العبد، بل قد يفوت هذا المعنى السري بذلك، لأنه لم يكن على هذا التقدير اقتران بين الدعوتين وإن وقع بين المدعوين صورة، فإذا انضم إلى هذا فائدة التأسيس مع سلوك أقرب المجازين كان ذلك أدخل في بلاغة الكلام، وأتم وأبهج لا جرم الزمخشري كما ذكرتم هو المجمع على تفسيره، ولا سيما وقد تقدم عصره قبل هذا العصر بنحو سبعمائة سنة. قوله - كثر الله فوائده -: الإشارة في هذا إلى كلام إمام البيان الزمخشري ... إلخ. أقول: يأبى هذا الحاكم بالكتاب على تقدير أنه المراد بالدعوة إلى الله هو رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - والترافع هو إليه، فإفراد الضمير هو كائن على كلا ¬

(¬1) انظر " إرشاد الفحول " (ص158)، " البحر المحيط " (4/ 179). (¬2) في " الكشاف " (4/ 313).

التقديرين فلا يكون الإفراد مؤيدًا لكون ذلك من باب أعجبني زيد وكرمه، ويأبى ذلك أيضًا قول السائل - كثر الله فوائده -: عقب ذلك: فلا يثبت هذا الحكم لغير رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلا بالقياس ... إلخ؛ فإن هذا هو كالنتيجة لذلك التأييد، ومعناه أنه لا يثبت لغيره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من الناس ما ثبت له، ولو كان ذلك تأييدًا لما قاله الزمخشري لكان المناسب أن يقول فلا يثبت ذلك لله - سبحانه -، ويأبى ذلك أيضًا قول السائل - عافاه الله - عقب ذلك، وهكذا يقال في آية سورة النساء، فإنه لا يصح [4ب] أن يقال في هذه الإشارة كما قيل في الإشارة الأولى، لأن ما في سورة النساء ليس فيه ذكر الدعوة إلى الله، ولا التحكيم له، وإن كان يريد أن الإشارة إلى ما قاله من الاختصاص به - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - دون غيره من الناس كان الكلام غير متناسب الأطراف، ولا متلائم الضمائر والإشارات، والأمر في مثل هذا سهل، ولكن لما قال - عافاه الله - إن ذلك واضح لا يخفى أردنا أن نبين له ما فيه من الخفاء وعدم الوضوح. قوله: وأنشده بالله هل يجزم متدين ... إلخ. أقول: إن كان هذا التشديد والتهديد الكائن في الآيتين الكريمتين هو لرفع منار الشرع الذي شرعه الله في محكم كتابه، وعلى لسان رسوله، فهو باق بين أيدينا، والتعبد به مستمر، وليس تعبد السلف به يخالف تعبد الخلف فالسمع والطاعة، وكذلك عدم الحرج والتسليم ليست للقاضي بل للشريعة التي هي كتاب الله وسنة رسوله، وليس هذا التشديد تعظيمًا بالنسبة إلى عظم الشريعة المطهرة التي هي سبب الفوز بالجنة، والنجاة من النار، فكيف لا يجزم المتدين على من حكم عليه بما شرعه الله أنه لا يكون مؤمنًا حتى يسمع ويطيع ويسلم لحكم الله غير متحرج ولا متأسف، وإن كان ما في هاتين الآيتين ليس المقصود به إلا تعظيم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وتعريف الأمة بما يجب له من الحق، فقد عرفوا من حقه ما هو أدخل من ذلك في التعظيم، فإن الله - سبحانه - قد أخبرهم أنه أولى بهم من أنفسهم، ولم نقل ولا قال

أحد من الناس أن ما في هاتين الآيتين تعظيم للقاضي، وتشييد لأمره، فإنه لو حكم بغير الشرع لم يستحق أن يقال له: سمعنا وأطعنا، بل يستحق أن يقال له: لا نسمع ولا نطيع، وحكمك رد عليك، ومضروب به في وجهك؛ فالسائل - عافاه الله - إنما استبعد هذا الاستبعاد حتى ناشد المسئول هذه المناشدة، لأنه ظن أن القاضي المسكين لا يستحق أن يكون من خاصم إليه غير مؤمن حتى يحكمه ويسلم لحكمه، ويسمع ويطيع غير متحرج. وهكذا نقول: ومن هو القاضي حتى يكون له هذا الشأن؟ وإنما قلنا: إن السمع والطاعة والتسليم وعدم الحرج للشريعة المطهرة لا القاضي. قوله - كثر الله فوائده [5أ]-: فما شأن إلزامكم بعد ذلك لمن في بلاده من كملت فيه شروط الاجتهاد ... إلخ؟. أقول: ومتى ألزمت مع وجود من هو كذلك، فبالله عليكم! أخبروني أين أوجبت ذلك ومتى قلته؟ فإن جوابي الأول لديكم، وكذلك الرسالة (¬1) المسماة بالأبحاث البديعة، وقد ذكرت فيها قبل نقل كلامكم ما لفظه: فاعلم أن خلاصة ما أجبت به في الجواب المشار إليه سابقًا عن السؤال المتقدم ذكره هو أن المحل الذي سكنه الخصمان إن كان فيه من يتمكن من الحكم بينهما بالشريعة المطهرة على الوجه الذي لخصناه هاهنا فلا يجوز لأحدهما أن يطالب الآخر بالخروج إلى قاض آخر في مكان غير المكان الذي يسكنانه، لأن ذلك مجرد إتعاب، ومحض مشقة. انتهى بلفظه وحروفه. فهل وجدتم هذا في النسخة التي أرسلتها إليكم أم لا؟ ثم هل كررت هذا المعنى بعد ذلك بقليل في سؤال الاستفسار، ثم ذكرت عند الكلام على الوجه الثاني من كلامكم ما لفظه: هذا الكلام إنما يرد على من قال بوجوب الإجابة إلى حاكم يحكم بحكم الله - سبحانه - في غير جهة الخصمين، مع وجود من يحكم بحكم الله في جهة الخصمين، مع كون كل واحد من الحاكمين عالمًا بكتاب الله وبسنة رسوله ..... ¬

(¬1) رقم (139).

إلى أن قلت: ولم يتقدم مني ما يدل على هذا لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام. بل حاصل ما أجبت به إلى آخر ما سردته في تلك الأبحاث. فأخبروني هل هذا مكتوب لديكم في تلك النسخة المرسلة أم لا؟ وهل بعد هذا التصريح والتنصل وتقرير محل النزاع، وجوابه مرة بعد مرة! فإن كنتم قرأتم هذا وفهمتوه فما بالكم توردون علي ما لم أقل به وتحملون كلامي ما لا يحتمله! فإن هذه المباحثة الجارية بيني وبينكم في هذه المادة مركبة على غير قياس، ومبنية على غير أساس، وبيان ذلك أني أجبت في جوابي الأول بالفرق بين وجود الحاكم المجتهد في المحل وعدمه، فجاء عنكم ما يفيد أنكم قد نسيتم هذا أو تناسيتموه، فأجبت عليكم بالرسالة وكررت هذا، وتنصلت من ذلك الوهم الذي وهمتوه [5ب] في مواضع من تلك الرسالة، فظننت أن ذلك من الإطناب والتكرير الذي تمجه الأسماع، فلما وصلت منكم هذه المباحثة الآخرة ازداد تعجبي، وترددت هل أحملكم على عدم الاطلاع على جميع ما قد كتبته إليكم، أو على عدم الإنصاف إن حملتكم على عدم الاطلاع فكيف تعترضون على ما لم تطلعوا عليه! وإن حملتكم على عدم الإنصاف فما هو الظن بكم؟ فأنتم أهله ومحله. قوله - كثر الله فوائدكم -: وإن قلتم: إن ذلك دعوى، والعمل هو الشاهد وهذا الفرس والميدان ... إلخ. أقول: وهذا أيضًا هو من جنس ما فرغنا منه، فإني قلت في تلك الأبحاث عند أن ذكرتم أن لديكم من هو متأهل للنظر، وجامع للشروط ما لفظه: أقول: هذا مسلم فإن في أهل ذلك البيت الشريف، والمحتد العالي المنيف من هو كذلك وفوق ذلك، بل وفي الواردين إليه المستقرين فيه، ولسنا ممن ينكر وجود المجتهدين في ذلك المحل الذي هو محط رجال العلوم والآداب، انتهى بلفظه وحروفه. فهل وجدتم هذا مزبورًا في تلك الأبحاث المسماة " بالأبحاث البديعة "؟. إن قلتم: نعم ففيم طلب المبارزة لمن قد سلف منه هذا الاعتراف. وإن قلتم: لم نقفوا عليه هنالك فأعيدوا نظرًا، فإنه مزبور هنالك بيقين، ووجوده يكفينا عن المخاطرة بالمناظرة، وتغنينا عن أن يقال لنا: ما قاله الشاعر:

يا سالكًا بين الأسنة والقنا ... إني أشم عليك رائحة الدم قوله: ولم يعبر بهذه العبارة إلا لاحتمالها للقولين ... إلخ. أقول: حكم الله مبتدأ، ومظنون كل مجتهد خبره، وهذا التركيب يفيد الحكم على حكم الله بأنه مظنون كل مجتهد، هذا من غير نظر، إلى ما يقتضيه اسم الجنس (¬1) المضاف من العموم، وإيضاح مثل هذا لمثلكم عبث، فإنكم تفهمون ما هو في الدقة تابع إلى غايتها، فكيف بهذا الواضح! والله يحب الإنصاف. قوله - كثر الله فوائده -: فالحاكم إذا اجتهد وعمل بشهادة عادلة ... إلخ. أقول: وهكذا المجتهد إذا عمل بدليل ظني صحيح في ظاهر الأمر، ثم انكشف أنه موضوع، فلا فرق بينه وبين الحاكم إذا حكم [6أ] بشهادة عادلة في الظاهر، وانكشف زورًا، لأن المجتهد مأمور بالعمل بأخبار الآحاد بدليل كالدليل المتضمن للأمر للحاكم بالعمل بالشهادة، فما الفرق؟ فإن جميع مدارك الحكم من الشهادة واليمين والإقرار لا يحصل بكل واحد منها من الظن إلا دون ما يحصل للمجتهد بأخبار الآحاد الخارجة مخرج الصحيح، بل لا يبعد أن يقال إن خطأ الحاكم في دماء المسلمين وأموالهم فيه من الخطر العظيم بالجناية على مال الغير أو على دمه ما ليس في خطأ المجتهد من الخطر إذا عمل باجتهاده في مسألة الطهارة، أو الصلاة، أو نحو ذلك، فإذا كان الخطأ مغفورًا بل مأجورًا عليه في الجناية على مال الغير ودمه فكيف لا يكون مغفورا بل مأجورا عليه في عمل المجتهد لنفسه في غير جناية على نفس الغير، ولا على ماله؟. ¬

(¬1) قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص416): الإضافة من مقتضيات العموم كالألف واللام من غير فرق بين كون المضاف جمعًا نحو عبيد زيد أو اسم جمع نحو جاءني ركب المدينة. أو اسم جنس نحو: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [النحل: 18]. " ومنعت العراق درهمها ودينارها ومنعت الشام قفيزها وصاعها ". وانظر " المسودة " (ص101)، " تيسير التحرير " (1/ 219).

قوله: وإذا تقرر أن الخلاف في هذه المسألة لا ثمرة له ... إلخ. أقول: كيف يقال هذا وأحد القولين (¬1) جازم بأن حكم الله في الحادثة التي اختلفت فيها الأقوال هو واحد فقط، والقول الآخر جازم بأن حكم الله في تلك الحادثة التي اختلفت فيها الأقوال هو واحد فقط، والقول الآخر جازم بأن حكم الله في تلك الحادثة متعدد بحسب تعدد أقوال المجتهدين، فإذا لم يكن لهذا الخلاف ثمرة فلا ثمرة لكل خلاف. قوله - كثر الله فوائده -: وإن ادعوا خلاف ذلك. أقول: هذا يعود على ما قد تم من قولكم، وهذا الفرس والميدان بالنقض، فإن من كان عالة على عالم من علماء الإسلام فهو ليس من الاجتهاد في قبيل ولا دبير، ولا من أهلية النظر في ورد ولا صدر. قوله: ويعتقد أنه بلغ إلى رتبة لم يبلغها غيره .. إلخ. أقول: أما هذا الاعتقاد فقد صان الله عنه علماء الاجتهاد، فإنهم وإن بلغوا إلى المراتب العلية يزدادون اعترافًا بأنهم مقصرون لاطلاعهم على مؤلفات الأئمة الأكابر في كل فن، وتراجم المحققين الذين لا يلحق بهم غيرهم خصوصًا الذين قطعوا غالب العمر في فن فإنهم يبلغون في تحقيقه ما لا يتهيأ لمن اشتغل بفنون أن يلحق بهم في ذلك الفن، فكل مجتهد يعترف بقصوره عن رتبة سيبويه وأمثاله في النحو، والرازي وطبقته في الأصول، والسكاكي وأشباهه في علم البلاغة، وأحمد بن حنبل وأنظاره [6ب] في الحديث، والشافعي ونحوه في الفقه، والزمخشري ومن يلتحق به في التفسير. وهكذا غير هذه الفنون لها رءوس يعترف كل عارف بقصوره عن اللحوق بهم. قوله - كثر الله فوائده -: حاكيًا لكلامي في الأبحاث البديعة أنه لا يحل لأحد أن يقوم مقام الإرشاد وللعباد مع وجود من هو أعلم بالشريعة ... إلخ. أقول: قد أسقط - عافاه الله - من كلامي قيدًا هو مذكور في النسخة التي لديه ¬

(¬1) تقدم ذكره مرارًا.

صححته بخطي لما أهمله الناسخ. ولفظ كلامي هكذا: ولا يحل له أن يقوم مقام الإرشاد والمعياد في شيء لم يبلغ إليه دليله مع وجود من هو أعلم منه بالشريعة في عصره وقطره ... إلى آخر ما ذكرته. وهذا صواب، فإن من لم يكن عنده إلا محض الرأي لا يحل له أن يدبر الأمة به، مع وجود من يقوم بتدبيرهم بالدليل في عصره وقطره، فلا يلزم من هذا الكلام ما ألزم به - أبقاه الله -. قوله - عافاه الله -: وهم إنما يترافعون إلى الحاكم ليحكم بينهم بمذهب من قلدوه ... إلخ. أقول: نصب الحكام لم يشرعه الشارع لقطع الخصومات بما يوافق إعراض أهلها، بل ليحكم بينهم بالشريعة المطهرة الواردة عن الله وعن رسوله، ويقطع خصوماتهم بحكم الله سبحانه، ويدبرهم بما دبرهم الله به. ولو كانت مطابقة مقاصد المتحاكمين، وموافقة أغراضهم ومراداتهم من عمل القضاة لكان الحق الذي يريده الله من العباد دائرًا مع مذاهب الخصوم، فالخصمان إذا كانا من الخوارج، أو الروافض، أو سائر أهل البدع لا يريدان إلا الحكم بمذهبهما، وما لهذا شرع الله نصب حكام الشريعة، ولا بهذا أمرهم، وأن هذا هو الجمود البحت، والتقليد المحض، وعنه تلزم اللوازم التي قدمها السائل - عافاه الله - قبل هذا الكلام من سد باب الاجتهاد ونحو ذلك، فإن كان يريد بهذا الكلام أمرًا خاصًا وهو مطابقة أغراض مقلدة هذه الديار دون غيرهم فمع كون ذلك تخصيصًا بغير مخصص، وتقييدًا لكلامه بما لا يصلح لتقييده فليعلم - أبقاه الله - أن من مذهبهم الذي يعرفونه ويجدونه في المختصرات كالأزهار (¬1) ونحوه أن القاضي لا يكون إلا مجتهدًا، ومعلوم قطعًا أن صاحب الأزهار وغيره لا مقصد لهم بكون القاضي مجتهدًا إلا أن تكون أحكامه صادرة عن اجتهاده لا أن يكون واقفًا مع المقلدين، بل مع العامة من المتشاجرين، ولو كان هذا مرادًا لكان ذلك الاشتراط ضائعًا، لأن المقلد يقوم ¬

(¬1) (3/ 439 - مع السيل).

بالحكم [7أ] بما هو المعتقد لأهل بلده أتم قيام، فليت شعري كيف جرى قلمه - عافاه الله - بمثل هذا! وكيف نفق على ذهنه السليم، وفكره القويم! فإن هذا كلام لا تقبله أذهان أهل الجمود من المقلدين، لأن كل واحد منهم يعلم أن القاضي المستجمع للشروط المذكورة في الأزهار (¬1) هو القاضي على الحقيقة، وأن بلوغه إلى درجة الاجتهاد يمنعه من التقليد، بل قد عرفوا هذا وهم في المكتب، فإن أول ما يفتق أذهانهم بعد كتاب الله أن التقليد جائز لغير المجتهد، لا له. ولو وقف على نص أعلم منه. وقد نقل أئمة الأصول الإجماع على أن المجتهد بعد اجتهاده ممنوع من التقليد، لا جرم: " بدأ الدين غريبًا، وسيعود إلى غربته " (¬2) وجرى أقلام أهل العلم بمثل هذا الكلام من الغربة ومن علامات القيامة، ومن مصير المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا. ومن هاهنا تتفرق السبل، وتتفاوت الأقدام، وتتباين المراتب، وتتخالف القرائح. فدع عنك نهبًا صيح في حجراته. قوله - كثر الله فوائده -: وأما نقل الإجماع فلم يكن في الذهن ... إلخ. أقول: قد ذكرت لكم أنه في كتابه الذي سماه بالقواعد فطالعوه حتى يرتسم ذلك في الذهن، وكيف يستبعدون ذلك - وقد روى هذا الإجماع جماعة من الأئمة المشهورين -! كما نقلنا ذلك عنهم في " القول المفيد في حكم التقليد " (¬3). قوله: وهو أجل من أن ينقل ما أجمعت الأمة، أو أهل البيت على خلافه. أقول: عليه - أبقاه الله - أن يبحث ولا يرد الكلام بمجرد الاستبعاد، فإن حكايته هاهنا لإجماع الأمة أو إجماع أهل البيت من الغرائب، ولو نظر في مختصر من مختصرات ¬

(¬1) (3/ 439 - مع السيل). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (232/ 145) وابن ماجه رقم (3986) من حديث أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: " بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ غريبًا، فطوبى للغرباء ". وهو حديث صحيح. (¬3) الرسالة رقم (60).

الأصول كالغاية وشرحها لوجد المنع من تقليد الأموات من الأكثرين، ونصوص أئمة المذاهب الأربعة في المنع مطلقًا موجودة لدينا، معزوة إلى كتبهم المعروفة إذا أراد - أبقاه الله - الوقوف عليها أوقفناه. ولقد رسخ في قلبه من محبة التقليد ما رسخ حتى قال فيما سبق: إن الناس عيال على عالم من العلماء، ثم جاوز ذلك حتى قال في البحث الذي قبل هذا ما قال من أن الحاكم المجتهد يحكم بما يعتقده الخصوم، ثم جاوز ذلك حتى حكى هنا الإجماع على تقليد الأموات (¬1)، فلا أدري ما أقول! وما أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد [7ب] (¬2) قوله - عافاه الله -: وليس أساس الدين مجرد وصول قبيلي يدعي في شفعة ... إلخ. أقول: الدين هو هذه الشريعة المطهرة التي جاءنا بها محمد بن عبد الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - والعلماء والقضاة هم المترجمون لها، الذين أخذ الله عليهم بيانها للناس، وأمرهم أن يقضوا بينهم فيما اختلفوا فيه بما شرعه لهم، وهم ورثة الأنبياء، وأمناء الله على دينه، والمبلغون له إلى عباده، فإذا لم يكن هذا المنصب حقيقًا بالتعظيم والتبجيل فليت شعري ما هو المستحق لذلك! ويا لله العجب من استصغار منصب العلم وتحقيره، والإزراء عليه وعلى أهله بإيراد مثل هذه العبارة البالغة في الشناعة إلى حد يقصر عنه الوصف. ألم يكن من عمل أهل هذا المنصب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتعليم معالم الدين، وإرشاد المسترشدين، وبأقلامهم تضرب الأعناق، وتقام الحدود، وتتعارك الجيوش. وبهم يصير الإمام إمامًا، والسلطان سلطانًا، وعليهم تدور رحى مسائل ¬

(¬1) تقدم توضيحه. (¬2) من [الطويل] والشاعر دريد بن الصمة وهو من قصيدة يرثي عبد الله أخاه وقد قتلته بنو عبس. * غزية قبيلة من هوازن وهي رهط الشاعر وهو اسم أحد أجداده " غزية بن جشم ". انظر " الديوان " (ص47) حيث قال: [وهل أنا إلا من غزية]. وهو من شواهد " لسان العرب " (10/ 68).

العبادات والمعاملات، وجميع الشرعيات، وهم من لا تستغني عنه المخدرات من النساء في أمور دينهن ودنياهن، فكيف بغيرهن من الرجال على اختلاف طبقاتهم؛ فتلك شكاة ظاهر عنك عارها. قوله - كثر الله فوائده -: العمل بالرأي المحض غير صحيح ... إلخ. أقول: هذا صواب، وهكذا السلف الصالح، لكن هذا غير مناسب لما أسلفه من أنه لا اجتهاد في النصوص، وأنه كما قال أهل الأصول استفراغ الفقيه الوسع إلى آخره. فإن هذا يصدق على الرأي مطلقًا، ثم لا يناسب أيضًا ما قدمه من تسويغ التقليد، بل دعوى الإجماع عليه؛ فإن التقليد هو قبول رأي الغير دون روايته، ثم لا يناسب ما ذكره من الحكم بين المتشاجرين بما يطابق ما يعتقدونه، فإن الذي لزمهم هو قبول رأي الغير دون روايته، ثم لا يناسب ما قدمه أن الناس في هذا القطر اليمني عيال على فرد من أفراد العلماء؛ فإنهم لا يكونون عيالا عليه إلا وهم مقلدون له في رأيه دون روايته. سقوني وقالوا لا تغني ولو سقوا ... جبال جنين ما سقيت لغنت ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له ... إياك إياك أن تبتل بالماء قوله - كثر الله فوائده -: ولم يستند الحكم إلى دليل يخصه ... إلخ. أقول: إن كنتم تنكرون ثبوت الشركة وتفاصيلها، وتقولون إنها لم تكن من مسائل الشريعة، ولا دل عليها دليل نقلنا البحث معكم إلى هنا، وإن كنتم تعترفون بذلك وتخصون الإنكار بتلك المسألة فقط أوضحنا لكم برهانها بما تعلمون به صحة ما كررناه، من أن تفويض أحكام الله لا تكون إلا لكامل الأهلية، وأنه قد يتمكن من وجود الدليل في المواطن التي لم تكن بيد غيره فيها إلا محض الرأي. وفي هذا المقدار كفاية - إن شاء الله -.

منحة المنان في أجرة القاضي والسجان والأعوان

منحة المنان في أجرة القاضي والسجان والأعوان تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " منحة المنان في أجرة القاضي والسجان والأعوان ". 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، وبعد حمد ذي الجلال، والصلاة والسلام على الرسول والآل، فإنه ورد السؤال من بعض أرباب الكمال ... " 4 - آخر الرسالة: " فيجعل الخصومة بينه وبين نفسه والحاكم، كتاب الله عز وجل وسنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، وحسبي الله ونعم الوكيل. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - عدد الصفحات: 15 صفحة ما عدا صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 28 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 9 كلمات. 9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم وبعد حمد ذي الجلال، والصلاة والسلام على الرسول والآل، فإنه ورد السؤال من بعض أرباب الكمال، وهو سيدي العلامة الحسن بن زبارة (¬1) - كثر الله فوائده - وهذا نصه: أشكل علي ما يفعله الحكام والعمال في هذا الأوان في شأن أجرة الأعوان والسجان على الخصوم، وإلزام من عليه الحق في غالب الحالات بالتسليم للأجرة، لكون الحق عنده، ونص أهل الفروع كما عرفتم أن أجرتهم من ذي الحق هذا وما أدري ما هو المستند معهم، وكذلك أجر الحكام أنفسهم، فإني لم أجد لهم مسوغًا في قبض الأجرة من الخصمين، بل ومن بيت المال إلا ما روي أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: " لما استخلف أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤونة أهلي، وشغلت أمر المسلمين، وسيأكل آل أبي بكر من هذا المال، وأحترف للمسلمين فيه ". أخرجه البخاري (¬2). وما رواه في الأحكام (¬3) والشفاء (¬4): " أن عليًا - رضي الله عنه - كان يرزق شريحًا القاضي من بيت المال خمسمائة درهم "، وغير ذلك من الآثار غايته أنها أفعال الصحابة وقد عرفتم ما فيها، هذا وأما قبض الأجرة من الخصمين فلم أعثر على دليل فيه. وقد قال في الغيث (¬5) أنه لم يكن في عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ولا في عهد أحد من الصحابة؛ وروي المنع عن ابن عمر. وفي روضة النووي (¬6) ما لفظه: فرع: ¬

(¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) في صحيحه رقم (2070). (¬3) انظر " مؤلفات الزيدية " (1/ 83). (¬4) " شفاء الأوام " (3/ 288). (¬5) " الغيث المدرار المفتح لكمائم الأزهار ". للإمام أحمد بن يحيى المرتضى الحسني، وهو شرح على كتاب " الأزهار في فقه الأئمة الأطهار " في أربع مجلدات. " مؤلفات الزيدية " (2/ 297). (¬6) (5/ 188).

الاستئجار على القضاء باطل. انتهى. فعلى هذا يكون ما قبضه الحكام رشوة توجب العزل أم ماذا نقول؟ وحديث: " لعن الله الراشي والمرتشي " أخرجه عبد الرزاق (¬1)، وابن ماجه (¬2) وأخرجه الطبراني (¬3)، وأحمد (¬4)، وأبو داود (¬5)، والترمذي (¬6)، وقال (¬7): حسن صحيح. والحاكم (¬8) والبيهقي (¬9) عن ابن عمرو، وأخرجه أبو داود (¬10) عن ابن عمرو، وأبو سعيد النقاش في القضاء عن عائشة، وعبد الرزاق (¬11) عن عبد العزيز بن مروان بلاغًا، وأخرجه أحمد (¬12)، والحاكم (¬13)، والترمذي (¬14)، وقال: حسن عن أبي هريرة، والطبراني (¬15) والنقاش عن أم سلمة بزيادة في الحكم. وعلى الجملة فهو حديث صحيح. ورواياته متعددة فأوصلوا الجواب كامل الأطراف محتويًا على ما فيه العدل والإنصاف، مع تبيين ¬

(¬1) في مصنفه (8/ 148 رقم 14669). (¬2) في " السنن " رقم (2313). (¬3) في " الصغير " (1/ 28) وقال الهيثمي في " المجمع " (4/ 199): أخرجه الطبراني ورجاله ثقات. (¬4) في " المسند " (2/ 164، 190، 194، 122). (¬5) في " السنن " رقم (3580). (¬6) في " السنن " رقم (1377). (¬7) في " السنن " رقم (3/ 623). (¬8) في " المستدرك " (4/ 102 - 103) وصححه ووافقه الذهبي. (¬9) في " السنن الكبرى " (10/ 138 - 139). وهو حديث صحيح. (¬10) في " السنن " رقم (3580). (¬11) في مصنفه (8/ 148 رقم 14670). (¬12) في " المسند " (2/ 387 - 388). (¬13) في " المستدرك " (4/ 103). (¬14) في " السنن " رقم (1336) وقال: حسن صحيح. وهو حديث صحيح. (¬15) في " الكبير " (23/ 398 رقم 951) وأورده الهيثمي في " المجمع " وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات.

الدليل الذي يشفي الغليل - لا زلتم في حماية الله وكفايته ورعايته آمين - انتهى السؤال [1أ]؟.

الجواب بمعونة الله وفضله: أما ما سأل عنه السائل - كثر الله فوائده - من جعل أجرة السجان وأعوان الحكام على من عليه الحق مع نص أهل الفروع على أنها من مال المصالح، أو من ذوي الحق، لا ممن عليه الحق. فأقول: اعلم أن الذي ينبغي اعتماده في هذا هو أن المسجون ومن احتاج إلى أعوان الحاكم لا يخلو إما أن يكون قد تقرر عليه حق للغير يجب عليه التخلص منه كالدين ونحوه، فامتنع مع تمكنه من ذلك بوجه من الوجوه، وعدم وجود عذر شرعي له كالإعسار الشرعي، فمن كان هكذا فما لزم للسجان والأعوان فهو عليه من ماله، ولا يحل أخذه من خصمه، ولا من مال المصالح، أما كونه لا يحل أخذه من خصمه فظاهر، لأنه مظلوم، وقد رفع مظلمته إلى شرع الله، فوجب على القاضي أن يوصله إلى ما طلبه من الحق، ويدفع عنه الظلم بإلزام خصمه الظالم له بتسليم ما ظلمه فيه، فإذا ألزمه بشيء من أجرة السجان والأعوان فقد ظلمه إلا أن يقتضي الحال، وتوجب الضرورة ذلك، كمن يطالب غريمًا له في القصاص وكان المقتص منه فقيرًا، ولم يكن في الوجود مال مصالح من خراج، ومعاملة، وجزية، وفضلة سهم سبيل الله، أو كان ولكنه بأيدي قوم يتغلبون عليه، وكان هذا المطلوب بالقصاص لا يمكن استيفاء ذلك منه إلا بإرسال الأعوان عليه، وحفظه في السجن، وكان الأعوان والسجان لا يفعلون ذلك إلا بأجرة، فهذا الطالب للقصاص قد صار لا يمكن من استيفاء ما أوجبه الله له إلا بتسليم ما يعتاد لأولئك من أجرة، وعلى القاضي أن يوضح له ذلك، ويقول له: إما رضيت لنفسك بهذا الذي لا يمكن الوصول إلى حقك إلا به أو تركت. وأما كونه لا يحل أخذ أجرة السجان والأعوان من مال المصالح حيث كان ممن عليه الحق متمكنًا منه، ممتنعًا من تسليمه بعد الحكم عليه فلعدم الوجه المسوغ لذلك، فإن مصرف مال المصالح هو المصالح، وهذا الرجل الممتنع من تسليم ما عليه بعد حكم الشرع قد صار جانيًا على نفسه، ووجب علينا استخلاص الحق منه، والأخذ على يديه [1ب]، حتى يتخلص من الحق الذي عليه، ولما كان هذا الاستخلاص، ودفع

الظلم، والحكم بالحق لا يمكن إلا بإرسال الأعوان (¬1)، وحفظه في السجن كان ذلك مما يتم الواجب إلا به فوجب علينا فعله، وحل لنا إلزامه (¬2) بما يطلبه الأعوان والسجان من الأجرة على وجه العدل، فإنه ظالم. وقد سمى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فعله ظلمًا فقال: «لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته» كما ثبت في الصحيح (¬3). والعقوبة لا تختص بنوع معين، بل يجوز لنا أن ننزل به ما يصدق عليه اسم العقوبة، وأحق العقوبات ما لا يمكن استخلاص الحق منه إلا به من الحبس، وأجرة السجان ¬

(¬1) في هامش الأصل: قد صرح المفرعون في هذا الموضع وهو الموضع الرابع من الأجر التي هي إلى الإمام وحده بجوازها للحاكم. قال في حواشي الأزهار: أو حاكمه أو المجيب، أو من جهة الصلاحية تمت. قال صاحب " الأزهار " (3/ 453 مع السيل) وأجرة السجان والأعوان من مال المصالح، ثم من ذي الحق كالمقتص. وقال الشوكاني في " السيل " (3/ 459): قوله: " وأجرة السجان والأعوان من مال المصالح. ثم من ذي الحق كالمقتص ". أقول - الشوكاني - هذا صحيح لأنه يحصل بهم نفاذ حكم الشرع وتمام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن تعذر الأخذ لهم من مال المصالح كان لهم الأجرة ممن تمرد عن الحق فلم يمتثل لحضور مجلس الشرع إلا بإحضار الأعوان له، ومن المحبوس بحق لأنهما الجانيان على أنفسهما بسبب الإخلال بما هو واجب عليهما. وأما قوله: " ثم من ذوي الحق " فلا وجه له، ولا وجه لقياسه على المقتص لأن المباشر للقصاص نيابة عمن هو إليه لا واجب عليه بخلاف الخصم الذي لم يمتثل للإجابة إلى الشرع، أو صار في الحبس بسبب عدم تخلصه مما يجب عليه. فإن الحق ثابت وهو مخل بما يجب عليه شرعًا، فأين هذا ممن يتولى القصاص بالنيابة، فإنه أجير كسائر الأجراء. (¬2) في هامش المخطوط: المعاقبة بأخذ المال ليست إلا للإمام فقط كما هو صريح كلام أهل الفروع فليحقق ويبحث عن الدليل. (¬3) أخرجه أحمد (4/ 222، 388، 389) والبخاري (5/ 62) تعليقًا وأبو داود رقم (3628) والنسائي (7/ 316) وابن ماجه رقم (2427). وقد تقدم وهو حديث حسن.

والأعوان، وهذا ظاهر، بل لو لم يرد هذا الحديث الصحيح لكان تسويغ ذلك معلومًا من قواعد الشريعة لما قدمنا من وجوب رفع المظلمة علينا، وأن ما لا يتم ذلك إلا به يجب كوجوبه، وإن من تمام ذلك ما يعتاده السجان والأعوان، ولولا ذلك ما فعلوا ما نأمرهم به. وهذا الظالم هو الذي تسبب بظلمه وامتناعه عن التخلص من الحق إلى ما يحتاج إلى غرامة مالية. هذا إذا كان من عليه الحق على الصفة التي ذكرنا، أما لو كان فقيرًا قد تبين فقره فهذا لا يحل إرسال الأعوان عليه ولا سجنه، بل يجب الحيلولة بينه وبين المطالب له بنص القرآن الكريم: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} (¬1) فإن حبسه الحاكم، أو أرسل عليه كان ظالمًا، وكان واجبًا عليه أن يسلم أجرة من أرسله، وأجرة السجان من ¬

(¬1) [البقرة: 280]. قال ابن قدامة في " المغني " (6/ 585 - 586): " أن من وجب عليه دين حال، فطولب به، ولم يؤده، نظر الحاكم، فإن كان في يده مال ظاهر أمره بالقضاء، فإن ذكر أنه لغيره - فعلى الحاكم التأكد من ذلك - وإن لم يجد مالاً ظاهرًا فادعى الإعسار، فصدقه غريمه لم يحبس. ووجب إنظاره، ولم تجز ملازمته لقول الله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة: 280]. ولقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لغرماء الذي كثر دينه: " خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك " ولأن الحبس إما أن يكون لإثبات عسرته أو لقضاء دينه، وعسرته ثابتة والقضاء متعذر، فلا فائدة في الحبس، وإن كذبه غريمه فلا يخلو، إما أن يكون عرف له مال أو لم يعرف. فإن عرف له مال لكون الدين ثبت عن معاوضة، كالقرض والبيع، أو عرف له أصل مال سوى هذا، فالقول قول غريمه مع اليمين، فإذا حلف أنه ذو مال، حبس حتى تشهد البينة بإعساره. قال ابن المنذر: أكثر من تحفظ عنه من علماء الأمصار وقضاتهم، يرون الحبس في الدين، منهم: مالك والشافعي، وأبو عبيد والنعمان، وسوار وعبيد الله بن الحسن. وروي عن شريح والشعبي. وكان عمر بن عبد العزيز يقول: يقسم ماله بين الغرماء ولا يحبس. وبه قال عبد الله بن جعفر، والليث بن سعد. قال ابن قدامة: ولنا أن الظاهر قول الغريم، فكان القول قوله كسائر الدعاوى. انظر: " فتح الباري " (4/ 466).

ماله. وأما إذا لم يكن قد تبين فقره وإعساره عن تسليم ما عليه، ولكنه يدعي ذلك وخصمه يخالفه وينكر، فإن كان حضوره إلى القاضي، ووقوفه مع خصمه لديه ممكنًا بدون إرسال الأعوان عليه فلا يحل الإرسال عليه، بل على الحاكم أن يطلب منه البرهان على دعواه، فإن جاء به أنظره إلى ميسرة، وإن عجز عنه أو جاء غريمه بما يفيد إيساره ألزمه بالتسليم، فإن امتنع مع ذلك كان الكلام فيه كالكلام في الموسر الذي امتنع من التخلص مما عليه، وقد تقدم. وأما حبس الملتبس حاله فقد اختلف [2أ] أهل العلم في ذلك، فسوغ بعضهم حبسه حتى يتضح الأمر. وقال آخرون: إنه لا يحل حبسه، بل يجب العمل على ما ينتهي إليه الحال. وعندي أن هذا محل نظر للحاكم، فإن ذلك يختلف باختلاف الناس، فمنهم من يكون في حبسه مصلحة تظهر عندها أنه ممكن من التخلص، وأن دعواه التي ادعاها لا حقيقة لها، ولا صحة، وأنه إنما فعل ذلك فرارًا من الحق، ومراوغة وبعدًا عن الإنصاف، ومنهم من يكون عرضه أعز عليه من ماله، وهم أهل التستر والحياء والمروءة، وكذلك أرباب الديانة الذين يغلب على الظن أنهم لا يدعون الإعسار إلا عند الضرورة، فمن كان من هؤلاء فلا يحل حبسه، ولا إنزال نوع من أنواع الهوان به، بل ينتظر ما يصح من أمره، وينتهي من حاله، ولا مسوغ لحبس ولا غيره؛ فإنه لم يتبين أنه واجد حتى يكون مطله ظلمًا يحل عرضه وعقوبته، ولا تهمة تحصل في بطلان دعواه كما يحصل في بطلان دعوى الأول، حتى يكون ذلك مسوغًا لحبسه. وقد حبس النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في التهمة (¬1). ولا فرق بين تهمة وتهمة، فإن قلت: إذا كان الحبس ¬

(¬1) في حاشية المخطوط: رواه في الغيث (أ) والبحر (ب). وهو حديث لا يصح (ج) كما نبه عليه شيخ الإسلام ابن حجر (د) وغيره من شراح الحديث، فعلى المجيب - كثر الله فوائده - التصحيح. الحديث رواه أبو داود (هـ) والترمذي (و) والنسائي (ز) من حديث بهز بن حكيم أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " حبس رجلاً في تهمة " زاد النسائي (ز) ثم خلى عنه. وكذا الترمذي (ح) وقال: حسن ورواه أيضًا الحاكم (ط). وقال صحيح الإسناد. وله شاهد من حديث أبي هريرة (ي) انتهى. فهذان إمامان من أئمة الحديث حسنه أحدهما وصححه الآخر، ولعل ما ذكره الكاتب عن الحافظ ابن حجر في الحديث، وهو من جهة بهز بن حكيم (ك) وهو لا يصح بحديثه عند الكثير، وقد (ل) جماعة كما ذكره الحافظ وأما (ل) (أ): تقدم التعريف به. (ب): انظر " البحر الزخار " (5/ 89، 113). (ج): بل هو حديث حسن. (د): انظر " تهذيب التهذيب " (1/ 251). (هـ): في " السنن " رقم (3630). (و): في " السنن " رقم (1417). (ز): في " السنن " رقم (8/ 66 - 67). (ح): في " السنن " رقم (4/ 28). (ط): في " المستدرك " (4/ 102) وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (ي): أخرجه الحاكم في " المستدرك " (4/ 102). (ك): بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة أبو عبد الملك القشيري. قال أبو حاتم: هو شيخ يكتب حديثه، ولا يحتج به. قال النسائي: ثقة. قال ابن حبان: كان يخطئ كثيرًا. قال ابن عدي: قد روى عنه ثقات الناس، وقد روى عنه الزهري وأرجو أنه لا بأس وبه ولم أر له حديثًا منكرًا. وقال ابن معين ثقة. انظر " تهذيب التهذيب " (1/ 251 - 252). وخلاصة القول أن الحديث حسن والله أعلم. (ل): غير واضحة في حاشية المخطوط. ولفظ الحديث: " أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حبس رجلاً في تهمة ساعة من نهار ثم خلى سبيله ".

لمجرد تهمة، أو كان الأمر ملتبسًا على الحاكم وهو يرجو اتضاح الحق بعد طول الخصومة، وكان يخشى نفور أحد الخصمين فاستوثق منه بحبسه على من تكون أجرة السجان والأعوان. قلت: يكون هاهنا من مال المصالح، فإن لم يكن مال مصالح، أو كان ولا يمكن الوصول إليه للحاكم أن يجعلها بعد اتضاح الحال على من كان متعديًا مخاصمًا في باطل، لأنه بسبب تفعله إلى لزوم ما لزم من الأجرة، وهكذا ينبغي أن يكون أجرة هؤلاء من مال المصالح إذا كان المسجون ممن يخشى على الناس من ضرره إذا أطلق كمن تكرر منه السرق، أو قطع الطريق، أو الأذية للمسلمين بنوع من الأنواع، وكان لا يندفع ضرره عنهم إلا بحفظه في السجن كمن كان ينزجر بإقامة الحد عليه، فإنه لا يحل حبسه بعد ذلك [2ب] , وهكذا تكون أجرة السجان والأعوان من مال المصالح إذا كان الحبس لمسوغ شرعي نحو من يجب عليه القصاص، وفي الورثة قاصر أو غائب، وهو مسلم لنفسه غير ممتنع من استيفاء حكم الله منه، فإن لم يكن ثم مال مصالح، أو كان ولا يمكن الوصول إليه كان ذلك من المقتص. وبالجملة فمن كان محبوسًا بحق عليه يجب عليه التخلص منه وهو متمكن من ذلك. وقد تقرر الحق عليه بحكم الشرع، فما لزم بسبب سجنه فعليه لا على غريمه، ولا على خصمه، ومن كان أمره ملتبسًا وكان حبسه سائغًا لوجه من الوجوه فما لزم فمن مال المصالح، فإذا لم يكن مال مصالح فللحاكم أن يجعله على من صح أن يخاصم في باطل، ومطالب بما لا يقتضيه الشرع عمدًا منه مع علمه، ومن كان محبوسًا لمصلحة راجعة إلى المسلمين، أو كان باذلاً لما عليه من الحق لكنه عرض ما يقتضي الانتظار كان ذلك من مال المصالح، فإن لم يكن فللحاكم أن يجعله من المسلمين إذا كان الحبس لمصلحتهم، أو ممن له الحق إذا كان الحبس لمصلحته.

وأما ما سأل عنه - كثر الله فوائده - من أجرة الحكام المأخوذة من الخصمين، وذكر أنه لم يجد لذلك دليلاً. فأقول: إن كان ما يأخذه الحكام من الخصوم إلى مقابل عمل يعملونه كرقم السجلات والسير إلى الأمكنة المتنازع فيها مما يحتاج إلى مشاهدة، كأسباب الشفعة، ونحو ذلك، وكان الحاكم لا جراية له من بيت المال يضيفها إلى مقابل أجرته، وكان ما يأخذه بمقدار عمله الذي عمله مع طيبة من نفس الخصوم، فهذا لا شك أنه حلال يسوغ قبضه. ولا فرق بينه وبين من يعمل مع الناس، ويحترف بنوع من أنواع الحرف من نجارة، أو خياطة، أو عمارة، أو نحو ذلك؛ فإن ما يأخذه هؤلاء حلال طلق، لأنه في مقابل عملهم. وقد أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بإيفاء الأجير أجره، والحاكم على تلك الصفحة داخل في هذا العموم، لأنه أجير أخذ أجره بطيبة من نفس المؤجر [3أ]، وطيبة النفس بمجردها محللة لمال الغير كما في حديث: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه» (¬1)، وأما ما يعتبره كثير من أهل الفقه من اعتباره أمر زائد على طيبة النفس، كالإيجاب والقبول بألفاظ مخصوصة أو نحو ذلك فلا دليل عليه، وأما إذا كان ما يأخذه القاضي المذكور زائدًا على مقدار عمله، ولم تطب به النفس، أو كان له جراية من بيت المال فما يأخذه بسحت حرام (¬2)، وأكل لمال الغير بالباطل، وقد قال الله عز وجل: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} (¬3) لا يقال إن ما يأخذه القاضي هو إلى مقابل الحكم، وهو واجب عليه، والأجرة على الواجب حرام، لأنا نقول: ليس ما يأخذه هاهنا أجرة عن الحكم، بل عن ما ذكرناه من رقم السجلات، والنظر في الأمكنة التي تتعلق بها الخصومات، وذلك غير ................................... ¬

(¬1) وهو حديث صحيح تقدم تخريجه. (¬2) قال تعالى: {أكالون للسحت} [المائدة: 42]. (¬3) [النساء: 29].

واجب (¬1) عليه. وأما ما سأل عنه من الجراية (¬2) التي يأخذها القاضي من بيت المال، وأنه لم يجد لذلك مستندًا إلا ما ذكره، فاعلم أن أموال المصالح (¬3) كالخراج، والجزية، والمعاملة، وسائر ما يصدق عليه اسم بيت المال لا شك ولا ريب أن مصرفه الذي ينبغي وضعه فيه هو ¬

(¬1) في هامش المخطوط: قال هلا كان مما لا يتم الواجب إلا به وهو يجب كوجوبه ما تحقق له من تقدم الواجب، فإن تقدمها قد وجب حتى يتنبه الخصم ففعله هو من عهدة الخصم فهو عليه. (¬2) قال الحافظ في " الفتح " (3/ 150): قال الطبري: ذهب الجمهور إلى جواز أخذ القاضي الأجرة على الحكم لكونه يشغله الحكم عن القيام بمصالحه. غير أن طائفة من السلف كرهت ذلك ولم يحرموه مع ذلك. وقال أبو علي الكرابيسي: لا بأس للقاضي، أن يأخذ الرزق على القضاء عند أهل العلم قاطبة من الصحابة ومن بعدهم، وهو قول فقهاء الأمصار لا أعلم بينهما خلافًا. وقد كره ذلك قوم منهم مسروق، ولا أعلم أحدًا منهم حرمه. وقال المهلب: وجه الكراهة أنه في الأصل محمول على الاحتساب لقوله تعالى لنبيه: {قل لا أسألكم عليه أجرا} فأرادوا أن يجري الأمر فيه على الأصل الذي وضعه الله لنبيه، ولئلا يدخل فيه من لا يستحقه فيتحيل على أموال الناس. وأما من غير بيت المال ففي جواز الأخذ من المتحاكمين خلاف، ومن أجازه شرط فيه شروطًا لا بد منها، وقد جرى القول بالجواز إلى إلغاء الشروط، وفشا ذلك في هذه الأعصار بحيث تعذر إزالة ذلك والله المستعان. وانظر: " المغني " (14/ 9 - 10). (¬3) قال الحافظ في " الفتح " (13/ 150 الباب رقم 17): قوله " باب رزق الحاكم والعاملين عليها. والرزق ما يرتبه الإمام من بيت المال لمن يقوم بمصالح المسلمين، وقال المطرزي: الرزق ما يخرجه الإمام كل شهر للمرتزقة من بيت المال. والعطاء ما يخرجه كل عام، ويحتمل أن يكون قوله " والعاملين عليها " عطفًا على الحاكم، أي ورزق العاملين عليها أي على الحكومات. ويحتمل أن يكون أورد الجملة على الحكاية يريد الاستدلال على جواز أخذ الرزق بآية الصدقات، وهم من جملة المستحقين لها لعطفهم على الفقراء والمساكين ... ".

ما كان فيه للمسلمين مصلحة، وأعظم مصالح المسلمين تشييد معالم الدين، والعمل فيهم بما شرعه الله لهم، فإن المصالح الدنيوية ليست بمنظور إليها لجنب المصالح الدينية، والمصالح الدينية بعضها أهم من بعض، وفيها ما هو مقدم على غيره، ولا تزال متفاضلة في ذات بينها حتى ينتهي الفضل إلى رأسها، بل وأساسها وأعلاها وأولاها، وهو نشر هذه الشريعة التي طلبها الله من عباده، وأرسل إليهم بها رسله، وخلق الجنة لمن عمل بها، والنار لمن تركها، وخلق عباده ليعبدوه ويبلوهم أيهم أحسن عملاً (¬1) كما نطق به كتابه العزيز. وإذا كانت هذه [3ب] الخصلة هي المصلحة التي لا تدانيها مصلحة، ولا توازيها منفعة، فلا شك ولا ريب أن أعظم الناس قيامًا بها وتحملاً لها هو القاضي العادل؛ فإنه الذي يقطع الخصومات العارضة لعباد الله بما شرعه لهم في كتابه، وعلى لسان رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. وهكذا من يعلم الناس معالم دينهم من العلماء العاملين، وهذا من يفتيهم في أمر دينهم. فهؤلاء إذا لم يكونوا مصارف لأموال المصالح فلا مصارف لها، وإذا لم تحل لهم لم تحل لغيرهم. وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يجمعون مال الله، ثم يفرقونه بين المسلمين، ويسمون ذلك العطاء، ويفاضلون بينهم بتفاضل درجاتهم في العلم والدين والسبق. هذا معلوم من فعلهم لا يشك فيه أحد. وكان للمشتغلين بالعلم منهم والمتصدرين لرواية سنة رسول الله، وتفسير كتاب الله، ومن يؤخذ عنه العلم منهم بنوع من أنواع الأخذ كالقاضي والمفتي وغيرهم النصيب الأوفر، والحظ الأكبر، بل قد كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقسم بين المسلمين ما يوافيه من أموال الله كمال البحرين (¬2) ونحو ذلك كما ثبت ذلك ثبوتًا لا شك ¬

(¬1) يشير إلى قوله تعالى: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور} [الملك: 2]. (¬2) أخرج البخاري في " صحيحه " رقم (421 و3165) معلقًا. عن أنس - رضي الله عنه - قال " أتي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمال من البحرين فقال: انثروه في المسجد، فكان أكثر مال أتي به رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فخرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الصلاة ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدًا إلا أعطاه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ جاءه العباس فقال: يا رسول الله أعطني، فإني فاديت نفسي وفاديت عقيلاً. فقال: خذ. فحثا في ثوبه، ثم ذهب يقله فلم يستطع فقال: يا رسول الله أؤمر بعضهم يرفعه إلي، قال: لا. قال: فارفعه أنت علي قال: لا، فنثر منه ثم ذهب يقله فلم يرفعه فقال: يا رسول الله: أؤمر بعضهم برفعه علي قال: لا، قال: فارفعه أنت علي قال: لا، فنثر منه ثم احتمله فألقاه على كاهله ثم انطلق، فما زال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتبعه بصره حتى خفي علينا. عجبًا من حرصه، فما قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وثم منها درهمًا ". قال ابن حجر في " الفتح " (1/ 517) وفي هذا الحديث بيان كرم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعدم التفاته إلى المال قل أو كثر، وأن الإمام ينبغي له أن يفرق مال المصالح في مستحقيها ولا يؤخره.

فيه ولا ريب. فإذا لم يكن لمن يقضي بين المسلمين بشرع الله في أموال الله حظ لم يكن لمن يغزو أو يرابط في ثغورهم، أو يدفع عن حوزتهم أو نحو ذلك حظ، وعند هذا تصير أموال الله التي أمر أئمة المسلمين وسلاطينهم بقبضها من أهلها ووضعها في مواضعها ضائعة متروكة هملاً، فتذهب ثغور المسلمين ويبطل الغزو، وينهدم ربوع الشرع، ويذهب رونقه، وتتغير بهجته، ويصير الناس في فتنة عمياء صماء، وينخرم النظام، وتنقطع السبل، ويأكل القوي الضعيف، وتنتهك الحرم وتراق الدماء، وتنهب الأموال؛ فإنها إنما انتظمت المعائش، وقامت الأديان، وحفظت الحرم بصرف هذه الأموال في هذه المصارف العائدة على المسلمين بمصالح الدين والدنيا؛ فإن الناس أنواع، فمنهم من يشتغل بالزرائع [4أ]، ومنهم من يقوم بالتجارة ونحوها من الحرف، ومنهم من يسعى في تحصيل الأمور التي تحتاج إليها في المعاش، ومنهم من يحفظ للناس دينهم ويعلمهم معالم الإسلام، ومنهم من يجاهد الأعداء ويكف يد القوي عن الضعيف، وينتصف المظلوم من الظالم، وتؤمن السبل، تقيم الحدود وهم الأئمة ومن معهم من الجنود، فإذا لم تؤخذ أموال الله من مواضعها وتصرف في مصارفها لم يبق من يحفظ على الناس دينهم، ولا من ينتظم به أمر معاشهم، لأن الجنود المتطوعة الذين لا يرتزقون لا يوجدون إلا في أندر الأزمنة، وأقل الأحوال، وكذلك القائمون بالوظائف الدينية من القضاء والإفتاء

والتعليم، فليس في ذلك من النفع والدفع ما يكون عند إدرار أموال الله على مصارفها، فلا يزال في ضعف وسقوط وانطماس حتى ينتهي الحال إلى خراب أحوال الدنيا مع أحوال الدين، فلا يأمن الزارع على نفسه، ولا على ماله، ولا التاجر على تجارته، ولا المحترف على حرفته، فيذهب الدين والدنيا، والعاجل والآجل، ويعم الضرر جميع العباد، ويكثر في الأرض الفساد. ومن رام أن يحيط بهذا علمًا، ويقتله خبرًا، ويعلمه علمًا لا يداخله شك ولا شبهة، فلينظر ما يقع فيه عباد الله عند اضطراب الدول من الهرج والمرج، وهتك الحرم، وذهاب معالم الدين، وضياع الشرع، وتقاصر ظله، وتقلص أطرافه. ومن نظر في التواريخ المتضمنة لشرح أحوال الدول علم علمًا يقينًا أنه لا انتظام للدين ولا للدنيا إلا بوضع حقوق الله في مواضعها، مع أخذها على الوجه الذي جاء به الشرع. وبالجملة فلا نطيل المقال في هذا فهو من الوضوح بمكان، وليس المراد إلا بيان أن القاضي والمفتي والمعلم هم أحق الناس بوضع أموال الله فيهم [4ب]، وإدرارها عليهم. وقد ثبت أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان يفرض الأرزاق لمن يستعمله كما في حديث بريدة مرفوعًا بلفظ: «أيما عامل استعملناه، وفرضنا له رزقًا فما أصاب بعد رزقه فهو غلول» (¬1)، ونحو هذا مما ورد في فرض أرزاق أهل الأعمال. وقد كان يستعمل على القضاء كما يستعمل على غيره من الأعمال، وكان عماله يأكلون من أموال الله، وكذلك الخلفاء الراشدون كانوا يفرضون لأنفسهم (¬2)، ولمن يلي لهم ¬

(¬1) أخرجه أبو داود رقم (2943) بإسناد صحيح. (¬2) ذكر البخاري في صحيحه باب (17) رزق الحاكم والعاملين عليها، وكان شريح القاضي يأخذ على القضاء أجرًا وقالت عائشة: يأكل الوصي بقدر عمالته. وأكل أبو بكر وعمر. قد تقدم عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما استخلف أبو بكر قال: قد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي، وقد شغلت بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال وأحترف للمسلمين فيه ". أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2070). قال ابن حجر في " الفتح " (4/ 305): قال ابن التين وفيه دليل على أن للعامل أن يأخذ من عرض المال الذي يعمل فيه قدر حاجته إذا لم يكن فوقه إمام يقطع له أجرة معلومة. قال ابن حجر في " الفتح " (13/ 151): لكن في قصة أبي بكر أن القدر الذي كان يتناوله فرض باتفاق الصحابة فروى ابن سعد بإسناد مرسل رجاله ثقات قال: " لما استخلف أبو بكر أصبح غاديًا إلى السوق على رأسه أثواب يتجر بها، فلقيه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح فقال: كيف تصنع هذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ قالوا نفرض لك، ففرضوا له كل يوم شطر شاة. قال عمر بن الخطاب " إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة قيم اليتيم إن استغنيت عنه تركت، وإن افتقرت إليه أكلت بالمعروف ". أخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه " (12/ 324 رقم 12960) وابن سعد في " الطبقات " (3/ 197) والبيهقي في " السنن الكبرى " (6/ 354). وقال الحافظ ابن حجر في " الفتح " (13/ 151): سنده صحيح. وأخرج الكرابيسي بسند صحيح عن الأحنف قال: كنا بباب عمر - فذكر قصة وفيها فقال عمر: " أنا أخبركم بما استحل: ما أحج عليه وأعتمر، وحلتي الشتاء والقيظ وقوتي وقوت عيالي كرجل من قريش ليس بأعلاهم ولا أسفلهم ". " الفتح " (13/ 151).

الأعمال أرزاقًا من أموال الله، وهذا معلوم عنهم لا يختلف أهل العلم فيه، وهم الذين يقول فيهم الصادق المصدوق: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الهادين " كما في الحديث الصحيح (¬1). فإن قلت: ما هو القدر (¬2) الذي يحل للقاضي من أموال الله؟ قلت: هو رزقه الذي يكفيه ويكفي من يعول - والكفاية هي الكفاية بالمعروف، ¬

(¬1) وهو حديث صحيح تقدم تخريجه مرارًا. (¬2) انظر التعليقة السابقة.

فلا ينفق على نفسه إنفاق أهل الإسراف، ولا إنفاق أهل التقتير، بل يقتدي بعادة أمثاله من أهل بلده الذين يسلكون مسالك التوسط، ويمشون مشي من لا يبسط يده كل البسط، ولا يقبضها كل القبض. وفي قصة الصديق - رضي الله عنه - قدوة وأسوة، فإنه قال لما استخلف: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي، وشغلت بأمر المسلمين، وسيأكل آل أبي بكر من هذا المال وأحترف للمسلمين فيه) (¬1) هكذا في البخاري (¬2) فانظر ما في هذا الكلام الصادر عن الصديق - رحمه الله - من الفوائد التي ينبغي لمن يعمل عملاً للمسلمين أن يقتدي بها، ويمشي على سننها فإنه قال: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي، فقدم هذه المقدمة أمام المقصد الذي يريده ليعلم الصحابة أنه لا يأخذ من بيت مالهم لنفسه شيئًا يستأثر به دونهم، لكونه قد صار إمامًا لهم، مالكًا لأمرهم، بل الذي يأخذه هو أجرة [5أ] عوضًا عن عمله الذي كان يعمله ليعود به على أهله وهي الحرفة التي كان يرتزق بها هو وأهله. وقد كانت تقوم بكفايته ولا يعجز عنه حتى يحتاج إلى غيرها، وهو الآن قد صار مشتغلاً بالاحتراف للمسلمين في أمورهم العامة أو الخاصة، وغير ممكن من العمل في حرفته الأصلية، فهو لا يطلب منهم إلا ما كان يحصله من حرفته الخاصة به، وهو الكفاية والكفاف على وجه يكون الحاصل له من بيت مال المسلمين في كل يوم ما كان يحصل له من حرفته في كل يوم، ولم يجعل لنفسه فرقًا بين حاله وهو سوقة، وحاله وهو ملك، ولا بين كونه كان يدور في الأسواق كأحد المسلمين، وبين كونه صار أمير المؤمنين فلله در هذا الورع ¬

(¬1) تقدم آنفًا. (¬2) في صحيحه رقم (2070). قال: أحترف أني كنت أكتسب لهم ما يأكلونه، والآن اكتسب للمسلمين. قال الطيبي: فائدة الالتفات أنه جرد من نفسه شخصًا كسوبًا لمؤنة الأهل بالتجارة، فامتنع لشغله بأمر المسلمين عن الاكتساب، وفيه إشعار بالعلة، وأن من اتصف بالشغل المذكور حقيق أن يأكل هو وعياله من بيت المال. وخص الأكل من بين الاحتياجات لكونه أهمها ومعظمها.

الشحيح، والصلابة الشديدة، والدين القوي! فهكذا ينبغي أن يكون ولاة أمور المسلمين من القضاة، وأهل الأعمال، فإن كل ولاية وإن جلت وعظم شأنها وهي دون الولاية العامة والزعامة التي لا تكون فوق يد صاحبها يد. وينبغي للإمام العادل أن ينظر إلى من يوليه الأعمال في نفسه ومؤنة أهله، فيجعل لهم ما يقوم به على وجه لا يحتاج معه إلى أن يرفع رأسه إلى رزق من جهة أخرى يقضون رزقه الذي يجعله له إمامه عن مؤنة نفسه وأهله، ولا يجعل له من أموال الله ما يجاوز كفايته التي يحتاجها، فإن غيره من المسلمين أحوج بها، ومصارف أموال الله على ظهر البسيطة فإن موت الأموال (¬1) وإن بلغت في الكثرة كل مبلغ لا تفضل عن أرزاق من يستحقها بل يفضلون عنها، ولولا ذلك ما كان في كل عصر من العصور فقراء عالة الناس يسألونهم [5ب] ويحتاجون إلى ما في أيديهم. فإن قلت: قد كان لجماعة من الصحابة والتابعين الأموال التي يطول ذيلها، ويتعاظم قدرها حتى اتسعوا في عمارة الدور الأنيقة، والدواب الفارهة، والمماليك الدوقة (¬2)، والملابس الفاخرة، والضياع المشتبكة، والأنهار المطردة، والذخائر الكثيرة حتى مات الواحد منهم عن مئين الألوف وألوف الألوف مما تركه لمن يرثه بعد أن عاش مرفهًا موسعًا على نفسه وأهله، يعطي العطايا الواسعة، ويبذل البذولات الرابعة لمن يقصده من الفقراء والشعراء وأهل الكمالات، وأرباب الغرامات. قلت: صحيح ما ذكرته وغير مستنكر ولا مستعظم ذلك عليهم، فقد كان لهم من الغنائم التي عادت بها عليهم سيوفهم ما لا يقادر قدره، ولا يمكن التعبير عنه، وتضيق الأذهان عن تصوره، فإن الله - سبحانه - مكنهم من الممالك العظيمة كمملكة كسرى ¬

(¬1) غير واضحة في المخطوط. (¬2) " الدوقة والدوقانية ": الفساد والحمق، وقيل أداقوا به أحاطوا به. " تاج العروس " (13/ 151).

وقيصر، فما تركوه وهو قليل بالنسبة إلى ما أعطاهم الله - عز وجل - ذلك شيء خارج عما نحن بصدده من كفاية الإمام لمن يقوم بأمر من أمور المسلمين. فإن قلت: إذا كان للرجل القائم بعمل من أعمال المسلمين أعوان ينفذون له ما يريده من الأمر والنهي، غير أهله ومن يعول ولا يتم له ما يؤيده من القيام بالحق إلا بهم نحو من يحتاج إليه للأخذ على يد الظالم والنصفة للمظلوم، واستخلاص الحق ممن هو عليه لمن حوله، ومن يحتاجه لتحرير السجلات، وتقرير الخصومات، وحفظ ما يكون لديه من الأحكام، ومن يحجبه عن الناس في الأوقات التي يخلو فيها بنفسه وأهله لحوائجه الخاصة [6أ] التي يسوغ له الشرع الاحتجاب لها، ولا سيما إذا كان انفراده بنفسه، لتدبير الأمور المتعلقة به، والبحث عن أدلة المسائل التي تعرض له، والنظر في دفاتر العلم المدونة، وفي مجاميع السنة، وكتب التفسير؛ فإن ذلك من أهم الأمور، بل من أوجب ما يجب عليه، فقد يعرض له في اليوم الواحد من المسائل العويصة الدقيقة ما يحتاج إلى أوقات كثيرة يستغرقها في البحث والنظر حتى يظفر فيها بالصواب، ويجتهد رأيه فيما لا تتضح قرينة دلالته، أو معارض مآخذه. قلت: يجب على الإمام أن يعرض لهؤلاء جميعًا من الأرزاق ما يغنيهم عن التكالب على أموال الناس، والتهافت على الحطام، والتلاعب بأهل الخصومات، فإن كفاية هؤلاء الوزعة والحجبة والكتبة من أهم الأمور التي تلزم أئمة المسلمين، فيجعل لهم أرزاقًا تقوم بهم، أو يوفر على القاضي ونحوه رزقه توفيرًا تقوم به وبأهله ووزعته وحجبته وكتبته، فإن تقاصرت أموال الله عن القيام بما يحتاج إليه هؤلاء كان على القاضي أن يفرض لهم من الأجرة على من يستحق الفرض عليه من أهل الخصومات بقدر أعمالهم على التفصيل الذي قدمنا تحريره. فإن قلت: فما تقول فيما نقله السائل - كثر الله فوائده - عن روضة النووي (¬1) أن ¬

(¬1) (5/ 188).

الاستئجار على القضاء باطل (¬1). قلت: إن أراد بذلك استئجار القاضي على الحكم من الخصم الذي يستحق الحكم له، فلا شك في بطلان هذا، لأنه نوع من الرشوة المحرمة بالإجماع، وإن أراد أنه لا يجوز للقاضي أن يأخذ أجرة على القضاء من أموال الله، فهو باطل بإجماع المسلمين، وبما قدمناه من الأدلة، وإن أراد أنه لا يأخذ ما يأخذه [6ب] من أموال الله على نفس الحكم، بل يأخذه على ما يزاوله من مقدمات الحكم كالنظر في الشهادة، والإقرار، وقرائن الأحوال، فذلك مبني على تحريم أخذ الأجرة على الأمور الواجبة، وفيه عندي إشكال لا يتسع له المقام لطول ذيله، وتشعب أطرافه. وليس في ذلك دليل يدل على تحريمه إلا ما روي من حديث (¬2) أبي في القوس الذي أهداه إليه بعض أهل الصفة، وكان يتعلم عليه القرآن، وفي الحديث ضعف، وفي وجه دلالته إشكال، وهو معارض بما هو أرجح منه (¬3)، مع كونه أخص من الدعوى على أن تلك المقدمات التي سوغ القائل بالمنع ¬

(¬1) في هامش الأصل: الظاهر أن البطلان لشيء آخر وهو جهالة العمل، وفي البحر ما نصه: فرع (ي) - أي الإمام يحيى - لا يصح عقد الإجارة على القضاء إذ العمل غير معلوم. انتهى. (¬2) أخرجه ابن ماجه رقم (2158) والبيهقي في " السنن الكبرى " (6/ 125 - 126) وهو حديث صحيح بشواهده. انظر هذه الشواهد في " الصحيحة " (رقم 256، 257، 258، 259، 260). (¬3) منها ما أخرجه البخاري رقم (5737) من حديث ابن عباس " أن نفرًا من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مروا بماء فيهم لديغ أو سليم فعرض لهم رجل من أهل الماء فقال: هل فيكم من راق فإن في الماء رجلاً لديغًا أو سليمًا، فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء فجاء بالشاء إلى أصحابه، فكرهوا ذلك وقالوا: أخذت على كتاب الله أجرًا حتى قدموا المدينة فقالوا يا رسول الله: أخذ على كتاب الله أجرًا! فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله ". وأخرجه البخاري في " صحيحه " رقم (2276، 5007، 5736، 5749) ومسلم رقم (2201) وأحمد (3/ 10، 44) وأبو داود رقم (3900) والترمذي رقم (2064) وابن ماجه رقم (2156) من حديث أبي سعيد.

من الأجرة على الحكم أخذ الأجرة عليها هي مما لا يتم الواجب إلا به فهي من مقدمة الواجب، وحكمها حكمه كما تقرر في الأصول (¬1)، فيعود الإشكال على من سوغ أخذ الأجرة عليها، ويقال له مقدمة الواجب (¬2) كالواجب، لا فرق بينهما. وبالجملة فنحن لا نقول إن القاضي يأخذ من أموال الله على نفس الحكم، ولا على مقدماته، بل نقول يأخذ من بيت المال ما يقوم بكفايته وكفاية من يمون، لأنه قد شغل بهذه الأعمال التي هي في مصالح المسلمين ومنافعهم عن التكسب لنفسه ولأهله، والسعي فيما يقوم بمعاشه، ويغنيه عن تكفف الناس كما كان من الصديق - رضي الله عنه - مما سمعته قريبًا، فاشدد يديك على هذا، واحرص عليه، ودع عنك ما يقوله المشتغلون بعلم الرأي من كون هذه أجرة على واجب، هذه أجرة على حرام، ونحو ذلك من العبارات، فإن الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهة (¬3)، والمؤمنون وقافون عند الشبهات، [7أ] فما يأخذه أهل الأعمال كالقاضي من ثبوت الأموال قد ثبت ¬

(¬1) يشير إلى القاعدة الأصولية وهي " ما لا يتم الواجب المطلق إلا به وكان مقدورًا للمكلف فهو واجب. قال الزركشي في " البحر " (1/ 223 - 224) " ما لا يتم الواجب إلا به، هو إما أجزاء الواجب، أو شروطه الشرعية، أو ضروراته العقلية والحسية، لا تنفك عن هذه الثلاثة. فالأول، واجب بخطاب الاقتضاء. والثاني: بخطاب الوضع، والثالث: لا خطاب فيه فلا وجوب فيه لأن الوجوب من أحكام الشرع. انظر: " الأشباه والنظائر " لابن الوكيل (1/ 400)، " الإحكام " للآمدي (1/ 157)، " الإبهاج في شرح المنهاج " للسبكي (1/ 103). (¬2) قال الزركشي في " البحر " (1/ 223): وأما ما يتوقف عليه إيقاع الواجب ودخوله في الوجود بعد تحقق الوجوب: فإن كان جزءًا فلا خلاف في وجوبه، لأن الأمر بالماهية المركبة أمر بكل واحد من أجزائها ضمنًا، وإنما الخلاف إذا كان خارجًا كالشرط والسبب، كما تقرر أن الطهارة شرط. ثم ورد الأمر بالصلاة فهل يدل الأمر بها على اشتراط الطهارة؟ هذا موضع النزاع؛ ولهذا عبر بعضهم عنه بالمقدمة، لأن المقدمة خارجة عن الشيء متقدمة عليه. بخلاف الجزء فإنه داخل فيه. (¬3) تقدم تخريجه.

بالشرع، وصح عن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وعن الخلفاء الراشدين، ولم يسمع عن أحدهم أنه قال في أعمال القاضي أو الوالي ما هو واجب عليه، فلا يحل له أن يأخذ عليه أجرًا، بل قالوا إنه قد شغل عن أعماله الخاصة بنفسه وأهله في تحصيل رزقهم، والاحتراف لهم بالأعمال العامة لمصالح المسلمين، وكان رزقه ورزق أهله، ومن يعول من بيت مال المسلمين، فنحن نقول كما قالوا، ونعمل على ما عملوا عليه، ونفتي بما أفتوا به، ولا نجاوز ذلك إلى تلك التفاصيل التي جاء بها أهل الرأي، فقد أغنتنا الرواية عن الرأي، والدليل عن الدراية. وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل (¬1). فإن قلت: فما تقول فيما يأخذه القاضي (¬2) ونحوه من الرزق الذي يعرضه له الإمام أو السلطان من بيت المال إذا كان بيت المال قد اختلط فيه المعروف بالإنكار، والحق بالباطل، والعدل بالجور؟. قلت: إن كان يقنعك الجواب بما قاله أهل العلم المتكلمين على هذه المسألة ونحوها من المسائل فاعلم أن في كلامهم ما يغنيك عن هذا السؤال، لأن هذا المال غاية ما فيه أن بعضه مأخوذ على وجه العدل، وبعضه مأخوذ على وجه الجور، وما أخذ على وجه الجور إن كان متميزًا معلومًا وصاحبه معروفًا لا يلتبس بغيره كان على صاحب العمل القابض رزقه من ذلك أن يرده على صاحبه إن كان ما قبضه هو عين مظلمة ذلك الرجل [7ب]؛ فالحلال بين والحرام بين، وإن كان ما يدفعه السلطان إليه قد اختلط ¬

(¬1) تقدم ذكر معنى المثل. يضرب في الاستغناء عن الأشياء الصغيرة إذا وجد ما هو أكبر منها وأعظم نفعًا. ونهر معقل: في البصرة وقد احتفره معقل بن يسار في زمن الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فنسب إليه. انظر: " مجمع الأمثال " للميداني (1/ 88)، " الأمثال اليمانية " (1/ 95 رقم 237). (¬2) تقدم توضيحه. انظر: " فتح الباري " (13/ 150).

على وجه لا يتميز، بل كان بعضه من أموال الله مأخوذ على وجه العدل، وبعضه مظلمة ملتبسة، فمصارف المظالم الملتبسة على كلامهم معروف، وهذا القاضي ونحوه منهم، وإن كان لا يقنعك الجواب بما قاله أهل العلم، فاعلم أن ما يأخذه القاضي ونحوه هو عوض ما تركه من الاحتراف على نفسه، ومن يمول بالاحتراف على ما هو مصلحة عامة من مصالح المسلمين، فما دفعه إليه السلطان أخذه. وقد صح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كما ثبت في الصحيح أنه قال: «ما جاءك من هذا المال - وأنت غير مستشرف، ولا سائل - فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك» (¬1). فيأخذ ما دفع إليه إن كان لا يعلم فيه بشيء يحرم عليه، فإن علم فيه ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (1473) وطرفاه (7163، 7164)، ومسلم رقم (1045) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. قال ابن حجر في " الفتح " (13/ 154) قال الطبري: في حديث عمر الدليل الواضح على أن من شغل بشيء من أعمال المسلمين أخذ الرزق على عمله ذلك، كالولاة والقضاة وجباة الفيء وعمال الصدقة وشبههم لإعطاء رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمر العمالة على عمله. وذكر ابن المنذر أن زيد بن ثابت كان يأخذ الأجر على القضاء. قال ابن بطال في تعليل الأفضلية - ما جاء من المال عن غير سؤال أفضل من تركه - أن الأخذ أعون في العمل وألزم للنصيحة من التارك، لأنه إن لم يأخذ كان عند نفسه متطوعًا بالعمل، فقد لا يجد جد من أخذ ركونًا إلى أنه غير ملتزم بخلاف الذي يأخذ، فإنه يكون مستشعرًا بأن العمل واجب عليه فيجد جده فيها. قال القرطبي في " المفهم " (3/ 90): قوله " وأنت غير مشرف ولا سائل " إشراف النفس: تطلعها وتشوفها وشرحها لأخذ المال. ولا شك أن هذه الأمور إذا كانت هي الباعثة على الأخذ للمال، كان ذلك من أدل دليل على شدة الرغبة في الدنيا والحب لها، وعدم الزهد فيها، والركون إليها والتوسع فيها، وكل ذلك أحوال مذمومة. فنهاه عن الأخذ على هذه الحالة اجتنابًا للمذموم، وقمعًا لدواعي النفس، ومخالفة لها في هواها. فإن من لم يكن كذلك جاز له الأخذ للأمن من تلك العلل المذمومة. وقال القرطبي في " المفهم " (3/ 91) وهذا الحديث أصل في أن كل من عمل للمسلمين عملاً من أعمالهم العامة: كالولاية، والقضاء والحسبة والإمامة فأرزاقهم في بيت مال المسلمين، وأنهم يعطون ذلك بحسب عملهم.

بشيء يحرم عليه وجب عليه أن يرده لصاحبه إن كان معينًا معلومًا، فإن كان ملتبسًا فالمفروض أن هذا المتولي للقضاء ونحوه مجتهد متمكن من النظر لنفسه فيما يعرض له من الأمور الخاصة من النظر فيما يعرض له من الأمور العامة، فعليه أن ينظر في هذا المال المتصف بتلك الصفة نظرًا يلقي به الجواب بين يدي الله - عز وجل - ويعمل على ذلك فيصرفه فيما يوجبه ذلك النظر ويقتضيه وجه الشرع، ومر الحق، ويعمل لنفسه كما يعمله بين الخصوم، فيجعل الخصومة بينه وبين نفسه، والحاكم كتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، وحسبي الله ونعم الوكيل [8أ].

إرشاد السائل إلى دلائل المسائل

(143) 14/ 3 إرشاد السائل إلى دلائل المسائل تأليف محمد بن علي الشوكاني حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه محفوظة بنت علي شرف الدين أم الحسن

وصف المخطوط: الأسئلة: 1 - عنوان الرسالة: " هذا السؤال ورد إلي من بلاد أبي عريش وأجيب بما سيأتي ". 2 - موضوع الرسالة: " أسئلة فقهية ". 3 - أول المخطوط: " بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. وبعد: فهذه أسئلة موجهة إلى من يؤمل عنده بيانها للمسترشدين 4 - آخر المخطوط: تمت السؤالات بحمد الله الموفق لمن أراد من عبادة من الكمالات والتفضل على عبده بما شاء من الطاعات مع الاستعمالات بمنه وكرمه آمين آمين آمين. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 8 صفحات. 7 - عدد الأسطر: 23 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 10 - 11 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. وبعد: فهذه أسئلة موجهة إلى من يؤمل عنده بيانها للمسترشدين، معولاً معتمدًا في فتواه على الكتاب والسنة، غير مقلد لمن يقدمه من الأئمة. السؤال الأول: هل يجوز للحاكم متولي القضاء فصل الأقضية بين المسلمين أن يحكم بين الغريمين بما يعرفه من كتب أهل مذهبه، وسماعه على أستاذه، مع عدم تمكنه من الدليل عند ورود الحادثة عند من يقول بعدم صحة قضاء المقلد، لأنه إن ترك الغريمين حتى يبحث عن الدليل أدى إلى المخالفة والمشاققة، وإثارة الفتنة، فهل الراجح الترك؟ وإن وقعت الفتنة هلا يظهر من هذا الحديث جواز التقليد «عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» (¬1) فقد تدينا إلى الأخذ بأقوال الصحابة، وهو عين التقليد. الفائدة مطلوبة. السؤال الثاني: عن حال الأعراب سكان البادية الذي ليس معهم من أمور الشريعة إلا التكلم بالشهادتين، وإن وجدنا منهم الفرد يصلي، فهي صلاة ناقصة لا وضوء لها مستكمل، ولا أركان، ومنهم من يصوم وإن حج الشاذ فهو مقلد لأهل الحضر لا ¬

(¬1) أخرجه أحمد (4/ 26 - 27) وأبو داود رقم (4607) والترمذي رقم (2667) وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه رقم (43، 44) والدارمي (1/ 44 - 45) وابن حبان في صحيحه رقم (5) وهو حديث صحيح. عن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: " صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع، فما تعهد إلينا؟ قال: " أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدًا حبشيًا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ".

حقيقة عنده بأن الحج من فرائض الله المكتوبة عليه بشرطه الاستطاعة، والتخلص من كل حق، وهم أهل منعة في بلدهم. هل يجوز للمسلمين غزوهم إلى دورهم، وقتلهم ونهب أموالهم؟ وقد ورد في الحديث (¬1) «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ومتى قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» فإن يقال يجب على أهل الحضر تعليمهم أركان الإسلام بعد معرفتهم الشهادتين، والتكلم بهما، ومتى تمردوا عن قبول التعليم جاز غزوهم. نقول: علمنا يقينًا من هؤلاء عدم قبول التعليم مع المخالطة لهم، وهم لا يجحدون الواجبات إذا عرفناهم بما جهلوه، إنما يغلب عليهم إبليس [1] بل لا يصبرون نفوسهم على مخالفته، فهل يجوز مع هذا قتلهم ونهب أموالهم؟ وهل دارهم دار حرب؟ مباح كل ما فيها، وإن لم يحاربونا الفائدة مطلوبة. فلأهل المذاهب أقوال مختلفة، والرجوع إلى الكتاب والسنة هو الأكمل الأتم. السؤال الثالث: عن الأحاديث المصرحة بنجاة أهل البيت عن طرف على طرف على الإطلاق، وأن عصاتهم لا يعاقبون بالنار مع عصاة الأمة تكريمًا للمصطفى - صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه الخلفاء الراشدين -، وقد ورد في القرآن العظيم بالوعيد على التعميم من ذلك قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها} (¬2)، وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} (¬3) إلى قوله: {ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا} (¬4)، وفي آية أخرى: {ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا} (¬5) ¬

(¬1) وهو حديث متواتر له طرق عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. انظر هذه الطرق في الرسالة رقم (4) (ص347 - 349). (¬2) [النساء: 93]. (¬3) [النساء: 29]. (¬4) [النساء: 30]. (¬5) [الفرقان: 68 - 69].

، وفي الحديث: «إذا مشى الرجل إلى الرجل فقتله فالقاتل في النار، والمقتول في الجنة» (¬1)، وكم نعد من الآيات والأحاديث! ومما ورد في نجاتهم ما أخرجه الحاكم (¬2) عن أنس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «وعدني ربي في أهل بيتي من أقر منهم بالتوحيد ولي بالبلاغ ألا يعذبهم»، وما أخرجه ابن سعد عن عمران بن الحصين قال: «سألت ربي أن لا يدخل النار أحدًا من أهل بيتي فأعطاني ذلك» (¬3)، وأخرج الطبراني (¬4) .................................................. ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في " الأوسط " رقم (1994) من حديث عبد الله بن عمر. وأورده الهيثمي في " المجمع " (7/ 297) وقال: " رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح ". (¬2) في " المستدرك " (3/ 150). وقال: صحيح الإسناد، ورده الذهبي بقوله " بل منكر لم يصح ". قلت: وأخرجه ابن عدي في " الكامل " (5/ 1704) وقال ابن عدي: " وقوله: في أهل بيتي " في هذا المتن منكر بهذا الإسناد ". وأورده السيوطي في " الجامع الصغير " رقم (9623) ورمز لصحته. وضعفه المناوي والمحدث الألباني. وعلته: " عمر بن سعيد البصري الأبح " فهو منكر الحديث قاله البخاري. وخلاصة القول أن الحديث منكر، والله أعلم. (¬3) عزاه إليه المناوي في " فيض القدير " (4/ 77). وعزاه أيضًا لأبي القاسم بن بشران في " أماليه " ولأبي سعيد في " شرف النبوة " والملا في " سيرته " من حديث عمران بن حصين. وهو عند الديلمي وولده بلا سند. ورمز السيوطي في " الجامع الصغير " رقم (4605) لضعفه. وحكم الألباني عليه بالوضع في ضعيف الجامع وفي " الضعيفة " رقم (322). (¬4) في " الكبير " (3/ 41 - 42 رقم 2625) و (22/ 406 - 407 رقم 1018). قلت: وأخرجه البزار (3/ 235 رقم2651 - كشف) والحاكم (3/ 152) والعقيلي في " الضعفاء " (3/ 184 رقم 1179) وابن عدي في " الكامل " (5/ 1714) وأبو نعيم في " الحلية " (4/ 188) وابن الجوزي في " الموضوعات " (1/ 422) من طريق معاوية بن هشام ثنا عمر بن غياث، عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود مرفوعًا. قال الهيثمي في " المجمع " (9/ 203): رواه الطبراني في " الكبير " وفيه عمرو بن عتاب، وقيل: ابن غياث، وهو ضعيف. قال ابن عدي: " وهذا لا يرويه عن عاصم غير عمر بن غياث، ولا عن عمر غير معاوية، ولم يسنده عن معاوية غير أبي كريب وعلي بن المثنى ". وقال أبو نعيم: " هذا حديث غريب، تفرد به معاوية ". وقال الحاكم: " صحيح الإسناد " ورده الذهبي بقوله: " قلت: بل ضعيف تفرد به معاوية وضعف، عن ابن غياث وهو واه بمرة ". * وأخرجه بن شاهين في " فضائل فاطمة " رقم (11): من طريق حفص بن عمر الأيلي، ثنا عبد الملك بن الوليد بن معدان، وسلام بن سليمان القاري عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، عن حذيفة بن اليمان، مرفوعًا. قلت: فيه حفص بن عمر كذاب، انظر " المجروحين " (1/ 257) والميزان (1/ 560) وعبد الملك بن الوليد ضعيف لا يحتج به. " الميزان " (2/ 666). وقال ابن تيمية في " منهاج السنة " (4/ 62): " هذا الحديث كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث ". * وأخرجه ابن شاهين في " فضائل فاطمة " رقم (12) من طريق تليد، عن عاصم، عن زر عن عبد الله مرفوعًا. قلت: فيه: تليد بن سليمان كذبه أحمد بن حنبل وابن معين، وقال: دجال لا يكتب عنه، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ". انظر " الميزان " (1/ 358). وخلاصة القول أن الحديث موضوع والله أعلم.

والدارقطني (¬1) عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «إن فاطمة أحصنت فرجها فحرم الله ذريتها على النار»، وغير ذلك تركناها اختصارًا، فإذا صح الحديث هذا كيف العمل بآيات الوعيد العامة للمرسل إليهم؟ هل هذه الآيات تخصصهم من بين الأمة؟ [2] وقد قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - «لما نزلت الآية ¬

(¬1) لم أجده في سننه.

الكريمة: {وأنذر عشيرتك الأقربين} (¬1) دعا بأعلى صوته: " يا بني عبد المطلب، يا بني هاشم، يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئًا» (¬2) فإذا صح حديث النجاة على الإطلاق، وأن الذرية لهم أخصية عن الأمة بكون ذنوبهم مغفورة، سواء كانت الذنوب عن حق الله أو لعباده أوضحوا ما تطمئن به النفس بصرف آيات الوعيد عن الظواهر، وإذا قال قائل: إن الأحاديث واردة فيمن دخل تحت الكساء من أولاد فاطمة (¬3) فلفظ الحديث مشعر بعموم الذرية، وإن يقال: إنهم يختم لهم في آخر أعمارهم، يقال له فشاهد الكثير منهم يموت إما بالقتل أو فجأة أو قبل أن يتخلص من حقوق الآدمي، فأشكل علينا الأمر على فرض صحة الحديث، فاستمدينا ما يزيح الإشكال ويريح البال. السؤال الرابع عن حال أهل مدينة جمعهم وجماعتهم واحدة إلا أن اعتقاداتهم متباينة في أمور أهمها وأولاها بالبحث والاسترشاد اختلافهم في شأن الخلافة بعد المصطفى - صلوات الله عليه وعلى آله الحنفاء - فطائفة تقول: إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب هو الأحق بمقام الخلافة بعد نبينا المبعوث رحمة للعالمين، وأن من تقدمه من الثلاثة الخلفاء مخالف للصواب، إلا [أن] (¬4) لهم شيئًا من التفائض ملاحظة لسوابقهم بين يدي معلم الشريعة من بذل أنفسهم وأموالهم، ولهم أدلة ناهضة في معتقدهم، والطائفة الثانية تقدم ¬

(¬1) [الشعراء: 214]. (¬2) وهو جزء من حديث أخرجه البخاري رقم (4771) ومسلم رقم (351/ 206) والترمذي رقم (3185) والنسائي رقم (3644) من حديث أبي هريرة. (¬3) عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج علينا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غداة وعليه مرط مرحل، من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} [الأحزاب: 33]. (¬4) في " المخطوط " أنهم والصواب ما أثبتناه.

الثلاثة مطابقة للواقع لا عن نص قاطع، وحملوا الصحابة على السلامة حتى أداهم حملهم على سلامتهم من الخطأ، وهم لا يثبتون لهم عصمة إن أدخلوا معاوية ومن شايعه في مسمى الصحابة المترضى عنهم. ومع ما قد ورد في صحيح الخبر أن رئيس الفئة الباغية قتلة عمار بن ياسر (¬1)، وقد حارب عليًا وعاداه القائل في حقه الصادق [3] المصدوق بمشهد من الصحابة، وخشي الجفاء بعد ترحم: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله " (¬2) وهذه الأخواض وإن كنا غير متعبدين بها إلا أنه يتحصل منها موالات من يجب موالاته، ومعاداة من يجب علينا معاداته، والموالاة والمعاداة لها أصل في الشريعة، فإن الترضية عن الباغي موالاة، وشتمه معاداة. قال تعالى: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله} (¬3) إلى آخر الآية، فإذا كان هذا حال أهل البلد في المخالفة وتخطئة كل للآخر، هل أحدهما يصيب والآخر يخطئ؟ أم يصيبان؟ أم يخطئان؟ وكيف حال صلاة أحد هؤلاء بعد الآخر على ما يعتقده من خطئه في هذه العقيدة؟ وإن أتى بصلاته كاملة الشروط على مذهبه، وهل يصوغ أن يترك من أراد الحضور معهم لجمعة أو جماعة، أم كيف يكون الحال معهم؟ بينوا الطريقة المنجية لجايئها بحسب ما عرفتم. السؤال الخامس عن الاجتماعات في المساجد للدرس على الميت والتعزية ثلاثة أيام، ويقع من الإنشاد ما صار حكم اللازم، ثم البيوت لقراءة المواليد ليلة سابع ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (73/ 2916) وأحمد (6/ 289، 300، 315) والبيهقي في " السنن الكبرى " (8/ 189) والطيالسي (1598) والنسائي في " فضائل الصحابة " (170) والطبراني في " الكبير " (23/ 852 و854 و855، 856) والبغوي في " شرح السنة " رقم (3952) من طرق، من حديث أم سلمة. قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تقتل عمارًا الفئة الباغية ". (¬2) أخرجه الطبراني في " الكبير " (4/ 16 - 17 رقم 3514). وأورده الهيثمي في " المجمع " (9/ 106) وقال: ورجاله وثقوا. (¬3) [المجادلة: 22].

المولود وختانه، وغير ذلك. وفي شهر رجب ونحوه أمور ما ورد عن الشارع فعلها إلا أنه إذا دعاك جارك أو قريبك إلى الحضور ولم تحضر تكدر خاطره، وإذا لم تحضر معه في المسجد للعزاء تعبت نفسه أعظم، وربما ينسبك إلى التكبر، وإن حضرت معه طابت نفسه، فهل يسوغ الحضور طلبًا لحسن المخالقة التي لها أصل في الشريعة، وجبر خواطر مكسورة من فراق الأحبة؟ أم تقول هذه مبتدعات لا يلاحظ بها مخالفة ولا معاشرة؟ وهل هذه البدعة تخرجهم عن وصيفة تسميتهم بالمؤمنين، أم تقول صاروا أهل بدع لا تصوغ مخالطتهم ولا حضور جماعتهم، ويجب الإنكار لمن أمكنه ذلك؟. السؤال السادس عن الحلف برأس أبيه، أو بولي من الأولياء أو بالسلطان، وهو غير قاصد بالمحلوف به المشاركة في عظمة الله - تعالى جلاله - بل صارت عادة [4] لأهل البلد في محاوراتهم، وربما يقصد المميز منهم تنزيه الله - تعالى - أن يحلف به، ويحنث، وإذا حنث عند الحلف بأبيه أو بولي خف عليه الأمر. السؤال السابع عن تبقية شعر الرأس، هل هو مسنون إذا علم عن نفسه التقصي على تخليله بالماء عند وجوب الغسل، أم يجب عليه إزالته حذرًا من عدم الإتيان بالواجب، وهو تخليله بالماء؟ على أنه كان في عصر معلم الشريعة - صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين - وفي خير القرون بعده جل أهله لهم لمم من الشعر، ولم يرد الإنكار عليهم، أو تقول: تركه في هذا الزمن من باب: دع ما لا بأس به حذرًا مما به البأس. السؤال الثامن عن أمر يتعلق بأمور متعلقة بالمال، وذلك عن أرض فيها أثار ملك متقادمة، وقد صارت بعيدة عن الحي مغمورة بالأشجار، بل قد صارت مأوى للقطاع، ولم يعرف لها مالك محقق، إنما بعض أفراد من الناس بأيديهم مرقومات قديمات قاضية بأن لأوائلهم أملاكًا في هذه المحلات ملتبسة بغيرها، لا يمكن تمييزها، فهل يصوغ لآحاد المسلمين إن استطاع البسوط على بعضها أو كلها، ويبقي أشجارها ويجعلها مزرعة، وتكون من أملاكه، أم تقول ليس له ذلك، إنما تبقى على نظر ذي الولاية يقسطها في طرق المصالح، أو كيف يكون الحال فيها، فإنها إذا بقت على حالها لا نفع فيها لأحد

من المسلمين، بل تكون مأوى للمتخربين، وقد لا يستطيع على الإقامة بها، وبتخريج أشجارها إلا ذو شوكة كسلطان البلد، فإنه ربما يعمرها للسكنى، ويتحول مكان المخافة أمنًا؟ ومع العناية بالحرث والزرع يعيش بها الناس والمواشي مما هذا حاله من الأرض، فهل يكون فيه حقًا لغير الباسط المغالي كذلك من جهل مالكه أو علم وجهل محل ملكه على السواء، أم بينهما فارق بينوا وأفيدوا؟. السؤال التاسع عن المال الذي تأخذه الولاة من الرعايا مثل الزكوات، [5] والتأديب بالمال عند حصول قتل أو نحوه، هل يصوغ له ذلك؟ وهؤلاء الرعايا لا يتخلصون من الواجبات من نفوسهم إلا غلبت عليهم العامية، وأكثرهم لا يقوم بحقوق الله تعالى من صلاة وصيام، فضلاً عن تأدية زكاة شرعية في مصارفها، فما يكون حال هذا الذي يقبضه منهم السلطان، هل هو صائغ في حقه، أم نقول لا حق عليهم في أموالهم، وإن كانوا عصاة؟ وهل يجوز للسلطان إذا قلتم له أخذ هذا المال منهم أن يدفعه إلى من يخشى ضرره على البلد يألفهم بذلك، أم ليس له إلا صرفه في مستحق الزكاة في مصارفها ومال التأديب في المصارف؟ نعم وما هو الذي يجب في المال بعد الزكاة؟ والذي يجوز تناوله منه؟ وما هو الذي يستباح عنده الدم والمال إذا ارتكبه من يستحق ذلك؟ فإن القتل لا يكون إلا لكافر حربي، أو مرتد، أو عن قصاص، أو زان محصن؛ فالمال ليس فيه حق غير الزكاة، فالعالم بنيان الله، والله يغضب إذا هدم بنيانه من غير حق، وليس المراد إلا بيان ما جهلناه، والله يعلم أن المراد الاستفادة وتنقيح المراد من كتاب أو سنة، ومن هداه الله إلى العمل بهما فهو السعيد في الأزل. كذلك وقع من أفعال المسلمين ما لم يقع في عصر الرسول - صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين - ولا في وقت الخلفاء من بعده من عمارة المنائر والصوامع في المساجد في حرم الله، وحرم رسوله، وفي غيرهما من المدن، واختصاص كل أهل مذهب من المذاهب بمحل يصلون فيه، ثم التعلية في البيوت فوق الحاجة إلا أنه لا ضرر في ذلك

على مسلم، فهل المبتدع لا يجب إنكاره إلا مع حصول المصادرة فيه أم يقولون كل مبتدع تجب إزالته لمخالفته أفعال الرسول؟ ولا تقع بدعة مستحسنة في الدين، فإن أكثر الموجودات المشاهدات ما فعلها الرسول، ولا أمر بها إنما استحسنها المسلمون. وقد ورد: ما " رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن " (¬1)، والله أعلم بصحة هذا. وقد [6] جرى على هذا العلماء في كل عصر من مدة حدوث المقامات بالحرم الشريف إلى وقتنا هذا ما أنكرها عالم، ولا أقام عليها دليلاً، بل قصارى ما نقوله بدعة مستحسنة لا يجب الإنكار على فاعلها، فالفائدة مطلوبة عن جميع ما حررناه، وسألنا لإزاحة ما في النفس من اللبس عند كثرة الواردات التي ما تلقيناها من محقق منصف لا غرض له فيما يرويه. والمقصود - والله - الاطلاع على ما يكون هو الحق - إن شاء الله تعالى - ثم البحث أيضًا عن أفعال العباد الصادرة من الفعل القبيح، وارتكاب المحرمات التي يغضب الله لها، ويعاقب عليها، هل هي بمقدورات الله التي لا يستطيع العبد مدافعة نفسه عند ¬

(¬1) أخرجه أحمد (22/ 170 - الفتح الرباني). وأورده الهيثمي في " المجمع " (1/ 177 - 178) وقال: رواه أحمد والبزار، والطبراني في " الكبير " (9/ 118 رقم 8582) ورجاله موثقون ". وأخرجه الطيالسي في " المسند " (ص33 رقم 69) وأبو نعيم في " الحلية " (1/ 375) وأورده السخاوي في " المقاصد الحسنة " (ص581). وقال عقبه " وهو موقوف حسن " وابن الديبع في " التمييز " (ص146) والزرقاني في " مختصر المقاصد " (ص168) والعجلوني في " كشف الخفاء " (2/ 245). وأخرجه الحاكم (3/ 78 - 79) من قوله " فما رأى المسلمون ..... " وزاد " وقد رأى الصحابة جميعًا أن يستخلفوا أبا بكر - رضي الله عنه - وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. قلت: والخلاصة أنه موقوف حسن ولا أصل له في المرفوع. وهو أثر عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: " إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسنًا، وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيء ".

إتيانها، أم هي باختيار ورغبة منه؟ وإنما العلم لله سابق بأن العبد يفعلها. وفي الحديث: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» (¬1). فمن الميسر له على فعل الطاعة والمعصية، فهذه المسائل هي - والله - لمراد الفائدة، والأعمال بالنيات. ثم ما هو المعتمد لديكم بالدليل الصحيح في استعمال شجرة التنباك التي عمت به البلوى في جميع البلدان؟ فالأشجار أصلها الإباحة إلا ما ورد الشرع بتحريمه، ولم يرد عن الشارع تحريم استعمال شجر بعينه إلا أنكر قياسًا على الخمر، أو قوله: «كل مسكر حرام» (¬2) إذا ورد لفظ الحديث هكذا أو بالمعين. والتتن هذا لم يكن من المسكرات، ولا بأس بأنه مستقذر عند العلماء والمتعلمين، وقد يشغل عن المحافظة على توقيت الصلوات المفروضة، وإذا قيل إنه يغير رائحة الفم فيشغل المصلين في الجماعة. نقول: إذا كانت على التحريم هذا على فرض القول بحرمة استعماله قد يستعمل شاربه ما يذهب خبث رائحته من الفم فتزول العلة، وإنما المطلوب الدليل على حرمته لعينه، أو بقائه على أصل الإباحة، فإن يوجد الدليل الواضح على التحريم فبها ونعمت، وإن هو مستنبط من [7] أدلة فذاك، إنما حيث كان حدوثه في بعد من البعثة، وأوقات الصحابة والتابعين، وما بقي إلا فجعل دليله من طريق القياس الذي لا يحتج إليه من عمله على صرائح الآيات والسنة، وإذا جعلنا العلة في تحريمه إشغال شاربه عن التوقيت فغيره مثله من الأمور الملهية التي أصلها الإجابة، والفائدة مطلوبة - لا ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4947) (4949) ورقم (6217) ومسلم رقم (2647) من طرق عن علي بن أبي طالب. (¬2) أخرجه مسلم رقم (2003) وأبو داود رقم (3679) والترمذي رقم (1861) وقال: حديث حسن صحيح. والنسائي (8/ 297 رقم 5586) وأحمد (2/ 16) والطبراني في " المعجم الكبير " (12/ 312 رقم 13213) (12/ 332 رقم 13268) وابن ماجه رقم (3390) عن ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ".

برحتم في مقام الإفادة -، كذلك التوسل بالأنبياء والأولياء وكل من له درجة رفيعة، هل هو جائز ولا ينكره أحد من العلماء، أم مكروه، أم هو خلاف الأولى؟ بينوا لنا ذلك بالأدلة الصحيحة - جزيتم خيرًا -، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. تمت السؤالات بحمد الله الموفق لمن أراد من عباده من الكمالات، والمتفضل على عبده بما شاء من الطاعات مع الاستعمالات بمنه وكرمه آمين آمين آمين.

وصف المخطوط: الأجوبة: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " إرشاد السائل إلى دلائل المسائل ". 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا. وسيئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضل 4 - آخر الرسالة: جواب هذه الأسئلة على انفراده على كراريس، فما الظن بجميعها، والحمد لله أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا. فرغ من تحريره المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما في ليلة الأحد لعلها ليلة العشرين من محرم سنة 1217. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - عدد الصفحات: 22 ما عدا صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 19 سطرًا ما عدا الصفحة الأخيرة ففيها 6 أسطر. 8 - عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات. 9 - الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

[نص الأجوبة] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فما له من هاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. (وبعد): فإنه أرسل إلي بعض الأعلام بأسئلة يذكر أنها من المخلاف السليماني (¬1)، وأنه حصل الاختلاف بين أهله في شأنها. وحاصل السؤال الأول: هل الراجح جواز قضاء المقلد أم لا؟ وأقول: الأوامر القرآنية ليس فيها إلا أمر الحاكم بأن يحكم بالعدل والحق، وما أنزل الله، وما أراه الله، ومن المعلوم لكل عارف أنه لا يعرف هذه الأمور إلا من كان مجتهدًا؛ إذا المقلد (¬2) إنما هو قائل قول الغير دون حجته، ولا طريق إلى العلم بكون الشيء حقًا أو عدلاً إلا الحجة، والمقلد لا يعقل الحجة إذا جاءته، فكيف يهتدي للاحتجاج بها! وهكذا لا علم عنده بما أنزل الله، إنما عنده علم بقول من هو مقلد له، فلو فرض أنه يعلم بما أنزل الله، وما جاء عن رسول الله -[صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ]- علماً صحيحًا لم يكن مقلدًا، بل هو مجتهد، وهكذا لا نظر للمقلد، فإذا حكم بشيء فهو لم يحكم بما أراه [1] الله، بل بما أراه إمامه (¬3)، ولا يدري أذلك القول الذي قاله إمامه ¬

(¬1) تقدم تعريفها. (¬2) التقليد اصطلاحًا: هو العمل بقول الغير من غير حجة، فيخرج العمل بقول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والعمل بالإجماع ورجوع العامي إلى المفتي ورجوع القاضي إلى شهادة العدول، فإنها قد قامت الحجة في ذلك. " إرشاد الفحول " (ص862)، " المسودة " (ص553). انظر: الرسالة رقم (60). (¬3) قال الزركشي في " البحر " (6/ 281) عن المزني أنه قال: يقال لمن حكم بالتقليد، هل لك من حجة؟ فإن قال: نعم، أبطل التقليد؛ لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد. وإن قال بغير علم قيل له: فلم أرقت الدماء وأبحت الفروج والأموال وقد حرم ذلك إلا بحجة؟ فإن قال: أنا أعلم أني أصبت وإن لم أعرف الحجة؛ لأن معلمي من كبار العلماء، قيل له، تقليد معلم معلمك أولى من تقليد معلمك؛ لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عن معلمك كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عنك، فإن قال: نعم، ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه. وكذلك حتى ينتهي إلى العالم من الصحابة، فإن أبى ذلك نقض قوله وقيل له: كيف يجوز تقليد من هو أصغر وأقل علمًا، ولا يجوز تقليد من هو أكبر وأغزر علمًا، وقد روي عن ابن مسعود أنه قال: لا يقلد أحدكم دينه رجلاً إن آمن آمن وإن كفر كفر فإنه لا أسوة في الشر. أخرجه ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " (2/ 114). وقال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص872) تعقيبًا على ذلك: وعند أن ينتهي إلى العالم من الصحابة، يقال له: هذا الصحابي أخذ علمه عن أعلم البشر المرسل من الله إلى عباده المعصوم عن الخطأ في أقواله وأفعاله، فتقليده أولى من تقليد الصحابي الذي لم يصل إليه إلا شعبة من شعب علومه، وليس له من العصمة شيء. ولم يجعل الله سبحانه قوله ولا فعله ولا اجتهاده حجة على أحد من الناس. انظر: " أعلام الموقعين " (2/ 196 - 197).

موافق للحق أم مخالف له. وبالجملة فالقاضي هو من يقضي بين المسلمين بما جاء عن الشارع كما جاء في حديث معاذ (¬1) عند أبي داود، والترمذي أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لما أراد أن يبعث معاذًا إلى اليمن «قال: كيف تقضي إذا اعترض لك القضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال فبسنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله -[صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]- لما يرضي رسول الله». وهذا الحديث وإن كان فيه مقال فقد جمع طرقه وشواهده الحافظ ابن كثير في جزء وقال: هو حديث حسن مشهور اعتمد عليه أئمة الإسلام. وقد أخرجه أيضًا أحمد، وابن عدي، والطبراني، ¬

(¬1) وهو حديث ضعيف تقدم بطرقه. انظره في الرسالة رقم (139).

والبيهقي، ولأئمة الحديث كلام طويل في هذا الحديث، فبعضهم يقول: باطل لا أصل له، وبعضهم يقول: حسن معمول به، وبعضهم يقول: ضعيف، والحق أنه من الحسن لغيره، وهو معمول به. وقد دل هذا الحديث على أنه يجب على القاضي أن يقدم القضاء بكتاب الله، ثم إذا لم يجد فيه قضى بما في سنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، ثم إذا لم يجد فيهما اجتهد رأيه، والمقلد لا يتمكن من القضاء بما في كتاب الله (¬1)؛ لأنه لا يعرف الاستدلال ولا كيفيته، ولا يمكنه القضاء بما في سنة (¬2) رسول الله -[صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ]- لذلك، ولأنه [2] لا يميز بين الصحيح والموضوع والضعيف المعلول بأي علة، ولا يعرف الأسباب ولا يدري بالمتقدم والمتأخر، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ، بل لا يعرف مفاهيم هذه الألفاظ، ولا يتعقل معانيها فضلاً عن أن يتمكن من أن يعرف اتصاف الدليل بشيء منها. وبالجملة فالمقلد إذا قال: صح عندي فلا عند له، وإن قال: صح شرعًا فهو لا يدري ما هو الشرع. وغاية ما يمكنه أن يقول: صح هذا من قول فلان، وهو لا يدري هل هو صحيح في نفس الأمر أم لا. ¬

(¬1) قال ابن قدامة في " المغني " (14/ 15): أما معرفته بكتاب الله فيحتاج أن يعرف من عشرة أشياء: الخاص، والعام، والمطلق، والمقيد، والمحكم، والمتشابه، والمجمل، والمفسر، والناسخ، والمنسوخ في الآيات المتعلقة بالأحكام وذلك نحو خمسمائة، ولا يلزمه معرفة سائر القرآن. (¬2) أما السنة فيحتاج إلى معرفة ما يتعلق منها بالأحكام دون سائر الأخبار، من ذكر الجنة والنار والرقائق، ويحتاج أن يعرف منها ما يعرف من الكتاب ويزيد معرفة التواتر، والآحاد، المرسل، المتصل، والمسند، والمنقطع، والصحيح، والضعيف، ويحتاج إلى معرفة ما أجمع عليه. وما اختلف فيه. ومعرفة القياس، وشروطه، وأنواعه وكيفية استنباطه الأحكام، ومعرفة لسان العرب فيما يتعلق بما ذكر، ليتعرف به استنباط الأحكام من أصناف علوم الكتاب والسنة. " المغني " (14/ 15)، " الأحكام السلطانية " للماوردي (ص62)، " الفقيه والمتفقه " (1/ 90).

فهو بلا ريب أحد قضاة النار (¬1)؛ لأنه إما أن يصادف حكمه الحق فهو حكم بالحق، ولا يعلم أنه الحق، أو يحكم بالباطل وهو لا يعلم أنه باطل، وكلا الرجلين في النار، كما ورد بذلك النص عن المختار (¬2)، وأما قاضي الجنة فهو الذي يحكم بالحق، ويعلم أنه الحق، ولا شك أن من يعلم بالحق مجتهد لا مقلد. هذا يعرفه كل عارف، فإن قال المقلد: إنه يعلم أن ما حكم به من قول إمامه حق؛ لأن كل مجتهد مصيب، فنقول له: هل أنت مقلد في هذه المسألة؟ أعني أن كل مجتهد مصيب، أم مجتهد؟ فإن [قال]: كنت مقلدًا في هذه المسألة فقد جعلت ما هو محل النزاع دليلاً لك، وهو مصادرة باطلة؛ فإنك لا تعلم بأنها حق في نفسها فضلاً عن أن تعلم بزيادة على ذلك، وإن كنت مجتهدًا في هذه المسألة فكيف خفي عليك أن المراد بكون كل مجتهد مصيبًا هو من الصواب لا من الإصابة، كما أقر بذلك القائلون بتصويب المجتهدين (¬3)، وحرروه في مؤلفاتهم المعروفة الموجودة بأيدي الناس! وإذا كان ¬

(¬1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (3573) والترمذي رقم (1322) وابن ماجه رقم (2315) والبيهقي في " السنن الكبرى " (10/ 116 - 117) من طرق عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة، رجل قضى بغير الحق فعلم ذلك فذاك في النار، وقاض لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النار، وقاض قضى بالحق فذلك في الجنة " وهو حديث صحيح. (¬2) انظر التعليقة السابقة. (¬3) قال الزركشي في " البحر المحيط " (6/ 244 - 245): قال ابن فورك في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أن الحق في واحد وهو المطلوب، وعليه دليل منصوب، فمن وضع النظر موضعه أصاب، ومن قصر عنه وفقد الصواب فهو مخطئ ولا إثم عليه، ولا نقول إنه معذور؛ لأن المعذور من يسقط عنه التكليف لعذر في تركه كالعاجز عن القيام في الصلاة، وهو عندنا قد كلف إصابة المعين لكنه خفف أمر خطابه وأجر على قصده الصواب وحكمه نافذ على الظاهر. وهذا مذهب الشافعي وأكثر أصحابه وعليه نص في الرسالة (ص496 - 497). الثاني: أن الحق واحد إلا أن المجتهدين لم يكلفوا بإصابته، وكلهم مصيبون لما كلفوا من الاجتهاد وإن كان بعضهم مخطئًا. الثالث: أنهم كلفوا الرد إلى الأشبه على طريق الظن. وذهب قوم إلى أن الحق واحد والمخالف له مخطئ آثم، ويختلف خطؤه على قدر ما يتعلق به الحكم، فقد يكون كبيرة، وقد يكون صغيرة، ومن القائلين بهذا القول الأصم والمريسي وابن علية. والرأي الراجح هو الرأي الأول. " الفقيه والمتفقه " (2/ 60)، " مجموع الفتاوى " (19/ 124).

ذلك من الصواب لا من الإصابة، فلا يستفاد من المسألة ما تزعمه من كون مذهب إمامك حقًا، فإنه لا ينافي الخطأ. ولهذا صح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر» (¬1) وهذا لا يخفى إلا على أعمى، وإذا لم تتعقل الفرق بين الصواب والإصابة فاستر نفسك بالسكوت، ودع عنك ¬

(¬1) تقدم تخريجه مرارًا. وهو حديث صحيح. قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص851): فهذا الحديث يفيدك أن الحق واحد، وأن بعض المجتهدين يوافقه فيقال له مصيب ويستحق أجرين، وبعض المجتهدين يخالفه ويقال له مخطئ. واستحقاقه الأجر لا يستلزم كونه مصيبًا، وإطلاق اسم الخطأ عليه لا يستلزم أن لا يكون له أجر. فمن قال كل مجتهد مصيب، وجعل الحق متعددًا بتعدد المجتهدين فقد أخطأ خطأ بينًا، وخالف الصواب مخالفة ظاهرة فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل المجتهدين قسمين: قسمًا مصيبًا وقسمًا مخطئًا، ولو كان كل واحد منهم مصيبًا لم يكن لهذا التقسيم معنى. ومن قال إن الحق واحد ومخالفه آثم فإن هذا الحديث يرد عليه ردًا بينًا ويدفعه دفعًا ظاهرًا. ثم قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص851): فالحق الذي لا شك فيه ولا شبهة أن الحق واحد ومخالفه مخطئ مأجور إذا كان قد وفى الاجتهاد حقه ولم يقصر في البحث بعد إحرازه لما يكون به مجتهدًا. انظر: " التبصرة " (ص496)، " البحر المحيط " (6/ 247). * الفرق بين الإصابة والصواب: أن إصابة الحق هي الموافقة له بخلاف الصواب فإنه قد يطلق على من أخطأ ولم يصبه من حيث كونه قد فعل ما كلف به واستحق الأجر عليه وإن لم يكن مصيبًا للحق وموافقًا له. " البحر المحيط " (6/ 255).

الكلام في المباحث العلمية، وتعلم ممن يعلم حتى تذوق حلاوة العلم. فهذا حاصل ما لدي في هذه المسألة. وإن كانت طويلة الذيل، والخلاف فيها مدون في الأصول والفروع، لكن السائل لم يسأل عن أقوال الرجال، إنما سأل عن تحقيق الحق. فإن قلت: إذا كان التخاصم ببلد لا يوجد فيها مجتهد، [3] هل يجوز للخصمين الترافع إلى من بها من القضاة المقلدين؟ قلت: إذا كان يمكن وصولهما إلى قاض مجتهد لم يجز للمقلد أن يقضي بينهما بل يرشدهما إلى القاضي المجتهد، أو يرفع القضية إليه ليحكم فيها بما أراه الله، فإن كان الوصول إلى القاضي المجتهد متعذرًا ومتعسرًا، فلا بأس بأن يتولى ذلك القاضي المقلد فصل خصومتهما، لكن يجب عليه أن لا يدعي علم ما ليس من شأنه، فلا يقول: صح له، ولا صح شرعًا، بل يقول: قال إمامه كذا، ويعرف الخصمين أنه لم يحكم بينهما إلا بما قاله الإمام الفلاني. وفي الحقيقة هو محكم لا حاكم. وقد ثبت التحكيم في هذه الشريعة المطهرة، كما جاء ذلك في القرآن في شأن الزوجين، وأنه يوكل الأمر إلى حكم من أهل الزوج، وحكم من أهل الزوجة (¬1)، وكما في قوله تعالى: {يحكم به ذوا عدل منكم} (¬2)، وكما وقع في زمن النبوة، ومع الصحابة في غير قضية، ومن لم يجد ماءً تيمم بالتراب. والعور خير من العمى، ولا يغتر العاقل بما يزخرفه المقلدون، ويموهون به على العامة من تعظيم شأن من يقلدونه، ونشر ¬

(¬1) قال تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما} [النساء: 35]. (¬2) [المائدة: 95]. قال ابن قدامة في " المغني " (14/ 14 - 15): " اشترطوا في القاضي أن يكون مجتهدًا وبهذا قال الإمام مالك والشافعي والحنابلة، وحجتهم أن القضاء آكد من الإفتاء؛ لأنه إفتاء وإلزام، والمفتي لا يجوز أن يكون عاميًا مقلدًا، فالقاضي أولى أن لا يكون مقلدًا، واحتجوا بقوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} وما أنزل الله يعرفه العالم المجتهد لا المقلد باختصار.

فضائله ومناقبه، والموازنة بينه وبين من يبلغ رتبة الاجتهاد في عصر هؤلاء المقلدين، فإن هذا [4] خروج عن محل النزاع، ومغالطة قبيحة. وما أسرع نفاقها عند العامة! لأن أفهامهم قاصرة عن إدراك الحقائق، والحق عندهم يعرف بالرجال. وللأموات في صدورهم جلالة وفخامة. وطبائع المقلدين قريبة من طبائعهم، فهو إلى قبول أقوالهم أقرب منهم إلى قبول أقوال العلماء المجتهدين؛ لأن المجتهدين قد باينوا العامة، وارتفعوا إلى رتبة تضيق أذهان العامة عن تصورها، فإذا قال المقلد مثلاً: أنا أحكم بمذهب الشافعي، وهو أعلم من هذا المجتهد المعاصر لي، وأعرف بالحق منه، كانت العامة إلى تصديق هذه المقالة والإذعان لها أسرع من السيل المنحدر، وتنفعل أذهانهم لذلك أكمل انفعال. فإذا قال المجتهد مجيبًا على ذلك المقلد: إن محل النزاع هو الموازنة بيني وبينك، لا بيني وبين الشافعي، فإني أعرف العدل والحق، وما أنزل الله، وأجتهد رأيي إذا لم أجد في كتاب الله وسنة رسوله نصًا، وأنت لا تعرف شيئًا من ذلك، ولا تقدر على أن تجتهد رأيك، إذ لا رأي لك، ولا اجتهاد؛ لأن اجتهاد الرأي هو إرجاع الحكم إلى الكتاب والسنة بالمقايسة، أو بعلاقة يسوغها الاجتهاد، وأنت لا تعرف كتابًا ولا سنة، فضلاً عن أن تعرف كيفية الإرجاع إليهما [5] بوجه مقبول. كان هذا الجواب الذي جاء به المجتهد مع كونه حقًا بحتًا بعيدًا عن أن تفهمه العامة، أو تذعن لصاحبه. ولهذا ترى في هذه الأزمان الغريبة الشأن ما ينقله المقلد عن إمامه أوقع في النفوس مما ينقله المجتهد من كتاب الله وسنة رسوله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]، وإن جاء من ذلك بالكثير الطيب، وقد رأينا وسمعنا ما لا نشك أنه من علامات القيامة على أن كثيرًا من المقلدين قد ينقل في حكمه أو فتواه عن مقلد مثله قد صار تحت أطباق الثرى، وإمامه عنه براء، فيجول ويصول وينسب ذلك إلى مذهب الإمام، وينسب من يأتي بما يخالفه من كتاب أو سنة إلى الابتداع، ومخالفة المذهب، ومباينة أهل العلم، وهو لو ارتفعت رتبته عن هذا الحضيض قليلاً لعلم أنه هو المخالف لإمامه لا الموافق له. ولنوضح هذا بشيء يعرفه

المقلدون في ديارنا هذه فنقول: إذا قال الحاكم المجتهد في مسألة من المسائل بخلاف ما في متن الأزهار (¬1) فلا يعدم جماعة من المقلدين ينكرون عليه هذه المخالفة لما في الأزهار، ويتقربون إلى العامة بأنهم يحافظون على العمل بما في هذا الكتاب، وأنهم مشيدون للمذهب، قائمون بنشره، وأن ذلك المجتهد يخالفه. ولو أنصفوا لعلموا أنهم هم المخالفون لما في الأزهار، وأن ذلك المجتهد أسعد منهم بموافقته، فإن في أول فصل من فصول [6] الأزهار أن التقليد جائز لغير المجتهد لا له، ولو وقف على نص أعلم منه. وقال بعد ذلك بقليل: وبعد الالتزام يحرم الانتقال إلا إلى ترجيح نفسه، فهذا الأزهار (¬2) مصرح في أوائله بأن عمل المجتهد بما في مسائله تقليدًا غير جائز له، والمقلد المسكين يريد من هذا المجتهد أن لا يعمل باجتهاده، ولا يرجع إلى ترجيح نفسه، بل يقلد مؤلف الأزهار في المسائل الفرعية التي فيه، فيوقعه فيما لا يجوز بنص الأزهار. ثم هذا المقلد الذي يريد أن يكون قاضيًا ويعتقد صحة قضائه هو أيضًا مخالف للأزهار، فإنه مصرح في باب ............................................ ¬

(¬1) " الأزهار في فقه الأئمة الأطهار " مؤلفه: الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى الحسني. وهو مختصر من كتاب " التذكرة الفاخرة في فقه العترة الطاهرة " للفقيه الحسن بن محمد المذحجي. ونقل عن ابن مفتاح أن مسائل الأزهار منطوقها ومفهومها تسعة وعشرون ألف مسألة وقيل أن المهدي ألفه في السجن لخوفه نسيان ما حفظه من الفقه، فكان يلقي مسائله السيد علي بن الهادي فيكتبه السيد بالجص على الأبواب لمنع البواب من إدخال أدوات الكتابة عليهما ثم يمحوه بعد الحفظ عن ظهر الغيب، وطال التأليف والكتابة عدة سنين ... " " مؤلفات الزيدية " (1/ 112 - 113 رقم 276). (¬2) (1/ 89 - مع السيل): قال في مقدمة " الأزهار " مقدمة " لا يسع المقلد جهلها ". فصل: التقليد في المسائل الفرعية العملية الظنية والقطعية جائز لغير المجتهد لا له، ولو وقف على نص أعلم منه ولا في عملي يترتب على علمي كالموالاة والمعاداة. وانظر: تعقيب الشوكاني على ذلك فقد أجاد وأفاد.

القضاء (¬1) أن من شروط القاضي أن يكون مجتهدًا، فإنه قال: والاجتهاد في الأصح. فهذا المقلد ليس بقاض بنص الأزهار، كما أنه مخطئ في إنكاره على من يخالف الأزهار من المجتهدين بنص الأزهار، وهو أيضًا مخطئ في إنكاره على اجتهادات المجتهدين بنص الأزهار فإنه قال في كتاب السير (¬2): في فضل إنكار المنكر: (ولا في مختلف فيه على من هو مذهبه) (¬3)، وهذا المقلد قد نصب نفسه لإنكار اجتهاد ذات المجتهدين تلبيسًا على ¬

(¬1) (3/ 439 - مع السيل). قال الشوكاني في " السيل الجرار " (3/ 448): والحاصل أن نصب المقلد للحكم بين عباد الله إذن له بالحكم بالطاغوت لأنه لا يعرف الحق حتى يحكم به، وما عدا الحق فهو طاغوت، ولو قدرنا أنه أصاب الحق في حكمه لكان قد حكم بالحق وهو لا يعلم به. فهو أحد قاضيي النار، وإن حكم بغير الحق فهو القاضي الآخر من قضاة النار. ثم قال الشوكاني وقد ثبت عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن من علامات القيامة أن يتخذ الناس رؤساء جهالاً يفتون بغير علم فيضلون ويضلون ورأس الرياسات الدينية هو القضاء بلا شبهة. أخرج البخاري رقم (100) ومسلم رقم (13/ 2673) من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ". (¬2) قال الشوكاني في " السيل الجرار " (3/ 791 مع السيل). (¬3) قال الشوكاني في "السيل الجرار" (3/ 794): قوله: " ولا في مختلف فيه على من هو مذهبه ". أقول: هذه المقالة قد صارت أعظم ذريعة إلى سد باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما بالمثابة التي عرفناها - العمل بهما واجب بإجماع الأمة، وهما العمادان العظيمان من أعمدة هذا الدين والركنان الكبيران من أركانه - وقد وجب بإيجاب الله عز وجل، وبإيجاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على هذه الأمة الأمر بما هو معروف من معروفات الشرع، والنهي عما هو منكر من منكراته، ومعيار ذلك الكتاب والسنة، فعلى كل مسلم أن يأمر بما وجده فيهما أو في أحدهما معروفًا. وينهى عما هو فيهما أو في أحدهما منكرًا. وإن قال قائل من أهل العلم بما يخالف ذلك فقوله منكر يجب إنكاره عليه أولاً، ثم على العامل به ثانيًا. وهذه الشريعة الشريفة التي أمرنا بالأمر بمعروفها والنهي عن منكرها هي هذه الموجودة في الكتاب والسنة. وأما ما حدث من المذاهب فليست بشرائع مستجدة، ولا هي شرائع ناسخة لما جاء به خاتم النبيين - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما هي بدع ابتدعت وحوادث في الإسلام حدثت، فما كان منها موافقًا للشرع الثابت في الكتاب والسنة فقد سبق إليه الكتاب والسنة، وما كان مخالفًا للكتاب والسنة فهو رد على قائله مضروب به في وجهه كما جاءت بذلك الأدلة الصحيحة التي منها " كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد " - تقدم تخريجه. فالواجب على من علم بهذه الشريعة، ولديه حقيقة من معروفها ومنكرها أن يأمر بما علمه معروفًا، وينهى عما علمه منكرًا، فالحق لا يتغير حكمه، ولا يسقط وجوب العمل به، والأمر بفعله، والإنكار على من خالفه بمجرد قول قائل أو اجتهاد مجتهد أو ابتداع مبتدع. فإن قال تارك الواجب، أو فاعل المنكر: قد قال بهذا فلان، أو ذهب إليه فلان أجاب عليه بأن الله لم يأمرنا باتباع فلان، بل قال لنا في كتابه العزيز {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7] فإن لم يقنع بهذا حاكمه إلى كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما أمرنا الله سبحانه في كتابه بالرد إليهما عند التنازع. قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء: 59].

العوام، وترويجًا لقصوره على غير ذوي الأفهام. وبيان ذلك أنه إن كان عالمًا بهذه النصوص التي ذكرناها في الأزهار فهو في إنكاره وترشيحه لنفسه بما ليس من أهله مخالف لما يعتقد أنه الحق، بل لما يقصر الحق عليه، وإن كان جاهلاً [7] لهذه النصوص فهو بهيمة (¬1)، لأنه يدعو الناس إلى ما لا يعرفه، ويرشدهم إلى ما ليس عنده، وينصب نفسه للإنكار على أكابر العلماء، وهو لا يعرف التقليد فضلاً عن أن يعرف ما فوقه. ومن كان بهذه المنزلة فهو صاحب الجهل المركب الذي لا يستحق أن يخاطب، بل على كل صاحب علم أن يرفع نفسه عن مجادلته، ويصون لسانه عن مقاولته، إلا أن يطلب منه أن يعلمه مما علمه الله. و (السؤال الثاني) حاصله: ما حكم الأعراب، سكان البادية الذين لا يفعلون شيئًا من الشرعيات إلا مجرد التكلم بالشهادة، هل هم: كفار أم لا؟ وهل يجب على ¬

(¬1) رحم الله الشوكاني ما تلفظ بهذا إلا لشدة إنكاره على المقلدة.

المسلمين غزوهم أم لا؟ وأقول: من كان تاركًا لأركان الإسلام، وجميع فرائضه، ورافضًا لما يجب عليه من ذلك من الأقوال والأفعال، ولم يكن لديه إلا مجرد التكلم بالشهادتين فلا شك ولا ريب أن هذا كافر شديد الكفر، حلال الدم والمال، فإنه قد ثبت بالأحاديث المتواترة (¬1) أن عصمة الدماء والأموال إنما تكون بالقيام بأركان الإسلام، فالذي يجب على من يجاور هذا الكافر من المسلمين في المواطن والمساكن أن يدعوه إلى العمل بأحكام الإسلام، والقيام بما يجب عليه القيام به على التمام، ويبذل تعليمه ويلين له القول، ويسهل عليه الأمر، ويرغبه في الثواب، ويخوفه من العقاب، فإن قبل منه ورجع إليه وعول عليه وجب عليه أن يبذل نفسه لتعليمه، فإن ذلك من أهم الواجبات (¬2) وآكدها، أو يوصله ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (4). قال ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (28/ 502): كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم وغيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائعه. ثم قال رحمه الله (28/ 503) .. فأيما طائفة امتنعت من بعض الصلوات المفروضة، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء، والأموال، والخمر والزنا والميسر، أو عن نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، وغير ذلك من واجبات الدين ومحرماته. - التي لا عذر لأحد في جمودها وتركها - التي كفر الجاحد لوجوبها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها وهذا مما لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء. وانظر: " المغني " (13/ 29 - 31). (¬2) وتجب الدعوة قبل القتال إلى إحدى ثلاث إما الإسلام أو الجزية أو السيف لحديث سليمان بن بريدة عن أبيه قال: " كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا ثم قال: " اغزوا بسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم الذي يجري على المسلمين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم ". أخرجه مسلم رقم (3/ 1731) وأبو داود رقم (2612) والترمذي رقم (1617، 1408) وهو حديث صحيح. قال أحمد: إن الدعوة قد بلغت وانتشرت، فمن بلغتهم لا يدعون. قال ابن قدامة في " المغني " (13/ 29): وهذا يحتمل أنه كان في بدء الأمر قبل انتشار الدعوة وظهور الإسلام فأما اليوم. فق انتشرت الدعوة، فاستغنى بذلك عن الدعاء عند القتال. قال أحمد: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو إلى الإسلام قبل أن يحارب. حتى أظهر الله الدين، وعلا الإسلام ولا أعرف اليوم أحدًا يدعى، فقد بلغت الدعوة في أول الإسلام والروم قد بلغتهم الدعوة وعلموا ما يراد منهم، وإنما كانت الدعوة في أول الإسلام وإن دعا فلا بأس.

إلى من هو أعلم منه بأحكام الإسلام [8]، وإن أصر ذلك الكافر على كفره وجب على من يبلغه أمره من المسلمين أن يقاتلوه حتى يعمل بأحكام الإسلام على التمام، فإن لم يعمل فهو حلال الدم والمال، حكمه حكم أهل الجاهلية. وما أشبه الليلة بالبارحة! وقد أبان لنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قولاً وفعلاً ما نعتمده في قتال الكافرين (¬1)، والآيات القرآنية، والأحاديث النبوية في هذا الشأن كثيرة جدًا معلومة لكل فرد من أهل العلم، بل هذا الأمر هو الذي بعث الله - سبحانه -[فيه] رسله، وأنزل لأجله كتبه، والتطويل في شأنه والاشتغال بنقل برهانه من باب الإيضاح الواضح، وتبيين البين. وبالجملة فإذا صح الإصرار على الكفر فالدار دار حرب بلا شك، ولا شبهة، والأحكام الأحكام، وقد اختلف المسلمون في غزو .................... ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة.

الكفار إلى ديارهم (¬1)، هل يشترط فيه الإمام الأعظم أم لا؟ والحق الحقيق بالقبول أن ذلك واجب على كل فرد من أفراد المسلمين، والآيات القرآنية (¬2) والأحاديث النبوية (¬3) مطلقة غير مقيدة. ¬

(¬1) انظر " المغني " (13/ 16 - 17). (¬2) منها قوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة: 29]. ومنها قوله تعالى: {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين} [التوبة: 36]. (¬3) منها ما أخرجه أبو داود رقم (2504) وأحمد (3/ 124، 153، 251) والنسائي (6/ 7 رقم 3096) وابن حبان في صحيحه رقم (1618 - موارد) والحاكم (2/ 81) والبيهقي (9/ 20). من حديث أنس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم ". وهو حديث صحيح. قال ابن قدامة في " المغني " (13/ 6): فالخطاب في ابتدائه يتناول الجميع كفرض الأعيان، ثم يختلفان في أن فرض الكفاية يسقط بفعل بعض الناس له، وفرض الأعيان لا يسقط عن أحد بفعل غيره. والجهاد من فروض الكفايات في قول أهل العلم. وحكي عن سعيد بن المسيب أنه من فروض الأعيان لقوله تعالى: {انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} [التوبة: 41]. وقوله تعالى: {كتب عليكم القتال} [البقرة: 216]. وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق ". قال ابن قدامة في " المغني " (13/ 6 - 7): ولنا قوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى} [النساء: 95]. وهذا يدل على أن القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم، وقال تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين} [التوبة: 122]. ولأن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث السرايا، ويقيم هو وسائر أصحابه.

(السؤال الثالث): حاصله ما قيل من أن العصاة من أهل بيت النبوة (¬1) لا يعاقبون على ما يرتكبون من الذنوب، بل هم من أهل الجنة على كل حال، تكريمًا وتشريفًا هل ذلك صحيح أم لا؟. وأقول: لا شك ولا ريب أن أهل البيت المطهر لهم من المزايا والخصائص والمناقب ما ليس لغيرهم، وقد جاءت الآيات القرآنية (¬2)، والأحاديث النبوية (¬3) شاهدة ¬

(¬1) اعلم أن للعلماء في حقيقة أهل البيت خمسة أقوال: 1 - إنهم الذين حرمت عليهم الصدقة، وبذلك فسرهم زيد بن أرقم الصحابي في صحيح مسلم رقم (2408). 2 - إن آله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أزواجه وذريته خاصة. حكاه ابن عبد البر عن قوم، واستدلوا بالحديث الذي أخرجه البخاري (6/ 407 رقم 2369) ومسلم (4/ 127 شرح النووي) عن أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه -. 3 - إن آله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتباعه إلى يوم القيامة، حكاه ابن عبد البر عن بعض أهل العلم. 4 - إن آله هم الأتقياء من أمته، حكاه القاضي حسين، والراغب، وغيرهما ويستدل له بحديث: " آل محمد كل تقي ". وهو حديث موضوع. انظر: " العلل المتناهية " (1/ 266 - 267 رقم 429) و" الضعفاء " للعقيلي (4/ 286 - 287). 5 - إن آله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هم الذين جللهم بالكساء، ومن تناسل منهم من أولادهم إلى يوم القيامة. واستدلوا بحديث عائشة. تقدم ذكره. وأقوى هذه الأقوال وأقربها بالاستدلال القول الأول والخامس والله أعلم. (¬2) منها قوله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} [الأحزاب: 33]. (¬3) تقدم ذكر حديث عائشة. وانظر الرسالة رقم (20، 222). ومنها ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (36/ 2408) من حديث يزيد بن حبان وفيه: " ... أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب. وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به " فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: " وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، وأذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي ".

لهم بما خصهم الله به من التشريف والتكريم، والتجليل والتعظيم. وأما القول برفع العقوبات عن عصاتهم، وأنهم لا يخاطبون بما اقترفوه من المآثم، ولا يطالبون بما جنوه [9] من العظائم، فهذه مقالة باطلة ليس عليها أثارة من علم، ولم يصح في ذلك عن الله ولا عن رسوله حرف واحد، وجميع ما أورده علماء السوء المتقربون إلى المتعلقين بالرياسات من أهل هذا البيت الشريف فهو إما باطل موضوع (¬1)، أو خارج عن محل ¬

(¬1) (منها): " أهل بيتي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ": قال الألباني في " الضعيفة " رقم (62): " موضوع وهو في نسخة أحمد بن نبيط الكذاب ". قال الذهبي في " الميزان " (1/ 82) عن هذه النسخة: فيها بلايا!! وأحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن نبيط بن شريط لا يحل الاحتجاج به فإنه كذاب. (ومنها): الحديث الذي أخرجه العقيلي في " الضعفاء " (2/ 180) عن جابر بن عبد الله قال: " خطبنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسمعته وهو يقول: من أبغضنا أهل البيت حشره الله يوم القيامة يهوديًا. قال: قلت يا رسول الله: فإن صام وصلى وزعم أنه مسلم، قال: نعم، وإن صام، وصلى وزعم أنه مسلم، إنما احتجز بذلك من سفك دمه وأن يؤدي الجزية عن يد وهو صاغر ... ". قال: منان بن سدير فدخلت مع أبي على جعفر بن محمد، فحدثه أبي بهذا الحديث، فقال جعفر ابن محمد: ما كنت أرى أبي حدث بهذا الحديث أحدًا. وهو ليس له أصل. وانظر: " الموضوعات " لابن الجوزي (2/ 6)، " الفوائد المجموعة " (ص396 رقم 128). (ومنها): حديث عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أنا وفاطمة وعلي والحسن والحسين في حظيرة القدس في قبة بيضاء سقفها عرش الرحمن ". * هذا حديث لا يصح. أخرجه ابن الجوزي في " الموضوعات " (2/ 3).

النزاع، بل القرآن أعدل شاهد، وأصدق دليل على رد قول كل مكابر جاحد، فإنه قال - عز وجل - في نساء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين} (¬1) وليس ذلك إلا لما لهن من رفعة القدر، وشرافة المحل بالقرب من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وأشرف قدرًا وأعلى محلاً وأكرم عنصرًا، وأفخم ذكرًا. ولو كان الأمر كما زعم هذا الزاعم لم يكن لقوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} (¬2) معنى، ولا كبير فائدة. وإذا كان المصطفى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول لفاطمة البتول التي هي بضعة منه يغضبه ما يغضبها ويرضيه ما يرضيها: " يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئًا " (¬3) فليت شعري من هذا من أولادها الذي خصه الله بما لم يخصها، ورفعه إلى درجة قصرت عنها! فأبعد الله علماء السوء، وقلل عددهم! فإن العاصي من أهل هذا البيت الشريف المطهر ¬

(¬1) [الأحزاب: 30]. (¬2) [الشعراء: 214]. (¬3) أخرجه البخاري رقم (4771) ومسلم رقم (31/ 206) من حديث أبي هريرة. قال الحافظ في " الفتح " (8/ 502) واستدل بعض المالكية بقوله في هذا الحديث: " يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئًا ". أن النيابة لا تدخل في أعمال البر، إذ لو جاز ذلك لكان يتحمل عنها - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما يخلصها، فإذا كان عمله لا يقع نيابة عن ابنته فغيره أولى بالمنع. وتعقب بأن هذا كان قبل أن يعلمه الله تعالى بأنه يشفع فيمن أراد وتقبل شفاعته حتى يدخل قومًا الجنة بغير حساب، ويرفع درجات قوم آخرين، ويخرج من النار من دخلها بذنوبه، أو كان المقام مقام التخويف والتحذير أو أنه أراد المبالغة في الحض على العمل، ويكون قوله: " لا أغني شيئًا " إضمار إلا إن أذن الله لي في الشفاعة. قال الحافظ في " الفتح " (8/ 305): والسر في الأمر بإنذار الأقربين أولاً أن الحجة إذا قامت عليهم تعدت إلى غيرهم، وإلا فكانوا علة للأبعدين في الامتناع وأن لا يأخذه ما يأخذ القريب للقريب من العطف والرأفة فيحابيهم في الدعوة والتخويف. فلذلك نص له على إنذارهم.

إذا لم يكن مستحقًا على معصيته مضاعفة العقوبة فأقل الأحوال أن يكون كسائر الناس (¬1). فيا من شرفه الله بهذا النسب الشريف، إياك أن تغتر بما ينمقه لك أهل التبديل والتحريف [10]. (السؤال الرابع): حاصله الاستفهام عن مذهب الحق في شأن ما شجر بين ¬

(¬1) قال ابن تيمية في " منهاج السنة " (7/ 79): هب أن القرآن دل على طهارتهم وإذهاب الرجس عنهم كما أن الدعاء المستجاب لا بد أن يتحقق معه طهارة المدعو لهم وإذهاب الرجس عنهم، لكن ليس في ذلك ما يدل على العصمة من الخطأ. والدليل عليه أن الله لم يرد بما أمر به أزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا يصدر من واحد منهن خطأ، فإن الخطأ مغفور لهن ولغيرهن، وسياق الآية يقتضي أنه يريد ليذهب عنهم الرجس - الذي هو الخبث كالفواحش ويطهرهم تطهيرًا من الفواحش وغيرها من الذنوب. والتطهير من الذنب على وجهين كما في قوله تعالى: {وثيابك فطهر} [المدثر: 4]. وقوله تعالى: {إنهم أناس يتطهرون} [الأعراف: 82]. فإنه قال فيها: {من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين} [الأحزاب: 30]. والتطهير عن الذنب إما بأن لا يفعله العبد، وإما بأن يتوب منه كما في قوله: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة: 103]. لكن ما أمر الله به من الطهارة ابتداء وإرادة فإنه يتضمن نهيه عن الفاحشة، لا يتضمن الإذن فيها بحال، لكن هو سبحانه ينهى عنها ويأمر من فعلها بأن يتوب منها. ثم قال (7/ 82 - 83): وليس من شرط المتقين ونحوهم أن لا يقع منهم ذنب، ولا أن يكونوا معصومين من الخطأ والذنوب، فإن هذا لو كان كذلك لم يكن في الأمة متق، بل من تاب من ذنوبه دخل في المتقين، ومن فعل ما يكفر به سيئاته دخل في المتقين قال تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما} [النساء: 31]. ثم قال: وبالجملة فالتطهير الذي أراده الله، والذي دعا به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس هو العصمة بالاتفاق، فإن أهل السنة عندهم لا معصوم إلا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

الصحابة في الخلافة، وما يترتب عليها. وأقول: إن كان هذا السائل طالبًا للنجاة، مستفهمًا عن أقرب الأقوال إلى مطابقة مراده مولاه، كما يشعر بذلك تصرفه في سؤاله، فليدع الاشتغال بهذا الأمر، ويترك المرور في هذا المضيق الذي تاهت فيه الأفكار، وتحيرت عنده أفكار أهل الأنظار، فإن هؤلاء الذين يبحث عن حوادثهم، ويتطلع لمعرفة ما شجر بينهم قد صاروا تحت أطباق الثرى، ولقوا ربهم في المائة الأولى من البعثة. وهانحن الآن في المائة الثالثة عشرة فما لنا والاشتغال بهذا الشأن الذي لا يعنينا! " ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " (¬1). وأي فائدة لنا في الدخول في الأمور التي فيها ريبة! وقد أرشدنا إلى أن ندع ما يريبنا إلى ما لا يريبنا (¬2)، ويكفينا من تلك القلاقل والزلازل أن نعتقد أنهم خير القرون وأفضل الناس، وأن الخارجين على أمير المؤمنين - رضوان الله عليهم - المحاربين له، المصرين على ذلك، الذين لم تصح توبتهم بغاة، وأنه المحق وهم المبطلون. وما زاد على هذا المقدار فمن الفضول الذي يشتغل به من لا يبالي بدينه. وقد تلاعب الشيطان بكثير من الناس فأوقعهم في الاختلاف في خير القرون (¬3) الذي قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شأنهم لبعض من هو من جملتهم لكنه تأخر ¬

(¬1) أخرجه الترمذي رقم (2317) وابن ماجه رقم (3976) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ". قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا من هذا الوجه. وهو حديث حسن. (¬2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه الترمذي رقم (2518) والنسائي رقم (5711) عن أبي الحوراء السعدي قال: قلت للحسن بن علي - رضي الله عنه - ما حفظت من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال حفظت منه: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ". وهو حديث حسن. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2652) ومسلم رقم (2533) من حديث عبد الله بن مسعود. وقد تقدم مرارًا.

إسلامه عنهم: " لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم [11] ولا نصيفه " (¬1) فإذا كان مثل أحد ذهبًا من المتأخرين من الصحابة المخاطبين بهذا الخطاب لا يبلغ مد أحد متقدميهم ولا نصيفه فما أظنه يبلغ مثل أحد ذهبًا منا مقدار حبة من أحدهم ولا نصيفها، فرحم الله امرءًا اشتغل بالقيام بما أوجبه الله عليه، وطلبه منه، وترك ما لا يعود عليه بنفع لا في دنيا ولا في آخرة، بل يعود عليه بالضر، ولو لم يكن من الضر إلا مجرد مخالفة ما أرشدنا إليه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " (¬2) [لكفى] فهذا - والله - مما لا يعنينا، ومن ظن خلاف هذا فهو مغرور مخدوع، قاصر الباع عن إدراك الحقائق، ومعرفة الحق على وجهه كائنًا من كان. والله لو جاء أحدهم يوم القيامة بما يملأ الدنيا من الحسنات ما كان لنا من ذلك شيء، ولو جاء أحدهم (وصانهم الله) بما يملأ الدنيا من السيئات ما كان علينا من ذلك شيء، ففيم التعب، وعلام تضيع الأوقات في هذه الترهات (¬3)!؟. ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (3637) ومسلم رقم (2541) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (¬2) تقدم تخريجه. وهو حديث حسن. (¬3) قال القاضي عياض في " الشفا " (2/ 611 - 615): من توقيره وبره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: 1 - توقير أصحابه وبرهم ومعرفة حقهم. 2 - الاقتداء بهم. 3 - وحسن الثناء عليهم. 4 - الاستغفار لهم. 5 - الإمساك عما شجر بينهم. 6 - معاداة من عاداهم. 7 - الإضراب عن أخبار المؤرخين، وجهلة الرواة وضلال الشيعة والمبتدعين القادحة في أحد منهم. 8 - أن يلتمس لهم فيما نقل عنهم من مثل ذلك فيما كان بينهم من الفتن أحسن التأويلات، ويخرج لهم أصول المخارج إذ هم أهل لذلك. 9 - لا يذكر أحد منهم بسوء، ولا يغمض عليه أمر، بل تذكر حسناتهم وفضائلهم وحميد سيرتهم، ويسكت عما وراء ذلك. كما قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إذا ذكر أصحابي فأمسكوا " من حديث عبد الله بن مسعود. وهو حديث حسن بشواهده. تقدم تخريجه. انظر الرسالة رقم (20، 19، 21). وانظر: " العقيدة الواسطية " لابن تيمية (ص25): حيث قال " ويمسكون - أي أهل السنة - عما شجر بين الصحابة - رضي الله عنهم - ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساوئهم، منها ما هو كذب، ومنها: ما قيد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه ". والصحيح منه هم معذورون: إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون ".

السؤال الخامس: حاصله الاستفهام عن الأعراف الجارية في بعض البلدان من الاجتماع في المساجد لتلاوة القرآن على الأموات، وكذلك في البيوت، وسائر الاجتماعات التي لم ترد في الشريعة، هل يجوز ذلك أم لا؟. أقول: لا شك أن هذه الاجتماعات المبتدعة إن كانت خالية عن معصية سليمة من المنكرات فهي جائزة، لأن الاجتماع ليس بمحرم في نفسه [12]، لا سيما إذا كان لتحصيل طاعة كالتلاوة ونحوها. ولا يقدح في ذلك كون تلك التلاوة مجعولة للميت، فقد ورد جنس التلاوة من الجماعة المجتمعين كما في حديث: " اقرأوا على موتاكم يس " (¬1) وهو حديث حسن (¬2)، فلا فرق بين تلاوة يس من الجماعة الحاضرين عند الميت أو على قبره، وبين تلاوة جميع القرآن أو بعضه لميت في مسجده أو بيته (¬3). ¬

(¬1) أخرجه أبو داود رقم (3121) وابن ماجه رقم (1448). والنسائي في " عمل اليوم والليلة " (ص581 رقم 1074) والحاكم (1/ 565) والبيهقي (3/ 383) وأحمد (5/ 26، 27) وابن حبان رقم (720 - موارد) والطيالسي (ص126 رقم 931) من حديث معقل بن يسار. وهو حديث ضعيف. انظر: " الإرواء " (3/ 151 - 153)، " تلخيص الحبير " (2/ 104). (¬2) بل هو حديث ضعيف كما تقدم. (¬3) القراءة على الأموات ليس لها أصل يعتمد عليه ولا تشريع، وإنما المشروع القراءة بين الأحياء ليستفيدوا ويتدبروا كتاب الله ويتعقلوه، أما القراءة على الميت عند قبره أو بعد وفاته قبل أن يقبر أو القراءة له في أي مكان حتى تهدى له فهذا لا نعلم له أصلاً .. * وقراءة يس عند الميت لم يصح فيها حديث. " أحكام الجنائز وبدعها " للألباني (ص11). بل أنكر الإمام مالك رحمه الله القراءة عند الميت سورة يس والأنعام وعلل ذلك بأنه لم يكن من عمل الناس - الصحابة والتابعين -. " المدخل " لابن الحاج (3/ 240). * ولم يصح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قرأ يس أو غيرها من القرآن على القبر، والخير كل الخير في اتباع سنة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والشر كل الشر في الابتداع، فلا تفعل للأموات بخلاف الصدقة عنهم والدعاء لهم والحج والعمرة وقضاء الدين، وقد جاءت بها النصوص وثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له " تقدم تخريجه. وقال سبحانه وتعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم} [الحشر: 10]. وانظر: " البدع والمحدثات " وما لا أصل له. (ص564 - 566).

وبالجملة فالاجتماعات العرفية التي لم يرد جنسها في الشريعة إن كانت لا تخلو عن منكر فلا يجوز حضورها، ولا يحل تطييب نفس الجار بحضور مواقف المنكرات والمعاصي وإن كانت خالية عن ذلك، وليس فيها إلا مجرد التحدث بما هو مباح، فهذا لا نسلم أنه لم يرد جنسه في الشريعة المطهرة، فقد كان الصحابة الراشدون يجتمعون في بيوتهم ومساجدهم، وعند نبيهم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويتناشدون الأشعار، ويتذاكرون الأخبار، ويأكلون ويشربون، فمن زعم أن الاجتماع الخالي عن الحرام بدعة فقد أخطأ، فإن البدعة هي التي تبتدع في الدين، وليس هذا من ذاك. * (السؤال السادس): حاصله الاستفهام عن الحلف بغير الله كالحلف بالسلطان والأولياء والقرآن (¬1) من دون قصد لتعظيم المخلوق به، بل لأجل الاعتياد لذلك في ¬

(¬1) يلاحظ أن الشوكاني جعل الحلف بالقرآن كالحلف بمخلوق من مخلوقات الله، كما يتضح من صيغة السؤال، وهذا رأي باطل قال به المعتزلة، وأتباعهم، والصحيح أن القرآن كلام الله تكلم الله به حقيقة بلفظه ومعناه، وهو سبحانه موصوف بالكلام، فعلى هذا يكون الحلف بالقرآن حلفًا بصفة من صفات الله سبحانه وتعالى، وصفات الله سبحانه غير مخلوقة فالقرآن غير مخلوق، والحلف به جائز لأنه حلف بكلام الله. ويعقد به اليمين، وهذا ما أجمع عليه السلف أهل السنة، وقد احتجوا فيما احتجوا به بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أعوذ بكلمات الله التامات ". قالوا قد استعاذ بها، ولا يستعاذ بمخلوق. انظر: " مجموع فتاوى " (1/ 336)، " شرح العقيدة الطحاوية " لابن أبي العز الحنفي (ص191).

المجاورة. * وأقول: هذا لا يحل لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر. وقد ورد النهي عنه في الأحاديث الصحيحة (¬1)، وورد أيضًا في الأحاديث (¬2) ما يفيد أن فاعل ذلك يكفر إذا كان حلفه باللات والعزى ونحو ذلك من الطواغيت. وورد أن من فعل ذلك لم يرجع إلى الإسلام سالمًا [13]. وهذه أحاديث صحيحة ثابتة في دواوين الإسلام، فإن سبق لسان الحالف إلى شيء من ذلك لأجل تمرنه عليه فعليه أن يتدارك نفسه بالاستغفار، ويعود نفسه ولسانه الخير ¬

(¬1) (منها): ما أخرجه البخاري رقم (6108) ومسلم رقم (1646) وأحمد (2/ 11\ 17، 142) وأبو داود رقم (3249) والترمذي رقم (1534) وابن ماجه رقم (2094) وغيرهم. عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وهو يحلف بأبيه فناداهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفًا فليحلفن بالله وإلا فليصمت ". (ومنها): ما أخرجه أبو داود رقم (3268) والنسائي رقم (3769) وابن حبان (ص286 رقم 1176 - موارد) والبيهقي (10/ 29) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون ". وهو حديث صحيح. (¬2) ما أخرجه أبو داود رقم (3251) والترمذي رقم (1535) والحاكم (1/ 52) من حديث سعد بن عبيدة عن ابن عمر أنه سمع رجلاً يقول: لا والكعبة. فقال ابن عمر: لا يحلف بغير الله، فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ". وهو حديث صحيح.

ما استطاع، ولا يقع فيما نهى عنه الشارع وتوعد عليه، فالنفس قابلة للتعليم، واللسان إذا عودت غير ما قد اعتادت عادت إلى الموافقة ولو بعد حين (¬1). * (السؤال السابع): عن تبقية شعر الرأس، هل هو مسنون إذا علم من نفسه النقص عن تخليله بالماء عند وجوب الغسل أن يجب عليه إزالته؟. * أقول: خير الأمور السالفات على الهدي، وشر الأمور المحدثات. وقد كان لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمة إلى شحمة أذنه، وكذلك للمشاهير من أصحابه الذين نقلت إلينا حليتهم. وقد جاءت الأحاديث (¬2) الصحيحة الصريحة بذلك، فمن أراد الاقتداء بالهيئة التي كان عليها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فليترك له جمة كالجمة التي كانت لسيد الأمة [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] من دون أن يحلق بعض شعر الرأس، ويبقى بعضه، كما يعتاده البدو (¬3) في ¬

(¬1) وخلاصة القول: إذا كان الحالف بغير الله لا يعتقد أن عظمة المحلوف به كعظمة الله لم يكن الشرك شركًا أكبر يخرج صاحبه عن الملة، بل كان شركًا أصغر، أما إذا اعتقد أن عظمة المحلوف به كعظمة الله أو أعظم منها فهذا شرك أكبر بلا ريب. انظر: " فتح الباري " (11/ 540). (¬2) عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إناء واحد وكان له شعر فوق الجمة ودون الوفرة ". أخرجه الترمذي في " الشمائل " (ص19 رقم24). وأخرجه أيضًا الترمذي في " السنن " رقم (1755) وابن ماجه رقم (604) الجزء المتعلق بالغسل. وأخرج ابن ماجه رقم (3635) الجزء المتعلق بالشعر. وأخرج أبو داود رقم (77) ورقم (4187) مفرقًا. وكذا ابن سعد في " الطبقات " (1/ 429) وأحمد في مسنده (6/ 108 و118). * الجمة: الجمة من شعر الرأس ما سقط على المنكبين. " النهاية " (1/ 300). * الوفرة: شعر الرأس إذا وصل إلى شحمة الأذن. " النهاية " (5/ 210). (¬3) في المخطوط البدوان وما أثبتناه من " المعجم الوسيط " (1/ 45).

الجهات المتصلة بصنعاء، فإن ذلك منهي عنه، لأن التحليق إن كان لموضع الحلاقة فقد ورد عنه النهي الصحيح، وإن كان لمواضع من الرأس فهو القزع المنهي عنه بالحديث الصحيح (¬1)، وهكذا حلق البعض، وتقصير البعض. وأما حلق الرأس كله فلم يرد ما يدل على النهي عنه (¬2)، وإن كانت خلاف السنة، وإن كان لغير النسك. وقد ثبت أن التحليق سيما الخوارج ولعلهم يفعلون ذلك معتقدين لمشروعيته. نعم ورد الأمر النبوي لمن أسلم أن يلقي [14] عنه شعر الكفر (¬3)، فمن دخل في ¬

(¬1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (5920) ومسلم رقم (113/ 2120) وأبو داود رقم (4193) والنسائي (8/ 182) وابن ماجه رقم (3637) عن نافع مولى عبد الله أنه سمع ابن عمر رضي الله عنهما يقول: " سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عن القزع؟ قال عبيد الله: وما القزع؟ فأشار لنا عبيد الله قال: إذا حلق الصبي وترك هاهنا شعرة وهاهنا فأشار لنا عبيد الله إلى ناصيته وجانبي رأسه، قيل لعبيد الله: فالجارية والغلام؟ قال: لا أدري، هكذا قال " الصبي. قال عبيد الله: وعاودته فقال: أما القصة والقفا للغلام فلا بأس بهما، ولكن القزع أن يترك بناصيته شعر وليس في رأسه غيره، وكذلك شق رأسه هذا وهذا ". (¬2) بل ورد عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر بحلق الرأس مرة واستحسنه أخرى. * أخرج أبو داود رقم (4192) والنسائي (8/ 135) عن عبد الله بن جعفر - رضي الله عنه - إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمهل آل جعفر ثلاثًا أن يأتيهم ثم أتاهم فقال: " لا تبكوا على أخي بعد اليوم " ثم قال: " ادعوا لي بني أخي " فجيء بنا كأنا أفرخ، فقال: " ادعوا لي الحلاق " فأمره فحلق رءوسنا. وهو حديث صحيح. * وأخرج أبو داود رقم (4190) وابن ماجه رقم (3636) والنسائي (8/ 135) عن وائل بن حجر، قال: أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولي شعر طويل. فلما رآني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " ذباب ذباب " قال: فرجعت فجزرته، ثم أتيته من الغد فقال: " إني لم أعنك، وهذا أحسن ". وهو حديث صحيح. (¬3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (356) عن عثيم بن كليب عن أبيه عن جده أنه جاء إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال قد أسلمت، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ألق عنك شعر الكفر" يقول: احلق، قال: وأخبرني آخر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لآخر معه: " ألق عنك شعر الكفر واختتن ". وهو حديث صحيح.

الإسلام بعد الكفر فعليه أن يحلق شعره الذي كان على بدنه في الكفر، وهو شعر الرأس لا شعر اللحية ونحوه مما لا يرد الشرع بحلقه. هذا على تسليم أن أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهذا الفرد من أفراد الكفار يكون أمرًا لكل فرد منهم، والخلاف في المسألة معروف في الأصول (¬1). ولم ينقل إلينا أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أحدًا ممن أسلم من أكابر الصحابة أن يحلق شعره، ولا من غيرهم من متأخري الإسلام غير هذا الرجل. ومع هذا فالحديث المذكور في حلق الرأس ضعيف كما أوضح ذلك علماء هذا الشأن (¬2). ¬

(¬1) انظر " إرشاد الفحول " (ص444) تقدم ذكره. وانظر: " البحر المحيط " (3/ 190)، " تيسير التحرير " (1/ 252). (¬2) أما حكم حلق شعر الرأس فإنه يختلف باختلاف الداعي إليه: (أ): فإن حلق للحج أو العمرة فهذا نسك قد أمر الله به في كتابه وأمر به رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفعله هو والمسلمون. (ب): وإن حلقه لحاجة كمرض أو نحوه فهذا قد أذن الله فيه وقت الإحرام، قال تعالى: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة: 196]. ورخص فيه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكعب بن عجرة حين جيء به إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو محرم والقمل يتناثر من رأسه، فقال له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يؤذيك هوام رأسك؟ قال: نعم، قال: احلق رأسك وانسك شاة: أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم فرقًا بين ستة مساكين " أخرجه البخاري رقم (4159) ومسلم رقم (120). فإذا جاز ذلك للمحرم الذي يمنع من حلق شعره جاز لغيره بطريق الأولى. (ج): أن يحلقه لغير حاجة ولا نسك: روي عن الإمام أحمد أنه يكره، وروي عنه أنه لا يكره، لكن تركه أفضل وهذا هو الصحيح من المذهب. " الإنصاف " (1/ 123)، والمغني (1/ 122). * ويرى الحنفية أن الحلق سنة. " الفتاوى الهندية (5/ 357). * ويرى الشافعية أن الحلق جائز، فقد ذكر النووي في " المجموع " (1/ 347) " أن الغزالي قال: لا بأس لمن أراد التنظيف، ولا بأس بتركه لمن أراد دهنه وترجيله ". * ويرى المالكية في حلق الرأس لغير ضرورة شرعية قولان: الجواز والكراهة. انظر: " كفاية الطالب الرباني " (2/ 366 - 367). قلت: الراجح جواز حلق الرأس وتركه لحديث ابن عمر الصحيح أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى صبيًا قد حلق بعض رأسه وترك بعضه فنهاهم عن ذلك. وقال: " احلقوا كله أو ذروا كله ". أخرجه أحمد (2/ 88) وأبو داود رقم (4195) والنسائي (8/ 130 رقم 5048) وهو حديث صحيح. ولحديث جعفر عبد الله بن جعفر الصحيح قد تقدم.

* (السؤال الثامن): حاصله عن أرض فيها آثار ملك متقادمة، ولا يد عليها في الحال، ولا يعرف مالكها، ولبعض الناس أوضاع شرعية تفيد أن له ملكًا فيها، ولكنه غير معين في جهة من جهاتها، فهل يجوز إحياؤها أم لا؟. * أقول: إن الأرض التي فيها آثار ملك (¬1) لمالك غير معروف إن كانت في البلاد ¬

(¬1) قال ابن قدامة في " المغني " (8/ 146) وجملته أن الموات قسمان: أحدهما: ما لم يجر عليه ملك لأحد، ولم يوجد فيه أثر عمارة، فهذا يملك بالإحياء بغير خلاف بين القائلين بالإحياء. الثاني: ما جرى عليه ملك مالك وهو ثلاثة أنواع: أ/- ماله مالك معين وهو ضربان: - صلى الله عليه وسلم - أحدهما: ما ملك بشراء أو عطية فهذا لا يملك بالإحياء بغير خلاف. قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن ما عرف يملك مالك غير منقطع أنه لا يجوز إحياؤه لأحد غير أربابه. الثاني: ما ملك بالإحياء ثم ترك حتى دثر وعاد مواتًا فهو كالذي قبله سواء. وقال مالك: يملك هذا لعموم قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أحيا أرضًا ميتة فهي له " ولأن أصل هذه الأرض مباح فإذا تركت حتى تصير مواتًا عادت إلى الإباحة. وقال ابن قدامة ولنا أن هذه أرض يعرف مالكها، فلم تملك بالإحياء، كالتي ملكت بشراء أو عطية، والخبر مقيد بغير المملوك، بقوله في الرواية الأخرى: " من أحيا أرضًا ميتة ليست لأحد " وقوله " في غير حق مسلم ". وهذا يوجب تقييد مطلق حديثه. ب\- ما يوجد فيه آثار ملك قديم جاهلي. كآثار الروم ومساكن ثمود ونحوها، فهذا يملك بالإحياء لأن ذلك لا حرمة له. وقد روي عن طاوس عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " عادي الأرض لله ولرسوله، ثم هو بعد لكم " رواه سعيد بن منصور في سننه، وقال أبو عبيدة في الأموال - (ص 272). عادي الأرض: التي كان بها ساكن في آباد الدهر فانقرضوا، فلم يبق منهم أنيس وإنما نسبها إلى عاد، لأنهم كانوا مع تقدمهم ذوي قوة وبطش وآثار كثيرة فنسب كل أثر قديم إليهم، ويحتمل أن كل ما فيه أثر الملك، ولم يعلم زواله قبل الإسلام، أنه لا يملك، لأنه يحتمل أن المسلمين أخذوه عامرًا فاستحقوه، فصار موقوفًا بوقف عمر له، فلم يملك، كما لو علم مالكه. ج\- ما جرى عليه الملك في الإسلام لمسلم، أو ذمي غير معين، فظاهر كلام الخرقي أنها لا تملك بالإحياء. وهي إحدى الروايتين عن أحمد. ولأن هذه الأرض لها مالك، فلم يجز إحياؤها: كما لو كان معينًا، فإن مالكها إن كان له ورثة فهي لهم، وإن لم يكن له ورثة، ورثها المسلمون والرواية الثانية أنها تملك بالإحياء. وهو مذهب أبي حنيفة ومالك لعموم الأخبار؛ ولأنها أرض موات، لا حق فيها لقوم بأعيانهم، أشبهت ما لم يجر عليه ملك مالك، ولأنها إن كانت في دار الإسلام فهي كلقطة دار الإسلام، وإن كانت في دار الكفر فهي كالركاز.

الإمامية فهي بيت مال يكون أمرها إلى الإمام، يجعلها لمصلحة من مصالح المسلمين، أو يبيعها، أو يؤجرها. وإن كانت في أرض غير إمامية كان أمرها إلى أصلح أهل تلك البلد، يجعلها في مصالح المسلمين على أي صفة من الصفات التي يعود نفعها على المسلمين، وإذا كان لآحاد الناس أوضاع صحيحة تفيد أنه يملك فيها مقدارًا معلومًا غير معين في جهة من جهاتها كان له ذلك المقدار في أوسط بقاعها الذي يكون متوسطًا بين أعلاها وأدناها إذا كانت مختلفة، فإن كانت متحدة كان للإمام أو الحاكم من جهته، أو حاكم الصلاحية أن يعين لصاحب الوضع ما اشتمل عليه وضعه في أي جهة من جهاتها، والمفروض أنه لا ثبوت يد عليها حتى يعارض الوضع الذي بيد المتمسك به، وإذا كانت تلك الأرض لقوم معروفين وهي منسوبة إليهم نسبة تفيد الملك فإن كان [15] نصيب كل واحد منهم معلومًا غير معين في جهة قسمت بينهم على قدر الأنصباء، وإن كان

النصيب مجهولاً قسمت بينهم على الرءوس مع عدم البرهان الشرعي بوجه من الوجوه. * (السؤال التاسع): حاصله هل يجوز التأديب بالمال (¬1) إذا حصل من أحد الرعايا قتل أو نحوه أم لا يجوز؟ وإن كانوا لا يقومون في الغالب بما أوجبه الله عليهم من صلاة وصيام ونحوهما، وهي في أموالهم حق غير الزكاة؟. * أقول: قد شرع الله لعباده الشرائع، وحد لهم الحدود، وجعل لكل ذنب عقوبة، فالقاتل يقتل أو يسلم الدية إن لم يكمل شروط القصاص، أو كملت ورضي الورثة بالدية، والجاني يقتص منه فيما يجب فيه القصاص، ويسلم الأرش في الجناية التي لا قصاص فيها، والزاني والسارق والقاذف والسكران قد جاءت الشريعة بعقوبات مقدرة في كل واحد منهم. وتارك أركان الإسلام أو بعضها إذا أصر على الترك، ولم يتب وجب قتاله (¬2) بحسب الطاقة، وهكذا جاءت الشريعة المطهرة بما يلزم كل من فعل محرمًا، أو ترك واجبًا. ولم يأت في شيء من هذه الأمور الشرعية التأديب بالمال، وإن ورد شيء من ذلك في الشريعة كتضعيف الغرامة في بعض المسائل، وأخذ شطر من لم يسلم الزكاة (¬3)، وأخذ ثياب من يقطع أشجار حرم المدينة (¬4)، ¬

(¬1) جواز التأديب بالمال تقدم ذكره في الرسالة (130). (¬2) تقدم ذكره. (¬3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أحمد (5/ 4) وأبو داود رقم (1575) والنسائي (5/ 15، 16). عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنة لبون لا تفرق إبل عن حسابها، من أعطاها مؤتجرًا فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها، وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا تبارك وتعالى، لا يحل لآل محمد منها شيء ". وهو حديث حسن. (¬4) يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1364) وأحمد (1/ 168) من حديث سعد بن أبي وقاص: " أنه ركب إلى قصره بالعقيق فوجد عبدًا يقطع شجرًا أو يخبطه فسلبه، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم فقال: معاذ الله أن أرد شيئًا نفلنيه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبى أن يرد عليهم ".

ونحو ذلك فهو مقصور على محله لا تجوز مجاوزته إلى غيره. وقد استوفيت الكلام على ذلك في رسالة مستقلة (¬1) [16]، وسردت فيها المواضع التي وردت، وأوضحت هنالك أن الأصل الأصيل المعلوم بالضرورة الدينية هو تحريم مال المسلم (¬2)، وعصمته، وعدم تسويغه إلا بطيبة من نفسه (¬3)، وأن تلك المواضع التي فيها التأديب بالمال كالمخصصة لهذا العموم، فيقتصر عليها. ولا تجوز مجاوزتها إلى غيرها، وأنه لا يجوز ذلك في هذه المواضع التي وردت إلا لأئمة المسلمين المتبحرين في معرفة أحكام الدين، ولا تجوز لأفرادهم كائنًا من كان. ولا يشك عالم أن تلك المواضع اليسيرة واردة على خلاف الأصل في هذه الشريعة، فإن الأصل المعلوم بالضرورة هو ما ورد في كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من العقوبات المقدرة للعصاة. وقد تهافت الظلمة في هذه المسألة تهافتًا شنيعًا، حتى عطلوا الحدود الواجبة، واستحلوا أموال المسلمين بغير حقها، فأخذوا ما حرم الله عليهم أخذه، وهو مال المسلم، وأهملوا ما أخذ الله عليهم القيام به، وهي الحدود الشرعية، فجمعوا بين خطيئتين شنيعتين هما استحلال أموال المسلمين وأكلها بالباطل، وتعطيل حدود الله التي شرعها لعباده، وأعانهم على ذلك علماء السوء فأفتوهم بما وجدوه في نصوص أهل العلم من الكلام على التأديب بالمال، فضلوا وأضلوا، وكانوا شركاءهم في المظلمة، مع أن نصوص أهل العلم مقيدة بقيود مشروطة بشروط، وكذلك الأدلة [17] الواردة في ذلك، فإنها في مواطن خاصة مباينة لما يفعله أهل الظلم، مبنية على ¬

(¬1) رقم (130). (¬2) قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} [النساء: 29]. (¬3) قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه " وهو حديث صحيح تقدم تخريجه.

مصالح عامة وخاصة، لا يقف على وجه الحكمة فيها إلا أفراد العلماء. وأما ما سأل عنه السائل من قوله: " هل في المال حق سوى الزكاة؟ ". فأقول قد تكلم علماء التفسير والحديث والفقه في ذلك بكلام طويل، والراجح أن حديث: " ليس في المال حق سوى الزكاة " (¬1) عام مخصص بمثل وجوب الضيافة، وسد رمق محترم الدم كما وردت بذلك الأدلة الخاصة، وبمثل قوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} (¬2)، وقوله [تعالى] {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم} (¬3) ونحو ذلك مما وردت به الشريعة المطهرة، لا ما لم ترد به مما ابتدعه أهل الظلم، وجعلوه ذريعة إلى أكل أموال الناس بالباطل (¬4). ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه رقم (1789) من حديث فاطمة بنت قيس. وهو حديث ضعيف. (¬2) [الأنعام: 141]. (¬3) [التوبة: 41]. (¬4) وسؤال: هل في المال حق سوى الزكاة؟ فيه مذهبان: الأول: أن الحق الوحيد في المال هو الزكاة، فمن أخرج زكاته فقد طهر ماله. وبرئت ذمته، ولا يطالب بعدها بشيء آخر. إلا ما تطوع به، رغبة في ثواب الله. من أدلة هذا المذهب: ما أخرجه البخاري (46) ومسلم رقم (8/ 11) ومالك (1/ 175 رقم94) وأحمد (1/ 162) وأبو داود رقم (391) والنسائي (1/ 226 - 227) من حديث طلحة بن عبيد الله قال: جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أهل نجد ثائر الرأس، نسمع دوي صوته، ولا نفقه ما يقول حتى دنا، فإذ هو يسأل عن الإسلام فقال له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " خمس صلوات في اليوم والليلة " قال هل علي غيرهن؟ قال: لا إلا أن تطوع. قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " وصيام شهر رمضان " قال: هل علي غيره؟ قال: لا إلا أن تطوع، قال: وذكر له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزكاة، فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع، قال: فأدبر الرجل وهو يقول والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أفلح الرجل إن صدق ". وما أخرجه البخاري رقم (1397) ومسلم رقم (15/ 14) من حديث أبي هريرة أن أعرابيًا جاء إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال: " تعبد الله لا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان " قال: والذي بيده لا أزيد على هذا شيئًا أبدًا، ولا أنقص منه، فلما ولى، قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا ". * في الحديث الأول أخبر الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرجل: أن لا شيء عليه غير الزكاة إلا أن يتطوع، وهو دليل ظاهر. * وفي الحديثين أعلن الرجلان السائلان: أنهما لا يزيدان على الزكاة المفروضة شيئًا ورضى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منهما ذلك. بل أخبر أنهما من أهل الجنة، ولو كان في المال حق سوى الزكاة ما استحقا الجنة مع تركه. المذهب الثاني: أن في المال حق سوى الزكاة. ومن أدلة هذا المذهب: الأول: قول الله تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون} [البقرة: 177]. * الشاهد في الآية أنها جعلت من أركان البر وعناصره إيتاء المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ... ثم عطف على ذلك إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والعطف يقتضي المغايرة، فدل على أن ذلك الإيتاء غير إيتاء الزكاة. الدليل الثاني: قول الله تعالى: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} [الأنعام: 141]. * والشاهد في الآية. أن الحق المأمور به في الآية هو شيء غير الزكاة، لأن الآية مكية نزلت قبل فرض العشر في المدينة. الدليل الثالث: أحاديث صحيحة في حقوق الإبل والبقر والغنم. منها: ما أخرجه مسلم رقم (28/ 988) والنسائي (5/ 27 رقم 2454) عن جابر بن عبد الله، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها، إلا أظهر لها يوم القيامة بقاع قرقر. تطؤه ذات الظلف بظلفها، وتنطحه ذات القرن بقرنها، ليس فيها يومئذ جماء ولا مكسورة القرن. قلنا يا رسول الله: وما حقها؟ قال: إطراق فحلها وإعارة دلوها. ومنيحتها، وحلبها على الماء. وحمل عليها في سبيل الله ... ". * ووجه الدلالة في هذا الحديث وأمثاله، أنها رتبت الوعيد على منع الحقوق المذكورة فدلت على أنها حقوق واجبة، وهي حقوق أخرى غير الزكاة. الدليل الرابع: أحاديث صحيحة في إيجاب حق الضيف على المضيف. (منها): ما أخرجه البخاري رقم (6135) ومسلم رقم (14/ 48) ومالك رقم (22) وابن ماجه رقم (3675). عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام فما بعد ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يخرجه ". * دلالته: أن للضيف الطارق حقًا أكيدًا في حال أخيه المسلم الذي أضافه حتى إن الجماعة ليجب عليها معاونته ونصره حتى يأخذ هذا الحق المؤكد وهو حق غير الزكاة. الدليل الخامس: ما جاء من الوعيد بشأن الذين يمنعون الماعون. قال تعالى: {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون} [الماعون: 4 - 7]. الدليل السادس: النصوص الجمة التي أوجبت التعاون والتكامل بين المسلمين وفرضت إطعام المسكين والحض عليه. منها: قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة: 2]. وقوله تعالى: {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل} [الإسراء: 26]. وقوله تعالى: {وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم} [النساء: 36]. الشاهد في هذه الآيات وغيرها أن الله أوجب على الأغنياء حق المساكين وابن السبيل مع حق ذي القربى. وافترض الإحسان إلى الأبوين وذي القربى والمساكين والجار وما ملكت اليمين، والإحسان يقتضي كل ما ذكرنا، ومنعه إساءة بلا شك. وواضح أن هذا الحق شيء غير الزكاة. * والذي نراه أن شقة الخلاف بينهما ليست بالسعة التي نتخيلها، فإن بينهما مواضع اتفاق لا شك فيها، ولا ينازع فيها أحد الطرفين: (أ): فحق الوالدين في النفقة إذا احتاجا، وولدهما موسر، لا نزاع فيه. (ب): وحق القريب لا نزاع فيه كذلك من حيث المبدأ، وإنما اختلفوا في درجة القرابة الموجبة للنفقة ما بين موسع ومضيق. (ج): وحق المضطر إلى القوت، أو الكساء، أو المأوى، في أن يقات لا نزاع فيه. (د): وحق جماعة المسلمين في دفع ما ينوبهم من النوازل العامة التي تنزل بهم، كصد خطر العدو واستنقاذ أسرى المسلمين من أيدي الكفار. ومقاومة الأوبئة والمجاعات ونحوها، وأن وجوب المساهمة في هذه النوازل موضع إجماع من علماء المسلمين. " الاعتصام " للإمام الشاطبي (2/ 121). يتضح لنا أن الذين صرحوا بأن لا حق في المال سوى الزكاة، إنما قصدوا نفي المكوس الجائرة التي يفرضها بعض الحكام، توسعة على أنفسهم وأتباعهم، تضيقًا على شعوبهم، وإن لم تدفع إلى ذلك حاجة، ولم تقتضه مصلحة عامة. وكأنما خشي هؤلاء العلماء أن يتخذ الحكام الظلمة قولهم ذريعة إلى فرض المكوس والضرائب المرهقة بغير حق فسدوا عليهم الباب، وقطعوا عليهم السبيل بقولهم لا حق في المال سوى الزكاة. * ولكن هناك جملة مواضع اختلف فيها الطرفان اختلافًا حقيقيًا: (أ): حق الزرع والثمر عند الحصاد، والراجح أن المراد به العشر ونصف العشر. (ب): حق الضيف والراجح وجوب هذا الحق. (ج): حقوق المواشي في الإبل والغنم والبقر ... والراجح أنها حقوق واجبة غير الزكاة. انظر " فقه الزكاة " للقرضاوي (1/ 344 - 348)، " نيل الأوطار " للشوكاني (8/ 157 - 158). (د): حق الماعون. والراجح أنه واجب للوعيد الشديد الذي ذكره الله في كتابه. وأخيرًا فيما تأويل الأحاديث الصحيحة التي يفيد ظاهرها أن لا حق في المال سوى الزكاة، إلا بتطوع المالك، وأن من زكاته فقد قضى ما عليه؟؟ يتضح لنا من تلك الأحاديث الصحيحة، أن الزكاة هي الحق الدوري المحدد الثابت في المال، والواجب على الأعيان بصفة دائمة، شكرًا لنعمة الله وتطهيرًا وتزكية للنفس والمال. وهو حق واجب الأداء. ولو لم يوجد فقير يستحق المواساة أو حاجة تستدعي المساهمة. فالفرد المسلم المالك للنصاب في الظروف العادية لا يطالب بشيء في ماله غير الزكاة، فإذا أداها فقد قضى ما عليه، وأذهب عن نفسه شر ماله، وليس عليه شيء آخر، وتتغير بتغير العصور والبينات والملابسات. وهي في الغالب لا تجب على الأعيان بل على الكفاية، إذا قام بها البعض سقط الحرج عن الباقين، وقد تتعين أحيانًا كأن يرى الشخص مضطرًا وهو قادر على دفع ضرورته فيجب عليه دفعها. أو يكون له جار جائع أو عريان وهو قادر على معونته، كما أن الغالب أن توكل هذه الحقوق إلى إيمان الأفراد وضمائرهم دون تدخل السلطة. إلا أن يرى حاكم مسلم أن يفرض بقوة القانون فرضًا ما أوجبه الإيمان إيجابًا وخاصة إذا كثرت حاجات الأفراد واتسعت نفقات الدولة وأعباؤها، فحينئذ لا بد من تدخل الدولة وإلزامها. " فقه الزكاة " د. القرضاوي (2/ 961 - 992).

* (السؤال العاشر): عن العمائر المستحدثة في الحرم الشريف كالمقامات والمنارات، وكذلك التعلية في البيوت زيادة على الحاجة. * أقول: عمارة المقامات بدعة بإجماع المسلمين، أحدثها أشر ملوك الشراكسة فرج ابن برقوق (¬1) في أوائل المائة التاسعة من الهجرة، وأنكر ذلك أهل العلم في ذلك العصر، ووضعوا فيه مؤلفات. وقد بينت ذلك في غير هذا الموضع (¬2). ويا لله العجب من بدعة يحدثها من هو من شرار ملوك المسلمين في خير بقاع الأرض، ¬

(¬1) وهو فرج بن برقوق الجركسي الملقب بالناصر. ولد سنة 791 في وسط الفتنة " فتنة يلبغا الناصري ومنطاش فسماه أبوه بلفاق ثم سماه فرجا، فكان اسمه الحقيقي هو الأول. واستفتوا العلماء فأفتوا بوجوب قتله لما كان يرتكبه من المحرمات والمظالم والفتك العظيم، فقتل في ليلة السبت سابع عشر من صفر سنة 815 هـ. " الأعلام " للزركلي (5/ 140)، " الضوء اللامع " (6/ 168). (¬2) " البدر الطالع " رقم (369).

كيف لم يغضب لها من جاء بعده من الملوك المائلين إلى الخير (¬1) [18]، لا سيما وقد صارت هذه المقامات سببًا من أسباب تفريق الجماعات! وقد كان الصادق المصدوق ينهى عن الاختلاف والفرقة، ويرشد إلى الاجتماع والألفة كما في الأحاديث الصحيحة، بل نهى عن تفريق الجماعات في الصلوات. وبالجملة فكل عاقل متشرع يعلم أنه قد حدث بسبب هذه المذاهب التي فرقت الإسلام فرقًا مفاسد أصيب بها الدين وأهله، وأن من أعظمها خطرًا وأشدها على الإسلام ما يقع الآن في الحرم من تفريق الجماعات، ووقوف كل طائفة في مقام من هذه المقامات، كأنهم أهل أديان مختلفة، وشرائع غير مؤتلفة، فإنا لله وإنا إليه راجعون (¬2). [حكم رفع المنارة] (¬3). وأما رفع المنارات فأصل وضعها المقصد صالح، وهو إسماع البعيد عن محل الآذان، وهذه مصلحة مسوغة إذا لم تعارضها مفسدة، فإن عارضتها مفسدة من المفاسد المخالفة للشريعة فدفع المفاسد مقدم على جلب المصالح، كما تقرر في الأصول (¬4). [حكم تشييد البنيان فوق الحاجة]. ¬

(¬1) تم إزالتها ولله الحمد. (¬2) قلنا والحمد لله قد تم إزالتها ولم يبق لها أثر. (¬3) قال الألباني في " الأجوبة النافعة " (ص18): " ... ، فالذي نجزم به أن المنارة المعروفة اليوم ليست من السنة في شيء غير أن المعنى المقصود منها. وهو التبليغ، أمر مشروع بلا ريب - فإذا كان التبليغ لا يحصل إلا بها، فهي حينئذ مشروعة لما تقرر في علم الأصول: أن ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب. غير أن من رأيي أن وجود الآلات المكبرة للصوت اليوم يغني عن اتخاذ المأذنة كأداة للتبليغ، لا سيما وهي تكلف المبالغ الطائلة، فبناؤها والحالة هذه مع كونه بدعة - ووجود ما يغني عنه غير مشروع لما فيه من إسراف وتضييع للمال، ومما يدل دلالة قاطعة على أنها صارت اليوم عديمة الفائدة، أن المؤذنين لا يصعدون إليها البتة مستغنين عنها بمكبر الصوت ". (¬4) انظر " البحر المحيط " (6/ 76)، و" تيسير التحرير " (4/ 171).

وأما تشييد (¬1) البنيان ورفعه فوق حاجة الإنسان، فقد ورد النهي عنه (¬2)، والوعيد ¬

(¬1) (منها) ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5672) من حديث خباب مرفوعًا " ... إن المسلم ليؤجر في كل شيء ينفقه، إلا في شيء يجعله في التراب ". قال الحافظ في " الفتح " (11/ 62) وقد ورد في ذم تطويل البناء مطلقًا. (منها): ما أخرجه الترمذي في " السنن " رقم (2483) عن حارثة بن مضرب قال أتينا خبابًا نعوده وقد اكتوى سبع كيات فقال: لقد تطاول مرضي ولولا أني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " لا تمنوا الموت لتمنيت " وقال: " يؤجر الرجل في نفقته كلها إلا التراب أو قال في البناء ". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وهو حديث صحيح. والله أعلم. (ومنها): ما أخرجه الطبراني في " الأوسط " (8/ 381 رقم 8939) بإسناد ضعيف من حديث أبي بشر الأنصاري أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إذا أراد الله بعبد هوانًا أنفق ماله في البنيان ". وأورده الهيثمي في " المجمع " (4/ 69) وقال فيه من لم أعرفه. (ومنها): ما أخرجه أبو داود رقم (5236) ورقم (5235) والترمذي رقم (2335) وابن ماجه رقم (4160) وابن حبان (2996، 2997) من طرق. عن عبد الله بن عمرو قال: " مر بي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أطين حائطًا فقال: الأمر أعجل من ذلك ". وفي لفظ " مر علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن نعالج خصًا لنا، فقال: ما هذا؟ فقلنا قد وهى فنحن نصلحه قال: ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك " وهو حديث صحيح. * قال الحافظ في " الفتح " (11/ 93) بعد سرده هذه الأحاديث " وهذا كله محمول عن ما لا تمس الحاجة إليه مما لا بد منه للتوطن، وما يقي البرد والحر ". وقد أخرج أبو داود في " السنن " رقم (5237): من حديث أنس أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج، فرأى قبة مشرقة فقال: " ما هذه " قال له أصحابه: هذه لفلان رجل من الأنصار، قال: فسكت وحملها في نفسه حتى إذا جاء صاحبها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلم عليه في الناس أعرض عنه، صنع ذلك مرارًا، حتى عرف الرجل الغضب فيه والإعراض عنه، فشكا ذلك إلى أصحابه، فقال: والله إني لأنكر رسول الله، قالوا: خرج فرأى قبتك - قال: فرجع الرجل إلى قبته فهدمها حتى سواها بالأرض، فخرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم فلم يرها، قال: " ما فعلت القبة " قالوا: شكا إلينا صاحبها إعراضك عنه، فأخبرناه فهدمها فقال: " أما إن كل بناء وبال على صاحبه إلا مالا، إلا ما لا " يعني ما لا بد منه. وهو حديث صحيح. انظر " الصحيحة " رقم (2830). * قال الحافظ في " الفتح " (11/ 92 - 93): تعليقًا على ما أخرجه البخاري في صحيحه الباب رقم (53) قال أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " من أشراط الساعة إذا تطاول رعاة البهم في البنيان ". وأشار بإيراد هذه القطعة إلى ذم التطاول في البنيان وفي الاستدلال بذلك نظر. ثم قال ابن حجر لم يتقدم للإثم في الخبر ذكر حتى يعترض به، وكلامه يوهم أن في البناء كله الإثم، وليس كذلك بل فيه تفصيل. وليس كل ما زاد منه عن الحاجة يستلزم الإثم، ولا شك أن في الغرس من الأجر من أجل ما يؤكل منه ما ليس في البناء، وإن كان في بعض البناء ما يحصل به النفع لغير الباني، فإنه يحصل للباني به التراب والله سبحانه وتعالى أعلم. وقد أخرج البخاري حديث أبي هريرة موصولاً رقم (50): قال الحافظ في " الفتح " (1/ 123): قال القرطبي: " المقصود الإخبار عن تبدل الحال بأن يستولي أهل البادية على الأمر ويتملكوا البلاد بالقهر فتكثر أموالهم وتنصرف هممهم إلى تشييد البنيان والتفاخر به، وقد شاهدنا ذلك في هذه الأزمنة ". (¬2) (منها) ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5672) من حديث خباب مرفوعًا " ... إن المسلم ليؤجر في كل شيء ينفقه، إلا في شيء يجعله في التراب ". قال الحافظ في " الفتح " (11/ 62) وقد ورد في ذم تطويل البناء مطلقًا. (منها): ما أخرجه الترمذي في " السنن " رقم (2483) عن حارثة بن مضرب قال أتينا خبابًا نعوده وقد اكتوى سبع كيات فقال: لقد تطاول مرضي ولولا أني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " لا تمنوا الموت لتمنيت " وقال: " يؤجر الرجل في نفقته كلها إلا التراب أو قال في البناء ". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وهو حديث صحيح. والله أعلم. (ومنها): ما أخرجه الطبراني في " الأوسط " (8/ 381 رقم 8939) بإسناد ضعيف من حديث أبي بشر الأنصاري أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إذا أراد الله بعبد هوانًا أنفق ماله في البنيان ". وأورده الهيثمي في " المجمع " (4/ 69) وقال فيه من لم أعرفه. (ومنها): ما أخرجه أبو داود رقم (5236) ورقم (5235) والترمذي رقم (2335) وابن ماجه رقم (4160) وابن حبان (2996، 2997) من طرق. عن عبد الله بن عمرو قال: " مر بي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أطين حائطًا فقال: الأمر أعجل من ذلك ". وفي لفظ " مر علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن نعالج خصًا لنا، فقال: ما هذا؟ فقلنا قد وهى فنحن نصلحه قال: ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك " وهو حديث صحيح. * قال الحافظ في " الفتح " (11/ 93) بعد سرده هذه الأحاديث " وهذا كله محمول عن ما لا تمس الحاجة إليه مما لا بد منه للتوطن، وما يقي البرد والحر ". وقد أخرج أبو داود في " السنن " رقم (5237): من حديث أنس أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج، فرأى قبة مشرقة فقال: " ما هذه " قال له أصحابه: هذه لفلان رجل من الأنصار، قال: فسكت وحملها في نفسه حتى إذا جاء صاحبها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلم عليه في الناس أعرض عنه، صنع ذلك مرارًا، حتى عرف الرجل الغضب فيه والإعراض عنه، فشكا ذلك إلى أصحابه، فقال: والله إني لأنكر رسول الله، قالوا: خرج فرأى قبتك - قال: فرجع الرجل إلى قبته فهدمها حتى سواها بالأرض، فخرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم فلم يرها، قال: " ما فعلت القبة " قالوا: شكا إلينا صاحبها إعراضك عنه، فأخبرناه فهدمها فقال: " أما إن كل بناء وبال على صاحبه إلا مالا، إلا ما لا " يعني ما لا بد منه. وهو حديث صحيح. انظر " الصحيحة " رقم (2830). * قال الحافظ في " الفتح " (11/ 92 - 93): تعليقًا على ما أخرجه البخاري في صحيحه الباب رقم (53) قال أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " من أشراط الساعة إذا تطاول رعاة البهم في البنيان ". وأشار بإيراد هذه القطعة إلى ذم التطاول في البنيان وفي الاستدلال بذلك نظر. ثم قال ابن حجر لم يتقدم للإثم في الخبر ذكر حتى يعترض به، وكلامه يوهم أن في البناء كله الإثم، وليس كذلك بل فيه تفصيل. وليس كل ما زاد منه عن الحاجة يستلزم الإثم، ولا شك أن في الغرس من الأجر من أجل ما يؤكل منه ما ليس في البناء، وإن كان في بعض البناء ما يحصل به النفع لغير الباني، فإنه يحصل للباني به التراب والله سبحانه وتعالى أعلم. وقد أخرج البخاري حديث أبي هريرة موصولاً رقم (50): قال الحافظ في " الفتح " (1/ 123): قال القرطبي: " المقصود الإخبار عن تبدل الحال بأن يستولي أهل البادية على الأمر ويتملكوا البلاد بالقهر فتكثر أموالهم وتنصرف هممهم إلى تشييد البنيان والتفاخر به، وقد شاهدنا ذلك في هذه الأزمنة ".

عليه. وثبت أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بهدم بعض الأبنية، وليس ذلك مجرد بدعة، بل خلاف ما أرشد إليه الشارع. * (السؤال الحادي عشر): عن شجرة التنباك هل يجوز استعمالها على الصفة التي يستعملها كثير من الناس الآن أم لا؟. [19] * أقول: الأصل الذي شهد له القرآن الكريم، والسنة المطهرة هو أن كل ما في الأرض حلال، ولا يحرم شيء من ذلك إلا بدليل خاص كالمسكر، والسم القاتل، وما فيه ضرر عاجل أو آجل كالتراب ونحوه، وما لم يرد فيه دليل خاص فهو حلال استصحابًا للبراءة الأصلية، وتمسكًا بالأدلة العامة كقوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} (¬1)، {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما} (¬2)، إلى آخر الآية. ¬

(¬1) [البقرة: 29]. (¬2) [الأنعام: 145]. وتتمتها {على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به}.

وهكذا الراجح عندي أن الأصل في جميع الحيوانات الحل، ولا يحرم شيء منها إلا بدليل يخصه، كذا الناب من السباع (¬1)، والمخلب من الطير، والكلب والخنزير (¬2)، وسائر ما ورد فيه دليل يدل على تحريمه. إذا تقرر لك هذا علمت أن هذه الشجرة التي يسميها بعض الناس التنباك، وبعضهم (التتن) لم يأت فيها دليل يدل على تحريمها، وليست من جنس المسكرات، ولا من السموم، ولا من جنس ما يضر آجلاً أو عاجلاً، فمن زعم أنها حرام فعليه الدليل، ولا يفيد مجرد القال والقيل. وقد استدل بعض أهل العلم على حرمتها بقوله تعالى: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} (¬3) وأدرج هذه الشجرة تحت الخبائث بمسلك من مسالك العلة المدونة في الأصول. وقد غلط في ذلك غلطًا بينًا؛ فإن كون هذه الشجرة [20] من الخبائث هو محل النزاع (¬4)، فالاستدلال بالآية الكريمة على ذلك فيه شوب ¬

(¬1) اخرج مسلم في " صحيحه " رقم (16/ 1934) من حديث ابن عباس قال " نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ". (¬2) قال تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به} [المائدة: 3]. (¬3) [الأعراف: 157]. (¬4) وبما أن علماء الطب والتحليل تبين لهم أن الدخان مضر بالجسم الإنساني ويقضي على سعادة الإنسان وهنائه. انظر: " التدخين بين المؤيدين والمعارضين " د. هاني عرموش (ص29 - 76). قال ابن حزم في " المحلى " (6/ 111): " وأما أكل ما يستضر به من طين أو إكثار من الماء أو الخبز. فحرام ... وأما أكل ما أضر فهو حرام قال النووي في " روضة الطالبين " (3/ 281): كل ما ضر، كالزجاج، والحجر والسم يحرم ... ". قال الشيخ محمود شلتوت في " الفتاوى " (ص354): ومن هنا نعلم أخذًا من معرفتنا الوثيقة بآثار التبغ السيئة في الصحة والمال، أنه مما يمقته الشرع ويكرهه. وحكم الإسلام على الشيء بالحرمة أو الكراهة لا يتوقف على وجود نص خاص بذلك الشيء، فعلل الأحكام، وقواعد التشريع العامة، قيمتها في معرفة الأحكام. وبهذه العلل وتلك القواعد كان الإسلام ذا أهلية قوية في إعطاء كل شيء يستحدثه الناس حكمه في حل أو حرمة، وذلك عن طريق معرفة الخصائص والآثار الغالبة للشيء، فحيث كان الضرر كان الخطر، وحيث خلص النفع أو غلب كانت الإباحة، وإذا استوى النفع والضرر كانت الوقاية خيرا من العلاج ". انظر: " التدخين. مادته وحكمه في الإسلام " للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين.

مصادرة على المطلوب، والاستخباث المذكور إن كان بالنسبة إلى من يستعملها ومن لا يستعملها فهو باطل، فإن من يستعملها هي عنده من الطيبات لا من المستخبثات، وإن كان بالنسبة إلى بعض هذا النوع الإنساني فقد وجد فيهم من يستخبث العسل، وهو من أطيب الطيبات. وقد صح أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأكل الضب (¬1)، وقال أجدني أعافه فأكله بعض الصحابة بمرأى ومسمع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ومن أنصف من نفسه وجد كثيرًا من الأمور التي حللها الشارع من الحيوانات وغيرها، أو كانت حلالاً بالبراءة الأصلية، وعموم الأدلة في هذا النوع الإنساني من يستخبث بعضها، وفيهم من يستطيب ما يستخبثه غيره، فلو كان مجرد استخباث البعض مقتضيًا لتحريم ذلك الشيء عليه وعلى غيره لكان العسل ولحوم الإبل والبقر والدجاج من المحرمات، لأن في الناس من يستخبث ذلك ويعافه. واللازم باطل فالملزوم مثله، فتقرر بهذا الاستدلال على تحريم (¬2) (التتن) لكون البعض يستخبثه غلط، أو مغالطة. ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (5391) ومسلم رقم (44/ 1946) ومالك في الموطأ (2/ 968 رقم 10) وأبو داود رقم (3794) والنسائي (7/ 198 رقم 4317) وابن ماجه رقم (3241) من حديث ابن عباس. (¬2) تبعًا للآثار السيئة " للتدخين " على جهاز التنفس. وخاصة الرئة وما يسببه من سرطانات رئوية .. وقد أثبتت الدراسات أنه إصابة الجهاز التنفسي بالالتهابات القصبية والرئوية المزمنة تكثر عند المدخنين. - وكذلك أثر التدخين على الجهاز العصبي تأثيرًا بالغًا يؤدي إلى إصابة المدخن بالصداع والدوار وضعف الذاكرة ووهن في النشاط الذهني. وقد يصاب المدخن بمرض ضعف الأعصاب وربما يصاب بشلل الأعصاب الجزئي إذا كان من المفرطين جدًا في التدخين. وذهب البعض إلى أن التدخين يؤدي إلى التهاب الأعصاب البصرية وتخفيف حدة الرؤيا. - وأثر التدخين السيئ على الجهاز الهضمي. فقد ذهب الأطباء إلى أنه يسبب: - اضطرابًا في الوظيفة الإفرازية للغدد الهاضمة. - اضطراب الوظيفة الحركية للمعدة فتتأثر ويخف إفرازها بشكل عام كما تصاب بالوهن والضعف. - يؤثر التدخين على الغدد اللعابية فيزيد إفرازها ويتغير تركيب اللعاب الكيميائي .. - أثر التدخين السيئ على القلب والضغط الدموي. وقد يصاب المدخن بالاحتشاء (الجلطة) وقد يصاب المدخن بمرض تصلب الشرايين، ويؤدي إلى التهاب الشريان التاجي المغذي للقلب. لذلك ولأثار كثيرة جدًا يكتشفها الأطباء .. لذلك حرم بعض العلماء المعاصرين التدخين. والله تعالى أعلم.

وقد انقضى الجواب على سؤالات السائل مع المبالغة [21] في الاختصار، ليسهل الانتفاع بذلك على طالب الفائدة، ولو بسطنا الجواب بعض البسط لجاء جواب بعض هذه الأسئلة على انفراده على كراريس، فما الظن بجميعها! والحمد لله أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا. فرغ من تحريره المجيب محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما - في ليلة الأحد لعلها ليلة العشرين من محرم سنة 1217 [22].

تشنيف السمع بجواب المسائل السبع

(144) 15/ 4 تشنيف السمع بجواب المسائل السبع تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " تشنيف السمع بجواب المسائل السبع ". 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم وصلى اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه يا كريم ماذا يقول شيخنا حاكم القطر وعالم المصر 4 - آخر الرسالة: إنما قلت: ما قلت على الفرض والتقدير وعدم وجودك له لا يستلزم عدم قبولك لكلامي هذا. وإلى هنا انتهى الجوانب بقلم المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - عدد الصفحات: 17 صفحة ما عدا صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 31 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه يا كريم. ماذا يقول شيخنا حاكم القطر، وعالم المصر، واسطة عقد نظام الأعلام، وشيخ مشايخ الإسلام، صاحب الفضل الواضح الجلي أبو علي مولانا محمد بن علي لا زالت شموس علومه على الخلق مشرقة، ولا برحت رياض معارفه وعوارفه للطالبين مونقة في أسئلة لا تزال تخطر ببالي، وتمر على خيالي منذ أعوام عويمة، وأيام قديمة، وإنما يسأل بها عالم مثله، قد رسخت قدمه في علم السنة النبوية، وطالت يده في العلوم الشرعية حتى صار قافيًا في أقواله وأفعاله الطريقة المحمدية، سائرًا في جميع أموره السيرة الرضية المرضية، مائلاً عن القيل والقال، معرضًا عن آراء الرجال، لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يبالي عند قول الحق بمقالة ظالم، فليمعن النظر مولانا - كثر الله فوائده - في جوابها، وليبن بنير علمه طريق صوابها - جزاه الله خيرًا، ووقاه ضيرًا -. السؤال الأول: إنا نرى حكام الأقطار في هذه الأعصار يحلفون اليمين المسماة يمين العنت، ويلزمون الخصم أن يحلفها لخصمه، فهل لهم دليل فيما يفعلونه أم لا؟ فإني فتشت جل الكتب العلمية، وبحثت أكثر المجاميع الحديثية، فلم أجد فيها عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - حرفًا واحدًا إلا أن الفقيه حسن (¬1) ذكرها في تذكرته (¬2)، وتتابع بعده المفرعون في ذكرها حتى تهور الإمام شرف الدين فجعلها نظرية، ولم يعلم أن الحاكم إنما نصب ليحكم بين الناس بما جاء عن الله تعالى، أو عن رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لا ليحكم بشرع جديد من عند نفسه، أو يزيد في دين الله ما لم يكن منه، كيف وقد قال الله تعالى: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب} (¬3) ¬

(¬1) الفقيه الحسن بن محمد المذحجي الصنعاني. (¬2) التذكرة الفاخرة في فقه العترة الطاهرة. " مؤلفات الزيدية " (1/ 279 - 280). (¬3) [النحل: 116].

وقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - " كل ما لم يكن عليه أمرنا فهو رد " (¬1). السؤال الثاني: أنه قد صح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه " (¬2) وقال: " شاهداك أو يمينه " (¬3) إلى غير ذلك مما يؤدي هذا المعنى. وهذا الكلام يدل بمنطوقه أن الواجب على المدعي إقامة البينة على ما ادعاه أولاً، فإن لم تكن له بينة حلف له المدعى عليه، وكف عنه، وهذا الصنيع هو الواجب على الحاكم عند أن يحضر إليه الخصمان، وإنا لنراهم الآن يعكسون فيبدءون بتحليف المدعى عليه، ثم يستبقي المدعي يمينه ولمتحصل الشهادة، وما هذا إلا قلب لما كان عليه هدي محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - والسلف الصالح من بعده، والمطلوب المستند. السؤال الثالث: أنه قد تقرر من قواعد الشريعة المطهرة أن النصاب (¬4) المعتبر في الشهادة هو رجلان، أو رجل وامرأتان لا غير، وإنا لنراهم الآن يلزمون الخصم بعد أن يأتي بالنصاب لما يسمونه تكميل الشهادة، وذلك مما لا دليل عليه، بل هو من الزيادة - ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (2697) ومسلم رقم (1718) وأبو داود رقم (4606) وابن ماجه رقم (14) من حديث عائشة رضي الله عنها " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد ". (¬2) أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى " (10/ 252) وهو حديث صحيح. وأخرج البخاري في صحيحه رقم (4552) ومسلم رقم (1/ 1711) من حديث ابن عباس قال: " أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى باليمين على المدعى عليه ". (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2669، 2670) ومسلم رقم (220/ 138) من حديث الأشعث بن قيس. (¬4) قال تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} [البقرة: 282].

في الدين - المردودة، لأنه إن قد صح للحاكم ما قد أقامه الخصم فذاك، ولا وجه للتكميل، وإن لم يصح ألزمه أن يأتي بالنصاب من الشهادة على الحد المشروع، فما وجه ما يفعلونه. السؤال الرابع: أنه قد علم من قواعد الشريعة المطهرة أن العدالة معتبرة في الشهادة بقوله تعالى: قال تعالى: {ممن ترضون من الشهداء} (¬1) أو بقوله تعالى: {اثنان ذوا عدل منكم} (¬2)، وهي في اللغة (¬3) التوسط في الأمر من غير إفراط ولا تفريط في الزيادة والنقصان. وقد حدها الأصوليون (¬4) بما لا يوجد له معنى إلا في رجل معصوم كما لا يخفى. وقد استحسن العلماء ما قاله الشافعي (¬5) في حقيقة العدل حيث قال: لو كان العدل من لم يذنب لم نجد عدلاً، ولو كان كل ذنب لا يمنع من العدالة لم نجد مجروحًا، ولكن من ترك الكبائر، وكانت محاسنه أكثر من مساويه فهو عدل انتهى. [1ب] وعلى كل تقدير فلا بد من معرفة حال الشاهد ليعلم الحاكم عدالته المعتبرة، ولذا قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لشاهدين شهدا عنده: إني لا أعرفكما ولا يضركما أني لا أعرفكما ائتيا بمن يعرفكما، فأتاه رجل فقال: كيف تعرفهما؟ قال: بالصلاح والأمانة، قال: ¬

(¬1) [البقرة: 282]. (¬2) [المائدة: 106]. (¬3) انظر " لسان العرب " (9/ 85 - 86). (¬4) انظر: " البحر المحيط " (4/ 274)، " الكوكب المنير " (2/ 389). (¬5) قال الشافعي في " الأم " (13/ 380): وليس من الناس أحد نعلمه إلا أن يكون قليلا بمحض الطاعة والمروءة حتى لا يخلطهما بشيء من معصية ولا ترك مروءة، ولا بمحض المعصية ويترك المروءة حتى لا يخلطه شيء من الطاعة والمروءة، فإذا كان الأغلب على الرجل الأظهر من أمره الطاعة والمروءة، قبلت شهادته، وإذا كان الأغلب الأظهر من أمره المعصية وخلاف المروءة ردت شهادته. وانظر الرسالة (ص493).

كنت جارًا لهما؟ قال: لا، قال: صحبتهما في السفر الذي يسفر عن أخلاق الرجال؟ قال: لا، قال: فأنت لا تعرفهما. هكذا رواه العقيلي (¬1)، والخطيب في الكفاية (¬2)، والبيهقي (¬3) وصححه أبو علي ابن السكن. والحاصل أن البحث عن حال الشاهد لتعلم عدالته معلوم، وإلا لم يكن للعدالة معنى متحقق، وإنا لنراهم الآن قضهم بقضيضهم لا يبحثون عن ذلك، ولا يفحصون عن حال أحد، بل قد يشهد عندهم من يعلم أنه لا يصلي ولا يصوم من القبائل، وجفاة الأعراب، فيقبلون شهادتهم، ويحكمون بها. وقد يكون الحكم في اقتطاع مال امرئ مسلم محرم بالدليل القطعي، وهذا هو العجب العاجب. فبينوا ما هو الواجب؟ السؤال الخامس: أنه قد أطبق الجماهير على أن الشهادة لا تصح على نفي، وصارت هذه القضية مسلمة عند الجميع، ولكنا لم نجدهم استدلوا عليها بشيء من الكتاب والسنة، بل اكتفوا بمناسبات عقلية، وتعليلات فقهية فروعية غير مقبولة عند من وقف عند النصوص المحمدية، وتمسك بأذيالها، وألزم نفسه العمل بها. السؤال السادس: إنا لنرى مجتهدي حكامنا ترد عليهم الحادثة فيحكمون فيها بما قاله زعانف المفرعين، أسراء تقليد الرجال (¬4)، وهم يعلمون أن الحق خلاف ذلك، وأن ¬

(¬1) في " الضعفاء " (3/ 454، 455). (¬2) (ص84). (¬3) في السنن الكبرى (10/ 125، 126). (¬4) ذكره ابن حجر في " التلخيص " (4/ 360). قال ابن قدامة في " المغني " (14/ 44): فإن الشاهد يعتبر فيه أربعة شروط. الإسلام، والبلوغ والعقل والعدالة، وليس فيها ما يخفى ويحتاج إلى البحث إلا العدالة، فيحتاج إلى البحث عنها لقوله تعالى: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة: 282]. ولا نعلم أنه مرضي حتى نعرفه أو نخبر عنه، فيأمر الحاكم بكتب أسمائهم وكناهم، ونسبهم، ويرفع فيها بما يتميزون به عن غيرهم، ويكتب صنائعهم، ومعائشهم، وموضع مساكنهم، وصلاتهم ليسأل عنهم جيرانهم وأهل سوقهم، ومسجدهم، ومحلتهم، ونحلتهم ..... ". انظر الرسالة رقم (60).

الدليل قائم بعكسه، وأن الواجب على الحاكم الحكم بما جاء عن الله وعن رسوله، فليت شعري ما الحامل لهم على ذلك؟ وما الذي سوغه لهم؟ وما فائدة الاجتهاد وما منفعة الذهاب والإياب لكسب العلم واستفراغ الوسع في تحصيله؟ ليس إلا العمل به لا تخليده في بطون الدفاتر. وكيف وقد علموا الوعيد الشديد، والمقت الأكيد من الله ورسوله لمن لم يحكم بما أنزل الله!. السؤال السابع: أنه قد علم من ضرورة أن الحاكم إنما نصب ليحكم بين الناس بما أنزل الله، أو بما جاء عن رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، أو بما استنبطه بفهمه منهما، وأن الواجب عليه التثبت في الحكم، والاجتهاد البالغ الكامل لئلا يقضي للناس على جهل فيضل ويضل ويكون في النار، وإنا لنراهم يحكمون بما ليس عليه آثارة من علم، بل يخبط بعضهم خبط عشواء، ولا ينظر في دليل ولا غيره، بل قد يكون حكمه مجانبًا للكتاب والسنة. وقد يعتذرون بالعمل بالمصالح، وأي مصلحة أعظم من الحكم بما جاء من الله ورسوله، أو الإمساك عن الحكم عند عدمهما! وقد يعتلون بأن المقصود فصل الخصومة والشجار، ويقال لهم: نعم ولكن على الحد المشروع الذي أذن به الله ورسوله لا مطلقًا، وإلا كان الحكم أهل الطاغوت صحيحًا جائزًا، لأنه قد حصل منه المقصود، ولا يقول هذا مسلم. وقد [2أ] يستدل العالم منهم بما أخرجه أحمد (¬1)، وأبو داود (¬2)، والترمذي (¬3)، وابن عدي (¬4)، والطبراني (¬5)، ................................... ¬

(¬1) في " المسند " (5/ 230، 242). (¬2) في " السنن " رقم (3592). (¬3) في " السنن " رقم (1327). (¬4) في " الكامل " (2/ 194). (¬5) في " الكبير " (20/ 170 رقم 362).

والبيهقي (¬1) من حديث الحارث بن عمرو عن ناس من أصحاب معاذ عن معاذ أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لما أراد أن يبعثه إلى اليمن قال له: " كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ " قال: أقضي بكتاب الله، قال: " فإن لم تجد في كتاب الله؟ " قال: بسنة رسول الله، قال: " فإن لم تجد؟ " قال: أجتهد رأيي فلا آلو، فضرب صدره وقال: " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله ". والاستدلال بالحديث ممنوع، لأن فيه كلامًا كثيرًا استوفاه ابن النحوي في البدر المنير (¬2)، وادعى إجماع أهل النقل على ضعفه، وبرهن على مدعاه بما يطول ذكره، ونقل عن ابن دحية أن أحسن ما روي في هذا الباب ما رواه الشعبي عن شريح القاضي أنه كتب إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يسأله، فكتب له عمر - رضي الله عنه -: أن اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله ففي سنة رسول الله، فإن لم يكن في سنة رسول الله فاقض بما قضى به الصالحون، فإن لم يكن في كتاب الله، ولا في سنة رسوله، ولا فيما قضى به الصالحون فإن شئت فتقدم، وإن شئت فتأخر، وما أرى التأخر إلا خيرًا لك، والسلام عليك. انتهى. وقد نقل الحافظ ابن حجر (¬3) بعض الكلام على الحديث. ومثل غير خاف عليكم فلا حاجة إلى التطويل بذكره في هذا السؤال، وذكر الأصوليين، والفقهاء، وبعض المحدثين لهذا الحديث في كتبهم، واعتمادهم عليه، وتصحيح إمام الحرمين له لا يغني شيئًا بعد أن ضعفه أهل العلم بصناعة الحديث؛ فلا تقوم به حجة. وإذا لم تقم به حجة فهل يحل للحاكم أن يعمل به فيحكم برأيه أم الواجب عليه أن لا يحكم إلا بما ¬

(¬1) في " السنن الكبرى " (10/ 114). وهو حديث ضعيف. وقد تقدم مرارًا. (¬2) انظر: " خلاصة البدر " (2/ 424). (¬3) في " التلخيص " (4/ 337). وقد تقدم ذكره.

أنزل الله، أو بما جاء عن رسول الله كما ذكرنا؟ والإمساك عما عدى ذلك لأن الحكم بما ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسوله من القضاء للناس على جهل، وفاعله في النار كما ورد عن المختار، وما العذر للحاكم إن حكم بذلك بين يدي الملك الجبار الذي لا تخفى عليه صغيرة ولا كبيرة. وهذا آخر الأسئلة، فإن كان عندكم في جوابها ما يشفي الغليل، ويزيل علة الهائم العليل أفدتم، فبكم استفدنا، وبأنوار علومكم استبصرنا وأبصرنا، ولا برحتم في حماية الله تعالى ورعايته، والسلام. [2ب]

بسم الله الرحمن الرحيم إياك نعبد وإياك نستعين، بعد حمدك يا رب العالمين، ونصلي ونسلم على رسولك الأمين، وآله الطاهرين، وصحبه الأفضلين وبعد: فإنها وردت هذه الأسئلة البديعة الأسلوب، الغزيرة الشؤبوب، المطردة الأنبوب من سيدي العلامة المفضال، الفهامة المتوج بالجلال عبد الله بن علي بن عبد الله الجلال (¬1) - كثر الله فوائده -، ومد على طلاب العلوم من علمه موائده - ولما كانت موجهة منه إلي، ونازلة بعد تحريرها علي أجبت بحسب ما ظهر عند أول نظر. وبالله أستعين، وعليه أتوكل. السؤال الأول: حاصله: هل ورد دليل يدل على لزوم اليمين التي يسمونها يمين العنت كما يفعله كثير من الحكام في هذه الأزمنة؟. وأقول: هذه اليمين لم يرد بها دليل معنونة بهذا العنوان، مسماة بهذا الاسم، ولكنه يمكن إدراجها تحت الحديث الصحيح المتفق عليه الوارد من طرق، البالغ إلى حد التواتر المعنوي، وهو حديث: " على المدعي البينة، وعلى المنكر اليمين " (¬2) على اختلاف في ألفاظه (¬3) حاصلها ما يفيده هذا اللفظ، وبيان إدراج هذه اليمين المذكورة تحت هذا العموم أن من توجهت عليه اليمين الأصلية وهو المنكر إنشاء على من ادعى عليه دعوى ¬

(¬1) ولد على رأس القرن الثاني عشر. وهو حاد الذهن، جيد الفهم، حسن الإدراك له شعر بديع. قال الشوكاني: وقد كتب إلي منه بقصائد طنانة وله قراءة علي الآن في المطول. توفي سنة 1242هـ. [" البدر الطالع " رقم (263)، " نيل الوطر " (2/ 86)]. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) ومن هذه الألفاظ. حديث ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " قضى باليمين على المدعى عليه ". وهو حديث صحيح. ولفظ حديث ابن عباس عند البيهقي (10/ 252): " البينة على المدعي واليمين على من أنكر ". وهو حديث صحيح.

هي أنه طلب منه تلك اليمين، وهو يعلم أنها لا تجب عليه لبراءة ذمته من الحق الذي ادعاه عليه، وأنه ما يريد بطلب هذه اليمين منه إلا مجرد الإعنات له بتلك الدعوى الباطلة فقد صار ذلك المدعى عليه بإنشاء هذه الدعوى مدعيًا، وصار المدعي بعدها مدعى عليه، وحينئذٍ فتلزمه [3أ] تلك اليمين بعموم (على المدعي البينة، وعلى المنكر اليمين)؛ فإن منكر كون طلبه لليمين من خصمه لمجرد الإعنات له قد صار بهذا الإنكار مندرجًا تحت: على المنكر اليمين، فكما أنه يستدل بهذا العموم على كل خصومة من الخصومات الحادثة بين المختصمين في الدماء والأموال والأعراض والحقوق، لا مانع من أن يستدل به على هذه الدعوى الناشئة ممن توجهت عليه اليمين الأصلية من أن المدعى عليه إنما أراد التعنت له، والإتعاب بطلبه لتلك اليمين، لأنه إذا أقر بذلك لم يلزم تلك اليمين الأصلية، وارتفع عن المطلوب بها ما كان قد توجه عليه من الحلف، وإن لم يقو بذلك، بل أنكر. كان من جملة من يصدق عليه أنه منكر وعلى المنكر اليمين، ومعلوم أن هذا التركيب أعني قوله: " على المدعي البينة، وعلى المنكر اليمين " عام يشمل كل من يصدق عليه أنه مدع، وأنه منكر لما تفيده تحليته باللام الجنسية مع تقديم الخبر على المبتدأ، فهو في قوة: كل مدع كائنًا من كان عليه البينة، وكل منكر كائنًا من كان عليه اليمين. ولا فرق بين خصومة وخصومة. وبهذا التقرير تعلم أن مجرد الاستدلال بهذا الدليل يكفي القائل بلزوم يمين العنت، ومن ادعى تخصيصها من هذا العموم كان عليه الإتيان بدليل يقتضي التخصيص. ومجرد الاصطلاح بكونها مسماة بهذا الاسم الخاص لا يخرجها عن كونها يمينًا مطلوبة من منكر، لأن الأحكام الشرعية لا تتعلق بمجرد الاسم بل بما هو الحقيقة لذلك الشيء، كما أن مثلاً: الخمر لو سميت اصطلاحًا باسم الماء، أو نحو ذلك من الأسماء لم يخرج به عن كونها خمرًا محرمة إذا وجدت فيه العلة المقتضية للتحريم، وهي الإسكار. كذلك هاهنا فإنها قد وجدت الدعوى ووجد الإسكار فصارت تلك اليمين يمينًا على منكر، فاندرج ذلك تحت قوله: " وعلى المنكر اليمين " ولا تخرج [3ب] هذه اليمين عن كونها يمينًا

على منكر بتسميتها يمين عنت، لأنه يقال: هذا المنكر لكونه متعنتًا هو من جملة من يصدق عليه مفهوم الإنكار، وكل من يصدق عليه مفهوم الإنكار يلزمه اليمين، فهذا يلزمه اليمين. أما الأولى فمعلومة بلغة العرب وعرف الشرع. وأما الثانية فمعلومة بنص الشرع، وهذا فيما يتعلق بالخصومات لا فيما كان إنكارًا خارجًا عن ذلك، فإنه خارج عن محل النزاع. وهكذا اليمين التي يسميها بعض أهل الفقه يمين كف، فإن الكلام فيها كالكلام في يمين العنت، والتقرير، التقرير، والدليل الدليل. وهي ملاقية ليمين العنت في بعض مواردها، لأن المدعي إذا أنشأ الدعوى على غيره فقال ذلك الغير، هو يعلم أنه قد تقدم بيني وبينه ما يدفع هذه الدعوى، ويوجب كفها عني، وإنما هو يريد الإتعاب لي وإدخالي في خصومة قد اندفعت، وفي شجار قد انقطع وارتفع، فلا شك أن هذا المدعي لهذه الدعوى قد صدق عليه مفهوم المدعي كما أن خصمه الذي أحدث تلك الدعوى عليه قد صدق عليه مفهوم المنكر (¬1). ¬

(¬1) اتفق الفقهاء على أن اليمين وسيلة الإثبات أمام القضاء، وأنها مشروعة لتأكيد جانب الصدق على جانب الكذب في إثبات الحقوق أو نفيها وهي تلعب دورًا عظيمًا في المحاكم عند العجز عن تقديم الأدلة والبراهين. يدل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع والمعقول. الكتاب: قال تعالى: {ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق} [يونس: 53]. وقال تعالى: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} [آل عمران: 77]. * وغيرها كثير من الآيات الكريمة في مشروعية اليمين. السنة: تقدم من حديث ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قضى باليمين على المدعى عليه ". * وهو حديث صريح في مشروعية اليمين على المدعى عليه في القضاء. الإجماع: كان الصحابة رضوان الله عليهم يحلفون في الدعاوى، ويطلبون اليمين في القضاء لفصل المنازعات، ولم يخالف مسلم في ذلك إجماعًا. وسارت الأمة على ذلك من سلفها إلى خلفها من عهد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى يومنا هذا. المعقول: إن الأمور المادية عامة ووسائل الإثبات الظاهرة خاصة كالشهادة والإقرار والكتابة كثيرًا ما تقف عند حد معين، وتعجز عن الوصول إلى كنه الحقيقة في بعض الأشياء، فلا يجد الإنسان مفرًا من اللجوء إلى الأمور المعنوية التي تعتمد على الضمير والعقيدة والأخلاق، ليستجلي غوامض الأشياء، ويستجدي عندها الطمأنينة واليقين، واليمين أحد هذه الوسائل المعنوية، فإن كثيرًا من العلاقات تجري بين أصحابها من غير حضور الشهود أو تهيئة البينات، وقد يعجز المدعي عن إثبات حقه بالأدلة والبراهين، ويحال بينه وبين ما يدعيه وتنقطع به الوسائل فيقف كليل الخاطر عن دعواه وطلب حقه، ويستسلم إلى ذمة المدعى عليه، ويركن إلى ضميره، عسى أن تختلج أحاسيسه بالواقع، وتنطق بصيحة الحق فيعترف به أو يحلف على بطلان دعوى المدعي. فكانت اليمين مما يتطلبها العقل. ويراها ضرورية في الإثبات لإنهاء الخلاف عند العجز عما سواها. انظر: " الزواجر " لابن حجر الهيثمي (2/ 152)، " تبيين الحقائق " للزيلعي (3/ 107). أنواع اليمين: تنقسم اليمين باعتبار الحالف إلى: (أ): يمين المدعى عليه. (ب): يمين المدعي. (ج): يمين الشاهد. (أ): يمين المدعى عليه: وتسمى اليمين الدافعة أو اليمين الأصلية أو اليمين الرافعة ويطلق عليها الحنفية " الواجبة " وهي التي يوجهها القاضي بناءً على طلب المدعي إلى المدعى عليه لتأكيد جوابه عن الدعوى وتقوية جانبه في موضوع النزاع وهذه اليمين متفق عليها في جميع المذاهب ومجمع على العمل بها. وقد سميت بالواجبة: لوجوبها على المدعى عليه إذا طلبها المدعي بنص الحديث الشريف " ولك يمينه ". وسميت بالدافعة لأنها تدفع ادعاء المدعي. وسميت بالرافعة: لأنها ترفع النزاع وتسقط الدعوى. وسميت بالأصلية: لأنها هي المقصودة عند الإطلاق وهي التي وردت بها معظم النصوص. وينصرف إليها الذهن لأول وهلة عند عدم التقليد وهي التي يدور عليها الحديث كوسيلة في الإثبات تعريفًا وتفريعًا وأهمية. (ب): يمين المدعي وهي ثلاثة أقسام: 1 - /اليمين الجالية: وهي التي يؤديها المدعي في إثبات حقه لسبب يستدعي القيام بها، وهي حجة في الإثبات مختلف فيها. وهذا السبب المستلزم لها إما أن يكون شهادة شاهد، وهي اليمين مع الشاهد، وإما نكول المدعى عليه عن اليمين الأصلية وردها إلى المدعي وهي اليمين المردودة المنقلبة، وإما أن يكون لوثًا وهي أيمان القسامة في القتل والجراح، وإما أن يكون قذفًا من الرجل لزوجته وهي أيمان لعان، وإما أن يكون أمانة فكل أمين ادعى الرد على من ائتمنه فيصدق بيمينه إلا المرتهن والمستأجر والمستعير فلا يصدقون إلا بالبينة لأن حيازتهم كانت لحظ أنفسهم. انظر: " التاج المذهب " (4/ 31)، " جامع الفقه " (7/ 266). 2 - /يمين التهمة: وهي التي تتوجه على المدعي بقصد رد دعوى غير محققة على المدعى عليه، وقال بها المالكية والزيدية. 3 - /يمين الاستظهار: وتسمى يمين الاستيثاق أيضًا، ويسميها المالكية يمين القضاء ويمين الاستبراء، وهي اليمين التي يؤديها المدعي بناء على طلب القاضي لدفع الشبهة والريبة والشك والاحتمال في الدعوى بعد تقديم الأدلة فيها. فاليمين تكمل الأدلة ويتثبت بها القاضي من صحة الأدلة. مشروعية هذه اليمين: كان شريح يستحلف الرجل مع بينته، واستحلف عون بن عبد الله رجلاً مع بينته فأبى أن يحلف فقال له: ما كنت لأقضي لك بما لا تحلف عليه، وقد ذكر ابن المنذر أن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة والشعبي كانا يستحلفان المدعي مع بينته ونقل ابن القيم فقال: قال أبو عبيد: إننا نرى شريحًا أوجب اليمين على الطالب مع بينته حين رأى الناس مدخولين في معاملتهم واحتاط لذلك. وقيل لشريح: ما هذا الذي أحدثت في القضاء؟ قال رأيت الناس أحدثوا فأحدثت ... ". انظر: " الطرق الحكمية " (ص145)، " المبسوط " (16/ 118)، " تبصرة الحكام " (1/ 276).

السؤال الثاني: حاصله: طلب الدليل على ما يفعله كثير من الحكام من إجابة المدعي الطالب ليمين خصمه المنكر إلى ما طلبه حتى يبذل اليمين، فإذا بذلها أمر الحاكم المنكر بترك الشروع في تلك اليمين، وطلب من المدعي أن يأتي بالبينة.

أقول: الدليل على هذا الصنع ظاهر الوجه، واضح الغرة، بين المستند. وبيان ذلك أن تلك اليمين المطلوبة هي حق ثابت للمدعي ثبوتًا منصوصًا عليه بالأدلة الصحيحة، مجمعًا عليه عند جميع أهل الإسلام. فإذا قال المدعي (¬1) أنا أطلب يمين خصمي هذا المنكر لحقي كانت إجابته إلى هذا حقًا ثابتًا، لازمًا متعنتًا بالنص والإجماع، فإن أجاب إلى اليمين كان الحاكم المترافع إليه أن يقول للمدعي: هذا خصمك المنكر لما تدعي عليه قد أجابك إلى ما هو الواجب عليه، فإن لم يكن لك بينة فليس لك إلا هذا. فإن قال: [4أ] لا بينة له فليس له إلا تلك اليمين من خصمه، وإن كانت له بينة ألزمه الحاكم بإيرادها لحديث: " شاهداك أو يمينه " (¬2) كما ثبت من حديث الأشعث بن قيس، وكما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث وائل بن حجر قال: جاء رجل من حضرموت، ورجل من كندة إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن هذا قد غلبني على أرض كانت لأبي، فقال الكندي: هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " ألك بينة؟ " قال: لا، قال: " فلك يمينه "، فقال يا رسول الله، الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورع من شيء، قال: " ليس لك منه إلا ذلك " الحديث، فعلى الحاكم أن يقول للخصمين كهذه المقالة النبوية، فإذا قال المدعي: أريد اليمين فهو أراد الحق الذي أثبته له الشرع، فليس لنا أن نقول له: ليس لك ذلك، بل عليك أن تذهب فتأتي بالبينة، فإن هذا هو قلب للشريعة. ولكن على الحاكم أن يبين للمدعي أن خصمه إذا حلف فقد انقطع الحق بيمينه، ولا بينة بعد ذلك، فإن صمم على اليمين أجابه إلى ذلك، فإن ترك خصمه حتى يتهيأ لليمين ويبذلها فقال: لي بينة فإجابته إلى ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة. (¬2) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.

ذلك واجبة، لأن خصمه لم يكن قد حلف حتى ينقطع الحق بيمينه، فالحاكم إذا صنع هذا فما صنع إلا ما هو محض الشريعة الغراء. فلو قال للمدعي بعد أن طلب اليمين وتهيأ لها المنكر فقال عند ذلك: له بينة، وقال: بينة موجودة، وخصمي لم يحلف، فقال الحاكم قد قضي الأمر، وجف القلم، وانقطع الحق. وليس لك إلا ما قد طلبته من اليمين التي لم يكن قد نطق المنكر بحرف منها لكان هذا الحكم بالأحكام القراقوشية (¬1) أشبه منه بالأحكام الطاغوتية، فضلاً عن الأحكام الشرعية. على أن هاهنا دقيقة لطيفة هي: أن المدعي قد يعلم أن خصمه المنكر قد يتورع عن اليمين إما خوفًا من الله - عز وجل -، أو من العقوبة الدنيوية، فإذا ترك طلبها منه حتى يبذلها ويتهيأ لها أتبعه بتحصيل البينة [4ب]، وفتح له بعد ذلك أبواب الجرح والتعديل، وأطال ذيل الخصومة بغير حق. ومعلوم أن مثل هذا ليس من الشريعة السمحة السهلة الواضحة التي ليلها كنهارها، فإذا لم يجبه الحاكم إلى ذلك فقد ظلمه ظلمًا بينًا، وتسبب لأحد أمرين: إما ¬

(¬1) قراقوش: هو قراقوش بن عبد الله الأسدي أبو سعيد بهاء الدين أمير نشأ في خدمة السلطان صلاح الدين الأيوبي، وناب عنه في الديار المصرية كان همامًا مولعًا بالعمران، بنى السور المحيط بالقاهرة وبنى قلعة الجبل، وبنى القناطر التي بالجيزة على طريق الأهرام. توفي سنة 597هـ بالقاهرة تنسب إليه أحكام عجيبة في ولايته، قال ابن خلكان: الظاهر أنها موضوعة فإن صلاح الدين كان يعتمد عليه في أحوال المملكة. (وقره قوش) كلمة تركية معناها " العقاب " الطائر المعروف وبه سمي الإنسان لشهامته وشجاعته واللفظ مكون من كلمتين هما (قرة) بمعنى أسود (وقوش) بمعنى طائر أو نسر. " الأعلام " للزركلي (5/ 193)، " النجوم الزاهرة " (6/ 176). قال ابن كثير في " البداية والنهاية " (2/ 337 - 338) " كان الأمير بهاء الدين قراقوش عالمًا فقيهًا - إلا أنه كرس نفسه للخدمة الإدارية العسكرية ". وكانت حياته حافلة بالإنجازات العظيمة والبطولات والإخلاص للإسلام والمسلمين خلال ملازمته القائد صلاح الدين الأيوبي وكذلك بعد وفاته، مما جعله محط كيد الحاسدين وأعداء الإسلام والمسلمين.

إتعابه وإعناته مع ثبوت الحق بعد اللتيا (¬1) واللتي، وبعد التطويل بما هو محض العبث الذي لا طائل تحته، وإما إتعابه وإعناته مع ذهاب حقه فيجمع له بين غرمين ومصيبتين في المال والبدن. فهل من سبيل إلى دفعه عن طلب اليمين؟ وهل يجوز للحاكم أن يقول له عند طلب اليمين مع عدم علم الحاكم بأن له بينة، أو لا بينة له، ليس لك هذا؟ أو لا يجوز لك؟. فإن قيل بأنه يجوز له ذلك كان هذا هو القلب للشريعة. فغاية ما على الحاكم أن ينبهه أن خصمه المنكر إذا حلف تلك اليمين انقطع حقه، ولم تنفعه البينة بعدها على ما هو الحق من عدم قبول البينة بعد اليمين. السؤال الثالث: حاصله استنكار ما يفعله كثير من الحكام من طلب زيادة على شهادة شاهدين عدلين، أو رجل وامرأتين، ويسمونه التكميل للشهادة. وأقول: إن كانت العدالة المعتبرة التي تصلح مستندًا للحكم الشرعي قد حصلت فلا وجه لطلب التكميل، ثم هذا التكميل الذي ذكره السائل - دامت إفادته - إن أراد به التكميل باليمين من المدعي، وهي التي يسميها بعض أهل الفقه اليمين المؤكدة فهذا قد يكون سببه حصول بعض ريبة للحاكم لا يوجب ترك العمل بالشهادة، فيطلب اليمين المؤكدة لتحصيل الطمأنينة، وانثلاج الصدر، ورفع الحرج. وقد يستأنس لذلك بمثل قوله سبحانه: {فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما} (¬2) ومع هذا فإن المدعي إذا تلكأ عن اليمين المؤكدة، ولم يجب إليها كانت الريبة في ذلك قوية، والشك والحرج بليغًا، وإن أراد به طلب زيادة في الشهادة تكمل بها شهادة الشاهدين العدلين، أو شهادة الرجل والامرأتين العدول فهذا أيضًا لا وجه له، لأن نصاب الحكم قد حصل مع كمال الأمور المعتبرة في الشهود، فإن حصل للحاكم ريبة لشيء في الشهود لم يبلغ إلى ترك ¬

(¬1) تقدم توضيح معناها في الرسالة رقم (60). (¬2) [المائدة: 107].

العمل [5أ] بشهادتهم فطلب من المدعي أن يأتي بزيادة على تلك الشهادة التي قد كمل نصابها تثبتًا، وتحريًا، وطلبًا للطمأنينة فليس عليه بذلك بأس، لكن إذا لم يجد المدعي غير تلك الشهادة التي قد كمل نصابها لم يجز للحاكم أن يترك الحكم له، بل يجب عليه أن يحكم له بتلك الشهادة، لأن ما حصل له من الريبة لا يسوغ له به ترك الحكم مع كمال النصاب قائلاً ما قاله رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إنما أقضي بما أسمع، فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار " (¬1) ولا شك ولا ريب أن طلب الطمأنينة سنة أنبياء الله - عليهم السلام -: قال تعالى: {ولكن ليطمئن قلبي} (¬2) ويقول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فيما صح عنه: " نحن أحق بالشك من إبراهيم " (¬3) فإذا كان هذا حال الأنبياء فيما بينهم وبين ربهم - عز وجل - فكيف ينكر ذلك على قاض قد وقف على شفير النار فطلب لنفسه الطمأنينة، غير تارك لما يوجبه الشرع! فإنه قد قام مقامًا يقطع فيه أموال الناس ودماءهم وأعراضهم لبعضهم البعض، ولا سيما في مثل هذه الأزمنة التي قد فشا فيها الكذب فشوًا زائدًا على الأزمنة المتقدمة. وقد صح عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في الصحيحين (¬4) وغيرها (¬5) أنه قال: " خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب " فإذا كان ابتداء فشو الكذب عند انقراض أتباع التابعين فما بالك بزمننا هذا! وإني أرى أن هذه حجة قوية لمن توقف عن الحكم بعد كمال النصاب المعتبر فيه، وبحث وفحص حتى ¬

(¬1) أخرجه البخاري (6967) ومسلم رقم (4/ 1713) من حديث أم سلمة. . (¬2) [البقرة: 260]. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4537) وقد تقدم توضيح ذلك. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2652) ومسلم رقم (2533) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - وقد تقدم. (¬5) كالترمذي رقم (3859) وقال: حديث حسن صحيح.

تطيب نفسه، ويطمئن خاطره، لكن بشرط ألا يهمل الحكم لمن قد يفصل النصاب المعتبر إذا لم يحصل له ما طلبه من الطمأنينة. فإن قلت: المفروض أن الشهادة التي قامت قد كملت فيها الشروط المعتبرة من العدالة وغيرها فما بقي وجه لطلب الطمأنينة. قلت: كذلك أقول لكن إذا حصلت للحاكم ريبة تقتضي مزيد الاستثبات (¬1)، وطلب الطمأنينة، وفعل ذلك فهو لم يفعل منكرًا، بل معروفًا، لأن فشو الكذب يكون من أعظم الأسباب الموقعة في الريبة. والعدالة المعلومة بالظاهر، أو بإخبار المعدل لا تنافي الاحتياط والاستثبات؛ فإنها من باب [5ب] العمل بالظاهر الذي لا يستلزم مطابقته لما في الواقع، وما في نفس الأمر. والعدل قد يقع منه ما يخالف الظاهر إما غلطًا أو سهوًا أو غفلة أو جهلاً، ولا أريد بهذا أن مجرد هذه الاحتمالات يوجب بطلان العمل بالشهادة عند كمال نصابها وشروطها، فإن ذلك هو خلاف الشرع بلا شك ولا شبهة، بل أريد أنه إذا وقع من الحاكم الاستثبات (¬2) والبحث والفحص حتى يطمئن خاطره، وينثلج صدره، أو يتضح له ما هو ¬

(¬1) يجوز للقاضي أن يناقش الشهود، وأن يسألهم عن كل شيء في الشهادة وخاصة عند التهمة والشك فيسأل عن مصدر الشهادة وعن طريق العلم بها، وكيفية التحمل وعن صفات المشهود به، وعن أوصاف المشهود له والمشهود عليه، كما يحق له أن يفرق الشهود، ويسمع كلاً منهم على حدة، ويطرح عليه بعض الأسئلة ليستوثق من صحة شهادته وكذلك الحال في الكتابة وكيفيتها والطعن فيها وتزويرها، فإذا اختلف الشهود في الشهادة أو ثبت تزوير الكتابة رد الشهادة أو الكتابة أو الإقرار ولم يحكم به. " الطرق الحكمية " (ص24، 49، 61)، " الحاوي " للماوردي (12/ 58). (¬2) اتفق الفقهاء على أن القاضي لا يقضي بخلاف علمه، فإذا شهد عنده عدلان والقاضي يعلم خلاف ذلك. فلا يجوز له الحكم بالشهادة ويرفع الأمر إلى غيره. ويبدي رأيه وشهادته، وهذا يدل على أن القاضي لا يلتزم بالشهادة ولو توفرت شروطها إذا كانت تناقض علمه. ولذا فاقتناع القاضي بالشهادة شرط لإعمالها، والحكم بموجبها وهذا اتفاق المذاهب. " تبصرة الحكام " (1/ 248). والقاضي مسؤول عن التأكد من توفر الشروط في وسائل الإثبات فيتأكد من صحتها، ويتحرى الدقة فيها والضبط، ويسأل عن عدالة الشهود عند الجمهور بدون طلب الخصم خلافًا للحنفية الذين يجعلون العدالة من حق الخصم في حقوق العباد، فلا يسأل القاضي عنها إلا إذا طلبها الخصم، فالقاضي يتأكد من توفر الشروط في الشاهد وانتفاء الموانع فيه، وأنه عدل وصادق القول ويترجح بقوله الصدق على الكذب، وكذلك الحال في شروط الكتابة، وصحة الاحتجاج بها، وشروط الإقرار باليمين والخبرة وجميع وسائل الإثبات. والقاضي هو صاحب الرأي الأخير في قبول الإثبات أو رفضه بعد هذا التحقيق والتأكد من صحته وسلامته أو ثبوت عكسه. وفي القرائن فقد ترك الشارع له أن يستنبطها كيف ما شاء وترك للقاضي العادل حرية التقصي، فلا حكم إلا وضميره هادئ مستريح من هذا الاستنتاج والبحث. انظر: " المهذب " للشيرازي (2/ 297)، " حجية القرائن " (ص163).

موجب خلاف ذلك لم يكن عليه في ذلك لائمة، بل هو ممن يستحق أن يمدح على ذلك شرعًا. وكم من قضايا قد انكشف لنا فيها بمزيد البحث وتكميل الفحص ما يتضح به الحق اتضاح شمس النهار! وإن كانت الأسباب الشرعية إذا حمد الحامد عليها استنكر شيئًا من ذلك، ولو كشف عن المقصد الذي نريده، والمطمح الذي نطلبه لقرت بذلك عينه. وقد تكلم جماعة من العلماء في السياسة الشرعية، وأفردها بعضهم بالتصنيف. وللمحقق ابن دقيق العيد في ذلك مجموع نفيس وقفت عليه في أيام الطلب. والحاصل أنه لا تنافي بين العمل بالأسباب الشرعية للحكم، والاستثبات فيها حتى تكون أسبابًا يتقوى بها الظن، ويظهر بها الحق ظهورًا زائدًا على ظهوره بمجرد قبولها من غير استثبات. السؤال الرابع: حاصله أنه إذا تقرر اعتبار العدالة فما وجه قبول شهادة من لم يتصف بها كما يفعله بعض حكام عصرنا؟. وأقول: لا وجه لقبول من ليس ....................................................

يعدل (¬1)، فإن اعتبار العدالة أمر نطق به الكتاب العزيز، والسنة المطهرة. ومع ذلك فهو مجمع على اعتبارها كما حكى ذلك غير واحد، منهم الزركشي في البحر (¬2). والاختلاف في تحقيق مفهومها، وبيان ماهيتها لا يخرجها عن كونها معتبرة بالنص والإجماع. وقد اختلف أئمة الأصول في تحقيقها على أقوال، وكذلك علماء الجرح والتعديل، وعلماء المصطلح أهل الحديث، وطال الكلام في ذلك. وقد استوفيت الكلام عليه في إرشاد الفحول (¬3) إلى تحقيق الحق من علم الأصول [6أ]. ولا خلاف بين المتكلمين في اعتبار العدالة أنها غير معتبرة في الأخبار المفيدة للتواتر (¬4). ¬

(¬1) قال الشيرازي في " المهذب " (2/ 297): ولو رضي المشهود عليه بشهادة الفاسق لم يجز الحاكم أن يحكم بشهادته ". وقال: الماوردي في " الحاوي " (12/ 57) وإذا علم القاضي بفسق الشاهد فيرد شهادته ويحكم بعلمه فيه قولاً واحدًا عند الشافعي. وقال ابن فرحون في " تبصرة الحكام " (1/ 249، 421). " لو شهد عنده من ليس بعدل والقاضي يعلم أنه شهد بحق فلا يحل له أن يجيز الشهادة ولا أن يحكم بها ". وقال المرتضى في " البحر الزخار " (4/ 393): ولو شهد غير عدلين ورضي الخصم بشهادتهما لم يجز الحكم بهما بل إقراره إن أقر إقرارًا صحيحًا. (¬2) (4/ 273 - 275). (¬3) (ص204 - 210). (¬4) قال جمهور الفقهاء إن عدالة الشهود من حق الله سبحانه، فلا يجوز التنازل عنها أو التساهل فيها، ولا تقبل شهادة الفاسق، ولو رضي به الخصم الآخر، أو اتفق الخصمان على قبول شهادته، وتشترط التزكية لمعرفة عدالة الشهود بدون طلب الخصم. لقوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق: 2]. وقوله تعالى: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة: 282]. ورضا الحاكم فرع معرفتهم، وقوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} [الحجرات: 6]. والتبيين هو بالتثبت بالسؤال والتزكية ولما روى عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: عندما شهد عنده اثنان: " لا أعرفكما، ولا يضركما أن لا أعرفكما ائتياني بمن يعرفكما " تقدم تخريجه. والشهادة حق مشترك بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين لقوله تعالى: {وأقيموا الشهادة لله} [الطلاق: 2] فلا يجوز للآدمي أن يتنازل أو يتفق مع خصمه بما يخالف حق الله تعالى، فيجب تعديل الشاهد بطلب من الله سبحانه وتعالى. انظر: " مغني المحتاج " (4/ 403)، " المهذب " (2/ 269)، " كشاف القناع " (4/ 205، 207).

وهاهنا بحث ينبغي التنبه له، وإمعان النظر فيه، وهو أن كثيرًا من القرى التي يسكنها جماعة من [ ..... ] (¬1) المعروفين الآن بالقبائل قد لا يوجد في القرية الواحدة وإن كثر الساكنون بها من يستحق أن يطلق عليه اسم العدل قط، بل قد يكون أكثر أهلها إن لم يكونوا كلهم متساهلاً في الإتيان بأركان الإسلام كالصلاة والصيام ونحوهما، وإن صلى مثلاً فعل صلاة لا يحسن لها ذكرًا، ولا يقيم لها ركنًا، بل كثير منهم قد لا يحسن النطق بكلمة الشهادة، وكان حالهم في ذلك ظلمات بعضها فوق بعض، ثم يقع بينهم التظالم في الدماء والأموال، وليس فيهم عدل معتبر في الشهادة، ولا يحضرهم عدل من غيرهم، فيترافعون إلى حكام الشريعة، ونحن نعلم أنهم لا يتورعون عن منكر من المنكرات، ولا يتوقفون عند حد من حدود الشرع، ويقدمون على الأيمان الفاجرة، وعلى شهادات الزور، فماذا يصنع الحاكم عند ترافعهم إليه إن وقف على اعتبار العدالة في الشهود، وعلموا ذلك منه. سفكوا الدماء، وهتكوا الحرم، وأكلوا أموال بعضهم البعض، وهم في أمن من أن يقبل عليهم شاهد أو يلتفت إلى إخبار مخبر، بل غاية ما هناك أن الحاكم يسد باب البينة والإخبار، إذ لا عدل معتبر. ولم يبق إلا تحليف الخصم الذي قد علم كل عالم بحاله أن اليمين الفاجرة أهون شيء عليه، وأيسر أمر عنده. ولو يسمعون على كثرتهم وتطبيقهم لغالب هذه الديار اليمنية بأنه ليس على من قتل نفسًا، أو أخذ مالاً، أو هتك حرمة إلا اليمين لكان ذلك من أعظم البواعث لهم على الإفراط في ذلك، والتهافت عليه، والتتابع فيه. وحينئذٍ يفتح لهم باب شر لا يغلق، ¬

(¬1) كلمة غير واضحة في المخطوط.

ويضرم فيهم [6ب] نار فتنة لا تنطفي أبدًا، وهذه الشريعة المطهرة من عرفها حق معرفتها وجدها مبنية على جلب المصالح (¬1)، ودفع المفاسد، واعتبار هذا الأصل العظيم شواهده من الكتاب والسنة كثيرة جدًا، تحتمل مؤلفًا مستقلاً فإن قال الحاكم المترافع لديه للمدعي: هات البينة معك، ثم سمعها واستكثر من عددها حتى يلوح له منها أمارات الصدق، أو يبلغ إلى حد التواتر كان ذلك أقرب إلى اعتبار جلب المصلحة الشرعية، ودفع المفاسد المخالفة للشرع، وانزجر لهؤلاء العوام الأغتام (¬2) عن انتهاك الحرم، وسفك الدماء، ونهب الأموال، فإن جاء المدعي بما يفيد ذلك، ويتضح به الصواب فيها ونعمت، وإن لم يأت بذلك رجع إلى اليمين الشرعية التي لا يعتبر في قطعها للحق كون صاحبها غير فاجر لا يتورع من اليمين الفاجرة، وكان في ذلك زجرًا للعصاة وأهل الجسارة والجرأة عن أن يسفكوا الدماء، وينهبوا الأموال، ويهتكوا الحرم. وليس في الإمكان أبدع مما كان. وقد يستدل لقبول شهادة غير العدول مع عدم وجود العدول، لكن على الصفة التي ذكرناها من الاستكثار منهم حتى يحصل من ذلك ما يكون سببًا لظهور الحق وإيضاح الصواب لما في الصحيح (¬3) من ذكر قصة السهمي الذي مات بأرض ليس بها أحد من ¬

(¬1) انظر: " الأشباه والنظائر " (ص90 - 91). (¬2) الغتمة العجمة، الأغتم من لا يفصح شيئًا. " القاموس " (ص1474). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2780) من حديث ابن عباس قال: " خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدم بتركته فقدوا جامًا من فضة مخوصًا من ذهب، فأحلفهما رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم وجد الجام بمكة فقالوا ابتعناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا: لشهادتنا أحق من شهادتهما وإن الجام لصاحبهم، قال وفيهم نزلت هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت .... }. قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3606) والترمذي رقم (3061) وهو حديث صحيح.

المسلمين، فأشهد على وصيته من أهل الذمة، ونزل في ذلك: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم} (¬1) والكلام على الآية وعلى سبب نزولها يطول، وهي مستوفاة في كتب الحديث (¬2) والتفسير (¬3)، فمن أحب الوقوف على حقيقة ذلك رجع إليها. وفي سنن أبي داود (¬4)، وسنن الدارقطني (¬5) عن الشعبي أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة [بدقوقاء (¬6)] (¬7)، ولم يجد أحدًا من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة، فأتيا أبا موسى الأشعري فأخبراه، وقدما بتركة الميت ووصيته، فقال [7أ] أبو موسى: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فأحلفهما بعد العصر ما خانا، ولا كذبا، ولا بدلا، ولا كتما، ولا غيرا، وأنهما لوصية الرجل وتركته فأمضى شهادتهما (¬8). ¬

(¬1) [المائدة: 106]. (¬2) انظر: " فتح الباري " (5/ 410 - 412). (¬3) انظر: " جامع البيان " (5\ج7/ 105 - 109)، و" تفسير القرآن العظيم " لابن كثير (3/ 217 - 220). (¬4) في " السنن " (3605) بإسناد صحيح. (¬5) في " السنن " (4/ 169). (¬6) زيادة من سنن أبي داود. (¬7) دقوقا: مدينة بين إربل وبغداد. " معجم البلدان " (2/ 581). (¬8) قال ابن قدامة في " المغني " (14/ 170 - 172): مسألة: قال: وتجوز شهادة الكفار من أهل الكتاب، في الوصية في السفر، إذا لم يكن غيرهم. قال ابن قدامة: وجملته أنه إذا شهد بوصية المسافر الذي مات في سفره شاهدان من أهل الذمة قبلت شهادتهما، إذا لم يوجد غيرهما. ويستحلفان بعد العصر ما خانا ولا كتما، ولا اشتريا به ثمنًا قليلاً {ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين} [المائدة: 106]. قال ابن المنذر: وبهذا قال أكابر الماضين. يعني الآية التي في سورة المائدة، وممن قاله: شريح، والنخعي، والأوزاعي، ويحيى بن حمزة وقضى بذلك ابن مسعود، وأبو موسى رضي الله عنهما. وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي: لا تقبل، لأن من لا تقبل شهادته على غير الوصية، لا تقبل في الوصية، كالفاسق لا تقبل شهادته فالكافر أولى. وروى أبو عبيدة في " الناسخ والمنسوخ " أن ابن مسعود قضى بذلك في زمن عثمان، قال أحمد: أهل المدينة ليس عندهم حديث أبي موسى. من أين يعرفونه؟ فقد ثبت هذا الحكم بكتاب الله، وقضاء رسول الله وقضاء الصحابة، وعملهم بما ثبت في الكتاب والسنة فتعين المصير إليه والعمل به، سواء وافق القياس أو خالفه.

السؤال الخامس: حاصله: ما وجه منع بعض أهل الفروع لقبول الشهادة (¬1) على النفي؟. وأقول: وجه ذلك أن الشاهد على نفي ما ادعاه المدعي إنما أخبر عن عدم علمه بذلك الشيء على نفي ما ادعاه المدعي، إنما أخبر عن عدم علمه بذلك الشيء، وعدم علمه به لا يستلزم العدم، فإذا قال مثلاً: إن زيدًا لم يقتل عمرًا، إن زيدا لم يأخذ مال عمر، فكأنه قال: لم أعلم بذلك. وعدم علم الشاهد أو الشاهدين أو الشهادة ليس حجة على أحد، ولا يجوز الاحتجاج به في شيء قط. ومع هذا فهذه الشهادة النافية ليس بها حاجة البتة، لأن هذا النفي هو موافق لإنكار المنكر، وليس على المنكر بينة لا مثبتة ولا نافية، بل عليه اليمين كما أوجبه الشارع عليه، ولا يحتاج إلى إقامة بينة، ولا هو مطلوب بذلك، فالمدعي إنما هو من ادعى على غيره صدور فعل منه أو قول. أما لو ادعى عليه ابتداءً أنه لم يقل أو لم يفعل لم يكن مدعيًا، وإن كان هو المبتدئ فتقرر بهذا أن البينة على النفي ليست بمناسبة للمسالك الشرعية، كما أنها ليست بمناسبة ¬

(¬1) من شروط الشهادة: أن تكون الشهادة عن علم ويقين، ولا تقبل إذا كان سببها الظن والتخمين ولذلك جاء في تعريف الشهادة عند بعض الحنفية أنها أخبار عن مشاهدة وعيان لا عن تخمين وحسبان، وذلك بأن يعتمد في شهادته على معاينة الأفعال وسماع الأقوال قال تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} [الإسراء: 36]. انظر: " أصول الإثبات " (ص69)، " المبسوط " (16/ 116).

للمسالك العقلية. نعم. إذا كانت آيلة إلى الإثبات بوجه من الوجوه كانت مثبتة مطلوبة. وليس الاعتبار بمجرد الألفاظ، بل بما يستفاد منها من المعاني، فالحاكم العارف بمدلولات الكلام وخواصه ينبغي له أن ينظر في شهادة الشاهد ويسمعها وإن كانت نافية لأنها قد تشتمل على ما يفيد المراد من حيث المعنى، وإن كانت من حيث اللفظ نافية. وأما الرد لها بمجرد كونها نافية فهو جمود قبيح، وظاهرية سمجة. السؤال السادس: حاصله: ما وجه عمل من كان من حكام العصر متأهلاً للاجتهاد، جامعًا لعلومه بما وقع في كتب الفقه المألوفة عند أهل العصر وإن خالف الدليل؟. أقول: إذا عمل المجتهد المطلق بغير ما قد ثبت لديه دليله فهو أحد القاضيين اللذين هما (¬1) من أهل النار، بل هو شرهما [7ب] وأقبحهما، لأنه قضى بخلاف الحق وهو يعلم بالحق، ويعلم أن قضاءه خلاف الحق. وقد صرح القرآن الكريم بعظم ذنب من عصى عالمًا، ووقع في خلاف ما ثبت على علم منه. والنصوص بذلك في مواضع من الكتاب (¬2) ¬

(¬1) تقدم ذكره. (¬2) منها: قوله تعالى: {ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين} [البقرة: 45]. وقوله تعالى: {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} [آل عمران: 19]. وقوله تعالى: {ولئن اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق} [الرعد: 37]. وقال تعالى: {وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} [البقرة: 213]. وقال سبحانه: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} [المائدة: 45]. وقال سبحانه: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} [المائدة: 47].

العزيز بعضها يعم أهل الإسلام ومن قبلهم من أهل الكتاب، وبعضها يخص أهل الكتاب من حيث السبب أو السياق، ويعم من حيث اللفظ. والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فإن قلت: إذا ابتلي المجتهد بتولي القضاء في أرض لا يعرف أهلها إلا التقليد، ولا يدينون إلا بما صرح به من هم مقلدون له، ويعدون ما خالف ذلك خارجًا عن الشريعة المطهرة كما هو في هذه الأزمنة كائن في غالب الديار الإسلامية شامها ويمنها، ومصرها وهندها ورومها وشرقها وغربها، بل لو قلت: إنه قد عمها كلها ولم يخرج من ذلك إلا الشاذ النادر كالواحد الفرد من الألوف، بل من مئين الألوف، بل من ألوف الألوف لم يكن ذلك بعيدًا من الصواب، ومما يؤيد ذلك ما رأيته في بعض مؤلفات الشيخ العلامة صالح الفلاتي - رحمه الله - النازل بالمدينة المنورة في هذا العصر المتوفى إلى رحمة الله في الأيام القريبة فإنه قال: إنه دار الغرب والشرق، ومصر والشام، والحرمين فلم يجد في هذه الديار مع طول البحث ومزيد الكشف من يعمل بالأدلة ويؤثرها على التقليد (¬1) إلا ثلاثة رجال فقط. قلت: هذا المجتهد المسكين المبتلى من جهتين: الجهة الأولى توليه للقضاء. الجهة الثانية كونه في ديار المقلدة الذين هم بتلك الصفة يجب عليه أن يقدم حق الله عليه، ويؤثر مراده منه فيقضي بما يقتضيه كتاب الله - عز وجل -، وسنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - غير ملتفت إلى غيرهما، ولا مؤثر لما سواهما، ويضرب بذلك وجه المحكوم عليه، فإن وجد للحق ناصرًا فبها ونعمت، وإن لم يجد للحق ناصرًا فليس عليه إلا ذلك، ولا يجب عليه سواه، لأنه قد أبلغ الحجة، ووفى بما أخذه الله عليه من البيان، وقام بالميثاق الذي ألزمه الله - سبحانه - به في كتابه العزيز، فإن عجز عن ذلك ورجفت ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (60).

عن الجزم به بوادره، وأصابه الجبن الذي يصاب به كثير من حملة العلم فواجب عليه وجوبًا مضيقًا أن يتخلص مما هو فيه، ويعزل نفسه، ويستريح ويريح، فإن لم يقبل منه ذلك، ولا وجد من يساعده ويقبله منه [8أ] ففي سعة الخافقين مضطرب، وفي كل بلاد من اجتهاد يدل، وما الكرخ (¬1) الدنيا، ولا الناس قاسم. فإن لم تساعده المقادير إلى ذلك، ولا بلغت إليه طاقته فعليه أن يرد كل خصومة ترد عليه وفيها دليل واضح، لأنه [ ...... ] (¬2) من الحكم به إلى غيره من الحكام، ولم يوجب الله عليه أن يحكم بخلاف الشرع، ولا سوغ له ذلك بوجه من الوجوه، ولا سيما إذا كانت تلك المسألة مما اضطربت فيها الأدلة وتعارضت، فإن المجتهد وإن رجح أحد الأدلة فالمخالف له قد رجح دليلاً معارضًا لدليله بوجه من وجوه الترجيح

_ على اختلاف الأنظار في ذلك، وتباين مراتب العلوم، وتفاوت أقدام العلماء، وأن العقبة الكئود، والمعضلة العمياء الصماء أن يكون قد ألف الناس بسبب التقليد قولاً وهو محض رأي، وقد عارضه دليل صحيح ظاهر الدلالة، واضح المعنى كمعارضة حديث المصراة المتفق (¬3) عليه بتلك الخيالات المختلة، والآراء المعتلة (¬4). وأمثاله كثيرة ونظائره جمة. وأخطر مواطن الخلاف وأصعبها موطنان: الموطن الأول: ما ينشأ عن الحيل المخالفة للشرع التي سوغها بعض أهل العلم تسويغًا ¬

لم يشهد له دليل، ولا سلك من سبل الحق في سبيل. الموطن الثاني: تسويغ الضرارات في المواريث التي تولى الله - سبحانه - في كتابه تقسيطها بين أهلها، وتوزيعها بين مستحقيها، فإذا جبن الحاكم عن الصدع بالحق في هذين الموطنين فالموت خير له من الحياة، لأنه يتسبب عن ذلك مفاسد ومخالفات لأدلة الكتاب والسنة يصعب حصرها، وتتعسر الإحاطة بها، وما عدا هذين الموطنين فهو دونهما في الصعوبة. ولا يعجز عن توجيه الحق فيه ولو بذريعة من ذرائع التوصل إلى الحق إلا من عجز وضعف، ومن كان كذلك فليس بأهل للدخول في هذا المنصب. ولهذا علل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- النهي لأبي ذر - رضي الله عنه- عن تولي الإمارة بضعفه عن القيام بها كما ثبت ذلك في الصحيح (¬1). السؤال السابع: حاصله الاستنكار على من يحكم بالرأي (¬2) مع وجود الدليل من الكتاب والسنة. وأقول: هذا لا يكون إلا من حاكم لا يعرف كتابًا ولا سنة، والذنب على من ولاه مثل الذنب عليه، وهو [8ب] أحد قاضيي النار، سواء أصاب أو أخطأ، لأنه مع الإصابة حكم بالحق وهو لا يعلم به، ومع الخطأ حكم بغير الحق جهلاً منه بالحق، فإن كان ممن عنده علم بالكتاب والسنة فهو أيضًا القاضي الآخر من قضاة النار، لأنه علم بالحق، وحكم بالباطل. ولست أظن بحاكم يعرف الكتاب والسنة ويفهمهما أنه يعدل عنهما إلى ما ليس منهما، بل إلى ما يخالفها، فإن هذا قد تقحم النار على بصيرة، واستحق العقاب على علم منه. أما إذا لم يجد مستندًا للحكم في تلك الخصومة من كتاب، ولا سنة، ولا قياس ¬

(¬1) أخرجه مسلم رقم (17/ 1826) وأحمد في " المسند " (5/ 180). (¬2) انظر الرسالة رقم (60).

معتمد، ولا إجماع يحتج به على خلاف في ذلك، فحديث معاذ (¬1) وإن كان فيه مقال لبعض أهل العلم فطرقه قد كثرت جدًا، وبعضها حسن لذاته، ومجموعهما ينتهض للاحتجاج به. وقد جمعت في ذلك بحثًا واستوفيت فيه جميع طرقه فالواجب على الحاكم أن ينظر في نصوص الكتاب والسنة، فإن وجد ذلك فيهما قدمه على غيره، فإن لم يجده أخذ بالظواهر منهما، وما يستفاد بمنطوقهما ومفهومهما، فإن لم يجد نظر في أفعال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ثم في تقريراته لبعض أمته ثم في الإجماع إن كان يقول بحجيته، ثم في القياس على ما يقتضيه اجتهاده. وإذا أعوزه ذلك تمسك بالبراءة الأصلية، وعليه عند التعارض بين الأدلة أن يقدم طريق الجمع على وجه مقبول، فإن أعوزه ذلك رجع إلى المرجحات المذكورة في كتب الأصول بعد أن يصح له أن ذلك المرجح مرجح. وقد ذكرت نحوًا من هذا في إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، وذكرت قول من قال إن النصوص لا تفي بالحوادث، وتعقبت ذلك بما فيه [ .... .] (¬2) وعندي أن من استكثر من تتبع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وجعل ذلك دأبه، ووجه إليه همته، واستعان بالله - عز وجل - واستمد منه التوفيق، وكان معظم همه، ومرمى قصده الوقوف على الحق، والعثور على الصواب من دون تعصب لمذهب من المذاهب وجد فيهما ما يطلبه فإنهما الكثير الطيب، والبحر الذي لا ينزف، والنهر الذي يشرب منه كل وارد عليه، والمعتصم الذي يأوي إليه كل واحد فاشدد يديك على هذا فإنك إن قبلته بصدر منشرح، وقلب موفق، وعقل قد حلت به الهداية، وجدت فيهما كل ما يطلبه من الأحكام التي تريد الوقوف على دلائلها كائنًا ما كان، فإن ¬

(¬1) وهو حديث ضعيف وقد تقدم. (¬2) كلمة غير واضحة في المخطوط.

استبعدت [9أ] هذا المقال، واستعظمت هذا الكلام، فمن نفسك أتيت، ومن قبل تقصيرك أصبت، وعلى نفسها براقش تجني (¬1) وإنما ينشرح لمثل هذا الكلام صدور قوم مؤمنين وقلوب رجال مستعدين لهذه المرتبة العلية. لا تعدل المشتاق في أشواقه ... حتى تكون حشاك في أحشائه لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى ... إذا هويت فبعد ذلك عنف إذا عرفت هذا فاعلم أن الحاكم الموثوق بدينه وعلمه ربما عمل في حكم من الأحكام بعموم من الكتاب أو السنة يخفى على كثير ممن يطلع على ذلك، فيظن به أنه عمل بالرأي عند عدم الدليل، أو عدل إلى نوع من أنواع المناسب المعمول بها عند البعض، والملغاة عند آخرين، وربما يظن به أنه خالف نصًا يعرفه، ولو علم ما عند ذلك القاضي من الوجه المسوغ للعدول لتبين له أنه لم يعدل إلا إلى ما هو حقيق بالعدول إليه بدلالة بينة يكون العدول إليها أجلب لمصالح الشريعة، وأدفع للمفاسد عنها. لو رأى وجه حبيبي عاذلي ... لتفارقنا على وجه جميل ولأمر ما يقول الصادق المصدوق - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فيما صح عنه في الصحيحين (¬2) وغيرهما: " إذا اجتهد الحاكم فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر " فردده من أجر وأجرين، وأن هذا الأمر يقر به من قضاة الحق كل عين، ولسان حال ذلك القاضي يقول: سيفقدني (¬3) قومي إذا جد جدهم ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر فإن قلت: وأين هذا القاضي؟ ومتى جاد الزمان بمثله؟ وفي أي بلاد نجده؟. ¬

(¬1) تقدم شرحه. (¬2) تقدم تخريجه انظر الرسالة رقم (60). (¬3) سيذكرني كذا في ديوان أبي فراس الحمداني (ص67).

قلت: إنما قلت ما قلت على الفرض والتقدير، وعدم وجودك له لا يستلزم عدم قبولك لكلامي هذا. وإلى هنا انتهى الجواب بقلم المجيب محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما -.

سؤال عن يمين التعنت التي يطلبها المتخاصمون

(145) 20/ 5 سؤال عن يمين التعنت التي يطلبها المتخاصمون تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: " سؤال عن يمين التعنت التي يطلبها المتخاصمون ". 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الأكرمين وبعد. فإن سيدي العلامة زين الأعلام يحيى بن مطهر كثر الله فوائده سألني عن يمين التعنت. 4 - آخر الرسالة: وليس في تطويل البحث بالزيادة في الوجوه والدفع إلا مجرد الإيضاح. والحمد لله أولاً وآخرًا وصلى الله على سيدنا محمد وآله. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - عدد الصفحات: 4 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 12 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 9 - 11 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الأكرمين. وبعد: فإن سيدي العلامة زين الأعلام، يحيى بن مطهر (¬1) - كثر الله فوائده - سألني عن يمين التعنت المذكورة في كتب الفروع التي تطلبها الخصوم عند التخاصم، ويلزم المطلوب بها بعض الكلام، فأقول: اعلم أن الشارع - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - جاءنا بحكم كلي ينطبق على كل ما صدق عليه ذلك الحكم فثبت عنه أن المدعي البينة، وعلى المنكر اليمين (¬2)، وهو ثابت في دواوين الإسلام من طرق. وقد وقع الإجماع من المسلمين أجمعين على ما أفاده هذا الحكم النبوي، وكان المعلوم صدقه من هذه الحيثية كما تقرر في الأصول، وهو الحق. هذا على تقدير أنه لم يثبت تواتره، فإن ثبت تواتره انضم إلى هذا الدليل على أنه من المعلوم صدقه دليل آخر فمن وجد فيه وصف كونه مدعيًا كان عليه البينة، ومن وجد فيه وصف كونه مدعى عليه كان عليه اليمين، وهذا الذي قال: إن غريمه لم يرد بطلب اليمين منه إلا مجرد التعنت، وإلا فهو يعلم أن له عنها مندوحة، وأن هناك ما يوجب رفعها عنه، وذلك إما بأن تكون الدعوى كاذبة من أصلها، فإلزام المنكر باليمين ظلم، والطالب لإعنات خصمه طالب باطل، ومريد لما هو خلاف ما شرعه الله - سبحانه - لعباده [1أ]، ولا يجوز تقريره على ذلك، لأنه فاعل لمنكر، ونهي المنكر واجب بالأدلة القطعية من الكتاب والسنة والإجماع، ومعلوم أن كل حاكم إذا سمع دعوى المدعي قائلاً إن خصمه لم يطلب يمينه إلا تعنتًا وعبثًا، وهو يعلم اندفاع ذلك عنه، وعدم لزومه ¬

(¬1) تقدمت ترجمته (ص1201). (¬2) تقدم تخريجه.

له يجوز صدقه، ويتردد بين طرفي الاحتمال، فإذا منعه من ذلك مع هذا الاحتمال كان حاكمًا بالجور، ظالمًا لمدعي التعنت، لأنه لم يكن في يده إلا مجرد الاحتمال، وهو مما لا يجوز الاعتماد عليه بإجماع المسلمين، لا سيما في مثل الخصومات، وكان مخالفًا لحكم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بأن اليمين على كل منكر (¬1)، وهذا الذي أنكر التعنت منكر، فالحكم عليه باليمين هو حكم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الشامل له، ولكل منكر، وهذا لا يخفى على منصف، ولا يأباه إلا متعسف. والرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لم يأتنا عنه التعرض لتنوع الأيمان، وأن هذه يمين كذا، وهذه يمين كذا كما وقع من أهل الفروع، بل جاءنا بحكم جامع شامل كما هو ديدنه [ ..... ] (¬2) في تشريع الأحكام في غالب الأحوال، فإن غالب هذه الشريعة إنما ثبت بالعمومات الكائنة في الكتاب والسنة، وهذا معلوم لكل من له علم بالكتاب والسنة. وإذا تقرر هذا فأنت تعلم أنه إذا قرع سمع الحاكم، وسمع كل سامع قول من طلبت منه اليمين أن هذا الطالب ليميني إنما أراد العبث بي، وهو يعلم اندفاع ذلك عني بمسلك الشرع، ومنهج مرضي كان ذلك دعوى شرعية مرضية لا يحل الإخلال بها، ودفع صاحبها لمجرد [1ب] الوهم العاطل، والإباء الباطل، لأن كل من له فهم يعلم أن هذه الدعوى ما يعلم في كل دعوى يسمعها من احتمال الصدق والكذب، ويعلم أن هذا القائل قد صدق عليه أنه مدع، وأن خصمه مدعى عليه. فلو قلنا أنه يجوز للحاكم دفع هذه الدعوى بخصوصها لمجرد الاحتمال لزمه دفع كل دعوى، لأنها في حيز الاحتمال، ولا يثبت صدقها إلا بعد أن يعضدها البرهان الذي يكون به دفع الخصومات، وهو ما أشار إليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فيما صح ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (144) " السؤال الأول ". وهو أيضًا عن يمين التعنت. (¬2) كلمة غير واضحة في المخطوط.

عنه بقوله: " شاهداك أو يمينه " (¬1). وبهذا تعلم أنه لا ملجئ لقياس هذه اليمين على يمين التأكيد، ولا على غيرها، فصاحبها قد شمله الحكم العام من سيد الأنام - عليه الصلاة والسلام -. وأما الاعتلال بأنه يلزم التسلسل فمن أعجب ما يسمعه السامع، ومن أغرب ما ترد به الشرائع؛ فإن التسلسل كما قرره علماء المعقول هي عدم تناهي التوقفات في أمور غير متناهية، كما أن الدور هو عدم تناهي التوقفات في أمور متناهية، فلو كان لهذا الاعتلال مدخل في دفع الشريعة المطهرة لجوزناه فيمن ادعى على خصمه الذي ادعى عليه بدعوى غير هذه الدعوى، فإنه لا يمتنع أن يدعي عليه الآخر بدعوى أخرى، ثم كذلك. ثم قد عرفت أن حكم الشرع هو إما الشاهدان أو اليمين، فلو كان للمدعي شهادة وطلب يمين المنكر كان هذا تعنتًا، لأن الجمع بين الشهادة من المدعي، واليمين من المنكر لم تثبت في هذه الشريعة، فهذه دعوى تعنت مقبولة بالحكم الشرعي، لأن خصمه أراد أن يحمله ما لا يلزمه مع وجود البينة، مع أنه لو طاوعه، وحلف لجاء بعد ذلك بالبرهان، فكان طالبًا لما يخالف الشرع من هذه الحيثية [2أ] (¬2) .. بواجب على حكام الشرع مع الاحتمال أن يجيبوا طالب يمين المتعنت إليها إلا أن يعرفوا أن ذلك الطلب بما هو تطويل للمسافة، وإغراق في إتعاب الغريم، وجرى على ما جرى عليه عرف المتخاصمين من طلب بين التعنت في كل يمين تطلب من المنكر، فلهم المنع من ذلك، بل لا يحل لهم أن يقبلوا من طالب يمين التعنت هذا المطلب، لأنه خارج عن القوانين الشرعية، والمسالك المرضية، بل مجرد عبث وإتعاب. وبالجملة فدعوى التسلسل باطلة، لأن غاية ما هنالك أن يدعي كل واحد من ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (2669، 2670) ومسلم رقم (220/ 138) من حديث الأشعث بن قيس. وقد تقدم. (¬2) هنا قطع في المخطوط لا نعرف مقداره.

الخصمين على خصمه التعنت في اليمين المطلوبة من كل واحد منهما، فهاهنا يمينان وتعنتان ليس في الواقع غيرهما. وإذا ادعى أحدهما بعد التعنت تعنتًا، أو بعد اليمين يمينًا فهو ذلك التعنت، وتلك اليمين، فالعجب حيث يجعل مثل هذا الوهم الكاسد الفاسد سببًا لدفع الشرع الواضح الظاهر، وما قيل من أنه لا ثمرة لهذه اليمين لعدم الحكم على من نكل عنها، فهذا كلام باطل، بل يحكم عليه بأنه متعنت بطلب اليمين فترفع عن المدعى عليه في الحال، ويطلب منه البرهان، لأنه أحد مستندي الحكم، بل أجلهما وأولاهما. فإذا تعذر البرهان، ولم تبق إلا اليمين التي هي المستند الآخر، وأعوز الأمر، ولم يظهر بوجه من الوجوه كان الرجوع إلى اليمين هو آخر ما دار من الخصومة، وبها ينقطع النزاع، ويرتفع التخاصم بحديث: " شاهداك أو يمينه " (¬1). وهذا يكفي. وليس في تطويل البحث بالزيادة في الوجوه والدفع إلا مجرد الإيضاح. والحمد لله أولاً وآخرًا - وصلى الله على سيدنا محمد وآله [2ب]-. ¬

(¬1) انظر مناقشة الموضوع في الرسالة رقم (144).

بحث في قبول العدلة في عورات النساء

(146) 42/ 2 بحث في قبول العدلة في عورات النساء تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في قبول العدلة في عورات النساء. 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم، أحمدك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآل رسولك وبعد: فإنه جرى البحث مع بعض الأعلام في قبول العدلة في عورات النساء. 4 - آخر الرسالة: " وقد تقرر في الأصول أنه واجب جمعًا بين الأدلة. وفي هذا المقدار كفاية حرره الحقير محمد الشوكاني غفر الله له. 5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول. 6 - عدد الصفحات: 7 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 22 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 8 كلمات. 9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني. 10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم أحمدك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآل رسولك، وبعد: فإنه جرى البحث مع بعض الأعلام في قبول العدلة في عورات النساء، وفي اختلاف العلماء في ذلك، وفي الراجح من المرجوح من الأقوال في المسألة بحسب ما يقتضيه الدليل. فأقول: الكلام على هذه المسألة، وما يتعلق بها ينحصر في وجوه ثلاثة: الأول: في نقل الأقوال في المسألة وهي أربعة: الأول: قول العترة (¬1)، وأبي حنيفة (¬2) وأصحابه أنها تقبل العدلة فيما يتعلق بعورات النساء. ¬

(¬1) " البحر الزخار " (3/ 370) (5/ 21). (¬2) في " البناية في شرح الهداية " (8/ 130 - 131). أبو حنيفة وأصحابه يقبلون شهادة النساء منفردات فيما لا يطلع عليه الرجال، كالولادة والبكارة وعيوب النساء. ويقبلون فيه شهادة امرأة واحدة. قالوا: ولأنه لا بد من ثبوت هذه الأحكام، ولا يمكن للرجال الاطلاع عليها وإنما يطلع عليها النساء على الانفراد، فوجب قبول شهادتهن على الانفراد. قالوا: وتقبل فيه شهادة الواحدة؛ لأن ما قبل فيه قول النساء على الانفراد لم يشترط فيه العدد، كالرواية. قالوا: وأما استهلال الصبي. فتقبل شهادة المرأة فيه بالنسبة إلى الصلاة على الطفل ولا تقبل بالنسبة إلى الميراث، وثبوت النسب عند أبي حنيفة وعند صاحبيه يقبل أيضًا؛ لأن الاستهلال صوت يكون عقيب الولادة، وتلك حالة لا يحضرها الرجال، فدعت الضرورة إلى قبول شهادتهن، وأبو حنيفة يقضي بأحكام الشهادة. وأثبت الصلاة عليه بشهادة المرأة احتياطًا، ولم يثبت الميراث والنسب بشهادتها احتياطًا. قالوا: أما الرضاع، فلا تقبل فيه شهادة النساء منفردات؛ لأن الحرمة متى ثبتت ترتب عليها زوال ملك النكاح، وإبطال الملك لا يثبت إلا بشهادة الرجال. انظر: " جامع الفقه " (7/ 289). انظر: " أعلام الموقعين " (4/ 252، 253)، " المغني " (14/ 136).

القول الثاني: لأصحاب الشافعي (¬1) أنه لا تقبل في عورات النساء إلا أربع عدلات، وهذا هو المعروف المقدر المعتمد عند الشافعية الآن. قال في المنهاج (¬2) ما لفظه: وما يختص بمعرفته النساء، أو لا يراه رجال غالبًا كبكارة، وولادة، وحيض، ورضاع، وعيوب تحت الثياب بما سبق، وبأربع نسوة، انتهى. وهو يشير بقوله: بما سبق، إلى ما قدمه قبل هذا من الأمور التي اعتبر فيها شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين. قال شارحه المحلي في تفسير قوله: وعيوب تحت الثياب، ما لفظه: كبرص، ورتق، وقرن، وقال أيضًا: واحترز بقوله: تحت الثياب، عما قاله البغوي (¬3) العيب في وجه المرأة وكفيها لا يثبت إلا برجلين، وفي وجه الأمة وما يبدو عند المهنة تثبت برجل وامرأتين انتهى. القول [1أ] الثالث: قول البتي (¬4) أنه لا يقبل في عورات النساء إلا ثلاث عدلات. القول الرابع: قول مالك والأوزاعي (¬5) أنه لا يقبل في ذلك إلا عدلتان. ¬

(¬1) قال الشافعي في " الأم " (13/ 360): " ... ولا يجوز منهن أقل من أربع إذا انفردن قياسًا على حكم الله تبارك وتعالى فيهن؛ لأنه جعل اثنتين تقومان مع رجل مقام رجل وجعل الشهادة شاهدين أو شاهدًا وامرأتين، فإن انفردن فمقام شاهدين أربع ". (¬2) (8/ 312 - نهاية المحتاج). (¬3) انظر " شرح السنة " (9/ 87 - 88). (¬4) عزاه إليه ابن قدامة في " المغني " (14/ 136): قال عثمان البتي: يكفي ثلاث؛ لأن كل موضع قبل فيه النساء، كان العدد ثلاثة، كما لو كان معهن رجل. (¬5) ذكره ابن قدامة في " المغني " (14/ 135): وعن أحمد رواية أخرى لا تقبل فيه إلا امرأتان، وهو قول الحكم وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وإليه ذهب مالك والثوري؛ لأن كل جنس يثبت به الحق كفى فيه اثنان، كالرجال؛ ولأن الرجال أكمل منهن عقلاً ولا يقبل منهم إلا اثنان. قال أبو عبيد: فأما الذين قالوا تقبل شهادة الواحدة في الرضاعة، فإنهم أحلوا الرضاع محل سائر أمور النساء التي لا يطلع عليها الرجال، كالولادة والاستهلال ونحوهما، وأما الذين أخذوا بشهادة الرجلين أو الرجل والمرأتين: فإنهم رأوا أن الرضاعة ليست كالفروج التي لا حظ للرجال في مشاهدتها وجعلوها من ظواهر أمور النساء، كالشهادة على الوجوه، والذين أجازوها بالمرأتين: ذهبوا - وإن لم يكن النظر في التحريم كالعورات، فإنها لا تكون بظهور الثدي والنحور، وهذه من محاسن النساء التي قد جعل الله فرضها الستر على الرجال الأجانب. ثم قال: والذي عندنا اتباع السنة فيما يجب على الزوج عند ورود ذلك، فإذا شهد به عنده المرأة الواحدة بأنها قد أرضعته وزوجته، فقد لزمته الحجة من الله في اجتنابها، ويوجب عليه مفارقتها لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمستفتي في ذلك دعها عنك وليس لأحد أن يفتي غيره. " جامع الفقه " (7/ 289)، " أعلام الموقعين " (4/ 252).

هذه الأقوال حكاها صاحب البحر (¬1). وقال صاحب أصول الأحكام (¬2) في هذه المسألة ما لفظه: فقال أبو حنيفة وأصحابه مثل قولنا: تجوز شهادة امرأة واحدة. وروى ذلك عن الثوري، ذهب الشافعي، وابن شبرمة إلى أنه لا يقبل أقل من أربع نسوة، وعن البتي لا يقبل أقل من ثلاث في الولادة والاستهلال. وعن مالك، وابن أبي ليلى: لا يقبل أقل من شهادة امرأتين، انتهى. قال في شرح البحر (¬3): وهذا يعني قبول العدلة في نحو الولادة، واستهلال المولود، والحيض. قال الإمام يحيى: وما يكون تحت الثياب من العيوب كالجذام، والبرص، والقرن، والرتق، والغفل. قال في شرح البحر أيضًا (¬4): وأما الرضاع فالمذهب فيه ما مر في كتاب الرضاع عن ¬

(¬1) (3/ 370) و (5/ 21). (¬2) " أصول الأحكام في الحلال والحرام ". تأليف أحمد بن سليمان الحسني اليمني. فيه ما يزيد على ثلاثة آلاف وثلاثمائة حديث في الحلال والحرام من الأحكام الفقهية. " مؤلفات الزيدية " (1/ 126 - 127). (¬3) انظر " ضوء النهار " (4/ 2088) و (3/ 1112). (¬4) انظر " ضوء النهار " (4/ 2088) و (3/ 1112).

العترة، وأبي حنيفة وأصحابه، أنه يعتبر فيه رجلان، أو رجل وامرأتان كما في الحقوق والأموال. قال: وحكى الإمام يحيى في هذا الموضع عن العترة، وأبي حنيفة وأصحابه أنه يكفي في الرضاع عدلة. انتهى. الوجه الثاني: في الأدلة استدل صاحب البحر (¬1) لقول من قال: إنها تكفي عدلة في عورات النساء بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " كيف وقد شهدت السوداء بأنها أرضعتكما! " ثم قال: قلت: لعله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فهم حصول الظن بخبرها؛ إذ شهادة الواحدة لا تكفي في الرضاع، انتهى [1ب]. وأقول: الحديث الذي أشار إليه هو حديث عقبة بن الحارث عند البخاري (¬2)، والترمذي (¬3)، والنسائي (¬4) أنه تزوج بنتًا لأبي إهاب، فأتته امرأة فقالت: إني قد أرضعت عقبة والتي تزوج بها، فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتيني، فركب إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فذكر له الخبر فقال له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " كيف وقد قيل! " ففارقها عقبة ونكحت زوجًا غيره. وفي رواية (¬5) أنه قال له: " دعها ". وفي أخرى (¬6) أنه نهاه عنها، ولكنه لا يخفى أنه لا يتم الاستدلال بهذا الدليل إلا بعد تسليم دلالته على ما ورد فيه، وهو الرضاع، وهو لا يدل على ذلك إلا إذا قامت به الحجة في الرضاع، فيلحق به غيره من عورات النساء بجامع أن ثدي المرأة ¬

(¬1) (5/ 21). (¬2) في صحيحه رقم (5104). (¬3) في " السنن " رقم (1151). (¬4) في " السنن " (6/ 109). قلت: وأخرجه أحمد (4/ 7) والدارمي (2/ 157 - 158) وأبو داود رقم (3603) والبيهقي (7/ 463). والطيالسي في مسنده (ص190 رقم 1337) وهو حديث صحيح. (¬5) عند البخاري في صحيحه رقم (2660). (¬6) عند البخاري في صحيحه رقم (2659).

عورة، وقد قبلت في رضاع الصبي منه عدلة، وأما من لم يجعله صالحًا للاستدلال به على الرضاع، ولم يكتف بقول العدلة فيه كما قاله صاحب البحر (¬1)، فكيف يصح الاستدلال به على قبول العدلة في العورات مع منع دلالته على ما ورد فيه وهو الرضاع! وكيف يسوغ الاستدلال بدليل في غير ما ورد فيه، مع منع دلالته فيما ورد فيه! فإن الدليل إذا لم يقو على ما هو نص فيه، أو على ما هو سبب له لا يقوى على ما هو خارج عنه، وإن ألحق به [2أ] بطريق من طرق القياس، ونوع من أنواعه؛ لأنه إذا قال المستدل به: يقبل قول العدلة في الحيض والولادة مثلاً قياسًا على الرضاع، فإنها قد قبلت فيه للحديث المتقدم. قال خصمه: أنت لا تقول بدلالة هذا الدليل على الأصل الذي هو الرضاع بل يعتبر فيه البينة الكاملة، فكيف تقول بأنه يدل على الفرع! وأما من قال بدلالته على قبول العدلة في الرضاع، وأقاس سائر العورات على الثدي، فلا يرد عليه ما ذكرناه. وقد استدلت الشافعية على اعتبار أربع عدلات بما ذكره المحلي في شرح المنهاج (¬2)، قال: روى ابن أبي شيبة (¬3) عن الزهري قال: مضت السنة أنه تجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن من ولادة النساء وعيوبهن، قال: وقيس على ما ذكر باقي المذكورات، انتهى. وأقول: هذا الحديث أخرجه ابن أبي شيبة (¬4) في مسنده، كما ذكره المحلي، قال ابن أبي شيبة: حدثنا عيسى بن يونس الأوزاعي، عن الزهري: مضت السنة بأنها تجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن، وأخرجه عبد الرازق (¬5) عن ابن جريج، عن ابن شهاب، قال: مضت السنة أنه تجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن من ولادة ¬

(¬1) (3/ 370). (¬2) انظر " نهاية المحتاج " (8/ 312). (¬3) في مصنفه (6/ 185 رقم 749). (¬4) في مصنفه (8/ 333). (¬5) في مصنفه (8/ 333).

النساء وعيوبهن. ولا يخفى عليك أن استدلال الشافعية بهذا الحديث إنما يتم بعد تسليم أن لفظ النساء لا يطلق إلا على الأربع، وهو ممنوع، بل لم يقل قائل من أهل اللغة [2ب]، وأهل علم العربية بذلك، والذي في كتب اللغة والعربية أن النساء جمع المرأة من غير لفظه، قال في القاموس (¬1) ما لفظه: النسوة بالكسر والضم، والنساء والنسوان والنسوان بكسرهن جموع المرأة من غير لفظها. انتهى. وقد عرفت أن الثلاثة هي أقل (¬2) الجمع عند الجمهور، وعند جماعة من أهل اللغة كالزمخشري (¬3)، وجماعة من الفقهاء (¬4) أن أقل الجمع اثنان، فعلى فرض أن المراد بالنساء هنا الجمع لا الجنس لا يكون الحديث دليلاً على ما ذهبت إليه الشافعية، بل يكون دليلاً على ما قاله البتي أنه لا يقبل في عورات النساء إلا ثلاث عدلات. والظاهر أن المراد به هنا الجنس لوجهين: أحدهما: أنه قد تقرر في علم البيان والأصول أن الألف واللام إذا دخلت على الجموع هدمت الجمعية (¬5) وصيرتها للجنس، ولفظ النساء هاهنا كذلك؛ فإنه جمع للمرأة من غير لفظه، وقد دخلت عليه الألف واللام، فانهدم الجمع وصار مفيدًا للجنس الصادق على الواحدة وما فوقها (¬6). ¬

(¬1) (ص1725). (¬2) انظر " إرشاد الفحول " (ص427) و" تيسير التحرير " (1/ 207). (¬3) انظر " التبصرة " (ص127)، " القواعد والفوائد الأصولية " (ص238). (¬4) قال ابن حزم في " الإحكام " (1/ 391): هو قول جمهور أهل الظاهر وحكاه ابن الدهان النحوي عن محمد بن داود وأبي يوسف والخليل ونفطويه واختاره الغزالي في " المستصفى " (3/ 312) و" المنخول " (ص148). (¬5) انظر " إرشاد الفحول " (ص412)، " البحر المحيط " (3/ 93). (¬6) قال ابن قدامة في " المغني " (14/ 134 - 135) مسألة: قال: ويقبل فيما لا يطلع عليه الرجال، مثل الرضاع، والولادة، والحيض، والعدة، وما أشبهها، شهادة امرأة عدل. ثم قال: لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في قبول شهادة النساء المنفردات في الجملة، قال القاضي: والذي تقبل فيه شهادتهن منفردات خمسة أشياء، الولادة، والاستهلال، والرضاع، والعيوب تحت الثياب كالرتق والقرن والبكارة والثيابة والبرص. وانقضاء العدة. وانظر: " البناية في شرح الهداية " (8/ 130 - 132) و" جامع الفقه " (7/ 285) حيث قال أبو عبيد: الأقوال ثلاثة: أرجحها أنها تجوز شهادة النساء متفرقات فيما لا يطلع عليه الرجال غالبًا.

الوجه الثاني: أن الخطابات الشرعية الواردة على هذه الصفة لا يراد بها الجموع حتى تخرج المرأة والمرأتان كما يعرف ذلك من له إلمام بالأدلة الشريعة، بل يراد بها الجنس على وجه يشمل المرأة والمرأتين، وهذا [3أ] ظاهر لا يخفى. الوجه الثالث: من الوجوه التي اشتمل عليها هذا البحث في بيان ما هو الراجح من الأقوال السابقة. اعلم أن الراجح (¬1) قول من قال إنها تقبل العدلة في عورات النساء لوجوه: الأول: حديث المرضعة الذي تقدم ذكره؛ فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قبلها ونهى الزوج عن المرأة التي تزوجها استنادًا إلى خبر تلك المرضعة، والثدي من جملة عورات النساء فيلحق غيره به لعدم الفارق. الوجه الثاني: ما تقدم من قول الزهري (¬2) مضت السنة (¬3) ... إلخ وهذه الصيغة لها حكم الرفع كما تقرر في الأصول، ولا يظن بمثله في حفظه وعلمه أن يقول هذه المقالة إلا بعد أن يطلع على ذلك من السنة. وقد قدمنا أن هذا الحديث من أدلة القائلين بقبول العدلة في عورات النساء. الوجه الثالث: ما ذكره الأمير الحسين في الشفا (¬4) قال: خبر: وروى حذيفة عن ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر " البحر المحيط " (4/ 376) و" إرشاد الفحول " (ص233). (¬4) (3/ 249 - 250).

النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه أجاز شهادة القابلة. وروى هذا الحديث أيضًا في أصول الأحكام فقال: خبر: وعن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه قبل شهادة القابلة. الوجه الرابع: ما أخرجه عبد الرازق في جامعه (¬1)، والضياء المقدسي في المختارة (¬2) والبيهقي في السنن (¬3) عن عبد الله بن يحيى أن عليًا - كرم الله وجهه - أجاز شهادة المرأة القابلة في الاستهلال. الوجه الخامس: قال في أصول الأحكام (¬4) خبر: وعن علي - عليه السلام - أنه قبل شهادة امرأة واحدة فيما لا يطلع عليه الرجال. الوجه السادس: أخرج عبد الرازق في جامعه (¬5) عن ابن شهاب أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أجاز [3ب] شهادة امرأة في الاستهلال. الوجه السابع: أخرج البيهقي في السنن (¬6) عن ابن عمر أنه قال: لا تجوز شهادة النساء وحدهن إلا على ما لا يطلع عليه إلا هن من عورات النساء، وما يشبه ذلك من حملهن وحيضهن. الوجه الثامن: قياس خبر المرأة عن الأمور المتعلقة بعورات النساء على قبول خبرها وحدها في سائر الأمور التي لا يتعلق بها خصومة، فإنها قد تفردت غير امرأة برواية الأحاديث الموجبة لإثبات شريعة يشمل الأمة التكليف بها، وتعم بها البلوى، فقبولها في ¬

(¬1) في مصنفه (8/ 334). (¬2) لم أعثر عليه. (¬3) (10/ 151). (¬4) تقدم ذكره. (¬5) انظر مصنفه (8/ 334 رقم 15429). (¬6) (10/ 151 - 152). وأخرجه عبد الرازق في مصنفه (8/ 333 رقم 15425).

قضية جزئية شخصية متعلقة بعورة امرأة أولى. ولا منافاة بين هذه الأدلة الدالة على قبول العدلة في عورات النساء، وبين الأدلة الدالة على أنه يعتبر في الشهادة رجلان، أو رجل وامرأتان لأمور ثلاثة: الأول: أن هذا خبر وليس بشهادة، فلا يشترط فيه ما يشترط في الشهادة. الأمر الثاني: أنا لو فرضنا أنه يصدق على خبرها هذا أنه شهادة لكان الجمع ممكنًا بأن يقال: خبر العدلة في هذه الأمور لا تتعلق به خصومة، والشهادة الكاملة إنما اعتبرت في الأمور التي تتعلق بها الخصومات. الأمر الثالث: أنا لو فرضنا أنه لا فرق بين ما يتعلق به خصومة وما لا يتعلق به خصومة، وأنه لا فرق بين الخبر والشهادة لكانت الأدلة المذكورة هنا الدالة على قبول خبر العدلة أخص مطلقًا من الأدلة الدالة على اعتبار رجلين، أو رجل وامرأتين، فيبنى العام على الخاص (¬1)، وقد تقرر في الأصول أنه واجب جمعًا بين الأدلة. وفي هذا المقدار كفاية. حرره الحقير محمد الشوكاني - غفر الله له -. ¬

(¬1) انظر " إرشاد الفحول " (ص454).

إشراق النيرين في بيان الحكم إذا تخلف عن الوعد أحد الخصمين

(147) 39/ 2 إشراق النيرين في بيان الحكم إذا تخلف عن الوعد أحد الخصمين تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: إشراق النيرين في بيان الحكم إذا تخلف عن الوعد أحد الخصمين. 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: الحمد لله على كل حال، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله أهل الفضائل والإفضال. فإنه ورد إلي سؤال 4 - آخر الرسالة: " فلا بد فيه من مستند الحكم على المتمرد عندهم. وإلى هنا انتهى الجواب في شعبان سنة 1217 بقلم المجيب غفر الله له. 5 - نوع الخط: خط نسخي رديء. 6 - عدد الصفحات: 15 صفحة ما عدا صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 22 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 8 كلمات. 9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني. 10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

الحمد لله على كل حال، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله أهل الفضائل والإفضال. وبعد: فإنه ورد إلي سؤال من مولاي العلامة المفضال علي بن عبد الله الجلال (¬1) - لا برح في حفظ الكبير المتعال - عن حديث أخرجه أبو سعيد النقاش في القضاء، ولفظه: كان الخصمان إذا اختصما إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فاتعدا للموعد، فوافا أحدهما ولم يواف الآخر قضى للذي يفي منهما، انتهى. ومحل السؤال كونه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقضي للذي يفي منهما بالموافاة للموعد؛ فإن ظاهره أن الموافاة بمجردها مع اختلاف الخصم الآخر سبب من أسباب الحكم؟. وأقول: الجواب عن ذلك ينحصر في وجوه جملتها ستون وجهًا. الأول: الكلام على إسناد الحديث، قد نسبه السائل - كثر الله فوائده - في سؤاله إلى جامع السيوطي (¬2)، ولعله يعني الجامع الكبير لأنه لم يوجد في الصغير. وقال: وفي إسناده خالد بن نافع ضعيف. وأقول: ذكره أيضًا صاحب مجمع الزوائد (¬3) فقال لفظه: باب في الخصمين يتعدان ولم يأت أحدهما: عن أبي موسى الأشعري أن معاوية بن أبي سفيان قال له: أما علمت أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان إذا اختصم إليه الرجلان فاتعدا الموعد فجاء أحدهما ولم يأت الآخر قضى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - للذي جاء على الذي لم يجئ. فقال أبو موسى: إنما كان ذلك في الدابة، والشاة، والبعير، والذي نحن فيه أمر الناس. ¬

(¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) لم أجده في الجامع الصغير. (¬3) (4/ 197 - 198).

رواه الطبراني في الأوسط (¬1)، وفيه خالد بن نافع الأشعري: قال أبو حاتم (¬2) ليس بقوي يكتب حديثه، وضعفه الأئمة انتهى. وله شواهد سيأتي ذكرها إن شاء الله. واعلم أني لم أجد لأحد من الحفاظ كلامًا على إسناد هذا الحديث بعد البحث عنه إلا ما ذكرته هنا. وأما الكلام على متنه ودلالته فلم أجد شيئًا من ذلك، وقد أوردت هاهنا هذه الوجوه الآتية وهي غاية ما دخل تحت الإمكان. الثاني: اعلم أن لفظ كان في قوله: " كان الخصمان " يفيد التكرار كما صرح بذلك أئمة الأصول، ومنهم ابن الحاجب في مختصر المنتهى (¬3)، وشارحه العضد وغيرهما ومثلوا ذلك بقولهم: كان حاتم يكرم الضيف؛ فهذه الصيغة تقتضي أن القضاء على من لم يحضر مجلس المواعدة كان يتكرر وقوعه من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. الوجه الثالث: [1أ] أن قوله: " إذا اختصما إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فاتعدا " يدل على أنه تقدم لهما حضور مع خصومة عند رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فإنه رتب المواعدة على الاختصام، فلا يقال: إن الحكم منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - على من لم يحضر كان بمجرد الاختلاف عن الحضور على الوعد المضروب. وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله. الوجه الرابع: قوله: " فاتعدا للموعد " فيه أن التواعد كان بين الخصمين، ولم يكن الذي واعد بينهما هو رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فمن الجائز أن يكون ذلك في حضرته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بمرأى منه ومسمع، ومن الجائز أن يكون ¬

(¬1) عزاه إليه الهيثمي في " المجمع " (4/ 198). (¬2) انظر " الجرح والتعديل " (3/ 355 رقم 1604). وهو خالد بن نافع الأشعري كوفي. قال أبو زرعة: ضعيف الحديث. (¬3) (2/ 83). ط1، مصر 1316هـ.

ذلك في غير حضرته، وفيه إشكال، لأنه إذا لم يكن في حضرته كان الحكم منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - على من لم يحضر على الوعد إنما هو بمجرد دعوى خصمه أنهما تواعدا، وأنه اختلف عن الحضور. الوجه الخامس: قوله: " فوافى أحدهما ولم يواف الآخر " فيه أن مجرد عدم الموافاة على الوعد مسوغة للحكم، سواء كان اختلاف المختلف لعذر شرعي كالمرض أو لغير عذر، وسواء كان اختلافه تمردًا أو عنادًا أم نسيانًا وسهوًا عن الوعد المضروب. الوجه السادس: أن الموافاة المذكورة على الوعد المضروب لا تعقل إلا إذا كانت مشتملة على أمرين: أحدهما: أن يكون إلى مكان معين. الثاني: أن تكون في زمان معين. والمكان المعين قد يكون هو المكان الذي يكون به رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في ذلك الزمان المعين، وإن لم يكن مكانًا معينًا لفظًا، وقد يكون [1ب] معينًا نحو أن يتواعد إلى الحضور إلى المسجد في وقت معين، أو يواعد بينهما رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن يحضرا إليه، أو إلى المسجد، أو نحو ذلك، وإنما قلنا: أن الموافاة لا تعقل إلا إذا كانت مشتملة على الأمرين لأنه لو حضر أحدهما إلى المكان في زمان آخر غير الزمان المضروب، أو حضر في ذلك الزمن المضروب إلى غير المكان المعين أو نحوه لم يكن حاضرًا. الوجه السابع: أن قوله: " فقضى للذي يفي منهما " وقع هكذا في لفظ السائل - كثر الله فوائده - بلفظ " يفي " والمراد بالموافاة هنا هو الوفاء بالموافاة على الوعد المضروب، وكان المناسب للسياق أن يقول: " قضى للذي يوافي منهما " ولكنه عبر بلازم الموافاة وهو الوفاء لأن من وافى فقد وقع منه الوفاء. الوجه الثامن: أن الظاهر من قوله: قضى هو المعنى المعروف ...............................

لغة (¬1) وشرعًا (¬2)، وهو إلزام أحد الخصمين بتسليم ما يدعيه خصمه إن كان الموافي هو المدعي أو إلزام أحد الخصمين بترك المطالبة لخصمه إن كان الموافي هو المدعى عليه. الوجه التاسع: هذا القضاء (¬3) إن كان لمجرد موافاة أحد الخصمين، واختلاف الآخر فليس هذا من الأسباب الشرعية المسوغة للقضاء، لأن الذي اختلف ولم يواف إن كان هو من عليه الحق، وهو المدعى عليه فأسباب الحكم عليه هو ما ذكره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الذي تواتر تواترًا معنويًا (¬4)، وهو قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " على المدعي البينة " (¬5). أو ما تقرر في الكتاب والسنة من أن الإنسان مأخوذ بإقراره (¬6) ولا خلاف في ذلك [2أ]، أو علم الحاكم على ما هو الحق عندي من غير فرق بين الحدود والحقوق. وإليه ذهب جماعة من العلماء، أو نكول المدعى ¬

(¬1) انظر " لسان العرب " (11/ 209). القضاء: الحكم. (¬2) القضاء: هو الحكم الإلهي في أعيان الموجدات على ما هي عليه من الأحوال الجارية في الأزل إلى الأبد. وفي اصطلاح الفقهاء: القضاء تسليم الواجب. القضاء على الغير إلزام أمر لم يكن لازمًا قبله. " التعريفات " للجرجاني (ص185). قال في تبصرة الحكام (1/ 11): قال ابن رشيد: ومعنى قولهم قضى القاضي أي ألزم الحق أهله والدليل على ذلك قوله تعالى: {فلما قضينا عليه الموت} أي ألزمناه وحتمنا به عليه. وقوله تعالى: {فاقض ما أنت قاض} أي الزم بما شئت واصنع ما بدا لك. (¬3) انظر " الحاوي " (20/ 369). (¬4) تقدم تعريفه. (¬5) وهو حديث صحيح تقدم تخريجه. (¬6) منها ما أخرجه البخاري رقم (2696) و (6828) (7193) (7194 و7278 و7279) ومسلم رقم (25/ 1697، 1698) من حديث: " واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ". وانظر " أعلام الموقعين " (4/ 43، 44).

عليه (¬1) عن اليمين أو رده لليمين على الخلاف فيهما، فهذه أسباب الحكم لا يجوز لحاكم أن يحكم على مقتضى الشريعة المطهرة إلا مع وجود شيء منها لا لمجرد الموافاة من أحد الخصمين من دون الآخر، فإن ذلك لم يأت في شيء من الشريعة إلا في هذا الحديث المسئول عنه، وإن كان الذي لم يواف هو المدعي فلا يجوز قطع حقه إلا بيمين المدعى عليه أو بإقراره ببطلان دعواه، ولا خلاف في هذين، أو بعلم الحاكم ببطلان الدعوى، أو بنكوله عن اليمين المردودة. الوجه العاشر: أن هذا القضاء لمجرد الموافاة المذكورة من أحد الغريمين دون الآخر كما يخالف ما ذكرناه من أسباب الحكم يخالف أيضًا قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الثابت في الصحيح (¬2) " وإنما أقضي بما أسمع " فإنه قد صرح في هذا أنه إنما يقضي بما يسمعه، والقضاء بمجرد الموافاة مع غيبة الغريم ليس مما يصدق عليه ذلك. الوجه الحادي عشر: أن حديث الباب كما يخالف ما تقدم يخالف أيضًا حديث علي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " يا علي، إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول؛ فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء " أخرجه .......................... ¬

(¬1) منها ما أخرجه الدارقطني (4/ 213 رقم 24) والحاكم (4/ 100) والبيهقي في " السنن الكبرى " (10/ 184). من حديث ابن عمر: " أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد اليمين على طالب الحق ". وهو حديث ضعيف. وقد تقدم. * يجوز الحكم بيمين الرد لأن من عليه الحق قد رضي بها سواء قلنا إنها تجب على المدعي عند ردها من المنكر أم لا. * وأما النكول فلا يجوز الحكم به لأن غاية ما فيه أن من عليه اليمين بحكم الشارع عليه بقوله: " ولكن اليمين على المدعى عليه " فعلى القاضي أن يلزمه بعد النكول عن اليمين بأحد أمرين: إما اليمين التي نكل عنها أو الإقرار بما ادعاه المدعي وأيهما وقع كان صالحًا للحكم به. (¬2) أخرجه البخاري رقم (6967) ومسلم رقم (4/ 1713) من حديث أم سلمة.

أحمد (¬1)، وأبو داود (¬2)، والترمذي (¬3)، وحسنه، وابن حبان (¬4) وصححه [2ب]؛ فإن فيه النهي عن القضاء على أحد الخصمين إلى حصول غاية هي السماع من الآخر. الوجه الثاني عشر: أن جميع الآيات القرآنية (¬5) التي فيها ذكر الحكم بين الخصوم أو الخصمين، وكذلك الأحاديث النبوية (¬6) مشعرة بأنه لا بد من حضورهما جميعًا مجلس الحاكم، لأن ذلك هو مدلول لفظ (بين) كما يقال: جلست بين زيد وعمرو، وجلس بين القوم. الوجه الثالث عشر: أن ما في الكتاب العزيز (¬7) من الأمر بالحكم بالعدل والقسط والحق ونحوها يفيد أنه لا بد من البحث والفحص حتى يحصل المستند الشرعي للحكم من بينة (¬8) أو يمين (¬9)، أو نحوهما (¬10)؛ فإن الحكم لا يكون عدلاً وحقًا وقسطًا إلا بذلك. ¬

(¬1) في " المسند " (1/ 111). (¬2) في " السنن " رقم (3582). (¬3) في " السنن " (1331) وقال: حديث حسن. (¬4) في صحيحه رقم (5042). وهو حديث صحيح بمجموع طرقه. (¬5) منها قوله تعالى: {هذان خصمان اختصموا في ربهم ... } [الحج: 19]. وقوله تعالى: {إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط} [ص: 22]. (¬6) تقدم ذكر ذلك. (¬7) منها قوله تعالى: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [النساء: 58]. وقوله تعالى: {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين} [المائدة: 42]. وقوله تعالى: {فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى} [ص: 26]. (¬8) اخرج مسلم في صحيحه رقم (223/ 139) من حديث وائل بن حجر: " أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للكندي: ألك بينة؟ قال: لا. قال: فلك يمينه ". (¬9) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2669) ومسلم رقم (220/ 138) من حديث الأشعث بن قيس قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " شاهداك أو يمينه ". (¬10) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2669) ومسلم رقم (220/ 138) من حديث الأشعث بن قيس قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " شاهداك أو يمينه ".

الوجه الرابع عشر: أن هذا الحديث المسئول عنه كما يخالف القواعد الشرعية يخالف أيضًا ما كانت عليه الجاهلية فإن شاعرهم يقول: فإن الحق مقطعه ثلاث ... يمين أو شهود أو جلاء الوجه الخامس عشر: أن الحديث الصحيح المتفق عليه (¬1)، وهو قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر " يفيد أنه لا بد من الاجتهاد، وهو بذل الجهد في معرفة المحق والمبطل من الخصمين وإذا حكم بمجرد الاختلاف من أحد الخصمين لعذر شرعي، أو لغير عذر، فلم يجتهد في القضية ولا حكم بالسوية. الوجه السادس عشر [3أ]: أنك إذا عرفت ما قدمنا فالحديث المسئول عنه إن كان غير بالغ إلى درجة الاعتبار فهو غير محتاج إلى الكلام عليه، لأنه لا يجوز العمل به على فرض عدم معارضته لما هو أرجح منه، وعدم مخالفته للقواعد الشرعية، فكيف إذا كان معارضًا بما هو أرجح منه، ومخالفًا للقواعد الشرعية!. الوجه السابع عشر: أنا لو فرضنا أنه بالغ إلى درجة الاعتبار، وفرضنا عدم إمكان تأويله على وجه مقبول فهو مطرح لما قدمنا من مخالفته لقواعد الشريعة المطهرة. الوجه الثامن عشر: أنه يمكن تأويله بأن يقال: قد قدمنا أن في متنه ما يفيد أنها قد تقدمت الخصومة عند رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قبل المواعدة فيمكن أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قد كان سمع من الخصمين ما يفيد جواز الحكم إما من المدعي كالبينة، أو من المدعى عليه كاليمين، أو نحو ذلك. الوجه التاسع عشر: يمكن أن يكون النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بعد مفارقة الخصمين له على ذلك الوعد علم بالوحي أن الذي سيوافيه هو المحق فحكم له، وظن ¬

(¬1) البخاري في صحيحه رقم (7352) ومسلم رقم (1716).

الراوي أن الحكم لأجل الموافاة وعدمها، ولم يعلم بما علمه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من الوحي. الوجه الموفي عشرين: أنه يمكن أن يعلم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - المحق من الخصمين بإخبار من يثق به فكان حكمه مستندًا إلى ذلك، وظن الراوي مثل الظن المتقدم في الوجه الذي قبل هذا. الوجه الحادي والعشرون: أنه يمكن أن يكون القضاء المذكور في الحديث مجازًا عن تأخير المطالبة، فكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال للمدعي: إذا كان المختلف هو المدعى عليه أنك لا تطالبه الآن، بل في وقت آخر، أو كأنه قال [3ب] للمدعى عليه: إذا كان المختلف هو المدعي أنك لا تنظر للخصومة الآن، ويكون مجرد الإخبار للحاضر بذلك قضاء مجازًا (¬1). الوجه الثاني والعشرون: أن تكون العين المتنازع فيها في يد الذي حضر، أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن يستمر على قبضها لعدم حضور خصمه بشيء يوجب نقلها عن صاحب اليد. الوجه الثالث والعشرون: أن يكون الذي وافى هو المدعى عليه، وقد عرف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ضعف الدعوى، فأمره بأن يذهب ولا يحضر لخصومة ثانية، لأنه قد انضم إلى ما علمه من ضعف الدعوى قرينة أخرى، وهي عدم حضور المدعي على الأجل، فكان مجموع ذلك قرينة مسوغة للحكم عند من لم يحضر الحكم على الطرق المشهورة من البينة واليمين ونحوهما، وهو مذهب مشهور معروف. الوجه الرابع والعشرون: أن يكون المدعى قد شرط على نفسه أنه إذا لم يواف على الوعد المضروب فقد أبطل دعواه. الوجه الخامس والعشرون: أن يكون المدعى عليه قد شرط على نفسه أنه إذا لم ¬

(¬1) انظر " فتح الباري " (13/ 171).

يحضر على الأجل فقد أوجب الحق على نفسه. الوجه السادس والعشرون: أن يكون المدعى عليه قد تواعد هو والمدعي لقبض اليمين من المدعى عليه، فحضر المدعى عليه ولم يحضر المدعي قرينة رد اليمين فقبضها منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وحكم له، فنسب الراوي القضاء إلى مجرد الاختلاف عن الوعد، وليس كذلك [4أ]. الوجه السابع والعشرون: أن يكون المدعى عليه هو الذي حضر، وقد كان تواعد هو والمدعي لقبض اليمين من المدعى عليه، فحكم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - للمدعى عليه بأنه لا حق عليه، ولم يقبض اليمين، بل أخرها حتى يطلب المدعي قبضها لكونه حقًا له. الوجه الثامن والعشرون: أن يكون المدعي قد استوعد بحضور بينته فأحضرها، ولم يحضر المدعى عليه فسمعها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وحكم له. الوجه التاسع والعشرون: أن يكون الأمر كما في الوجه الذي قبل هذا، ولكنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لم يسمعها، بل حكم للمدعي لحضور بينته، وأحال المدعى عليه على سماع البينة متى شاء. الوجه الموفي الثلاثين: أن يكون النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - حكم للحاضر منهما حكمًا مشروطًا متى حضر الآخر، فله خصومته. الوجه الحادي والثلاثون: أن يكون النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قد شرط على الخصمين عند التواعد أن من لم يحضر منهما كان الحكم عليه، ومن حضر كان الحكم له. الوجه الثاني والثلاثون: أن يكون النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قد قال لهما: إن المبطل منكما لا يحضر في الوعد المضروب لضرب من السياسة الشرعية، فلم يحضر المبطل امتثالاً لأمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فحكم عليه.

الوجه الثالث والثلاثون: أن يكون الذي تخلف عن [4ب] الحضور قد حضر إلى رسول الله بعد ضرب الوعد قبل حضور الوقت المضروب، فاعترف عنده بأنه لا حق له وأن الحق لخصمه، فلما حضر خصمه في الأجل المضروب قضى له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فظن الراوي أن القضاء هو لمجرد الاختلاف عن الحضور. الوجه الرابع والثلاثون: أن يكون التواعد بين الخصمين وقع عن أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لا لقصد إحضار مستند من أحدهما، بل لقصد التثبت منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بعد أن كان قد حصل له مستند، فلما حضر أحد الخصمين حكم له، وهذا يخالف الوجه الثامن عشر من التواعد عن أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لقصد التثبيت في الحكم. الوجه الخامس والثلاثون: أن يكون النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قد علم المستند ولكنه شغله عن تنجيز الحكم شاغل، فواعد بين الخصمين، فحضر أحدهما وهو المحكوم له، ولم يحضر الآخر وهو المحكوم عليه، لأنه قد علم أنه لا حق له، وأن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - سيحكم له. الوجه السادس والثلاثون: كالذي قبله إلا أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - دخل في شغل وهو عازم على تنجيز الحكم بعد قضائه، فتطاول الشغل، فتواعد الغريمان من دون أن يأمرهما - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بذلك. الوجه السابع والثلاثون: أن يكون الذي اختلف عن الحضور قد علم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - تمرده، وعدم امتثاله للحضور، فعاقبه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بالحكم عليه، وأخذ ماله، ويكون [5أ] ذلك من باب التأديب بالمال (¬1). الوجه الثامن والثلاثون: أن يكون أحد الغريمين لحق بدار الحرب فصار ماله على أصل الإباحة، فكان الحكم عليه بهذا المستند لا بمجرد الاختلاف (¬2). ¬

(¬1) تقدم ذكر ذلك. (¬2) انظر " المغني " (14/ 94).

الوجه التاسع والثلاثون: أن يكون الذي لم يحضر قد قتل في مدة الأجل أو مات، ولا وارث له. وقد ثبت أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وارث من لا وارث له، فصرف ذلك في غريمه، لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وليس ذلك ببعيد، فمثل هذا لو فعله الإمام لم ينكر عليه (¬1). الوجه الموفي الأربعين: أن يكون المختلف من المنافقين الذين قد علم رسول الله بنفاقهم وأنهم يفترون على المؤمنين، ويدعون عليهم الدعاوى الباطلة، فحكم عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - استنادًا إلى هذا الظاهر. الوجه الحادي والأربعون: أن تكون الخصومة بين الأب وولده فحضر الأب في الأجل، ولم يحضر الابن، فحكم له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - استنادًا إلى أن الولد وما ملك لوالده (¬2). الوجه الثاني والأربعون: أن يكون المخاصم الذي اختلف خادمًا لمن حضر، أو أجيرًا، أو نحوهما ممن يتصرف في ملك غيره بإذنه فيحكم عليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - استنادًا إلى ذلك. الوجه الثالث والأربعون: أن يكون أحد الخصمين قد تمسك بأصل يجب [5ب] الرجوع إليه، ويصلح للتمسك به، فحضر من معه ذلك الأصل، ولم يحضر الآخر. فحكم له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لذلك، وهذا أعم مما قبله. الوجه الرابع والأربعون: أن يكون الظاهر مع من حضر دون من غاب، فيحكم له ¬

(¬1) انظر " المغني " (14/ 94). (¬2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أحمد (2/ 214) وأبو داود رقم (3530) وابن ماجه رقم (2292) وابن الجارود في " المنتقى " رقم (995). من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وهو حديث صحيح. " أن رجلاً أتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إن لي مالاً وولدًا، وإن والدي يحتاج مالي قال: " أنت ومالك لوالدك، إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم ".

- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - استنادًا إلى ذلك، وهذا أيضًا أعم. الوجه الخامس والأربعون: أن هذه الوجوه وإن كان بعضها لا يخلو عن تكلف فقد أوجب المصير إليها ما ذكره أئمة الأصول أن يتعين تأويل ما كان معارضًا لما هو أرجح منه بما أمكن من طرف التأويل، ولو كان بعيدًا؛ لأن التأويل جمع وهو مقدم على الترجيح. الوجه السادس والأربعون: لا يقال إن لفظة (كان) لما كانت تفيد التكرار كما قدمنا حكايته عن أهل الأصول بطل كثير من هذه التأويلات؛ لأن لفظ الصحابي الحاكي لفعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قد أشعر بوقوع ذلك المحكي منه مرة بعد مرة، لأنا نقول: لا مانع من تأويل ما وقع متكررًا، غاية الأمر أنه لم يتفق الوجه الذي وقع التأويل به؛ بل وقع مختلفًا تارة على وجه من هذه الوجوه، وتارة على وجه آخر. الوجه السابع والأربعون: أن قول أبي موسى في الحديث الذي ذكرناه بلفظ آخر للحديث الذي أورده السائل - عافاه الله - إنما كان ذلك في الدابة والشاة والبعير يدل على أن القضاء على من لم يحضر على الوعد إنما يكون في مثل هذه الأمور، لا فيما هو أعظم منها. وسيأتي تكرير هذا الوجه مع زيادة. الوجه الثامن والأربعون: أن قول أبي موسى أيضًا: والذي نحن فيه أمر الناس يدل على أن هذه المحاورة وقعت بينه [6أ] وبين معاوية في شأن الاختلاف في الخلافة، ولعل ذلك كان عند مسير أبي موسى إلى الشام قبل أيام صفين، ولا يصح أن يكون ذلك عند الحكومة بدومة الجندل؛ لأن معاوية لم يحضرها (¬1). وفي ذلك ما يفيد أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لم يحكم في الأمور العظيمة بمجرد اختلاف أحد الخصمين. الوجه التاسع والأربعون: إن قلت: إذا كان ذلك الحديث قد وجدنا في إسناده من لا تقوم به الحجة لتضعيف أكثر الأئمة له فأي فائدة في هذا التكثير. ¬

(¬1) انظر " البداية والنهاية " لابن كثير (7/ 290 - 294).

قلت: لا يخفاك أن هذا جرح مجمل، وهذا غير معمول به حتى يبين، ولم يتبين حينئذ فتكلمنا على الحديث بهذه الوجوه، على فرض أنه صالح للاحتجاج به، وبالغ إلى درجة الاعتبار. الوجه الموفي خمسين: اعلم أنه يشهد للحديث المسئول عنه ما أخرجه البزار (¬1) عن سمرة أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: " إذا طالب الرجل الآخر فدعى أحدهما صاحبه إلى الذي يقضي بينهما، فأبى أن يجيء فلا حق له ". وفي إسناده يوسف بن خالد السمتي (¬2) وهو ضعيف، ووجه شهادته لحديث الباب أن الامتناع من الحضور على الوعد كالامتناع من المجيء إلى الحاكم، بل ذلك أشد لا سيما إذا كان المواعد بينهما هو النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أو كان التواعد باطلاعه. ويشهد له أيضًا ما أخرجه الطبراني في الكبير (¬3) عن سمرة أيضًا [6ب] قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " من دعي إلى سلطان فلم يجب فهو ظالم لا حق له ". وفي إسناده روح بن عطاء وثقه ابن عدي (¬4)، وضعفه الأئمة (¬5)، ووجه الشهادة هو ما قدمنا. وقد رتب على ذلك أنه لا حق له في هذا الحديث، والذي قبله، وهذا هو الوجه ¬

(¬1) في مسنده (2/ 129 رقم 1363 - كشف). قال الهيثمي في " المجمع " (4/ 198) رواه البزار وفيه يوسف بن خالد السمتي. (¬2) ضعفه ابن سعد وكذبه يحيى بن معين. وقال النسائي: ليس ثقة. وقال أبو حاتم: رأيت له كتابًا وضعه في التجهم ينكر فيه الميزان والقيامة. انظر: " ميزان الاعتدال " (4/ 463 - 464 رقم 9863). (¬3) (7/ 225 رقم 6939). وأورده الهيثمي في " المجمع " (4/ 198) وقال: فيه روح بن عطاء وثقه ابن عدي وضعفه الأئمة. (¬4) في " الكامل " (3/ 1002) حيث قال: ما أرى برواياته بأسًا. (¬5) كابن معين. وقال أحمد: منكر الحديث. " الميزان " (2/ 60 رقم 2806).

الحادي والخمسون. ويشهد للحديث المسئول عنه أيضًا ما أخرجه الطبراني في الكبير (¬1) أيضًا عن سمرة أيضًا أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان يقول لنا: " إذا خاصم الرجل الآخر فدعا أحدهما صاحبه إلى الرسول ليقضي بينهما، من أبى أن يجيء فلا حق له ". قال الهيثمي (¬2) وفي إسناده مساتير، وهذا هو الوجه الثاني والخمسون. ويشهد له أيضًا ما أخرجه البزار (¬3) عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " من دعي إلى حاكم من حكام المسلمين، فامتنع فهو ظالم - أو قال -: لا حق له " وفي إسناده روح بن عطاء بن أبي ميمونة، قال الهيثمي (¬4) وهو ضعيف، وقد وثقه ابن عدي (¬5)، ووجه الشهادة هو ما قدمنا، وهذا الوجه الثالث والخمسون. الوجه الرابع والخمسون: أن جميع ما ورد في هذا الباب الحديث المسئول عنه، وهو من رواية الرجلين المتجاورين جميعًا كما تقدم؛ لأن أبا موسى قد أقر به ولم ينكره، وإنما حمله على الشاة والبعير ونحوهما؛ فهذان حديثان من طريق صحابيين، وثلاثة أحاديث من طريق سمرة، وهي المذكورة قريبًا، وحديث من طريق عمران بن حصين، فالأحاديث ستة عن أربعة من الصحابة، وفي كل واحد منها مقال [7أ]. الوجه الخامس والخمسون: هل يقال هذه الأحاديث قد قوي بعضها ببعض فصارت من قسم الحسن لغيره أم لا؟. ¬

(¬1) (7/ 264 رقم 7078). (¬2) في " المجمع " (4/ 198). (¬3) في مسنده (7/ 128 - 129 رقم 11362 - كشف). (¬4) في " المجمع " (4/ 198). (¬5) في " الكامل " (3/ 1002) حيث قال: ما أرى برواياته بأسًا.

قلت: لا يبعد أن يكون كذلك؛ لأن الضعف إذا كان يسيرًا صارت أحاديث الضعفاء إذا انضم بعضها إلى بعض من قسم الحسن لغيره، بخلاف ما إذا كان كل واحد ممن في تلك الأحاديث فيه ضعف شديد، فإنه لا يصير حديثه مع غيره حسنًا، وأحاديث الباب هي من القسم الأول؛ لأن الضعفاء الذين في أسانيدها ضعفهم منجبر، ولا سيما وقد وثق بعضهم بعض الحفاظ كما عرفت. الوجه السادس والخمسون: إذا كان الحديث المسئول عنه يصير بما ذكرناه له من الشواهد حسنًا لغيره فهو من قسم المعمول به، فيجب المصير إلى تأويله بوجه من الوجوه التي قدمنا ذكرها، فالجمع مقدم على الترجيح، فإن تعذر فلا شك أن الأحاديث التي هي مخالفة لهذه الأحاديث أرجح منها، وكيف لا يكون أرجح منها وهي من القواعد المعلومة من دين الإسلام. الوجه السابع والخمسون: إن قلت: وأي معارضة بين هذا الحديث وما شهد له، وبين تلك القواعد والأحاديث! فإن الأحاديث الواردة في اعتبار الشهادة واليمين لا تنفي اعتبار طريق [7ب] أخرى؛ إذ لا حصر، وحينئذ فلا معارضة. الوجه الثامن والخمسون: أنا لو فرضنا أن ثم لفظًا يفيد الحصر في أحاديث اعتبار الشاهدين واليمين ونحو ذلك لكان الحديث المسئول عنه وما شهد له صالحًا لتخصيص ذلك بمن لم يحضر على الوعد تمردًا وعصيانًا، وكذلك من أبى أن يجيب إلى حاكم من حكام المسلمين، فإنه يجوز للحاكم أن يحكم عليه بحق الغير يلزمه تسليمه أو بإسقاط حق له على الغير، وهذا الوجه يتعين المصير إليه. الوجه التاسع والخمسون: أن هذا الترجيح الذي ذكرناه في الوجه الذي قبل هذا لا يجوز لكل حاكم، بل إنما يجوز لمن كان بمحل من الورع، وبمكان من العلم، بحيث يميز بين مصالح الشريعة ومفاسدها على وجه صحيح، ولا يكون كذلك إلا المجتهد. وأما من كان مقصرًا فهو لا يميز المصلحة من المفسدة على وجه صحيح، فقد يظن لجهله ما هو

من المفاسد مصالح، وما هو من المصالح مفاسد، وهكذا من لم يكن بمحل من الورع، فإنه قد يجعل ذلك ذريعة إلى مقاصده الفاسدة. الوجه الموفي ستين: إن قلت: هل يقيد ما رجحته من جعل الحديث مخصصًا بالقيد الذي ذكره أبو موسى في الرواية التي ذكرناها عنه في حديث الباب، وهو الدابة والشاة والبعير، وما شابهها؟. قلت: نعم فإن لم يقل ذلك برأيه، بل قاله حاكيًا لما كان يفعله النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ولكن إذا وقع التمرد والعناد والتصميم عليه فذلك مبيح للدم، فضلاً عن كثير من المال. واعلم أن هذا القضاء على من لم يحضر ليس هو القضاء الذي ذكره أهل الفقه على الغائب (¬1) والمتمرد، فإن الذي نحن بصدده هو القضاء على المتمرد بمجرد تمرده بخلاف ما ¬

(¬1) والمدعى عليه الغائب قد يكون مقيمًا في غير بلد القاضي، أو يكون مقيمًا في بلد القاضي. قال ابن قدامة في " المغني " (14/ 93 - 94): وجملته أن من ادعى حقًا على غائب في بلد آخر، وطلب من الحاكم سماع البينة، والحكم بها عليه، فعلى الحاكم إجابته، إذا كملت الشرائط. وبهذا قال شبرمة ومالك، والأوزاعي، والليث، وسوار، وأبو عبيد، وإسحاق، وابن المنذر. وكان شريح لا يرى القضاء على الغائب. وعن أحمد مثله. وبه قال ابن أبي ليلى والثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وروي ذلك عن القاسم، والشعبي، إلا أن أبا حنيفة قال: إذا كان له خصم حاضر، من وكيل أو شفيع، جاز الحكم عليه. واحتجوا بما روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لعلي: " إذا تقاضى إليك رجلان، فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر، فإنك تدري بما تقضي " تقدم تخريجه. ولأنه قضاء لأحد الخصمين وحده، فلم يجز، كما لو كان الآخر في البلد، ولأنه يجوز أن يكون للغائب ما يبطل البينة، ويقدح فيها، فلم يجز الحكم عليه. قال الماوردي: وأما سماع الدعوى على الغائب، فإن لم تقترن بها بينة لم تسمع؛ لأن سماعها غير مفيد، وإن اقترن بها بينة سمعت وسمعت البينة عليها وهذا متفق عليه في جواز الدعوة والبينة على الغائب. واختلف في معنى سماع البينة على الغائب. فهو عند الشافعي ومن يرى القضاء على الغائب: سماع الحكم. وعند أبي حنيفة ومن لا يرى القضاء على الغائب: سماع تحمل، كالشهادة على الشهادة، فأما القضاء على الغائب بعد سماع البينة عليه فلا تخلو غيبته من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون غائبًا عن الحكم حاضرًا في مجلسه. فلا يجوز الحكم عليه إلا بعد حضوره وإمضاء الحكم عليه بعد إعلامه. وهذا متفق عليه وإن اختلف في معناه: فهو عند الشافعي ومن يرى القضاء على الغائب: ارتفاع الضرورة. وعند أبي حنيفة ومن لا يرى القضاء على الغائب: ما عساه يدفع به الحجة. الحالة الثانية: أن يكون غائبًا في بلد الحكم، فقد اختلف الفقهاء في جواز القضاء عليه مع غيبته على ثلاثة مذاهب: 1 - مذهب الشافعي: يجوز القضاء عليه مع غيبته في عموم الأحكام، فيما ينقل وما لا ينقل، سواء تعلقت بحاضر أو لم تتعلق بحاضر، كما يجوز أن يحكم على الميت، وعلى من لا يجيب عن نفسه من الصبي والمجنون. ومن شرط التنفيذ عليه بعد الحكم أن يستحلف المحكوم له على بقاء حقه بعد ثبوته. 2 - مذهب أبي حنيفة: أن القضاء على الغائب لا يجوز فيما ينقل وما لا ينقل إلا أن يتعلق بحاضر، فيجوز أن يحكم عليه تبعًا للحاضر لقوله: غصبني هذا وفلان الغائب عبدًا، أو ابتاع مني دارًا. 3 - مذهب مالك: يجوز القضاء على الغائب فيما ينقل، ولا يجوز القضاء عليه فيما لا ينقل من العقار، فهذه مذاهب الفقهاء في القضاء على الغائب. الحالة الثالثة: أن يكون غائبًا عن مجلس الحكم وحاضرًا في بلده فقد اختلف أصحابنا: هل يجري مجرى الغائب عن البلد في جواز القضاء عليه، أو يكون كالحاضر في مجلس الحكم في المنع من القضاء عليه؟ وعلى وجهين: أ - وهو الظاهر من مذهب الشافعي: لا يجوز القضاء إلا بعد حضوره، للقدرة عليه في الحال، كالحاضر في المجلس. ب - وهو مذهب ابن شبرمة، وأحمد، وإسحاق: يجوز القضاء عليه كالغائب عن البلد. قال ابن شبرمة: احكم عليه ولو كان وراء جدر. فهذه أحوال الغائب واختلاف الفقهاء في القضاء عليه. انظر مزيد تفصيل في " أدب القاضي للماوردي (2/ 293 - 294)، " الحاوي " (20/ 369 - 385) " روضة القضاة " (1/ 194).

ذكره أهل الفقه، فلا بد فيه من مستند الحكم على المتمرد عندهم. وإلى هنا انتهى الجواب في شعبان سنة 1217 بقلم المجيب - غفر الله له -.

بحث في القرائن وهي رد على تظلم رفع إليه من قبل رجل يتظلم من عريف من عرفاء بلاد الروس

(148) 8/ 3 بحث في القرائن وهي رد على تظلم رفع إليه من قبل رجل يتظلم من عريف من عرفاء بلاد الروس تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في " القرائن " وهي رد على تظلم رفع إليه من قبل رجل يتظلم من عريف من عرفاء بلاد الروس. 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم يا من حرمت الظلم على عبادك كما حرمته على نفسك أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك ... " 4 - آخر الرسالة: " فنقول لو فرضنا أن ما نقله من الإجماع له مدخل في محل النزاع لم يكن استعمال ذلك مع المكتوب إليه مناسبًا لأنكم تعلمون مذهبه 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 15 صفحة. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم يا من حرمت الظلم على عبادك (¬1) كما حرمته على نفسك، أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأستكثر من حمدك وشكرك، فقد أوضحت السبيل وشفيت الغليل بما أنزلته علينا في محكم التنزيل من النعي على الظلمة بتلك الآيات المحكمة، والقوارع المؤلمة، فأقمت الحجة، وأوضحت الحجة بكلام يفهمه الصم، ونظام لا يخفى على العمي البكم، ولم تدع دقيقًا ولا جليلاً، ونقيرًا ولا فتيلاً إلا أوضحته أتم إيضاح، وأبنته أكمل بيان، فإنك - تعالى جدك، وتضاعف شكرك وحمدك - لم تكتف ببيان المؤآخذة على مثاقيل الذر إذ قلت: {ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} (¬2) حتى أبنت المؤآخذة بمثقال حبة الخردل كما قلت: {وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} (¬3) بل تجاوزت هذه الغاية وأوضحت لنا ما هو دون هذه النهاية، فأخذت على العباد ألا يظلموا الناس شيئًا، وقلت: {فلا تظلم نفس شيئا} (¬4)؛ فإن الشيء يصدق على عشر معشار الخردلة فما دونه، فسبحانك ما أوضح برهانك! وأتم بيانك! وأقوم حجتك! وأحكم حكمتك! ولما كانت رحمتك سابقة لغضبك (¬5). وشفقتك على عبادك أكمل من شفقة الأم على ¬

(¬1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2577) والترمذي رقم (2495) وقال: حديث حسن. وابن ماجه رقم (4257) من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يروي عن ربه عز وجل أنه قال: " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ... ". وانظر الرسالة رقم (180). (¬2) [الزلزلة: 8]. (¬3) [الأنبياء: 47]. (¬4) [الأنبياء: 47]. (¬5) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (7404) ومسلم رقم (2751) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه إن رحمتي سبقت غضبي ".

ولدها (¬1)، كملت الحجة بإرسال رسول إليهم من أنفسهم يفهمون عنه، ويأنسون إليه، فقام فيهم مقامات، وفتق مسامعهم بكلمات بعد كلمات، يحذرهم من الظلم، ويحجزهم عن الغضب، ويقرن لهم بين الدماء والأموال والأعراض، ويبين لهم حرمتها، ويؤكد ذلك عليهم تأكيدًا أوضح من الشمس، ويكرر ذلك عليهم في المواقف والمجامع، ويستكثر منه في خطبه ومواعظه، حتى كان من جملة ما قاله عند توديعهم: " إنما أموالكم ودماؤكم وأعراضكم عليكم حرام " (¬2)، ثم أشهد الله - سبحانه - على البلاغ، وأمر الناس به، وحضهم عليه، فسارت بذلك الركبان، وعرفه كل متشرع، ولم يشك مسلم من المسلمين أن هذا من ضروريات الدين، فصلى الله عليه، وعلى آله وسلم، وجزاه عن أمته أفضل ما جزى نبيًا عن أمته. وبعد: فإن موجب تحرير هذه الكلمات أنه وصل إلي رجل من بيت النبوة هو وبعض أهله يصرخون ويبكون، ويتظلمون من عريف من عرفاء النار، كما ورد بذلك النص عن المختار (¬3) - من عرفاء [1] بلاد ...................................... ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5999) ومسلم رقم (22/ 2754) من حديث عمر بن الخطاب أنه قدم على رسول الله سبي. فإذا امرأة من السبي تبتغي، إذا وجدت صبيًا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته. فقال لنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ " قلنا: لا والله وهي تقدر على أن لا تطرحه. فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لله أرحم بعباده من هذه بولدها ". (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (67) و (4406) ومسلم رقم (1679) وأبو داود رقم (1948) من حديث أبي بكرة. (¬3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أحمد (2/ 353) بإسناد حسن وأخرجه الطيالسي رقم (2523) وأبو يعلى في مسنده رقم (6217) والحاكم (4/ 91) والبيهقي (10/ 97) والبغوي رقم (2468) وابن حبان رقم (4483) من طرق. عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " ويل للأمراء، ويل للعرفاء، ويل للأمناء، ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم كانت معلقة بالثريا، يتذبذبون بين السماء والأرض، ولم يكونوا عملوا على شيء ". وأخرج أبو داود في " السنن " رقم (2934) من حديث غالب القعطان عن رجل عن أبيه عن جده وفيه: " ... إن أبي شيخ كبير، وهو عريف الماء، وإنه يسألك أن تجعل لي العرافة بعده فقال: " إن العرافة حق، ولا بد للناس من العرفاء ولكن العرفاء في النار ". وهو حديث ضعيف. * العرفاء: جمع عريف. وهو القيم بأمور القبيلة أو الجماعة من الناس يلي أمورهم ويتعرف الأمير منه أحوالهم.

الروس (¬1)، فذكروا أنه استحل حرمتهم، وهجم عليهم، ولم يراع حق الله فيهم، ولا حق جدهم، وأرسل عليهم رسله، وأعمل فيهم فكره وحيله. وكانت هذه البلاد التي وصل هؤلاء المتظلمون منها قد جعل أمرها منوطًا بعالم كبير، ومحقق نحرير، هو سيدي العلامة شرف الدين بن إسماعيل بن محمد بن إسحاق (¬2)، - لا برح ملحوظًا بألطاف المهيمن الخلاق -، فأرسلت هؤلاء المظلومين إليه، لكونه مرجع أمر ذلك العريف الظالم إليه، وقلت: قد برئت الذمة بإعطاء القوس (¬3) باريها، وتنبيهه لهذه الملمة، فوصل إليه الرسول بأولئك المظلومين من أولاد الرسول، فكتب إلي كتابًا لا يناسب علمه الجم، ولا عرفانه العم، فأجبت تنبيهه على بعض ما في كتابه إلي من المخالفة لقانون الشريعة، المعلوم بالضرورة عند جميع المتشرعين. فقال بعد أن ذكر في كتابه أن ذلك العريف كتب إليه هؤلاء المتظلمين جنوا على ¬

(¬1) بلاد الروس: ناحية إدارية واسم قبيلة، اشتهرت بهذا الاسم لأن جبالها تعتبر رؤوسًا لجبال خولان ويحدها شمالاً سنحان وجنوبًا جهران من آنس وشرقًا خولان وغربًا بني مطر والبستان ومياه بلاد الروس تسيل من وادي سهام وتقضي إلى تهامة ثم البحر الأحمر. انظر: " مجموع بلدان اليمن وقبائلها " (2/ 372)، " معجم البلدان والقبائل اليمنية " (ص276). (¬2) وهو شرف الدين بن إسماعيل بن محمد بن إسحاق بن المهدي أحمد بن الحسن بن القاسم بن محمد. ولد سنة 1140هـ. وهو أحد علماء العصر وفضلائه. توفي سنة 1223هـ. انظر: " البدر الطالع " رقم (194)، " نيل الوطر " (2/ 11). (¬3) أعط القوس باريها: أي استعن على عملك بأهل المعرفة والحذق فيه، وينشد: يا باري القوس بريًا لست تحسنها ... لا تفسدنها وأعط القوس باريها " مجمع الأمثال " للميداني (2/ 345).

رجل دخل منزلهم ما لفظه: وقد علمتم أن القرائن القوية معمول بها فيما هو أعظم من ذلك. أقول: نذكر هاهنا وجوها: الأول: السؤال عن هذه القرائن القوية التي أوجبت ظلم هؤلاء المظلومين، ما هي؟ الثاني: ما المراد بالعمل بهذه القرائن في هذا؟. هل الحكم على هؤلاء المتظلمين بأنهم الذين جنوا على المدعي، وألزمهم تسليم أرش جنايته، أو المراد إلزامهم بشيء آخر؟ إن كان الأول فهو حق آدمي محض يتوقف على طلبه، ولا يصح الاحتساب فيه، فكيف يظلمون هؤلاء، ويروعون، وتهتك حرمتهم، ويرسل عليهم إلى منازلهم، ولم يدع عليهم غريمهم، ولا طلبهم إلى الظالم لهم!، فهل هذا من الشريعة؟ وهل يفعل هذا متشرع! وإن كان المراد الثاني وهو إلزامهم بشيء آخر فما هو؟ إن قلتم: هو التعزيز لهم بالحبس ونحوه مما لا مدخل فيه لأخذ شيء من أموالهم. فنقول لكم: إن كان ذلك لأجل إقدامهم على المجني عليه فهو حق له يتوقف على طلبه، ويسقط بعفوه، فكيف أقدم العريف عليهم بتلك القوافر! والمجني عليه في بيته لم يأت إليه، ولا طلب منه إنصافه! ولا سأله الأخذ له من ظالمه! وإن كان المراد بالشيء الآخر هو أخذ بعض ما يملكه هؤلاء - أعني المتظلمين - ظلمًا وعدوانًا وقهرًا وجرأة على الله وعلى شريعته، ومصير ذلك المأخوذ إلى ذلك [2] العريف الظالم، وإلى من أعانه على الظلم، ينتفعون به في شهواتهم وملاذهم، ويدعون هؤلاء المظلومين يتلهفون ويستغيثون فلا يغاثون، فهل هذا من فعل المتشرعين؟ وهل هذا من هذه الشريعة المطهرة؟ ... كلا - والله - بل من الظلم البحت، والطاغوت المحقق، فيا عباد الله {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} (¬1). ¬

(¬1) [البقرة: 281].

الوجه الثالث: ذكرتم في أول كتابكم هذا: إن هذه القرينة التي قلتم عقبها أن القرائن القوية معمول بها هي أني لما أرسلت إليكم بالمظلومين أرسلتم للمجني عليه، فلما أرسلتم له عزموا بلادهم فقلتم: لو كانوا محقين لما عزموا، وجعلتم ذلك دليلاً على صحة الدعوى لكونه قرينة قوية. فأقول: غريمهم الذي تظلموا منه، وشكوا من فعله هو العريف، لا المجني عليه، فكان عليكم أن ترسلوا له لكون الدعوى منهم عليه، أو تحولوا بينه وبينهم، فهو لم يقدم ويحجم، ولا صال ولا جال إلا لكونكم فوضتموه في تلك البلاد، وجعلتم إليه الإصدار والإيراد، فما بالكم عدلتم عن هذا! وأرسلتم لغير من يدعون عليه! وأردتم أن تفتحوا عليهم بابًا مرتجًا، وتحيوا لهم خصومة، وتستخرجوا لهم غريمًا يدعي عليهم! وأين هذا من الإنصاف! ومن فعل المتشرعين! فهذا المظلوم إن هرب من هذا لم يكن ملومًا عند الله، ولا عند الناس، لأنه قد تيقن عدم إنصافه، وعرف ما يراد منه، وأيس من أن يعدل به، ويذاق حلاوة الحق، لأنه فر إلى الشريعة المطهرة، وإلى من إليه ولاية أمره، يشكو هو وأهله بالعريف الظالم، ويذكرون أن رسل هذا الفاجر في بيتهم يهتكون حرمتهم، ويستحلون مالهم، فقيل لهم: سنبعث لكم غريمًا من العدم، ومدعيًا من لا شيء يدعي عليكم، وإن كره أنكم فعلتم وفعلتم فيكون ذلك مسوغًا لما فعله العريف بكم من التنكيل بمجرد الدعوى، ونقيم الحجة له عليكم وعلى الشريعة التي فررتم إليها، بمجرد وجود مدع يكرهه على الدعوى، فهل يلامون إن هربوا من مثل هذا؟ وهل الفرار إلا عين الصواب؟ لأن حالهم قد صار كما قال القائل (¬1): ¬

(¬1) يقال قائدًا من قواد أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف هرب إلى عمرو بن الليث، وهو يومئذ بخراسان فغم ذلك أحمد وأقلقه، فدخل عليه أبو نجدة لخيم بن ربيعة بن عوف من بني عجل، وكان شاعرًا فأنشده أبياتًا منها هذا البيت، فسر أحمد، وسرى عنه، وأجزل صلة أبي نجدة. " الأغاني " (20/ 132).

والمستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار (¬1) أو كما قال القائل: فقلت من ذا الذي أرجوه لي فرجًا ... فقال أنا فرج زن لي كدى بيتي [3] أو كما حكى عن كليب أنه لما طعنه جساس، وصار يجود بنفسه وصل إليه بعض قرابة جساس فقال له: أغثني بشربة، فأغاثه بطعنة كان فيها موته، فقال القائل: رمى ضرع ناب فاستغاث بطعنة ... كحاشية البرد اليماني المسهم فهل يقول من يعلم بل من يفهم أن فرار هذا المظلوم من الظلم قرينة قوية، تدل على جواز ظلمه! وعلى أن ذلك العريف الظالم محق في ظلمه، هو وأهله!. الوجه الرابع: إنا لو فرضنا أن المجني عليه يدعي على هؤلاء المظلومين، وأنه قد أوقع الدعوى ثم خاطبهم العريف الجاهل بمجرد الدعوى، وظلمهم وهتك حرمتهم فأردتم استيضاح الحقيقة، واستفصال الأمر بالإرسال للمدعي، فرجع الشاكي بلاده بعد الشكوى عليكم، وإرسالهم من مقام الشرع إليكم، وأنه لا مقصد لكم إلا استيفاء الوجه الشرعي للمجني عليه، فهل قد قال قائل من أهل العلم أن مجرد رجوع الشاكي إلى بلاده قبل وصول المجني عليه الذي له دعوى عليه يقوم مقام المناط الشرعي، ويوجب الحكم على هؤلاء المظلومين للغريم الغائب، بمجرد أنهم رجعوا البلاد التي جاءوا منها، مع أنها بالقرب منكم بينها وبينكم دون يوم، وهل دل على مثل هذا دليل؟ وهل جاءت به شريعة من الشرائع؟ فإن هذا ليس بقرينة قوية، ولا ضعيفة، ولا يقول من يفهم أنه من هذا القبيل، لأن الذي رجع إلى بلاده لم يرجع لكونه غاية ما وقف عليه منكم الإرسال لمن يدعي عليه، على فرض أنه يدعي عليه وهو لم يصل إليكم لتطلبوا له من له ¬

(¬1) يضرب مثلاً للرجل يفر من الأمر إلى ما هو شر منه. " جمهرة الأمثال " للعسكري (2/ 160 رقم 1445). قولهم: كالمستغيث من الرمضاء بالنار.

عليه دعوى، بل وصل إليكم لتنقذوه من العريف الظالم، وتحولوا بينه وبينه، وقدم الوصول إلى باب الشرع فأرجعه القاضي إليكم، فلما لم يجد عند القاضي إلا إرجاعه إليكم، ولا وجد عندكم إلا طلاب غريم يدعي عليه، وأهملتم شكواه، وتركتم ظالمه يصنع به ما شاء رجع ولسان حاله يقول: لم يوجد الإنصاف عند شريعة، ولا عند دولة، فالعود أحمد [4] (¬1) ومظلمة أخف من مظلمتين. والصبر على العريف اختيارًا أولى من الصبر عليه اضطرارًا. ليست لمن ليست له حيلة ... موجودة أولى من الصبر الوجه الخامس: لو سلمنا أن هاهنا قرائن قوية، وأن المدعي ببابكم يصرخ ويتظلم ويقول: أنقذني من غريمي، أو خذ لي منه أرشي، وقد صح لديكم الحكم على المدعى عليه بمجرد هذه القرائن، فأنتم أهل للاجتهاد والترجيح والحكم، ولكن كان عليكم أن تقولوا لمن قد صح عندكم أنه الجاني سلم للمجني عليه أرش (¬2) الجناية (¬3)، وهو كذا، أو أقده من نفسك، فقد صح لنا وجوب ذلك عليك بالقرائن القوية، ولكن المفروض أنه لم يقع من ذلك العريف إلا المطالبة لهم بنهب مالهم ظلمًا وعدوانًا، ليأخذه لنفسه، ولمن ¬

(¬1) قال في " اللسان " (9/ 458): والعود ثاني البدء قال: بدأتم فأحسنتم فأثنيت جاهدًا ... فإن عدتم أثنيت، والعود أحمد وأنشد مالك بن نويرة: جزينا بني شيبان قدمًا بفعلهم ... وعدنا بمثل البدء، والعود أحمد وانظر " جمهرة الأمثال " للعسكري (2/ 41 - 42). (¬2) أرش: المشروع في الحكومات. وهو الذي يأخذه المشتري من البائع إذا اطلع على عيب في المبيع. وأروش الجنايات والجراحات من ذلك، لأنها جابرة لها عما حصل فيها من النقص. وسمي أرشًا لأنه من أسباب النزاع، يقال أرشت بين القوم إذا أوقعت بينهم. " النهاية " (1/ 39). (¬3) الجناية: الذنب والجرم وما يفعله الإنسان مما يوجب عليه العذاب أو القصاص في الدنيا والآخرة. " النهاية " (1/ 309).

على ظلمه، ولم يكن منه خطاب إلا بهذا لا بتسليم أرش جناية ولا قود، فإن كنتم تريدون أن العمل بتلك القرائن القوية على فرض وجودها مسوغ للحكم منكم للغريم على غريمه، على فرض صدور الدعوى منه، فالشكاة المظلومون لم يشكوا من هذا، ولا وصلوا إلينا ولا إليكم من أجله، بل وصلوا يتظلموا من العريف الذي أرسل رسله عليهم وأراد اجتياح أموالهم بعد استحلال أعراضهم، وهتك حرمتهم، فكان عليكم على فرض أن المدعي صار يطالبكم بالإنصاف له من الجاني عليه أن تنصفوه من الجاني عليه، وتنصفوا الجاني من غريمه الذي وصل شاكيًا من أجله، فظلامة الأعراض والأموال كظلامة الدماء، والعباد عباد الله حرم الظلم عليهم كما حرمه لهم. الوجه السادس: ذكر بعض أهل العلم (¬1) أن القرائن القوية التي يجوز جعلها مناطًا مثل أن يوجد رجل مقتول بجناية تثعب دمًا طريًا، ورجل آخر قائم عليه في تلك الحال، وبيده السلاح الجارح الذي لا يمتنع أن تكون تلك الجناية منه ... وهو ملطخ بالدم الطري، والرجل مضطرب الحال، متشوش البال، تظهر عليه الريبة التي على من فعل هذا الفعل الشنيع، فهذا قد قال قائل من أهل العلم أنه يجوز العمل به، وخالفه جمهورهم وقال: إنما تكون هذه القرينة [5] موجبة للتثبت والاستفصال وأعمال السياسة الشرعية والتوقف عن المبادرة بالجزم بأن القول قول المنكر مع يمينه، وكلا القولين قد دلت عليه أدلة، وشهدت له شواهد من الشريعة، يطول المقام بإيرادها، وهي موجودة في مواطنها ولا حاجة لنا بإيرادها، لأنا لا ننكر عليكم العمل بالاجتهاد، وترجيح المرجوح عند الجمهور، وإنما نطلب منكم تقرير القرينة التي عملتم بها فيما نحن بصدده على وجه تكون كهذه الصورة التي لم يقل من قال بالعمل بالقرائن، إلا بما كان مثلها في تحصيل الظن للحاكم فهل دخل مولانا - كثر الله فوائده - عند وقوع الجناية إلى بيت هؤلاء المظلومين فوجدهم ووجد المجني عليه على هيئة تناسب تلك الهيئة، وصورة تلاقيها، فهو المقبول ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (145، 147).

المصدق، وذو العرفان المدقق المحقق. الوجه السابع: إنا إذا رجعنا إلى الحقيقة، وتركنا نصب الحبائل الشيطانية لأخذ أموال العباد ظلمًا وعدوانًا وجدنا صفة الواقع أنه لا جاني ولا مجني عليه، ولا مدعي ولا مدعى عليه، ولا أثر جناية بمن يزعم العريف أنه المجني عليه، بل المراد تحصيل الحاصل، وأكل أموال الناس بالباطل، وقد وجب عليكم مكافأة الله - سبحانه - بما أنعم عليكم من نعمه التي من جملتها العلم والشرف، وعلو السن، ولا مكافأة أوجب وألزم وأحق من العدل، وترك الجور، والأخذ على يد الظالم، والحيلولة بينه وبين المظلوم، فإن مسالك أهل العلم إذا لم تتميز عن مسالك أهل الجهل كان العلم محنة لا منحة، ألستم ممن يتناوله قول الله - سبحانه -: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} (¬1) فأقل أحوال البيان الواجب عليكم أن يكون في الأمور التي تتعلق بكم، ولأهل الأعمال التي حلها وعقدها منوط بكم، ولا تكونوا كما قال الأول: ويضمر قلبي غدرها فيعينها ... علي فما لي في الفؤاد نصيب [6] قال - عفاه الله - فقد عمل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، كما أخرجه الترمذي (¬2) وأبو داود (¬3) في قضية المرأة التي وقع عليها رجل في سواد الصبح، فاستغاثت برجل مر عليها وفر صاحبها، ثم مر عليها ذو عدد فاستغاثت بهم، فأدركوا الرجل الذي استغاثت به، وأخذوه فجاءوا به إليها، فقال: أنا الذي أغثتك. وذهب الآخر فأتوا به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: ¬

(¬1) [آل عمران: 187]. (¬2) في " السنن " رقم (1454) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح، وعلقمة بن وائل بن حجر سمع من أبيه وهو أكبر من عبد الجبار بن وائل، وعبد الجبار لم يسمع من أبيه. (¬3) في " السنن " رقم (4379). قلت: وأخرجه أحمد (3996) والبيهقي في " السنن الكبرى " (8/ 284 - 285) وهو حديث حسن. وقد تقدم مفصلاً.

" انطلقوا به فارجموه "، فقام رجل من الناس فقال: لا ترجموه فأنا الذي فعلت بها هذا الفعل، وأشكل الحديث، وطال خوض العلماء، وأجابوا بأن هذا الرجل لما أدرك وهو يشتد هربًا، وادعى أنه كان مغيثًا لا مريبًا، ولم ير أولئك الجماعة غيره كان هذا من أظهر الأدلة على أنه صاحبها، وكان الظن المستفاد لا يقصر عن الظن المستفاد من شهادة البينة، والأحكام الظاهرة تابعة للأدلة الظاهرة من البينة والأقارير، وشواهد الأحوال، وكونها في نفس الأمر قد تقع غير مطابقة لا تقدح في كونها طرقًا وأسبابًا للأحكام. والأطراف في هذا الباب متسعة أقول: الجواب عن الاحتجاج بهذا ينحصر في وجوه: الأول: الاستفسار له - عافاه الله - عن مقصوده بالاحتجاج بهذا الحديث، هل جواز الحكم على من قامت القرائن عنده أنه جنى على ذلك المجني عليه. أو جواز أخذ شيء من ماله ظلمًا، وهو المسمى بالأدب في اصطلاح الناس اليوم. إن كان مراده الأول فلا نمنعه أن يحكم على هؤلاء الأشراف المتظلمين بأنهم جنوا على ذلك المجني عليه. إن كان قد قامت له القرائن القوية بأن يكون حاضرًا للواقعة في بلاد الروس، ودخل المنزل، ووجد المجني عليه هنالك، ودمه يسيل طريًا، وأهل المنزل بيدهم السلاح الجارح، وعندهم من الريبة ما يفيد أن الفعل وقع منهم، فإذا كان قد قام عنده هذا، أو ما يقوم مقامه من القرائن فهو أهل للترجيح، وحقيق بالإيراد والإصدار للأحكام الشرعية ولكن أين هذه الأمور أو ما يقوم مقامها؟ فإن الواقعة المزعومة كانت في بلاد الروس، ومولانا - عافاه الله - في بير العزب، ولم نسمع بأنه شد الرحل إلى هنالك، بل لم يبلغه من القضية شيء إلا مجرد كتاب إليه فعله العريف الظالم [7] الذي وصل هؤلاء الأشراف يتظلمون منه، كما وصفه في كتابه الذي شرحناه بهذه الورقات، بل قدمنا أنه لا وجود للجناية، ولا للجاني ولا للمجني عليه، ولا للقضية من الأصل، ولا دعوى ولا مدعي ولا مدعى عليه، وليس في المقام إلا افتراء الكذب والزور والبهتان من ذلك العريف الجاهل، ليأكل أموال الناس بالباطل، فهذا الدليل على فرض أن الاستدلال به لقصد

الحكم للمجني عليه على الجاني لا ينطبق على محل النزاع، ولا يدل عليه بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام، وإن كان المراد الاستدلال بهذا الدليل على جواز أخذ مال هؤلاء المساكين ظلمًا وعدوانًا، وهو محل النزاع، والذي نحن بصدده، فأين هذا من ذاك؟ وكيف يستدل بهذا الدليل على ذلك المدلول من ينسب إلى عقل، فضلاً عن من ينسب إلى فهم، فضلاً عن من ينسب إلى علم!. أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا تورد يا سعد الإبل (¬1) يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ... ومنهج الحق له واضح الوجه الثاني: هو - عافاه الله - قد اعتمد في هذا الاستدلال بهذا الحديث على ما تكلم به ابن القيم في الأعلام (¬2)، فإنه قال فيه ما نصه، فإن قيل: كيف أمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - برجم المغيث من غير بينة ولا إقرار! قيل: هذا أدل الدلائل على اعتبار القرائن، والأخذ بشواهد الأحوال في التهم، وهو يشبه الحدود بالرائحة والقيء كما اتفق عليه الصحابة. وإقامة حد الزنا بالحبل كما نص عليه عمر، وذهب إليه فقهاء أهل المدينة وأحمد في ظاهر مذهبه، وكذلك أنه يقام الحد على المتهم إذا وجد المسروق عنده، فهذا الرجل لما أدرك وهو يشتد هربًا، وقالت المرأة: هو الرجل الذي فعل بي، وقد اعترف بأنه دنى منها وأتى إليها، وادعى أنه كان مغيثًا لا مريبًا، ولم ير أولئك الجماعة غيره، كان هذا من أظهر الأدلة على أنه صاحبها، وكان الظن المستفاد من ذلك لا يقصر عن الظن المستفاد من شهادة البينة، واحتمال الغلط، أو عداوة الشهود كاحتمال الغلط أو عداوة المرأة هنا، بل ظن عداوة المرأة في هذا الموضع ¬

(¬1) يضرب مثلاً للرجل يقصر في الأمر إيثارًا للراحة على المشقة والمثل لمالك بن زيد مناة بن تميم وقد كان آبل أهل زمانه، ثم إنه تزوج وبنى بامرأته، فأورد الإبل أخوه سعد ولم يحسن القيام عليها والرفق بها فأنشد مالك ... " مجمع الأمثال " للميداني (1/ 148 - 149). (¬2) " أعلام الموقعين " (3/ 9 - 10).

في غاية الاستبعاد، فنهاية [8] الأمر أن هذا لوث ظاهر لا يستبعد ثبوت الحد بمثله شرعًا كما تقبل القسامة باللوث الذي لعله دون هذا في كثير من المواضع، فهذا الحكم من أحسن الأحكام وأجراها على قواعد الشرع، والأحكام الظاهرة تابعة للأدلة الظاهرة من البينة والأقارير وشواهد الأحوال، وكونها في نفس الأمر قد تقع غير مطابقة أمر لا يقدح في كونها طرقًا وأسبابًا للأحكام. والبينة لم تكن بذاتها موجبة للحد، وإنما ارتباط المدلول بدليله، فإن كان هناك دليل يقاومها أو أقوى منها لم يبلغه الشارع، وظهور الأمر بخلافة لا يقدح في كونها دليلاً كالبينة والإقرار انتهى كلامه (¬1). ولا يخفى عليك أنه إنما قال: يعمل بالقرائن في ثبوت الحد في مثل هذا الأمر الذي ورد فيه بخصوصه هذا الدليل، ولم يجعل هذه القرائن وهذا الدليل مسوغًا لأخذ مال الرجل المتهم ولا مجوزًا له. الوجه الثالث: في بيان دفع كلام ابن القيم هذا بما يظهر خلاف لراقم الأحرف. وإذا اندفع اندفع كلام غيره بالأولى، فلم يقرر دلالة هذا الدليل على العمل بالقرائن أحد من العلماء كتقريره، ولا طول هذا البحث من متقدميهم ولا متأخريهم كتطويله، فإنه كرره في مواضع من مؤلفاته، وقرره وطوله بما حاصله ما نقلناه عنه سابقًا، فنقول: لا يخفى عليك أن جعله لهذه الواقعة مشبهة لإقامة الحدود بالرائحة والقيء، مما لا يبقى فيه لا شك ولا ريبة أنه قد شرب الخمر، فكيف ينزل ما بتلك المنزلة، أو يلحق بتلك الواقعة والحال أن الرجل يقول: إنما أغثتها وينكر ما تدعيه، وهي تقر بأنه قد أغاثها رجل غير الذي فعل بها ما فعل، وتقر بأن ذلك الرجل الذي أغاثها قد فارقها كما فارقها الرجل الذي فعل بها ما فعل، وتقر بأنه موجود في الخارج، كما أن الرجل الذي باشرها موجود في الخارج، فكيف يدعي عاقل على العقل، أو على الشرع أنه يقتضي أن هذا ¬

(¬1) أي كلام ابن القيم في " أعلام الموقعين " (3/ 9 - 10).

هو الفاعل، كما يقتضي أن من تقيأ خمرًا تصاعدت من معدته [9]، واندفعت من فمه بمرأى ومسمع من الناس أنه شربها، وأين هذا من ذاك! فإن هذا يستحيل أن يحصل للعقل تجويز ذلك أن ذلك الشارب يشرب ماءً فاندفع بالقيء خمرًا، أو أنه دفعه من بين ثيابه لا من فمه، أو أن الذي دفعه غير خمر بخلاف قضية المرأة، فإن عقل كل عاقل يجوز أن الذي باشرها غير هذا، ولا ينكر هذا من يتعقل القضايا ولا سيما وهي تعترف بأنه قد أغاثها مغيث وفارقها تابعًا لمن باشرها، مريدًا للقبض عليه. ولا شك أن اللاحق إذا كان يشتد بعد الملحوق فهو آخر الرجلين أقربهما إلى المرأة، فقضاء العقل بأن هذا الرجل الذي لحقه الجماعة ووجده أقرب إلى المرأة هو المغيث لها أقرب من قضائه بأنه الفاعل بها، وأعجب من هذا وأغرب دعوى ابن القيم أن هذه القرينة مساوية لقرينة الحبل، فيا سبحان الله إذا لم تبق لنا علوم ندرك بها المعلومات فقد بقيت لنا عقول وأفهام ليقال أن هذا الرجل الذي ادعت عليه المرأة ينزل منزلة امرأة وجدت حاملاً يتحرك الحمل في بطنها، ولا زوج لها، فهل ثمة احتمال عند العقل أن هذا الحمل وجد لا عن مني رجل دخل في فرج المرأة، وهذا يجوزه الشرع أم هذه المرأة كمريم - سلام الله عليها - بعث الله إليها ملكًا فنفخ في فرجها، كما يجوز العقل أن الذي باشر تلك المرأة هو غير الذي ادعت عليه. فرحم الله ابن القيم، فلقد جاء في هذا البحث بما يضحك الثكلى، وليس العجب منه فالعالم قد يجري قلمه بالكلام الساقط للضعف البشري الذي هو ختم في رقاب العباد ولكن العجب من عالم يختار كلامه ويقلده في خطئه وسقطه، بل يستدل به على مدلول أجنبي بينه وبينه ما بين السماء والأرض، وأما دعواه أن الظن الحاصل بهذه القرينة [10] كالظن الحاصل بالشهادة والإقرار فهذا أغرب مما قبله، وأعجب، فإن كل عاقل بعلم الفرق بين قضية يقول فيها رجلان عدلان نشهد أن هذا فعل كذا، ونحن ننظر إليه، وبين أن يقول مدع ادعى على فلان كذا، وتنزل قرب ذلك المدعى عليه من المدعي، أو كونه مشاهدًا له أو ماشيًا في طريق تمر به ذهابًا وإيابًا، منزلة قول رجلين

عدلين أنه فعل كذا بمرأى ومسمع، أو منزلة قول المدعي عليه نفسه أنه الفاعل إقرارًا منه على نفسه، وتسجيلاً عليها بذلك، فهل يلتبس الفرق بين الصورتين على من يعلم بالمسالك العلمية، والمدارك الشرعية، بل على من يفهم، بل على من له عقل!، فلقد ادعى ابن القيم - رحمه الله - على العقل والشرع ما هما بريئان عنه، ثم لو فرضنا أن يحصل ظن بتلك القرينة التي جعلها دليلاً، فقد تقرر أن الله لم يتعبدنا بكل ظن يحصل من أي وجه، وبأي أسباب، ولو كان كذلك لم يكن لاعتبار المدارك التي اعتبرها الشارع أسبابًا للحكم فائدة، ولا كثير معنى. وخلاصة القول: أن الله - سبحانه - نهانا في محكم كتابه عن اتباع الظن في آيات كريمة (¬1) كثيرة، وجاء سبحانه بصيغ عامة تشمل كل ما يصدق عليه مسمى الظن، فلا يجوز لنا أن نعمل بشيء من الظنون إلا ما خصه دليل. وقد خص الدليل جواز الحكم بشهادة العدلين، وإقرار المقر ويمين المنكر، كما خص جواز العمل بأخبار الآحاد، وما عدا ما لم يقم عليه دليل يخصه فهو مندرج تحت ذلك العموم لا يحل لنا أن نعمل به بدون مخصص، كائنًا ما كان، ولا سيما في مثل الأمور المستلزمة لإراقة الدماء، وهتك الحرم. الوجه الرابع: إن قلت لي: أبن لي الوجه فيما صدر عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من الأمر برجم الرجل الذي ادعت عليه المرأة! قلت: قد تكلم أهل العلم في ذلك بكلام طويل، وجاءوا بتأويلات أكثرها متعسفة [11] والذي أرتضيه أنا وأجعله تأويلاً لما وقع في هذا الحديث هو أنه تقرر في الأصول (¬2) أنه يجوز عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الخطأ في الاجتهاد، لا فيما طريقة التبليغ. ولكنه لا يقر عليه، وهذا ¬

(¬1) منها قوله تعالى: {وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا} [يونس: 36]. وقوله تعالى: {إن بعض الظن إثم} [الحجرات: 12]. وقوله تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون} [يونس: 66]. (¬2) انظر " إرشاد الفحول " (ص857)، " تيسير التحرير " (4/ 236).

منه، وهو مثل ما ثبت عنه في الرجل الذي كان يدخل على بعض نسائه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فأمر عليًا بأن يذهب إليه فيضرب عنقه، فذهب إليه فوجده يغتسل في ماء، فأخرجه من الماء فوجده مجبوبًا لا عضو له، فرجع فأخبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بذلك فتركه على ما كان عليه (¬1)، فهذا من الخطأ في الاجتهاد، وهو جائز غير ممتنع. ويمكن التأويل بوجه آخر هو دون هذا الظهور، وهو أنه كان ما أمر به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - جائزًا ثم نسخ بأنه لا يجوز الحد إلا بالمناطات التي وردت وعمل بها الصحابة فمن بعدهم. ويمكن التأويل بوجه ثالث هو دون الذي قبله، وهو أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - برجم الرجل المذكور إنما صدر منه لنوع من السياسة الشرعية التي جاءت بها الأدلة، والوجه في ذلك أن المباشر لتلك المرأة ربما يظهر نفسه، ويقر بذنبه مخافة أن يتحمل ذنب معصية الزنا، وذنب سفك دم الرجل البريء، ومثل هذا موجود في الطباع البشرية، مدرك عند المتدينين الواقعين في بعض المعاصي التي تلجأ إليها الطبيعة البشرية. الوجه الخامس: نستفسره - عافاه الله - هل عمل بما ذكره ابن القيم من دلالة هذا الدليل على ذلك المدلول اجتهادًا أو تقليدًا؟ إن قال وافقه اجتهادًا كما هو الظن به والموافق لعلي مكانه فنقول له - عافاه الله -: انظر إلى ما حررناه هاهنا بعين الإنصاف، فإنك إذا أمعنت النظر الذي يوجبه الاجتهاد رجعت عن موافقته إلى مخالفته، وإن قال - عافاه الله -: إنما عمل بكلامه تقليدًا فلا حيلة لنا في هدايته إلى ما هو أولى بالاتباع [12] ... فإنه أقر على نفسه بأنه لا يتعقل الحجج الشرعية. ونقول له - عافاه الله -: ما الذي ألجأك إلى هذا وقد أعطيت من علوم الاجتهاد ما ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (59/ 2771) والحاكم في " المستدرك " (4/ 39 - 40) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

تتمكن به من الإصدار والإيراد! وكيف تنزل عن المنزلة التي أنزلك الله فيها، وأحلك بها إلى منزلة لا تجمل بمثلك، ولا تليق بكمالك! ثم مالك - عافاك الله - أبعدت النجعة وسافرت إلى تقليد ابن القيم، وقد كان لك في الأئمة من آبائك غنى يغنيك، ومأوى يؤويك، وكن يكنك، وعريش يظلك: فدع عنك نهبًا صيح في حجراته ... وهات حديثًا ما حديث الرواجل الوجه السادس: بالله عليك يا مولانا لا نشغل الورق، ونتكلف لتزييف كلام أهل العلم، ونتقحم على الاستدلال بما هو أجنبي، مما نحن بصدده .. فأنت تعلم - كثر الله فوائدك - أن محل النزاع بيننا هو كون العريف الذي فوضته في بلاد الروس أرسل على هؤلاء الأشراف رسلاً، وطلب منهم أدبًا، أي حرامًا وسحتًا، فواصلوا يتظلمون إلى الشريعة المطهرة، فأرسلتهم إليكم لتنصفوهم من العريف الظالم، فهذا هو بيت القصيد، وهو محل النشيد، فلا نشغل أنفسنا بغيره، ولا ندخل في مداخل خارجة عن المراد، فالعلم أمانة، وأهله أمناء عليه، وحججه على خلقه، وورثة أنبيائه، والمترجمون له لعباده، والمبينون لهم ما نزل إليهم. فما أحقهم بأن لا يخونوا هذه الأمانة، ويخيسوا في هذا الميثاق، ويخفروا ذمة الله، وذمة رسوله! فيوهمون الناس بأنهم استحلوا ما استحلوا، وانتهكوا لحجج لديهم، وبراهين يعرفونها. والشريعة بريئة عن ذلك، مصونة منه، بل لا فائدة ولا عائدة في هذه الأمور إلا تشفيع الذنب بذنب أشد منه، وتعقيب المعصية بمعصية أفظع منها، فإن دعوى أن الله حلل الحرام أشد [13] من الإقدام على ذلك الحرام. وكل عارف يعلم أن ذنب من قال من أهل العلم أن الخمر حلال، أو الزنا، أو الربا حلال أشد من ذنب من شرب الخمر، أو عامل بالربا، أو زنى بامرأة. هذا لا يشك فيه أحد من المتشرعين، وقد دلت عليه الأدلة الكلية والجزئية دلالة كالشمس، فلا نطول بذكر ذلك، فهو من معلوماتكم. قال - عافاه الله -: وذكرتم - أبقاكم الله - في جوابكم النفيس على الولد

العلامة علي بن عبد الله الجلال وجوهًا عديدة من جملتها عمله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بالقرائن (¬1). ¬

(¬1) القرائن جمع قرينة: وهي الأمر الدال على الشيء من غير الاستعمال فيه بل الاستعمال فيه بمجرد المقارنة والمصاحبة أو هي أمر يشير إلى المقصود. وقيل: القرينة مأخوذة من المقارنة فهي فعيلة بمعنى المفاعلة، والقرينة مؤنث القرين، ويقال قرنت الشيء بالشيء وصلته به، واقترن الشيء بغير صاحبه. وقارنته قرانًا صاحبته، والقرين الصاحب وهي قسمان حالية ومقالية. فالحالية: مثل أن تقول للمسافر " في كنف الله " فإن في العبارة حذفًا ويدل على تجهزه المصاحب للسفر وهو القرينة الحالية. والمقالية: أن تقول " رأيت أسدًا يخطب " فإن المراد بالأسد رجل شجاع، ويدل على ذلك لفظ " يخطب " فهو قرينة مقاليه، وقد يقال لفظية ومعنوية. انظر " الصحاح " (6/ 2182)، " أساس البلاغة " (2/ 248). القرائن اصطلاحًا: عرفها الفقهاء بمعنى الأمارة، وهي ما يلزم من العلم به الظن بوجود المدلول كالغيم بالنسبة إلى المطر فإنه يلزم من العلم به الظن بوجود المطر. " التعريفات " للجرجاني (ص117). وقال مصطفى الزرقا في " المدخل الفقهي العام " (2/ 914): القرينة: كل أمارة ظاهرة تقارن شيئًا خفيًا فتدل عليه وهي مأخوذة من المقارنة بمعنى المرافقة والمصاحبة. من شروط القرينة: 1 - أن يوجد أمر ظاهر ومعروف وثابت ليكون أساسًا لاعتماد الاستدلال منه لوجود صفات وعلامات فيه، ولتوفر الأمارات عليه، فالوقائع المادية والتصرفات البشرية تتألف من أمور ظاهرة ثابتة، وتنطوي على أمور باطنة يستدل عليها بالأمارات المصاحبة لها. 2 - أن توجد الصلة بين الأمر الظاهر الثابت والقرينة التي أخذت منه في عملية الاستنباط والاستنتاج، وذلك باستخراج المعاني من النصوص والوقائع بالتأمل والتفكير الناشئ عن فرط الذهن وقوة القريحة وهذه الصلة بين القرينة وبين الأمر المصاحب لها تختلف من حالة إلى أخرى، ولكن يشترط أن تكون العلاقة قوية بينهما. وتقوم على أساس سليم ومنطق قويم، ولا تعتمد على مجرد الوهم والخيال أو الصلة الوهمية الضعيفة، لأن المهم أن يكون عند الإنسان علمًا في الدعوى يكاد يماثل العلم الحاصل من الشهود وغيرهم، وهذا يحصل بالتأكيد من قوة المصاحبة والمقارنة. وبناء على قوة هذه الرابطة وضعفها تنقسم القرائن إلى قسمين: قرائن قوية وقرائن ضعيفة. انظر: " المدخل الفقهي العام " (2/ 912)، " الأصول القضائية "، قراعة (ص275). فالقرائن حسب قوتها وضعفها تنقسم إلى ثلاثة أنواع: 1 - أن تكون دليلاً قويًا مستقلاً لا يحتاج إلى دليل آخر، فهي بينة نهائية. ويطلق عليها القرينة القاطعة. 2 - أن تكون دليلاً مرجحًا لما معها، ومؤكدة ومقوية له، كالوصف الصحيح في تنازع المؤجر والمستأجر في كنز وسط الدار، فكلاهما صاحب يد. 3 - أن تكون دليلاً مرجوحًا فلا تقوى على الاستدلال بها، وهي مجرد احتمال وشك فلا يعول عليها في الإثبات، وتستبعد في مجال القضاء. وتنقسم القرائن بحسب مصدر القرينة إلى ثلاثة أنواع: أ - قرائن نصية ورد عليها نص من الكتاب أو السنة وجعلها الشارع أمارة على شيء معين مثل الدم قرينة على القتل في قصة يوسف: {وجاءوا على قميصه بدم كذب} [يوسف: 18]. ب - قرائن فقهية: فقد استخرج الفقهاء بعض القرائن، وجعلوها أدلة على أمور أخرى، وكذلك استنبط القضاة كثيرًا من هذه القرائن واستدلوا بها في الدعاوى وسجلوها في كتب الفقه والمؤلفات الخاصة. ويمكن ضمها إلى القرائن الشرعية السابقة. ج - قرائن قضائية: وهي التي يستنبطها القضاة بحكم ممارسة القضاء ومعرفة الأحكام الشرعية التي تكون لديهم ملكة يستطيعون لها الاستدلال وإقامة القرائن في القضايا ومواضع الخلاف، ويلاحظون العلامات ويستخرجون الأمارات من ظروف كل دعوى عن طريق الفراسة والفطنة والذكاء ويصلون إلى معرفة الحق، وتمييز الطيب من الخبيث. ولكن يجب إحاطتها بالحيطة والحذر وعدم التعويل عليها إلا ضمن القواعد والضوابط المقبولة. انظر: " تبصرة الحكام " (1/ 202)، " الطرق الحكمية " (ص97، 212): " أعلام الموقعين " (1/ 85). وقد دل على اعتبار القرائن الكتاب والسنة أقوال السلف الصالح من فقهاء وقضاة. 1 - أدلة القرآن الكريم على اعتبار القرائن: قال تعالى: {وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} [يوسف: 18]. قال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (9/ 149) استدل الفقهاء بهذه الآية في إعمال الأمارات والأخذ في مسائل الفقه كالقسامة وغيرها. وأجمعوا على أن يعقوب عليه السلام استدل على كذبهم بما رآه من سلامة القميص وعدم تمزقه حتى روي أنه قال لهم: متى كان هذا الذئب حكيمًا يأكل يوسف ولا يخرق القميص. وانظر: " الطرق الحكمية " لابن القيم (ص6). 2 - ومن السنة النبوية أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم بقول القافة، وجعل القيافة دليلاً من أدلة ثبوت النسب وليس هنا إلا مجرد الأمارات والعلامات، وقد أخذ الخلفاء الراشدون بهذا النهج، أي اعتبار القيافة من أدلة ثبوت النسب، وأخذ بها مالك وأحمد والشافعي وغيرهم والأخذ بالقيافة دليل على اعتبار القرائن. انظر: " الطرق الحكمية " (ص10)، " أقضية الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " للشيخ محمد فرج المالكي (ص112) " تبصرة الحكام " (2/ 104). 3 - من أقضية الصحابة رضي الله عنهم: حكم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - دون نكير من أحد بإقامة حد الزنا على امرأة ظهر حملها ولا زوج لها اعتمادًا على القرينة الظاهرة. وهذا ما ذهب إليه مالك وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه. كما حكم عمرو بن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما بوجوب الحد برائحة الخمر من فم الرجل أو قيئه خمرًا اعتمادًا على القرينة الظاهرة، وهذا مذهب مالك وأصحابه. " الطرق الحكمية " لابن القيم (ص6)، " تبصرة الحكام " (2/ 88 - 91). * وقد أخذ الفقهاء بالقرائن واعتبروها وسيلة من وسائل الإثبات وطريقًا من طرق الحكم، فمنهم من صرح بالأخذ بها والتعويل عليها كما نجد ذلك في مذهب مالك، فمن ذلك قول الفقيه المالكي ابن فرحون في " تبصرته " (2/ 88 - 91) أن من طرق القضاء في المذهب المالكي الأخذ بالقرائن، وهذا من مذهب المالكية في التصريح بالأخذ بالقرائن مذهب الحنابلة. وكذلك ما نقله الفقيه ابن القيم الحنبلي وبينه في كتابه " الطرق الحكمية " (ص21). إلا أن فريقًا من الفقهاء من المذاهب الأخرى لا يصرحون بالأخذ بالقرائن ولكن نجدهم في الواقع يرتبون أحكامًا على أساس اعتبارهم للقرائن. من ذلك قولهم بانعقاد البيع بالمعاطاة من غير لفظ اكتفاء بالقرائن والأمارات الدالة على الرضا. وانظر: " تبصرة الحكام " (2/ 118). وقد اعترض الحافظ في " الفتح " (3/ 160) على اعتبار القرينة بالحديث الشريف البينة على المدعي واليمين على من أنكر، فليس في الحديث غير البينة فهي التي يعول عليها ويؤخذ بها في القضاء. والجواب على ذلك أن القرينة الظاهرة تدخل في مفهوم البينة التي يبنى عليها الحكم، لأن البينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره. ولا تنحصر في الشهادة، بل كل ما كشف الحق فهو بينة. وعلى هذا فالبينة قد تكون شهادة مقبولة أو نكولاً عن يمين وقد تكون قرينة أو شاهد الحال الذي هو من أنواع القرينة، فقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " البينة على من ادعى واليمين على من أنكر " أي على المدعي أن يقدم ما يبين ويكشف صحة دعواه ويظهرها، فإذا ظهر صدقه بقرينة من الطرق حكم له. وعلى هذا فإن من قصر مفهوم البينة على الشهود لم يعرف ما ينطوي عليه اسم البينة من معنى، ومما يؤيد ذلك أن البينة لم تأت قط في القرآن الكريم مرادًا بها الشهود، وإنما أتت مرادًا بها الحجة والدليل والبرهان، وعلى هذا فإن الشهود من البينة والقرينة من البينة، وقد تكون في بعض المواضع أقوى دلالة على صدق المدعي في دعواه من دلالة الشاهدين عن ذلك. " الطرق الحكمية " (ص21)، " تبصرة الحكام " (2/ 118).

أقول: لعله - أدام الله فوائده - يشير إلى ما ذكرته في ذلك الجواب في الوجه السابع والخمسين والثامن والخمسين بما حاصله أن الأحاديث الواردة في الشاهد واليمين المبينة أنها مناطان للحكم لا تنفي أن يكون غيرهما مناطًا، إذ لا حصر فيها، وعلى فرض وجود صيغة تفيد الحصر فيكون الدليل الذي سأل عنه السائل في ذلك السؤال مخصصًا للعموم، فهذا الكلام ليس فيه إلا التعرض لعدم انحصار المناطات الشرعية في الشهادة واليمين، وليس فيه التصريح بالعمل بالقرائن، فأين هذا من ذاك؟ ثم لو سلمنا أنه يشمل القرائن القوية وإن كنت لا أقول بذلك. ولا أريده، فأين هو مما نحن بصدده؟ فإن الذي نحن بصدده أمر آخر هو أن أولئك الضعفاء لجئوا إلينا وإليكم متظلمين من العريف الظالم الذي أراد اجتياح مالهم بعد هتك حرمتهم. قال - عافاه الله -: وللعلامة ابن القيم الجوزية في ذلك كلام فقال فيمن اتهم بسرقة، أو قطع طريقًا، أو زنا، أو قتل: ما علمت أحدا من أئمة المسلمين [14]

يقول: إن هذا المدعى عليه بهذه الدعاوى وما أشبهه، يحلف ويرسل بلا حبس ولا غيره، وليس في تحليفه وإرساله مذهب لأحد من الأئمة ولا غيرهم، ولو حلفنا كل واحد وأطلقناه، وخلينا سبيله، وقلنا: إنا لا نأخذه إلا بشاهدي عدل، كان مخالفًا للسياسة الشرعية، ومن ظن أن الشرع تحليفه وإرساله فقد غلط غلطًا فاحشًا. أقول: هذا خارج عن محل النزاع بكل حال: فإن ابن القيم إنما أرشد في كلامه هذا إلى التثبيت والتأني، وعدم الجزم بظاهر الشرع في مثل الأمور العظيمة من دون إعمال للسياسة الشرعية، وهكذا نقول وبه نعمل، ولكن ليس في هذا أنه يحكم على ذلك الذي سرق أو قطع [الطريق] (¬1) أو قتل بغير الوجه الذي شرعه الله لعباده، ولا فيه أن يحكم على هؤلاء الأشراف الذين تظلموا إلينا وإليكم بهتك حرمتهم، وبقاء أعوان ذلك العريف الظالم في بيوتهم، وأخذ شطر من مالهم بلا مدع يدعي عليهم، ولا شاهد يقول إنه شاهدهم ولا، ولا، ولا. وأيضًا فقد قال ابن القيم (¬2) - رحمه الله - بعد كلامه هذا الذي نقلتم عنه ما لفظه: ولأجل هذا الغلط تجرأ الولاة على مخالفة الشرع، وتوهموا أن السياسة الشرعية قاصرة عن سياسة الخلق ومصلحة الأمة، فتعدوا حدود الله، وخرجوا عن الشرع إلى أنواع الظلم. انتهى بحروفه. فهذا كلامه، وهو حجة عليكم لا لكم، إذا أنصفتم، ومع هذا كله فاحتجاجكم - كثر الله فوائدكم - بكلام ابن القيم لو فرضنا أنه قد قال في كلامه - وصانه الله - أن ما فعله عريف بلاد الروس بالأشراف سائغ جائز. لم يكن بصواب، فليس الحجة تقوم بكلام عالم، بل الحجة كلام الله، وكلام رسوله وإجماع الأمة عند القائل به، ولا سيما خطابكم هذا مع رجل قد خلع ربقة التقليد من ¬

(¬1) في المخطوط الظن والصواب ما أثبتناه. (¬2) في " أعلام الموقعين " (3/ 9 - 10).

عنقه قبل اليوم بأكثر من عشرين سنة، فكيف أجريتم الكلام معه هذا المجرى! وسلكتم معه هذا المسلك! إن قلتم: إنما ذكرتم كلامه لكونه قد حكى الإجماع على ذلك، فنقول: لو فرضنا أن ما نقله من الإجماع له مدخل في محل النزاع، لم يكن استعمال ذلك مع المكتوب إليه مناسبًا، لأنكم تعلمون مذهبه ........................................... (¬1) ¬

(¬1) في المخطوط ما يقارب السطر غير واضح والله أعلم.

بحث في العمل بالخط ومعاني الحروف العلمية النقطية

(149) بحث في العمل بالخط ومعاني الحروف العلمية النقطية تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في العمل بالخط ومعاني الحروف العلمية النقطية. 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أقسم بالعلم وعلم بالقلم فأظهر أفراد الأفكار العقلية. 4 - آخر الرسالة: " ... وهذه قضية مقررة محررة متفق عليها في جميع العلوم الشرعية عند جميع أهلها. قال في الأصل كتبه محمد الشوكاني غفر الله له انتهى. 5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول. 6 - عدد الصفحات: 8 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 22 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 11 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أقسم بالعلم، وعلم بالقلم فأظهر أفراد الأفكار العقلية في صور النقوش الخطية، ومعاني الحروف العلمية النقطية، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد النبي الأمي القائل: «العلم أحد اللسانين»، وعلى آله بدور الدجى، وورثة الحكمة، المنزهين عن كل شين ومين، وعلى أصحابه نجوم الهداية، ومصابيح الرواية، والتابعين لهم بإحسان، فهم حماة الشريعة عن كل منكر ودين، فالمسؤول من مولانا شيخ الإسلام، ومحيي شريعة سيد الأنام، عالم الدين بالاتفاق، وناشر ألوية الدين في جميع الآفاق محمد بن علي الشوكاني - أمتع الله بحياته، وأدام إفاداته، وأعاد علينا من بركاته، ونفعنا بدعواته، وشملنا بمودته - وسلام على الله وتحياته ورحمته وبركاته، الإفادة بما يختاره ويرتضيه في العمل بالخط، وجوازه، فلا يخفى حصول الاختلاف، وميل كل من المفرعين إلى ما ظهر له، فهم بين مثبت للعمل به، وناف. ومنهم من أقام الدليل على مدعاه، ومنهم من جعل تجويز التحرير والتحريف علة المنع في مرماه. وأما إمام المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري - رضي الله عنه - فأورد في صحيحه (¬1) ما يشفي الغليل، ويهدي إلى سواء السبيل، ولكن في بعض الروايات ما يدل على التقييد بالإشهاد، وفي بعضها الإطلاق، فالمطلوب من مولاي - متع الله بحياته - الإيضاح لما يختاره، فهو نقاد الشريعة الباهر، وبحرها الزاخر الذي عمت بركته الأوائل والأواخر - أطال الله تعالى للمسلمين في عمره -[ ... ] (¬2) سئل عنه وأنطق به، وأنظر إليه بجد ملء المسامع والأفواه والمقل، وهل يلزمه مثل ذلك فيما جرى به عادة كثير من الناس، بينما كبراء أهل البوادي، فإنه قد غلب عليهم الاكتفاء بخطوطهم في مثل إقرار أو وصية، وربما وقع التنازع في حياة الكاتب على نفسه أو بعد موته، وهو الأغلب، فهل يعمل بمجرد ¬

(¬1) انظر " فتح الباري " (13/ 140). (¬2) كلمة غير مقروءة.

خطه، ويكتفي به، أو يكلف من هو في يده البينة على مدعى [ ... ] (¬1) [1أ] بيانات التجار فيما لهم وعليهم من المعاملات، فإنه يقول أحدهم عند التنازع: ليس لي بينة إلا بياني، فمع قبوله من خصمه لا شك في لزومه، والمفروض التناكر والتنازع، على أنه لا يخفى تعذر الإشهاد في كل ما جرت به المعاملة، بل قد يقع الاجترار عن اطلاع أحد، فهل يكون الظاهر مع صاحب البيان، ويكون القول قوله، أو يرجع إلى الأصل بأن على المنكر اليمين؟. وكذلك لا يخفى على مولاي - متع الله بحياته - بأنه قد اشتهر عنه - حفظه الله - منع العمل بصور الشيم والأوراق والأحكام، وإطلاق المنع على ما تظهر صحته أو عدمها بحسبما يقتضيه المقام، فالمطلوب من حسناته - أحسن الله جزاءه، وضاعف ثوابه - إيضاح وجه المنع، وهل ذلكم المنع مطلقًا في كل صورة، سواء عرف عدالة الناقل أو مقيد الجهالة، أو ظهور عدم عدالته؟ فإنا نجد في بعض الصور ما يتوجه العمل به لعدالة الناقل، والجزم منه بصحة ما نقله، بل قد يكون من بعض رجال السند مثل سيدي العلامة أحمد بن عبد الرحمن الشامي (¬2)، ومثل سيدنا العلامة يحيى بن عبد الله (¬3) ومثل سيدنا الوالد العلامة إسماعيل بن يحيى الصديق (¬4) وغيرهم من أعيان العلماء ممن مارس ¬

(¬1) هنا كلمة غير مقروءة. (¬2) ابن عز الدين بن الحسن الشامي. ولد سنة 1095هـ وكان من أكابر علماء صنعاء. قرأ في فنون العلم على مشايخها، فبرع في الآلات والفقه والحديث. توفي سنة 1172هـ. " البدر الطالع " رقم (43)، " نشر العرف " (1/ 148 - 154). (¬3) ابن الحسين ابن الإمام القاسم بن محمد الصنعاني، أخذ العلم بصنعاء عن جماعة من العلماء. وكان غالب اشتغاله بالطب. توفي سنة 1200هـ. " البدر الطالع " رقم (583)، " نيل الوطر " (2/ 400). (¬4) الصعدي ثم الذماري ثم الصنعاني ولد بعد سنة 1130هـ. فقرأ الفقه على الحسن بن أحمد الشبيبي، فبرع فيه، وصار محققًا للأزهار وشرحه. توفي سنة 1209هـ. وله شرح على " مقدمة بيان " ابن المظفر. شرع في شرح (المسائل المرتضاة) للإمام المتوكل على الله ولم يكمل ورسالة في البسملة. " البدر الطالع " رقم (99)، " نيل الوطر " (1/ 306).

القضاء - شملهم الله برحمته ورضوانه، وأسكنهم فسيح جناته وحباهم بحر مغفرته - وكذلك مثل ساداتنا الأعلام الآخذين عنكم - جعلني الله منهم - فإنه قد يرد منهم ما يقتضي العمل، وهل يجري ذلك مجرى نقل العدول من المنصفين لكتب سيد المرسلين - صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أجمعين - مثل كتاب عمرو بن حزم (¬1) وغيره من كتبه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -- للإقطاعات وآل الملوك (¬2) وغيرها (¬3)، فكثيرًا ما يؤتى فيه بلفظ وصورة ما كتبه، أو لفظه من كتبه مع أنا نشاهد من الضرر في عدم العمل والتضرر من المتمسكين ما يحرج به الصدر، وأوجب المذاكرة، فإن المتمسك بين خطرين [ .... ] (¬4) سيما في هذه الأزمنة التي المخافات فيها مستمرة، وأيدي العدوان فيها مشتهرة. فقد يبسط باسط على الأموال ومالكه نازح عن بلد المال [1ب]، فيحتاج إلى المشاجرة وإظهار مستند ملكه، فإن أرسل بالأصل ختم الضياع، وإن اتكل على الصورة حسم عدم العمل والاتباع، وكذلك الحاكم يبقى في محارة عظيمة، وورطة جسيمة إن بنى على العمل قال له الخصم: هذا غير نافذ عند مرجع الأحكام والحكام شيخ الإسلام، وإن بنى على المنع قبل معرفة لوجهه ولا وجه لمعرفته، وتم للغاصب مراده، وذهب مال المطالب، وحجته، وزاده على أن ليس للحكام طريقة إلا الاشتهار عن شيخ الإسلام - حفظه الله تعالى - بالمنع، وهو ممن يمنع التقليد ولا يرتضيه، ويجدل أهله وذويه، ومع ¬

(¬1) وهو حديث صحيح. انظر الرسالة رقم (1) (ص139). (¬2) منها ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4424) باب رقم (82، 83) كتاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى كسرى وقيصر. (¬3) انظر " السيرة النبوية " (3/ 440). (¬4) كلمة غير واضحة.

أن حاجة الناس إلى ذلكم ضرورية لما سبق أولاً، ولما صار عملهم سلفًا وخلفًا على التعامل بذلكم، ويجدون في صدورهم حرجًا عن عدم العمل بما هنالكم، وقد يؤدي إلى انتقاض ذلك الناقل العالم الفاضل، وتوهين أمره، والخروج في حقه بما لا ذنب له فيه، فمن حسناتكم الإيضاح بما يكون عليه العمل المرضي عند الحكم الحق - جل جلاله وعز شأنه - حرره السائل الحقير يحيى بن إسماعيل الصديق مصليًا ومسلمًا على النبي الكريم، وآله وصحبه، حامدًا شاكرًا لربه، باذلاً للدعوات في الخلوات والجلوات، مستمدًا من مولاي ذلكم - جزاه الله خيرًا - وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم آمين.

الجواب بخط مولانا شيخ الإسلام - متع الله بحياته -. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الأكرمين، ورضي الله عن صحبه الأنجمين. وبعد: فإنه وصل سؤال ولدي قرة العين - كثر الله فوائده، ومد على طلاب العلم موائده - وليعلم أن الخط قد وردت الأدلة الصحيحة بقيام الحجة به، والعمل بما اشتمل عليه، فمن ذلك أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -- كان يبعث بكتبه إلى ملوك الأقطار (¬1)، ثم ترتب على ذلك غزوهم والدعاء عليهم، ومنها أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -- بكتب المصالحة بينه وبين قريش (¬2)، ومنها كتب الأمانات، ومنها كتب الإقطاعات (¬3) ¬

(¬1) كتب - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اثني عشر ملكًا، منهم كسرى ملك الفرس وقيصر ملك الروم. " زاد المعاد " (1/ 30)، " أعلام الموقعين " (1/ 90). (¬2) كتب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتبًا في الصلح والمعاهدات، أهمها صلح الحديبية وقد تم كتابه، وصلح دومة الجندل. " الأموال لأبي عبيد " (ص381)، " زاد المعاد " (3/ 7). (¬3) روى أبو عبيد في " الأموال " (ص388) أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطع تميمًا الداري أرضًا في الشام وفلسطين وكتب له كتابًا وهو: " هذا كتاب من محمد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى تميم الداري أن له قرية جيرون وبيت عينون ... ولعقبه من بعده لا يحاقه فيها أحد، ولا يلجهما عليه أحد بظلم، فمن ظلم واحدًا منهم شيئًا فإن عليه لعنة الله ". وانظر: " فتح الباري " (5/ 37). جيرون: باب دمشق وكانت سقيفة على عمد وحولها مدينة تحيط بها. بيت عينون من قرى القدس وقيل هي الخليل. قال أبو عبيد فلما استخلف عمر وظهر على الشام جاء تميم الداري بكتاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال عمر: أنا شاهد ذلك فأعطاه إياه.

ومنها كيف عقد الذمة والصلح، ومنها كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وأخذ الصحابة - رضي الله عنهم - كثيرًا من الأحكام الشرعية منه. وقد روى مسندًا ومرسلاً، فمن رواه مسندًا [2أ] أحمد (¬1)، والنسائي (¬2)، وأبو داود في كتاب المراسيل (¬3)، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، وأبو يعلى الموصلي، ويعقوب ابن سفيان في مسانيدهم، ورواه الحسن بن سفيان النسوي، وعثمان بن سعيد الدارمي، وعبد الله بن عبد العزيز البغوي، وأبو زرعة الدمشقي، وأحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي، وحامد بن محمد بن سعيد البلخي، والحافظ الطبراني (¬4)، وأبو حاتم ابن حيان البستي في صحيحه (¬5)، وجماعة غيرهم. وأما المرسل فرواه النسائي (¬6)، وأبو داود (¬7)، والشافعي (¬8)، وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم. ومن ذلك حديث البخاري (¬9) ومسلم (¬10) وغيرهما (¬11) عن ابن عمر أنه ¬

(¬1) في " المسند " (2/ 217). (¬2) في " السنن " (8/ 57 - 58). (¬3) رقم (52) ورجاله ثقات. (¬4) انظر " التلخيص " (4/ 34 - 35). (¬5) في صحيحه رقم (6559). (¬6) في " السنن " (8/ 57). (¬7) في " المراسيل " رقم (257). (¬8) في " الرسالة " (ص422). انظر: " نصب الراية " (1/ 196 - 197)، " التلخيص " (4/ 34 - 35). وهو حديث صحيح. (¬9) في صحيحه رقم (2738). (¬10) في صحيحه رقم (1627). (¬11) كأحمد (2/ 57، 80) وأبو داود رقم (2862) والترمذي رقم (974) والنسائي (6/ 238) وابن ماجه رقم (2699).

- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده " ومنها أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -- بكتابة القرآن؛ ومنها ما ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -- أنه كتب كتابًا وختمه (¬1)، وأمر بسرية تعزم إلى حيث يريد، وأنهم لا يقرؤون الكتاب إلا حيث عينه لهم (¬2)، ويعلمون بما فيه، ومنها قول (¬3) أمير المؤمنين - رضي الله عنه - وقد سئل هل خصكم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بشيء؟ فقال: لا إلا ما في هذه الصحيفة، وفيها أحكام شرعية، ومنها قوله - عز وجل -: {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} (¬4) وذلك يستلزم العمل بما فيها من الكتابة. ومن ذلك قوله - عز وجل: {وليكتب بينكم كاتب بالعدل} (¬5) فلو كانت الكتابة غير معمول بها، لم يأمر - عز وجل - عباده بالكتابة. ومنها ما ثبت في الصحيح (¬6) من أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -- بالكتابة لأبي شاه، وما ثبت في الصحيحين (¬7) من إذنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -- لعبد الله بن ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (65) ومسلم رقم (2092) من حديث أنس بن مالك وقد تقدم (ص229). (¬2) تقدم ذكره. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6915) من حديث أبي جحيفة وانظر تخريجه مفصلاً في الرسالة رقم (21 ص901). (¬4) [آل عمران: 93]. (¬5) [البقرة: 282]. (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2434) ومسلم رقم (447/ 1355) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬7) ليس في الصحيحين. بل أخرجه أحمد (2/ 162، 192) وأبو داود رقم (3646) والدارمي (1/ 125) والحاكم (1/ 105 - 106) وقال عقبة: " رواة هذا الحديث قد احتج بهم عن آخرهم غير الوليد هذا، وأظنه (الوليد بن أبي الوليد الشامي) فإنه (الوليد بن عبد الله) وقد غلبت على أبيه الكنية، فإن كان كذلك فقد احتج به مسلم " ووافقه الذهبي. قال الألباني في الصحيحة (4/ 46) كلام الحاكم: " كذا قال، وإنما هو الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث مولى بني الدار حجازي وهو ثقة كما قال ابن معين وابن حبان ". وصححه الألباني في " صحيح الجامع " رقم (1196).

عمرو بالكتابة. ومن ذلك عمله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -- بما جاء من كتب عماله كما رواه البيهقي (¬1) من حديث البراء بن عازب. ومن ذلك إجماع الصحابة على العمل بالخط، رواه أبو الحسين البصري في المعتمد (¬2)، والرازي (¬3)، ويعقوب بن سفيان الحافظ، وإسماعيل بن كثير الحافظ، والإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة. ومن الحاكين لإجماع الصحابة على العمل بالخط الرازي في المحصول (¬4). وأما من بعد الصحابة فيدل عليه إجماعهم الفعلي على الاحتجاج لذلك، والعمل به في معاملاتهم، وفي المصنفات في الفنون العلمية على اختلاف أنواعها، ومنها عملهم بالوجادة (¬5) التي صرح العلماء (¬6) بقبولها. ¬

(¬1) في " المدخل " (ص80). (¬2) (2/ 628). (¬3) في " المحصول " (4/ 451) وانظر " أعلام الموقعين " (2/ 1888). (¬4) في " المحصول " (4/ 451) وانظر " أعلام الموقعين " (2/ 1888). (¬5) الوجادة: فإن مادة " وجد " متحدة الماضي والمضارع مختلفة المصادر بحسب اختلاف المعاني، فيقال في الغضب، موجدة. وفي المطلوب وجودًا، وفي الضالة وجدانًا بكسر الواو، وفي الحب وجدًا بالفتح، وفي المال وجدانًا، بالضم، وفي الغنى جدة بالكسر وتخفيف الدال المفتوحة وإجدانًا بكسر الهمزة. " القاموس المحيط " (ص413 - 414). أما في اصطلاح المحدثين: وهي وجدان الراوي شيئًا من الأحاديث مكتوبًا (بخط الشيخ) الذي يعرفه، ويثق بأنه خطه، حيًا كان الكاتب، أو ميتًا على الصحيح. انظر: " تدريب الراوي " (2/ 58)، " مقدمة ابن الصلاح " (ص86). (¬6) انظر " الكوكب المنير " (2/ 527 - 528)، " نهاية السول " (2/ 322).

إذا عرفت هذا فاعلم [2ب] أن هذه الكتابة التي وردت في الكتاب والسنة، وأجمع عليها المسلمون هي الكتابة الصحيحة التي لا يدخلها احتمال بتغيير، ولا تبديل، ولا زيادة، ولا نقصان، كما هو معلوم أن ما كان عرضة لذلك لا ينتفع به ولا يرتفع عند النزاع، ولا ينقطع به الخلاف. وقد أجمع العلماء أجمع على أن ما احتمل ذلك لا يحتج به على خصم، ولا يستند إليه حكم، ولو كان من كتب الله المنزلة على أنبيائه إذا احتمل التغيير، أو التبديل، أو الزيادة، أو النقص لم يجر العمل به. وإذا دخل الاحتمال في النقض لم يجر العمل بالباقي، لأن التجويز كائن وقد كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -- يكتب كتبه، ويختمها بخاتمه مع رسوله المعروف، فيعلم ذلك القريب والبعيد، ولا يشكون فيه، وكانوا عربًا لم يكن عندهم هذه المراوغات الحادثة بعد اختلاط طوائف العالم، والتحيلات بكل ممكن، والحرص على تنفيق ما يوافق الغرض وإن كان باطلاً، ثم كذلك ما كان يجري في أيام الصحابة من الكتابات هو على وجه لا يتطرق إليه احتمال، ولا تغيير، ولا تبديل، بل ما اشتملت عليه الكتابة هو معروف بينهم لا ينكرونه، وهكذا الكتب العلمية التي يأخذها الناس بالوجادة، فإنه لا بد أن يكون كاتبها ومن قرئت عليه، ومن قرأها معروفين لا يتطرق إلى خطوطهم ظن التزوير والتغيير. ثم هكذا ما أجمع عليه الصحابة ومن بعدهم، فإنه الخط الصحيح المعروف الذي لا يحتمل تبديلاً ولا تغييرًا. وأما ما كان كذلك، فلو قيل بقبوله لأكل الناس أموال بعضهم البعض بهذه الوسيلة المكذوبة، والذريعة الباطلة. ومن القسم المعمول به خطوط العلماء المعروفين، والحكام المشهورين إذا كانت تلك الخطوط معروفة، ولا شك ولا ريب أن خطوط أكابر العلماء والحكام يعرفها من جاء بعدهم، ولو بعد مئين من السنين، فما كان سبيله هذا السبيل فهو من المعمول به لقيامه مقام الرواية، والمراد أنه يسوغ للمطلع عليه أن يقول هذا خط فلان. ويلزم بما يشتمل عليه من حكاية المعاملات والمداينات، إلا أن يعارضه ما هو أقوى

منه، وذلك لا يخالف كونه خط فلان، بل يخالف استصحاب [3ا] كونه باقيًا على ثبوت ما فيه، وذلك مثل أن تجد بخط حاكم معروف أن فلانًا أقر بأن عنده لفلان ألف دينار، ثم تجد بخط من بعده من الحكام المعروفين أن فلانًا الذي عليه الألف دينار قد قضاها وبرئت ذمته منها فلا شك أن العمل على الخط المتأخر، ولا يكون ذلك قادحًا في كون الخط الأول خط فلان، بل هو خطه، لكنه وجد الناقل عنه والرافع لما فيه، وهكذا إذا تطاول الزمن، وكان أحد الخصمين ثابت اليد على ما يحكى في رقم من الحكام المعروفة خطوطهم أنه لفلان، وكانت الأرض يد الشريعة فيها قاهرة، فإن استصحاب كونها لثابت اليد أقوى من استصحاب كونها لصاحب الرقم بطول المدة، لا سيما مع انقراض المكتوب له، والمكتوب عليه، والكاتب. وليس هذا من ترك العمل بالخط، بل من العمل بما هو أرجح منه، مع تسليم كونه خط فلان. وقد تقع المعارضة بين خطين معروفين لمرجح آخر وهو أن يكون الكاتب أحدهما متثبتًا متحريًا متحفظًا من قبول التغرير والتدليس، والآخر ليس بهذه الصفة أو بعضها، فإنه هاهنا كان العمل بالترجيح القوي المعلوم عقلاً ونقلاً وعادة. وعلى المتعاملين أن يمتثلوا ما أمر الله - عز وجل - به من أن يكتب بينهم كاتب بالعدل، وبالإشهاد على التبايع، فإنه إذا وقع العمل على ما شرعه الله - سبحانه - لعباده ارتفعت أسباب الخصومات، وانقطعت دوافع التغريرات. وأما ما يجري به العرف في خص الأمكنة فإن خط صاحب المال من التجارة وغيرها مقبول على من يقابله، فإن هذا بالجهل أشبه منه بالعلم؛ لأنه قبول لدعوى مجردة إلا إذا كان من عليه الحق يوافق من له الحق بأنه لا يكتب إلا حقًا كان المستند لثبوت ذلك هو هذا الإقرار، لا مجرد الكتابة. وينبغي أن يتنبه هاهنا لدقيقة قد تخفى على كثير من الناس، وهي أن فرقًا ظاهرًا أو واضحًا بين ما يرقمه الحكام المعرفون بخطوطهم المعروفة على طريقة الحكم وعلى طريقة الإقرار، فإن ما كان على طريقة الحكم جزمًا كان قبوله متحتمًا، لأنه لا يجزم بذلك مع كونه موثوقًا بدينه وعلمه إلا بمستند ظاهر [3ب]

واضح، وأما ما يرقمونه على طريقة حكاية الإقرار، أو للفظ شهادة شهدوا لديه أو نحو ذلك من دون جزم منه بذلك فإن هذا ليس من باب الحكم، بل من باب الرواية، فهو قد روى مثلاً صدور الإقرار لديه، أو قيام البينة عنده؛ لكون خطه معروفًا لا يشك فيه، ولكن إذا تبين خلل ذلك الإقرار بوجه من الوجوه المعتبرة فيه، أو خلل الشهادة بأمر يوجب القدح فيها كان العمل بذلك واجبًا. وحاصل الأمر أنه لا شك أن العمل بالخط على الوجه المعتبر شريعة قائمة (¬1)، وسنة ¬

(¬1) اتفق الفقهاء والمحدثون على جواز الاعتماد على الخط والكتابة في نقل الحديث والروايات التي حفظها الراوي عنده للتحديث منها والنقل عنها، وفي تدوين الأحكام الشرعية والقواعد الفقهية، وتدوين الحديث، ولو لم يعتمد على ذلك لضاع الإسلام بضياع السنة الصحيحة والأحكام الفقهية التي نقلت لنا خلفًا عن سلف بطريق الكتابة، ولو لم تكن الكتابة مقبولة عند الفقهاء، وحجة في النقل لما عولوا عليها في تدوين الكتب والمؤلفات. الكتابة هي الوسيلة التي حفظ الله بها الشريعة، وقد أمر الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكتابة الوحي واتخذ كتابًا للوحي بلغ عددهم أربعين كاتبًا * ثم اختلف الفقهاء في مشروعية الكتابة باعتبارها وسيلة من وسائل الإثبات بشكل عام وكامل. (أ): القول الأول: أن الكتابة وسيلة من وسائل الإثبات ليست مشروعة ذهب إلى ذلك جمهور الفقهاء ورواية عن أحمد. " تبصرة الحكام " (1/ 356). ومن أدلتهم على ذلك: 1 - ): أن الخطوط تتشابه ويصعب تمييزها، وقد يخيل للشخص أن الخطين متشابهان وأن صاحبهما واحد. فالخط أو الكتابة يحتمل التزوير والافتعال فلا تكون حجة ودليلاً في الإثبات؛ لأن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال. ويعترض على ذلك بأن التشابه نادر فلا يبنى عليه الحكم، وإن تشابه الخط كتشابه الأصوات والصور، وإن كشف التزوير ممكن لأهل الخبرة والفطنة والاختصاص، الذين يعرفون الخطوط ويميزون الأصلي من المقلد وخط كل كاتب يتميز عن خط غيره، كتمييز صورته وصوته. " الطرق الحكمية " (ص207). 2 - ): الكتابة قد تكون للتجربة واللعب والتسلية فلا تعتبر حجة ودليلاً للآخر لعدم القصد وتوجيه الإرادة نحوها والقاعدة الفقهية تقول العبرة بالمعاني لا بالألفاظ والمباني. * وهذا دليل مستغرب ومستبعد أن يجرب الإنسان خطه. أو يمارس اللعب والتسلية بكتابة الحقوق وإثبات الديون للآخرين، وهو احتمال هزيل. والقاعدة التي ذكرت حجة عليهم لا لهم. 3 - ): تنحصر في الإقرار والبينة والنكول، وأن الكتابة ليست من أدلة الإثبات. والكتابة زيادة على النص والزيادة على النص نسخ عند الحنفية، أو هو اعتبار لما ليس من الدين فهو حدث وبدعة، ويعترض على ذلك بأن الكتابة وسيلة لإبلاغ الشريعة إلى الملوك والرؤساء، وقد أمر القرآن بالكتابة والتوثيق بها. وعمل بها الرسول الأعظم وأمر صحابته بتعلم الكتابة من أسرى بدر واتخذ الكتاب لكتابة الوحي وكتابة الرسائل والأحكام إلى عماله وأمرائه وولاته. وقبلها المسلمون واستعملوها في حياتهم دون إنكار، سواء ذلك في رواية الحديث وتلقي العلم وكتابة الأحكام الشرعية وفي المعاملات والقضاء وجميع شؤون الدولة. القول الثاني: أن الكتابة باعتبارها وسيلة من وسائل الإثبات مشروعة ذهب إلى ذلك المالكية وأحمد في رواية بعض السلف. " تبصرة الحكام " (1/ 356)، " الطرق الحكمية " (ص207). ومن أدلتهم على ذلك: من الكتاب: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} وقال سبحانه: {وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب} [البقرة: 282]. * وسواء كان الأمر للفرض أو الندب، فالآية تقرر اعتبار الكتابة وثيقة في المعاملات، وفائدة ذلك الاعتماد على تلك الوثيقة عند الإنكار والجحود. والاحتجاج بها أمام القاضي. من السنة: تقدم من حديث أبي هريرة وقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اكتبوا لأبي شاه ". وانظر: " زاد المعاد " (3/ 7)، " الأموال لأبي عبيد " (ص381)، " فتح الباري " (13/ 141). من المعقول: أن الكتابة كالخطاب والكتابة أشد دلالة على جزم الإرادة؛ لأن الإنسان قد يتلفظ سهوًا، وينطق خطأ، وقد يسبقه لسانه وقد يتكلم مزحًا وهزلاً، أما الكتابة، فإن العقل والفكر متجهان نحوها اتجاهًا جازمًا ويتأمل بما يكتبه، ويفكر في دلالته ومعناه ومقصوده، ولذلك قال الحنفية والمالكية: إن الكتابة المستبينة المعنوية صريحة الدلالة، خلافًا للشافعية، فقالوا إن الكتابة كناية، وقد قال الحنابلة: الكتابة صريحة إلا في النكاح والطلاق. " المجموع " (9/ 177). " الطرق الحكمية " (ص207). الراجح والله أعلم: القول بمشروعية الكتابة في إثبات الحقوق لقوة الأدلة، ولحاجة الناس إلى استعمالها واللجوء إليها؛ ولأن القول بعدم حجية الكتابة في الإثبات يؤدي إلى الحرج والمشقة في المعاملات بين الناس فتتعطل مصالحهم وتضيع حقوقهم وأموالهم لعدم تيسير الشهود دائمًا وقال ابن تيمية: والعمل بالخط مذهب قوي بل هو قول جمهور السلف. " مختصر الفتاوى المصرية " لابن تيمية (ص601، 608)، " الطرق الحكمية " (ص10). قال ابن حجر في " الفتح " (13/ 1441) تعليقًا على قول البخاري في باب رقم (15) الشهادة على الخط المختوم، وما يجوز من ذلك، وما يضيق عليه وكتاب الحاكم إلى عماله، والقاضي إلى القاضي. يريد أن يقول بذلك لا يكون على التعميم إثباتًا ونفيًا، بل لا يمنع ذلك مطلقًا فتضيع الحقوق، ولا يعمل بذلك مطلقًا فلا يؤمن فيه التزوير فيكون جائزًا بشروط. وانظر: " تبصرة الحكام " (2/ 11).

متبعة، وإجماع صحيح. ولكن هذا الخط هو الخط الذي تقوم به الحجة عند الترافع والتخاصم، أو عند الاختلاف في الرواية، ولا تقوم الحجة بالإجماع إلا بخط معروف من ثقة معروف لا يتطرق إليه وهم، ولا يعتريه احتمال زيادة، أو نقصان، أو تحريف، أو تغيير، أو تبديل. أما إذا كان هكذا، فلا تقوم به حجة قط. ولا يقول قائل بأنه يتوجه العمل به، فإن الإقرار الذي هو أقوى الحجج الشرعية إذا تطرق إليه احتمال كذب المقر يعرض له، أو لإكراه واقع عليه، أو لتغرير وتلبيس وقع فيه فليس بحجة بالإجماع، ولا يثبت له حق. وهكذا الشهادة التي هي حجة بعد حجية الإقرار إذا ظهر فيها وجه قادح بوجه من الوجوه المعتبرة لم يكن، فمن عمل بمثل هذا الإقرار أو البينة فهو عمل بباطل من القول، وزور من الكلام. ومثله مثل من يعامل الوصية المخالفة للشريعة، أو النذر المشتمل على

ما لا يأذن به الله معاملة الوصية الشرعية، والنذر الحقيقي، وهو في معاملته هذا شبيه بمن يسمي الخمر ماء يشربه، أو يسمي الحرام حلالاً ثم يأكله، والكلام في هذا يطول. وأما ما سأل عنه - كثر الله فوائده - من الصور التي يرقمونها على أصل، ويجعلونه في الاحتجاج به بمثابة الأصل فلا شك ولا ريب أنه إذا كان بخط ثقة معروف الحال، مثبتًا فيما يكتبه، متحريًا فيما ينقله، فهو مقبول. لكن إذا تطرق الاحتمال بوجه [4أ] من الوجوه ثم يحل العمل به على ما قدمناه في الحجج القوية إذا تطرق إليها الاحتمال، وقد وقفنا من هذا على عجائب وغرائب يقع في الأصل زيادات دقيقة معماة بوجه من وجوه التعمية تتفق على كثير فيمن لم يكن متثبتًا، وقد يكون الكاتب رقيق الدين فيواطئه من أراد نقل تلك الصورة على جعل فيكتب ويتعامى عن التغيير والزيادة والنقصان، ويكتب أن ذلك الفرع كالأصل بلا زيادة ولا نقصان، ثم يذهب إلى الثقة من القضاة والعلماء فيجعلون على ذلك خطوطهم، ويحتج على خصمه بهم، وهم لم يطلعوا على الأصل، بل قد لا يمرون نظرهم على الصورة، فمن هذه الحيثية لم أقتنع عند التخاصم بمجرد الصورة، بل أطلب الأصل الذي تغلب عليه تلك الصورة، فإن امتنع إحضار الأصل، فذلك لعلة تنكشف بإحضار الأصل، وكذلك إذا ادعى أن الأصل قد ضاع عليه فهو لعله هذا في الغالب، ولا شك عندي أن فعل المثبت الثقة ظاهره الصحة، ولكن مع الاحتمال لا يحل أن يجعل الصورة مستندًا حتى يظهر أصلها، أو يرجع الحاكم إلى القرائن التي يستفاد منها الصحة، أو ما يقاربها؛ ليكون الحاكم على بصيرة يبرئ بها ذمته، ويسلم من الخطاب. ولا شك أن التثبت مع الاحتمال واجب على الحاكم. أما ما يطلب الأصل أو بالنظر إلى ما يدل على مستند الحكم وإلا كان جازمًا في محل الاحتمال، وذلك خطأ بين بالاتفاق بين أهل العلم في كل ما يتطرق إليه الاحتمال، وهذه قضية مقررة محررة متفق عليها في جميع العلوم الشرعية عند جميع أهلها. قال في الأصل: كتبه: محمد الشوكاني - غفر الله له - انتهى [4ب].

رفع الأساطين في حكم الاتصال بالسلاطين

(150) 5/ 5 رفع الأساطين في حكم الاتصال بالسلاطين تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: رفع الأساطين في حكم الاتصال بالسلاطين. 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله الطاهرين وصحبه الأكرمين. أعلم أن كثيرًا من القاصرين. 4 - آخر الرسالة: فلما سمع ذلك الملك خلى سبيله، ولم يكن له عليه سبيل، وفي هذا المقدار كفاية. والحمد لله أولاً وآخرًا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 17 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 29 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله الطاهرين، وصحبه الأكرمين. [السعي في طلب الرزق] أعلم أن كثيرًا من القاصرين يعتقد أن من طلب ما يقوم بما يغنيه ومن يعول، ودخل في الأسباب التي يتحصل منها ذلك، خارج عن طريقة الصالحين مخالف لهدي المرسلين، مباين لمسلم الزاهدين، وهذا وهم عظيم، وجهل كبير، فإنه قد طلب ذلك سيد الأنبياء- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وسأل ربه الغنى كما في الصحيحين (¬1) وغيرهما (¬2) أنه كان يقول: " اللهم إني أسألك الهدى، والتقى، والعفاف والغنى ". والأحاديث في هذا كثيرة جدًا. وامتن الله سبحانه عليه بالغنى فقال: {ووجدك عائلا فأغنى} (¬3). ¬

(¬1) بل أخرجه مسلم رقم (72/ 2721) ولم يخرجه البخاري في صحيحه بل أخرجه في " الأدب المفرد " رقم (674). (¬2) كأحمد (1/ 411، 416، 437) وابن حبان في صحيحه رقم (900) والترمذي رقم (3489) وابن ماجه رقم (3832) من طرق. من حديث ابن مسعود. وهو حديث صحيح. قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (17/ 41): أما العفاف فهو التنزه عما لا يباح والكف عنه، والغنى هنا غنى النفس والاستغناء عن الناس وعما في أيديهم. (¬3) [الضحى: 8]. قال ابن كثير في تفسيره (8/ 427): أي كنت فقيرًا ذا عيال، فأغناك الله عمن سواه، فجمع له بين مقامي، الفقير الصابر والغني الشاكر، صلوات الله وسلامه عليه. وأخرج البخاري في صحيحه رقم (6446) ومسلم رقم (1051) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس ". وأخرج مسلم في صحيحه رقم (1054) من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا، وقنعه الله بما آتاه ".

وثبت في الصحيحين (¬1) وغيرهما (¬2) أنه دعا لخادمه أنس بالغنى، وثبت في الصحيحين (¬3) أنه قال: " اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضجيع ". وقال: " حبب إلي الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة " وهو حديث صحيح (¬4). وثبت في الصحيح (¬5) أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -قال لعمر - رضي الله عنه -: " ما جاءك من هذا المال وأنت غير مسرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك ". وثبت في أحاديث صحيحة النهي عن المسألة (¬6) إلا للسلطان، ومن ذلك ما حكاه الله سبحانه عن ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6378، 6379) ومسلم رقم (141/ 2480). (¬2) كأحمد (3/ 194) والترمذي رقم (3829). من حديث أنس عن أم سليم أنها قالت: يا رسول الله خادمك أنس. ادع الله له، فقال: " اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته ". (¬3) لم أجده في الصحيحين. أخرجه أبو داود رقم (1547) والنسائي (8/ 263) وابن ماجه رقم (3354) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة ". وهو حديث حسن. (¬4) أخرجه النسائي في " السنن " (7/ 61 - 62 رقم 3949) بإسناد حسن من حديث أنس مرفوعًا قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " حبب إلي النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة ". وأخرجه النسائي رقم (3950) من حديث أنس أيضًا. وهو حديث صحيح. (¬5) أخرجه البخاري رقم (7164) ومسلم رقم (1045) من حديث عبد الله بن عمر. (¬6) منها ما أخرجه أبو داود رقم (1639) والنسائي رقم (5/ 100) والترمذي رقم (681) وابن حبان في صحيحه رقم (3388) من حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إنما المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه، ومن شاء ترك إلا أن يسأل ذا سلطان أو في أمر لا يجد منه بدًا ". وهو حديث صحيح.

موسى عليه السلام أنه قال: {رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير} (¬1)، وما حكاه الله سبحانه أن يوسف عليه السلام قال لعزيز مصر: {اجعلني على خزائن الأرض} (¬2)، وقال أيوب عليه السلام لما رأى جرادًا من ذهب تسقط عنده، فجعل يلتقطها، فقال الله عز وجل له: " ألم أغنك عن هذا؟ فقال: بلى، ولكن لا غنى لي عن بركتك " كما في الحديث الثابت في الصحيح (¬3)، وقال عيسى عليه السلام فيما حكاه الله عنه: {وارزقنا وأنت خير ....................................... ¬

(¬1) [القصص: 24]. قال ابن كثير في تفسيره (6/ 227): قال ابن عباس: سار موسى من مصر إلى مدين، ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر، وكان حافيًا فما وصل مدين حتى سقطت نعل قدمه. وجلس في الظل وهو صفوة الله من خلقه، وإن بطنه لاصق بظهره من الجوع، وإن خضرة البقل لترى من داخل جوفه وإنه لمحتاج إلى شق تمرة. (¬2) [يوسف: 55]. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3391) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. قال ابن حجر في " الفتح (6/ 421) في شرحه للحديث: اعلم لم يثبت عند البخاري في قصة أيوب شيء، فاكتفى بهذا الحديث الذي على شرطه. وأصح ما ورد في قصته ما أخرجه ابن أبي حاتم - في تفسيره رقم 13697 - وابن جريج وصححه ابن حبان في صحيحه رقم (2899) - والحاكم في " المستدرك " (5/ 581 - 582). من طريق نافع بن يزيد عن عقيل عن الزهري عن أنس: " أن أيوب عليه السلام ابتلي فلبث في بلائه ثلاث عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه فكانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما للآخر: لقد أذنب أيوب ذنبًا عظيمًا وإلا لكشف عنه هذا البلاء، فذكره الآخر لأيوب، يعني فحزن ودعا الله حينئذ فخرج لحاجته وأمسكت امرأته بيده، فلما فرغ أبطأت عليه، فأوحى الله إليه أن اركض برجلك، فضرب برجله الأرض فنبعت عين فاغتسل منها فرجع صحيحًا، فجاءت امرأته فلم تعرفه، فسألته عن أيوب فقال: إني أنا هو؛ وكان له اندران: أحدهما للقمح، والآخر للشعير، فبعث الله له سحابة فأفرغت في أندر القمح الذهب حتى فاض وفي أندر الشعير الفضة حتى فاض ". وانظر: " فتح الباري " (6/ 421).

الرازقين} (¬1) ومن ذلك سؤال حسنة الدنيا، كما في قوله عز وجل: {ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب} (¬2)، وقوله عز وجل: {وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب} (¬3)، وقوله: {وارزقنا وأنت خير الرازقين} (¬4). والحاصل أن طلب الرزق كان من غالب العباد والأنبياء والعلماء والزاهدين، بل لو قال قائل: إنهم كلهم طالبون رزق الله عز وجل، لم يكن بعيدًا، فإنهم سائلون من الله عز وجل نزول الأمطار، وصلاح الثمار، والبركة في الأرزاق، وهذا هو من طلب الرزق، وهو كائن من جميع بني آدم، والمتورع منهم يقيد سؤاله بأن يكون ذلك من وجه حلال [1ب]. والدعاء هو من جملة السعي في تحصيل الرزق، وكذلك جميع الأسباب المحصلة له، على اختلاف أنواعها، وتباين طرقها، ومن أنكر هذا فقد أنكر ما هو معلوم لكل فرد من أفراد بني آدم. انظر ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم، في أيام النبوة، فإن لكل واحد منهم متعلق بسبب من أسباب الرزق، كائنًا من كان، ومن عجز عن ذلك قبل ما يصل إليه كأهل الصفة (¬5)، فإن وقوفهم فيها من طلب الرزق. وهكذا، بعد أيام النبوة، ¬

(¬1) [المائدة: 114]. (¬2) [البقرة: 201 - 202]. (¬3) [الصف: 13]. (¬4) [المائدة: 114]. (¬5) الصفة: هم فقراء المهاجرين، ومن لم يكن له منهم منزل يسكنه فكانوا يأوون إلى موضع مظلل في مسجد المدينة يسكنونه. " النهاية " (3/ 37).

فإن الخلفاء الراشدين يجعلون لأنفسهم نصيبًا من بيت المال (¬1) يقوم بما يحتاجون إليه لأنفسهم، ولمن يعولون، على وجه العدل، وعلى طريقة الزهد، وهم أزهد العباد في الدنيا وفي الاشتغال بها. كذلك من كان منهم بعد انقضاء خلافة النبوة، التي يقول فيها الصادق المصدوق: " الخلافة بعدي ثلاثون عامًا، ثم تكون ملكًا عضوضًا " (¬2)، فإن هذه المدة انقضت بخلافة الحسن السبط - رضي الله عنه -، ثم كانت من بعده ملكًا عضوضًا، وفيها، أعني المدة التي بعد انقضاء مدة الخلافة القيام بحفظ بيضة الإسلام، وجهاد الكفار، وفتح ما لم يكن قد فتح من الأقطار، وكان الصحابة رضي الله عنهم، يقصدون من بيده أمر المسلمين، ويطلبون منه ما لهم فيه حق من بيوت الأموال التي بيده، وذلك هو من طلب الرزق، ويقبلون منه ما يعطيهم، من غير كشف عن حقيقة الحال، وهكذا من بعدهم من التابعين، وكان هذا حال خير القرون، ثم الذين يلونهم، كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة (¬3). [الحاكم له أعوان] وكان من أهل هذين القرنين من يلي للقائمين بالأمر الأعمال من قضاء وإمارة على بعض البلاد، وإمارة على جيش، ولا ينكر هذا منكر، ولا يخالف فيه، وهذا هو نوع من أنواع طلب الرزق. وإن كان العمل قربة كالقاضي، وأمير جيش الجهاد، فإنه لا ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (142). (¬2) أخرجه الترمذي رقم (2226) وأبو داود رقم (4646) و (4647) وأحمد (5/ 221) وابن حبان رقم (6657) والبيهقي في " الدلائل " (6/ 341) والطيالسي رقم (1107) والحاكم (3/ 145) من طرق. من حديث سفينة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " الخلافة ثلاثون سنة وسائرهم ملوك، والخلفاء والملوك اثنا عشر ". وهو حديث صحيح. قال ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (35/ 18): وهو حديث مشهور من رواية حماد بن سلمة وعبد الوارث بن سعيد. والعوام بن حوشب وغيره، عن سعيد بن جهمان، عن سفينة عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .. (¬3) تقدم تخريجه مرارًا وهو حديث صحيح.

ينافي ما هو فيه من القربة، أخذ ما يحتاج إليه من بيت مال المسلمين، وما زال عمل المسلمين على هذا منذ قامت الملة الإسلامية إلى الآن، مع كل ملك من الملوك، فجماعة يلون لهم القضاء، وجماعة يلون لهم الإفتاء، وجماعة يلون لهم على البلاد التي إليهم، وجماعة يلون لهم إمارة الجيش، وجماعة يدرسون في المدارس [2أ] الموضوعة لذلك، وغالب جراياتهم من بيت المال (¬1). فإن قلت: قد يكون من الملوك من هو ظالم جائر، قلت نعم، ولكن هذا المتصل بهم لم يتصل بهم ليعينهم على ظلمهم وجورهم، بل ليقضي بين الناس بحكم الله، أو يفتي بحكم الله، أو يقبض من الدعاوي ما أوجبه الله، أو يجاهد من يحق جهاده، ويعادي من تحق عداوته، فإن كان الأمر هكذا، فلو كان الملك قد بلغ من الظلم إلى أعلى درجاته، لم يكن على هؤلاء من ظلمه شيء، بل إذا كان لأحدهم مدخل في تخفيف الظلم، ولو أقل قليل، أو أحقر حقير، كان مع ما هو فيه من المنصب مأجورًا أبلغ أجر؛ لأنه قد صار - مع منصبه - في حكم من يطلب الحق، ويكره الباطل، ويسعى بما تبلغ إليه طاقته في دفعه، ولم يعنه على ظلمه، ولا سعى في تقرير ما هو عليه، أو تحسينه، أو إيراد الشبه في تجويزه، فإن أدخل نفسه في شيء من هذه الأمور، فهو في عداد الظلمة، وفريق الجورة، ومن جملة الخونة. وليس كلامنا فيمن كان هكذا، إنما كلامنا فيمن قام بما وكل إليه من الأمر الديني، غير مشتغل بما هم فيه، إلا ما كان من أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو تخفيف ظلم أو تخويف من عاقبته أو وعظ فاعله بما يندفع فيه بعض شره، وكيف يظن بحامل علم، أو بذي دين، أن يداخل الظلمة فيما هو ظلم، وقد تبرأ الله سبحانه إلى عباده من الظلم، فقال: {وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} (¬2)، وقال: {وما ربك ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (142). (¬2) [النحل: 118].

بظلام للعبيد} (¬1)، وقال: {ولا يظلم ربك أحدا} (¬2)، وقال: {إن الله لا يظلم الناس شيئا} (¬3)، وقال: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} (¬4)، وقال: {وما الله يريد ظلما للعباد} (¬5)، وقال: {وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين} (¬6)، وغير ذلك من الآيات القرآنية، وقال في الحديث القدسي: " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا " (¬7). ¬

(¬1) [فصلت: 46]. (¬2) [الكهف: 49]. (¬3) [يونس: 44]. (¬4) [النساء: 40]. (¬5) [غافر: 31]. (¬6) [الزخرف: 76]. (¬7) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2577) والبخاري في " الأدب المفرد " رقم (490) وأحمد (5/ 160) والترمذي رقم (2495) وابن ماجه رقم (4257) وابن حبان في صحيحه رقم (618) والحاكم (4/ 241) من حديث أبي ذر. وهو حديث صحيح. قال ابن تيمية في شرحه لهذا الحديث (ص38): ينبغي أن يعرف أن هذا الحديث شريف القدر عظيم المنزلة، ولهذا كان الإمام أحمد يقول: هو أشرف حديث لأهل الشام. وكان أبو إدريس الخولاني إذا حدث به جثا على ركبتيه. ورواية أبي ذر ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة منه وهو من الأحاديث الإلهية التي رواها الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ربه، وأخبر أنها من كلام الله تعالى، وإن لم تكن قرآنًا. ثم قال ابن تيمية (ص40 - 41): وأما هذه الجملة الثانية وهي قوله: " وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا " فإنها تجمع الدين كله، فإن ما نهى الله عنه راجع إلى الظلم، وكل ما أمر به راجع إلى العدل، ولهذا قال تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب} [الحديد: 25]. فأخبر أنه أرسل الرسل وأنزل الكتاب والميزان لأجل قيام الناس بالقسط وذكر أنه أنزل الحديد الذي به ينصر هذا الحق، فالكتاب يهدي والسيف ينصر، وكفى بربك هاديًا ونصيرًا، ولهذا كان قوام الناس بأهل الكتاب وأهل الحديد كما قال من قال من السلف: صنفان إذا صلحا صلح الناس الأمراء والعلماء. وانظر الرسالة رقم (180).

وقال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، كما في الصحيحين (¬1)، وغيرهما (¬2)، من حديث أبي موسى، قال: قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إن الله يملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته "، ثم قرأ: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} (¬3). وفي الصحيحين (¬4) وغيرهما (¬5)، من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " الظلم ظلمات يوم القيامة "، وأخرج نحوه مسلم (¬6) وغيره من حديث جابر، وفي الصحيح (¬7) من حديث أبي هريرة: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه [2ب] ولا يسلمه "، وفي لفظ (¬8) " ولا يخذله ". والأحاديث الواردة في تحريم الظلم، وذم فاعله، وما يستحقه من العقوبة، كثيرة جدًا، وقد أجمع المسلمون على تحريمه، ولم يخالف في ذلك مخالف. وأجمع العقلاء على أنه من أعظم ما تستقبحه العقول، ثم قد بين رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -لنا في مداخلة الظلمة، ما هو القول الفصل، والحكم العدل، فقال في حديث صحيح أخرجه الترمذي في موضعين من سننه (¬9)، وأوضح ذلك أتم إيضاح، وبينه أكمل بيان: " غشي ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4686) ومسلم رقم (2583). (¬2) كالترمذي في " السنن " رقم (3110). (¬3) [هود: 102]. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2447) ومسلم رقم (2579). (¬5) كالترمذي رقم (2030). (¬6) في صحيحه رقم (2578). وهو حديث صحيح. (¬7) أخرجه مسلم رقم (2564). (¬8) عند مسلم في صحيحه رقم (32/ 2564). (¬9) أخرجه الترمذي في " السنن " رقم (614) وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث عبيد الله بن موسى. وأخرجه أحمد (3/ 321) وابن حبان رقم (1723) والحاكم (422). وهو حديث صحيح. وأخرجه الترمذي في " السنن " رقم (2259) وقال: هذا حديث صحيح غريب لا نعرفه من حديث مسعر إلا من هذا الوجه. وهو حديث صحيح. كلاهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لكعب بن عجرة: " أعاذك الله من إمارة السفهاء " قال: وما إمارة السفهاء؟ قال: " أمراء يكونون بعدي لا يهتدون بهدي، ولا يستنون بسنتي، فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا مني ولست منهم ولا يردون على حوضي، ومن لم يصدقهم بكذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم، فأولئك مني وأنا منهم، وسيردون على حوضي، يا كعب بن عجرة، الصيام جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، والصلاة قربان، أو قال برهان، يا كعب بن عجرة، الناس غاديان، فمبتاع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها ". ولفظ المصنف للترمذي رقم (2259).

إيوانهم فصدقهم في كذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني، ولا أنا منه، ولا هو وارد علي الحوض يوم القيامة، ومن غشيها أو لم يغشها فلم يصدقهم في كذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم، فهو مني، وأنا منه، وهو وارد علي الحوض يوم القيامة ". وقد ثبت في الصحيح (¬1) في ذكر أئمة الجور، ومداخلتهم، فقال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " ولكن من رضي وتابع ". فتقرر لك بهذا أن المداخل لهم إذا لم يصدقهم في كذبهم، ولا أعانهم على ظلمهم، ولا رضي، ولا تابع فهو من رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، ورسول الله منه، فكانت هذه مرتبة عالية، وفضيلة جليلة، فكيف إذا جمع بين عدم وقوع ذلك منه، والسعي في التخفيف، أو في الموعظة الحسنة. ولا يخفى على ذي عقل، أنه لو امتنع أهل العلم والفضل والدين عن مداخلة ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (62/ 1854) من حديث أم سلمة أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " ستكون أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع " قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: " لا. ما صلوا ".

الملوك، لتعطلت الشريعة المطهرة، لعدم وجود من يقوم بها، وتبدلت تلك المملكة الإسلامية بالمملكة الجاهلية في الأحكام الشرعية من ديانة ومعاملة، وعم الجهل وطم، وخولفت أحكام الكتاب والسنة جهارًا لا سيما من الملك وخاصته وأتباعه، وحصل لهم الغرض الموافق لهم، وخبطوا في دين الإسلام كيف شاءوا، وخالفوه مخالفة ظاهرة، واستبيحت الأموال واستحلت الفروج، وعطلت المساجد والمدارس، وانتهكت الحرم، وذهبت شعائر الإسلام، ولا سيما الملوك الذين لا يفعلون ذلك إلا مخافة على ملكهم أن يسلب، وعلى دولتهم أن تذهب، وعلى أموالهم أن تنهب، وعلى حرمتهم أن تنتهك [3أ]، وعلى عزهم أن يذل، ووجدوا أعظم السبل إلى التخلص عن أكثر أحكام الإسلام قائلين: جهلنا، لم نجد من يعلمنا، لم نلق من يبصرنا، فر عنا العارفون بالدين، وهرب منا العلماء العاملون، وفي الحقيقة أنهم يعدون ذلك فرصة انتهزوها، وشدة أطلقت عن أعناقهم، وعزيمة إسلامية ذهبت عنهم، ومع هذا فلم يختصوا بهذه الوسيلة التي فرحوا بها، والذريعة التي انقطعت عنهم، بل الشيطان الرجيم أشد فرحًا بذلك، وأعظم سرورًا منهم، فإنه قد خلى بينه وبين السواد الأعظم، يتلاعب بهم كيف شاء، ويستعبدهم كيف أراد. وهذه فرصة ما ظفر من أهل الإسلام بمثلها، ولا كان في حسابه أن يسعفه دهره بأقل منها. وسبب هذا البلاء العظيم، والخطب الوخيم، والوزر للإسلام وأهله - الذي لا يقادر قدره، ولا يتهيأ به الدهر مثله - صنفان من الناس: الصنف الأول: جماعة زهدوا بغير علم، وعبدوا بغير فهم، وتورعوا بغير إدارك للمصالح الشرعية والشعائر الدينية، وما يفضي إلى تعطل الأحكام، وذهاب غالب دين الإسلام، فتصدوا للمواعظ والإرشاد للعباد، وبالغوا في ذلك ومقصدهم حسن، وصورة فعلهم جميلة، ولكنهم لم يكن لهم من العلم ما يوردون به الأشياء مواردها، ويصدرونها مصادرها، جعلوا - لقصورهم - أهل المناصب الدينية - التي لا يتم أمرها، ولا ينفذ حكمها إلا سلطان الأرض وملك البلاد - من جملة أنواع الظلم، وجعلوا

صاحبها من جملة أعوان الظلمة، وسمع ذلك منهم عامة رعاع يغشون مجالس مثلهم من القصاص، مع خلو هؤلاء السامعين عن الورع، وتعطلهم عن علم الشرع، فأخذوا تلك المواعظ على ظاهرها، وقبلوها حق قبولها، لخلو أذهانهم عن وازع الشرع والعقل والورع، فصار بين هذين النوعين من الجهل ما يملأ الخافقين. ولأمر ما كان كثير من السلف يمنعون الذين يقصون على الناس، ويتصدرون لوعظهم، وتذكرهم بما هم عليه من جهل بالشريعة، وبما يرتكبونه من إيراد الأحاديث المكذوبة، والقصص الباطلة، وإن عليهم أن يقصروا عن ذلك، ويكلوا ذلك إلى علماء الكتاب والسنة، الذين يدعون الناس إلى حق هو معلوم لديهم، وشرع هو صحيح عندهم. والصنف الثاني: جماعة لهم شغلة بالعلم، وأهلية له [3ب]، وأرادوا أن يكون لهم من المناصب الدينية، التي قد صارت بيد غيرهم ما ينتفعون به في دنياهم، فأعوزهم ذلك، وعجزوا عنه، فأظهروا الرغبة عنه، وأنهم تركوه اختيارًا ورغبة، وتنزهًا عنه، وضربت ألسنهم بسبب أهل المناصب الدينية، وثلب أعراضهم، والتنقص بهم، وأظهروا أنهم إنما تركوا ذلك لأن فيه مداخلة للملوك، وأخذ بعض من بيوت الأموال، وأن أهل المناصب قد صاروا أعوانًا للظلمة، ومن الآكلين للسحت ولا حامل لهم على ذلك إلا مجرد الحسد والبغي، والتحسر على أن يكونوا مثلهم، فوضعوا أنفسهم موضع أهل التعفف عن ذلك، والتورع عنه بنيات فاسدة، ومقاصد كاسدة، مع ما في ذلك من الدخول في خصلة من خصال النفاق، والوقوع في معرة بلية الرياء، والولع بالغيبة المحرمة، بغير سبب وبغير حق، وأدخلوا أنفسهم في هذه المصائب والمثالب والمعاصي والمخازي والجرائم والمآثم على علم منهم بتحريمها، وكما قال القائل: يدعو وكل دعائه ... ما للفريسة لا تقع عجل بها يا ذا العلا ... إن الفؤاد قد انصدع وقد عرفنا من هذا الجنس جماعات، وانتهت أحوالهم إلى بليات، وعرفنا منهم من

ظفر بعد استكثاره من هذه البليات، بمنصب من المناصب، فكان أشر أهل ذلك المنصب، وبلغ في التكالب على الحطام، والتهافت على الجرائم، إلى أبلغ غاية. ومنهم من جالس - بعد مزيد من التعفف، وكثرة التقاعس - ملكًا، أو قريب ملك أو صاحب ملك، فصار يطربهم بما لا يستحل بعضه فضلاً عن كله - من له أدنى وازع من دين، بلا أدنى زاجر من عقل، بل عرفنا منهم من صار نمامًا، وضعه من يتصل به لنقل أخبار الناس إليه ففعل، ولكن لم يقتصر على نقل ما سمع، بل جاوز ذلك إلى التزيد عليه بالزور والبهت، حتى يجعل ذلك الذي وضعه للنقل عدوًا عظيمًا لمن لا ذنب له، ولا قال بعض ما كذب عليه، فضلاً عن كله. وبالجملة، ما جربنا واحدًا من هذا الصنف، إلا وكشفت الأيام عن باطن مخالف ما كان يظهره، وقول وفعل ينافي مما كان يشتغل به أيام تعطله [4أ]، فليأخذ المتحري لدينه حذره منهم، ولا يركن عليهم في شيء من الأعمال الدينية، كائنًا ما كان. فإن قلت: إذا أظهر ظهورًا بينًا، أن بعض المداخلين يعينه على ظلمه بيده أو لسانه، أو يسوغ له ذلك، أو يظهر من الثناء عليه ما لا يجوز إطلاقه على مثله. قلت: من كان هكذا، فهو من جنس الظلمة، وليس من الجنس الذي قدمنا ذكره من المداخلين لهم. والظلم، كما يكون باليد، يكون باللسان وبالقلم، وقد يكون ذلك أشد. وكلامنا فيمن يتصل بهم، غير معين لهم ما لا يحل، ولا مشارك لهم بيد ولا لسان بل يكون رجلاً مقصده بالاتصال بهم. [مقاصد الاتصال بالسلاطين] الاستعانة بقوتهم على إنفاذ حكم الله عز وجل. وعلى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بحسب الحال، وبما تبلغ إليه الطاقة. مثلاً إذا كان العالم ينكر ما يراه من المنكرات على الرعايا، ولا يقدر على ذلك، إلا إذا كان له يد من السلطان، يستعين بها على ذلك، فهذا خير كبير، وأجر عظيم.

وكذلك إذا كان لا يقدر على فصل الخصومات، وإرشاد الناس إلى الطاعات، إلا باليد من السلطان فذلك مسوغ صحيح أيضًا. وهكذا، إذا كان لا يقدر على تخفيف بعض ما يفعله وزراء السلطان وأمراؤه وأهل خاصته من الظلم، إلا باتصاله بالسلطان، فهو أيضًا مسوغ صحيح. وهكذا إذا كان السلطان يصغي إلى الموعظة منهم، في بعض الأحوال، ويخرج عن فعل المنكر، أو يخفف ذلك شيئًا ما، فهو مسوغ صحيح. واعلم أن أحوال السلاطين، كما قال بعض السلف، لهم طاعات كبيرة، ومعاص كبيرة، وصدق هذا القائل فإن من طاعاتهم [من واجبات الحاكم] (¬1) - تأمين السبل. - تأمين الضعفاء من الأقوياء والحيلولة بينهم، وبين ما يريدونه من ظلمهم. - جهاد أهل الكفر والبغي، والمتجارين على نهب الضعفاء، وهتك حرمهم، وتخويفهم ومغالبتهم على ما تحت أيديهم من أملاكهم. - إقامة الحدود الشرعية، والقصاص. - إقامة شعائر الإسلام، والقيام من رعاياهم بواجباته. - نصب القضاة لفصل الخصومات بالطرق الشرعية، وأهل الحسبة بالقيام بوظيفة الحسبة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. - جمع الجيوش وتأمير الأمراء، لقهر أعداء الدين، والقيام بما يحتاجون من بيوت الأموال. ¬

(¬1) انظر " درر السلوك في سياسة الملوك " للماوردي. (ص95 - وما بعدها). " المنهج المسلوك في سياسة الملوك " عبد الرحمن الشيزري (595 - 708). " الأحكام السلطانية والولاية الدينية " الماوردي (43 - 77).

- إحياء مدارس العلم، بنصب المدرسين والمفتين. - إمساك أهل الجسارة عما يريدونه من الفساد في الأرض، بهيبة السلطان ومخافة الإيقاع بهم، فإن كثيرًا بل الأكثر لولا مخافة السلطان لكان له من الأفاعيل ما لم يكن في حساب، ولهذا ترى من لا سلطان عليه، في جميع البلاد، يفعل ما ترتجف منه القلوب، وتذرى منه الدموع، ورحم الله الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز فإنه قال: " إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن " (¬1). وصدق فما قاله هو الحق، الذي يعلمه كل عاقل، فإن غالب الناس، لولا مخافة عقوبة السلطان له لترك الواجبات، إلا النادر، وفعل من المنكرات ما لا يأتي عليها الحصر. وأما أهل المخافة من الله عز وجل، الذين يفعلون الواجب؛ لكونه أوجبه الله عليهم، ويتركون المنكرات؛ لكون الله عز وجل نهاهم عنها، فهم أقل قليل. ومن أنكر شيئًا من هذا، فليبحث عن حقائق الأمور، وينظر في مصادرها ومواردها، وأحوال الفاعلين لها، حتى يتضح له أن الأمر كما قاله عمر بن عبد العزيز رحمه الله. وأما كون للسلاطين معاص كبيرة، فإنه قد تأخذه الغضبية فيسفك الدماء ويستحل الأموال المحرمة، وقد يهلك أهل القرية بسبب شذوذ فرد منهم عن طاعته، وقد تشده نفسه إلى ما في يد الرعايا فيأخذ منها لإعلاء قانون الشريعة المطهرة، وينصب لذلك شباك الحيل، وذرائع الظلم. وقد يطاوع نفسه الشهوانية، فيفعل ما تشتهيه، ويرتكب في محرمات الله عز وجل، ويفعل ما يريده، لعدم نفوذ قول قائل عليه، إذ لا سلطان عليه، إلا من عصم الله وقليل ما هم. حكي عن بعض سلاطين الإسلام، أنه كان يجتمع مع من يجالسه على كثير من اللهو والفسوق، وكان في المدينة، التي هو فيها، رجل صالح ينكر ما يبلغه من المنكرات، وإذا رأى إناء فيه خمر كسره، فمر يومًا من تحت دار السلطان، فقال السلطان لبعض ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة.

جلسائه: هذا فلان إذا رأى إناء من الخمر، بيد أحد من الناس كسره، وإذا رأى منكرًا غيره، فأمر من يدخله إلى مجلسه، ثم قال له: أنت تنكر على الضعفاء من الناس ما تراه من المنكرات، وتكسر ما تجده عندهم من أواني الخمر، وهذه عندنا من الأواني ما تراه، فهل تستطيع أن تغير ذلك علينا؟ فقال له: أنا ضعيف أنكر على مثلي من الضعفاء لقدرتي على ذلك، وأما أنت يا سلطان فكما قال الله عز وجل: {ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا} (¬1) فبكى السلطان [5أ] وقال: وأنا أيضًا، فأنكر علي، وقم وارم بهذه الأواني من هذه الطاقات. فقام، ورمى بها، وتاب السلطان، فلم يعد إلى شيء مما كان عليه. فإذا عرفت أن للسلاطين تلك المحاسن، وتلك المساوئ، ونظرت إلى ذلك بعين الصواب، علمت أن فيه من خصال الخير ما نفعه لك ولغيرك، أكثر من الضر، وقد عرفت ما يقوله أهل الفقه وغيرهم أن محبته لخصال خير فيه مما لا بأس به، فإذا كانت هذه المحبة جائزة، فكيف لا يجوز ما هو دونها من الاتصال بها لأحد الأسباب المتقدم ذكرها؟ مع كون المتصل به على الرجاء بأن يقبل منه موعظة، أو يترك بعض ما يفارقه حياء منه، فإن منزلة العلم والفضل لها من المهابة في صدر كل أحد، والتعظيم لها، والحشمة منها ما لا يخفى إلا على بهيمي الطبع، ولا ينكر ذلك إلا مسلوب الفهم. وعلى كل حال فمواصلته لتلك الأسباب لا يتردد أحد في جوازها، بل قد تكون في بعضها حسنًا، بل قد تكون واجبًا إذا لم يتم الواجب إلا به، أو لم يندفع المحرم إلا به، وهذا لا يخفى على أدنى الناس علمًا وفهمًا. والممنوع هو مواصلته لا لمصلحة دينية تعود على فرد من أفراد المسلمين، أو أفراد، إذا ترتب على ذلك مفسدة، فكيف وقد ثبت في الكتاب العزيز الأمر بطاعة أولي الأمر، وجعل الله أولي الأمر وطاعتهم بعد طاعة الله ¬

(¬1) [طه: 105 - 107].

سبحانه، وطاعة رسوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - (¬1). وتواتر في السنة المطهرة في الأمهات وغيرها، أنها تجب الطاعة لهم (¬2)، والصبر على جورهم. وفي بعض الأحاديث الصحيحة المشتملة على الأمر بالطاعة لهم أنه قال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك " (¬3). وصح عنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -أنه قال: " أعطوهم الذي لهم، واسألوا الله الذي لكم " (¬4)، وصح في السنة المطهرة أنها: " تجب الطاعة لهم ما أقاموا الصلاة " (¬5). ¬

(¬1) يشير على قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} [النساء: 59]. (¬2) منها ما أخرجه البخاري في صحيحه (7142) من حديث أنس مرفوعًا: " اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله ". ومنها: ما أخرجه البخاري رقم (7144) ومسلم رقم (38/ 1839) من حديث ابن عمر قال: قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ". (¬3) أخرجه مسلم رقم (52/ 1847) من حديث حذيفة بن اليمان: أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنسان " قال قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: " تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع ". (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3603) ومسلم رقم (45/ 1843). من حديث عبد الله قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها " قالوا: يا رسول الله كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال: " تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم ". (¬5) أخرج مسلم في صحيحه رقم (66/ 1855): من حديث عوف بن مالك الأشجعي قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم، ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنوهم ويلعنونكم " قالوا لنا: يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك قال: " لا. ما أقاموا فيكم الصلاة. لا. ما أقاموا فيكم الصلاة. لا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئًا من معصية الله، فليكره ما يأتي معصية الله. ولا تنزعن يدًا من طاعة ".

وفي بعضها: " ما لم يظهر منهم الكفر البواح " (¬1) فإذا أمروا أحدًا من الناس أن يتصل بهم لم يجل له أن يمتنع، على فرض أنه لم يكن في اتصاله شيء من تلك الأسباب المتقدمة، وعليه أن لا يدع ما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الممكن من ذلك، وإلا فهو معذور ولا إثم عليه، إلا إذا حصل منه الرضاء والمتابعة، كما تقدم في الحديث (¬2) الصحيح. وأخرج ابن ماجه (¬3) والحاكم (¬4) وصححه، والبزار (¬5) واللفظ له من حديث ابن عمر عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -قال: " السلطان ظل الله في الأرض، يأوي إليه كل مظلوم من عباده، فإن عدل كان له الأجر [5ب] وعلى الرعية الشكر وإن جار أو حاف أو ظلم كان عليه الوزر، وعلى الرعية الصبر ". وصح عن رسول الله حديث: " الدين النصيحة "، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: " لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم " (¬6). فإن قلت: ما حكم ما بأيديهم في بيوت الأموال، مع وقوع ما فيه ظلم على الرعية، ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7055، 7056) ومسلم رقم (42/ 1709) من حديث عبادة بن الصامت قال: " بايعنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان ... ". (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) في " السنن " (4019). (¬4) في " المستدرك " (4/ 540). (¬5) في مسنده رقم (1590 - كشف) وهو حديث ضعيف. (¬6) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (95/ 55) وأبو داود رقم (4944) والترمذي رقم (1926) وقال: حديث حسن صحيح. والنسائي (7/ 156) من حديث تميم الداري وهو حديث صحيح.

ولو في بعض الأحوال، هل يجوز قبول ما يجعلونه منه لأهل المناصب؟. قلت: نعم، للحديث السابق أنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -قال لعمر: " ما أتاك من هذا المال، وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك " (¬1). وثبت أنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -فرض الجزية على أهل الكاتب، وكانت من أطيب المال داخله، مع أن في أموالهم ما هو أثمان من الخمر والخنزير، ومن الربا فإنهم يتعاملون به، وصح عنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -أنه استقرض من يهودي طعامًا، ورهن درعه. فيأخذ من له جراية من بيت مال المسلمين ما يصل إليه منه من غير كشف عن حقيقته، إلا أن يعلم أن ذلك هو الحرام بعينه، على أن هذا الحرام الذي أخذه السلطان من الرعية على غير وجهه، قد صار إرجاعه إلى مالكه مأيوسًا، وصرفه في أهل العلم والفضل واقع في موقعه، ومطابق لمحلة، لأنهم مصرف للمظالم، بل أحسن مصارفها. ثم هذا المزري على من يتصل بسلاطين الإسلام، من أهل العلم والفضل، قد لزمه لزومًا بينًا، أن يتناول هذا الطعن كل من اتصل بسلاطين الإسلام، منذ انقراض خلافة النبوة إلى الآن، فإنه لا بد في كل زمان من طعن طاعن، ولا بد أيضًا من صدور ما ينكر من أهل الولايات، وإن كثر منهم ما يعرف، ولهذا يقول الصادق المصدوق: " الخلافة بعدي ثلاثون عامًا ثم تكون ملكا عضوضًا " (¬2) كما تقدم. ولا بد للملك العضوض من أن يصدر عنه ما ينكر، ولو نادرًا، ولهذا لم تتفق الكلمة من جميع الناس، على براءة ملك من ملوك الأرض، من تلبسه بنوع من أنواع الجور، واتصافه بالعدل المطلق، الذي لم تشبه شائبة، ولا قدحت فيه قادحة: إلا عمر بن عبد العزيز رحمه الله. ¬

(¬1) تقدم آنفًا. (¬2) تقدم تخريجه. وانظر " فتح الباري " (8/ 77).

ولا يمكن حصر عدد من يتصل - من أهل العلم والفضل -، بسلاطين قرن من القرون، بل بسلاطين بعض القرن في جميع الأرض، ونحن نعلم علمًا يقينًا، أنه لا بد لكل ملك وإن كانت ولايته خاصة بمدينة من مدائن الإسلام، فضلاً عن قطر من الأقطار فضلاً عن كثير من الأقطار، أن يكون معه جماعة ممن يلي المناصب الدينية، وإلا لم يستقم له أمر، ولا تمت له ولاية، ولا حصلت له طاعة، ولا انعقدت له بيعة يعلم هذا كل عاقل من المسلمين [6أ] فضلاً عن أهل العلم منهم. وإذا كان الأمر هكذا، فكم لهذا الطاعن المشئوم من خصوم، قد لا يعد لأحقرهم قدرًا، وأقلهم علمًا وفضلاً وهو لا يخرج عن قسمين: إما أن يكون من قسم المغتابين، أو قسم الباهتين، ولهذا يقول الصادق المصدوق- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إن كان فيه ما تقوله فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقوله فقد بهته " (¬1)، فهو واقع في المأثم العظيم، والذنب الوخيم، على كل تقدير وفي كل حالة. ثم هذا المزري على من يتصل بسلاطين الإسلام، من أهل العلم والفضل القائمين بالمناصب الدينية، قد وقع في إساءة الظن بجميع من اتصل بهم على الصفة التي بيناها، من دخول جميع هذا الجنس تحت سوء ظنه، وباطل اعتقاده، وزائف خواطره، وفاسد تخيلاته، وكاسد تصوراته، وفي هذا ما لا يخفى من مخالفة هذه الشريعة المحمدية، والطريقة الإيمانية. ومع هذا فالمتصل بهم من أهل المناصب الدينية، قد يغضي في بعض الأحوال عن شيء من المنكرات، لا لرضًا به، بل لكونه قد اندفع بسعيه ما هو أعظم ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2589) وأبو داود رقم (4874) والترمذي رقم (1934) وقال: حسن صحيح. وأحمد (2/ 230، 384) والدارمي (2/ 299) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. * بهته: أي كذبت وافتريت عليه. " النهاية " (1/ 165).

منه، ولا يتم له ذلك إلا بعدم التشدد فيما هو دونه، وهو يعلم أنه لو تشدد في ذلك الدون، لوقع هو وذلك الذي هو أشد منه وأشنع وأفظع، كما يحكى عن بعض أهل المناصب الدينية أن سلطان وقته أراد ضرب عنق رجل لم يكن قد استحق ذلك شرعًا، فما زال ذلك العالم يدافعه ويصاوله ويحاوره، حتى كان آخر الأمر الذي انعقد بينهما، على أن ذلك الرجل يضرب بالعصا على شريطة اشترطها السلطان، وهو أن يكون الذي يضربه ذلك العالم، فأخرج الرجل إلى مجمع الناس الذين يحضرون في مثل ذلك للفرجة، فضربه ضربات فتفرق ذلك الجمع، وهم يشتمون أقبح شتم، وهم غير ملومين؛ لأن هذا في الظاهر منكر، فكيف يتولاه من هو المرجو لإنكار مثل ذلك؟ ولو انكشفت لهم الحقيقة، واطلعوا على أنه بذلك أنقذه من القتل، وتفاداه بضرب العصا، عن ضرب السيف، لرفعوا أيديهم بالدعاء له، والترضي عنه. ويظن الجهول قد فسد الأمر ... وذاك الفساد عين الصلاح ومن هذا القبيل، ما حكاه صاحب الشقائق أن سلطان الروم أمر بقتل جماعة كثيرة من أهل الأسواق؛ لكونهم لم يمتثلوا ما أمر به [6ب] من تسعير بعض البضائع، فخرج السلطان، وقد صفوا للقتل، فقام بعض العلماء، وقرب من السلطان وهو راكب، فقال: هؤلاء لا يسوغ قتلهم في الشريعة، فذكر له السلطان أنهم خالفوا أمره، وأنه لا عذر من قتلهم، فقال العالم: هم يذكرون أنه لم يبلغهم ما عزم عليه السلطان، فوقف السلطان مركوبه، وقد ظهر عليه من الغضب، ما ظهر أثره ظهورًا بينًا، وقال: ليس هذا من عهدتك، فقال: لا: هو من عهدتي، لأن فيه حفظ دينك، وهو من عهدتي، فأطلقهم السلطان وسلموا. فانظر؛ هذا العالم وبصره في إنكار المنكر، فإنه لو قال له ابتداء، إن مخالفة أمرك لا توجب عليهم القتل، لكان ذلك القول مما يوبقهم، لا مما يطلقهم، ولو سكت عند قول السلطان ليس هذا من عهدتك، لقتلوا، لكنه جاء بوسيلة مقبولة، تؤثر في النفس أعظم تأثير.

ولا شك أن مساعدته في مخالفة أمر السلطان، وعدوله إلى أنه لم يبلغهم الأمر، إذا سمعها من لا يعرف الحقائق، أنكر عليه وقال وكيف يكون أمر السلطان في تسعير بضاعة أو نحو ذلك موجبًا لقتل من لم يمتثل، وعد ذلك من المداهنة، وعدم التصميم على الحق، ولو عقل ما عقله ذلك العالم الصالح، لعلم أنه قد جارى السلطان مجاراة كانت سببًا لسلامة جماعة كثيرة من المسلمين، ولو لم يفعل ذلك لقتلوا جميعًا. إذا عرفت هذا، وتبين لك أن الأفعال المخالفة للشريعة، في بعض الحالات، وكذلك الأحوال التي تكون ظاهرة المخالفة قد تكون على خلاف ما يقتضيه الظاهر، ومتبين أنها من أعظم الطاعات، وأحسن الحسنات، فكيف ما كان منها محتملاً؟ هل ينبغي لمسلم أن يسارع بالإنكار، ويقتحم عقبة المحرم من الغيبة أو البهت وهو على غير ثقة من كون ما أنكره منكرًا، وكون ما أمر به معروفًا؟ وهل هذا إلا الجهل الصراح، أو التجاهل البواح؟. دع هذا، وانتقل عنه إلى شيء لا يحمل عليه الجهل، بل مجرد الحسد أو المنافسة، كما هو الغالب، على ما تقدم بيانه، فإن أهل المناصب الدينية من القضاة ونحوه، إذا اشتغل صاحبه بما وكل إليه، وتجنب ما فيه عمل الملوك وأعوانهم، من تدبير المملكة، وما يصلحها وما تحتاج إليه، ويقوم بجندها، وأهل الأعمال فيها، إلا إذا اقتضى [7أ] الحال الكلام معهم فيما يوجبه الشرع، من أمر بمعروف أو نهي عن منكر، والقيام في ذلك بما تبلغ إليه الطاقة، ويقتضيه طبع الوقت، فهل مثل هذا حقيق من عباد الله الصالحين، بالدعوات المتكررة بالتثبيت والتسديد، واستمداد الإعانة من رب العالمين، أم هو حقيق بالثلب والاغتياب، خبطًا وجزافًا وحسدًا ومنافسة، وهل هذا شأن الصالحين من المؤمنين أم شأن إخوان الشياطين؟ كما قال الشاعر: إن سمعوا الخير يخفوه وإن سمعوا ... شرًا أذاعوا وإن لم يسمعوا أفكوا وكما قال: إن يسمعوا سبة طاروا بها فرحًا ... عني وما سمعوا من صالح دفنوا

فكيف إذا كانوا لا يسمعون إلا خيرًا، ولا يعدد المعددون إلا مناقبًا، فما أحق من كان ذا عقل ودين، أن لا يرفع إلى مخرقتهم رأسًا، ولا يفتح لخزعبلاتهم أذنًا، كما قلت من أبيات (¬1) [فما] (¬2) الشم الشوامخ عند ريح ... تمر على جوانبها تمود ولا البحر الخضم يعاب يومًا ... إذا بالت بجانبه القرود اجتمعت، في أيام الطلب، بجماعة من أهل العلم، فسمعت من بعض أهل العلم الحاضرين، ثلبًا شديدًا لوزير من الوزراء، فقلت للمتكلم: أنشدك الله يا فلان، أن تجيبني عما أسألك عنه وتصدقني، قال: نعم، قلت له: هذا الثلب الذي جرى منك، هل هو لوازع ديني تجده من نفسك، لكون هذا الذي تثلبته ارتكب منكرًا، أو اجترى على مظلمة أو مظالم؟ أم لكونه في دنيا حسنة وعيشة رافهة؟ ففكر قليلاً، ثم قال: ليس ذلك إلا لكون الفاعل ابن الفاعل، يلبس الناعم من الثياب، ويركب الفاره من الدواب ثم عدد من ذلك أشياء، فضحك الحاضرون، وقلت له: أنت إذن ظالم له، تخاطب بهذه المظلمة بين يدي الله، وتحشر مع الظلمة في الأعراض، وذلك أشد من الظلم في الأموال، عند كل ذي نفس حرة ومريرة مرة، وبهذا يقول قائلهم: يهون علينا أن تصاب جسومنا ... وتسلم أعراض لنا وعقول [7ب] وبالجملة، فإني أظن أن الظلمة في الأعراض، أجرأ من الظلمة في الأموال، لأن ظالم المال قد صار له وازع على الظلم، وهو المال، الذي به قيام المعاش، وبقاء الحياة، ثم قد حصل له من مظلمته ما ينتفع به في دنياه، وإن كان سحتًا يحتاجه حرامًا. وظالم الأعراض لم يقف إلا على الخيبة والخسران، مع كونه فعل جهدًا من لا جهد له، وذلك مما تنفر عنه النفوس الشريفة، وتستصغر فاعله الطبائع العلية، والقوى الرفيعة. ¬

(¬1) الشوكاني في ديوانه (ص124، 125). (¬2) في الديوان وما.

فائدة: اعلم أن الأمر بالمعروف (¬1)، والنهي عن المنكر، هما أعظم أساطين الدين، وحكم قناطر الإسلام، وأهم أحكام الشريعة المطهرة، بل هما إذا كانا قائمين كان الدين على أتم قيام، وأكمل نظام، وإن لم يكونا قائمين في العباد، ولم يوجد في البلاد من يقوم بهما: تخولفت الشرائع الإسلامية، وتعطلت الشعائر الإيمانية، وقال من شاء من أهل الجسارة ما شاء، وفعل من لم يكن زاجر ديني ما أراد، لعدم وجود من يأخذ على أيديهم من القائمين بحجة الله في عباده. ولهذا وردت الآيات القرآنية، والأحاديث الصحيحة في الحث على ذلك، والمدح العظيم لفاعلهما، والزجر الوخيم لتاركهما، فمن قدر على ذلك، فقد حمل العبء الكبير، وقام بالأمر الجليل الخطير، ولا يزال يزداد قوة وتمكنًا وثباتًا، حتى يتم له ما لم يكن له في حساب، ولا خطر له على بال، ولا مر له على خيال، وصار رأسًا للفرقة التي قال فيها الصادق المصدوق: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين " (¬2)، وكان من القائمين بحجة الله في بلاده، على عباده، وفاز بالأجر العظيم الذي وعد الله سبحانه به عباده الصالحين، القائمين بما قام به، وإن أدرك من النفس الأمارة بعض جبن في بعض الأحوال، وأنس من طبيعته خورًا وضعفًا في بعض المقامات، فليعلم أن ذلك من وسوسة الشيطان الرجيم، لأنه أشد ¬

(¬1) تقدم ذكر أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. (¬2) * أخرجه البخاري رقم (3640) ومسلم رقم (171/ 1921) من حديث المغيرة. * وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (170/ 1920) من حديث ثوبان قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ". * وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (3641) ومسلم رقم (174/ 1037) من حديث معاوية قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس ".

عليه من القائمين في مقامات العبادة، والقاعدين في مقاعد الزهد والورع، والمستكثرين من طاعة الله عز وجل، والعازفين نفوسهم عن معاصيه، وذلك أن كل واحد من هؤلاء صار يجاهد الشيطان عن نفسه ويدفعهم عن حوضه، ويفارقه عن عشه وبيضه، ويذوده عن أن يتعرض لشيء من طاعاته بالتشكيك عليه، أو الوسوسة له، وهذه مصلحة خاصة بنفس هذا الرجل الصالح المشتغل بمراضي الله عز وجل، المجتنب لمغاضبه. وأما القائم بما أمره الله به من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فهو قائم لإصلاح عباد الله، بعد إصلاحه نفسه، فلا يزال زاجرًا لهم عن المنكرات، مرغبًا لهم في أنواع الطاعات، ومحذرًا لهم من مكر الشيطان الرجيم، مبينًا لهم ما ينصبه من حبائل الخذلان لعباد الله، وما يزينه لمن لم يرسخ قدمه في الإيمان، ومن هذه الحيثية كان مقامه عام النفع [8أ] ومصلحته شاملة للجمع الجم، فهو في حكم المصاول للشيطان عن عباد الله سبحانه، المحاول له عند أن يريد الإغواء بالأهواء، والاستدراج بشهوات الأنفس، من التنعم باللذات، والتمتع بالمحرمات، والتلذذ بالموبقات، فهو العدو الأكبر لفريق الشياطين أجمعين، والقائم في كل مواطنه بالمحاربة لهم، عن أن يتم كيدهم على أحد من عباد الله الصالحين، والمصاولة لهم عن أن يتسلطوا على أحد من المؤمنين أجمعين (¬1). ¬

(¬1) أقوال العلماء في الدخول على السلطان: * القول الأول: ما ذهب إليه جمهور السلف من النهي عن التردد على أبواب السلاطين، واعتزالهم، قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله: " وقد كان كثير من السلف ينهون عن الدخول على الملوك لمن أراد أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر أيضًا، وممن نهى عن ذلك عمر بن عبد العزيز وابن المبارك والثوري وغيرهم من الأئمة ". * القول الثاني: هو كراهة الدخول على السلاطين، وهو ما ذهب إليه الحافظ ابن رجب الحنبلي فيما يبدو من كلامه فقد قال: " ومن هذا الباب أيضًا كراهة الدخول على الملوك والدنو منهم، وهو الباب الذي يدخل منه علماء الدنيا إلى نيل الشرف والرياسة فيها ". * القول الثالث: هو جواز الدخول عليهم لكن مع تقييد ذلك الأمر وحصره بشروط وهو الرأي الذي ذهب إليه بعض السلف والخلف، وهو رأي مالك رحمه الله وانتصر له إمام المغرب ابن عبد البر النمري الأندلسي: قيل للإمام مالك إنك تدخل على السلطان وهم يظلمون ويجورون؟ فقال: يرحمك الله، فأين المكلم بالحق! " وقال مالك: " حق على كل مسلم أو رجل جعل الله في صدره شيئًا من العلم والفقه أن يدخل إلى ذي سلطان يأمره بالخير وينهاه عن الشر ويعظه حتى يتبين دخول العالم إنما يدخل على السلطان يأمره بالخير وينهاه عن الشر، فإذا كان فهو الفضل الذي ليس بعده فضل ". انظر: " ترتيب المدارك " (1/ 207). ونجد أن الشوكاني في رسالته هذه يذكر أقوالاً ثلاثة في مسألة الدخول على السلاطين: 1 - أن الاتصال بالسلاطين جائز وحسن. 2 - أن الاتصال بالسلاطين واجب. 3 - أن الاتصال بالسلاطين ممنوع. وأما عن كونه جائز وحسن، فلأن الاتصال مرتبة دون المحبة، كما سلف القول، ومحبة السلاطين جائزة لخصالهم الخيرة، ولا يتردد عالم في القول بجواز هذا الاتصال سيما إن كان سيترتب عليه جلب منافع للأمة. أما عن كونه واجبًا، ففي حالة إذا لم يتم الواجب إلا به، أو لم يندفع المحرم والضرر إلا به، وذلك انطلاقًا من قاعدة أصولية جوهرها أن: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ". أما الصورة الثالثة: وهي الاتصال الممنوع بالسلاطين، فهو مواصلتهم لا لمصلحة دينية تعود آثارها الإيجابية على الأمة، أو إذا ترتب على هذا الاتصال فساد يلحق بالمجتمع بأي صورة من صور الفساد. * قال عبد الرحمن الشيزري في " المنهج المسلوك في سياسة الملوك " (ص690): اعلم أن استيلاء الدنيا على الملوك وإقبالهم عليها ربما شغلهم عن أمر الآخرة، وأغفلهم عن مهمات الدين، فيجنحون إلى اللذات ويهملون أمر الديانات، لأن النفوس مطبوعة على الميل إلى الترف وإيثار التنعم وكراهة التكليف، فلا ينبغي أن تخلو مجالسهم من علماء الدين، وأصالح المتنسكين لينهوهم عند طريان الغفلة، ويذكروهم عند ضراوة الشهوة، ويوضحون لهم نهج الآخرة ومعالم الشريعة، وقد كان ذلك شعار الملوك الغابرين والخلفاء الراشدين في مجالسهم الحكماء واستماع مواعظ العلماء وكانوا في ذلك ثلاث طبقات. 1 - طبقة لما سمعوا الموعظة والتذكير نبذوا ملك الدنيا الذي يفنى ليتعاضوا عنه ملك الآخرة الذي يبقى، واخرجوا ذلك من قلوبهم وأيديهم واهتموا بأمر الآخرة، والعمل لها لينالوا الفوز الكبير، والنعيم الدائم. 2 - طبقة عند سماع الموعظة أخرجوا ملك الدنيا من قلوبهم ولم يخرجوه من أيديهم، واهتموا بأمر الآخرة مع بقائهم في الملك وهذه الطبقة مجاهدتهم عظيمة ومثلهم في ذلك من ألزم نفسه الظمأ وبحضرته نهر بارد ينظر إليه ويقدر على تناوله وشربه. وهذا مقام الخلفاء الراشدين، وأمرائهم وعمالهم ومن سلك سبيلهم. 3 - طبقة أصمهم حب الدنيا، ونيل لذاتها، عن استماع المواعظ وأعمى أبصارهم عن كل مذكر، وواعظ فآثروا اللذات على المهمات، وقطعتهم الشهوات عن أمور الديانات. انظر: كتاب " السياسة " للمرادي (ص67) فقد قال: " سلطان عدل وإمامة وسلطان جور وسياسة وسلطان تخليط وإضاعة ".

وبهذا تعلم أنه قد أسفر الصبح لذي عينين، بأن بين المقامين مسافات تتقطع فيها أعناق الإبل، ومفاوز تبيت دونها سوابق المطي، بل بين المقامين ما بين الأرض والسماء، ولا بد أن ينتهي أمر هذا القائم بحجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى التمام على ما يطابق المرام ويوافق رضاء الملك العلام، لأنه قام هذا المقام؛ لتكون كلمة الله هي العليا، وذو الحق غلاب بنصوص السنة والكتاب. وقد صح عنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -أنه " سئل عن الرجل يقاتل حمية وشجاعة، ويرى موضعه، أيهم في سبيل الله فقال: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " (¬1). فهذا القائم بحجة الله عز وجل هو في أعظم الجهاد وهو في سبيل الله عز وجل، لأنه لم يفعل ذلك لغير هذا القصد، فإن لم ينجز عمله، ويحصل أمله بسرعة حصل ولو بعد حين، كما وعد الله سبحانه عباده. ويتصور عند قيامه في هذا المقام تصفية النية من كدورات الرياء، والمقاصد التي ليست ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (2810) و (7458) ومسلم رقم (1904).

من الدين، وبتصور ما أمر الله عز وجل به، من الإخلاص، وحث عباده عليه، ويستحضر قول الصادق المصدوق- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إنما الأعمال بالنيات " (¬1) فإنها قضية كلية جامعة مانعة نافعة، لا سيما بعد ضم ما ضمه رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -إلى هذه الجملة من قوله: " وإنما لكل امرئ ما نوى "، ثم تصوير ذلك وتمثيله منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -بقوله: " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، كانت هجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها كانت هجرته إلى ما هاجر إليه ". فإن فارق الإخلاص، ولو بمسافة يسيرة، فقد لا يتم له ما يريد بهذا السبب لا بسبب خلل في المقام الذي قامه، فإنه مقام المرسلين، والعلماء العاملين، وعباد الله الصالحين. ورويت في كتب التاريخ [8ب] قصة، لبعض القائمين في هذا المقام، وهو أنه وقف على آنية من الخمر، قد حمل من بعض المواضع التي يستجاد خمرها لبعض الملوك، ورأى الحاملين له قد أخرجوها من المركب إلى خارج البحر ليحملوها على الدواب بعد أن حملوها على السفن في البحر فأخذ عودًا ثم ما زال يكسرها، حتى بقيت واحدة منها، فوقف عندها قليلاً، ثم تركها ورمى بالعصى، فأخذه الواصلون بها، وقد اجتمع عليه جمع، وما شكوا أن الملك يقتله، فلما وصل إلى الملك، وقد اشتد غضبه، فقال: ما حملك على ما صنعت من الاستخفاف بنا، والإقدام على متاعنا، فقال: لم أستخف بك، بل فعلت ما أمرني الله به، وأخذه علي من النهي عن المنكر، فقال له: فما سبب تركك لواحد منها، قال: أدركت نزغة من نزغات العجب، قد أوقعها الشيطان في قلبي، فتركت كسر ذلك الواجب منها، كي لا أكسره على غير نية صحيحة مخلصة لله عز وجل. فلما سمع ذلك الملك خلى سبيله، ولم يكن له عليه سبيل. وفي هذا المقدار كفاية. والحمد لله أولاً وآخرًا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله. ¬

(¬1) تقدم تخريجه. وهو حديث صحيح.

بحث في حديث العين المسروقة إذا وجدها المالك

(151) 49/ 2 بحث في حديث العين المسروقة إذا وجدها المالك تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في حديث العين المسروقة إذا وجدها المالك. 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين، ورضي الله عن الصحابة الراشدين وبعد فإنه ورد هذا السؤال. .. . 4 - آخر الرسالة: وتخصيص المتواتر بالآحاد هو المذهب الراجح والقول الصحيح. وإلى هنا انتهى الجواب عن السؤال بمعونة ذي الجلال والإفضال بقلم المجيب الحقير محمد بن الشوكاني غفر الله لهما. 5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول. 6 - عدد الصفحات: 8 صفحات ما عدا صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 22 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 8 كلمة. 9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني. 10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين، ورضي الله عن الصحابة الراشدين. وبعد: فإنه ورد هذا السؤال من بعض الأعلام المبرزين - كثر الله فوائدهم - في علوم الدين، ولفظه: [السؤال] من حسناتكم - كثر الله فوائدكم - الكلام على هذه الأحاديث مستوفى بما يزيل شبهة التعارض. أخرج النسائي (¬1) من حديث أسيد بن حضير أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -- قضى أنه إذا وجدها يعني السرقة في يد رجل غير المتهم، فإن شاء أخذها بما اشتراها، وإن شاء اتبع سارقه، وقد قضى بذلك أبو بكر وعمر. وقد أخرجه أبو داود في المراسيل (¬2). وأخرج النسائي (¬3) شاهدًا له من حديث أسيد بن ظهير (¬4). وأخرج أبو داود (¬5)، .............................................. ¬

(¬1) في " السنن " رقم (4679) بإسناد حسن. والراوي أسيد بن ظهير وقد تحرف في المطبوع إلى حضير. . (¬2) رقم (192). (¬3) في " السنن " رقم (4680) وهو حديث صحيح. (¬4) في حاشية المخطوط ما نصه: " ... السائل رحمه الله أن الحديث من رواية أسيد بن حضير وشاهده من رواية أسيد بن ظهير، والذي ظهر بعد البحث أن الحديثين من رواية أسيد بن ظهير وليس لأسيد بن حضير في ذلك رواية حسبما نبه على ذلك المزي في الأطراف وكذا في غيره فليحقق انتهى. انظر: " تحفة الأشراف في معرفة الأطراف " (1/ 75). (¬5) في " السنن " رقم (3531).

وأحمد (¬1)، والنسائي (¬2)، عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به، ويتبع البيع من باعه "، وفي لفظ: " إذا سرق من الرجل متاع أو ضاع منه، فوجده بيد رجل بعينه فهو أحق به، ويرجع المشتري على البائع بالثمن " رواه أحمد (¬3)، وابن ماجه (¬4). انتهى السؤال. ¬

(¬1) في " المسند " (5/ 18). (¬2) في " السنن " رقم (4681). وهو حديث ضعيف. (¬3) في " المسند " (5/ 14). (¬4) في " السنن " رقم (2331). وهو حديث ضعيف. انظر: " الضعيفة " (1627).

[الجواب] وأقول: مستعينًا بالله، ومتوكلاً عليه أن الجواب على الوجه الذي طلبه السائل - كثر الله فوائده - ينحصر في وجوه أربعة: الأول: الكلام على إسناد حديث أسيد بن حضير فأقول: قال النسائي [1أ] (¬1) أخبرني هارون بن عبد الله، حدثنا حماد بن مسعدة عن ابن جريج، عن عكرمة بن خالد قال: حدثني أسيد بن حضير ... فذكره. وكل هؤلاء ثقات أثبات من رجال الصحيح، أما هارون بن عبد الله (¬2) فهو البغدادي الحمال بالمهملة، البزاز، وثقه الحفاظ (¬3)، وحديثه في صحيح مسلم وغيره، وأما حماد بن مسعدة (¬4) فهو التميمي أبو سعيد البصري. وقد أخرج حديثه الجماعة كلهم ووثقه الأئمة، وأما ابن جريج (¬5) فهو الإمام الحجة المشهور، وحديثه في الصحيحين وغيرهما. وأما عكرمة بن خالد (¬6) فهو المخزومي ثقة مشهور، حديثه في الصحيح وغيره؛ فهؤلاء كلهم ثقات أثبات، حديثهم ثابت في الصحيح، والاحتجاج بهم متفق عليه، وكل واحد منهم أدرك شيخه، وسمع منه. ¬

(¬1) في " السنن " (7/ 312 - 313) رقم (4679). من حديث أسيد بن حضير كما تقدم. (¬2) انظر " تهذيب التهذيب " (4/ 255). قال ابن حجر: سمي بذلك لأنه بزازًا فتزهد فصار يحمل الشيء بالأجرة ويأكل منه. (¬3) قال النسائي ثقة، وقال أبو حاتم وإبراهيم الحربي: صدوق، وذكره ابن حبان في " الثقات " وقال: مات سنة ثلاث وأربعين ومائتين. انظر المرجع السابق. (¬4) انظر " تهذيب التهذيب " (1/ 485). (¬5) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم أبو الوليد وأبو خالد المكي، أصله رومي. انظر: " تهذيب التهذيب " (2/ 616 - 617). (¬6) انظر " الميزان " للذهبي (3/ 90 رقم 5711). " تهذيب التهذيب " (3/ 131 - 132).

والأصل عدم وجود العلة القادحة، لا سيما في أحاديث مثل هؤلاء الثقات؛ فالحديث صحيح لصحة إسناده. الوجه الثاني: في الكلام على إسناد الشاهد الذي أشار إليه السائل - كثر الله فوائده -. فأقول: سياق إسناده ومتنه هكذا: قال النسائي (¬1) أخبرنا عمرو بن منصور، حدثنا سعيد بن ذؤيب، حدثنا عبد الرازق عن ابن جريج، أخبرني عكرمة بن خالد أن أسيد بن ظهير الأنصاري، ثم أحد بني حارثة أخبره أنه كان عاملاً على اليمامة، وأن مروان كتب أن معاوية كتب إليه أن أيما رجل سرق منه سرقة فهو أحق بها حيث ما وجدها، ثم كتب بذلك مروان إلي، فكتبت إلى مروان أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " قضى بأنها إذا كان الذي ابتاعها من الذي سرقها غير متهم يخير سيدها [1ب] فإن شاء أخذ الذي سرق منه بثمنها، وإن شاء اتبع سارقه " ثم قضى بذلك أبو بكر، وعمر، وعثمان، فبعث مروان بكتاب إلى معاوية، فكتب معاوية إلى مروان: إنك لست أنت ولا أسيد تقضيان علي، ولكن أقضي فيما وليت عليكما، فأنفذ لما أمرتك به فبعث مروان بكتاب معاوية فقلت: لا أقضي بما وليت بما قال معاوية وهذا الإسناد رجاله ثقات. أما عمرو بن منصور (¬2) فهو النسائي أبو سعيد، أخرج حديثه النسائي وقال: إنه ثقة، مأمون، ثبت (¬3)، وأما سعيد بن ذؤيب (¬4) فهو المروزي، أخرج له النسائي، ووثقه، وذكره ابن حبان في الثقات (¬5)، وأما عبد الرازق فهو الإمام الكبير الحجة، وأما ابن ¬

(¬1) في " السنن " 7/ 313 رقم 4680 (). (¬2) انظر " تهذيب التهذيب " (3/ 306). (¬3) ذكره ابن حجر في " التهذيب " (3/ 306). والذهبي في " الميزان " (3/ 289 رقم 6453). (¬4) انظر " تهذيب التهذيب " (3/ 16). " ميزان الاعتدال " (2/ 135 رقم 3167). (¬5) (8/ 270).

جريج (¬1)، وعكرمة بن خالد (¬2) فقد تقدم أنهما من رجال الصحيح، وأما أسيد بن ظهير (¬3) فهو صحابي أوسي، شهد الخندق، وله حديثان، هذا أحدهما (¬4)، ومات (¬5) في أيام مروان بن الحكم؛ فرجال الإسناد ثقات. وقد وقع في بعض النسخ مكان أسيد بن ظهير أسيد بن حضير، وهو وهم منشؤه من كون معنى الحديثين واحدًا، وكون الراوي عن كل واحد منهما عكرمة بن خالد، والراوي عنه ابن جريج. ولكن لا يصح ذلك، لأن أسيد بن حضير (¬6) مات سنة عشرين من الهجرة، وذلك في خلافة عمر، والقصة المذكورة واقعة في أيام معاوية، وإمارة مروان. وأسيد بن ظهير من جهته، وذلك إنما كان من سنة بعد أربعين من الهجرة، فكيف يدرك ذلك أسيد بن حضير! إنما أدركه أسيد بن ظهير؛ فإنه تأخر موته إلى أيام مروان [2أ] بن الحكم كما هو معروف (¬7). الوجه الثالث: في الكلام على إسناد حديث سمرة: فأقول: أخرجه أبو داود (¬8) عن عمرو بن عون، عن هشيم، عن موسى بن السائب عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، وأخرجه النسائي (¬9) فقال: حدثنا محمد بن داود، قال: حدثنا عمرو بن عون، حدثنا هشيم عن موسى بن السائب، عن قتادة، عن ¬

(¬1) تقدم ذكرهما. (¬2) تقدم ذكرهما. (¬3) انظر " تهذيب التهذيب " (1/ 176 - 177). (¬4) في حاشية المخطوط. أورد له الترمذي حديثًا في مسجد قباء وقال: لا يصح له غيره. (¬5) ذكره ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (1/ 176 - 177). (¬6) انظر " تهذيب التهذيب " (1/ 176). " الاستيعاب " (1/ 185 - 186 رقم 54). " الكاشف " (1/ 133). " الإصابة " رقم (185). (¬7) انظر " الإصابة " رقم (185). (¬8) في " السنن " رقم (3531). (¬9) في " السنن " (7/ 313 - 314 رقم 4681).

الحسن، عن سمرة؛ فرجال إسناديهما متحدون، إلا أن النسائي لم يرو عن عمرو بن عون إلا بواسطة، ولم يرو عنه كما روى عنه أبو داود، ومحمد بن داود (¬1) الذي روى النسائي عنه هو المصيصي. أخرج له أبو داود غير هذا الحديث كما أخرج له النسائي، وقال لا بأس به (¬2)، وقال أبو داود: ما رأيت أعقل منه، وقال في التقريب (¬3) إنه ثقة فاضل، وأما بقية رجال السند فعمرو بن عون هو السلمي الواسطي، وهو ثقة حجة. أخرج له الجماعة كلهم (¬4)، وأما هشيم (¬5) فهو الإمام المشهور، وكذلك قتادة والحسن، وأما موسى بن السائب (¬6) فقد وثقه أحمد بن حنبل، وليس العلة هاهنا إلا ما قيل من أن الحسن لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة (¬7). وقيل لم يسمع منه شيئًا. فالحديث لهذه العلة ضعيف، إلا ما قيل من تدليس بعض رجال الإسناد؛ فإن رجال الحديث المعتبرين لم ¬

(¬1) هو محمد بن داود بن صبيح أبو جعفر المصيصي. " تهذيب التهذيب " (3/ 557). (¬2) ذكره ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (3/ 557). (¬3) (2/ 160 رقم 200). (¬4) ذكره ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (3/ 296). (¬5) هشيم بن بشير بن القاسم بن دينار السلمي أبو معاوية بن أبي حازم الواسطي. " تهذيب التهذيب " (4/ 280 - 282). (¬6) هو موسى السائب أبو سعدة البصري ويقال الواسطي. " تهذيب التهذيب " (4/ 175). (¬7) أخرجه أحمد (5/ 7 - 8، 12، 17 - 18، 22) وأبو داود رقم (2838) والترمذي رقم (1522) والنسائي (7/ 166 رقم 4220) وابن ماجه رقم (365) والحاكم (4/ 237) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وهو حديث صحيح. وقد روى البخاري والنسائي عن الحسن أنه سمع هذا الحديث من سمرة فانتفت شبهة التدليس. انظر: " فتح الباري " (564). وانظر (الإرواء) رقم (1165).

يقبلوا من الحفاظ المتقنين الذين يقع منهم التدليس نادرًا إلا ما لم يدلسوا فيه وإن كان معنعنًا. وللبحث عن هذا موضع آخر ليس هذا موضعه [2ب]. الوجه الرابع: في بيان معاني متون هذه الأحاديث: أما حديث أسيد بن حضير ففيه الفرق بين وجود العين المسروقة في يد المتهم بسرقتها وبين وجودها في يد غير المتهم. وفيه بيان أحد الطرفين، وهو إذا وجدها في يد غير المتهم بأنه إن شاء أخذها بما اشتراها به، وإن شاء تبع السارق. وأما الطرف الآخر وهو وجودها في يد المتهم لسرقتها مسكوت عنه، وقد يكون حكمه مستفادًا من حكم المقابلة باعتبار مفهوم الشرط، فإن قوله: قضى أنه إذا وجدها في يد الرجل غير المتهم بكذا يدل على أن الحكم إذا وجدها في يد المتهم هو غير الحكم الثابت عند وجودها في يد غيره، فلا تعارض الرواية المذكورة في حديث سمرة بلفظ: " إذا سرق الرجل متاع، أو ضاع منه، فوجده بيد رجل بعينه فهو أحق به، ويرجع المشتري على البائع بالثمن ". ووجه عدم المعارضة أن لفظ رجل هاهنا مطلق، والرواية الأولى تقيده لأن فيها التفصيل بين المتهم وغيره، وذكر حكم الموجود من السرقة في يد أحدهما منطوقًا (¬1)، وحكم الموجود في يد الآخر مفهومًا (¬2)، فيحمل هذا المطلق على ذلك المقيد، ويكون هذا الرجل هو المتهم، فاندفع التعارض بينهما من هذه الحيثية، وكذلك لا تعارض بين حديث أسيد [3أ] بن حضير، وبين الرواية الأولى من حديث سمرة بلفظ: من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به، ويتبع البيع من باعه، وبيان عدم التعارض أن عين ماله اسم جنس مضاف (¬3)، وهو من صيغ العموم، فهو يشمل العين ¬

(¬1) تقدم توضيح معناه. (¬2) تقدم توضيح معناه. (¬3) قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص416): تعريف الإضافة وهو من مقتضيات العموم كالألف واللام من غير فرق بين كون المضاف جمعًا نحو عبيد زيد أو اسم جمع نحو جاءني ركب المدينة أو اسم جنس نحو: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}. انظر: " تيسير التحرير " (1/ 219).

المسروقة وغيرها، فيكون حديث أسيد بن حضير المصرح بحكم العين المسروقة مخصصًا له، لا سيما بعد تقييد العين المسروقة بأن يوجد في يد غير المتهم، فعلى هذا قد أمكن الجمع بين الحديثين، وهو مقدم على الترجيح فلا يصار إليه. وأما حديث أسيد بن ظهير الذي يشهد لحديث أسيد بن حضير، فهو وإن خالف حديث أسيد بن حضير في بعض ألفاظه، فهو موافق لمعناه، فيكون الجمع بينه وبين حديث سمرة كالجمع بين حديث أسيد بن حضير، وبين حديث سمرة. فإن قلت: حديث الحسن عن سمرة من قسم الضعيف لعدم سماعه منه، فلم يثبت حكم العام بدليل صحيح أو حسن. قلت: الحكم المستفاد من حديث سمرة هو معلوم من كليات الشريعة المطهرة وجزئياتها، أما كلياتها فكل دليل يدل على أن المالك لا يزول ملكه عنه إلا باختياره، ورضائه، وطيبة نفسه، فهو يدل على ما دل عليه حديث سمرة؛ لأن غاية ما في حديث سمرة أن الرجل وجد ماله الباقي في ملكه الذي [3ب] لم يخرج عن يده برضائه كما قال الله تعالى: {تجارة عن تراض} (¬1) ولا بطيبة نفسه كما قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه " (¬2)، وما خرج بغير ذلك فهو داخل تحت قوله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} (¬3)، وتحت قول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام " (¬4) ونحو ذلك من الأدلة المتبالغة في الكثرة. وأما كون هذا الحكم معلومًا من جزئيات الشريعة فهي كثيرة جدًا، ومن أقربها إلى ¬

(¬1) [النساء: 29]. (¬2) وهو حديث صحيح تقدم مرارًا. (¬3) [النساء: 29]. (¬4) وهو حديث صحيح تقدم.

معنى حديث سمرة، وألصقها به ما أخرجه الجماعة (¬1) كلهم من حديث أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " من أدرك ماله بعينه عند رجل أفلس فهو أحق به من غيره "، وفي لفظ (¬2) قال: " في الرجل الذي يعدم إذا وجد عنده المتاع، ولم يفرقه إنه لصاحبه الذي باعه " أخرجه مسلم (¬3)، والنسائي (¬4)، وفي لفظ: " أيما رجل أفلس، فوجد رجل عنده ماله ولم يكن اقتضى من ماله شيئًا فهو له " رواه أحمد (¬5). وأخرج أحمد (¬6) من حديث سمرة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " من وجد متاعه عند مسلم مفلس بعينه فهو أحق به ". وأخرج مالك في الموطأ (¬7)، وأبو داود (¬8) في المراسيل (¬9) من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " أيما رجل ابتاع متاعًا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقتض الذي باعه من ثمنه شيئًا، فوجد متاعه بعينه ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2402) ومسلم رقم (22/ 1559) وأحمد (2/ 228) وأبو داود رقم (3519) والترمذي رقم (1262) والنسائي (7/ 311) وابن ماجه رقم (2358). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (23/ 1559). (¬3) (23/ 1559). (¬4) في " السنن " (7/ 311). (¬5) في " المسند " (2/ 525). (¬6) في " المسند " (5/ 13). قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3531) والنسائي (7/ 313 رقم 4681). وقال ابن حجر في " الفتح " (5/ 64) إسناده حسن ولكن سماع الحسن من سمرة فيه مقال معروف. وهو حديث ضعيف. (¬7) (2/ 678 رقم 87). (¬8) في " السنن " رقم (3520) وهو حديث مرسل، وأبو بكر بن عبد الرحمن تابعي. (¬9) رقم (173).

فهو أحق به، وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة [4أ] الغرماء ". وقد أسنده أبو داود (¬1) من وجه آخر، فإذا كان هذا الحكم ثابتًا في السلعة التي في يد المفلس وقد صارت إليه برضى مالكها وطيبة نفسه من دون غصب، ولا سرق، فكيف بالعين التي خرجت لا برضائه، ولا بطيبة نفسه!. فإن قلت: إذا كان ما في حديث سمرة معلومًا من كليات الشريعة وجزئياتها، فكيف ساغ العمل بما في حديث أسيد بن حضير، وأسيد بن ظهير!. قلت: قد ثبتا عن الشارع، وهو الذي جاءنا بتلك الكليات والجزئيات، وأعلمنا بأن المالك أولى بملكه، وأحق به، فالكل شريعة ولا معارضة حتى يرجح القطعي على الظني، والمعلوم على مظنون، بل قد أمكن الجمع ببناء العام على الخاص، وتخصيص المتواتر بالآحاد هو المذهب الراجح (¬2)، والقول الصحيح. وإلى هنا انتهى الجواب عن السؤال بمعونة ذي الجلال والإفضال بقلم المجيب الحقير محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما [4ب]-. ¬

(¬1) " السنن " رقم (3522) وهو حديث صحيح. (¬2) قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص524): وكما يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الآحاد كذلك يجوز تخصيص العموم المتواتر من السنة بأخبار الآحاد. وانظر مزيد تفصيل: " البرهان " (1/ 246 - 430)، " المسودة " (ص19)، " البحر المحيط " (3/ 362).

مناقشة من القاضي العلامة محمد بن أحمد مشحم رحمه الله للبحث السابق (العين المسروقة) وهو السائل

(152) 49/ 2 مناقشة من القاضي العلامة محمد بن أحمد مشحم رحمه الله للبحث السابق (العين المسروقة) وهو السائل حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: مناقشة من القاضي العلامة محمد بن أحمد مشحم رحمه الله للبحث السابق (العين المسروقة) وهو السائل. 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: الحمد لله تعالى وصلى وسلم على سيدنا محمد وعلى آله. أشكل على الفقير أسير التقصير من هذا الجواب 4 - آخر الرسالة: وقضت به العقول أولى بالترجيح، وأحق بالقبول لدى النظر الصحيح والله تعالى أعلم. 5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول. 6 - عدد الصفحات: 3 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 23 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 11 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

الحمد لله تعالى، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله. أشكل على الفقير أسير التقصير من هذا الجواب المفيد حمل الحديثين على الإطلاق والتقييد، فرأيت أن أكتب ما على البال مذيلا به السؤال معروضًا على المجيب - نفع الله بعلومه المسلمين - وليس القصد به إلا استفادة الحق منه، لا تصوير الباطل بصورة اليقين. فأقول فيه أبحاث: الأول: حمل المطلق على المقيد لا يتم إلا فيما اتحد حكمهما (¬1)، نحو إن ظاهرت ¬

(¬1) في حالة اتحاد الحكم يقع الكلام في المطلق والمقيد على ستة أقسام: 1 - أن يكون السبب واحد وكل منهما أمر: نحو أعتقوا رقبة. ثم قال: أعتقوا رقبة مؤمنة، وهذا لا خلاف في أن المطلق فيه محمول على المقيد. 2 - أن يكون كل واحد من المطلق والمقيد نهيًا نحو أن تقول: لا تعتق رقبة ثم تقول: ولا تعتق رقبة كافرة فمن يقول بمفهوم الخطاب يلزمه أن يخصص النهي العام بالكفارة؛ لأن النهي الثاني عنده يدل على إجزاء من ليست كافرة. 3 - أن يكون أحدهما أمرًا والآخر نهيًا. نحو أعتق رقبة، ولا تعتق رقبة كافرة أو العكس: وهذا لا خلاف في حمل المطلق فيه على المقيد وتقييده به. 4 - أن يكون كل واحد منهما أمرًا ولكن السبب مختلف، نحو قوله تعالى في كفارة الظهار: {فتحرير رقبة} وفي كفارة القتل: {فتحرير رقبة مؤمنة} وهذا محل النزاع في هذه المسألة. 5 - أن يكون كل واحد منهما نهيًا والسبب مختلف نحو. لا تعتق رقبة في كفارة الظهار، ولا تعتق رقبة كافرة في كفارة القتل، فالقائل بالمفهوم وتقييد المطلق بالمقيد إن وجد دليل يلزمه تخصيص النهي العام بالكافرة. 6 - أن يكون أحدهما أمرًا والآخر نهيًا والسبب مختلف نحو: أعتق رقبة في كفارة الظهار ولا تعتق رقبة كافرة في كفارة القتل أو العكس نحو لا تعتق رقبة في كفارة الظهار ثم يقول أعتق رقبة مسلمة في كفارة القتل وحكمهما واحد. انظر: " الكوكب المنير " (3/ 395 - 408)، " اللمع " (ص24)، " إرشاد الفحول " (542 - 543).

فأعتق رقبة، إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة، فإن رقبة في الأولى مطلقة، وقد قيدت في الثاني بمؤمنة، فيحمل الإطلاق على التقييد، ويكون الواجب حينئذ رقبة مؤمنة، ومن ثمة اختلفوا فيما إذا تأخر المقيد، هل هو ناسخ للمطلق، أو بيان له؟ وذلك لا يكون إلا مع اتحاد الحكمين. وأما إذا اختلف (¬1) حكمهما فإنه لا يحمل المطلق على المقيد ضرورة تحالف الحكمين. فإذا قيل: إذا وجدت عالمًا فاكسه، وقيل: إذا وجدت عالمًا تميميًّا فأعطه دينارًا، فإنه وإن كان العالم مطلقًا في التركيب الأول، ومقيدًا في التركيب الثاني لا يحمل المطلق على المقيد؛ لأن الحكم في المطلق الأمر بالكسوة، وفي المقيد الأمر بإعطاء دينار، فيجري كل واحد منهما على حكمه، فيكسى العالم ولا يعطى دينارًا إلا بقيد كونه تميميًّا (¬2). وما نحن فيه من هذا القبيل، فإن الحكم في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إذا سرق له متاع، أو ضاع فوجده بعينه عند رجل، فهو أحق به، ويتبع البيع من باعه، أو يرجع المشتري على البائع بالثمن " (¬3) يخالف الحكم في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إذا وجد السرقة بعينها في يد الرجل غير المتهم، فإن شاء أخذها بما اشتراها، وإن شاء اتبع سارقه " (¬4) فلا يحمل المطلق على المقيد لتخالف حكمهما. نعم. قد يحمل المطلق على المقيد مع اختلاف حكمهما إذا كان المطلق مترتبًا على المقيد، نحو: إن ظاهرت فأعتق رقبة، ولا تملك إلا رقبة مؤمنة؛ فإن حكم المطلق غير حكم المقيد لكنه لترتب حكم المطلق، وهو العتق على حكم المقيد وهو الملك يحمل ¬

(¬1) إذا اختلفا في الحكم، فلا خلاف في أنه لا يحمل أحدهما على الآخر بوجه من الوجوه سواء كانا مثبتين أو منفيين أو مختلفين اتحد سببهما أو اختلف وقد حكى الإجماع جماعة من المحققين. انظر: " اللمع " (ص280)، " القواعد والفوائد الأصولية " (ص280). (¬2) ذكره الشوكاني في " إرشاد الفحول " (545 - 546). (¬3) تقدم تخريجه في الرسالة رقم (151). (¬4) تقدم تخريجه في الرسالة رقم (151).

المطلق على المقيد [1أ]، فلا يعتق إذًا إلا رقبة مؤمنة. الثاني: إن حمل المطلق على المقيد فيه جمع بين الدليلين، بمعنى أنهما يصيران كالدليل الواحد، ولهذا قالوا إن من عمل بالمقيد فقد عمل بالمطلق، لكونه في ضمنه، وخرج عن العهدة، بخلاف من عمل بالمطلق، فإنه قد أهدر القيد. وهذا الذي قرره المجيب -دامت إفادته - ليس فيه إلا أن المقيد بقي على حالته، والمطلق حمل على ضد المقيد، وذلك أنه قال - دامت إفادته -: ووجه عدم المعارضة أن لفظ رجل هاهنا مطلق، يعني في رواية سمرة، والرواية الأولى تقيده؛ لأن فيها التفصيل بين المتهم وغيره، وذكر حكم الوجود من السرقة في يد أحدهما وحكم الموجود في يد الآخر مفهومًا، فيحمل هذا المطلق على ذلك المقيد، ويكون هذا الرجل هو المتهم، فاندفع التعارض بينهما من هذه الحيثية. انتهى ما قاله - دامت إفادته - فأنت ترى كيف حمل المطلق على ضد المقيد، فإن المقيد هو الرجل غير المتهم لا المتهم، وهذا شيء غير حمل المطلق على المقيد. وخلاصته أن حديث أسيد المقيد بكون الرجل غير متهم قد قيد إطلاق رجل الذي في حديث سمرة الصالح للمتهم وغير المتهم، فيعمل بحديث أسيد في غير المتهم، وبحديث سمرة فيما بقي، وهذا أشبه شيء بتخصيص العام. (¬1) الثالث: أن قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -- في حديث سمرة: " إذا سرق من الرجل متاع، أو ضاع منه، فوجده بيد رجل فهو أحق به، ويرجع المشتري على البائع بالثمن " (¬2). وهكذا الرواية الأولى لا يستقيم إلا في الرجل غير المتهم، لأن من كان هو المتهم بالسرقة لا يقال فيه: إنه يرجع المشتري بالثمن، وهذا يفيد أنه وإن كان رجل في حديث سمرة مطلقًا، أي غير موصوف لفظًا، فإنه مقيد معنى، فإن حكم النبي ¬

(¬1) انظر " إرشاد الفحول " (ص 544 - 546). (¬2) تقدم تخريجه.

- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - برجوعه بالثمن يفيد أنه غير المتهم [1ب]، لأنه لو كان هو المتهم؛ لكان الحكم المناسب إنما هو المنازعة بينه وبين مالك العين. ولا مانع من أن يكون التقييد بما يدل عليه الكلام، فإنه إذا جاز التخصيص والتقييد بمنفصل (¬1) من جملة من أخرى لا تعلق لها بالجملة الأولى فبالأولى ما كان من أصل الكلام. وقد مشى على هذا الظاهر، أعني أن الرجل في حديث سمرة مشتر. أخرجه ابن ماجه في سننه (¬2) فقال: " باب من سرق له شيء فوجده في يد رجل اشتراه ". ثنا علي بن محمد، ثنا أبو معاوية، ثنا حجاج عن سعيد بن عبيد بن زيد بن عقبة، عن أبيه عن سمرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إذا ضاع للرجل متاع، أو سرق له متاع، فوجده بيد رجل يبيعه فهو أحق به، ويرجع المشتري على البائع بالثمن ". وفي هذا السياق فائدة، وهو أن حديث سمرة قد روي من غير طريق الحسن، وليس في الحديث إلا ما يخشى من تدليس الحجاج (¬3)، فإنه أرطأة. وأما علي بن محمد شيخ ابن ماجه فقال ابن أبي حاتم (¬4) محله الصدق، وأما سعيد بن عبيد بن زيد بن عقبة فلم أجده في الخلاصة، والموجود فيها سعيد بن زيد بن عقبة (¬5) له فرد حديث عند ابن ¬

(¬1) انظر " إرشاد الفحول " (ص583). (¬2) في " السنن " رقم (2331). وهو حديث ضعيف. انظر " الضعيفة " رقم (1627). (¬3) حجاج بن أرطأة بن ثور بن هبيرة بن شراحيل النخعي. قال أبو زرعة: صدوق يدلس، وقال أبو حاتم: صدوق يدلس عن الضعفاء، يكتب حديثه. قال النسائي: ليس بالقوي. " تهذيب التهذيب ": (1/ 356 - 357). (¬4) في " الجرح والتعديل " (6/ 202 رقم 1112). (¬5) هو سعيد بن زيد بن عقبة الفزاري الكوفي. قال ابن معين وأبو حاتم: ثقة. وقال العجلي: ثقة. انظر " تهذيب التهذيب " (2/ 19 - 20).

ماجه، وثقه أبو حاتم (¬1). فإذا سلم أن الظاهر أن حديث سمرة إنما هو في غير المتهم بالسرقة، وحديث أسيد ابن حضير في غير المتهم بها أيضًا نفي التعارض بحاله، فيعدل إلى الترجيح (¬2) ولا شك أن ما كثرت طرقه، وعاضدته كليات الشريعة وجزئياتها وقضت به العقول أولى بالترجيح، وأحق بالقبول لدى النظر الصحيح والله تعالى أعلم [2أ]. ¬

(¬1) ذكره ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (2/ 19). (¬2) انظر رد الشوكاني على هذا القول في الرسالة الآتية رقم (153).

جواب المناقشة السابقة

(153) 49/ 2 جواب المناقشة السابقة تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحايثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: جواب المناقشة السابقة. 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله. كثر الله فوائدكم, وقد أحسنتم وأفدتم بما حررتم آخرًا كما أفدتم. 4 - آخر الرسالة: ومدّ على الطلاب موائده. وإلى هنا انتهى الكلام على ما أفاد به من المناقشة دامت إفادته حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما. 5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول. 6 - عدد الصفحات: 12 صفحة. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 21 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 8 كلمات. 9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني. 10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله. كثر الله فوائدكم، قد أحسنتم وأوفدتم بما حررتم آخرًا كما أفدتم وأجدتم بما حررتم أولاً، واستحسنت الإقدام على الجواب المتضمن للمناقشة، كما استحسنت سابقا الإقدام على جواب أصل السؤال، فأقول: كان عليكم أن تقدموا مقدمة قبل المناقشة قائلة أن المذاهب في الإطلاق والتقييد ثلاثة (¬1) إطلاقان وتفصيل. فالإطلاق الأول: البناء مطلقًا من غير نظر إلى من نظر إليه أهل التفصيل. المذهب الثاني: عدم البناء مطلقًا بل ترك المطلق على إطلاقه وإعمال المقيد فيما قيد به. المذهب الثالث: التفصيل الناظر إلى اتحاد السبب (¬2) وعدمه على ما في ذلك التفصيل ¬

(¬1) انظر " البحر المحيط " (3/ 414) و" الكوكب المنير " (3/ 393). (¬2) اعلم أن الخطاب إذا ورد مطلقًا لا مقيدًا حمل على إطلاقه، وإن ورد مقيدًا عمل على تقييده، وإن ورد مطلقًا في موضع مقيدًا في موضع آخر فذلك على أقسام: 1 - أن يختلفا في السبب والحكم فلا يحمل أحدهما على الآخر بالاتفاق كما حكاه القاضي أبو بكر الباقلاني في " التقريب والإرشاد " (3/ 309) وإمام الحرمين الجويني في " البرهان " (1/ 432 - 435) والكيا الهراسي وابن برهان والآمدي. انظر: " البحر المحيط " (3/ 417) و" الأحكام " (3/ 6). 2 - أن يتفقا في السبب والحكم فيحمل أحدهما على الآخر كما لو قال: إن ظاهرت فأعتق رقبة. وقال في موضع آخر: إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة وقد نقل الاتفاق في هذا القسم القاضي أبو بكر الباقلاني في " التقريب والإرشاد " (3/ 309). وقال ابن برهان في " الأوسط ": اختلف أصحاب أبي حنيفة في هذا القسم فذهب بعضهم إلى أنه لا يحمل. والصحيح من مذهبهم أنه يحمل. " البحر المحيط " (3/ 418). 3 - أن يختلفا في السبب دون الحكم كإطلاق الرقبة في كفارة الظهار وتقييدها بالإيمان في كفارة القتل فالحكم واحد وهو وجوب الإعتاق في الظهار والقتل مع كون الظهار والقتل سببين مختلفين، وهذا القسم هو موضع الخلاف فذهب كافة الحنفية إلى عدم جواز التقييد. حكاه القاضي عبد الوهاب عن أكثر المالكية وذهب جمهور الشافعية إلى التقييد. انظر مزيد تفصيل: " المحصول " (3/ 145 - 146)، " اللمع " (ص24)، " البحر المحيط " (3/ 422). قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص545): وفي المسألة مذهب رابع لبعض الشافعية، وهو أن حكم المطلق بعد المقيد من جنسه موقوف على الدليل، فإن قام الدليل على تقييده قيد وإن لم يقم الدليل صار كالذي لم يرد فيه نص فيعدل عنه إلى غيره من الأدلة. قال الزركشي في " البحر " (3/ 422) وهذا أفسد المذاهب الأربعة لأن النصوص المحتملة يكون الاجتهاد فيها عائدًا إليها ولا يعدل إلى غيره. وفي المسألة حكم خامس وهو أن يعتبر أغلظ الحكمين في المقيد فإن كان حكم المقيد أغلظ حمل المطلق على المقيد ولا يحمل على إطلاقه إلا بدليل لأن التغليظ إلزام وما تضمنه الإلزام لا يسقط التزامه باحتمال. قال الشوكاني: هذا أبعد المذاهب عن الصواب. 4 - أن يختلفا في الحكم نحو: أكس يتيمًا، أطعم تميميًا عالمًا. فلا خلاف في أنه لا يحمل أحدهما على الآخر بوجه من الوجوه سواء كانا مثبتين أو منفيين أو مختلفين اتحد سببهما أو اختلف وقد حكى الإجماع جماعة من المحققين آخرهم ابن الحاجب. انظر: " مختصر ابن الحاجب " (2/ 156)، " اللمع " (ص280).

من الخلاف والمذاهب، وبعد أن تذكروا هذا يقولون: إن كان المجيب يقول بالأول فيرد عليه كذا، أو بالثاني فكذا، أو بالثالث فكذا. فإن قلتم: إن مصير المجيب إلى مذهب التفصيل حتم عليه، وأنه مذهبه شاء أم أبى، فهو مع هذا الحتم والإلزام يجد في مذهب التفصيل ما يدفع ما أوردتم عليه، وبيانه أن الحديثين المسئول عنهما قد اتحدا سببًا وحكمًا. أما السبب فظاهر؛ لأن المورد هو العين المسروقة، وأما [1ب] الحكم، فالرواية المطلقة التي في حديث سمرة الحكم فيها هو الرد وهو لا يخالف ما في حديث أسيد، والكلام إذا أردت إيضاحه، معناه هكذا: العين المسروقة يأخذها مالكها إذا وجدها في يد رجل، والعين المسروقة يأخذها مالكها إذا

وجدها في يد رجل متهم بسرقتها، فإن كان ما في الحديثين يؤدي هذا المعنى ويفيده فأي خلل في هذا الإطلاق والتقييد، وأي مناقشة ترد على الحمل. إن قال المجيب - كثر الله فوائده -: إن مثل هذا التركيب الذي جعلناه مثالاً لا يستفاد من الحديثين، وأنه يمنع ذلك حتى نقرره بوجه يوجب التسليم. فنقول: أما الرواية (¬1) التي في حديث سمرة فهي في السؤال الذي كتبه السائل - كثر الله فوائده - هكذا. وفي لفظ: " إذا سرق من الرجل متاع، أو ضاع منه فوجده بيد رجل بعينه فهو أحق به ". ولا شك ولا ريب أن هذا اللفظ يتضمن المثال الذي ذكرناه سابقًا، وهو قولنا: العين المسروقة يأخذها مالكها إذا وجدها في يد رجل، ويتضمن ما يؤدي هذا المعنى من أمثلة يكثر تعدادها. وأما حديث أسيد فقد صرحت في الجواب تصريحًا لا يبقى بعده ارتياب بأنه قد اشتمل على طرفين. أحدهما: التصريح بحكم غير المتهم. الثاني: السكوت عن حكم المتهم مع استفادته من المقابلة (¬2)، ومن مفهوم [2أ] .... ¬

(¬1) تقدم تخريجها. (¬2) قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص591): مفهوم المخالفة هو حيث المسكوت عنه مخالفًا للمذكور في الحكم إثباتًا ونفيًا، فيثبت للمسكوت عنه نقيض حكم المنطوق به. وجميع مفاهيم المخالفة حجة عند الجمهور إلا مفهوم اللقب وأنكر أبو حنيفة الجميع. انظر: " البحر المحيط " (4/ 15)، " تيسير التحرير " (1/ 94). وللقول بمفهوم المخالفة شروط: 1 - أن لا يعارضه ما هو أرجح منه من منطوق أو مفهوم موافقة وعليه تفصيل. انظر: " البحر المحيط " (4/ 18). 2 - أن لا يكون المذكور قصد به الامتنان كقوله تعالى: {لتأكلوا منه لحما طريا} فإنه لا يدل على منع أكل ما ليس بطري. 3 - أن لا يكون المنطوق خرج جوابًا عن سؤال متعلق بحكم خاص ولا حادثة خاصة بالمذكور وهكذا قيل ولا وجه لذلك فإنه لا اعتبار بخصوص السبب ولا بخصوص السؤال. انظر مزيد تفصيل: " البحر المحيط " (4/ 22)، " تيسير التحرير " (1/ 99). 4 - أن لا يكون المذكور قصد به التفخيم وتأكيد الحال كقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد " وهو حديث متفق عليه. فإن التقيد بالإيمان لا مفهوم له وإنما ذكر لتفخيم الأمر. " الكوكب المنير " (3/ 492). 5 - أن يذكر مستقلاً، فلو ذكر على وجه التبعية لشيء آخر فلا مفهوم له كقوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة: 187]. فإن قوله: في المساجد لا مفهوم له؛ لأن المعتكف ممنوع من المباشرة مطلقًا. " البحر المحيط " (4/ 23). 6 - أن لا يظهر من السياق قصد التعميم فإن ظهر، فلا مفهوم له كقوله تعالى: {والله على كل شيء قدير} [البقرة: 284]. للعلم بأن الله سبحانه قادر على المعدوم والممكن وليس بشيء فإن المقصود بقوله: {كل شيء} للتعميم. 7 - أن لا يعود على أصله الذي هو منطوق بالإبطال، أما لو كان كذلك فلا يعمل به. انظر " الكوكب المنير " (3/ 495 - 496)، " البحر المحيط " (4/ 23).

الشرط (¬1)، وجعلت الرواية من حديث سمرة مطلقة مقيدة بما في حديث أسيد في المتهم، ولا ريب أن ما تضمنه (¬2) ما في حديث أسيد في المتهم يتضمن ما ذكرته، وهو العين المسروقة يأخذها مالكها إذا وجدها في يد رجل متهم بسرقتها، بل هذا هو معناه ومفاده الذي سيق له. وقيل فيه: لأن معناه الذي وقع التصريح بحكمه قد أفاد أن مقابله وهو ¬

(¬1) (1) مفهوم الشرط: الشرط في اصطلاح المتكلمين ما يتوقف عليه المشروط ولا يكون داخلاً في المشروط ولا مؤثرًا فيه. وفي اصطلاح النحاة ما دخل عليه أحد الحرفين (إن) أو (إذا)، أو ما يقوم مقامهما مما يدل على سببية الأول ومسببية الثاني، وهذا هو الشرط اللغوي وهو المراد هنا. " إرشاد الفحول " (ص598). (¬2) كذا في المخطوط ولعله هناك سقط.

المتهم له حكم يقابله، فإذا كان الحكم مع غير المتهم هو الأخذ بالقيمة كان الحكم مع المتهم هو الأخذ بغير قيمة، والذي جعلناه مقيدًا لإطلاق الرواية التي في حديث سمرة هو مفهوم حديث أسيد لا منطوقه. وقد صرحت بهذا تصريحًا في غاية الوضوح في الجواب فقلت ما لفظه: ووجه عدم المعارضة أن لفظ رجل هاهنا مطلق، والرواية الأولى تقيده، لأن فيها التفصيل بين المبهم وغيره، وذكر حكم الموجود من السرقة في يد أحدهما منطوقًا، وحكم الموجود في يد الآخر مفهومًا، فيحمل هذا المطلق على المقيد، ويكون هذا الرجل هو المتهم انتهى. فلو فرضنا التردد في الإشارة في قولي: فيحمل هذا المطلق على ذلك المقيد، هل يعود إلى المنطوق أو المفهوم؟ لكان قولي بعد ذلك: ويكون هذا الرجل هو المتهم رافعًا لذلك التردد رفعًا لا يبقى عنده شك ولا ريب [2ب]. هذا مع أن أهل الأصول قد صرحوا بأنه كما يكون التقييد بما يتضمنه المقيد من الحكم يكون أيضًا بنقيض ذلك الحكم كما قالوا في مثل: اعتق عني رقبة مع لا تملكني رقبة كافرة، قالوا: فإنه يجب تقييد المطلق حينئذ بضد قيد المقيد، وهو الإيمان. فلو أردنا أن المقيد هو الحكم المذكور في حديث أسيد منطوقًا لكان المعلوم أن التقييد المراد منه هو تقييد حديث سمرة باعتبار تلك الرواية المصرحة بالسرقة بضد الحكم المذكور فيه، وهو لا يخالف الرواية التي في حديث سمرة فلم يختلف الحكم. هذا على التسليم والتنزيل، وإلا فقد صرحنا بالمقيد تصريحًا لا يشك فيه. وأما إذا كان ما في الحديثين يؤدي معنى ما ذكرنا من المثال ويتضمنه فالمناقشات التي أوردها - كثر الله فوائده - مندفعة، وبيانه أن قوله في صدر البحث ما نصه: الأول: حمل المطلق على المقيد لا يتم إلا فيما اتحد حكمهما (¬1) ... إلخ. يجاب عنه بالقول بموجبه، فإن كان هذا الكلام مناقشة لما أجبت به في تقرير ¬

(¬1) تقدم توضيحه في بداية الرسالة.

الإطلاق والتقييد فهو لا يرد، لن الحكم في ذلك التقرير متحد لا مختلف، وإن كان مناقشة لغيره فما هو حتى ننظر فيه؟. قوله - كثر الله فوائده -: ومن ثم اختلفوا ... إلخ. أقول: هذا جعله تأييدًا، فإنه من الوضوح بمكان لا يخفى، فتقرير الاعتراض وتقريبه بمثل مثال الرقبة، ومثل هذا إنما [3أ] يحسن في خطاب من هو خالي الذهن عن ذلك. قال (¬1) - كثر الله فوائده -: وما نحن فيه من هذا القبيل، فإن الحكم في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ... إلخ. أقول: لم يرد هذا الذي سبق إليه فهم السائل - عافاه الله - بل أردنا ما سبق تقريره على أنا لو أردنا هذا لما كان في ذلك من ضير؛ لأنه سيكون التقييد بحكم الضد، وهو سائغ شائع فكان على السائل - عافاه الله - أن يقول عند تحرير هذا: إن المجيب إن أراد التقييد بنفس الحكم فهو مخالف لحكم المطلق، وإن أراد التقييد بضد حكمه فهو موافق ولا بأس، ولكنه حمل كلام المجيب على ما صرح بخلافه، وأوضح أنه مراده، ثم لم يحمل كلام المجيب بعد قلب كلامه على المحمل الذي يصح الكلام عليه، بل على المحمل الذي يرد الاعتراض به، فكان على هذا الاعتراض اعتراضات: الأول: عدم تدبر كلام المجيب كما ينبغي. الثاني: عدم التنبه لما صرح به من أن التقييد وقع بأحد معنيي حديث أسيد. الثالث: عدم استيفاء ما يحتمله كلام المجيب على فرض أنه أراد التقييد بالمعنى المصرح بحكمه بالمنطوق، فإنه كما يحتمل التقييد بعين الحكم المذكور فيه: يحتمل التقييد بنقيضه. الرابع: أنه لو كان هذا الذي فهمه السائل - كثر الله فوائده - هو مراد السائل قطعًا وبتًا لكان عليه حمله على ما يصح، وهو التقييد بالضد، لا على ما يبطل، وهو التقييد، ¬

(¬1) السائل في الرسالة رقم (152).

يعني الحكم. الخامس: أنه قد ذكر في كلامه هذا - كثر الله فوائده - ما كان في تأمله دفع ما أورده، وهو ما أشار إليه من الاختلاف في تأخر المقيد عن المطلق، فإنهم قد أحالوا الكلام في الإطلاق والتقييد على الكلام في التعميم والتخصيص، في جميع الأحكام المتفق عليها، والمختلف فيها. ومن جملة ما صرحوا به في مباحث التخصيص هو التخصيص (¬1) بالمفهوم، فكان عليه - عافاه الله - أن يتنبه لهذا حتى يعلم أن كلام المجيب لو كان محتملاً لكان حمله على ما يصح أولى من حمله على ما يبطل. قال - كثر الله فوائده -: نعم. قد يحمل المطلق على التقييد مع اختلاف حكمهما (¬2) ... إلخ. أقول: هذا منه تجريد للنظر إلى أحكام المنطوق، وإغماض عن حكم المفهوم بالمرة، وإلا فمعلوم أن مثل: " في الغنم السائمة زكاة " (¬3)، ومثل: " لا زكاة في المعلوفة "، وإن كان الحكم المنطوق به مختلفًا، لكن لا زكاة في المعلوفة وجوب الزكاة في غير المعلوفة وصف عدم وجوب الزكاة في غير السائمة فلو كان أحد المنطوقين أعم من أحد المفهومين أو العكس أو كان أحدهما مطلقًا والآخر مقيدًا لم يمتنع البناء ولا الحمل وهذا إنما هو مجرد إيضاح وتصوير فلا يشترط تطبيقه على محل النزاع، ومع هذا فقد صرح أهل الأصول بما هو أعم مما ذكره من تخصيص ذلك بما إذا كان المطلق مترتبًا على المقيد، فإنهم قالوا إن اقتضى المطلق لأمر ينافيه حكم المقيد إلا عند تقييده بضده مسوغ لتقييده ¬

(¬1) انظر " إرشاد الفحول " (ص528 - 529، ص596)، " البحر المحيط " (3/ 381). (¬2) تقدم ذكره. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1454) وأبو داود رقم (1567) والنسائي (5/ 18 - 23 رقم 2447) من حديث أنس. ناقش الشوكاني هذا الموضوع مفصلاً في " إرشاد الفحول " (450، 493، 596، 597).

بذلك الضد وما نحن فيه. قال (¬1) - كثر الله فوائده -: الثاني: أن حمل المطلق على المقيد فيه جمع بين الدليلين ... إلخ. أقول: نحن نقول بموجب هذا. قولكم: وهذا الذي ذكره المجيب ليس فيه إلا أن المقيد بقي على حالته، والمطلق حمل على ضد المقيد. قلنا: ممنوع والسند أن المطلق حمل على عين المقيد، وهو المستفاد من مفهوم الشرط سلمنا أن المقيد هو المذكور صريحًا، والمطلق حمله على ضده، فكان ماذا؟ وأي بأس في مثل هذا؟ فإن حمل المطلق على ضد المقيد إذا أفاد تقليلاً [4أ] لشيوعه وانتشاره كان صحيحًا. وقولكم: فإن المقيد هو الرجل غير المتهم لا المتهم. قلنا: هذا ممنوع، فنحن نطالبكم بالدليل على هذا الجزم، فإن كان الدليل شيئًا وجدتموه في جوابي فما هو؟ فإني أقول: إني قد صرحت فيه بما يفيد ضد هذا الجزم كما سبق، وإن كان الدليل على هذا الجزم شيئًا آخر فما هو، وأين هو؟ على أنه لو وجد ما يفيد هذا لم يكن فيه ما يقتضي الاعتراض، فالتقييد بنقيض الحكم كالتقييد بعينه، والتخصيص كذلك، فما معنى قولكم، وهذا شيء غير حمل المطلق على المقيد؟ فإن هذا شفيع دعوى ممنوعة بدعوى ممنوعة، وضم ما هو شبيه بالمصادرة إلى ما هو شبيه بالمصادرة. قال - كثر الله فوائده -: وخلاصته إلى قوله: وهذا أشبه شيء بتخصيص العام. أقول: هذا تقول بموجبه، فحمل المطلق على المقيد أشبه شيء بتخصيص العام، ولا فرق بينهما إلا مجرد كون العام شموليًا (¬2)، والمطلق بدليًا، وليس المطلوب من الحمل في ¬

(¬1) أي السائل. (¬2) قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص397): اعلم أن العام عمومه شمولي وعموم المطلق بدلي، وبهذا يتضح الفرق بينهما، فمن أطلق على المطلق اسم العموم فهو باعتبار أن موارده غير منحصرة فصح إطلاق اسم العموم عليه من هذه الحيثية. والفرق بين عموم الشمول وعموم البدل أن عموم الشمول كلي يحكم فيه على كل فرد فرد، وعموم البدل كلي من حيث إنه لا يمنع تصور مفهومه من وقوع الشركة فيه، ولكن لا يحكم فيه على كل فرد فرد، بل على فرد شائع في أفراده يتناولها على سبيل البدل ولا يتناول أكثر من واحد منها دفعة. انظر: " تيسير التحرير " (1/ 194 - 195).

المطلق إلا تقييد ما كان بدليًا ببعض الأبدال، كما أنه ليس المطلوب من بناء العام على الخاص إلا إخراج بعض الأفراد من تحت حكم العام، وهي الأفراد التي يتناولها الخاص، وينبغي أن تعلم أن هذه الخلاصة التي جاء بها السائل - نفع الله بعلومه - قد أشارت إلى الوفاق بكف سوي تأدت باندفاع ما قدمه بصوت علي قوي، فإن الرجل المذكور في حديث سمرة قد كان لفرد منتشر بين أفراد المتهم وغير المتهم، فكان تقييده بالمتهم المذكور مفهومًا في حديث أسيد [4ب] مقللاً لانتشاره، وموجبًا لحمله على بدل من تلك الأبدال. وإذا كان الأمر هكذا باعتراف السائل - عافاه الله - فما بقي للخلاف معنى، بل صار النزاع ضائعًا. قال - كثر الله فوائده -: لا يستقيم إلا في الرجل غير المتهم ... إلخ. أقول: لعله بني على هذا التلازم بين كون الرجل متهمًا، وبين كونه سارقًا وهذا ممنوع، فإنه لا تلازم لا عقلاً، ولا شرعًا، ولا عادة. أما عقلاً فظاهر؛ إذ ليس من أحكام العقول أن يقضي بأن كل من كان متهمًا بشيء فهو فاعله، وأما شرعًا فلعدم اكتفاء الشارع بمجرد التهم، بل قال: " على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين " (¬1). وأما عادة فكم من متهم بأمر ينكشف مظلومًا مبهوتًا! وإذا كان الظن أكذب الحديث (¬2)، وكان منهيًا عن اتباعه والعمل عليه، فكيف يكون مجرد تهمة رجل لرجل لا ¬

(¬1) وهو حديث صحيح تقدم تخريجه. (¬2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (6064) ومسلم رقم (2563، 2564) وأبو داود رقم (4917) والترمذي رقم (1988) من حديث أبي هريرة قال أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا كما أمركم ... ".

تبلغ حد الظن تصلح للحكم بها على خصمه وغريمه!. وإذا تقرر هذا علمت أن ما ذكره - دامت إفادته - إنما يتم لو كان المتهم هو السارق قطعًا وبتًا، أما إذا كان الاحتمال كائنًا فالواجب البقاء على الأصل حتى ينقل عنه ناقل، ولا سيما في إثبات مثل هذا الأمر المستلزم للعقوبة في البدن والمال، والموجب للشناعة والعار، فلا مانع من رجوع المتهم في اعتقاد صاحب العين على من باعها منه إن كان قد باعها منه بائع، فلا يتم قوله - دامت إفادته -: أن حكم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - له برجوعه بالثمن يفيد أنه غير المتهم ... إلخ [5أ]. قال - كثر الله فوائده -: وقد مشى على هذا الظاهر أعني: أن الرجل في حديث سمرة مشتر [أخرجه] (¬1) ابن ماجه في سننه فقال: باب من سرق له شيء فوجده في يد رجل اشتراه ... إلخ. أقول: هذا التبويب، بل وقوله في متن الحديث: يبيعه ليس في شيء منهما ما يمنع من الإطلاق والتقييد الذي أشرنا إليه، لما قدمنا من أن المتهم لا يلزم أن يكون هو السارق لا عقلاً ولا شرعًا، ولا عادة، فلا يمتنع أن يكون مشتريًا غير سارق مع كونه متهمًا، وهذا ظاهر لا يخفى، فيكون مجرد كونه متهمًا بالسرق عند صاحب العين مسوغًا لأخذ العين منه، وهو إذا كان في الواقع غير سارق، بل صارت إليه العين بشراء أو غيره فلا ظلم عليه، لأنه سيرجع بما سلمه على من باع منه. فإن قلت: كيف كان مجرد كونه متهمًا مسوغًا لأخذ العين منه بغير موجب! ومجرد كونه غير متهم مانعًا لأخذ العين منه إلا بتسليم العوض. قلت: لأن من كان غير متهم بالسرقة عند صاحب العين المسروقة فهو بريء عنده من السرقة، فيكون أخذ العين منه بلا عوض ظلمًا بحتًا في اعتقاد الآخذ فضلاً عن غيره. ¬

(¬1) زيادة استلزمها السياق.

وأما من كان متهمًا عند صاحب العين فهو لا يعتقد أنه مظلوم إذا أخذها منه، وبعد هذا كله فهذا حكم من الشارع الحكيم، فليس لنا أن نستنكره بعقولنا. قال - عافاه الله -: ولا شك أن ما كثرت طرقه وعاضدته كليات الشريعة ... إلخ. أقول: هذا الترجيح إن كان [5ب] مبنيًا على ما قدمه من تسليم كون حديث سمرة، وحديث أسيد في غير المتهم بالسرقة فهو ممنوع كما عرفت، وإن كان الترجيح لا باعتبار هذه الرواية في حديث سمرة، بل باعتبار الرواية الأخرى المذكورة فيه، وهي قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به، ويتبع البيع من باعه ". فلا شك ولا ريب أن هذه الرواية أعم مطلقًا من حديث أسيد بن حضير، ومن حديث أسيد بن ظهير، ومن الرواية المصرحة بالسرقة في حديث سمرة. أما على ما صرح به السائل - عافاه الله - في جوابه من أن حديث سمرة وأسيدًا بما هما في غير المتهم بالسرقة فواضح لا يخفى، وأما على ما قررنا من الإطلاق والتقييد، فلأن غاية ما في ذلك أن حديث أسيد بن حضير [6أ]، وحديث أسيد بن ظهير قد صرحا بحكم وجود العين المسروقة في يد غير المتهم، وهذا الحكم هو التخيير، وتلك الرواية المصرحة بالسرقة في حديث سمرة قد تضمنت بحكم حمل المطلق على المقيد أنها في الرجل المتهم، وجميع هذا المستفاد من هذه الروايات أخص مطلقًا من قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في حديث سمرة: " من وجد عين ماله عند رجل " فكيف صار السائل - كثر الله فوائده - إلى التعارض بين عام وخاص في غاية الظهور والوضوح! وقد علم أن بناء العام على الخاص (¬1) متفق عليه في الجملة عند من يعتد بقوله من علماء الأصول وغيرهم كما هو معروف مشهور. ووقوع الخلاف في بعض الأسباب والشروط لا يقدح في الإجماع على الجملة كما هو معروف، فإن كان هذا الإهدار لوجود قادح في الخاص فما هو؟ فقد أوضحنا الكلام ¬

(¬1) تقدم ذكره. وانظر: " إرشاد الفحول " (ص455)، " البحر المحيط " (3/ 198).

على أسانيد تلك الأحاديث في جواب السؤال، وإن كان لمجرد الذهول عن كون قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " من وجد عين ماله " أعم مطلقًا من قول الراوي: قضى في العين المسروقة، ومن قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إذا وجد العين المسروقة " فمثله - عافاه الله - في فهمه وعلمه يتخلص عن هذا الذهول بأدنى التفات، وإن كان لكون هذا العام قد صار بالمعاضدة قاعدة كلية قطعية لا يخصص [6ب] بالآحاد. فهذا وإن كان مذهبًا (¬1) مشهورًا لبعض أهل العلم لكنه بمكان من الضعف، وموضع من السقوط لا يخفى على مثل السائل - كثر الله فوائده، ومد على الطلاب موائده -. وإلى هنا انتهى الكلام على ما أفاد به من المناقشة - دامت إفادته -. حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما [7أ]-. ¬

(¬1) ذكره الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص523)، " البرهان " (1/ 426 - 430).

بحث في قاذف الرجل

48/ 2 بحث في قاذف الرجل تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في قاذف الرجل. 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله. وبعد: فإنه سألني بعض العلماء المبرزين عن البحث. 4 - آخر الرسالة: ليس إلا هجيري أهل التقليد والقحة. انتهى. فلدفع مثل هذا الخيال الواقع لصاحب السؤال لا برح في ألطاف ذي الجلال استعملنا في الجواب ما استعملنا، وفي هذا المقدار كفاية، والله ولي الهداية. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - عدد الصفحات: 11 صفحة ما عدا صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 25 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 9 كلمات. 9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله، وبعد: فإنه سألني بعض العلماء المبرزين عن البحث الذي أورده العلامة الحسن بن أحمد الجلال - رحمه الله - في ضوء النهار (¬1) أنه لا يحد قاذف الرجل، وإنما يختص وجوب الحد بقاذف المرأة، واستحسن السائل ذلك البحث ورجحه، وقال: لا عذر من المصير إليه، وهاأنا الآن أورد كلام الجلال، وأتكلم على ما فيه، ثم أورد ما يدل على ثبوت الحد على قاذف الرجل. قال رحمه الله ما لفظه: وأما قاذف الرجل فلا تنتهض عليه الآية؛ لأن جمع المؤنث لا يطلق على جمع المذكر تغليبًا ولا غيره كما علم، وربما يدعى فيه الإجماع وفي نفسي منه شيء؛ لأن نقل الإجماع لا يصح. أقول: ذكر أنه ربما يدعى فيه الإجماع ثم تخلص من صحة هذه الدعوى بكون في نفسه من ذلك شيء، ثم علل لما وجده في نفسه بأن نقل الإجماع لا يصح. ولا يخفاك أنه إذا لم يصح النقل للإجماع كما زعمه لم يبق حجة للناقل، سواء وقع في نفس المعترض على النقل ما ذكره من الشيء أم لم يقع، فإن كان المستند لدفع النقل هو مجرد وقوع شيء في نفسه فليس على الناقل من هذا الشيء شيء، ولا ينفق في سوق المناظرة وقوع الشك في نفس أحد المتناظرين، ولا يندفع به حجة الناقل للحجة، ولو كان مجرد الشكوك قادحًا في النقول التي تورد في مقام المناظرة لم يبق لمناظر حجة على خصمه، ولا يصفو له دليل؛ لأنه لا يعجز الآخر أن يقول: في نفسي من هذا شيء. وإن كان المستند لدفع النقل هو عدم صحة النقل قائمًا فائدة لتوسيط قوله: وفي نفسي منه شيء. فإن دفع صحة النقل كاف سواء وقع في نفسه ذلك الشيء أم لا [1أ]، ¬

(¬1) (4/ 2270).

ثم إذا كان الخصم قد نقل الإجماع فالمقام مقام أن تطلب منه صحة النقل لا مقام أن يقال له: هذا النقل لا يصح. فإن هذه مقابلة لدعوى بدعوى، ولا بد أن يقال: من أين لك أن هذا النقل غير صحيح؟ فإنه ليس على الناقل إلا مجرد تصحيح النقل، وعليك إبطال ما نقله بإيراد من قال بما يخالف ما نقله الناقل، فتقول مثلاً: قد قال فلان من العلماء بأنه لا يحد قاذف الرجل. قال: ولا دليل بعده إلا العقل وهو القياس والنقل، ولا دليل فيهما. أما القياس فلأن شرع جلد القذف إنما كان لدفع النقيصة التي كانت تلحق العرب من جهة زنا النساء ولهذا كانوا يئدون البنات (¬1). أقول: ما جزم به من أنه لا دليل بعده إلا العقل وهو القياس يتوقف على أن الاستحسان (¬2)، ........................................ ¬

(¬1) قال الأمير الصنعاني في " منحة الغفار حاشية ضوء النهار " (4/ 2270 - 2271): قوله: إنما لدفع النقيصة، لا بد من الدليل على أن هذه علة شرعية على حد القذف، ولا دليل، بل قد يقال: النقيصة قد وقعت بنفس الرمي والجلد لا يدفعها، فلو قيل: أن العلة في شرعية حد القذف هي صيانة الأعراض؛ لأنه إذا علم من يريد الرمي أنه يجلد ترك ذلك كما في حكمة مشروعية القصاص فإنها حقن للدماء؛ لأنه إذا علم أنه إذا قتل ترك القتل كما أشار إليه قوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} لكان أولى والنساء والرجال في هذا سواء. قوله: ولهذا كانوا يئدون البنات، قال الأمير الصنعاني تعليقًا على ذلك ما نصه: " أي كان العرب يقتلون البنات صغارًا لدفع نقيصة الرمي بالزنى سدًا للذريعة بقتلهن صغارًا؛ وفي كتب التفسير أن قتل العرب للبنات إما مخافة الإملاق أو لخوف العار الذي يلحق من أجلهن، ولا يخفى أن هذا الوأد للبنات إنما كان من بعض العرب خاصة وشرعية الجلد لكل من قذف محصنة من العرب كان أو العجم، وكأن الشارح يريد أن ذلك سبب النزول فلا يمنع عموم الحكم ". انظر: " تفسير القرآن العظيم " لابن كثير (3/ 361 - 362). (¬2) الاستحسان: هو العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل شرعي خاص، وهو مذهب أحمد. وقد تقدم. " المسودة " (ص451). حجية الاستحسان: 1 - ذهب جمهور الحنفية والمالكية والحنابلة أنه دليل شرعي تثبت به الأحكام في مقابلة ما يوجبه القياس، أو عموم النص، وقد تعدت عباراتهم في تعريفه وفي بيان أنواعه. 2 - ذهب الشافعي إلى أنه ليس بدليل شرعي، فقد قال الشافعي في الرسالة (ص503): " الاستحسان تلذذ، ولو جاز لأحد الاستحسان في الدين لجاز ذلك لأهل العقول من غير أهل العلم، ولجاز أن يشرع في الدين في كل باب وأن يخرج كل أحد لنفسه شرعًا ". 3 - ذهب فريق من العلماء أنه دليل شرعي ولكنه ليس دليلاً مستقلاً بل هو راجع إلى الأدلة الشرعية الأخرى؛ لأن مآله عند التحقيق هو العمل بقياس ترجيح على قياس أو العمل بالعرف، أو المصلحة. فقد قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص789) آخر البحث الرابع الاستحسان ما نصه: فعرفت بمجموع ما ذكرنا أن ذكر الاستحسان في بحث مستقل لا فائدة فيه أصلاً؛ لأنه إن كان راجعًا إلى الأدلة المتقدمة فهو تكرار، وإن كان خارجًا عنها فليس من الشرع في شيء بل هو من التقول على هذه الشريعة بما لم يكن فيها تارة وبما يضادها أخرى. وانظر " تيسير التحرير " (4/ 78)، " اللمع " (ص68).

والتلازم (¬1)، وشرع من قبلنا (¬2) ليست أدلة، ثم قوله بعد ذلك: والنقل فيه شيء؛ لأن ¬

(¬1) التلازم أربعة أقسام: لأن التلازم إنما يكون بين حكمين وكل واحد منهما إما مثبت أو منفي، وحاصله إذا كان تلازم تساو فثبوت كل يستلزم ثبوت الآخر ونفيه نفيه. وإن كان مطلق اللزوم فثبوت الملزوم يستلزم ثبوت اللازم من غير عكس، ونفي اللازم يستلزم نفي الملزوم من غير عكس، وإذا كان بين الشيئين انفصال حقيقي فثبوت كل يستلزم نفي الآخر ونفيه ثبوته، وإن كان منع جمع فثبوت كل يستلزم نفي الآخر من غير عكس. وخلاصة هذا البحث ترجع إلى الاستدلال بالأقيسة الاستثنائية والاقترانية. قال الشوكاني في آخر البحث - التلازم -: والصواب أنه استدلال لا دليل ولا مجرد دعوى. " الكوكب المنير " (4/ 397)، " الإحكام " للآمدي (4/ 125). (¬2) وهي الأحكام التي شرعها الله تعالى لمن سبقنا من الأمم، وأنزلها على أنبيائه ورسله لتبليغها لتلك الأمم. " تيسير التحرير " (3/ 229)، " إرشاد الفحول " (ص779). وهي على أربعة أنواع: الأول: أحكام جاءت في القرآن أو في السنة، وقام الدليل في شريعتنا على أنها مفروضة علينا كما كانت مفروضة على من سبقنا من الأمم والأقوام، وهذا النوع من الأحكام لا خلاف في أنه شرع لنا، ومصدر شرعيته وحجيته بالنسبة إلينا هو نفس نصوص شريعتنا مثل فريضة الصيام، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة: 183]. الثاني: أحكام قصها الله في قرآنه أو بينها الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سننه، وقام الدليل من شريعتنا على نسخها في حقنا، أي أنها خاصة بالأمم السابقة، فهذا النوع لا خلاف في أنه غير مشروع في حقنا مثل ما جاء في قوله تعالى: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون} [الأنعام: 145 - 146]. دلالة الآية: ما حرم على بني إسرائيل لم يحرم علينا بل أحله لنا. الثالث: أحكام نقلت إلينا من كتب أصحاب تلك الشرائع أو على ألسنة أتباعها، وهذا النوع لا يكون شرعًا لنا بلا خلاف بين العلماء، لما وقع في كتبهم من تغيير وتحريف، ولأن غير المسلم لا يوثق به في نقل شريعة المسلم إليه، بل لا يوثق به حتى في نقل ما هو شرع على ادعائه. قال تعالى: {وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون}. الرابع: أحكام قصها الله في قرآنه أو بينها الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سنته، ولم يقم دليل من سياق هذه النصوص على بقاء الحكم أو عدم بقائه بالنسبة لنا مثل قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص} [المائدة: 45] فهذا النوع هو الذي وقع فيه الخلاف، واختلف في حجيته بالنسبة إلينا، والحق أن هذا الخلاف غير مهم في العمل. لأننا نجد القائلين بأن شرع من قبلنا حجة يلزمنا العمل بها قلما يحتجون به في مسألة إلا ويقصدون احتجاجهم هذا بدليل آخر ثابت من شرعنا ومقبول لدى الجميع على وجه الإجمال. كما أننا نجد القائلين بنفيه كثيرًا ما يستأنسون بنصوص تذكر أحكامًا وردت في شرع من قبلنا وإن كانوا لا يعتمدونها أصلاً في هذه المسألة. " المسودة " (ص193 - 194) و" أصول مذهب الإمام أحمد " (ص541).

الإجماع هو من النقل، فكأنه قال لم يبق بعد الإجماع الذي هو من النقل إلا النقل، ثم قال: أما القياس فلأن شرع جلد القذف ... إلخ. أقول: تعليل مشروعية القذف بكونه لدفع النقيصة كما زعمه إن كان لنقل عن الشارع فما هو؟ وإن كان لنقل عن المتشرعين فباطل، فإنهم ما زالوا يجلدون قاذف الرجل كما يجلدون قاذف المرأة في أيام الصحابة فما بعدهم، وإن كان لمسلك من مسالك العلة المدونة في الأصول، فكيف تقريره حتى يتكلم عليه! وإن كان لنقل عن أهل الجاهلية فلا ينفعه ولا يضرنا؛ لأن كلامنا في الحد الثابت في الشرع لا فيما كان عليه أهل الجاهلية، فإنه لا شرع عندهم ولا حد، فليس مثل هذا الكلام يشبه كلام أهل العلم المتكلمين في الأحكام الشرعية فما لنا ولما كان يلحق العرب من جهة النساء، ثم لو قال قائل: إن حد القذف سبب مشروعيته حفظ الأعراض عن الشتم بهذه [1ب] المعصية كان ذلك أقرب مما جعله الغاية، سواء كان المسلك الذي سلكه هو تخريج المناط (¬1)، أو السبر (¬2) والتقسيم (¬3)، ومن زعم أنه إذا قيل للرجل المسلم: يا زاني لم يكن ذلك شتمًا، ولا يتأثر له المشتوم فقد أعظم الفرية على أهل الشرع. قال: وأما الرجال فلم يكونوا يرون بأسًا، بل ربما كانوا يشببون أشعارهم به فجرًا كما قال رئيسهم امرؤ القيس: فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذي تمائم محول (¬4) ¬

(¬1) تقدم تعريفه. (¬2) تقدم تعريفه. (¬3) تقدم تعريفه. (¬4) وهو من قصيدة " قفا نبك " وهي معلقته المشهورة. قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل " ديوان امرئ القيس " (ص113). ومعناه: ذو تمائم محول: طفل لها رضيع له حول. ويروى أنه يقول لها منفقًا نفسه عندها: إن الحامل والمرضع لا تكادان ترغبان في الرجال، وهما يرغبان في لجمالي ومزاياي. " حاشية الديوان " (ص113).

أقول: إن كان هؤلاء الذين كانوا لا يرون باسًا هم أهل الجاهلية فما لنا ولهم! فقد كانوا يرون أن القتل، ونهب الأموال، وشرب الخمر من أعظم المناقب، والتمادح بمثل هذه الأمور، والتفاخر بها في كلامهم نظمًا ونثرًا أكثر من الزنا، يعرف هذا كل من له علم بأحوالهم. ثم جاء الإسلام وجعل هذه الأمور التي كانوا يعدونها مناقب مثالب ومعاصي كبيرة، ومخازي عظيمة. وإن كان هؤلاء الذين كانوا لا يرون بالزنا بأسًا هم أهل الإسلام فهذا كذب بحت، وزور صراح، فأي فائدة تتعلق بمثل هذا الكلام الساقط! وأي مسلم من المسلمين لا يرى بقول من قال له: يا زاني بأسًا!. قال: حتى إن معاوية بن أبي سفيان استلحق زيادًا (¬1) في الإسلام، ولم ير بنسبته الزنا ¬

(¬1) قال الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (3/ 494): زياد بن أبيه وهو زياد بن عبيد الثقفي وهو زياد ابن سمية وهي أمه، وهو زياد بن أبي سفيان الذي استلحقه معاوية بأنه أخوه. يكنى أبا المغيرة له إدراك، ولد عام الهجرة وأسلم زمن الصديق وهو مراهق وهو أخو أبي بكرة الثقفي الصحابي لأمه. ثم كان كاتبا لأبي موسى الأشعري زمن إمرته على البصرة. * يقال: إن أبا سفيان أتى الطائف، فسكر، فطلب بغيًا، فواقع سمية وكانت مزوجة بعبيد، فولدت من جماعه زيادًا، فلما رآه معاوية من أفراد الدهر، استعطفه وادعاه، وقال: نزل من ظهر أبي. قال الحافظ في " الفتح " (12/ 46): وكان كثير من الصحابة والتابعين ينكرون ذلك على معاوية محتجين بحديث: " الولد للفراش ". وأخرج البخاري في صحيحه (12/ 46) في " الفرائض ": باب من ادعى إلى غير أبيه، من طريق مسدد، عن خالد بن عبيد الله الواسطي، عن خالد بن مهران الحذاء عن أبي عثمان النهدي، عن سعيد - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " من ادعى إلى غير أبيه، وهو يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام " فذكرته (القائل أبو عثمان النهدي) لأبي بكرة، فقال: وأنا سمعته أذناي، ووعاه قلبي من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وأخرجه مسلم رقم (63) من طريق عمرو الناقد، حدثنا هشيم بن بشير، أخبرنا خالد عن أبي عثمان، قال: لما ادعي زياد لقيت أبا بكرة، فقلت له: ما هذا الذي صنعتم؟ إني سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: سمعت أذناي من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يقول: " من ادعى أبًا في الإسلام غير أبيه، يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام " فقال أبو بكرة: وأنا سمعته من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال الحافظ ابن حجر: " وإنما خص أبو عثمان النهدي أبا بكرة بالإنكار؛ لأن زيادًا كان أخاه من أمه ". انظر: " شذرات الذهب " (1/ 59)، " التاريخ الكبير " (3/ 357)، " طبقات ابن سعد " (7/ 99).

إلى أبيه بأسًا وغير ذلك. أقول: لا ينكر أحد من أهل العلم أن زنا أبي سفيان كان في أيام جاهليته (¬1) قبل أن يسلم، فإذا لم ير ابنه بأسًا بذلك الزنا فلكونه في الجاهلية، ومع هذا فقد نعى الناس على معاوية ما وقع منه، أما من جهة كونه مخالفًا للشرع فالأمر أشهر من ذاك. وأما من جهة كونه لم يستنكف عن نسبة ذلك إلى أبيه فقد قيلت فيه الأشعار، ونعاه عليه قرابته فضلاً عن غيرهم، ومما قيل في ذلك من الأشعار قول يزيد [2أ] بن مفرغ (¬2) ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة. (¬2) هو يزيد بن ربيعة بن مفرغ ولقب جده مفرغًا؛ لأنه راهن على سقاء لبن أن يشربه كله فشربه كله حتى فرغه فلقب مفرغًا. ويكنى أبا عثمان، وهو من حمير. قالوا: إن ابن مفرغ هجا زيادًا وبني زياد بما هتكه في قبره، وفضح بنيه طول الدهر، وتعدى ذلك إلى أبي سفيان، فقذفه بالزنا وسب ولده. وقال عمر بن شبة في خبره، جمع عباد بن زياد كل شيء هجاه به ابن مفرغ وكتب به إلى أخيه عبيد الله وهو يومئذ وافد على معاوية فكانت هذه الأبيات ضمن ما كتب. فدخل عبيد الله بن زياد على معاوية فأنشده هذه الأشعار، واستأذنه في قتله فلم يأذن له وقال: أدبه أدبًا وجيعًا منكلاً، ولا تتجاوز ذلك إلى القتل. " الأغاني " (18/ 265 - 266)، " الشعر والشعراء " لابن قتيبة (1/ 319).

حيث قال ناعيًا ذلك عليه: ألا أبلغ معاوية بن حرب ... مغلغلة من الرجل اليماني أتغضب أن يقال أبوك عف ... وترضى أن يقال أبوك زاني فأشهد إن رحمك من زياد ... كرحم الفيل من ولد الأتاني وكانت هذه القضية من فواقر الإسلام، ولم يفعل غير معاوية من المسلمين كفعله، لا من قبله ولا من بعده، فلا أدري ما معنى قوله: وغير ذلك، فإن أراد ما يصف به أهل الفجور أنفسهم من الإقدام على معصية الزنا فليس مجرد نسبة العاصي إلى نفسه شيئًا من المعاصي يفيد أنه لا يرى غيره من أهل الإسلام بأسًا بنسبة ذلك إليه، هذا يعلمه كل عاقل فضلاً عن عالم. وقد نسب الفساق إلى أنفسهم ما هو أشد من ذلك كاللواط منهم وبهم وغير ذلك مما لا يرضى بنسبته إليه أقل أهل الإسلام دينًا، وأوضعهم نسبًا، وأضعفهم حسبًا. قال: وذلك فارق يمنع قياس الرجل على المرأة. أقول: قد عرفت أنه لم يأت بشيء يصلح للفرق بين الأصل والفرع، وهذا قياس لا مطعن فيه، ولا يرد عليه شيء من الاعتراضات المعتبرة عند أهل الأصول. وقد عمل عليه في إثبات الحد على قاذف الرجل المسلمون أجمعون كما عملوا على القياس في تنصيف الجلد الوارد في قوله تعالى: {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} (¬1). قال: وأما النقل فليس فيه إلا ما يتوهم أن الذين آمنوا في قوله تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا} (¬2) يشمل الرجال، ولا ينتهض دليلاً [2ب]؛ لأن شيوعها فيهم عبارة عن لحوق عارها لهم، وعار زنا المرأة لاحق لرجالها ضرورة عرفية. ¬

(¬1) [النساء: 25]. (¬2) [النور: 19].

أقول: إن كان الاعتبار في مثل هذه الآية بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فالفاحشة عامة، والذين آمنوا عام، ومقتضى ذلك أن من أحب أن تشيع أي فاحشة في أي مؤمن فهو كما قال الله - سبحانه - من غير فرق بين فاحشة الزنا وغيرها، فما معنى قوله: لا ينتهض ذلك دليلاً! معللاً ذلك بأن شيوعها فيهم عبارة عن لحوق عارها لهم، وعار زنا المرأة لاحق برجالها ضرورة عرفية. فهب أن عار زنا المرأة لاحق برجالها فكان ماذا؟ هل هذا اللحوق ينفي لحوق غير ما هو من جهة النساء بهم، وهل يقول بمثل هذا عالم، ويورده في مقامات الكلام على كتاب الله - سبحانه - ويتكل في تخصيصه بمثل هذا الخيال الباطل رأيًا، ورواية، وقرآنًا، وإجماعًا! فانظر كيف وقع - رحمه الله - بهذا الكلام في بلية أشد مما فر منه، بينما هو يدعي أن الزنا لا يرى به الرجال إذا نسب إليهم بأسًا، إذ جاوز ذلك إلى أن كل فاحشة كذلك، زاعمًا أنه يلحق الرجال العار بما يقع من النساء من الفواحش، ذاهلاً عن كون تسليم هذا الزعم لا ينفي لحوق غير ما كان من طريق النساء بهم، لا عقلاً، ولا شرعًا، ولا عادة. ولا يدل على ما أراده بوجه من وجوه الدلالات. ولقد أوقع - رحمه الله - نفسه في مضيق وليس العجب منه فقد يقع للعالم مثل هذا الكلام الساقط، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إنما العجب ممن يستحسن مثل هذا الكلام ويقول: إنه لا محيص منه، وأنه يلزم الناس العمل عليه إذا أنصفوا. قال: وأما حد عمر لنفيع أبي بكرة وأخيه نافع، وشبل بن معبد حين نكل [3أ] زياد عن الشهادة معهم على زنا المغيرة بأم جميل بنت محجن زوجة الحجاج بن عبيد حين أفهمه عمر رغبته في ستره كما ثبت ذلك عند الحاكم في المستدرك (¬1)، والبيهقي (¬2)، وأبي ............................. ¬

(¬1) عزاه إليه ابن حجر في " التلخيص " (4/ 117). (¬2) في " السنن الكبرى " (8/ 234) و (10/ 147).

نعيم (¬1)، وأبي موسى في الذيل (¬2)، والبلاذري (¬3)، وعبد الرازق (¬4)، فقصة مظلمة. أقول: القصة متواترة لم يخالف في صحتها وتواترها أحد من أهل الشرع، وهي غالب كتب السير (¬5) والتاريخ (¬6)، فما يعني بقوله: مظلمة؟ فإن هذا رد مظلم، ومراوغة ظاهرة، وإيهام على المقصرين بما لا يهتدون إليه، ثم ما معنى قوله: حين أفهمه عمر رغبته في ستره، فصان الله عمر أن يوهم شاهدًا في حد من حدود الله بما يثنيه عن الشهادة، وهل يجترئ على مثل عمر بن الخطاب بمثل هذا الكلام منصف! فقد علم كل عالم أنه لما شهد الأول قال عمر: اذهب مغيرة ذهب ربعك، ولما شهد الثاني قال: اذهب مغيرة ذهب نصفك، ولما شهد الثالث قال: اذهب مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك. فهل هذا كلام من يريد إبطال حد من حدود الله حتى يفهم بعض شهوده أنه راغب في إبطاله؟ ولعمري إن هذه العبارة تتضوع منها رائحة، وينبض عندها عرق. ولعل صاحب البحث - رحمه الله - ذكر عهودًا بالحمى فحن إليها. وحبب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضاها الشباب هنالك إذا ذكرت أوطانهم ذكرتهم ... عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا وأما ما روي (¬7) من قول عمر - لما رأى زيادًا مقبلاً -: هذا رجل لا يشهد إلا بحق وفي رواية (¬8) إني لأرى رجلاً لا يشهد إلا بحق، فليس هذا من إفهام الشاهد الرغوب ¬

(¬1) في المعرفة كما ذكره ابن حجر في " التلخيص " (4/ 117). (¬2) عزاه إليه ابن حجر في " التلخيص " (4/ 117). (¬3) في " فتوح البلدان " (2/ 423 - 424). (¬4) في مصنفه (8/ 362 رقم 15549). (¬5) " سير أعلام النبلاء " (3/ 27). (¬6) " تاريخ ابن عساكر " (17/ 38). وانظر: " المغني " (12/ 367). " المحلى " (11/ 259). (¬7) انظر المصادر السابقة. (¬8) انظر المصادر السابقة.

في نكوله عن الشهادة، بل ولا هو من التعريض له كما زعمه بعض أهل الفقه. ثم ما معنى ما وصفه من نكول زياد عن الشهادة، فإنه قد شهد بما رآه، ووصف وصفًا يحكي به الهيئة التي شهد عليها [3ب]، وقال كما في بعض الروايات (¬1) رأيت نفسًا يعلو، واستًا تنبو، ورجلين من ورائه كأنهما رجلا حمار. وفي روايات آخرة: قال بما هو أدق وصفًا من هذا، ولكنه لم يشهد على أنه رأى ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة، والرشاء في البئر. ولقد كان المغيرة يقول للشهود الأولين عند أن ذكروا أنهم رأوه كالمرود في المكحلة: لقد ألطفتم النظر ولو كنتم بيني وبينها لما أدركتم أين ذاك مني من ذاك منها. ونعم لعمري لقد ألطفوا النظر إلى حد لا يقدر عليه من هو عند المجامع في مكان الجماع، فكيف بمن أشرف من داره إلى دار جاره فكشفت الريح عن سترة ظهر خلفها رجل قاعد بين شعب امرأة يجهدها فهل يدرك مثل هذا المرود في المكحلة، ويشهد على ذلك! فلا معنى لما ذكره من نكول زياد عن الشهادة كما لا معنى لما ذكره من رغبة عمر. نعم مجرد الرغبة في ستر من أتى شيئًا من هذه القاذورات قد ورد في الشرع، ولكن الشأن في رغبة بعد الرفع إلى الإمام تقتضي نكول الشاهد عن شهادته، فليس هذا من الرغبة في مطلق الستر، ولا من الميل إلى درء الحدود بالشبهات. قال: حتى روي (¬2) أن عليًا قال: إن حددتهم فارجم المغيرة، وفي رواية: فأعط صاحبك حجارة. ولا وجه لترتيبه رجم المغيرة على حد الثلاثة. أقول: هذا الكلام من النمط الذي قبله. إما خبط ومجازفة، أو مغالطة ومراوغة، فإن عليًا إنما قال هذه المقالة عند أن أراد عمر أن يجلد أبا بكرة لما قال بعد جلده قولاً يدل على رمي المغيرة بالزنا فقال له علي: إن جلدته يعني جلدًا ثانيًا فارجم المغيرة، لأن ¬

(¬1) تقدم ذكره. وانظر موسوعة فقه عمر بن الخطاب (ص478). (¬2) انظر " المحلى " (11/ 259 - 260).

هذا القذف الواقع بعد الجلد إن كان موجبًا لتكرير الجلد فالقاذف بمنزلة شاهد رابع، ومن شهد عليه أربعة على الصفة المعتبرة يحد، هذا هو الوارد في القصة، ولم يثبت غيره فلم يخالف علي عمر في استحقاق الثلاثة للجلد، وأنهم قذفة، إنما خالفه فيما أراده [4أ] من تكرير جلد أبي بكرة. والأمر واضح لا يخفى، والقصة موجودة في كتب (¬1) السير والتاريخ والحديث، فمن شك في هذا رجع إليها. قال (¬2) ثم في ذلك دلالة على أن حدهم ليس بمجمع عليه كما قيل إنه بمحضر من الصحابة، ولم ينكر فكان إجماعًا، كيف يكون إجماعًا مع خلاف علي!. أقول: هذا مبني على صحة ما زعمه من مخالفة علي لعمر. وقد عرفت أنه وافقه ولم يخالفه إلا في شيء آخر غير أصل حد القاذف (¬3) إذا كان المقذوف رجلاً وهو تكرير جلد القاذف إذا تكلم بشيء من القذف بعد جلده، وكان المقذوف واحدًا. وقد وافقه على هذا عمر فاتفقا على أصل جلد القاذف للرجل، كما اتفقا على عدم تكرير جلد القاذف لرجل واحد، فلا خلاف يقدح فيما ذكره من الإجماع. قال: ولو سلم فغايته إجماع سكوتي (¬4)، ولا ينتهض السكوتي حجة، لأن عمر كان مهيبًا منفذًا لرأيه، ويعد من الغريب الملغي، ومن شروط الاحتجاج بالإجماع السكوتي ¬

(¬1) تقدم ذكره. (¬2) أي السائل. (¬3) قال ابن قدامة في " المغني " (12/ 367): وإذا لم تكمل شهود الزنى فعليهم الحد في قول أكثر أهل العلم، منهم مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي ثم قال ولنا: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور: 4] وهذا يوجب الجلد على كل رام لم يشهد بما قال أربعة، ولأنه إجماع الصحابة، ثم ذكر قصة جلد عمر لأبي بكرة وأصحابه. وقال البخاري في صحيحه باب شهادة القاذف والسارق والزاني وجلد عمر أبا بكرة وشبل بن معبد ونافعًا بقذف المغيرة ... ". " فتح الباري " (5/ 255 - 256). (¬4) تقدم تعريفه.

أن لا يكون لمانع من الإنكار كما علم في الأصول. أقول: لا ينبغي لمؤمن يؤمن بالله (واليوم الآخر)، ويعرف ما عظمه الله ورسوله من حق الصحابة أن يقول بمثل هذه المقالة، أو يظن بالصحابة - رضي الله عنهم - أنهم يكتمون ما عندهم من العلم هيبة لعمر أو غيره، فقد كانوا يراجعونه ويدفعون كثيرًا من أقواله، ويقبل ذلك ولا يغضب ولا ينكره، بل ردت عليه امرأة لما أراد تقدير المهر بقدر لا يثقل على الناس فقالت له: إن الله يقول: {وآتيتم إحداهن قنطارا} (¬1)، فقال: " كل الناس أعلم من عمر حتى النساء في خدورهن " (¬2)، ومراجعته (¬3) هو وجماعة من الصحابة مدونة في كتب الحديث والسير يعرفها كل أحد [4ب]. ثم قد قدم قريبًا ما وقع من علي من الاعتراض على عمر، وهو ينقض عليه ما ذكره هنا، فإن الرجل الذي اعترض عليه علي فيما تقدم هو هذا المهيب الذي لا يستطيع أحد الإنكار عليه. وأما ما يروى عن ابن عباس أنه قال لما قال له قائل: لم لم تظهر قولك في العول في أيام عمر؟ فقال: كان رجلاً مهيبًا فهبته، فينبغي النظر في صحة هذه الرواية (¬4)، ¬

(¬1) [النساء: 20]. (¬2) أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى " (7/ 233) وسعيد بن منصور في سننه (1/ 166 - 167) وعبد الرازق في مصنفه (6/ 180) عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: خرجت وأنا أريد أن أنهى عن كثرة الصداق فذكرت هذه الآية {وآتيتم إحداهن قنطارا}. وأخرجه عبد الرازق في مصنفه رقم (10420) عن عمر أنه قال: لا تغالوا في مهر النساء، فقالت امرأة: ليس ذلك لك يا عمر، إن الله تعالى يقول: {وآتيتم إحداهن قنطارا من ذهب} - كما في قراءة ابن مسعود - فقال عمر: خاصمت عمر فخصمته. وانظر: تخريج الحديث في " نيل الأوطار " (4/ 243). (¬3) تقدم ذكره. (¬4) روي عن ابن عباس، أنه قال، في زوج، وأخت وأم: من شاء باهلته أن المسائل لا تعول، إن الذي أحصى رمل عالج عددًا أعدل من أن يجعل في مال نصفًا، ونصفًا وثلثًا هذان نصفان ذهبا بالمال، فأين موضع الثلث؟ فسميت هذه مسألة المباهلة لذلك، وهي أول مسألة عائلة حدثت في زمن عمر - رضي الله عنه -، فجمع الصحابة للمشورة فيها، فقال العباس: أرى أن تقسم المال بينهم على قدر سهامهم فأخذ به عمر - رضي الله عنه - واتبعه الناس على ذلك، حتى خالفهم ابن عباس، فروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: لقيت زفر بن أوس البصري، فقال: نمضي إلى عبد الله بن عباس، نتحدث عنده، فأتيناه فتحدثنا عنده، فكان حديثه، أنه قال: سبحان الله الذي أحصى رمل عالج عددًا، ثم يجعل في مال نصفًا، ونصفًا وثلثًا، ذهب النصفان بالمال، فأين موضع الثلث! وأيم الله، لو قدموا ما قدم الله، وأخروا من أخر الله، ما عالت فريضة أبدًا، فقال زفر: فمن الذي قدمه الله ومن الذي أخره الله؟ فقال: الذي أهبطه من فرض إلى فرض، فذلك الذي قدمه الله، والذي أهبطه من فرض إلى ما بقي، فذلك الذي أخره الله. فقال زفر: فمن أول من أعال الفرائض؟ قال: عمر بن الخطاب. فقلت: ألا أشرت عليه، فقال: هبته، وكان امرءًا مهيبًا. أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى " (6/ 253) وسعيد بن منصور في سننه (1/ 44). انظر: " المغني " (9/ 29 - 30).

وعلى فرض أنه يهابه مثل ابن عباس في إبان شبابه، وأوان حداثته فلا يستلزم ذلك أن يهابه كبار الصحابة، وقد كان يقول: لا أبقاني الله في معضلة ليس فيها أبو الحسن. وقال: لولا علي لهلك عمر. حين اعترض عليه لما أراد رجم الحامل (¬1). قال: نعم هو كالرمي بسائر المعاصي، فيه التعزيز لا الحد كما سيأتي. أقول: قد عرفت اختلال ما رتب عليه هذا الكلام فلا حاجة لإعادة ما قدمنا، وما أدري بعد هذا الجزم منه في أنه لا يجلد قاذف الذكر. ما يقول فيما رمى رجلاً بأنه يلوط أو يلاط به، هل يقول بأنه يحد من قذفه بذلك؟ فإن قال: فلم يتم له ما نفاه نفيًا عامًا، أو يقول: إن اللواط من الرجل وبه، وكان مما تتمادح به العرب ويتفاخرون به، ولا يعدونه عيبًا، ولا يرون به بأسًا، فيكون قد ألصق بالعرب ما هم عنه براء، ونسب إليهم ما لا يوافقه عليه أحد من أهل العلم، أو يقول: إن حد القذف مختص برمي النساء بالزنا، وأن قاذف الرجل باللواط لا يصدق عليه مسمى القذف، فقد ناقض ما ذكره ¬

(¬1) أخرجه عبد الرازق في " مصنفه " (7/ 350) والبيهقي في " السنن الكبرى " (6/ 442) وانظر " موسوعة فقه عمر بن الخطاب " (ص479).

من أن شرع حد القذف إنما كان لدفع النقيصة، ودفع العار، ولا عار ولا نقيصة [5أ] أبلغ من عار اللواط ونقيصته عقلاً وشرعًا وعادة، مع كونه يصدق عليه أنه زنا لغة وشرعًا وعرفًا. وإذا تقرر لك ما قدمناه علمت أنه قد دل على إثبات الجلد على قاذف الرجل القرآن الكريم، وهو قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ... } الآية. وإنما خص المحصنات لأن الغالب أن يكون القاذف لهن لكونهن أسرع إلى الوقوع في المعصية، وهن أصل الفتنة ومنشأ البلية، وهذا وجه للتغليب، ثم لو سلمنا اختصاص هذه الصيغة بالنساء، وأنه لا وجه للتغليب لكان القياس الصحيح السالم عن المطاعن، والاعتراض الجامع للأركان دليلاً كافيًا. ثم إجماع الأمة سلفها وخلفها في كل عصر بعد إجماع الصحابة، ووقوع ذلك من الخلفاء الراشدين الذين هم أهل الشرع، ومن أهل اللغة، فإن كان المبحث لغويًا فهم من أهل اللغة، وإن كان شرعيًا فهم من أهل الشرع، فعلى كل حال هم أعرف بمقاصد القرآن، ومعاني الشريعة، وقد قال فيهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -- فيما أخرجه أهل السنن وغيرهم: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الهادين عضوا عليها بالنواجذ " (¬1) فإن هذا النص النبوي مشعر بصلاحية ما وقع من الخلفاء الراشدين للحجية على فرض عدم وجود ما يدل عليه في الشريعة، لا إذا وقع مخالفًا لما هو ثابت فيها. ثم قد ثبت عند أحمد (¬2)، وأبي داود (¬3)، وغيرهما (¬4) في قصة الملاعنة أن من رماها أو ¬

(¬1) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح. (¬2) في " المسند " (1/ 238 - 239). (¬3) في " السنن " رقم (2256). (¬4) كأبي داود الطيالسي في مسنده (1/ 319 - 320 رقم 1620 - منحة المعبود). والبيهقي في " السنن الكبرى " (7/ 394 - 395) من حديث ابن عباس. وهو حديث صحيح.

رمى ولدها فعليه الحد. ورمي الولد هاهنا مطلق لم يقيد بكون الرمي له [5ب] هو الرمي لأمه، ثم قد ثبت في الصحيحين (¬1) وغيرهما (¬2) من حديث أبي هريرة قال: سمعت أبا القاسم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقول: " من قذف مملوكه يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال " فهذا فيه التصريح بثبوت حد السيد إذا قذف مملوكه، وإنما كان مؤخرًا إلى يوم القيامة (¬3) لأنه لا يثبت للعبد ذلك في الدنيا، فهو يدل أبلغ ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6858) ومسلم رقم (37/ 1660). (¬2) كأحمد (2/ 431) وأبو داود رقم (5165) والترمذي رقم (1940). قال ابن حجر في " الفتح " (12/ 181): تضمنت الآية الأولى بيان حد القذف: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون}. والثانية بيان كونه من الكبائر بناء على أن كل ما توعد عليه باللعن أو العذاب أو شرع فيه حد فهو كبيرة وهو المعتمد. {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم} وبذلك يطابق الحديث الآيتين المذكورتين، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اجتنبوا السبع الموبقات " قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: " الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات ". ثم قال ابن حجر: وقد انعقد الإجماع على أن حكم قذف المحصن من الرجال حكم قذف المحصنة من النساء. (¬3) " ... وإنما خص ذلك بالآخرة تمييزًا للأحرار من المملوكين، فأما في الآخرة فإن ملكهم يزول عنهم ويتكافئون في الحدود، ويقتص لكل منهم إلا أن يعفو، ولا مفاضلة حينئذ إلا بالتقوى .. ". " فتح الباري " (12/ 185). * والقذف: هو الرمي بالزنى، وهو محرم بإجماع الأمة، والأصل في تحريمه الكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون} [النور: 4]. وقال سبحانه وتعالى: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم} [النور: 23]. وأما السنة: فقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اجتنبوا السبع الموبقات " قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: " الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات ". متفق عليه. ثم قال ابن قدامة في " المغني " (12/ 384) وأجمع العلماء على وجوب الحد على من قذف المحصن إذا كان مكلفًا.

دلالة، ويفيد أعظم إفادة أن قاذف الرجل الحر يثبت عليه الحد في الدنيا. وبالجملة فهذه المسألة التي حررها الجلال - رحمه الله - بهذا التحرير الذي أوضحنا ما فيه هي من جملة ما أغرب به من الاجتهادات، وهو إمام من أئمة المسلمين، ومحقق من محققيهم، ونحرير من نحاريرهم، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا المعصوم، وكفى المرء نبلاً أن تعد معايبه، وإنما استعملنا بعض الخشونة فيما كتبناه هاهنا لتصريح السائل - كثر الله فوائده - بأن ما تكلم به هذا الإمام في هذا البحث هو الحق، حتى قال في آخر سؤاله ما لفظه: ووقع في خيالي إنه كلام بمحل من الانتظام والصحة، وإن عدم قبوله ليس إلا هجيري أهل التقليد والقحة. انتهى. فلدفع مثل هذا الخيال الواقع لصاحب السؤال - لا برح في ألطاف ذي الجلال - استعملنا في الجواب ما استعملنا. وفي هذا المقدار كفاية، والله ولي الهداية [6أ].

مناقشة العلامة حسن بن يحيى الكبسي على بحث في قاذف الرجل للشوكاني

بسم الله الرحمن الرحيم (155) 48/ 2 مناقشة العلامة حسن بن يحيى الكبسي على بحث في قاذف الرجل للشوكاني تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: مناقشة العلامة حسن بن يحيى الكبسي على بحث في قاذف الرجل للشوكاني. 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، أحمده وأستعينه وأستهديه. نظرت فيما سأل عنه الأخ النقاب، علامة السنة. 4 - آخر الرسالة: سوده الفقير إلى ربه حسن بن يحيى الكبسي، لعله عيد الأضحى سنة 1220 شهر الحجة 1220 هـ. 5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول. 6 - عدد الصفحات: 6 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 21 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم وأحمده وأستعينه وأستهديه. نظرت فيما سأل عنه الأخ النقاب، علامة السنة والكتاب محمد بن علي العمراني (¬1) - عمر الله قلبه بالتقوى - سيدي العلامة شيخ المحققين الرباني محمد الشوكاني - أجزل الله مثوبته - عما وقع بخيال السائل من أن كلام السيد العلامة الحسن - رحمه الله تعالى - بمحل من الانتظام والصحة. فأجاب عنه المسئول - تولى الله مكافأته - بالجواب البسيط، فأبان فيه عما اقتضاه أنظاره عن كثير من التخليط، وشاجح في كثير من ذلك بعض تلامذته - كثرهم الله تعالى - وعول السائل النقاب علي في النظر في السؤال والجواب، وجواب الجواب، وأفعل ما ترجح عندي في ذلك الباب. فأقول - وإن كان الفضل في ذلك للأول بلا ارتياب -: الذي ترجح عندي في هذه المسألة هو الذي عليه الناس قبل الجلال (¬2) - رحمه الله - أعني القول بعدم اختصاص الحد ¬

(¬1) هو محمد بن علي بن حسين العمراني ثم الصنعاني. ولد سنة 1194. اشتغل بطلب علوم الاجتهاد على جماعة من علماء العصر كالسيد العلامة الحسن بن يحيى الكبسي، والقاضي العلامة عبد الله بن محمد مشحم. وقد ترجم له الشوكاني في " البدر الطالع " رقم (476) فقال: وقد سمع علي غالب الأمهات الست وفي العضد وحواشيه والمطول وحواشيه. والكشاف وحواشيه وله مصنف على سنن ابن ماجه جعله أولا كالتخريج ثم جاوز ذلك إلى شرح الكتاب. " نيل الوطر " (2/ 292). (¬2) في ضوء النهار (4/ 2270) وقد تقدم في الرسالة (154). وفي حاشية المخطوط: قد ذهبت الأزارقة من الخوارج إلى أنه لا حد على قاذف الرجل، وعده الشهرستاني مما تفردوا به. (أ): وهم أصحاب أبي راشد نافع بن الأزرق الذين خرجوا مع نافع من البصرة إلى الأهواز. وكان مع نافع من أمراء الخوارج عطية بن الأسود الحنفي. ومن بدعهم وهي ثمانية: إسقاط الرجم عن الزاني، إذ ليس في القرآن ذكره، وإسقاط حد القذف عمن قذف المحصنين من الرجال، مع وجوب الحد على قاذف المحصنات من النساء. أنهم كفروا عليا رضي الله عنه، وعثمان وطلحة والزبير اجتمعت الأزارقة على أن من ارتكب كبيرة من الكبائر كفر كفر ملة خرج به عن الإسلام جملة ويكون مخلدا في النار مع سائر الكفار. " الملل والنحل " (1/ 137 - 141).

بقاذف المرأة، وتناوله لقاذف الرجل لوجوه: الأول: إما للإجماع (¬1) الظني فيه عملا، وذلك أنا قد عشنا وتتبعنا مظان الخلاف فيه، ومواضع مواقع ذلك ووقائعه فلم نجد من أنكر ذلك، ولا عثرنا على مخالف مصرح بخلافه غير الجلال - رحمه الله - ومثل هذا، وإن لم يكن إجماعا (¬2) قطعيا فهو عندي مما تقوم به الحجة، ولا تقصر على سائر الأدلة الظنية، وذلك لما صح من التوعد شرعا على مخالف السواد الأعظم، وعلى مفارق الجماعة قيد شبر (¬3)، ومن وعيد: " من شذ شذ إلى النار " (¬4) ونحو ذلك. ¬

(¬1) انظر تيسير التحرير (3/ 227). (¬2) قال صاحب " الكوكب المنير ": إن الإجماع (حجة قاطعة بالشرع) أي بدليل الشرع كونه حجة قاطعة. قال ابن بدران، حاشية - ومعنى كونه قاطعا أنه يقدم على باقي الأدلة، وليس القاطع هنا بمعنى الجازم الذي لا يحتمل النقيض ... وإلا لما اختلف في تكفير منكر حكمه. وهذا مذهب الأئمة الأعلام منهم الأربعة وأتباعهم وغيرهم من المتكلمين. " الكوكب المنير " (2/ 218)، " تيسير التحرير " (3/ 227) و" المستصفى " (2/ 293). (¬3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7143) ومسلم رقم (55/ 1849) من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتة جاهلية ". وأخرج مسلم في صحيحه رقم (53/ 1848) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فميتة جاهلية ". (¬4) أخرجه الترمذي في السنن رقم (2167) من حديث ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الله لا يجمع أمتي أو قال أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار ". قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه. وهو حديث صحيح دون قوله " شذ ". وله شاهد عند الترمذي رقم (2166) والحاكم (1/ 116) بسند صحيح من حديث ابن عباس: " لا يجمع الله أمتي على الضلالة أبدا ويد الله مع الجماعة ". وهو حديث صحيح.

ولما صح عن جلة من السلف من كراهتهم للخلاف للجم الغفير، وذمهم له، وحرصهم ملاحظة اتباع الجماعة على كل حال ونحو هذا من المآخذ السمعية الدالة على كون ذلك حجة ظنية، ومن النظر أيضًا غلبة الظن، فإن الغالب عدم خلو الحق عن مطلق الجماعة، وأن تواطؤهم على أمر، وتوافقهم عليه لا يكون إلى لمستند صحيح، فمثل هذا الإجماع لا يقصر عن ظواهر الأدلة التي لا يعتمد فيها على كثير من الظن للحق، وبمثل هذا الإجماع يحصل به ظن أن ما قالوه حق، وتجويز المخالف فيه لا يخدش في هذا الظن بعد ما سنذكره من شدة البحث عنه في مظانه (¬1) نعم وأما اشتراط قطعية الإجماع في صحة الاستدلال به فلم ينتهض عندي وجهه، وانقسام الإجماع إلى قسمين (¬2) معروف. ¬

(¬1) انظر " حجية الإجماع وموقف العلماء منها ". الدكتور: محمد محمود فرغلي (ص 130 - 162)، " إرشاد الفحول " (ص 311). (¬2) الأول: إجماع قولي وهو سماع كل مجتهد من أهل الإجماع. أو فعلي وهو أن يشاهد أهل الإجماع يفعلون فعلا، أو يتركونه ويعرف بقرائن المقام مرادهم. الثاني: الإجماع السكوتي: وهو أن ينقل عن أهل الإجماع قول أو فعل، مع نقل رضاء الساكتين حتى أنهم لو أفتوا لما أفتوا إلا به، ولو حكموا لم يحكموا إلا به. ويعرف رضاؤهم: بعدم الإنكار مع الاشتهار، وعدم ظهور حامل لهم على السكوت وكونه من المسائل الاجتهادية. ولا سيما وأن الظن بالمجتهدين أنهم لا يحجمون عن إبداء رأيهم إظهارا للحق، وإن لقوا من جراء ذلك العنت والضيق. انظر: " حجية الإجماع " (ص 173)، " المسودة " (ص334 - 335)، " البحر المحيط " (4/ 494).

وأما في مقام المنع من اشتراط ذلك بل في غيره من الأدلة سواء في حجية ما كان فيه ظنيا، وكذلك الطريق إليه لا اشتراط قطعيتها. وكذلك دليل حجيته عندي دليل اشتراط قطعيتها، فلذا اكتفيت بتلك االوعيدات الذي ذكرتها، كما لم ينتهض عندي اشتراط قطيعة دليل كثير من مسائل الأصول، كالقياس وغيره. ومن ادعى اشتراط ذلك [1أ] أفادنا دليلا نرتضيه، والأصح فالإجماع وغيره سواء في الاكتفاء بالظن، وكذلك في عدم القطع بمدلوله، ثم إن الاستبعاد والتشكيك فيه يعودان إلى هذا أعني اشتراط حصول القطع به؛ إذ لا يخفى أنه تعبد أو متعذر في الكثير منه، وإن حصل القطع في أفراد منه، فإنما غالب ذلك لكون مستنده ضروريا - أو تواتريا، فالقطع به لقطعية مستنده (¬1) وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. (¬2) نعم. وطريقه هذا الإجماع الظني البحث عن القائلين بالمسألة، فإذا تظافرت أقوالهم على المسألة، ولم يوجد من يخالفهم بعد البحث حصل الظن بعدمه. ولهذا نظائر في مسائل عديدة، منها في البحث عن المعارض، والمرجح، والناسخ، والمخصص، وغير ذلك فمثل ذلك يحصل الظن بحقية ما اجتمع عليه هؤلاء كما يحصله خبرا الآحاد والقياس وغيرهما، وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإنه إذا لم يوجد في السلف مخالف فيه يؤنس السيد الحسن - رحمه الله - فيوشك أن يقع بأغرابه في وعيد الشذوذ، واتباع السبل المتفرقة عن الجادة العظمى التي عليها السواد الأعظم، وما ذكره من أن في نفسه من دعوى الإجماع شيئا الظاهر أن مراده ذلك نفسه من أصل دعوى الإجماع، وثبوت ¬

(¬1) أي مستند الإجماع إذ لا بد للإجماع من مستند شرعي؛ لأن القول في الدين بغير علم، وبغير دليل قول بالهوى. وسند الإجماع قد يكون من الكتاب أو من السنة، وقد يكون انعقاد الإجماع عن اجتهاد أو قياس كما ذهب إليه الأكثرون. " البحر المحيط " (4/ 496)، " حجية الإجماع " (ص 173). (¬2) تقدم توضيحه مرارا.

نقله لاستبعاده النقل عن جميع الأفراد، فلذا علله بأن نقله لا يصح تعليلا لا غبار عليه على عود الضمير في قوله منه إلى ادعائه، لعدم ذكر يدعى، لأنه يتضمن معنى الادعاء إليه، أعني الإجماع، والشيء الذي في نفسه هو ما أشرت إليه من استبعاد نقله عن جميع الأفراد، وحينئذ فلا يرد ما ناقشه المجيب - عفا الله عنه - في تفسيره إياه بالشك، وعلى تعليله بما ذكر، ولا ما دفعه به تلميذه - عفا الله عنه - من أن الظاهر أنه أراد ما في نفسه من حجيته؛ إذ لا يلائمه التعليل المذكور كما ذكره المجيب. ثم قد عرفت أنه إذا كان الاكتفاء في حجيته بالظن، وأنه لا يشترط قطعيته فلا يضر ما ذكره من التشكيك فيه، فليس المطلوب به القطع، بل يكفينا الظن كسائر الظواهر. ويعلم بهذا اندفاع ما ناقش [1 ب] الجلال - رحمه الله - على السكوتي أيضًا في واقعة المغيرة (¬1)، مع عدم ظهور المخالف، وما تكلفه - رحمه الله - فيه من قصة مخالفة علي رضي الله عنه وإنكاره على عمر رضي الله عنه في جعله إنكارا على أصل إثبات الحد على قاذف الرجل، فلا يخفى ما في ذلك من عدم الاستقامة كما حقق ذلك المجيب - عفا الله عنه - فإنه ظاهر أنه إنما أنكر عليه تكرير الحد على الشهود حين استتابهم فلم يتوبوا، وجعل إصرارهم بمنزلة القذف الجديد المبتدأ أولا، وإنما هو تماد [ .... ] (¬2) واستمرار على الأول، والله تعالى لم يشرع في التمادي عليه، وعدم التوبة حدا، بل جعل حكمه عدم قبول شهادتهم أبدا، فألزم علي - عليه السلام - عمر رضي الله عنه إنك جعلت تماديهم وعدم التوبة قذفا صريحا فاجعل ذلك منهم شهادة مستقلة يكمل بها نصاب الشهادة. وهذا الجواب إلزامي ومجاراة للخصم بما استبعده، أو بما لا يقول به أحد، فلا يتبادر من ذلك غير هذا، فأين أخذ الإنكار منه على أصل المسألة؟ وهو لا يحتمل ما ذكره السيد - رحمه الله - أصلا، وإن احتمل احتمالا آخر وهو: أن الذي كان عند علي رضي الله عنه هو العمل بتلك الشهادة، وكمال نصابها؛ لأن الذي ذكره زياد في شهادته من الكنايات ¬

(¬1) تقدم في الرسالة رقم (154). (¬2) في المخطوط كلمة غير مقروءة.

والعبارات لا تقتصر في المعنى عن شهادة الآخرين المصرحين. ولذا يروى (¬1) عنه - عليه السلام - أنه كان يقول: لئن أمكنني الله من المغيرة لألحقنه أحجاره، أو كما قال مما الله أعلم به، سيما وما كان إصرارهم إلا لتحققهم الأمر في شهادتهم، وفي تلعثم زياد للكتم لا جرأة منهم على عدم التوبة. وإذا كان كذلك فالنصاب كامل، فلا حد على الثلاثة المذكورين، لا لأنه لا يحد قاذف الرجل على هذا الاحتمال، والاحتمال الأول هو الأظهر من كلامه، ولا يحتمل غيرها كما فسر به العلماء كلامه. وأما الثاني لانتهاض الآية الكريمة (¬2) للاستدلال بها، وصلاحيتها للتغليب للإناث، فيتناول قاذف الرجل في هذا الموضع نظرا إلى أن معنى الباعث على شرعية الحكم في النساء، سواء لكون عرضهن أهم في الحفظ من عرض الرجال والصيانة فيهن أشد قصدا إذ نقيصتهن بالزنا نقيصة لهن وللرجال وقصور عرض الرجال عن ذلك لقصرها عليهم واسع اشتراكا في أصل قصد الصيانة للعرض عن نقيصة نسبة الزنا إليهن، ومجازية التغليب إنما تكون بالنظر إلى من هو أقوى في المعنى المقصود الملاحظ لأجله التغليب [2أ]. فجهة التغليب في النساء هاهنا أقوى خصوصا، وإن كان الغالب في هذا الباب أن تكون قوته في الرجال، وأما فيما نحن فيه فالنساء فيهن أقوى كما عرفت، وقد يشبه هذا قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} - إلى قوله - {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} (¬3) ¬

(¬1) فلينظر من أخرجه، وأظنه باطلا. (¬2) قال الألوسي في " روح المعاني " (18/ 88 - 89): والظاهر أن المراد النساء المحصنات وعليه يكون ثبوت وجوب جلد رامي المحصن بدلالة النص للقطع بالفاء الفارق وهو صفة الأنوثة واستقلال دفع عارما نسب إليه بالتأثير بحيث لا يتوقف فهمه على ثبوت أهلية الاجتهاد، وكذا ثبوت وجوب جلد رامية المحصن أو المحصنة بتلك الدلالة وإلا فالذين يرمون للجمع المذكر، وتخصيص الذكور في جانب الرامي والإناث في جانب المرمي لخصوص الواقعة. (¬3) [النساء: 15]. قال ابن جرير الطبري في " جامع البيان " (3\جـ 4/ 295 - 296): وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله: (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ) قول من قال: عنى به البكران غير المحصنين إذا زنيا، وكان أحدهما رجلا والآخر امرأة، لأنه لو كان مقصود بذلك قصد البيان عن حكم الزناة من الرجال كما كان مقصودا بقوله: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ) قصد البيان عن حكم الزواني، لقيل: والذين يأتونها منكم فآذوهم، أو قيل: والذي يأتيها منكم، كما قيل في التي قبلها: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ) فأخرج ذكرهن على الجمع، ولم يقل: واللتان يأتيان الفاحشة، وكذلك تفعل العرب إذا أرادت البيان على الوعيد على فعل أو الوعد عليه، أخرجت أسماء أهله بذكر الجمع أو الواحد، وذلك أن الواحد يدل على جنسه، ولا تخرجها بذكر اثنين، فتقول: الذين يفعلون كذا، فلهم كذا، والذي يفعل كذا، فله كذا، ولا تقول: اللذان يفعلان كذا فلهما كذا إلا أن يكون فعلا لا يكون إلا من شخصين مختلفين كالزنا لا يكون إلى من زان وزانية ... " وقال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (5/ 87): قال السدي وقتادة وغيرهما الأولى في النساء المحصنات، يريد ودخل معهن من أحصن من الرجال بالمعنى، والثانية في الرجل والمرأة البكرين ... "

فإن حكم الحبس ربما كان عاما للصنفين تعينا، ثم نسخ بالجلد (¬1) لهما، ولعله إنما غلب النساء في قوله: {وَاللَّاتِي} لأن الزنا منهن أفحش وأشنع. والله أعلم. ومما ينظر إلى مثل ما ذكرناه من التغليب (¬2) أعني إلى خصوص قوة المعنى المخصوص، ¬

(¬1) انظر " الجامع لأحكام القرآن " (5/ 84): هذه أول عقوبات الزناة، وكان هذا في ابتداء الإسلام، قاله عبادة بن الصامت والحسن ومجاهد حتى نسخ بالأذى الذي بعده، ثم نسخ ذلك بآية " النور " وبالرجم في الثيب. وانظر: " جامع البيان " (3\جـ4/ 294). (¬2) التغليب: هو إعطاء شيء حكم غيره، وقيل: ترجيح أحد المغلوبين على الآخر، وإطلاق لفظه عليهما وإجراء للمختلفين مجرى المتفقين. نحو: (وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) [التحريم: 12]. (إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) [الأعراف: 83]. والأصل من القانتات والغابرات، فعدت الأنثى من المذكر بحكم التغليب. قال في البرهان: إنما كان التغليب من باب المجاز؛ لأن اللفظ لم يستعمل فيما وضع له، ألا ترى أن القانتين موضوع للذكور الموصوفين بهذا الوصف فإطلاقه على الذكور والإناث إطلاق على غير ما وضع له " معترك الأقران " (1/ 197 - 198).

لا إلى مطلق القوة تغليب القمرين، ولكنه قد يكون في هذا من تغليب المذكر على المؤنث وإن لم يكن حقيقيا، والعمرين؛ فإن الشمس وأبا بكر أعظم من القمر، وعمر في مطلق المفاضلة، ولكن غلب عليهما نظرا إلى معنى مخصوص مقصود العلاقة، والدليل على إرادة التغليب في الآية الكريمة أمور منها: التذييل (¬1) بالآيات الكريمات إلى آخر قصة الإفك، بما فيه من التعميمات في الرجال والنساء، نحو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} (¬2) {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} (¬3) فأتى به على الغالب من تغليب الذكور، وتعميم الفاحشة ليدخل الأدخل فيهما دخولا أوليا، وأثبت فيه عذاب الدنيا وهو الحد، ثم ليتأمل نحو ذلك إلى آخر الآيات - إلى قوله: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} (¬4) ولم يقل: مبرآت، وكذلك لما كان القصد إلى ذكر الصفات الموجبة للبراءة ذكرها كالمحصنات والغافلات، لما ذكرنا من العناية بمن هو أدخل في قصد الصيانة، وهو الذي عرف به التغليب، وإلا فقذف مطلق النساء موجب للحد، وكذا الرجال، وحاصله أن وصف الأنوثة والإحصان لتقبيح القذف، واستبعاد لاحق في حق من اتصف بالصفتين المذكورتين، وأن القبح حينئذ قد صح عنده. ¬

(¬1) التذييل: وهو أن يؤتى بجملة عقب جملة، والثانية تشتمل على معنى الأولى، لتأكيد منطوقه أو مفهومه، ليظهر المعنى لمن لا يفهمه، ويتقرر عند من يفهمه. " معترك الأقران " (1/ 279). (¬2) [إلى قوله] حذفناها لعدم الضرورة. (¬3) [النور: 19]. (¬4) [النور: 26].

ومما يدل على هذا التغليب أنه قد ثبت أن النساء شقائق (¬1) الرجال في حديث صحيح (¬2) عن الشارع، ولذا صار غالب خطابات الشارع بصيغة المذكر على سبيل التغليب، حتى كأنه عرف للشارع إلا ما نص عليه دليل الخصوص، فالغلبة في استعمال التغليب تصيره كالعرف له إن ثبت بالاستقراء ذلك، فهذا من ذلك، وإنما عدل عن الغالب فيه لملاحظة ما ذكرناه من التغليب من المعنى المقصود إذا هو [ .... ] (¬3): " النساء شقائق الرجال " (¬4) في الأحكام فلم نر هاهنا ما يصلح لتخصيص النساء. وستعرف عدم صحة ما ذكره السيد الجلال - رحمه الله - من الفرق. ويؤيد التغليب في الآية ما ثبت عن الشارع في حديث الملاعن هلال بن أمية، وقذف امرأته بشريك بن سحماء، فإنه صح أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال له: " البينة أو حد في ظهرك " (¬5) لاحتمال أن يكون لقذفهما المرمية (¬6) به لولا اللعان المسقط للحدين. ¬

(¬1) قال الخطابي في " معالم السنن " (1/ 162 - هامش السنن): أي نظائرهم وأمثالهم في الخلق والطباع فكأنهن شققن من الرجال وفيه من الشقة: إثبات القياس وإلحاق حكم النظير بالنظير وإن الخطاب إذا ورد بلفظ الذكور كان خطابا للنساء إلا موضع الخصوص التي قامت أدلة التخصيص فيها ". (¬2) أخرجه أحمد (6/ 256) وأبو داود رقم (236) والترمذي رقم (13) وابن ماجه رقم (602). وهو حديث صحيح. انظر تخريجه مفصلا في " نيل الأوطار " رقم (294) بتحقيقنا وهو من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما، فقال: " يغتسل " وعن الرجل يرى أن قد احتلم، ولا يجد البلل، فقال: " لا غسل عليه " فقالت أم سليم: المرأة ترى ذلك عليها الغسل؟ قال: " نعم إنما النساء شقائق الرجال ". (¬3) كلمة غير واضحة في المخطوط. (¬4) أخرجه أحمد (6/ 256) وأبو داود رقم (236) والترمذي رقم (13) وابن ماجه رقم (602). وهو حديث صحيح. انظر تخريجه مفصلا في " نيل الأوطار " رقم (294) بتحقيقنا وهو من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما، فقال: " يغتسل " وعن الرجل يرى أن قد احتلم، ولا يجد البلل، فقال: " لا غسل عليه " فقالت أم سليم: المرأة ترى ذلك عليها الغسل؟ قال: " نعم إنما النساء شقائق الرجال ". (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4747) وأبو داود رقم (2254) والترمذي رقم (3179) من حديث ابن عباس. (¬6) كذا في المخطوط.

ويؤيد ذلك ما في أصل سؤال الملاعن من قوله: إن تكلم جلدتموه بعد أن ذكر أنه يجد رجلا عند امرأته ... إلخ. فقوله: جلدتموه يحتمل لكلامه على المرأة أو على الرجل [2ب]. ويؤيده ما أشار إليه المسئول - عفا الله عنه - من حديث: " من قذف عبده يقام عليه .. " (¬1)، وحديث: " من رمى ولد الملاعنة فعليه الحد " (¬2) وظاهره أن المراد رميه هو بزناه ثم إذا حقق النظر في ذلك فقد تظهر صلاحية بعض هذه المؤيدات لإرادة التغليب، وللاستدلال استقلالا على المتنازع فيه أو أكثرها. وأما الثالث: لانتهاض دلالة القياس على المتنازع فيه أعني وجوب الحد على قاذف الرجل أيضًا إن لم يصح التغليب. إما بقياس الدلالة بأن [ .... .] (¬3) كما اشترك قاذف الرجل والمرأة في رد شهادتهما في الأحكام يشتركان في وجوب الحد عليهما بجامع أن النساء شقائق الرجال في سببية قذفهما للأمرين، أو بعدم الفارق. وتنقيح المناط (¬4) الذي هو عندي من أقوى القياسات (¬5) لعدم الفرق بين قذف الرجل والمرأة، لأن النساء شقائق الرجال، وما توهمه الجلال من الفرق في العلة سندفعه - إن شاء الله - وكما نوضح مثل ذلك في قياس (¬6) حد العبد على حد الأمة الذي قيل: إنه مجمع عليه. ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) كلمة غير واضحة في المخطوط. (¬4) وهو إلحاق الفرع بالأصل بإلغاء الفارق بأن يقال: لا فرق بين الأصل والفرع إلا كذا وذلك لا مدخل له في الحكم البتة فيلزم اشتراكهما في الحكم لاشتراكهما في الموجب له. كقياس الأمة على العبد في السراية فإنه لا فارق بينهما إلا الذكورة، وهو ملغى بالإجماع إذ لا مدخل له في العلية. " البحر المحيط " (5/ 255)، " إرشاد الفحول " (ص 731). (¬5) قال الغزالي في " المستصفى " (3/ 488): تنقيح المناط يقول به أكثر منكري القياس، ولا نعرف بين الأمة خلافا في جوازه. (¬6) انظر " البحر المحيط " (5/ 256)، " الكوكب المنير " (4/ 199)، " المغني " (12/ 331)

وإما بقياس العلة بأن يقاس الرجل المقذوف على المقذوفة في وجوب الحد بجامع أن النساء شقائق الرجال، وبحكمه هو الزجر عن الأعراض لمصلحة صيانتها عن الانتهاك بافتراء ما يغض منها، فإن صيانة الأعراض مقصودة للشارع كصيانة الدماء والأموال؛ ولذا تراه يجمع بينها في النهي والحث على احترامها، فشرع في جميعها حدودا من قصاص وجلد، وقطع للزجر، ولكن لما كانت حكمة الزجر في المعاصي، ومناسب الصيانة قد تتفاوت ولا تنضبط، وتخفى معرفة القدر المعتبر منها للشارع ضبطها بمظان مخصوصة لا تتفاوت في محالها المعروفة كالجراحات الخاصة للقصاص، والسرقة للقطع، والقذف بالزنا للجلد، وحكمة الأول الزجر وصيانة المال والدماء، والثاني الزجر وصيانة المال. والثالث الزجر وصيانة العرض، وقس عليه صيانة النسب في الزنا، والزجر عنه، وغير ذلك في أن الزجر لم يكن منضبطا وكان يختلف القدر المعتبر للشارع فيه ضبط بمظنة مخصوصة، وإذ قد ضبطت الحكمة بمظان مخصوصة صحيحة فلا يضر تفاوت الحكمة في مناسبة الزجر، أعني دفع النقيصة إذا زادت نقيصة عرض المرأة على عرض الرجل كما أنه لا [ ...... ] (¬1) بزيادة مباحث الزجر في الزنا والسرقة. والقذف كالزنا بالمحارم، وسرق الكعبة، وقذف الفضلاء، حيث لم يربط إلا بمطلق الزنا والسرقة والقذف بالزنا، وأما ادعاء أنه لا نقيصة بالزنا في عرض الرجل فغير مقبول فإنه لا بد أن تشمئز منه العقول، وقد سماه الله فاحشة ومقتا، ولا التفات إلى ما سمع من بعض خلعاء الشعراء العرب الذين يتبعهم الغاوون (¬2) ويقولون ما لا يفعلون، ويعتقدون أن أحسن الشعر أكذبه؛ فيحسنون القبيح، فإن أخرجوه في مخرج الاستحسان [3أ] فهو من عظيم كذبهم والبهتان ثم قد يعارض ذلك بالكثير من قول حكمائهم في ¬

(¬1) هنا كلمة غير مقروءة. (¬2) يشير إلى قوله تعالى: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ) [الشعراء: 224 - 226].

الشعر، وما يذمونه ويعبرون به، وخلعائهم بل ألا تراهم كيف يهجون به! وكيف يعير الشعراء (¬1) الفرزدق ونحوه بذلك: تدليت تزني من ثمانين قامة ... . (¬2) ولا هجى إلا بما فيه نقيصة، بل وقد يعارض أيضًا بمثله في النساء اللاتي لا يحتشمن كمن رمت نفسها بالصالحين من المومسات وغيرهن، كامرأة العزيز (¬3)، وصاحبة الراهب (¬4)، وصاحبة قارون، وغير ذلك، فمثل حال من ذكر لا يلتفت إليه، ولا يستدل لعدم نقيصة الزنا في مطلق الرجال، ولا يتمشى إلا كما قلنا بتفاوتها في المرأة والرجل، وقد عرفت أن تفاوت المناسب لا يضر إذا ضبط بمظنة ظاهرة. وقد ضبط بمطلق قذف الزنا، وحينئذ تعرف كمال أركان القياس (¬5) وأن الأصل المرأة، والفرع الرجل، والجامع أن النساء شقائق الرجال، والحكم الجد، والعلة القذف بالزنا، والحكمة الزجر والصيانة للعرض، وأنه لو سلم بخلفها في الرجل لم يختل القياس، إذ في مثل هذا لا يضر كسر الحكمة، وتعرف أنه لا فرق بينه وبين قياس النبيذ على الخمر في التحريم بعلة السكر، في أن الخمر أصل والنبيذ فرع والعلة السكر والحكمة الزجر لحفظ العقل، والحكم التحريم كالخمرة، وهذا ظاهر قصدنا به إيضاح كون العبرة بالمظنة، وإن اختلفت الحكمة والمناسب فتأمله. نعم ولا يقال: إنه قياس في الأسباب، فيحصل الغلط، لأن السبب هاهنا والعلة ¬

(¬1) وهو من شعر جرير، " شرح ديوان جرير " (ص 560) حيث يقول: لقد كان إخراج الفرزدق عنكم ... طهورا لما بين المصلى وواقم تدليت تزني من ثمانين قامة ... وقصرت عن باع العلى والمكارم (¬2) انظر تمام البيت في التعليقة السابقة. (¬3) انظر سورة يوسف. (¬4) تقدم ذكرها. (¬5) انظر: " إرشاد الفحول " (ص 677).

واحد هو القذف بالزنا، وإن اختلف المحل من الذكر والأنثى الذي هو من ضرورة القياس للأصل والفرع، فالمرأة والرجل محلا الحكم الذي سببه فيهما القذف بالزنا، وهو واحد كالخمر والنبيذ اللذين سبب التحريم فيهما السكر، وليس هذا كقياس اللواط على الزنا في إيجاب الحد الذي هو قياس في الأسباب، حيث يقاس عليه اللواط وسببه في إيجاب الحد على علية الزنا وسببيته في ذلك، فإنه قياس للسبب والعلة في الأنثى على سبب هو الزنا، وعلته في ذلك. وأما فيما نحن فيه فالسبب واحد هو القذف بالزنى، والذي يشبهه قياس من زنى ببهيمة على من زنى بامرأة في إيجاب حد الزنى بعلية الزنى. نعم وما ذكرناه من هذين الدليلين انتهاضهما على المتنازع يمكن أن يكونا مستند ما ظننا من ذلك الإجماع الظني المذكور هاهنا فإن مستنده هو العمدة في الدلالة عندي لكون مثله مظنة للدليل الصحيح؛ لاستبعاد الاجتماع من مثلهم بلا مستند صحيح، ولأن مرجع الوعيد على المخالفة والشذوذ إنما هو لأجل مظنة الحجية، وحصول الظن بحجية مثل ذلك، والله أعلم. سوده الفقير إلى ربه حسن بن يحيى الكبسي (¬1)، لعله عيد الأضحى سنة 1220 شهر الحجة سنة 1220 [3 ب]. ¬

(¬1) هو الحسن بن يحيى بن أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن القاسم الحمزي الكبسي ثم الصنعاني ولد سنة 1167 هـ ونشأ بصنعاء، فقرأ فيها على جماعة من العلماء، وأكثر انتفاعه على الشيخ العلامة الحسن بن إسماعيل المغربي، فقد لازمه في جميع الفنون، توفي سنة 1238. وترجم له الشوكاني في البدر رقم (139) وقال: وله رسائل في مسائل متفرقة متقنة غاية الإتقان وقد رافقني في قراءة الكشاف على شيخنا الحسن بن إسماعيل المغربي. انظر: " نيل الوطر " (1/ 358 - 364)، البدر الطالع رقم (139).

هذا ما تعقب به الأخ العلامة شرف الإسلام الحسين بن محمد العنسي على بحث في قاذف الرجل للشوكاني

هذا ما تعقب به الأخ العلامة شرف الإسلام الحسين بن محمد العنسي على بحث في قاذف الرجل للشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: هذا ما تعقب به الأخ العلامة شرف الإسلام الحسين بن محمد العنسي على بحث في قاذف الرجل للشوكاني. 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير المرسلين، وآله وأصحابه الطاهرين وبعد. فإني لما وقفت على ما كتبه شيخنا البدر الأوحد محمد بن علي بن محمد حماه الفرد الصمد 4 - آخر الرسالة: انتهى المراد كتبه يوم السبت خامس عشر شهر رمضان سنة 1220 هـ بقلم مؤلفه الفقير إلى عفو الله حسين بن محمد بن عبد الله العنسي غفر الله له ولوالديه آمين. 5 - نوع الخط: خط نسخي رديء. 6 - عدد الصفحات: 14 صفحة ما عدا صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 21 سطرا ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها 12 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة. 9 - الناسخ: حسين بن محمد بن عبد الله العنسي. 10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين، وآله وأصحابه الطاهرين، وبعد: فإني لما وقفت على ما كتبه شيخنا البدر الأوحد محمد بن علي بن محمد - حماه الفرد الصمد - على بحث الجلال (¬1) - رحمه الله - كتبت على كلام شيخنا ما حضر مع النظر في ذلك. فأقول: قول شيخنا أقول: ما ذكر أنه .... إلخ. فيه بحثان: الأول: أنه فسر الشيء الواقع في كلام الجلال بالشك مع أن الشيء أعم منه، ولا قرينة تفيد أن المراد ذلك، بل ما ذكره شيخنا من النظر على تقدير أن المراد بالشيء الشك قرينة تمنع من أنه المراد، فكيف يحمل الشيء وهو عام على بعض أفراده! وأنه يحتاج في الحمل عليه إلى قرينة، مع قيام القرينة على أن ذلك البعض غير مراد!. فإن قلت: إرادة المعنى الحقيقي للشيء لا تفيد في المقام، فلا بد من حمله على معنى آخر، وليس هنا ما يصلح سوى الشك، وأنه كثير ما يقال في نفسي شيء ويراد شك. قلت: يصلح أن يكون المراد منه عدم الحجية، فمعنى في نفسي شيء في نفسي أنه ليس بحجة، ووجه حمله على ذلك أن المقام في دفع كلام من يحتج به فيناسبه نفي الحجية ثم إن الجلال علل عدم الحجية بعدم صحة نقل الإجماع فأبان وجه ذلك الحكم النفسي. وقد حرر دليل عدم صحة نقله في شرح الفصول (¬2) أمثلة في أن كلام الجلال هذا لا يجدي الكلام عليه نفعا للمناظرة، لما تقرر في علم المناظرة أن الكلام على سند المنع لا يفيد، وكلام الجلال سند للمنع، فثبت قياس من الشكل الأول، هكذا كلام الجلال سند ¬

(¬1) في " ضوء النهار " (4/ 2270). (¬2) انظر " مؤلفات الزيدية " (2/ 169).

للمنع، وكل ما كان سندا للمنع (¬1) لا يفيد الكلام عليه، فينتج كلام الجلال لا يفيد الكلام عليه، وكبرى هذا الشكل مقررة في علم المناظرة، وصغراه ضرورية بعد العلم بأن المدعي يدعي أنه صب على قاذف الرجل حدا شرعيا، فلما كان الأصل البراءة احتج على أنه ثابت شرعا بالإجماع، وأن الاحتجاج به يرجع إلى مقدمتين، هكذا. هذا مجمع عليه، وكل مجمع عليه ثابت شرعا، وأن تفصيل كلام الجلال في دفع الحجية هكذا كقولكم (¬2): هذا مجمع عليه ممنوع، وأسند منع هذا المقدمة بأن طريقها النقل [1أ] ولا يصح. وبعد معرفة هذا يعرف أن قول شيخنا - بورك في علمه وعمره -: هم إذا كان الخصم قد نقل الإجماع فالمقام مقام أن يطلب منه صحة النقل لا مقام أن يقال له: هذا النقل لا يصح، فإن هذه مقابلة دعوى بدعوى انتهى. ليس في محله، لأن مثبت الحد على قاذف الرجل يدعي دعوى هي ثبوت الحد عليه شرعا. واستدل لها بدليل ذي مقدمتين، وقد علم في المناظرة أنه يتوجه على المدعي المستدل منع إحدى مقدمتي دليله، فليس من أثبت حكم القذف المذكور ينقل شيئا عن أحد بل يثبت حكما يستدل عليه. ¬

(¬1) المنع: أي الممانعة وهي أرفع سؤال على العلل. وقيل: إنها أساس المناظرة، وهو يتوجه على الأصل من وجهين: أ - منع كون الأصل معللا لأن الأحكام تنقسم بالاتفاق إلى ما يعلل وإلى ما لا يعلل فمن ادعى تعليل شيء كلف ببيانه. ب - منع الحكم في الأصل. واختلفوا: هل هذا الاعتراض - المنع - يقتضي انقطاع المستدل أم لا؟. فقيل: إنه يقتضي انقطاعه، وقيل: إنه لا يقتضي ذلك وجزم به إمام الحرمين في " البرهان " (2/ 970). وقيل: إن كان المنع جليا فهو انقطاع وإن كان خفيا فلا. انظر " البحر المحيط " (5/ 324)، " المنخول " (401). (¬2) في هامش المخطوط: لعله قولكم.

قال ملا حنفي في شرح الرسالة العضدية: وإذا عرفت حقيقة المنع فاعلم أنه إن لم يذكر في النقل دليل فظاهر أنه لا يتوجه عليه المنع، فإن ذكر فيه فهو إنما هو على طريقة الحكاية فلا تتعلق به المؤاخذة؛ لأنه محكي منقول عن الغير، والناقل من حيث هو ناقل ليس بملتزم صحته، بل هذا ليس بدليل بالنسبة إليه من تلك الحيثية حتى يمنع منعا جاريا على مقتضى عرفهم، والناقل إن التزم صحة هذا الدليل المنقول، أو أقام دليلا برأسه على ما نقله صار مستدلا حينئذ فيتوجه عليه ما يتوجه عنه انتهى. ولا يخفى في مستند الجلال أن ذاكر دليل الإجماع المحتج به مقيم لهذا الدليل ملتزم صحته. ثم اعلم أن تصحيح النقل للإجماع هو أن يروى المجمع عليه عن أهل الإجماع بنقل عدل تام الضبط، مع اتصال الإسناد، وفقد العلة القادحة والشذوذ كما قيل في صحيح السنة، إذ يحصل في نقله ما يشرط في حسن السنة وإلا كان الفرق بينهما تحكما، فإنه بعد أن كانت السنة دليلا شرعيا، والإجماع دليلا شرعيا كيف يصح أن يقال في الإجماع: يقبل نقل دليل الإجماع عن أهله مرسلا كان أو منقطعا أو غير ذلك (¬1)!؟ وأما دليل السنة فيشترط فيه كذا وكذا، وبعد معرفة هذا يتبين لك ما في قول شيخنا ¬

(¬1) يثبت الإجماع (بخبر الآحاد) وهو كون هذا الحكم مجمعا عليه لأن هذه المسألة شرعية، طريقها طريق بقية مسائل الفروع التي يكفي في ثبوتها الظن، وقال القرافي في " تنقيح الفصول " (332): " إنه حجة خلافا لأكثر الناس ". " المسودة " (ص344)، " الكوكب المنير " (2/ 224). قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص 325) الإجماع المنقول بطريق الآحاد حجة وبه قال الماوردي وإمام الحرمين والآمدي، ونقل عن الجمهور اشتراط عدد التواتر، قال الرازي في " المحصول " (4/ 151 - 152): الإجماع المروي بطريق الآحاد حجة لأكثر الناس لأن ظن وجوب العمل به حاصل فوجب العمل به دفعا للضرر المظنون ولأن الإجماع نوع من الحجة فيجوز التمسك بمظنونه كما يجوز بمعلومه قياسا على السنة ولأنا بينا أن أصل الإجماع فائدة ظنية. " الإحكام " للآمدي (1/ 343)، " تيسير التحرير " (3/ 261).

بورك في عمله وعمره -: ولا بد من أن يقال: من أين لك أن هذا النقل غير صحيح، فإنه ليس على الناقل إلا مجرد تصحيح النقل وتمليك إبطال ما نقله بإيراد من قال بما يخالف ما نقله الناقل، فنقول مثلا: قد قال فلان من العلماء بأنه لا يحد قاذف الرجل [1ب]، فإنه أراد بما جعله علة لمطالبة الحاكم بعدم صحة النقل، أعني قوله: فإنه ليس على الناقل إلا مجرد تصحيح النقل على الطريقة التي قدمنا ذكرها، فلم يسلك ناقل الإجماع ذلك المسلك، فنقل الإجماع غير صحيح، وإن أراد تصحيح النقل على طريقة أخرى، فإن كانت ما تعرف بين أهل العلم في نقل الإجماع من قول العالم مثلا، وهذه المسألة مجمع عليها، فقد تقدم أن الإجماع شقيق السنة لا يقبل حتى يجمع شرائط القبول المذكورة في علم مصطلح الأثر، فإذ لم يجمعها لم يقبل، حتى إنه إذا قال عالم مثلا: هذا الحكم قد نقل إلينا عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لا يقبل، فكذا دليل الإجماع، فإن قول العالم مثلا: هذه المسألة مجمع عليها معناه أنه نقل إلينا عن جميع عدد علماء عصره أن الحكم في هذه المسألة كذا، وإن كانت غيرها؛ فماذا هي؟ ثم قوله - دامت إفادته - وعليك إبطال ما نقله الناقل. انتهى. فيه بحث هو أنه إذا قد صح نقل الإجماع فذكر واحد من العلماء أو جماعة مخالفين في ذلك الحكم لا يبطل الإجماع لجواز أن يكون من علماء عصر غير عصر الإجماع. نعم إذا كان العالم المخالف من أهل عصر الإجماع (¬1)، وتبين أن تلك المقالة كانت مقارنة الزمان المدعى فيه الإجماع فهناك تعارض رواية الإجماع وهذه؛ لأن هذا القائل من أفراد المجموعين، فرواية الإجماع رواية عنه لمسألة الإجماع، أما لو كانت متقدمة عليه فلعله قد رجع عن الخلاف إلى الوفاق، ولا يبطل النقل الصحيح بالمحتمل. ثم قوله - دامت إفادته -: أقول: تعليل مشروعية القذف بكونه لدفع النقيصة كما زعمه، إن كان النقل عن الشارع فما هو؟ وإن كان لمسلك من مسالك العلة المدونة في ¬

(¬1) انظر " تيسير التحرير " (3/ 236)، " البحر المحيط " (4/ 476).

الأصول فكيف تقريره حتى يتكلم عليه! وإن كان لنقل عن أهل الجاهلية فلا ينفعه ولا يضرنا؛ لأن كلامنا في الحد الثابت في الشرع [2أ]، لا فيما كان عليه أهل الجاهلية، فإنه لا شرع عندهم ولا حد، فليس مثل هذا الكلام .... إلخ. فيه بحث هو أنه قد تبين فيما سبق أن الجلال قائم في مقام المنع؛ لأنه ناف لحكم الحد على قاذف الرجل، فكلامه على القياس ليس لإثباته حتى يقال: ما مسلك علم هذا القياس؟ إن كانت كذا كان كذا، وإن كانت كذا كان كذا. فإن قلت: ما أراد الجلال حيث قال: أما القياس فلأن شرع جلد القذف إنما لدفع النقيصة التي كانت تلحق العرب من جهة زنى النساء، ولهذا كانوا يئدون البنات ... انتهى. قلت: أراد دفع احتجاج المستدل بالقياس لأن العلة التي لهذا القياس قاصرة، وحاصله منع وجود العلة في الفروع، فعلى المستدل بيان وجودها في الفرع، بل عليه أن يبين أولا علة حكم الأصل بمسلك من المسالك (¬1)، ثم يبين وجودها في الفرع، فكان حق شيخنا - دامت إفادته - أن يثبت هذين الحكمين، أعني: ثبوت أن العلة كذا، وثبوت أنها موجودة في الفرع، لا مطالبة الجلال بمسلك العلة، نعم إبطال أن العلة ما ذكر الجلال مع بيان أن العلة غيرها، وإثبات تلك العلة المغايرة كما قدمنا ينفع، ولكنه لم يقع. فالحاصل أن الجلال مانع لثبوت العلة في الفرع، مسندا ذلك المنع بأن العلة النقيصة المذكورة، فالقدح في إثبات أنها العلة، وكذا الكلام على قوله: وأما الرجال ... إلى آخره لا يفيد إثبات الحد على قاذف الرجل، فإن قيل الكلام على ذلك ينفي الفارق بين قاذف المرأة وقاذف الرجل، فيثبت الحكم لقاذف الرجل. قلت: لا يصح ذلك؛ فإن النقيصة التي في شأن المرأة أشد وأثبت؛ فإنها جبلية يثبتها ¬

(¬1) تقدم ذكر مسالك العلة. انظر البحر المحيط (5/ 200 - 204)، " الكوكب المنير " (4/ 138).

المسلم والكافر، والمؤمن والفاسق [2ب]، بخلاف النقيصة في شأن الرجل، هذا بعد تسليم اندفاع ما ذكر الجلال، والفرق أيضًا بين النقيصتين ضروري، فإن الرجل يجد من نفسه عند أن تزني ابنته ما لا يجده عند أن يزني ولده، وهذا أمر عام فعرفت عن هذا ما في قول شيخنا - دامت إفادته - أقول: قد عرفت أنه لم يأت بشيء يصلح للفرق ... إلخ. نعم. وقول الجلال (¬1) رحمه الله: وأما الرجال فلم يكونوا يرون به بأسا بل وربما كانوا يشببون أشعارهم به فخرا كما قال رئيسهم امرؤ القيس (¬2): فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذي تمائم محول انتهى كلام اتصل بالمسألة فذكر لإفادة معناه، فإنه علل حد القذف بالنقيصة اللاحقة للعرب من جهة زنا النساء استشعر سؤالا عن حال زنى الرجال، هل فيه عندهم النقيصة التي تلحق بزنى المرأة؟ فأجابه بقوله: وأما الرجال ... إلخ. ولا يريد إلا أهل الجاهلية، فدل على ذلك قوله: هل كانوا يشببون (¬3) .... إلخ. فإن أهل الإسلام ليسوا بتلك المثابة. وأما ما وقع من معاوية فلأن زنى أبي سفيان وقع في الجاهلية، فلا يؤخذ منه أن الجلال يريد أن ذلك الأمر كان في الإسلام. وإذا عرفت أن ما ذكر الجلال ليس للاحتجاج به، بل لإفادة معناه فلا يقال عليه: فما لنا ولهم فقد كانوا ... إلخ. فإنا لو سوغنا أن هذا الكلام قادح فيما نقل الجلال لسددنا باب رواية أخبار العرب ووقائعها وأشعارها، ولقيل لمن أتى بشيء من ذلك: فما لنا وللعرب! فقد كان لهم أخبار ووقائع وأشعار. قال شيخنا - دامت إفادته -: وهذا قياس لا مطعن فيه، ولا يرد على شيء من ¬

(¬1) في ضوء النهار (4/ 2271). (¬2) انظر " ديوان امرئ القيس " (ص 113)، وقد تقدم معناه. (¬3) كلام الجلال في " ضوء النهار " (4/ 2271).

الاعتراضات المعتبرة عند أهل الأصول. انتهى. أقول: لم يبين - دامت إفادته - ما علة هذا القياس، وهي أحد أركانه الأربعة، وأن كثيرا من الاعتراضات [3أ] الأصولية تتعلق بالعلة، فمتى أبينت علة القياس بالمسلك الأصولي، ورد على المسلك ما يرد إن شاء الله (¬1). قال شيخنا - دامت إفادته -: وقد عمل عليه في إثبات الحد على قاذف الرجل المسلمون أجمعون. انتهى. أقول: هذا دعوى للإجماع وقد تقدم أول هذا البحث ما يقيد عدم حجيته لمقام أن صغرى القياس المنطقي الذي يتخلل إليه الاستدلال بالإجماع فممنوعة. قال شيخنا - دامت إفادته - أقول: إن كان الاعتبار في مثل هذه الآية بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالفاحشة عامة، والذين آمنوا عام، ومقتضى ذلك أن من أحب أن تشيع أي فاحشة في أي مؤمن فهو كما قال الله - سبحانه - من غير فرق بين فاحشة وغيرها. انتهى. أقول: الآية المشار إليها هي قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬2)، والفاحشة في القاموس (¬3): الفاحشة الزنى وما يشتد قبحه من الذنوب، كل ما نهى الله عنه. إذا عرفت هذا فمن احتج بهذه الآية على أنه يحد قاذف الرجل فقد غلط من وجوه: لأن المحكوم في هذه الآية ليس حد القذف، ولا المحكوم عليه القاذف، بل المحكوم به أعم ¬

(¬1) تقدم ذكره. وانظر: " البحر المحيط " (3/ 195 - 196)، " إرشاد الفحول " (ص 454). (¬2) [النور: 19]. (¬3) (ص 744).

من حد القذف، وثبوت الأعم لا يلزم ثبوت الأخص، والمحكوم عليه أيضًا أعم من القاذف من وجه، وأخص من وجه؛ لأنه يجوز أن يرمي الرجل الرجل بالزنى ولا يحب أن تشيع تلك الفاحشة، وأن يوجبه مع المحبة لذلك، وأن لا يوجبه مع محبة أن تشيع الفاحشة، وثبوت الحكم لأحد من بينهما تلك النسبة [3ب] لا يلزم ثبوته للآخر، مثلا إذا ثبت حكم حد القذف للمحب أن تشيع الفاحشة لا يستلزم ثبوته للقاذف ثبوتا كليا. إذا تقرر هذا فتوهيم الجلال لمن احتج بالآية صحيح. وأما قوله في دفع الاحتجاج بالآية بقوله: لأن شيوعها فيهم عبارة عن لحوق عارها لهم، وعار زنى المرأة لاحق لرجالها ضرورة عرفية. انتهى. فبعد صحة دعواه وهي عدم صحة الاحتجاج بالآية على حد قاذف الرجل لا يورث الكلام من شيخنا - دامت إفادته - على هذه الجملة من الكلام ما يحصل ثبوت الحد على قاذف الرجل، نعم في كلام الجلال في شيء. قال شيخنا - دامت إفادته -: القصة متواترة لم يخالف في صحتها وتواترها أحد من أهل الشرع، وهي في غالب كتب السير (¬1) والتاريخ (¬2)، فما معنى الرد بقوله مظلمة؟ انتهى. أقول: الجلال لا ينكر شمول دواوين الإسلام لتلك القصة، وإنما قدح في صحة نقلها بما اشتملت عليه من إفهام عمر لزياد رغبة في ستر المغيرة، وأن هذا وجه للحكم على تلك القصة بالإظلام، وأن الأمر كما قال شيخنا - دامت إفادته - فصان الله عمر أن يوهم شاهدا في حد من حدود الله بما يثنيه عن الشهادة!. وأما قوله - دامت إفادته - وهل يجترئ على مثل عمر بن الخطاب مثل هذا الكلام منصف؟. انتهى. فكلام قويم، غير أن الجلال لم يرم عمر بذلك، بل أراد تنزيهه كما قدمنا، ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (154). (¬2) انظر الرسالة رقم (154).

وليس ذلك كلام منه، بل ثبت في الرواية في تلخيص الحافظ ابن حجر ما لفظه: قوله: إن عمر عرض لزياد بالتوقف في الشهادة على [4أ] المغيرة. قال: أرى وجه رجل لا يفضح رجلا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ روى ذلك في هذه القصة من طرق بمعناه، من رواية البلاذري عن وهب بن بقية، عن يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، ثم ذكر بقية الروايات. فإن قلت: القصة متواترة فلا يقدح في صحتها ما ذكر كما قال - دامت إفادته -. قلت: إن أريد بالقصة ما ذكر الجلال ففيها إفهام عمر رضي الله عنه لزياد، وقد نزه شيخنا عمر عن ذلك، فيعود ذلك التنزيه بالإبطال، وإن أريد أصل القصة من دون ذكر الإفهام فيها ففيه أن هذا نقل محتاج إلى تصحيح، بأن يخرج تلك القصة من طرق على الشرط المعتبر في الأصول، ولا يكفي وجودها في غالب كتب السير والتاريخ في أنها متواترة بل لا يكفي وجودها في دواوين الإسلام الصحاح وغيرها في ذلك. نعم. وجودها في صحاح الدواوين يستلزم الصحة فقط، وأما في غيرها فلا. نعم. قد خرج هذه القصة (¬1) الحاكم في المستدرك، والبيهقي، وأبو نعيم في المعرفة، وأبو موسى في الذيل من طرق، وعلق البخاري طرفا، كذا في التلخيص، وهذه الكتب ليست مما يكفي العزو إليها في الحكم على الحديث بالصحة، فالحكم بصحة القصة يحتاج إلى نقل الأسانيد والنظر فيها. وأما قول شيخنا - دامت إفادته -: إنه لم يخالف في صحتها وتواترها أحد. فإنه أراد أنه لم يصدر عن أحد نفي التواتر والصحة مع القول بالصحة والتواتر فهو عائد إلى الإجماع، وقد عرفت ما فيه، وإن أراد أنه لم يجد قائلا بأنها ليست متواترة، أو ليست بصحيحة من غير نظر إلى أنه يقول بالتواتر أو الصحة أولا، فتسليمه لا ينفعه ولا يضر الجلال [4ب]. ¬

(¬1) تقدم تخريجها في الرسالة رقم (154).

وأما قول الجلال - رحمه الله -: حتى روي أن عليا قال: إن حددتهم فارجم المغيرة (¬1). وفي رواية: فأعط صاحبك حجارة. ولا وجه لترتيب الرجم على حد ¬

(¬1) قال الأمير الصنعاني في " منحة الغفار حاشية على ضوء النهار " (4/ 2273): في هذا النقل تسامح فإن الذي في تاريخ ابن خلكان وغيره أن عمر لما لم يتم النصاب على ما رمي به المغيرة بعد شهادة الثلاثة الذين ذكرهم الشارح على المغيرة بالزنى أمر عمر بحدهم حد القذف فلما تم جلد أبي بكرة قال: أشهد أن المغيرة فعل كذا وكذا فهم عمر أن يضربه حدا ثانيا فقال له علي: إن ضربته فارجم صاحبك. وهكذا رواية القصة في جميع الكتب التي ذكرت فيها إنما في ألفاظها اختلاف يسير وبهذا عرفت أن عمر جلد الثلاثة وأن كلام علي عليه السلام إنما قاله لما أراد عمر جلد أبي بكرة ثانيا لقذفه المغيرة بعد الجلد. قال ابن خلكان بعد سياقه القصة كما ذكرنا ما لفظه: قلت وقد تكلم الفقهاء على قول علي رضي الله عنه " إن ضربته فارجم صاحبك " قال أبو نصر الصباغ وهو صاحب كتاب الشامل في المذهب: يريد أن هذا القول إن كان شهادة أخرى فقد تم العدد وإن كان هو الأولى فقد جلدته عليه. قلت: وقد ذكر ابن السبكي القضية وذكر ما ذكره ابن الصباغ وزاد وجها آخر فقال: معنى قوله: إن جلدته رجمت صاحبك أي أنك إن استحللت جلده من غير استحقاقه إياه فارجم صاحبك. هذا واعلم أن ما ذكره الشارح يقتضي التوقف عن الجزم بإيجاب الجلد على قاذف الرجل سيما والأصل عدم الوجوب فلا يرفع إلا بدليل قائم يقوم هنا على ذلك. وحديث أبي اليسر الأنصاري لا أدري ما صحته وما أظنه قد سبق الشارح إلى هذا أحد وقد ذكر البحث في حاشيته على الكشاف في سورة النور ثم رأيت بعد أعوام كلاما لأبي محمد بن حزم بعد أن أبطل إثبات جلد قاذف الرجل بالقياس على قاذف المرأة، فقال: ونحن نبين بحمد الله وقوته من أين أوجبنا جلد القاذف للرجل من نص القرآن فنقول وبالله التأييد: إن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) عموم لا يجوز تخصيصه إلا بنص أو إجماع فيمكن أن يريد الله النساء المحصنات كما قلتم ويمكن أن يريد الفروج المحصنات فقلنا نحن: إنه يريد الفروج المحصنات ووجب علينا البرهان الواضح على دعوانا فقلنا: إن الفروج أعم من النساء لأن الاقتصار من مراد الله على النساء تخصيص لعموم اللفظ وهو لا يجوز إلا بنص أو إجماع وأيضا فإن الفروج هي المرمية بذلك لا غيرها من الرجال والنساء برهان ذلك قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) وقوله: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) ومثلها: (وَالحافظين فُرُوجَهُم وَالْحَافِظَات) وقال: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا) فصح أن الفرج هو المحصن وصاحبه هو المحصن له بنص القرآن ثم ساق بسنده حديث أبي هريرة مرفوعًا وفيه: " إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فزنى العينين النظر وزنى اللسان النطق والنفس تمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " وساق حديث أبي هريرة الآخر مرفوعًا بمعنى هذا ثم قال فصح يقينا أن المرمية هي الفروج خاصة وأن المحصنة على الحقيقة هي الفروج لا ما عداها وصح أن الزنى الواجب فيه الحد هو زنى الفرج خاصة لا زنى سائر الأعضاء وزنى النفس دون الفرج لا حد فيه بالنص كما أوردنا في العينين تزنيان فمن رمى بالزنى أي عضو من الأعضاء المذكورة بأنها زانية لم يكن راميا ولا حد عليه بالنص لأن الفرج إن كذب ذلك كله فهو لغو فصح يقينا أن الرمي الذي يجب فيه الحدود وشهادة القاذف وفسقه إنما هو رمي الفروج بلا شك بل يقين لا مرية فيه وأن مراد الله تعالى رمي الفروج، وإذا كان كذلك ففروج النساء والرجال داخلات في الآية دخولا مستويا. انتهى. وهو كما تراه من القوة وإن كان سياق آيات النور ظاهرة في رمي النساء فالسياق تصرفه الأدلة عن التخصيص به وإن أبيت فإجماع الصحابة أنهض شيء في هذا الباب ...

الثلاثة. انتهى. فنذكره تأييدا لإظلام القصة، فإنها قد كانت مظلمة لما استلزمه من القدح في صحابي جليل، أعني عمر رضي الله عنه، وزادت إظلاما بأنه روي فيها هذا الكلام الذي لا يحصل معنى يقصده عاقل، فضلا عن من روي عنه. وأما قول شيخنا - دامت إفادته -: إن عليا إنما قال هذه المقالة عند أن أراد عمر أن يجلد أبا بكرة لما قال بعد جلده قولا يدل على رمي المغيرة، فقال له: إن جلدته يعني يعين جلدا ثانيا فارجم المغيرة (¬1)، لأن هذا القذف الواقع بعد الجلد إن كان موجبا لتكرير الجلد فالقاذف بمنزلة من له شاهد رابع، ففيه أن المقالة لا تناسبه لأنها كما قال الجلال: إن حددتهم فارجم المغيرة، وفي كلام شيخنا - دامت إفادته - أن الذي رتب عليه الرجم للمغيرة إنما هو حد أبي بكرة وكان المقام أن يطالب الجلال تصحيح النقل، أو يبين فساده بما علم أنه قادح في صحة النقل، وفيه أيضًا أن ترتيب حد المغيرة على حد أبي ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة.

بكرة لا يصح، لأنه إذا كان أبو بكرة شاهدا رابعا فليس عليه حد لكمال نصاب الشهادة، وإن لم يكن شاهدا رابعا فهو قاذف فحد المغيرة يترتب على صحة كون كلام أبي بكرة الأخير شهادة شاهد رابع، وكونه شهادة شاهد رابع يترتب على عدم حد أبي بكرة، فحد المغيرة مترتب على عدم حد أبي بكرة فكان مقتضى الحال أن يقال: لا تحد أبا بكرة بل حد المغيرة، لأنه قد كمل نصاب الشهادة [5أ]، أو إن لم تحد أبي بكرة فحد المغيرة؛ لأنه إذا لم يحد فهو شاهد رابع. قال شيخنا - دامت إفادته -: أقول: لا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر، ويعرف ما عظمه الله ورسوله من حق الصحابة أن يقول بمثل هذه المقالة، أو يظن بالصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يكتمون ما عندهم من العلم هيبة لعمر أو غيره، فقد كانوا يراجعونه، ويدفعون كثيرا من أقواله. انتهى. أقول: المقالة المشار إليها هي قول الجلال بعد تسليم أن عليا لم يخالف في قصة المغيرة فغايته إجماع سكوتي (¬1)، ولا ينتهض السكوتي حجة (¬2) لأن عمر كان مهيبا منفذا لرأيه ¬

(¬1) الإجماع السكوتي: وهو أن ينقل عن أهل الإجماع قول أو فعل، مع نقل رضاء الساكتين حتى أنهم لو أفتوا لما أفتوا إلا به، ولو حكموا لم يحكموا إلى به. ويعرف رضاؤهم: بعدم الإنكار مع الاشتهار، وعدم ظهور حامل لهم على السكوت وكونه من المسائل الاجتهادية. ولا سيما وأن الظن بالمجتهدين أنهم لا يحجمون عن إبداء رأيهم إظهارا للحق، وإن لقوا من جراء ذلك العنت والضيق. انظر: " حجية الإجماع " (ص 173)، " المسودة " (ص334 - 335)، " البحر المحيط " (4/ 494). (¬2) وفيه مذاهب: منها: أنه ليس بإجماع ولا حجة قاله داود الظاهري والمرتضى وعزاه القاضي إلى الشافعي وقال: إنه آخر أقوال الشافعي وقال الغزالي والرازي والآمدي إنه نص الشافعي في الجديد وقال الجويني إنه ظاهر مذهبه. انظر: " المنخول " (318)، " المحصول " (4/ 153)، " البرهان " (1/ 499). ومنها: أنه إجماع وحجة من الشافعية وجماعة من أهل الأصول. انظر مزيد تفصيل: " إرشاد الفحول " (ص 311)، " المنخول " (ص 318). ومنها: أنه حجة وليس إجماعا قاله أبو حاتم وهو أحد الوجهين عند الشافعية. انظر: " البحر المحيط " (4/ 393). ومنها: أنه إجماع بشرط انقراض العصر لأنه يبعد مع ذلك أن يكون السكوت لا عن رضا، وبه قال أبو علي الجبائي وأحمد في رواية عنه، وقال الرافعي: إنه أصح الأوجه عند أصحاب الشافعي. انظر: " اللمع " (ص 49)، " البحر المحيط " (4/ 494). ومنها: أنه إجماع إن كان فتيا لا حكم وبه قال ابن أبي هريرة وحكاه عنه الشيخ أبو إسحاق والماوردي والرافعي وابن السمعاني والآمدي " الإحكام " للآمدي (1/ 312 - 313) " المحصول " (4/ 157). ومنها: أنه إجماع إن كان صادرا عن حكم لا إن كان صادرا عن فتيا قاله أبو إسحاق المروزي " البحر المحيط " (4/ 500). ومنها: أنه إن وقع في شيء يفوت استدراكه من إراقة دم أو استباحة فرج كان إجماعا وإلا فهو حجة .... " البحر المحيط " (4/ 500). ومنها: إن كان الساكتون أقل كان إجماعا وإلا فلا قاله أبو بكر الرازي. " البحر المحيط " (4/ 501). ومنها: إن كان في عصر الصحابة كان إجماعا وإلا فلا، قال الماوردي في " الحاوي " والروياني في " البحر ": إن كان في عصر الصحابة فإذا قال الواحد منهم قولا أو حكم به فأمسك الباقون فهذان ضربان: أحدهما: مما يفوت استدراكه كإراقة دم أو استباحة فرج فيكون إجماعا لأنهم لو اعتقدوا خلافه لأنكروه إذ لا يصح منهم أن يتفقوا على ترك إنكار المنكر. وإن كان مما لا يفوت استدراكه كان حجة لأن الحق لا يخرج عن غيرهم وفي كونه إجماعا يمنع الاجتهاد وجهان لأصحابنا: أحدهما: يكون إجماعا لا يسوغ معه الاجتهاد. والثاني: لا يكون إجماعا سواء كان القول فتيا أو حكما على الصحيح. ومنها: أن ذلك إن كان مما يدوم ويتكرر وقوعه والخوض فيه فإنه يكون السكوت إجماعا وبه قال إمام الحرمين البحر المحيط (4/ 501). ومنها: أنه إجماع بشرط إفادة القرائن العلم بالرضا، وذلك بأن يوجد من قرائن الأحوال ما يدل على رضا الساكتين بذلك القول " المستصفى " (2/ 365). ومنها ما يكون حجة قبل استقرار المذاهب لا بعدها فإنه لا أثر للسكوت لما تقرر عند أهل المذهب من عدم إنكار بعضهم على بعض إذا أفتى أو حكم بمذهبه مع مخالفته لمذاهب غيره. النظر: " البحر المحيط " (4/ 504)، " البرهان " (1/ 715 - 716). * وخلاصة هذه الأقوال أنه إجماع وحجة، وانظر قول المذهب الثاني وهو الراجح والله أعلم.

ولو من الغريب الملغى، ومن شرط الإجماع السكوتي أن لا يكون لمانع من الإنكار كما علم من الأصول. انتهى. وعدم حل هذه المقالة إن كان لنسبته الهيبة وإنفاذ الرأي إلى عمر فليس مما يتأثر عنه عدم الحل على أن الهيبة قد كانت مشهورة عنه، معروفا بها، حتى قيل: درة عمر أهيب من سيف الحجاج، وبلغ من هيبته أن الناس تركوا الجلوس في الأفنية، وكان الصبيان إذا رأوه وهم يلعبون فروا، ومع هذا أنه لم يكن جبارا ولا متكبرا، وأما إنفاذ الرأي إذا لم يخالف كتابا ولا سنة كما هو الشأن في هذه المسألة، فالظاهر أنه ينفذه وإلا عاد إلى رأي غيره، واتبع الغير فكان مقلدا، وحاشاه أن يكون كذلك. وقد أخرج ابن أبي شيبة (¬1) من طريق زاذان قال: كنا جلوسا عند علي فسئل عن الخيار؟ فقال سألني عنه عمر فقلت: إن اختارت نفسها فواحدة رجعية، قال: ليس كما قلت، إن اختارت نفسها فواحدة بائن، وإن اختارت زوجها فواحدة رجعية. قال: فلم أجد بدا من متابعته، فلما وليت رجعت إلى ما كنت أعرف. وإن كان عدم الحل [5ب] لأنه قد نسب إلى الصحابة السكوت. فأقول: السكوت على ضربين: أحدهما: أن يقع منهم مع أن عمر قضى بما يخالف الكتاب والسنة وهذا لا يريده الجلال، ولا ينسب مثل الجلال مثله إلى مثلهم. وثانيهما: أن يقع مع عدم المخالفة، وذلك يقع مع المرافقة بأن يكون الدليل من الكتاب أو السنة موافقا، أو مع عدم الدليل فيهما عليه، والمسألة عند ذلك من فوائد ¬

(¬1) في مصنفه (5/ 59 - 60).

الاجتهاد والرأي، وهذا هو مراد الجلال، ولذا قال: كان منفذا لرأيه، والرأي إنما يكون عند فقد الدليل من الكتاب والسنة، وأيضا المسألة التي الكلام فيها دليل من الكتاب والسنة إلا في قاذف المحصنة، ولذا نجى من الدعاء أن على قاذف الرجل الحد إلى الاستدلال بقصة المغيرة، وقد علمت بطلان دليل الإجماع السابق (¬1) ثم بطلان القياس السابق (¬2) ثم بطلان ما يخيل أنه إجماع من قصة المغيرة. وبالجملة: فالإجماع السكوتي الذي يدعى لا يصح في مسائل الاجتهاد، لأن الساكت ربما [ ..... ] (¬3) وأن هذا شأن من رسخ في العلم. وأما قول شيخنا - دامت إفادته -: وإذا تقرر لك ما قدمناه علمت أنه قد دل على إثبات الجلد على الرجل القرآن الكريم، وهو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} (¬4) الآية، ففيه أن أتبع الدلالة الإرادة، فإنه لما أراد ذلك من الآية قال: إنها دلت (¬5) وليست بدالة، فكان حقه أن يقيم دليلا على أن الصيغة شاملة لأن الجلال في مقام المنع، على أن الجلال قد أسند المنع بما نقله عن أئمة الأصول من أن جمع المؤنث لا يطلق على جمع المذكر تغليبا (¬6) ولا غيره [6أ]. وأما قوله - دامت إفادته -: وإنما خص .... إلخ. فلا يدل على أن مراده غير ما دلت الصيغة حقيقة لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام. وأما قوله: ثم لو سلمنا اختصاص هذه الصيغة بالنساء، ولهذا لا وجه للتغليب لكان ¬

(¬1) تقدم التعليق على ذلك، انظر: الرسالة (154، 155). (¬2) انظر رد الشوكاني على ذلك في الرسالة رقم (157). (¬3) هنا في المخطوط ثلاث كلمات غير مقروءة. (¬4) [النور: 4]. (¬5) تقدم التعليق على دلالة الآية. (¬6) تقدم توضيحه.

هذا القياس الصحيح السالم عن المطاعن والاعتراض، الجامع للأركان دليلا كافيا، ثم إجماع الأمة سلفها وخلفها في كل عصر بعد إجماع الصحابة ففيه ما قد أسلفنا من عدم بيان علة القياس، وما مسلكها، ومن عدم صحة نقل الإجماع فليراجع. قال شيخنا - دامت إفادته -: ووقوع ذلك من الخلفاء الراشدين الذين هم من أهل الشرع، ومن أهل اللغة فإن كان المبحث لغويا فهم من أهل اللغة، وإن كان شرعيا فهم من أهل الشرع، فعلى كل حال هم أعرف بمقاصد القرآن، ومعاني الشريعة وقد قال فيهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فيما أخرجه أهل السنن (¬1) وغيرهم: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الهادين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، فإن هذا [التوجيه] (¬2) النبوي مشعر بصلاحية ما وقع في الخلفاء الراشدين للحجية على فرض عدم وجود ما يدل عليه في الشريعة، لا إذا وقع مخالفا لما هو ثابت فيها، ثم قد ثبت عند أحمد وأبي داود وغيرهما في قصة الملاعنة: أن من رماها أو رمى ولدها فعليه الحد (¬3). ورمي الولد هاهنا مطلق لم يقيد بكون الرمي له هو أو الرمي لأمه، ثم قد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: سمعت أبا القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " من قذف مملوكه يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال " (¬4) فهذا فيه التصريح بثبوت حد السيد إذا قذف مملوكه، وإنما كان مؤخرا إلى يوم القيامة لأنه لا يثبت العبد ذلك في الدنيا فهو يدل أبلغ دلالة ويفيد أعظم فائدة أن قاذف الرجل الحر يثبت عليه الحد في الدنيا. انتهى [6 ب]. أقول: أما الاحتجاج بوقوع ذلك من الخلفاء الراشدين ... إلخ. فيقال عليه: من ذا المراد من الخلفاء الراشدين، هل جميعهم؟ فيمنع الوقوع فإن منهم من لم يقع منه حد من بعضهم فيقال: إن كان غير معين فممنوع الحجية، وما قيل ¬

(¬1) تقدم تخريجه مرارا، وهو حديث صحيح. (¬2) كلمة يستلزمها السياق. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) تقدم تخريجه.

في إثباتها من قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين (¬1) لا يفيد المدعى؛ لأن ظاهر صيغة الخلفاء الاستغراق. على أنا لو جعلنا اللام للعهد الذهني لكان المأمور به لزوم سنة خلفاء غير معينين، فيكون من تكليف ما لا يطاق، وإن كان ذلك البعض معينا فإن كان الأربعة فقد ادعى بعض العلماء أن إجماعهم حجة، واحتجوا بالحديث المتقدم، وقد صححه الحاكم (¬2)، وقال على شرط الشيخين، وأجيب عنهم بأن صيغة الخلفاء لا تخصهم باعتبار الوضع، ولا قرينة ترشد إلى أنهم المراد منها. ومما يؤنس ببطلان هذه الدعوى وقوع الخلاف من أعلام الصحابة كابن عباس، وابن مسعود للأربعة، ولم ينكر عليهم، على أنا لو سلمنا أنهم المراد من الصيغة كان الدليل دافعا للمدعى؛ لأن سنة الخلفاء عدم الأخذ بأقوال الرجال، والمدعي وجوب الأخذ بقول هؤلاء الأربعة وإن كان العمرين ففيه نحو ما تقدم، وقد ذهب قوم (¬3) إلى أن إجماعهما ¬

(¬1) وهو حديث صحيح تقدم تخريجه: ذهب الجمهور إلى أن إجماع الخلفاء ليس بحجة لأنهم بعض من الأمة وذهب بعض أهل العلم إلى أنه حجة لما ورد ما يفيد ذلك كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ... "، وحديث: " اقتدوا بالذين من بعدي ". قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص 308): وأجيب بأن في الحديثين دليلا على أنهم أهل للاقتداء بهم لا على أن قولهم حجة على غيرهم، فإن المجتهد متعبد بالبحث عن الدليل حتى يظهر له ما يظنه حقا ولو كان مثل ذلك لا يفيد حجية قول الخلفاء أو بعضهم لكان حديث رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد يفيد حجية قوله. انظر " الكوكب المنير " (2/ 239)، " جمع الجوامع " (2/ 179). إذا إجماع الخلفاء الأربعة ليس بحجة. " المسودة " (ص 329). (¬2) في " المستدرك " (1/ 95 - 97) وقد تقدم. (¬3) تقدم ذكره. انظر " إرشاد الفحول " (ص 308).

حجة، واحتجوا بحديث: اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر. رواه أحمد (¬1)، والترمذي (¬2)، وحسنه، والحاكم (¬3)، وابن حبان في صحيحه (¬4)، وأجيب عنهم بأن الأمر مطلق فلا يفيد اتباعهم في كل واقعة، وبأن الحديث ظني والمسألة من الأصول، وبأنه يحتمل أن المراد بالاقتداء (¬5) الإتيان بمثل ما هم عليه من اتباع الأوامر والنواهي، وعدم العمل بالرأي إلا عند فقد الدليل، ومع الاحتمال لا تبقى حجة مع أن هذا الاحتمال هو الراجح لسلامته من ما يرد على الأول، وبأن الحديث غير صحيح (¬6) لأن في إسناده عبد الملك بن عمير (¬7) وقد قال أحمد (¬8) ضعيف يغلط، وقال ابن معين (¬9): ¬

(¬1) في المسند (5/ 382، 385، 402). (¬2) في السنن (3662) وقال: حديث حسن. (¬3) في المستدرك (3/ 75). (¬4) في صحيحه رقم (2193 - موارد). قلت: وأخرجه الطحاوي في " مشكل الآثار " (2/ 83 - 84) والحميدي في مسنده (1/ 214) رقم (449) وابن سعد (2/ 334) وأبو نعيم في " الحلية " (9/ 109) كلهم من طرق عن عبد الملك بن عمير. * وأخرجه الترمذي رقم (3663) وأحمد (5/ 399) من حديث حذيفة لكن من طريق سالم أبي العلاء. * وأخرجه الترمذي رقم (3805) وقال هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، والحاكم (3/ 75 - 76) وقال: إسناده صحيح ورده الذهبي بقوله: قلت: سنده واه. والبغوي في " شرح السنة " (14/ 106 رقم 3896) وقال: حديث غريب كلهم من حديث ابن مسعود. وخلاصة القول: أن الحديث صحيح. (¬5) قلنا: إن في الحديثين دليلا على أنهم أهل اقتداء بهم لا على أن قولهم حجة على غيرهم. (¬6) بل هو صحيح كما تقدم. (¬7) انظر " تهذيب التهذيب " (3/ 620 - 621). (¬8) ذكره ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (3/ 620). (¬9) ذكره ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (3/ 620).

مخلط [7أ]، وإن كان غيرهما فمن ذا هو؟ وأما قوله - دامت إفادته -: الذين هم من أهل الشرع واللغة. انتهى. ففيه أن كون المجتهد الحاكم بحكم من أهل الشرع واللغة لا يستلزم حجية ما حكم به، وذهب إليه، وأما الثابت في قصة الملاعنة فالسياق يدل على القيد، وقد ثبت من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند أحمد (¬1)، ولم يتكلم عليه الحافظ في التلخيص (¬2) مع الإشارة إليه، ووثق رجاله صاحب مجمع الزوائد (¬3) إلا محمد بن إسحاق فإنه رماه بالتدليس " قضى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في ولد المتلاعنين أنه يرث أمه وترثه أمه، ومن رماها به جلد ثمانين، ومن دعاه ولد زنا جلد ثمانين ". وأما ثبوت الحد على قاذف (¬4) المملوك يوم القيامة فقاذف الحر أولى منه، فيدل بفحوى الخطاب أنه ثبت على قاذف الحر حد في الدنيا فليس في منطوق الحديث ذلك، ولا في مفهومه. انتهى المراد. كتبه يوم السبت خامس عشر شهر رمضان سنة 1220. بقلم مؤلفه الفقير إلى عفو الله حسين بن محمد بن عبد الله العنسي - غفر الله له ولوالديه - آمين [7ب]. ¬

(¬1) في " المسند " (1/ 245). (¬2) (3/ 455). (¬3) (6/ 280). (¬4) " الميزان " (3/ 468 - 475 رقم 7197) والمغني في الضعفاء (2/ 552 رقم 5275).

هذا ما تعقب به شيخنا العلامة بدر الإسلام محمد بن علي الشوكاني على الأخ العلامة الحسين بن محمد العنسي عافاه الله تعالى لما حرره على بحث الجلال في حد قاذف الرجل

هذا ما تعقب به شيخنا العلامة بدر الإسلام محمد بن علي الشوكاني على الأخ العلامة الحسين بن محمد العنسي عافاه الله تعالى لما حرره على بحث الجلال في حد قاذف الرجل حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: هذا ما تعقب به شيخنا العلامة بدر الإسلام محمد بن علي الشوكاني على الأخ العلامة الحسين بن محمد العنسي عافاه الله تعالى لما حرره على بحث الجلال في حد قاذف الرجل. 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين وبعد. فأوقفنا على ما كتبه تلميذنا الولد القاضي العلامة شرف الإسلام الحسين بن محمد لا برح مجده في كل وقت ... 4 - آخر الرسالة: وإلى هنا انتهى شوط القلم، والحمد لله، وأستغفر الله إن كان في هذه المباحثة شيء من الجدل المنهي عنه ولا نشعر به. 5 - نوع الخط: خط نسخي رديء. 6 - عدد الصفحات: 12 صفحة. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 24 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 11 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين، وبعد: فأوقفنا على ما كتبه تلميذنا الولد القاضي العلامة، شرف الإسلام الحسين بن محمد (¬1) - لا برح مجده في كل وقت يتجدد - على ما كتبناه على بحث الجلال في شرحه على الأزهار (¬2)، المتعلق بعدم وجوب حد القذف على قاذف الرجل. فقال - كثر الله فوائده -: فكيف يحمل الشيء - وهو عام - على بعض أفراده؟ أقول: إن أراد بهذا العموم المعروف بالشمولي (¬3) فليس بصحيح؛ إذ لا شمول لقول الجلال: وفي نفسي منه شيء، ولو فرضنا أنه جاء بعبارة تفيد العموم الشمولي لكان قد أخبر عن نفسه بأنه قد كان فيها كل شيء، فيستلزم وجود جميع الموجودات من الجواهر، والأعراض في نفسه، هذا على فرض اختصاص الشيء بالموجود، وهذا باطل للضرورة، وكذا ملزومه، وإن أراد العموم البدلي (¬4) فكيف يستنكر حمله على بعض أفراده، وهو لا يكون إلا لفرد من أفراده، كما هو شأن كل بدلي، فإنه للفرد المنتشر، وإذا لم يكن ما أوردناه معينا لما ذكرناه فأقل الأحوال أنه أحد ما يصدق عليه ويتناوله بدلا، على أن هذه العبارة لا تستعمل في مثل المقام الذي تكلمنا عليه إلا بما ذكرنا. وأما قوله: قلت: يمكن أن يكون المراد منه عدم الحجية. فأقول: فيكون على هذا المعنى كلام الجلال: وفي نفسي منه عدم الحجية، وهو أيضًا لا يناسب قوله: لأن نقل الإجماع لا يصح، فإن عدم صحة النقل تنفي الدليل بالمرة ¬

(¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) في " ضوء النهار " (4/ 2270 - 2271). (¬3) تقدم تعريفه في الرسالة رقم (154). (¬4) تقدم تعريفه في الرسالة رقم (154).

لا مجرد عدم حجيته، فإن الاقتصار على نفي الحجية إنما يكون بعد إثبات أصل ما زعمه الخصم دليلا، ثم بعد هذا كله نسأل تلميذنا - كثر الله فوائده - بم يفسر قولي هكذا في نفسي من كون هذا البحث من كلام تلميذنا شيء؟ هل بمجرد الشك؟ أم بزيادة عليه؟ فقد يكون الواقع في النفس تجد شيئا منتهيا إلى ما هو قريب العلم، كما روي أن كثير [1أ] كان يهاجي المرئي (¬1)، فبعث إليه بقصيدة قد أعانه جرير بثلاث أبيات فيها هي: يعد الناسبون إلى تميم ... بيوت المجد أربعة كبارا يعدون الرباب وآل سعد ... وعمرا ثم حنظلة الخيارا ويذهب بينها المرئي لغوا ... كما ألغيت في الدية الخوارا فلما وصل رواية كثير عند إنشاده القصيدة إلى هذه الثلاثة الأبيات قام المرئي (¬2) يصرخ ويلطم وجهه، ويقول: ما لي ولجرير! فقالوا له: سمنت عينك، وأين منك جرير؟ هذا شعر كثير، وهذه روايته؟ فقال: هيهات، والله لا يقول كثير هذا. ¬

(¬1) قال صاحب الأغاني (18/ 272 - 273): لقي ذو الرمة جريرا فقال له: تعصبت على خالك للمرئي، فقال جرير: حيث فعلت ماذا؟ حين تقول للمرئي كذا وكذا، فقال جرير: لأنك ألهاك البكاء في دار مية حتى استقبحته محارمك. فقال ذو الرمة: لا، ولكن اتهمتني بالميل مع الفرزدق عليك، قال: كذلك هو، قال: فوالله ما فعلت، حلف له بما يرضيه، قال: فأنشدني ما هجوت به المرئي، فأنشده قوله: نبت عيناك عن طلل بحزوى ... عفته الريح وامتضح القطارا فأطال جدا، فقال له جرير: ما صنعت شيئا، أفأرفدك؟ قال: نعم قل، فأنشد هذه الأبيات، فمر ذو الرمة بالفرزدق فقال له: أنشدني أحدث ما قلت في المرئي، فأنشده هذه الأبيات، فقال الفرزدق: كذبت وايم الله، ما هذا لك، ولقد قاله أشد لحيين منك، وما هذا إلا شعر ابن الأتان - يعني جريرا -. " الأغاني " (18/ 272 - 273). (¬2) انظر " الأغاني " (18/ 274).

وروي أن الفرزدق مر على كثير وهو ينشد هذه القصيدة بمربد البصرة، فسمعه حتى بلغ هذه الثلاثة الأبيات فقال له: أنت تقول هذا يا كثير؟ قال: نعم، قال: لم تقله! إنما قاله من هو أشد لحيين منك، هذا شعر ابن المراعة (¬1)، ويشبه هذا دخول راويته مسلم بن الوليد على بعض الأمراء بقصيدة أرسله بها إليه، فأراد أن ينتحلها، وأخبر الأمير أنها له، فأمره بإنشادها فقال: لا تدع بي الشوق إني غير معمود ... نهى النهى عن هوى البيض الرعاديد (¬2) وكان الأمير متكئا فاستوى جالسا وقال: إني لأجد ريح مسلم بن الوليد. ونحو هذا، وإن كان دخيلا في المقام يعده غيرهن كلامنا حشوا ففيه فائدة. قال: كلام الجلال سند للمنع، وكل ما كان سندا للمنع لا يفيد الكلام عليه، ثم قال: وكبرى هذا الشكل مقررة في علم المناظرة (¬3). أقول: لم يتقرر في علم المناظرة كلية هذه الكبرى، فإنه لم يقل أحد منهم أنه لا يقل كل كلام على السند أو ولا يفيد، بل قالوا إنه لا يحسن البحث على السند إذا كان غير متساو، وأما إذا كان متساويا فهو من مباحث علم المناظرة، وقد جعلوا [1ب] مباحث هذا الفن في مطولات كتبهم تسعة أبواب، وجعلوا بحث الكلام على السند الخامس منها فليراجعه تلميذنا - كثر الله فوائده - حتى يتقرر لديه ما يقبل من الكلام عليه وما لا يقبل، بل هذا البحث موجود في المختصرات، فإنه قال العضد في آداب البحث (¬4): ولا يدفع ¬

(¬1) أي جرير. (¬2) " الأغاني " (19/ 44). وكتاب الأغاني يحتوي على أخبار وحكايات أوردها عن آل البيت وهي أخبار تسيء إليهم ... وفيه حكايات شنيعة وأخبار فظيعة نفس فيها الأصبهاني عن حقده الدفين وضغينته على العرب وأخبار فيها طعن في العقيدة وتفضيل الجاهلية انظر كتب تحت المجهر لعبد العزيز بن محمد السرحان (ص 64 - 65). (¬3) انظر " الفقيه والمتفقه " (1/ 229)، مناهج الجدل (ص45)، الجدل لابن عقيل (ص42). (¬4) (ص13). بالمطبعة الرسمية العربية تونس 1340.

السند إلا إذا كان متساويا، وتكلم السامع بما هو معروف من التقسيم، فكيف قال تلميذنا - عافاه الله -: إن كبرى هذا الشكل مقررة في علم المناظرة! وقد علم أن أهل علم المنطق متفقون على اشتراط كلية الكبرى! وقد بطلت كليتها هاهنا باتفاق أهل العلم الذي نسب تقرير ذلك إليهم. فإن قلت: قد أوضحت بطلان ما ذكره من صحة ذلك الشكل فأين لي كون هذا السند الذي وقع الكلام عليه على دعواه مساويا للمنع. قلت: المنع متوجه إلى الإجماع الذي نقله المستدل، فالمانع طلب الدليل على مقدمة دليل الإجماع، فإذا كان قوله: لأن نقل الإجماع لا يصح سندا للمنع فإبطاله لا يكون إلا بإثبات الصحة، فكان الكلام الواقع على ذلك الزاعم كلاما على السند المساوي، ولو سلم أنه أعم لم يكن عمومه مانعا للكلام عليه، فإنه قد جوزوا الكلام على السند الأعم في ما لم يذكروه؛ لأنه لو كان كذلك لم يكن مجامعا للمقدمة الممنوعة تحقيقا لمعنى العموم، والكلام معروف في كتب الفن، هذا على فرض صحة ما ذكره تلميذنا - عافاه الله - من كون ذلك الكلام منا كلاما على السند، وأما عند التحقيق فليس ذلك الكلام الذي تكلمنا عليه من الباب الذي ظنه تلميذنا - كثر الله فوائده - فإن الجلال (¬1) قال في عنوان تحته هكذا: وأما جلد قاذف المحصن فلا تنتهض عليه الآية؛ لأن جمع المؤنث لا يطلق على جمع المذكر ... إلخ. وكل عارف بالفن يعلم أن هذا الكلام [2أ] من باب النقض للدليل بشاهد لا من باب المنع وسنده؛ لأنه كلام على فساد الدليل، وكل كلام على فساد الدليل نقض، فهذا نقض، أما الكبرى فإطباق أهل الفن على ذلك، ومن لم يقبل هذا منع النقل حتى يثبته، وأما الصغرى فظاهره، ثم قال الجلال بعد هذا: وربما يدعي الإجماع، وفي نفسه منه شيء؛ لأن نقل الإجماع لا يصح، وهذا الكلام على ما فيه من عوج وسقوط هو ¬

(¬1) في " ضوء النهار " (4/ 2270).

أيضا من النقض؛ لأنه قد أبان فساد نقل الإجماع بشاهد في زعمه، وهو قوله: لأن نقل الإجماع لا يصح، وكثيرا ما يلتبس النقض بالمنع، وشاهد النقض بسند المنع، وهما متفارقان تفارقا في غاية الوضوح والجلاء. قال: ليس في محله؛ لأن مثبت الحد على قاذف الرجل الحر. أقول: الناقل للإجماع مستدلا به على مطلب من المطالب إن كان الكلام معه في صحيح نقل الإجماع فهذا لا يشك أحد على أنه كلام على النقل، وإن كان الكلام معه في حجية ذلك الإجماع الذي استدل به فهذا كلام معه في الدليل، وجواب الكلام الأول تصحيح النقل، وجواب الثاني الاستدلال، والذي نحن بصدده، وكلامنا عليه هو قول الجلال؛ لأن نقل الإجماع لا يصح، وهذه العبارة يعلم كل من يفهم تراكيب كلام العرب أن المراد بها الإخبار بعدم صحة الإجماع لا بعدم دلالته، فهذا وجه قولنا في تلك الرسالة: إن المقام مقام أن يطلب منه صحة النقل. قال: هو أن يروي المجمع عليه عن أهل الإجماع بنقل عدل تام الضبط ... إلخ. أقول: هكذا نقول، ولسنا ممن يخالف في هذا، وإنما تكلمنا على ما في كلام الجلال من مخالفة مسلك المناظرة؛ لأنه قام مقام النقض في مقام طلب تصحيح النقل، ولم نقل [2ب] أنها قد قامت عليه الحجة بمجرد دعوى الإجماع، كيف أقول بهذا وأنا لا أرى حجية الإجماع (¬1) بعد صحة نقله! فضلا عن مجرد إجماع مدعى، هذا باعتبار ما يقتضيه ظاهر عبارة تلميذنا - كثر الله فوائده - فإنه انتقل من كون كلامنا السابق كلاما على سند المنع إلى اعتبار تصحيح نقل الإجماع بتلك الطريق، ولم يتكلم إلا على أن كلام ¬

(¬1) هذا رأي الشوكاني، وانظره مفصلا في " إرشاد الفحول " (ص 293) وما بعدها. والراجح ما ذهب إليه الجمهور أن الإجماع إذا استوفى شروطه يكون حجة قطعية ملزمة للمسلمين، فلا يجوز معه المخالفة أو النقض. انظر: " حجية الإجماع " للفرغلي (ص 130 - 162).

الجلال لم يقع موقعه، ولا صادف محزه (¬1)؛ لأنه جاء بالنقض، ثم بشاهد النقض في موضع لا يصلح فيه إلا طلب تصحيح النقل، فكان مجرد نقضه فاسدا وشاهده دعوى. قال: وكلامه على القياس ليس لإثباته. أقول: هكذا نقول إنه لم يحرر هذا البحث إلا لإبطال أدلة المستدلين على وجوب الحد على قاذف الرجل، ولكنه ادعى لتلك الأدلة عللا وأسبابا لم يقل بها المستدل، ولا يوجد في كتبه، فإن كان كل من تكلم على دليل فقد بطل بمجرد كلامه لزم بطلان غالب الأدلة، وإن كان الكلام الذي يوجب بطلان الدليل من منع، أو نقض، أو معارضة هو ما كان من ذلك جاريا على الوجه المعتبر فليس منه ما فعله الجلال، فإنه زعم عدم صحة نقل الإجماع بمجرد قوله: لا يصح، وزعم بطلان القياس بمجرد قوله: إن علة الحد دفع النقيصة، فهل يبطل القياس بمجرد ذكره بهذه العلة؟ إن قلتم: نعم، لزم بطلان كل قياس يزعم الخصم أن له علة مدفوعة، سواء كانت العلة في الواقع أو لا، وحينئذ لا يعجز أحد عن دفع دليل القياس؛ لأنه يعلله بعلة باطلة، ويبطله بإبطالها، وليس لأحد أن يقول له هذه العلة [3أ] التي ذكرت ليست العلة التي قصدها الشارع، فإن قال قائل بذلك قلنا له: بل هي العلة كما زعم خصمك شئت أم أبيت، فقد بطل قياسك ببطلانها، وهذا الصنيع ليس من العلم في شيء. وإن قلتم: لا يقبل القدح في استدلال من استدل بالقياس بالقدح في علته بكونها كذا وكذا، أو كذا إلا إذا كانت تلك العلة المقدوح فيها هي العلة في زعم المستدل. فنقول: هذا صحيح، ولكن ما زعمه الجلال من أن العلة في حد القذف لم يقل به أحد، ولا وقفنا عليه في شيء مما قد وقفنا عليه، فكيف يلزم المستدل بذلك القياس أن يتحملوا ما حملهم الجلال حتى يبطل قياسهم بمجرد ما جاء به من عند نفسه من العلة! ¬

(¬1) غير مقروءة في المخطوط.

قال: نعم إبطال أن العلة ما ذكر الجلال مع بيان أن العلة غيرها ... إلخ. أقول: قد ذكرنا في تلك الرسالة (¬1) ما قيل: إنه العلة فليراجعه تلميذنا - عافاه الله -. قال: والفرق بين النقيصتين ضروري، فإن الرجل يجد من نفسه عند أن تزني ابنته ما لا يجده عنده أن يزني ولده. أقول: سلمنا هذا فكان ماذا؟ فإن الشارع لم يربط الحد بأبلغ ما يجده الإنسان من العار، ولا قال بهذا قائل من المسلمين، ولو كان الأمر كذلك لم يثبت حد القذف إلا لمن هو قاذف لمن كان أعلى الناس رتبة، وأشرفهم نفسا؛ لأن في الناس من لا يبالي إذا قذفت ابنته أو أخته، أو يبالي مبالاة يسيرة، بل قد يجد الرجل الرفيع بزنى أمته زيادة مما يجده هذا بزنى ابنته وأخته، بل قد يجد الرجل الرفيع عالي الهمة للكلمة التي فيها أدنى انتقاص وأحقر شتم زيادة على ما يجده [3ب] من قذفت بالزنى ابنته. وقد تكون الكلمة التي يعدها الوضيع كمالا ومدحا عند الرفيع نقصا وهجاء، فبالله دعونا من تقويم المعوج، وإصلاح الفاسد، فإن الكلام على كون هذا قذفا فيه من النقص ما هو أشد من غيره، أو أخف من غيره ليس من الشرع في شيء، ولا اعتبره أحد بل هو من ساقط المقال، وزائف النظر، والله يحب الإنصاف. قال: ولا يريد إلا أهل الجاهلية ... إلخ. أقول: إن كان يريد بذلك أهل الجاهلية فما ينفعه ولا يضرنا، فإنه جاء الشرع بأن الزنى نقيصة على الذكر والأنثى، ومذمة بالغة، وصار مما يتغاير به المسلمون، وينتقصون فاعله، فإذا كان أهل الجاهلية لا يتغايرون به، أو لا يرونه نقصا فيما يفيد هذا من فائدة! فإنا بصدد الكلام على الأحكام الشرعية، لا على ذكر مآثر الجاهلية، وما كانت عليه، وما يحمد عندها ويذم، فكيف قال تلميذنا - كثر الله فوائده -: فإنا لو سوغنا أن هذا الكلام قادح فيما نقل الجلال لسددنا باب رواية أخبار العرب ووقائعها وأشعارها ¬

(¬1) الرسالة (154).

إلخ، فإنا لم نكن بصدد إنكار ما رواه الجلال عن العرب، بل بصدد إنكار القدح في الأحكام الشرعية أو تخصيصها أو تقييدها بمجرد كون العرب كانت تفعل كذا، أو تستحسن كذا أو تستقبح كذا، وبين المقامين فرق يجل قدر تلميذنا - عافاه الله - عن أن يلتبس عليه أو يخفى عنه [4أ]. قال: بل المحكوم به أعم من حد القذف ... إلخ. أقول: هذا صحيح، ولست أظن أن عالما من علماء الإسلام يستدل على حد القذف بهذه الآية (¬1) ولا أحسب مصنفا من المصنفين يحرر في مصنفه هذه الآية دليلا على حد القذف، فليست من الدلالة على ذلك في ورد ولا صدر، لأن الله - سبحانه - إنما قال: {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، ولم يقل يجلدون ثمانين جلدة، لكن الجلال لما أوقع نفسه في مضيق أن الحد لا يجب على قاذف الرجل لأن النقص بنسبة الزنى إليه هو دون النقص بنسبة الزنى إلى النساء استشعر بأن قائلا سيقول له ما يقول في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} (¬2) ... إلخ ففر من هذا الذي يخيله إلى ما هو أضيق منه فحكم بتخصيصها وتقييدها بدون مخصص ومقيد إلا مجرد الوهم، فليراجع تلميذنا - دامت إفادته - ما حررناه في تلك الرسالة متصورا للإنصاف متنكبا للاعتساف، فإن ذلك أولى بالحق وأهله. قال: وإن هذا وجه الحكم على تلك القصة بالإظلام. أقول: فيكون حاصل هذا أن القصة المتواترة (¬3) التي لا خلاف في صحتها اشتملت على لفظ فيه نكارة، وإذا كان الأمر هكذا فكيف يحكم ببطلان قصة متواترة ثابتة في ¬

(¬1) يشير إلى قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النور: 19]. (¬2) [النور: 19]. (¬3) قال الأمير الصنعاني في " منحة الغفار حاشية على ضوء النهار " (4/ 2273): في هذا النقل تسامح فإن الذي في تاريخ ابن خلكان وغيره أن عمر لما لم يتم النصاب على ما رمي به المغيرة بعد شهادة الثلاثة الذين ذكرهم الشارح على المغيرة بالزنى أمر عمر بحدهم حد القذف فلما تم جلد أبي بكرة قال: أشهد أن المغيرة فعل كذا وكذا فهم عمر أن يضربه حدا ثانيا فقال له علي: إن ضربته فارجم صاحبك. وهكذا رواية القصة في جميع الكتب التي ذكرت فيها إنما في ألفاظها اختلاف يسير وبهذا عرفت أن عمر جلد الثلاثة وأن كلام علي عليه السلام إنما قاله لما أراد عمر جلد أبي بكرة ثانيا لقذفه المغيرة بعد الجلد. قال ابن خلكان بعد سياقه القصة كما ذكرنا ما لفظه: قلت وقد تكلم الفقهاء على قول علي رضي الله عنه " إن ضربته فارجم صاحبك " قال أبو نصر الصباغ وهو صاحب كتاب الشامل في المذهب: يريد أن هذا القول إن كان شهادة أخرى فقد تم العدد وإن كان هو الأولى فقد جلدته عليه. قلت: وقد ذكر ابن السبكي القضية وذكر ما ذكره ابن الصباغ وزاد وجها آخر فقال: معنى قوله: إن جلدته رجمت صاحبك أي أنك إن استحللت جلده من غير استحقاقه إياه فارجم صاحبك. هذا واعلم أن ما ذكره الشارح يقتضي التوقف عن الجزم بإيجاب الجلد على قاذف الرجل سيما والأصل عدم الوجوب فلا يرفع إلا بدليل قائم يقوم هنا على ذلك. وحديث أبي اليسر الأنصاري لا أدري ما صحته وما أظنه قد سبق الشارح إلى هذا أحد وقد ذكر البحث في حاشيته على الكشاف في سورة النور ثم رأيت بعد أعوام كلاما لأبي محمد بن حزم بعد أن أبطل إثبات جلد قاذف الرجل بالقياس على قاذف المرأة، فقال: ونحن نبين بحمد الله وقوته من أين أوجبنا جلد القاذف للرجل من نص القرآن فنقول وبالله التأييد: إن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) عموم لا يجوز تخصيصه إلا بنص أو إجماع فيمكن أن يريد الله النساء المحصنات كما قلتم ويمكن أن يريد الفروج المحصنات فقلنا نحن: إنه يريد الفروج المحصنات ووجب علينا البرهان الواضح على دعوانا فقلنا: إن الفروج أعم من النساء لأن الاقتصار من مراد الله على النساء تخصيص لعموم اللفظ وهو لا يجوز إلا بنص أو إجماع وأيضا فإن الفروج هي المرمية بذلك لا غيرها من الرجال والنساء برهان ذلك قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) وقوله: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) ومثلها: (وَالحافظين فُرُوجَهُم وَالْحَافِظَات) وقال: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا) فصح أن الفرج هو المحصن وصاحبه هو المحصن له بنص القرآن ثم ساق بسنده حديث أبي هريرة مرفوعًا وفيه: " إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فزنى العينين النظر وزنى اللسان النطق والنفس تمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " وساق حديث أبي هريرة الآخر مرفوعًا بمعنى هذا ثم قال فصح يقينا أن المرمية هي الفروج خاصة وأن المحصنة على الحقيقة هي الفروج لا ما عداها وصح أن الزنى الواجب فيه الحد هو زنى الفرج خاصة لا زنى سائر الأعضاء وزنى النفس دون الفرج لا حد فيه بالنص كما أوردنا في العينين تزنيان فمن رمى بالزنى أي عضو من الأعضاء المذكورة بأنها زانية لم يكن راميا ولا حد عليه بالنص لأن الفرج إن كذب ذلك كله فهو لغو فصح يقينا أن الرمي الذي يجب فيه الحدود وشهادة القاذف وفسقه إنما هو رمي الفروج بلا شك بل يقين لا مرية فيه وأن مراد الله تعالى رمي الفروج، وإذا كان كذلك ففروج النساء والرجال داخلات في الآية دخولا مستويا. انتهى. وهو كما تراه من القوة وإن كان سياق آيات النور ظاهرة في رمي النساء فالسياق تصرفه الأدلة عن التخصيص به وإن أبيت فإجماع الصحابة أنهض شيء في هذا الباب ...

جميع كتب السير والتواريخ، مذكورة للاحتجاج بها عند كل طائفة، وفي كل مذهب بمجرد وجود لفظ فيه نكارة قد تركه الرواة جميعا إلا الشاذ على فرض صحة ما زعمه الجلال من ورود ذلك! فإن الذي يتعين هاهنا هو ترك ذلك اللفظ المنكر وطرحه من القصة [4ب] المتواترة. وأما ما جعله علة لها توجب إظلامها واطراح حجتها فلست أظن هذا مراء لتلميذنا - كثر الله فوائده - فإنه لا يخفى عليه مثل هذا، وهو أجل من أن يصير إليه، أو يتعلل به أو يعترض بمثله، ولو كان هذا صحيحا لكان من أعظم المفاسد على الشريعة، فإنه لا يعجز الزنادقة والمبتدعة وأعداء الإسلام أن يعمدوا إلى الأحاديث الصحيحة، والقصص المتواترة فيزيدون عليها لفظا منكرا، ويتوصلون بذلك إلى إبطال ما أرادوا إبطاله، وهذا لا يقول به مصنف، أو يصير إليه عالم. وما الجلال حتى تقع في التعصب لتصحيح باطله في هذه المهاوي! فإن مثل هذا لا يحسن في تأويل كلام المعصوم فضلا عن غيره، وأما ما في الرواية المذكورة من قول عمر: أرى وجه رجل لا يفضح رجلا من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فليس في هذا من الإيهام لذلك الشاهد، والرغبة في كتمه الشهادة شيء، هذا على أن هذا اللفظ ثبت من طريق صحيحة (¬1)، وبهذا يعرف تلميذنا - عافاه الله - ما في قوله: فيعود على التنزيه بالإبطال. وما ذكره - كثر الله فوائده - من المناقشة في دعوى التواتر فنقول عليه - عافاه الله - أن يبحث كتب السير، ثم كتب التاريخ المرتبة على السنين، ¬

(¬1) قال الحافظ في التلخيص (4/ 118 رقم 2069) قوله: " إن عمر عرض لزياد بالتوقف في الشهادة على المغيرة، قال: أرى وجه رجل لا يفضح رجلا من أصحاب رسول الله، روي ذلك في هذه القصة من طرق بمعناه. منها: رواية البلاذري عن وهب بن بقية عن يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد. انظر: " فتوح البلدان " (2/ 423 - 424)، " فتح الباري " (5/ 301 - 303). ومنها: رواية عبد الرزاق في مصنفه (7/ 384 رقم 13566) عن الثوري، عن سليمان التيمي عن أبي عثمان الهندي قال: شهد أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد على المغيرة بن شعبة ... إلخ.

ثم كتب التاريخ على غيرها، ثم الكتب المشتملة على التراجم للرواة المشتملة على ذكر أبي بكرة ومن معه، وجميع ما ذكر فيه ترجمة للمغيرة (¬1) أو لأبي بكرة (¬2) من الكتب، ثم المجاميع التي يذكر فيها أدلة الفقه، والكتب التي تذكر فيه المسألة [5أ] الفقهية ودليلها، وينظر في أبواب حد القذف منها، فإن وجد في مجموع ما ذكرناه ما يفيد بعضه التواتر ينقل ذلك أهل العصور المختلفة إلى عصر الصحابة، فذاك ولو سلمنا عدم اجتماع شروط التواتر المعتبرة في الإصلاح لم يضرنا ذلك، فإن القضية متلقاة بالقبول لم يدفع صحتها أحد من أهل الإسلام، وما كان كذلك فهو من الأدلة القطعية، فليس له أن ينكر على من يقول: إنه قد تواتر لديه ولدى أهل العلم هذه القصة، فإن تواتر النقل لا يحصل إلا بعد كمال البحث والاستقصاء، وقد يتواتر لرجل من النقل ما لم يتواتر لغيره، بل قد يتواتر لرجل ما لم يصح لغيره، بل قد يتواتر لرجل ما لم يعلم به غيره أصلا، وتلميذنا - عافاه الله - أجل قدرا من ذلك. قال: وكان المقام أن يطالب الجلال بتصحيح النقل. أقول: هانحن نقوم هذا المقام، ونطلب من تلميذنا - عافاه الله - أن يصحح ما نقله الجلال، ويبحثه في جميع ما يمكن بحثه، فإن وجد ما ذكره من قوله: لئن حددتهم فارجم المغيرة، فلتهده إلينا متفضلا، وإن لم تجده فلتعلم أن هذا اللفظ هو خرج من المخرج الذي خرج منه ما تقدم له من قوله حين أفهمه عمر رغبته من المخرج الذي خرج ¬

(¬1) انظر " المغازي " للواقدي (3/ 1240)، " الطبقات " لابن سعد (2/ 284)، " مرآة الجنان " لليافعي (1/ 124). (¬2) انظر " الاستيعاب " رقم (2907)، " الإصابة " رقم (9638) وأبو بكرة الثقفي اسمه نفيع بن مسروح وقيل: نفيع بن الحارث بن كلدة بن عمرو بن علاج بن أبي سلمة بن عبد العزى بن عبدة بن عوف بن قيسي. وقيل: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كناه بأبي بكرة، لأنه تعلق ببكرة من حصن الطائف فنزل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انظر " أسد الغابة " رقم (5738).

منه قوله: إن العلة في حد القذف النقيصة الشديدة التي لا يوجد إلا في زنى النساء، ونحو ذلك. قال: فحد المغيرة يترتب على صحة كون كلام أبي بكرة ... إلخ. أقول: المراد من ذلك التركيب الذي ذكرنا معناه من قول علي - عليه السلام - أن عمر إذا أوجب الحد على أبي بكرة بقذفه للمغيرة بعد جلده فقد جعله بمنزلة شاهد (رابع رابع) (¬1)، ومن شهد عليه أربعة يحد ولا يحد الشاهد عليه، ولا يقال له قاذف، فكأنه قال: إن كان أبو بكرة يستحق عندي الجلد بهذه المقالة الواقعة منه بعد جلده فقد استحق أن يكون [5أ] شاهدا رابعا على المغيرة، فارجم المغيرة بشهادته ولا تجعله قاذفا، وهذا لا يلزم منه ما ذكره - كثر الله فوائده - من الترتبات، فإن المراد هذا وليس المراد أنك تحد أبا بكرة ثم حد المغيرة أو العكس. قال: وقد علمت بطلان دليل الإجماع السابق، ثم بطلان القياس، ثم بطلان ما يخيل أنه إجماع من قصة المغيرة. أقول: إن كان بطلان دليل الإجماع بما ذكره الجلال من قوله: وفي نفسي منه شيء؛ لأن نقل الإجماع لا يصح، وكذلك بطلان القياس بقوله: إن الحد لدفع النقيصة التي تلحق العرب ... إلخ، وكذلك بطلان قصة المغيرة بمجرد قوله: إنها مظلمة فهذا لا يخفى على تلميذنا - كثر الله فوائده - أنه لا يشكك سامعه في أدنى حكم من أحكام الظن فضلا عن هذه الأمور فكيف تكون باطلة بمجرد ذلك! وإن كان البطلان بغير ذلك فما هو؟ فإنا لم نقف فيما ذكرناه - كثر الله فوائده - إلا على مجرد توجيه ما تكلم به الجلال، وحمله على تلك المحامل التي قد بينا ما فيها. قال: إن جمع المؤنث لا يطلق على جمع المذكر. أقول: قد ذكرنا وجه ......................................... ¬

(¬1) كذا في المخطوط.

التغليب (¬1) فإن قدح فيه تلميذنا أو صح ذلك. قال: ففيه ما أسلفنا من عدم بيان علة القياس، ومسلكها إلى آخره. أقول: كان الأولى بالمقام الاستفسار عن ذلك، حتى يورده مدعيه، لا جعل عدم الذكر اعتراضا، فليس كل مستدل بالقياس في مسألة من المسائل يذكر أركان القياس، ويبين مسالك علته، وليس مثل هذا مما يخفى على تلميذنا - عافاه الله - فلا نطول بذكره. قال: فيقال عليه: من ذا المراد من الخلفاء الراشدين هل جميعهم ... إلخ. أقول: قد قدح تلميذنا - عافاه الله - في دلالة الحديث على الكل والبعض، والمعين وغير المعين، والمفرد والمتعدد، ولعله لم يتصور أن هذا يستلزم [6أ] الاعتراض على الشارع؛ لأن كلامه في هذا الحديث لا يصح حمله على معنى يصح الحمل عليه، فلم يبق إلا رده عليه أو الحكم بأنه كذب، أو أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - تكلم بما لا معنى له، فاعتراض تلميذنا وتقسيمه للمراد بالحديث إلى تلك الأقسام وإبطاله لكل قسم منها قد استلزم هذا، وإن لم يكن مرادا له - عافاه الله - وكان ينبغي حمله على الخلفاء الموجودين في الثلاثين السنة الكائنة بعد موته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لقوله: " الخلافة من بعدي ثلاثون عاما، ثم يكون ملكا عضوضا " (¬2) فإن هذا الحديث يرشد إلى خلافة الحق، وإلى خلفاء الرشد المذكورين في الحديث، ويعبر عن المراد به، ولا ينفي وجود خلفاء آخرين لم يكونوا مرادين بالحديث، فإذا ضم هذا إلى أن اللام الداخلة على الجمع تهدمه، ويصير للجنس كما تقرر في علم البيان والأصول صار معنى الحديث في غاية الوضوح. وهذا عندي في معنى الحديث ما لا يتسع له البسط، وإنما أوردته في تلك الرسالة تكميلا لاحتجاج من احتج بالقصة العمرية. وقد أهمل تلميذنا - كثر الله فوائده - الكلام على ما ذكرنا من القذف للرجل بأنه يلوط أو .................................... ¬

(¬1) التغليب: هو إعطاء شيء حكم غيره، وقيل: ترجيح أحد المغلوبين على الآخر، وإطلاق لفظه عليهما وإجراء للمختلفين مجرى المتفقين. نحو: (وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) [التحريم: 12]. (إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) [الأعراف: 83]. والأصل من القانتات والغابرات، فعدت الأنثى من المذكر بحكم التغليب. قال في البرهان: إنما كان التغليب من باب المجاز؛ لأن اللفظ لم يستعمل فيما وضع له، ألا ترى أن القانتين موضوع للذكور الموصوفين بهذا الوصف فإطلاقه على الذكور والإناث إطلاق على غير ما وضع له " معترك الأقران " (1/ 197 - 198). (¬2) تقدم تخريجه في الرسالة (154).

يلاط به (¬1)، والمطلوب تتميم بحثه الذي كتبنا عليه هذه الكلمات بالكلام على ذلك فلعله يجد للجلال في ذلك مخرجا، ويفتح له في سماء ذلك السؤال معرجا. وإلى هنا انتهى شوط القلم، والحمد لله، وأستغفر الله إن كان في هذه المباحثة شيء من الجدل المنهي (¬2) عنه ولا نشعر به [6ب]. ¬

(¬1) قال ابن قدامة في المغني (12/ 389 - 390): وفي هذه المسألة فصلان: أحدهما: أن من قذف رجلا بعمل قوم لوط، إما فاعلا وإما مفعولا، فعليه حد القذف وبه قال الحسن والشافعي والنخعي والزهري، ومالك وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن وأبو ثور. قال عطاء وقتادة وأبو حنيفة: لا حد عليه لأنه قذف بما لا يوجب الحد عنده. قال ابن قدامة: وعندنا هو موجب للحد. ثانيهما: أنه إذا قال: أردت أنك من قوم لوط، فاختلفت الرواية عن أحمد فروى عنه جماعة أنه يجب عليه الحد بقوله: يا لوطي ولا يسمع تفسيره بما يحيل القذف وهذا اختيار أبي بكر. ونحوه قال الزهري، ومالك وفي الرواية الثانية أنه لا حد عليه نقلها المروزي ونحو هذا قال الحسن والنخعي، قال الحسن: إذا قال: نويت أن دينه دين لوط فلا حد عليه، وإن قال: أردت أنه يعمل عمل قوم لوط فعليه الحد. ووجه ذلك أنه فسر كلامه بما لا يوجب الحد، فلم يجب عليه حد، كما لو فسر به متصلا بكلامه، وروي عن أحمد رواية ثالثة أنه إذا كان في غضب قال: إنه لأهل أن يقام عليه الحد لأن قرينة الغضب تدل على إرادة القذف، بخلاف حال الرضا. والصحيح في المذهب الرواية الأولى: لأن هذه الكلمة لا يفهم منها إلا القذف بعمل قوم لوط. فكانت صريحة فيه، كقوله: يا زاني، ولأن قوم لوط لم يبق منهم أحد، فلا يحتمل أن ينسب إليهم. (¬2) عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة، ومن تركه وهو محق بني له في وسطها، ومن حسن خلقه بني له في أعلاها ". أخرجه أبو داود رقم (4800) والترمذي رقم (1993) وابن ماجه رقم (51) وهو حديث صحيح. والله أعلم. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم ". وهو حديث صحيح أخرجه البخاري رقم (7188) ومسلم رقم (2668). قال ابن عقيل في " الواضح ": وكل جدل لم يكن الغرض منه نصرة الحق، فإنه وبال على صاحبه، والمضرة فيه أكثر من المنفعة، لأن المخالفة توحش ولولا ما يلزم من إنكار الباطل واستنقاذ الهالك بالاجتهاد في رده عن ضلالته لما حسنت المجادلة للإيحاش فيها غالبا. ولكن فيها أعظم المنفعة إذا قصد بها نصرة الحق، والتقوي على الاجتهاد، ونعوذ بالله من قصد المغالبة ... " انظر " الكوكب المنير " (4/ 370)، " الفقيه والمتفقه " (2/ 25).

بحث في مسائل الوصايا

بحث في مسائل الوصايا تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في مسائل الوصايا. 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: الحمد لله رب العالمين، سألتم دامت منكم الإفادة عن ميت خلف زوجا وابنا وبنتا وأوصى لأولاد ابن 4 - آخر الرسالة: ولكن بعد صلاحيته لذاك وسيعين الله على وجوده والنظر في رجاله إسناده فيضم الكلام على ذلك إلى هذا. 5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول. 6 - عد الصفحات: 6 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 20 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 9 كلمات. 9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني. 10 - الناسخ: المؤلف محمد بن علي الشوكاني.

[بسم الله الرحمن الرحيم] الحمد لله رب العالمين. سألتم - دامت منكم إفادتكم - عن ميت خلف زوجا وابنا وبنتا وأوصى لأولاد ابن قد مات قبله بمثل نصيبه، ثم ذكرتم قسمة نصيب المقصرين لذلك من ستة: للموصى لهم الثلث من الأصل، وللزوج ربع الباقي، وللابن والبنت ما بقي، ثم ذكرتم مخالفة ذلك للقاعدة المعروفة في ميراث المكون، ثم ذكرتم عقب ذلك أن ما فعله ذلك القسام المقصر مطابقا لما يقصده الموصون، واستشكلتم ما جرى عليه أهل هذا العلم إلى آخر ما حررتموه مما هو في غاية الإفادة والإجادة. والذي عند الحقير أن المسألة المذكورة ليست من باب الوصية بمثل ميراث المكون، بل هي من باب الوصية بمثل نصيب، وبين الطرفين فرق، فإن المكون لا وجود له بل مفروض فرضا، مثلا رجل مات وله ابنان، وأوصى لآخر بمثل ميراث ابن لو كان مع أنه لم يكن، وهذا معنى التكوين كما لا يخفى شريف ذهنكم، وأما إذا كان الابن قد كان ومات أو كان موجودا ولم يمت فالوصية لأولاده بمثل نصيبه هي من باب الوصية بمثل نصيب، والقاعدة فيها أن من كان موجودا من الزوجين لا ينتقص من ميراثه شيئا. فمسألة المذكورين في محل السؤال من أربعة: للزوج الربع (¬1) واحد، والباقي لا ينقسم على الابن والبنت [1أ] (¬2) وعلى الموصى لهم أخماسا فتضرب مخرج الخمس في المسألة تكون عشرين: للزوج الربع، وللابن الحي ستة، ولأخته ثلاثة، ولأولاد الابن الميت ستة، ولا وجه لما فعله ذلك القسام المقصر، فإنه قطع بعض ميراث الزوج بلا ¬

(¬1) لقوله تعالى: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ) [النساء: 12] (¬2) لقوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [النساء: 11]

سبب؛ لأن غاية ما قاله الموصي أنه يكون لأولاد ابنه مثل ما كان لأبيهم، وبالقطع أنه لو كان أبوهم موجودا لم ينقص الزوج عن ربع الجميع، وما ذكرتموه من موافقة مقاصد العامة لما فعله القسام فما أظنهم يقصدون زيادة على كون أولاد الولد بمنزلة الولد، وهو لا ينقص الزوج شيئا، وما ذكرتموه آخرا من أنه كان الصواب أن تكون المسألة من عشرين، وغايته أنه يقع الكسر، فنقول: الصواب أيضًا أنها من عشرين، والقاعدة في الوصية بمثل نصيب هو ذلك، ولا كسر كما تقدم، اللهم إلا أن ينكسر سهام الأولاد على رؤوسهم فذلك باب آخر. نعم لو فرضنا أن الوصية في مسألة السؤال من باب التكوين قلنا: كان الموصي كون في أولاده ولدا لا وجود له، وأوصى لآخر بمثل نصيبه، وذلك هو الخمسان، فيزادان فوق الخمسة يكون المخرج السبع مضروبا في الأربعة التي هي مسألة الزوج [1ب]، يكون الجميع غايته، وعشرين للزوج الربع سبعة، والباقي يقسم أسباعا، يعطى الموصى لهم سبعين من الباقي، ولا شك أن هذا عدل في القسمة؛ لأن الموصي ما أراد الأمثل نصيب المكون المفروض، وهو الخمسان بعد فرض الزوج. ومن المعلوم أنه لو أعطي خمسين لكان ذلك هو عين نصيب المكون لا مثل نصيبه، بخلاف مسألة السؤال، فإنه ما أراد إلا الوصية لأولاد الابن بعين نصيبه، وإن سموا ذلك الوصية بمثل نصيب، فتدبروا هذا يعم هاهنا أمر، وهو أن الأولاد على التقدير الأول الذي هو الوصية بمثل نصيب قد أخذوا ستة من الباقي، وهو الخمسة عشر، وذلك زيادة على الثلث، فإن أجاز الابن والبنت ساغت الزيادة التي صارت مع أولاد الولد، وهي سهم، وإن لم يجيزا فهي لهما لأن ما زاد على الثلث لا ينفذ (¬1) إلا بالإجازة (¬2) كما هي ¬

(¬1) لما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2743) ومسلم رقم (10/ 1629) من حديث ابن عباس قال: " لو أن الناس غضوا من الثلث فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الثلث والثلث كثير ". (¬2) لما أخرجه الدارقطني (4/ 98 رقم 93) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: " أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا وصية لوارث إلا أن تجيز الورثة ".

القاعدة، ولم يقصد الموصي ثلث جميع التركة، إنما قصد أن يكون لأولاد الابن الميت كالحي، وذلك أمر وراء نصيب الزوج فكأن لا اعتبار بنصيبه بل التركة هي الباقي فهو من باب الوصية بثلث نصيب وارث معين لا ينفذ إلا ثلاثة. وقد صرح أهل الفن بهذا في الوصية بمثل نصيب، فراجعوا ذلك؛ فإنه غير الوصية بمثل ميراث المكون. وأيضا قد ذكره أئمة الفقه كصاحب البيان (¬1)، فإنه صرح به في فرع المسألة الثامنة من كتاب [2أ] الوصايا وغيره مثله، فأمعنوا النظر في هذا فإن وجدتموه كما ذكرته فالمراد، وإن وجدتم فيه خللا باعتبار القاعدة، وكذلك باعتبار ما هو الحق والقصد أفدتم - دامت فوائدكم -. المسألة الثانية: سؤالكم عن حديث أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بتخصيص نساء المهاجرين بالدور. فأقول: هذا الحديث عزاه صاحب التيسير (¬2) إلى أبي داود فقال ما لفظه: وعن زينب - رضي الله عنها - قالت: اشتكى نساء من المهاجرات إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ضيق منازلهم، فأمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن تورث دور المهاجرين النساء، فمات ابن مسعود فورثته امرأته دارا بالمدينة، أخرجه أبو داود (¬3) ¬

(¬1) (8/ 159) حيث قال: وإن أوصى لأحد ورثته بما كان نصبيه من جهة الميراث بالقيمة إلا أنه عين له عينا مثل أن يموت رجل وخلف ابنا وابنة، وخلف دارا بألف وأوصى بها للابن وعبدا بخمسمائة، وأوصى به للابنة فهل تصح الوصية؟ فيه وجهان حكاهما المسعودي في " الإبانة " (ص436). 1 - تصح، ولا تفتقر إلى إجازة، لأن الورثة في المقادير لا في الأعيان فهو كما لو باع الدار من ابنه بألف، وباع العبد من ابنته بخمس مائة في مرض موته. 2 - لا تصح الوصية لهما من غير إجازة، لأن الوارث قد يكون له غرض في ملك العين، فلا يجوز للموصي إبطال ذلك عليه. (¬2) " تيسير الوصول إلى جامع الأصول " لابن الدبيع (4/ 10 رقم 4). (¬3) لتقر عينك يا بدر الإسلام فقد وجدته في سنن أبي داود (3/ 459 رقم 3080) كتابا الخراج والإمارة والفيء بابا رقم (37) في " إحياء الموات " بإسناد صحيح. حدثنا عبد الواحد بن غياث، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا الأعمش عن جامع بن شداد، عن كلثوم، عن زينب أنها كانت تفلي رأس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده امرأة عثمان بن عفان ونساء من المهاجرات، وهن يشتكين منازلهن أنه تضيق عليهن ويخرجن منها، فأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تورث دور المهاجرين النساء، فمات عبد الله بن مسعود فورثته امرأته دارا بالمدينة.

انتهى، وقد طلبته في سنن أبي داود في كثير من الأبواب التي يظن وجوده فيها كالفرائض والخراج، والإقطاع، والنفقات، والجهاد، والغزوات، والهجرة، وغير ذلك فلم أجده (¬1) حتى أنظر في إسناده، وأتكلم عليه، ولعله موجود في غير هذه الأبواب. ويدل على ذلك تكلم الخطابي عليه (¬2)، فإنه قال: كما وجدته نقلا عنه أنه يشبه أن يكون ذلك على معنى القسمة بين الورثة، وإنما خصهن بالدور لأنهن بالمدينة غرائب لا عشيرة لهن، فاختار لهن المنازل لما رأى من المصلحة، قال: ويجوز أن تكون الدور [2ب] في أيديهن على سبيل الرفق بهن للسكنى (¬3) لا للتمليك كما كانت حجر النبي ¬

(¬1) لتقر عينك يا بدر الإسلام فقد وجدته في سنن أبي داود (3/ 459 رقم 3080) كتابا الخراج والإمارة والفيء بابا رقم (37) في " إحياء الموات " بإسناد صحيح. حدثنا عبد الواحد بن غياث، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا الأعمش عن جامع بن شداد، عن كلثوم، عن زينب أنها كانت تفلي رأس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده امرأة عثمان بن عفان ونساء من المهاجرات، وهن يشتكين منازلهن أنه تضيق عليهن ويخرجن منها، فأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تورث دور المهاجرين النساء، فمات عبد الله بن مسعود فورثته امرأته دارا بالمدينة. (¬2) في " معالم السنن " (3/ 458): قال الخطابي قد روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنه أقطع المهاجرين الدور بالمدينة " فتأولوها على وجهين: أحدهما: أنه إنما كان أقطعهم العرصة ليبتنوا فيه الدور، فعلى هذا الوجه يصح ملكهم في البناء الذي أحدثوه في العرصة. ثانيهما: أنهم إنما أقطعوا الدور عارية، وإليه ذهب أبو إسحاق المروزي، وعلى هذا الوجه لا يصح الملك فيها وذلك أن الميراث لا يجري إلا فيما كان المورث مالكا له، وقد وضعه أبو داود في باب " إحياء الموات " فقد يحتمل أن يكون إنما أحيا تلك البقاع بالبناء فيها إذ كانت غير مملوكة لأحد من قبل والله أعلم. وقد يكون نوع من الإقطاع من غير تمليك، وذلك كالمقاعد في الأسواق والمنازل في الأسفار إنما يرتفق بها ولا تملك. (¬3) قال الخطابي في " معالم السنن " (3/ 458): وهو أن تكون الدور في أيديهن مدى حياتهن على سبيل الإرفاق بالسكنى دون الملك، كما كانت دور النبي وحجره في أيدي نسائه بعده لا على سبيل الميراث فإنه قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نحن لا نورث، ما تركناه صدقة ". البخاري رقم (3093) ومسلم رقم (1759) من حديث أبي بكر الصديق. ويحكى عن سفيان بن عيينة أنه قال: كان نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في معنى المعتدات لأنهن لا ينكحن، وللمعتدة السكنى، فجعل لهن سكنى البيوت ما عشن ولا يملكن رقابها.

صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ في أيدي نسائه، انتهى من الجامع. ومما له مدخل في المقام ما نقله صاحب الفتح (¬1) عن ابن التين قال في سياق الكلام في الإقطاع: إنه إنما يسمى إقطاعا إذا كان من أرض أو عقار، وإنما يقطع من الفيء، ولا يقطع من حق مسلم، ولا معاهد، قال: وقد يكون الإقطاع تمليكا وغير تمليك، وعلى الثاني يحمل إقطاعه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الدور بالمدينة. قال الحافظ (¬2): كأنه يشير إلى ما أخرجه الشافعي (¬3) مرسلا، ووصله الطبراني (¬4): " أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لما قدم المدينة أقطع الدور " يعني أنزل المهاجرين في دور الأنصار برضاهم. انتهى. وأقول: كما يحتمل ما أشار إليه الحافظ يحتمل أيضًا أنه أشار إلى حديث زينب المذكور، وعلى كل حال فالدور التي خصص بها - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - المهاجرين هي الدور التي نزل بها المهاجرون عند الهجرة من دور الأنصار لإذنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لهم بالسكون فيها، ولرضى أربابها بذلك، بل رضي كثير منهم بالمشاطرة للأنصار في الأموال، بل والأزواج فعرضوا عليهم أن ينزل من كان له زوجتان عن أحدهما [3أ] (¬5)، وإذا كان الأمر كذلك فالدور بأيدي المهاجرين عارية ¬

(¬1) أي ابن حجر (5/ 48). (¬2) في الفتح (5/ 48). (¬3) في مسنده (2/ 133 رقم 435 - ترتيب المسند). (¬4) في " المعجم الكبير " (10/ 274 رقم 10534) من حديث ابن مسعود وأورده الهيثمي في " المجمع " (4/ 197) وقال: رواه الطبراني في " الكبير " و" الأوسط " ورجاله ثقات وهو حديث صحيح. (¬5) أخرج البخاري في صحيحه رقم (5072) عن أنس بن مالك قال: قدم عبد الرحمن بن عوف فآخى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، وعند الأنصاري امرأتان، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله. فقال: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق، فأتى السوق فربح شيئا من أقط وشيئا من سمن، فرآه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أيام وعليه وضر من صفرة فقال: " مهيم يا عبد الرحمن؟ " فقال: تزوجت أنصارية، قال: فما سقت؟ قال: وزن نواة من ذهب، قال: " أولم ولو بشاة ". وقد ذكر الحافظ في الفتح (9/ 117، 235) مناقب للحديث منها: - استحباب المؤاخاة وحسن الإيثار من الغني للفقير حتى بإحدى زوجتيه. - استحباب الدعاء للمتزوج. - استحباب العيش من عمل المرء بتجارة أو حرفة أولى لنزاهة الأخلاق من العيش بالهبة ونحوها. - سؤال الإمام والكبير أصحابه وأتباعه عن أحوالهم ولا سيما إذا رأى منهم ما لم يعهد. - وفي الحديث منقبة لسعد بن الربيع في إيثاره على نفسه.

مطلقة أو مقيدة، وهي لم تخرج بذلك عن ملك الأنصار، ولا دخلت في أملاك المهاجرين، بل ليس لهم فيها إلا حق السكون، فجعل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - هذا الحق لمن هو أحوج به، وهن النساء من المهاجرات، فلا يرد على هذا طلب بيان وجه التخصيص للزوجات من نساء المهاجرين ببعض الميراث. وعلى تسليم أن الدور قد صارت ملكا للمهاجرين من جملة الأملاك الموروثة عنهم، فالجمع ممكن يبنى العام على الخاص كما أفدتم. فيقال: دليل نصيبهن المقدر من الميراث مخصص بالحديث المسئول عنه ولكن بعد صلاحيته لذاك، وسيعين (¬1) الله على وجوده والنظر في رجال إسناده (¬2)، فيضم الكلام على ذلك إلى هذا [3ب] (¬3). ¬

(¬1) نعم ولله الحمد أعانني الله على وجوده. (¬2) رجال إسناده صحيح. (¬3) في هامش المخطوط ما نصه: يعود هذا تفضلا مع الكراريس.

إقناع الباحث بدفع ما ظنه دليلا على جواز الوصية للوارث

إقناع الباحث بدفع ما ظنه دليلا على جواز الوصية للوارث تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: إقناع الباحث بدفع ما ظنه دليلا على جواز الوصية للوارث. 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين. فإنه وصل السؤال من سيدي العلامة المفضال. 4 - آخر الرسالة: ذكر في الأم حرر في الثلث الأول من ليلة الاثنين لعله تاسع عشر شهر محرم الحرام سنة 1210 هـ وكان النقل يوم الخميس 12 شهر محرم سنة 1314 هـ. 5 - نوع الخط: خط نسخي رديء. 6 - عدد الصفحات: 9 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 24 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات. 9 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين. وبعد: فإنه وصل السؤال من سيدي العلامة المفضال، بركة الآل إبراهيم بن محمد بن إسحاق (¬1) - لا برح في ألطاف المهيمن الخلاق - وحاصل السؤال: ما يترجح لدى المسئول الحقير محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما - في الوصية للوارث، وأرسل - حفظه الله - برسالة للسيد العلامة المجتهد محمد بن إسماعيل الأمير - رحمه الله - حرر فيها جواز الوصية للوارث، وأوضح رجوعه عن اجتهاده الأول، وهو جواز عدم الوصية للوارث، وسمى هذه الرسالة " إقناع الباحث بإقامة الأدلة بصحة الوصية للوارث " (¬2) فأمعنت النظر في جميع ما حرره وعول عليه في الجواز، فلم أقف في تلك الرسالة على شيء يوجب المصير إلى جواز الوصية للوارث، ولا عثرت فيها على دليل يسوغ الرجوع عن اجتهاده الأول (¬3) ولكنه قد فعل ما يجب عليه من العمل بما ¬

(¬1) ابن المهدي أحمد بن الحسين بن الإمام القاسم بن محمد ولد سنة 1140 هـ ونشأ بصنعاء أخذ العلم عن والده وعن الشيخ العلامة علي بن إبراهيم بن علي بن إبراهيم بن أحمد بن عامر، له مكارم وفضائل وحسن أخلاق. قال الشوكاني في " البدر الطالع " في ترجمته رقم (14): " وكم تصل إلى عندي منه رسائل ونصائح فيما يتعلق بشأن الدولة، ويأخذ علي أنه لا يحل السكوت، وكثيرا ما تفد علي منه سؤالات أجيب عنها برسائل كما يحكي ذلك مجموع رسائلي مع أنه نفع الله به إذ ذاك عالي السن قد قارب السبعين وأنا في نحو الثلاثين وهذا أعظم دليل على تواضعه، مات سنة 1241 هـ. " نيل الوطر " (1/ 253). " البدر الطالع " رقم (14). (¬2) انظرها في المجموع " عون القدير من فتاوى ورسائل ابن الأمير " بتحقيقي رقم (130). (¬3) اجتهاده الأول وهو تحريم الوصية للوارث. انظر: " منحة الغفار على حاشية ضوء النهار " (4/ 2464)، " سبل السلام " (5/ 284) بتحقيقي.

يترجح لديه، والرجوع إلى ما رجع إليه. وهاأنا سأوضح ذلك معقبا لكل ما أورده، مما ظنه دليلا على محل النزاع، وسميت هذا البحث " إقناع الباحث بدفع ما ظنه دليلا على جواز الوصية للوارث ". فأقول: أما ما عول عليه ابتداء من أن حديث: " لا وصية لوارث " (¬1) لما كان في ¬

(¬1) حديث: " لا وصية لوارث " حديث صحيح وقد جاء عن جمع من الصحابة منهم: أبو أمامة عمرو بن خارجة، أنس بن مالك، عبد الله بن عباس، جابر بن عبد الله، علي بن أبي طالب، عبد الله بن عمرو بن العاص، عبد الله بن عمر، معقل بن يسار، زيد بن أرقم مع البراء بن عازب، ومجاهد مرسلا. * أما حديث أبي أمامة: فقد أخرجه أحمد في " المسند " (5/ 267) وأبو داود رقم (2870) والترمذي رقم (2120) وابن ماجه رقم (2713) والطيالسي (2/ 117 رقم 2407 - منحة المعبود) والدولابي في " الكنى " (1/ 64) والبيهقي في " السنن الكبرى " (6/ 264) كلهم من رواية إسماعيل بن عياش، عن شرحبيل بن مسلم عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في خطبته عام حجة الوداع: " إن الله تبارك وتعالى قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ... " الحديث. قال الترمذي: هذا حديث حسن. قلت: إسماعيل بن عياش صدوق في أهل بلده، وشيخه شرحبيل بن مسلم شامي. وأورد الألباني في " الإرواء " (6/ 88) لهذا الحديث طريق أخرى عن سليم بن عامر وغيره عن أبي أمامة وقال صحيح على شرط مسلم. وهذه الطريق أخرجها ابن الجارود في " المنتقى " رقم (949) ورجال إسناده ثقات. * وأما حديث عمرو بن خارجة: فقد أخرجه أحمد (4/ 186، 187) والترمذي رقم (1121) والنسائي (6/ 247) وابن ماجه رقم (2712) والطيالسي في " المسند " رقم (1217) والدارمي في " السنن " (2/ 419) والبيهقي في " السنن الكبرى " (6/ 264) كلهم من رواية شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم، عن عمرو بن خارجة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطب على ناقته وأنا تحت جرانها وإن لعابها يسيل بين كتفي فسمعته يقول: " إن الله عز وجل أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ... " الحديث. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. قال الألباني في " الإرواء " (6/ 89): قلت: لعل تصحيحه من أجل شواهده الكثيرة، وإلا فإن شهر بن حوشب ضعيف لسوء حفظه ". * وأما حديث أنس بن مالك: فقد أخرجه ابن ماجه رقم (2714) والدارقطني (4/ 70) والبيهقي (6/ 264 - 265) من طرق عن عبد الرحمن بن يزيد عن جابر بن سعيد بن أبي سعيد أنه حدثه عن أنس بن مالك قال: إني لتحت ناقة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسيل علي لعابها فسمعته يقول: " إن الله أعطى لكل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث ". قال البوصيري في " مصباح الزجاجة " (8/ 368): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، رواه الدارقطني في سننه من طريق عبد الرحمن بن يزيد به ورواه البيهقي في " السنن الكبرى " من طريق الدارقطني فذكره .... " وقال ابن التركماني في " الجوهر النقي " (6/ 265) هذا إسناد جيد. وفي التعليق الغني على الدارقطني قال صاحب " التنقيح ": " حديث أنس هذا ذكره ابن عساكر، وكذا الشيخ المزي في الأطراف في ترجمة سعيد المقبري وهو خطأ وإنما هو الساحلي، ولا يحتج به، هكذا رواه الوليد بن مزيد عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن سعيد بن أبي سعيد شيخ بالساحل، قال رجل من أهل المدينة فذكر الحديث " ا هـ. والنظر: " إرواء الغليل " (6/ 90). * وأما حديث عبد الله بن عباس: فقد أخرجه الدارقطني في سننه (4/ 97) وأبو داود في " المراسيل " رقم (349) والبيهقي في " السنن الكبرى " (6/ 263) من طريق عن حجاج الأعور عن ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس مرفوعا: " لا وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة ". قال أبو داود في " المراسيل " عقب الحديث: عطاء الخراساني لم يدرك ابن عباس ولم يره. وقال الحافظ في " التلخيص ": (3/ 92) ووصله يونس بن راشد فقال عن عكرمة، عن ابن عباس، أخرجه الدارقطني (4/ 98) والمعروف المرسل. * وأما حديث جابر بن عبد الله: فقد أخرجه الدارقطني في " السنن " (4/ 97) من طريق فضل بن سهل عن إسحاق بن إبراهيم الهروي عن سفيان عن عمرو بن دينار، عن جابر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " لا وصية لوارث ". وأخرجه ابن عدي في " الكامل " (1/ 202) عن أحمد بن محمد بن صاعد عن أبي موسى الهروي عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر به. وقال الزيلعي في " نصب الراية " (4/ 404) وأعله بأحمد - بن محمد بن صاعد - هذا، وقال: هو أخو يحيى بن محمد بن صاعد، وأكبر منه وأقدم موتا وهو ضعيف. قال الألباني في " الإرواء " (6/ 92): " قلت: قد تابعه فضل بن سهل عند الدارقطني، وهو ثقة محتج به، في الصحيحين فبرأه من ذمة أحمد بن صاعد. وبقية الرجال ثقات. ورجال الشيخين غير إسحاق بن إبراهيم أبي موسى الهروي وهو ثقة. قال الذهبي في " الميزان " (1/ 178) وثقه ابن معين وغيره ... وأثنى عليه الإمام أحمد كما في " لسان الميزان " (1/ 345). وانظر بقية الكلام على الحديث في " الإرواء " (6/ 92 - 93). * وأما حديث علي بن أبي طالب: فقد أخرجه الدارقطني في " السنن " (4/ 97) والبيهقي في " السنن الكبرى " (6/ 267) والخطيب في " الموضح " (2/ 167) وابن عدي (7/ 2648) عن يحيى بن أبي أنيسة الجزري عن أبي إسحاق الهمداني عن عاصم بن ضمرة عن علي بن أبي طالب مرفوعا: " الدين قبل الوصية، وليس لوارث وصية " بسند ضعيف جدا. يحيى هذا قال عنه الإمام أحمد: متروك الحديث. انظر: " بحر الدم " (456 رقم 1132) و" التقريب " (2/ 343) و" المغني في الضعفاء " (2/ 731) و" ميزان الاعتدال " (4/ 364). وأخرج ابن عدي في " الكامل " (7/ 2511) من طريق ناصح بن عبد الله الكوفي عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي به. وقال الزيلعي في " نصب الراية " (4/ 405): وأسند - ابن عدي - تضعيف ناصح هذا عن النسائي ومشاه هو وقال: إنه كان مما يكتب حديثه ". قلت: لكن الحارث الأعور ضعيف. انظر: " الإرواء " (6/ 94). * وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: فقد أخرجه ابن عدي في " الكامل " (2/ 817) من طريق حبيب المعلم مرفوعًا بلفظ: " لا تجوز وصية لوارث والولد للفراش وللعاهر الحجر ". وأخرجه الدارقطني في السنن (4/ 98 رقم 93) من طريق حبيب بن الشهيد مرفوعًا بلفظ: " لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة ". كلاهما عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. أما طريق ابن عدي فهو حسن الإسناد، كما حققه الذهبي في " الميزان " (3/ 263 - 268). أما طريق الدارقطني ففيه سهل بن عمار، كذبه الحاكم كما في " الميزان " (2/ 240). وقال الحافظ في " التلخيص " (3/ 92) إسناده واه. * وأما حديث عبد الله بن عمر: فقد أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " (7/ 281) من طريق ملازم بن عمرو عن عبد الله بن بدر عن ابن عمر موقوفا: " لا تجوز الوصية للوارث ". وسنده حسن. * وأما حديث معقل بن يسار: فقد أخرجه ابن عدي في " الكامل " (5/ 1853) في ترجمة علي بن الحسن بن يعمر السامي بلفظ: " لا وصية لوارث ". وقال ابن عدي عقب الحديث: " وهذا الحديث باطل بهذا الإسناد ". * وأما حديث زيد بن أرقم والبراء: فقد أخرجه ابن عدي في " الكامل " (6/ 2349) في ترجمة موسى بن عثمان الحضرمي بلفظ: " ليس لوارث وصية ". وسنده ضعيف جدا. * وأما مرسل مجاهد: فقد أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى " (6/ 264) بسند صحيح. والخلاصة أن الحديث صحيح بل متواتر. انظر: " نظم المتناثر من الحديث المتواتر " للكتاني (ص 108 - 109).

أوله أن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، كان قوله عقب ذلك: فلا وصية لوارث، مفيدا لنفي الوجوب، لا لنفي الندب، فيكون معناه أن الله قد أعطى كل ذي حق حقه الذي يستحقه في علم الله، فلا تجب وصية لوارث. وأقول: هذا الذي جعله دليلا على نفي الوجوب دون الندب لا دلالة فيه على ذلك،

لا بمطابقة، وتضمن، ولا التزام؛ فإنه كما تسبب عن إعطاء كل ذي حق حقه عدم وجوب الوصية لمن قد أعطي حقه بحكم الله، كذلك يتسبب عدم بذلها؛ لأن من قد استولى عليه بحكم الله تعالى هو بحق له بحكم الله تعالى، وقد تقرر في كليات هذه الشريعة المطهرة أن المجاورة لحكم الله تعالى غير جائزة إلا بدليل على الجواز، فأول الحديث وآخره [1ب] يستفاد من مجموعهما عدم الجواز، فضلا عن عدم الندب، ولا يخفاك أن تجويز الوصية للوارث، بل دعوى ندبها بمثل هذا مدفوع. هذا مع قطع النظر عما يستفاد من عموم قوله: " لا وصية لوارث "؛ فإنه نكرة في سياق النفي (¬1)، وهو من صيغ العموم (¬2) بلا خلاف بين محققي الأصول والبيان، وهذا العموم كما ينفي وجوب الوصية للوارث ينفي ندبها، بل ينفي جوازها، لأن المقدار إن كان عاما نحو: لا تجوز وصية لوارث، أو لا تحل، أو لا تشرع، أو لا تثبت كان هذا المقدر العام، والمعلق الشامل، والمقتضي المستغرق موافقا لما دل عليه الكلام من العموم المتفق عليه، وليس هذا من باب عموم المقتضي، بل من باب تقدير المعلق العام المطابق لأصل الكلام. وأما لو قدر خاصا نحو: لا ندب، أو لا وجوب فهذا المقتضي الخاص مفتقر إلى دليل يدل عليه، ولا تقبل دعوى من يدعيه إلا ببرهان، ولا برهان هنا إلا ما زعمه من دلالة السياق والاقتران، وهو كما عرفت يدلان على خلاف ما زعمه دلالة بينة، ولما كان ما ذكرناه في غاية الظهور، ونهاية الجلاء بادر - رحمه الله - إلى تسليمه بعد كلامه السابق فقال: فصل: إن قلب قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا وصية لوارث " هو من ألفاظ العموم ... إلى آخر كلامه في هذا الفصل، ثم لم يدفعه إلا بأن قال: قلب ¬

(¬1) نعم النكرة في سياق النفي والنهي تفيد العموم. " إرشاد الفحول " (ص 409 - 410)، " اللمع " (ص 15). (¬2) انظر " البحر المحيط " (3/ 110 - 111). " نهاية السول " (2/ 80).

سبب حديث: " لا وصية لوارث " هو نفي الإيجاب الذي كان ثابتا كما قررناه. فانظر كيف عاد إلى تلك الدعوى المجردة بعد أن سلم عدم دلالة هذا الحديث على ما ذهب إليه، بل سلم دلالته على دفع ما ذهب إليه وشموله لمحل النزاع، أعني: وصية صح التبرع. وأما استدلاله على ما ذهب إليه بقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (¬1) فلا يخفاك أن الوصية تشمل الوصية، والوصية لغير الوارث، وهذا لا ينكره أحد، وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا وصية لوارث " أخص مطلقا من قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}، فيبنى العام على الخاص (¬2) ويكون ما في الآية الكريمة في قوة: من بعد وصية يوصي بها لغير الوارث أو دين، كما هو مقتضى بناء العام على الخاص، وهو متفق [2أ] (¬3) عليه بين أهل الأصول في الجملة، وإن اختلفوا في تفاصيله وشروطه فذلك لا يقدح في اتفاقهم على وجوب البناء، والحديث هو متلقى بالقبول، فيخصص به عموم القرآن عند الجمهور، بل عند كل من يعتد بقوله من أئمة الأصول (¬4). ¬

(¬1) [النساء: 11]. (¬2) في حاشية المخطوط ما نصه: ولعل التعميم استفيد من توصيف الوصية بقوله: (يوصي بها) على نحو ما قبل في قوله تعالى: (ولا طائر يطير بجناحه) أن التوصيف (بـ) يطير بجناحيه إفادة التعميم. والله أعلم. (¬3) انظر " البحر المحيط " (3/ 405)، " تيسير التحرير " (1/ 361). (¬4) قال الزركشي في " البحر المحيط " (3/ 362): يجوز تخصيص الكتاب العزيز بخبر الواحد فذهب الجمهور إلى جوازه مطلقًا. وذهب بعض الحنابلة إلى المنع مطلقًا. * قال الشوكاني بعد ذكره أدلة المانعين ... قال ابن السَّمعاني: إن محل الخلاف في أخبار الآحاد لم تجمع الأمة على العمل بها أما ما أجمعوا عليه كقوله: " لا ميراث لقاتل " و" لا وصية لوارث " فيجوز تخصيص العموم به قطعًا، ويصير ذلك كالتخصيص بالمتواتر لانعقاد الإجماع على حكمها، ولا يضر عدم انعقاده على روايتها. انظر: " إرشاد الفحول " (ص 524).

وأما استدلاله بحديث أبي هريرة عند ابن ماجه بلفظ: " إن الله قد تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم " (¬1) فهذا لا نزاع فيه في الجملة، لكن محل النزاع الوصية للوارث، فهذا الحديث إذا تناولها بنوع من أنواع الدلالة فقد تناول ¬

(¬1) أخرجه الدارقطني (4/ 150 رقم 3). والطبراني في " الكبير " (20/ 54 رقم 94) وأورده الهيثمي في " المجمع " (4/ 212) وقال: " وفيه عتبة بن حميد الضبي وثقه ابن حبان وغيره وضعفه أحمد ". وقال الحافظ في " التقريب " (2/ 4 رقم 13) صدوق له أوهام. وهو حديث حسن بشواهده التي منها: * ما أخرجه أحمد في " المسند " (6/ 440 - 441) والبزار في مسنده (2/ 139 رقم 1382 - كشف) والطبراني في " الكبير " كما في " مجمع الزوائد " (4/ 212) وأبو نعيم في " الحلية " (6/ 104) وقال الهيثمي: " وفيه أبو بكر بن أبي مريم وقد اختلط ". وقال البزار: " وقد روي هذا الحديث من غير وجه، وأعلى من رواه أبو الدرداء ولا نعلم عن أبي الدرداء طريقًا غيره، وأبو بكر بن أبي مريم وضمرة معروفان وقد احتمل حديثهما ". * ما أخرجه ابن ماجه رقم (2709) والبيهقي (6/ 269) والخطيب في " تاريخ بغداد " والبزار في " مسنده " كما في " نصب الراية " (4/ 400) و" تلخيص الحبير " (3/ 91 رقم 1363) وفي " سنده " طلحة بن عمرو " متروك كما في " التقريب " (1/ 379 رقم 37) وقال البوصيري في " مصباح الزجاجة " (2/ 98 رقم 962): " هذا إسناد ضعيف .. " وضعفه الألباني في " الإرواء " (6/ 77). من شواهده: 1 - حديث أبي بكر الصديق أخرجه العقيلي في " الضعفاء " (1/ 275) وابن عدي في " الكامل " (2/ 794) وفيه حفص بن عمر بن ميمون: متروك. قال العقيلي: " وحفص بن عمر هذا يحدث عن شعبة ومسعر ومالك بن مغول والأئمة بالبواطيل ". وقال ابن عدي: " وحفص هذا عامة حديثه غير محفوظ وأخاف أن يكون ضعيفًا كما ذكره النسائي ". 2 - حديث خالد بن عبيد السلمي. أخرجه الطبراني في " الكبير " رقم (4129) قال الهيثمي في " المجمع " (4/ 212) إسناده حسن وليس كما قال. والخلاصة أن الحديث حسن بشواهده.

الوصية لغير الوارث، كما تناول الوصية للوارث، فخرجت عنه الوصية للوارث بالحديث الآخر، وهو أرجح منه سندا ومتنا، على أنه يبعد أن يقال: أن الوصية للوارث ليست مما يوجب الزيادة في الحسنات، لأنها ممنوعة بنص الشارع، لما فيها من المجاوزة لحدود الله، والتعدي لفرائضه، والمخالفة لما شرعه الله، فتعليله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لقوله: " إن الله قد تصدق عليكم بثلث أموالكم " فقوله: " زيادة في حسناتكم " تفيد اختصاص هذه الصدقة لما فيه زيادة في الحسنات، ولا زيادة قد نفاها الشارع، وقال: " لا وصية لوارث " بهذه الصيغة الشاملة المحيطة، فهذا الحديث يرد دعوى من يدعي أن فيها زيادة في الحسنات، ولو فرضنا عدم دليل يدل على أنه لا زيادة فيها في الحسنات لكان دعوى أن فيها زيادة في الحسنات مصادرة على المطلوب، وهي باطلة. ولا شك أن البدر - رحمه الله - لو تنبه لهذا لقابله بالقبول، فكيف يصح التعويل على هذا الحديث! وقد عارضه ما هو أحق منه مطلقا! على فرض دلالته على مخل النزاع، وتناوله له؛ فكيف إذا كان قد علل بعلة تفيد أنه لا يتناوله، ومن جملة ما استدل به - رحمه الله - تقرير النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لسعد بن أبي وقاص لما قال أتصدق بكذا من مالي (¬1). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1295) ومسلم رقم (5/ 1628) وأبو داود رقم (2864) والترمذي رقم (2116) والنسائي (6/ 241 - 242) وابن ماجه رقم (2708) وأحمد (1/ 179) والطيالسي (1/ 282 رقم 1433 - منحة المعبود) ومالك (2/ 763 رقم 4) والدارمي (2/ 407). قال القرطبي في "المفهم" (4/ 540 - 541) "اعلم أن الوصية في أول الإسلام كانت واجبة للوالدين والأقربين قبل نزول المواريث، كما قال تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين} [البقرة: 180] ". وهي بمجموع قرائنها نص في وجوب الوصية لمن ذكر فيها، ثم إنها بعد ذلك نسخت، واختلف في ناسخها. فقيل: آية المواريث. وفيه إشكال، إذ لا تعارض بين أن يجمع بينهما، فيكون للقرابة أخذ المال بالوصية عن المورث وبالميراث إن لم يوص. أو ما بقي بعد الوصية. لكن هذا قد منع الإجماع منه. وهو خلاف نص قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، ألا لا وصية لوارث " فإذًا: آية المواريث لم تستقل بنسخ آية الوصية، بل بضميمة أخرى، وهي السنة المذكورة، ولذلك قال بعض علمائنا: إن نسخ الوصية للقرابة إنما كان بالسنة المذكورة، غير أنه يرد عليه: أن هذا نسخ القرآن بخبر الواحد. ويجاب عنه: إن ذلك قد كان معمولاً به في الصحابة، كما قد حكاه الأصوليون في كتبهم. ولو سلمنا: أن ذلك لا يجوز، فلم يكن ذلك الخبر آحادًا بل كان متواترًا، فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ألقاه على أهل عرفة يوم عرفة وأخبرهم بنسخ ذلك بسنته وأهل عرفة عدد كثير، وجم غفير، لا يحيط بهم بلد، ولا يحصرهم عدد، فقد كان متواتر فنسخ المقطوع بالمقطوع. ونحن وإن كان هذا الخبر قد بلغنا آحادًا لكن قد انضم إليه إجماع المسلمين: أنه لا تجوز الوصية لوارث، فقد ظهر: أن وجوب الوصية للأقربين منسوخ بالسنة، وأنها مستند المجمعين غير أنه قد ذهب طائفة وهم: الحسن، وقتادة، والضحاك وطاووس: إلى أن وجوب الوصية ليس منسوخًا في حق جميع القرابة، بل في حق الوارثين خاصة، واختاره الطبري. قلت: أي- القرطبي- وعلى هذا: فلا يكون هذا نسخًا عند هؤلاء، بل: تخصيصًا لعموم قوله تعالى: {والأقربين} بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا وصية لوارث "، وهذا لا يحتاج فيه أن يكون قوله: " لا وصية لوارث " متواترًا، لأنه يجوز تخصيص القرآن بالسنة غير المتواترة اتفاقًا من الأكثر وهو الصحيح على ما ذكرناه في الأصول.

قال [2ب]: والصدقة مندوبة قطعا ... إلى آخر كلامه. ودلالة هذا الدليل على محل النزاع مدفوعة من وجهين: الأول: أنه في الصدقة لا في الوصية التي هي محل النزاع. الثاني: أن الصدقة تتناول الصدقة على الوارث، وعلى غير الوارث، وحديث: " لا وصية لوارث " قد أخرج الصدقة على الوارث، على فرض أنه يصدق على الوصية أنها صدقة. ومن جملة ما استدل به - رحمه الله - ما ورد في حديث: " لا وصية لوارث " من زيادة: " إلا أن يشاء ..................................

الورثة " (¬1) معللا دلالة ذلك على محل النزاع بأن الاستثناء منقطع. ولا يخفاك أن هذا الاستثناء يؤكد دلالة هذا الحديث على عدم جواز الوصية لوارث ويؤيدها، لأنه قد أفاد عدم نفوذ الوصية للوارث إلا بمشيئة الورثة، فأفاد ذلك عدم نفوذها بعد المشيئة. وأما دعواه - رحمه الله - بأنه إخراج من الإيجاب أي: لا تجب الوصية للوارث إلا أن يشاء الورثة، فهذا لا دلالة للاستثناء عليه، سواء كان الاستثناء متصلا (¬2)، أو منقطعا كما لا يخفى. هذا خلاصة ما عول عليه - رحمه الله - في تلك الرسالة، ولا يخفاك أنه لا يدل على مقصوده لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام، بل كان كل ما أورده فهو دليل عليه لا له كما عرفت مما أسلفنا، واعلم أنه - رحمه الله - قد أورد في رسالته هذه قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لأبي طلحة لما قاله له: إن أنفس أموالي إلي بريحاء، فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال: " تصدق بها على ذوي قرابتك " (¬3) وهذا أجنبي عن محل النزاع، لأنه في الصدقة في حال الحياة والصحة، ومحل النزاع في الوصية المضافة إلى بعد الموت، فإن الله قد أعطى كل ذي حق حقه بالموت فلا وصية لوارث. وأما حال الصحة والحياة بالصدقة على [3أ] الأقارب فهذا من باب الصلة للأرحام التي ورد الترغيب فيها كتابا (¬4) ................... ¬

(¬1) أخرجه الدارقطني (4/ 52 رقم 9، 11) بلفظ: "لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة" وبلفظ: "لا يجوز لوارث الوصية إلا أن يشاء الورثة". وهو حديث حسن. (¬2) انظر شروط صحة الاستثناء في "إرشاد الفحول" (ص 493 - 496)، "المحصول" (3/ 27 - 28)، "المسودة" (ص 153). (¬3) أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (1461، 2752، 2758، 2769، 4554، 4555، 5318، 5611)، ومسلم رقم (998). (¬4) منها قوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92].

وسنة (¬1)، وهي خارجة عن محل النزاع خروجا لا يخفى. ومن جملة ما تعرض لذكره - رحمه الله - في هذه الرسالة حديث التسوية بين الأولاد وهو حديث متواتر، وفيه التصريح بأن المخالفة للتسوية جور، والجور حرام، وهو أعم من أن يكون المخالفة بالعطية في حال الصحة كالنحلة، والصدقة، أو بالوصية المضافة إلى بعد الموت، والسبب وإن كان خاصا، وهو نحلة يشير والد النعمان لولده (¬2)، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (¬3)، والأمر لكل أحد بالتسوية بين الأولاد ¬

(¬1) منها ما أخرجه البخاري رقم (1410) ومسلم رقم (1014) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب- ولا يقبل الله إلا الطيب- فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي حدكم فلوه حتى يكون مثل الجبل". ومنها: ما أخرجه البخاري رقم (55) ومسلم رقم (1002) وأحمد (4/ 120) والنسائي (5/ 69) من حديث أبي مسعود البدري، عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة". ومنها: ما أخرجه البخاري رقم (1466) ومسلم رقم (1000) وأحمد (3/ 502) من حديث زينب امرأة عبد الله وفيه " ... لهما أجران أجر القرابة وأجر الصدقة" وقد تقدم. ومنها: ما أخرجه البخاري رقم (2592) ومسلم رقم (44/ 999) وأحمد (6/ 332). من حديث ميمونة بنت الحارث أنها أعتقت وليدة في زمان رسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فذكرت ذلك لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك". (¬2) أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (2586) ومسلم رقم (1623) ومالك رقم (39) وأحمد (4/ 268) وأبو داود رقم (3542) والترمذي رقم (1367) والنسائي رقم (258، 259) وابن ماجه رقم (2375) والطحاوي (4/ 5 - 86) وابن حبان رقم (5098، 5099) والبيهقي (6/ 176 - 177). وقد تقدم تخريجه ومناقشة معناه ودلالته. انظر الرسالة رقم (134) (ص 4174). (¬3) أي ورود العام على سبب خاص، وقد أطلق جماعة من أهل الأصول أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وحكوا ذلك إجماعًا. "البحر المحيط" (3/ 195). وفيه تفصيل انظر: "إرشاد الفحول" (ص 454 - 455).

يتناول الوصية المضافة إلى بعد الموت، كما يتناوله العطية في حال الدنيا، وهو من أعظم الأدلة الدالة على عدم جواز تخصيص بعض الأولاد بعطية، أو وصية دون بعض (¬1). وقد صرح فيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بأن ذلك جور، وامتنع من أي يشهد على نحلة بشير والد النعمان، فكانت الوصية المشتملة على تخصيص بعض الورثة دون بعض حراما بهذا الحديث، فأفاد ذلك بطلان ما زعمه البدر - رحمه الله - من أن معنى قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا وصية لوارث " (¬2) لا تجب وصية لوارث، فإن من جعله لبعض أولاده قسطا من ماله بالوصية دون بعض لم يسوِّ بينهم، ومن لم يسو بينهم فقد جار، ففعله جور، وكل جور حرام، ففعله حرام. فتقرر بهذا الدليل المتواتر تفضيل بعض الورثة على بعض، بوصية أو عطية لا يجوز، ولا يحل، فهو يرد على البدر - رحمه الله - ردا واضحا إن أراد أن الوصية للوارث جائزة، سواء كانت متضمنة المخالفة للتسوية أم لا، وإن خص الجواز بما لا مخالفة للتسوية فيه فقد قرب المسافة، وقلل الخلاف، وعاد آخرا إلى ما رجحه أولا من عدم جواز الوصية [3ب] للوارث عودا لطيفا، وبيانه أن الوصية للأولاد مثلا على وجه التسوية الموافقة لفرائض الله سبحانه؛ إذ هي المعتبرة في التسوية، ولا اعتبار بغيرها؛ لأنها ليست من باب الوصية للوارث، بل من باب قسمة التركة بينهم على فرائض الله، أو قسمة بعضها كذلك باسم الوصية، وذلك لا يوجب خلافا، ولا يقتضي نزاعا، لأنه يصدق على وصية التسوية التي هي في الحقيقة قسمة أنها موافقة لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -:" إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، ولا وصية لوارث " (¬3). فإذا قال الرجل في وصيته: أنه أوصى بالدار، أو بالأرض، أو بنوع من أنواع تركته أن يقسم بين أولاده على فرائض الله سبحانه، ولا وارث له غير أولئك الأولاد، فما فعل ¬

(¬1) تقدم في الرسالة رقم (134). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه.

إلا ما هو حكم الله تعالى من إعطاء كل ذي حق حقه، ووصيته هذه مؤكدة لوصية الله تعالى المذكورة في محكم كتابه بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (¬1)، فهو كمن أوصى ورثته بأن يقتسموا ما خلفه لهم على ما فرضه الله تعالى. فإن قلت: قد يحصل له الثواب بهذه الوصية، أعني: التسوية على فرائض الله، فيصدق عليها اسم الوصية للوارث، ويحصل بها فائدة للموصي. قلت: الثواب الذي حصل له هو بالإرشاد إلى ما أرشد الله إليه، وامتثال ما أمر الله بامتثاله من أعطى كل ذي حق حقه، ولا يشك أن الأمر بامتثال أوامر الله وفرائضه قربة وليست القربة والثواب بتصيير ذلك المال بين ورثته على فرائض الله؛ فإن ذلك هو أمر الله وحكمه وشرعه، وهو كائن كذلك سواء أوصى أو لم يوص ...... (¬2) من أمر أولاده بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وسائر الطاعات، فإنه يثاب على ذلك الأمر، ولا يثاب على نفس صلاتهم وزكاتهم ونحوهما، لأن تلك الفرائض افترضها الله عليهم، وأمرهم بتأديتها، فاستحقوا الأجر بفعلها. فإن قلت: سلمنا دلالة الأحاديث التسوية المتواترة على التسوية بين الأولاد، فهو لا يدل على التسوية بينهم وبين غيرهم من الورثة إذا كان معهم من الورثة غير أولاد، ولا يدل على التسوية بين الورثة أنفسهم إذا كانوا غير أولاد. قلت: [4أ] هذا إذا لم يفده هذا الدليل بالقياس بلحن الخطاب فقد أفاده حديث: " لا وصية لوارث "، وقد قدمنا تقريره على وجه يظهر به غاية الظهور، ويتبين به أكمل بيان، وإنما تعرضنا لأحاديث التسوية لما تعرض لها البدر - رحمه الله - فأوضحنا أنها عليه لا له. واعلم أنها قد اتفقت كلمة أهل العلم على أن الذي كان في أول الإسلام هو الوصية ¬

(¬1) [النساء: 11]. (¬2) كلمات غير واضحة في المخطوط.

كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (¬1)، وأن ذلك نسخ بآيات المواريث، وهي قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} إلى آخر الآيات، وإن كانت كلمة أهل العلم متفقة على النسخ، فمعنى النسخ لغة (¬2): الإزالة والإبطال والتغيير، قال في القاموس (¬3): نسخه كمنعه أزاله وغيره وأبطله، وأقام شيئا مقامه، انتهى. فمعنى نسخ الوصية للوارث إزالتها وتغييرها وإبطالها في إقامة المواريث مقامها (¬4)، ولو كانت جائزة بعد نسخها لم يكن كذلك، بل يكون الجمع بينها وبين آيات المواريث التي هي الناسخة جائزا، فلا إزالة، ولا تغيير، ولا إبطال، ولا إقامة للناسخ مقام المنسوخ. نعم. لو ربط القائلون بهذه المقالة ما يدعونه بدليل كان ذلك مقبولا على حد قبول الدليل، وأما الدعاوى المجردة لا سيما إذا كانت مخالفة لما هو الأصل، والحقيقة الشرعية (¬5)، واللغوية (¬6)، ........................................ ¬

(¬1) [البقرة: 180]. (¬2) "مقاييس اللغة" (5/ 424 - 425). (¬3) (ص 334) (¬4) قال ابن كثير في تفسيره (1/ 492): اشتملت هذه الآية الكريمة على الأمر بالوصية للوالدين والأقربين، وقد كان ذلك واجبًا- على أصح القولين- قبل نزول آية المواريث، فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه وصارت المواريث المقدرة فريضة من الله، يأخذها أهلوها حتمًا من غير وصية ولا تحمل منة الموصي. ولهذا جاء الحديث: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث". وانظر: "الناسخ والمنسوخ" لأبي جعفر النحاس (1/ 482 - 486). وقال الشافعي في "الرسالة" (ص 139): "وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنه من أهل العلم بالمغازي، من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال عام الفتح: "لا وصية لوارث، ولا يقتل مؤمن بكافر" ويأثرونه عمن حفظوا عنه ممن لقوا من أهل العلم بالمغازي، فكان هذا نقل عامة عن عامة وكان أقوى في بعض الأمر من نقل واحد عن واحد وكذلك وجدنا أهل العلم عليه مجتمعين". (¬5) تقدم توضيحها مرارًا (¬6) تقدم توضيحها مرارًا

والعرفية فليست مما يثبت بمثله الأحكام الشرعية، فإن تقييد النسخ بكونه مجرد الوجوب قد استلزم مع كونه خلاف الأصل، والحقيقة دعوى تقييد قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا وصية لوارث " تقيد لم يتكلم به - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، ولا دل عليه كلامه بوجوبه من وجوه الدلالة، لا مطابقة، ولا تضمنا، ولا التزاما. وإذا لم يكن على هذا دليل لزم القائل بأن النسخ لوجوب الوصية للوارث لا لغير الوجوب أن يقول هذه المقالة في كل ناسخ ومنسوخ، فيقول مثلا: إن النسخ للتوجه إلى بيت المقدس إنما هو نسخ للوجوب (¬1)، فيبقى جواز استقباله أو ندبيته، وهذا يستلزم صحة صلاة من توجه إليه، وهو خرق للإجماع، ومخالفة للعموم من الدين ضرورة. فإن قال: إنه قال ذلك في الوصية للوارث لما فهمه من قوله: " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث " (¬2) فما باله لا يفهم مثل هذا في استقبال بيت المقدس، فإن الله قد فرض على [4ب] كل مسلم استقبال الكعبة، فلا استقبال لبيت المقدس، دوران هذا دوران ذلك، وهكذا يلزمه أن يحمل كل نسخ على الوجوب، إلا ما وقع التصريح فيه بزيادة على ما صرح به قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا وصية لوارث ". فإن قال: أنا أخص ذلك بالوصية للوارث. فنقول له: ما الدليل على ذلك؟ وما بال هذا الموضع كان قابلا لهذا منك دون غيره. فإن قال: قد ورد له نظير، وهو صوم يوم عاشوراء، فإن صومه مشروع مع كونه منسوخا بوجوب صوم .......................... ¬

(¬1) انظر "الناسخ والمنسوخ" لأبي جعفر النحاس (1/ 454 - 460) و"فتح الباري" (1/ 95). "زاد المسير" "1/ 135". (¬2) تقدم تخريجه.

رمضان (¬1). قلت: هذا خصه الدليل، فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يرغب في صومه (¬2) بعد نسخه، فمتى سمعت أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يرغب في الوصية للوارث بعد نسخها؟ على أن بين الموضعين فرقا، فإن الجمع بين الناسخ والمنسوخ في الوصية للوارث يستلزم الإضرار بغير من وقعت له الوصية من الورثة، وتقليل نصيبه المفروض له، ودفعه عن بعض ما أوجب له، وهذا قد ورد منعه في الشريعة المطهرة بمثل قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} (¬3)، وبقوله: ¬

(¬1) روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صام عاشوراء وأمر بصيامه". أخرجه البخاري رقم (2004) ومسلم رقم (128/ 1130) وأبو داود رقم (2444) وابن ماجه رقم (1734). وروت عائشة رضي الله عنها قالت: لما قدم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المدينة صام عاشوراء وأمر صيامه فلما نزلت فريضة رمضان ترك يوم عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء أفطره. وهو حديث صحيح. أخرجه البخاري رقم (1592 وأطرافه رقم 1893، 2001، 2002، 3831، 4502، 4504) ومسلم (2/ 792 رقم 113، 114، 115، 116/ 1125). ومالك في "الموطأ" (1/ 299 رقم 33) وأبو داود رقم (2442) والترمذي رقم (753). انظر: "الاعتبار" للحازمي (ص 340. "المجموع" للنووي (6/ 382 - 384). (¬2) منها ما أخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (197/ 1162) وابن ماجه رقم (1738) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: "يكفر السنة الماضية". ومنها ما أخرجه مسلم رقم (1132) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: "ما علمت أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صام يومًا يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم، ولا شهرًا إلا هذا الشهر، يعني رمضان". وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (2006) عن ابن عباس قال: ما رأيت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء وهذا الشهر يعني شهر رمضان. (¬3) [النساء: 12].

{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (¬1). قد بينها المفسرون كالزمخشري (¬2) وغيره (¬3) بما يفيد ما ذكرناه، ورد عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في وصية الضرار أنها محبطة للأعمال، وموجبة لدخول النار، وهو حديث (¬4) صحيح (¬5). وفي الجملة فمن أوصى بوصية تخالف وصية الله - سبحانه - المذكورة في محكم كتابه بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (¬6) إلى آخر الآيات. قلنا له: هذه الوصية رد عليك، فقد وجدنا في كتاب الله تعالى أن الله - عز وجل - أوصى عباده جميعا، بما يخالف ما وصيت به أنت، فقال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (¬7) إلى آخر الآيات , ووصية الله - سبحانه - أقدم، وهو بمصالح عباده أعلم وأحكم، ووجدنا رسول الله ينادي الأمة بأن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث؛ فوصيتك يا هذا مخالفة لكتاب الله، ولسنة رسوله، فهي رد عليك. ¬

(¬1) [البقرة: 182]. (¬2) في "الكشاف" (1/ 334). (¬3) انظر: "جامع البيان" لابن جرير الطبري (2/ ج-2/ 126)، "تفسير القرآن العظيم" لابن كثير (1/ 496). (¬4) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (2867) والترمذي رقم (2117) وقال: حديث حسن صحيح غريب. قلت: وفي إسناده: شهر بن حوشب وهو ضعيف. من حديث أبي هريرة عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضران في الوصية فتجب لهما النار" ثم قرأ أبو هريرة: {من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله} إلى قوله تعالى: {وذلك الفوز العظيم} [النساء: 12، 13]. وهو حديث ضعيف والآية مغنية عن غيرها. انظر: الرسالة رقم (160). (¬5) بل هو حديث ضعيف كما تقدم. (¬6) [النساء: 11]. (¬7) [النساء: 11].

وقد صح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وتواتر أنه قال: " كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد " (¬1) فهذه الوصية مخالفة لما شرعه الله في محكم كتابه، وعلى لسان رسوله وكل مخالف لما شرعه الله في محكم كتابه، وعلى لسان رسوله رد، فهذه الوصية رد. وأيضا هذه الوصية ليس عليها أمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وأمته، وكل ما ليس عليه أمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وأمته فهو رد، فهذه الوصية رد، أما في الصغرى في القياسي فلما بيناه سابقا، وأما الكبرى، فهذا الحديث المتواتر (¬2). وإذا تقرر لك جميع ما أوردناه، واندفع به دعوى من يدعي جواز الوصية للوارث، أو ندبها، فاعلم أن هاهنا دليلا يكفيك مؤنة التدليل والتحقيق الذي أسلفناه، وأسلفه البدر - رحمه الله - وهو ما أخرجه الدراقطني [5أ] (¬3) من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا تجوز وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة ". وقد حسن هذا الحديث الحافظ في التلخيص (¬4)، وقال في الفتح (¬5): رجاله ثقات، وما قيل من أنه معلول بأن الذي رواه عن ابن عباس هو عطاء، وقد قيل إنه الخراساني (¬6) فهو مدفوع بأنه قد أخرج نحوه البخاري (¬7) من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس موقوفا، قال الحافظ (¬8): إلا أنه في تفسير وأخبار بما كان من الحكم قبل نزول القرآن، فيكون ¬

(¬1) تقدم تخريجه مرارًا. (¬2) يشير إلى حديث: "لا وصية لوارث". (¬3) في "السنن" (4/ 97 رقم 89). (¬4) (3/ 92). (¬5) {5/ 372). (¬6) تقدم توضيحه في بداية الرسالة. (¬7) في "صحيحه" (5/ 372) الباب رقم (6) لا وصية لوارث. (¬8) في "الفتح" (5/ 372).

في حكم المرفوع، وأخرجه أبو داود في المراسيل (¬1) من مرسل عطاء الخراساني، ووصله (¬2) يونس بن راشد عن عطاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، فهذا الحديث المرفوع مع ما عضده قد صرح فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بنهي الجواز، وهو نص في محل النزاع يدفع القول بأن المنسوخ إنما هو الوجوب فقط دفعا لا يبقى بعده شك ولا ريب. واعلم أن البدر - رحمه الله - قال في آخر رسالته ما لفظه: فعليك أيها الناظر في البحث بتأمله،، وتحققه، وتكرار النظر فيه، حتى يتبين لك الحق (¬3) بيد من هو، والحمد لله رب العالمين. ذكر في الأم، حرر في الثلث الأول من ليلة الاثنين لعله تاسع عشر شهر محرم سنة 1210، وكان النقل يوم الخميس 12 شهر محرم سنة 1314. ¬

(¬1) رقم (349) وقد تقدم. (¬2) قاله الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (3/ 92). (¬3) وخلاصة القول في ذلك ما قاله الشوكاني في "السيل الجرار" (3/ 693) بتحقيقنا: ولا يخفاك أن هذا حكم على الحديث بأنه متواتر، فلم يبق ما يوجب الاشتغال بالكلام على طرقه والعمل بالمتواتر واجب، وهو بنسخ الكتاب إذا تأخر، فلو قدرنا أن آية الوصية للوالدين والأقربين لم تنسخها آية المواريث لكان هذا الحديث يكفي في نسخها، وقد قدمنا لك أن الاتفاق كائن على أنها منسوخة إما بآية المواريث أو بالحديث، وأيضًا هذا الحديث يقيد ما ورد مطلقًا في القرآن لقوله تعالى:} من بعد وصية يوصى بها أو دين {[النساء: 11]، وما ورد في السنة كالحديث: "ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي فيه" تقدم تخريجه- وهكذا يقيد قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم" تقدم تخريجه- وهكذا سائر ما ورد في مشروعية الوصية مطلقًا، فلم يبق في المقام ما يقتضي عن إبطال الوصية للوارث.

جواب سؤال ورد من أبي عريش حول الوصية بالثلث

(160) 27/ 1 جواب سؤال ورد من أبي عريش حول الوصية بالثلث تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: جواب سؤال ورد من أبي عريش حول الوصية بالثلث. 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وسلم وبعد فإنه وصل إلي سؤال في شهر القعدة سنة 1207هـ كراسة فيها اختلاف بين حكام المخلاف السليماني .. 4 - آخر الرسالة: ومن أحسن من الله حكما. انتهى من تحرير المجيب عمدة المسلمين وحاكمهم القاضي محمد بن علي الشوكاني حفظه الله تعالى. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 3 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 27 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وسلم وبعد: فإنه وصل إلي سؤال في شهر القعدة سنة 1207 هـ، كراسة فيها اختلاف بين حكام المخلاف السليماني من ولاية أبي عريش، وسألوني أن أحكم بينهم في القضية التي تعد، وصفتها أن رجلا مات وخلف أخا، وأوصى بجميع ماله، ثم كتب وصيته بعض حكام ذلك القطر، وأمره أن يقتصر على الثلث لتصح الوصية، فاقتصر عليه، وقامت شهادة متكاثرة أن الموصي قال في مرضه الذي مات فيه، وفي حال صحته: لأحرمن أخي الميراث، فرجح بعض حكام ذلك المحل بطلان هذه الوصية، وإن كانت بالثلث لاشتمالها على الضرار الذي حرمه الله، واستدل على ذلك بأدلة، ورجح بعضهم صحتها بالثلث؛ لأن القربة غير شرط، وقد جعل الله للميت ثلث ماله يتصرف فيه كيف شاء. والكلام في المسألة معروف مدون في مواضعه، ولكني أذكر منها ما هو الراجح عندي وأبين ما دلت عليه الأدلة باعتبار العمل الأصولي. فأقول: قد وردت أدلة قاضية بجواز الوصية بالثلث لمن كان له وارث، منها حديث ابن عباس أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " الثلث، والثلث كثير " متفق عليه (¬1)، وحديث سعد بن أبي وقاص بنحوه عند الجماعة (¬2) كلهم، ونحوها. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (2743) ومسلم رقم (10/ 1629) من حديث ابن عباس قال: "لو أن الناس غضوا من الثلث فإن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "الثلث والثلث كثير". (¬2) أخرجه البخاري رقم (1295) ومسلم رقم (5/ 1628) وأحمد (1/ 179) وأبو داود رقم (2864) والترمذي رقم (2116) والنسائي (6/ 241 - 242) وابن ماجه رقم (2708). قلت: وأخرجه الدارمي (2/ 407) والطيالسي (/ 282 رقم 1433 - منحة المعبود) ومالك (2/ 763 رقم 4) بألفاظ متعددة من حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي قال له: "الثلث والثلث كثير- أو كبير- إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس" بعد أن قال له سعد: "إنه يريد أن يتصدق بثلثي ماله قال: لا. قال: فالشطر يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: لا. قال: فالثلث؟ قال: "الثلث والثلث كبير"

ولا شك أن الإذن بالثلث مقيد بما ورد من النبي عن الضرار كتابا وسنة، أما الكتاب فقول الله تعالى:} غير مضار {(¬1) بعد قوله:} من بعد وصية يوصى بها أو دين {(¬2)، فإن التقيد بعدم الضرار، وبعد إطلاق الوصية يدل دلالة واضحة على أن كل وصية وقعت لقصد الضرار غير صحيحة، ولا فرق بين أن يكون بالثلث، أو بما دونه، أو بما فوق، وقد صرح بهذا العلامة جار الله (¬3) فقال: وذلك بأن يوصي بزيادة على الثلث، أو يوصي بالثلث فما دونه، ونيته مضارة ورثته ومغاضبتهم، لا وجه الله تعالى. انتهى. وقال الأمير الكبير الحسين بن محمد في الشفا (¬4) بعد أن ذكر حديث: " لو أن رجلا عبد الله ستين سنة، ثم ختم وصيته بضرار، لأحبط الضرار عبادته، ثم أدخله النار " ما لفظه: دل على ذلك أن كل وصية مخالفة للشرع النبوي، ومقتضية لتفضيل بعض الورثة على بعض، أو لإخراج المال مضارة للورثة، وميلا عن الحق، وتجنبا للشرع لا يجوز، وأنها من الكبائر، لذلك أحبطت العبادة الواجبة. انتهى. وهذا الحديث أخرجه أبو داود (¬5)، والترمذي (¬6)، والحاكم (¬7) من حديث أبي هريرة بلفظ: " إن الرجل [1] ليعمل، أو المرأة بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت، فيضاران في الوصية، فتجب لهما النار " ثم قرأ أبو هريرة:} مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى ¬

(¬1) [النساء: 12] (¬2) [النساء: 12] (¬3) أي الزمخشري في كشافه (2/ 39). (¬4) (3/ 425). (¬5) في "السنن" رقم (2867). (¬6) في "السنن" رقم (2117) وقال حديث حسن صحيح غريب. (¬7) لم أجده في المستدرك وهو حديث ضعيف.

بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ {إلى قوله:} وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {(¬1). وأخرجه أيضًا أحمد (¬2)، وابن ماجه (¬3) بمعناه، وقالا فيه: سبعين سنة. ولا شك أن العمل إذا كان من موجبات دخول النار، ومن أسباب إحباط العمل الكثير محظور، وقد حكى الإمام المهدي في البحر (¬4) الإجماع على عدم صحة الوصية لمحظور، ولا فرق بين الوصية المحظورة والوصية بالمحظور، لأن مناط المنع واحد، وكذلك حكى الإجماع غيره، كصاحب الوافي (¬5)، وعلي بن العباس في الوصية للحربي لكونها محظورة، ومن الأدلة القرآنية على عدم جواز الضرار قول الله تعالى:} فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ {(¬6). ¬

(¬1) [النساء: 12 - 13]. (¬2) في "المسند" (2/ 278). (¬3) في "السنن" (2/ 902 رقم 2704). قلت: وفي إسناده شهر بن حوشب: صدوق، كثير الإرسال والأوهام. "الميزان" (2/ 283)، "التقريب" (1/ 355)، "المجروحين" (1/ 361). قلت: وأخرجه سعيد بن منصور في "السنن" (1/ 109) رقم (343، 344) والدارقطني في "السنن" (4/ 151 رقم 7) وابن كثير في تفسيره (1/ 471) وقال: رواه ابن أبي حاتم، عن داود بن هند، ورواه ابن جرير عن ابن عباس. وقال: الصحيح أنه موقوف. وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (9/ 88 رقم 16456). عن ابن عباس: "الإضرار في الوصية من الكبائر". وأخرجه النسائي في "التفسير" عزاه إليه الزيلعي في "نصب الراية" (4/ 402) عن علي بن مسهر عن داود بن أبي هند به موقوفًا. (¬4) (5/ 308 - 309). (¬5) عزاه إليه صاحب "الشفاء" (3/ 426). حيث قال: ودل على أن الوصية للحربي باطلة لأنها ليست من الحسنات، قال علي بن العباس: أجمعوا على أن الوصية للحربي باطلة. حكاه عنه في الوافي. (¬6) [البقرة: 182]

فسر صاحب الكشاف (¬1) الجنف بالميل عن الحق بالخطأ في الوصية، وفسر قوله: فأصلح بينهم، بإجرائهم على طريق الشرع، ثم قال: لأن تبديله تبديل باطل إلى حق وبلا ريب أن رد وصية الضرار إلى منهج الشرع لا يكون إلا بإبطالها ومحو أثرها، وإزالة رسمها , والآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الواردة بمنع الضرار عموما وخصوصا أكثر من أن تحصى، فإن قيل: إن حديث أبي أمامة عند البيهقي (¬2) والدراقطني (¬3) بلفظ: " إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم، لتجعل لكم زكاة في أموالكم " وكذلك حديث أبي الدرداء عند أحمد (¬4) بنحوه، وكذلك حديث أبي هريرة عند ابن ماجه (¬5) والبزار (¬6) والبيهقي (¬7) بنحوه، وكذلك حديث أبي بكر الصديق عند العقيلي في تاريخ الضعفاء (¬8) بنحوه، تدل على أن ¬

(¬1) أي الزمخشري في "الكشاف" (1/ 278). (¬2) عزاه إليه ابن حجر في "التلخيص" (3/ 194) وفي إسناده إسماعيل بن عياش وشيخه بن حميد وهما ضعيفان. (¬3) في "السنن" (4/ 150). (¬4) في "المسند" (6/ 440 - 441). وأورده الهيثمي في "المجمع" (4/ 212) وقال: "فيه أبو بكر بن أبي مريم وقد اختلط". وأخرجه البزار في مسنده (2/ 139 رقم 1382 - كشف). وقال البزار: "وقد روي هذا الحديث من غير وجه، وأعلى من رواه أبو الدرداء ولا نعلم عن أبي الدرداء طريقًا غيره، وأبو بكر بن أبي مريم وضمره معروفان وقد احتمل حديثهما". (¬5) في "السنن" رقم (2709). (¬6) عزاه إليه ابن حجر في "التلخيص" (3/ 91 رقم 1363). (¬7) في "السنن" (6/ 269). وفي سنده "طلحة بن عمرو" متروك كما في "التقريب" (1/ 379 رقم 37) وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (2/ 98 رقم 962): "هذا إسناد ضعيف .. ". (¬8) (1/ 275). وأخرجه ابن عدي في "الكامل" (2/ 794) وفيه: حفص بن عمر بن ميمون: متروك. قال العقلي: "وحفص بن عمر هذا يحدث عن شعبة، ومسعر، ومالك بن مغول والأئمة بالبواطيل". وقال ابن عدي: "وحفص هذا عامة حديثه غير محفوظ، وأخاف أن يكون ضعيفًا كما ذكره النسائي". قلت: وأخرجه الدارقطني (4/ 150 رقم 3) والطبراني كما في "المجمع" (4/ 212) وقال الهيثمي: "وفيه عتبة بن حميد الضبي، وثقه ابن حبان وغيره، وضعفه أحمد". وهو من حديث معاذ بن جبل. وأخرجه الطبراني في "الكبير" كما في "مجمع الزوائد" (4/ 212) من حديث خالد بن عبيد السلمي وقال: إسناده حسن وليس كما قال. وقال المحدث الألباني في "الإرواء" (6/ 79): بعد ما أورد طرق الحديث: وخلاصة القول: إن جميع طرق الحديث ضعيفة شديدة الضعف إلا الطريق الثانية- من حديث أبي الدرداء- والثالثة- من حديث معاذ بن جبل- والخامسة- من حديث خالد بن عبد السلمي- فإن ضعفها يسير. ولذلك فإني أرى أن الحديث بمجموع هذه الطرق الثلاث يرتقي إلى درجة الحسن وسائر الطرق إن لم تزده قوة، لم تضره، وقد أشار إلى هذا القول الحافظ في "بلوغ المرام" فقال: رواه الدارقطني يعني عن معاذ، وأحمد. والبزار عن أبي الدرداء، وابن ماجه عن أبي هريرة وكلها ضعيفة لكن يقوي بعضها بعضًا.

الإنسان مفوض في ثلث ماله يتصرف فيه عند موته كيف يشاء من غير فرق بين وصية الضرار وغيرها، فهي أعم من الأدلة القاضية بتحريم الضرار من وجه وأخص من وجه، فلا تصلح أدلة الفرار لتخصيصها ولا لتقييدها، كما تقرر في الأصول أن الدليلين إذا كان بينهما عموم وخصوص من وجه فلا سبيل إلى الجمع، بل يتعين المصير إلى التعارض (¬1) ¬

(¬1) التعادل: فهو التساوي. وفي الشرع: استواء الأمارتين. وقيل التعارض: لغة التمانع. ومنه تعارض البينات لأن كل واحدة تعترض الأخرى وتمنع نفوذها. "مقاييس اللغة" (4/ 247، 272). وقد ذهب جماهير علماء الأصول إلى استعمال التعادل في معنى التعارض لأنه تعارض إلا بعد التعادل، وإذا تعارضت الأدلة، ولم يظهر- مبدئيًا- لأحدها مزية على الآخر فقد حصل التعادل بينهما، أي التكافؤ والتساوي. انظر: "اللمع" (ص 66)، "الإبهاج" (3/ 132).

والترجيح (¬1)، فالجواب عن هذا من وجوه: الأول: أن أسانيدها (¬2) كلها ضعيفة كما صرح بذلك الحفاظ، وفي إسناد حديث أبي أمامة إسماعيل بن عياش، وشيخه عتبة بن حميد، وهما ضعيفان، وفي إسناد حديث أبي بكر حفص بن عمر بن ميمون، وهو متروك. وروي أيضًا من طريق خالد بن عبيد الله السلمي، وهو مع كونه مختلفا في صحبته في إسناده ابنه الحارث بن خالد، وهو مجهول، وبقية الأسانيد ضعيفة كما سلف، وممن صرح بذلك الحافظ (¬3). الوجه الثاني: أن يقال: وعلى تسليم صحة الاجتماع بها لتقوية بعضها بعضا فلا ¬

(¬1) الترجيح: فهو الفضل في أحد جانبي المتقابلين أو جعل الشيء راجحًا ويقال مجازًا لاعتقاد الرجحان. وفي الاصطلاح: الترجيح تقوية أحد الطرفين على الآخر فيعلم الأقوى فيعمل به ويطرح الآخر. "المحصول" (5/ 397). وقيل: الترجيح: اقتران الأمارة بما تقوى به على معارضتها. من شروط الترجيح. الأول: التساوي في الثبوت فلا تعارض بين الكتاب وخبر الواحد إلا من حيث الدلالة. الثاني: التساوي في القوة فلا تعارض بين المتواتر والآحاد بل يقدم المتواتر بالاتفاق كما نقله إمام الحرمين في "البرهان" (2/ 1143). الثالث: اتفاقهما في الحكم مع اتحاد الوقت والمحل والجهة فلا تعارض بين النهي عن البيع مثلًا في وقت النداء مع الإذن به في غيره. انظر: "تيسير التحرير" (3/ 153)، "المحصول" (5/ 397). (¬2) تقدم ذلك مفصلاً. فانظره. قلت: إن الحديث حسن والله أعلم. (¬3) في "التلخيص" (3/ 91 - 92).

نسلم [2] أن ظاهرها عدم الفرق بين وصية الضرار وغيرها، لأن وصية الضرار قد سلف أنها من محبطات الأعمال، ومن موجبات دخول النار، فهي بلا شك زيادة في السيئات لا زيادة في الحسنات، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قد قيد الإذن بالتصرف في الثلث والتفويض فيه بقوله: زيادة في حسناتكم، وفي حديث أبي هريرة (¬1) المشار إليه بلفظ: زيادة في أعمالكم، فليس في هذه الأحاديث بعد تقييدها بالزيادة في الحسنات , والزيادة في الأعمال ما يدل على أنها تدل على صحة وصية الضرار (¬2). الوجه الثالث: أنا لو سلمنا أنها أعم من الأدلة المانعة من وصية الضرار من وجه، وأخص منها من وجه، ولم نلتفت إلى ما قيدت به من الزيادة في الحسنات، والزيادة في الأعمال، وصرنا إلى التعارض والترجيح، فلا يشك من له أدنى تمسك بأذيال العلم أن نصوص الكتاب والسنة القاضية بالمنع من وصية الضرار أرجح من هذه الأحاديث الضعيفة. وإذا تقرر هذا علم المنصف أن من أجاز الوصية بالثلث ضرارا وإحراما للوارث ليس بيده دليل، وأما ما يستند إليه من قصر باعه، وقلة حظه، واطلاعه من أن الوصية ليس من شرطها القربة فتصح وصية الضرار (¬3)؛ فهذه غفلة عظيمة سببها عدم الاطلاع على ¬

(¬1) تقدم تخريجه وهو حديث حسن. (¬2) قال الشوكاني في "وبل الغمام" (2/ 396): "بتحقيقي .. فوصية الضرار ممنوعة بالكتاب والسنة، ومن جملة أنواع لضرار تفضيل بعض الورثة على بعض فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سمى ذلك جورًا كما في حديث النعمان وقد تقدم". ومن جملة أنواع الضرار ما أشار إليه بقوله: أو لإخراج المال مضارة للورثة، فإن من أوصى بماله أو بجزء منه لقربة من القرب، مريدًا بذلك إحارم الورثة جميع ميراثهم أو بعضه فوصيته باطلة، لأنه مضار وظاهر الأدلة أنه لا ينفذ من وصية الضرار شيء سواء كانت بالثلث أو بما دونه أو بما فوقه، بل هي رد على فاعلها فتكون أحاديث الإذن بالثلث مقيدة بعدم الضرار. (¬3) قال ابن قدامة في "المغني" (8/ 397): وإن وصى لولد وارثه صح، فإن كان يقصد بذلك نفع الوارث لم يجز فيما بينه وبين الله تعالى. قال طاووس في قوله تعالى: " فمن خاف من موص جنفا أو إثما " [البقرة: 186]. قال: أن يوصي لولد ابنته، وهو يريد ابنته. رواه سعيد- أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 265 - 266) والدارقطني (4/ 52). قال ابن عباس: الجنف في الوصية والإضرار فيها من الكبائر.

الأدلة، وعلى كلام الأئمة؛ لأن عدم اشتراط القرابة إنما يدل على جوازها مع عدمها كالوصية المباحة، أو بالمباح لا جوازها مع وجود المعصية، كأن تكون هي معصية بنفسها أو تؤول إلى المعصية؛ فإنها غير صحيحة، ولا جائزة، وقد تقدم ما يدل على أن ذلك إجماع، وهذا لا يخفى على من له أدنى إلمام بعلم الفروع، فإنه قد صرح في الأزهار (¬1) الذي هو مدرس صغار الطلبة أنه يجب امتثال ما ذكر (¬2)، أو عرف من قصده ما لم يكن محظورا (¬3)، يعني فلا يجب امتثاله، بل لا يجوز، لأن تنفيذه وتصحيحه من المعاونة على الإثم والعدوان، وقد قال الله تعالى:} وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ {(¬4) فهذا النهي القرآني يدل على تحريم تنفيذ الوصية المشتملة على .................................... ¬

(¬1) (3/ 672 - 673 مع السيل). (¬2) قال الشوكاني في "السيل الجرار" (3/ 673) تعليقًا على ذلك: "وجه هذا أن الميت إذا كانت وصيته تتضمن تخليصه من شيء واجب عليه فقد فعل بالوصية ما يجب عليه، وكان تنجيزها واجبًا على وصيته أو على وارثه أو على سائر المسلمين إن لم يكن ثم وصي ولا وارث والإمام والحاكم أولى بالمسلمين بالقيام بذلك والإلزام به لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". وإن كان الذي أوصى به الموصي من القرب التي ليست بواجبة عليه فقد فعل ذلك في ماله الذي أذن الله سبحانه له بالتصرف فيه فكيف يشاء وإنفاذ ذلك واجب على الوصي أو على الوارث أو على الإمام والحاكم، لأن في إهماله إهمالا لحق امرئ مسلم. وهو منكر يجب إنكاره. وما عرف من القصد فله حكم اللفظ إذ ليس المراد باللفظ إلا مجرد الدلالة على المعنى الذي يريده اللافظ. وقد حصلت هذه الدلالة بالقصد. (¬3) قال الشوكاني في "السيل" (3/ 673) أما قوله: "ما لم يكن محظورًا" فوجهه ظاهر لأن ذلك منكر وهو يجب دفعه على كل مسلم ومن دفعه ترك تنفيذه وعدم امتثال أمر الموصي بذلك. (¬4) [المائدة: 2].

الضرار (¬1)، ومن الطاعة للمخلوق في معصية الخالق، وقد ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في دواوين الإسلام أنه قال: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " (¬2) ومن ترك إنكار المنكر؛ وقد تواترت أحاديث الأمر به , والنهي عن تركه. وبهذا يتبين أن الوصية التي لا يراد بها وجه الله، بل المضارة للوارث، وإحرامه ما فرضه الله له باطلة من غير فرق بين أن يكون بالثلث، أو بما دونه، أو بما فوقه، فإذا قامت البينة العادلة على إقرار الموصي بما يدل على ذلك فوصيته مردودة، هذا حكم الله، ومن أحسن من الله حكما [3]. ¬

(¬1) قال ابن كثير في تفسيره (1/ 495): قوله: " فمن خاف من موص جنفا أو إثما " قال ابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، والضحاك، والربيع بن أنس، والسدي: الجنف: الخطأ، وهذا يشمل أنواع الخطأ كلها، بان زاد وارثًا بواسطة أو وسيلة، كما إذا أوصى ببيعه الشيء الفلاني محاباة، أو أوصى لابن ابنته ليزيدها، أو نحوها ذلك من الوسائل، إما مخطئًا غير عامد، بل بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر أو متعمدًا آثمًا في ذلك، فللوصي- والحال هذه- أن يصلح القضية ويعدل في الوصية على الوجه الشرعي. ويعدل عن الذي أوصى به الميت إلى ما هو أقرب الأشياء إليه وأشبه الأمور به، جمعًا بين مقصود الموصي والطريق الشرعي، وهذا الإصلاح والتوفيق ليس من التبديل في شيء ولهذا عطف هذا فنبه على النهي لذلك، ليعلم أن هذا ليس من ذلك السبيل .. وقال القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (2/ 270) قوله: " فمن خاف " لجميع المسلمين. قيل لهم: إن خفتم من موص ميلاً في الوصية وعدولاً عن الحق ووقوعًا في إثم ولم يخرجها المعروف، وذلك بأن يوصي بالمال إلى زوج ابنته أو لولد ابنته لينصرف المال إلى ابنته، أو ابن ابنه والغرض أن ينصرف المال إلى ابنه، أو أوصى لبعيد وترك القريب، فبادروا إلى السعي في الإصلاح بينهم، فإذا وقع الإصلاح سقط الإثم عن المصلح، والإصلاح فرض كفاية، فإذا قام أحدهم به سقط عن الباقين، وإن لم يفعلوا أثم الكل. وقال الشوكاني في "فتح القدير" (1/ 246): قوله: (فأصلح بينهم) أي أصلح ما وقع بين الورثة من الشقاق والاضطرار بسبب الوصية، بإبطال ما فيه ضرار ومخالفة لما شرعه الله، وإثبات ما هو حق كالوصية في قربة لغير وارث. (¬2) تقدم تخريجه.

انتهى من تحرير المجيب عمدة المسلمين وحاكمهم القاضي محمد بن علي الشوكاني حفظه الله تعالى.

المباحث الدرية في المسألة الحمارية

(161) 13/ 4 المباحث الدرية في المسألة الحمارية تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: المباحث الدرية في المسألة الحمارية. 2 - موضوع الرسالة: " فقه ". 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله. - كثر الله فوائدكم - وصل سؤالكم المتضمن لطلب ما عند الحقير في مسألة زوج وأم وأخوين وأم، وأخوين لأم. 4 - آخر الرسالة: وهذا المقدار كفاية وإن كان البحث محتمل للتطويل. والحمد لله أولا وآخرا بقلم المجيب محمد الشوكاني. 5 - نوع الخط: خط نسخي رديء. 6 - عد الصفحات: 7 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 25 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 9 كلمة. 9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني. 10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله. كثر الله فوائدكم وصل سؤالكم المتضمن لطلب ما عند الحقير في مسألة زوج وأم وأخوين لأب وأم، وأخوين لأم، هل الراجح لديه قول من قال: إن للزوج النصف وللأم السدس، والباقي للأخوين لأم، ويسقط الأخوان لأبوين؟ أم الراجح قول من قال: إن الثلث الباقي يشترك فيه الإخوة لأبوين، والإخوة لأم على السواء (¬1)؟. ¬

(¬1) اعلم أن آيات المواريث ثلاث جمعت أصول علم الفرائض، وأركان أحكام المواريث: وهي: 1 - قال تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) [النساء: 11]. قال تعالى: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) [النساء: 12]. قال تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [النساء: 176]. وهناك آيات كريمة وردت في شأن المواريث ولكنها مجملة، تشير على حقوق الورثة بدون تفصيل: أ- قال تعالى: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتب الله إن الله بكل شيء عليم) [الأنفال: 75]. ب- قال تعالى: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا) [الأحزاب: 6]. ج- قال تعالى: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) [النساء: 7]. الأحكام المستفادة من آيات المواريث: أولاً: أحكام البنين والبنات: 1 - إذا خلف الميت ذكرًا واحدًا، وأنثى واحدة فقط، اقتسما المال بينهما للذكر سهمان، وللأنثى سهم واحد. 2 - إذا كان الورثة، جمعًا من الذكور والإناث، فإنهم يرثون المال للذكر ضعف الأنثى. 3 - إذا وجد مع الأولاد: أصحاب فروض كالزوجين أو الأبوين، فإننا نعطي أصحاب الفروض أولاً ثم ما تبقى نقسمه بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين. 4 - إذا ترك الميت ابنًا واحدًا فقط، فإنه يأخذ كل المال ويؤخذ هذا من مجموع الآيتين: (للذكر مثل حظ الأنثيين) و (وإن كانت واحدة فلها النصف) فيلزم نصيب الابن إذا انفرد جميع المال. 5 - يقوم أولاد الابن مقام الأولاد إذا عدموا، لأن كلمة (أولادكم) تتناول الأولاد الصلبيين وأولاد الابن مهما نزلوا بالإجماع. ثانيًا: أحكام الأبوين: 1): الأب والأم لكل واحد منهما السدس، إذا كان للميت فرع وارث. 2 - ): إذا لم يكن مع الأبوين أحد من الأولاد، فإن الأم ترث المال. والباقي وهو الثلثان، يرثه الأب. 3 - ): إذا وجد مع الأبوين إخوة للميت (اثنان فأكثر) فإن الأم ترث سدسي المال، والباقي خمسة أسداس للأب، وليس للإخوة شيء أو الأخوات شيء أصلاً لأن الأب يحجبهم. ثالثًا: الدين مقدم على الوصية. رابعًا: حكم الزوج: 1 - إذا ماتت الزوجة ولم تخلف فرعًا وارثًا فإن نصيب الزوج (نصف). 2 - إذا ماتت الزوجة، وقد خلفت فرعًا وارثًا فإن نصيب الزوج (الربع). خامسًا: حكم الزوجة والزوجان: 1 - إذا مات الزوج ولم يخلف فرعًا وارثًا فإن نصيب الزوجة أو الزوجات (الربع). 2 - إذا مات الزوج وكان قد خلف فرعًا وارثًا فإن نصيب الزوجة أو الزوجات (الثمن). سادسًا: حكم الإخوة أو الأخوات لأم: 1 - إذا مات عن أخ لأم منفرد، أو أخت لأم منفردة، فإن الواحد منهما يأخذ السدس. 2 - إذا مات عن أكثر من ذلك يعني (أخوين لأم، أو أختين لأم) فيستحقون الثلث بالسوية. سابعًا: حكم الإخوة أو الأخوات لأم: 1 - إذا مات وخلف أختًا شقيقة واحدة أو لابن ولم يكن له أصل ولا فرع، فللأخت الشقيقة أو الأخت لأب نصف التركة. 2 - واحدة فقط، اقتسما المال بينهما للذكر سهمان، وللأنثى سهم واحد. والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضاء عليم كانتا اثنتين فل 2 - إذا مات وخلف أختين شقيقتين فأكثر أو ب، ولم يكن له أصل ولا فرع فللشقيقتين أو لأب الثلثان من التركة. 3 - إذا مات وخلف إخوة وأخوات (أشقاء أو لأب) فإن التركة يتقاسمها الإخوة والأخوات على أساس أن نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى. 4 - إذا ماتت الشقيقة- ولم يكن لها أصل أو فرع- فإن الأخ الشقيق يأخذ جميع المال، وإن كان هناك أكثر من أخ، اقتسموا المال على عدد الرؤوس وهكذا حكم الإخوة والأخوات لأب عند عدم وجود الإخوة الأشقاء أو الأخوات الشقيقات.

فأقول: الحديث الصحيح الثابت في الصحيحين (¬1) وغيرهما (¬2) من حديث ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأول رجل ذكر " يدل على ما قاله الأولون في هذه المسألة من اختصاص الإخوة لأم بالثلث الباقي. ووجهه أنهم من أهل الفرائض؛ لأن المراد بها الأنصباء المقدرة المنصوص ¬

(¬1) أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (6746) ومسلم رقم (1615). (¬2) كأحمد (1/ 313) وأبو داود رقم (2898) وابن ماجه رقم (2740) بلفظ: "اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله عز وجل فما أبقت الفرائض فالأولى رجل ذكر".

عليها في كتاب الله أو سنة رسوله، المحدودة بحد معلوم، المحصورة بحاصر معين. وهذه المسألة قد اشتملت على أهل الفرائض المقررة، وهو الزوج والأم والإخوة لأم. أما الزوج والأم فظاهر، وأما الإخوة لأم فلقوله تعالى:} وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ {(¬1) فهذه الآية هي في بيان ميراث الإخوة لأم، قال القرطبي في تفسيره (¬2): أما هذه الآية فأجمع العلماء أن الإخوة فيها عني بها الإخوة لأم، قال: ولا خلاف بين أهل العلم أن الإخوة للأب والأم، أو للأب ليس ميراثهم هكذا، فدل إجماعهم على أن الإخوة المذكورين في قوله:} وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ {(¬3) هم إخوة المتوفى لأبيه وأمه، أو لأبيه، ولم يختلفوا أن ميراث الإخوة للأم ليس هكذا، فدلت الآيتان أن الإخوة كلهم جميعا كلالة. والكلالة (¬4): ما كان سوى الولد والوالدين من الورثة إخوة، وغيرهم من العصبة، وبه قال علي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس، قال الطبري (¬5): الصواب أن الكلالة الذين يرثون الميت من عدا ولده ووالده [1ب]. وحكاه القرطبي (¬6) أيضًا عن أبي بكر الصديق، وعمر، وجمهور أهل العلم، وبه قال صاحب العين (¬7)، وأبو منصور اللغوي، وابن عرفة، والقيسي، وابن الأنباري، قال سليمان بن عبيد (¬8): ما ¬

(¬1) [النساء: 12]. (¬2) في "الجامع لأحكام القرآن" (5/ 78). (¬3) [النساء: 176]. (¬4) عزاه القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (5/ 78) للشعبي. (¬5) في "جامع البيان" (3/ ج- 4/ 283). (¬6) في "الجامع لأحكام القرآن" (5/ 76). (¬7) (7): الخليل بن أحمد الفراهيدي (ص 849). (¬8) عزاه إليه القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (5/ 76). انظر: "مقاييس اللغة" (5/ 121 - 122).

أراهم إلا قد تواطؤا وأجمعوا على أن الكلالة من مات ليس له ولد ولا والد سموا القرابة كلالة؛ لأنهم أطاقوا بالميت من حواليه، وليسوا منه، ولا هم منهم، بخلاف الولد والوالد، فإنهما طرفان للرجل، فإذا ذهبا أطاق به سائر القرابة، وقال أبو عبيدة (¬1): الكلالة كل من لم يرثه أب أو ابن أو أخ. قال أبو عمر: ذكر أبي عبيدة الأخ هنا غلط لا وجه له، ولم يذكره في شرط الكلالة غيره، فعرفت اتفاق أهل اللغة على أن الكلالة من القرابة (¬2) هم من عدا الوالد والوالد، وأن الإخوة لأبوين، أو لأحدهما كلالة، ولكن بعضهم من أهل الفرائض، وهم الإخوة لأم، وبعضهم ليسوا من أهل الفرائض، وهم الإخوة لأبوين أو لأب، فإن الله - سبحانه - لم يقدر ميراثهم بل قال:} لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ {(¬3). وعرفت إجماع أهل العلم على أن قوله تعالى:} وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ {(¬4) هي في الإخوة لأم، فصح حينئذ الاستدلال بحديث: (ألحقوا الفرائض بأهلها) (¬5) على أن الثلث الباقي بعد فرض الزوج والأم ¬

(¬1) قال ابن منظور في "اللسان" (12/ 143). اختلف أهل العربية في تفسير الكلالة فروى المنذري بسنده عن أبي عبيدة. (¬2) عزاه في "لسان العرب" (12/ 143) للفراء. وانظر: "مقاييس اللغة" (5/ 122). (¬3) [النساء: 11]. (¬4) [النساء: 12]. (¬5) تقدم تخريجه. قال ابن قدامة في "المغني" (9/ 7): قال تعالى: (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل وحد منهما السدس). المراد بهذه الآية الأخ والأخت من الأم، بإجماع أهل العلم .. والكلالة في قول الجمهور: من ليس له ولد، ولا والد، فشرط في توريثهم عدم الولد والوالد، والولد يشمل الذكر والأنثى، والوالد يشمل الأب والجد. وممن ذهب إلى أنه يشترط في الكلالة عدم الولد والوالد، زيد، وابن عباس، وجابر بن زيد، والحسن، وقتادة، والنخعي وأهل المدينة والبصرة والكوفة. وقال القرطبي في "جامع البيان" (3/ ج-4/ 289): والصواب عندي أن الكلالة: الذين يرثون الميت من عدا ولده ووالده وذلك لصحة الخبر الذي ذكرنا عن جابر بن عبد الله أنه قال: قلت يا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنما يرثني كلالة، أفأوصي بمالي كله؟ قال: "لا".

للإخوة لأم دون الإخوة لأبوين، وهو قول علي، وابن مسعود، وأبي موسى، والشعبي، وشريك، ويحيى بن آدم، وأحمد بن حنبل، وأبي حنيفة، وابن أبي ليلى، وأبي يوسف، ومحمد، وزفر، وأبي ثور، ونعيم بن حماد، وداود بن علي، واختاره ابن المنذر، وقال عمر، وعثمان، وزيد بن ثابت، ومسروق، وشريح، ومالك، والشافعي، وإسحاق: أن الإخوة لأبوين والإخوة لأم يشتركون في الثلث قالوا: هب أن أباهم حمارا، وبهذا سميت هذه المسألة الحمارية (¬1). ¬

(¬1) قال ابن قدامة في "المغني" (9/ 24 - 25): وإذا كان زوج وأم وإخوة من أم وإخوة لأب وأم، فللزوج النصف وللأم السدس، وللإخوة من الأم الثلث، وسقط الإخوة من الأب والأم. هذه المسألة تسمى المشركة، وكذلك كل مسألة اجتمع فيها زوج وأم أو جدة واثنان فصاعدًا من ولد الأم وعصبة من ولد الأبوين. وإنما سميت المشركة، لأن بعض أهل العلم شرك فيها بين ولد الأبويين وولد الأم في فرض ولد الأم. فقسمة بينهم بالسوية. وتسمى الحمارية: لأنه يروى أن عمر رضي الله عنه، أسقط ولد الأبوين فقال بعضهم: يا أمير المؤمنين هب أنا أبانا حمارًا أليست أمنا واحدة؟ فشرك بينهم. ويقال: إن بعض الصحابة قال ذلك، فسميت الحمارية لذلك. واختلف فيها أهل العلم قديمًا وحديثًا. * فذهب أحمد فيها إلى أن للزوج النصف، وللأم السدس، وللإخوة من الأم الثلث. وسقط الإخوة من الأبوين. * ويروى عن عمر، وعثمان وزيد بن ثابت رضي الله عنهم أنهم شركوا بين ولد الأبوين وولد الأم في الثلث. فقسموه بينهم بالسوية، للذكر مثل حظ الأنثيين، وبه قال مالك والشافعي رضي الله عنهما وإسحاق لأنهم ساووا ولد الأم في القرابة التي يرثون بها، فوجب أن يساووهم في الميراث، فإنهم جميعًا من ولد الأم، وقرابتهم من جهة الأب إن لم تزدهم قربًا واستحقاقًا فلا ينبغي أن تسقطهم. ولهذا قال بعض الصحابة أو بعض ولد الأبوين لعمر وقد أسقطهم: هب أن أباهم حمارًا، فما زادهم ذلك إلا قربًا. فشرك بينهم. وحرر بعض أصحاب الشافعي فيها قياسًا فقال: فريضته جمعت ولد الأب والأم وولد الأم وهم من أهل الميراث فإذا ورث ولد الأم وجب أن يرث ولد الأب والأم، كما لو لم يكن فيها زوج. قال ابن قدامة ولنا: قوله تعالى: (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل وحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث) [النساء: 12]. ولا خلاف في أن المراد بهذه الآية ولد الأم على الخصوص، فمن شرك بينهم فلم يعط كل واحد منهم السدس فهو مخالفة لظاهر القرآن. ويلزم منه مخالفة لظاهر الآية الأخرى وهي قوله تعالى: (وإن كانوا إخوة رجالاً ونساءً فللذكر مثل حظ الأنثيين) [النساء: 176]. يراد بهذه سائر الإخوة والأخوات، وهم يسوون بين ذكرهم وأنثاهم. وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر". ومن شرك فلم يلحق الفرائض بأهلها. ومن جهة المعنى أن ولد الأبوين عصبة لا فرض لهم وقد تم المال بالفروض فوجب أن يسقطوا، كما لو كان مكان ولد الأبوين ابنتان، وقد انعقد الإجماع على أنه لو كان في هذه المسألة واحد من ولد الأم، ومائة من ولد الأبوين، لكان للواحد السدس وللمائة السدس الباقي لكل واحد عشر عشرة، وإذا جاز أن يفضلهم الواحد هذا الفضل كله، لم لا يجوز لاثنتين إسقاطهم؟. وأما قولهم: تساووا في قرابة الأم قلنا- ابن قدامة- فلم لم يساووهم في الميراث في هذه المسألة؟ وعلى أنا نقول: إن ساووهم في قرابة الأم فقد فارقوهم في كونهم عصبة من غير ذوي الفروض. فإن الشرع ورد بتقديم ذوي الفروض، وتأخير العصبة، ولذلك يقدم ولد الأم على ولد الأبوين في القدر في المسألة المذكورة وشبهها ولذلك يقدم- ولد الأم- وإن سقط ولد الأبوين كغيره. وهو الرأي الراجح لدلالة الدليل الصحيح عليه.

والقول الأول أرجح (¬1) لدلالة الدليل الصحيح عليه، ولم يدفعه أهل القول الثاني بدافع يصلح للتشبث به، وغاية ما استدلوا به هو أن المقتضي لتوريث الإخوة لأم موجود في الإخوة لأبوين، وزيادة كونهم إخوة لأب مع كونهم إخوة [2أ] لأم لا يصلح لكونه مانعا بذلك المقتضى، بل مؤيد له، ومؤكد لاقتضائه للميراث. ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة.

ولا يخفى عليك أن هذا مجرد رأي لا يصلح لنصبه في مقابل الدليل الصحيح، وهو قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " ألحقوا الفرائض بأهلها " (¬1) كما تقدم. لكن هذا إنما يتم على تسليم أن المراد بالفرائض الفروض المقدرة في الكتاب والسنة، وأن ذلك هو معناه اللغوي أو الشرعي، أما لو لم يكن ذلك معناها لا لغة ولا شرعا فلا يصح استدلال من استدل بالحديث على ذلك المدلول الذي قال به القائلون بأن الثلث الباقي بعد فرض الزوج والأم في مسألة السؤال لإخوة لأم دون الإخوة لأبوين، قال ابن بطال (¬2) - في بيان معنى الحديث -: المراد أن الرجال من العصبة بعد أهل الفروض إذا كان فيهم من هو أقرب إلى الميت استحق دون من هو أبعد، فإن استووا اشتركوا، وقال ابن التين (¬3): المراد العم مع العمة، وابن الأخ مع بنت الأخ وابن العم مع بنت العم، فإن المذكور يرثون دون الإناث، وخرج من ذلك الأخ مع الأخت لأبوين أو لأب، فإنهم يشتركون بنص قوله تعالى:} وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ {(¬4)، وكذلك الإخوة لأم أنهم يشتركون هم والأخوات لأم لقوله:} فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ {(¬5). وهكذا سائر شراح الحديث تكلموا نحو هذا الكلام، ولم يوضحوا أن معنى الفرائض [2ب] في الشرع أو اللغة هو القدرة المسماة (¬6) في الكتاب والسنة، بل غاية ما هناك أن الفرض عند أهل اللغة يطلق على التقدير. ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) عزاه إليه الحافظ في "الفتح" (12/ 11 - 12). (¬3) عزاه إليه الحافظ في "الفتح" (12/ 11 - 12). (¬4) [النساء: 176]. (¬5) [النساء: 12]. (¬6) قال الحافظ في "فتح" (12/ 11): المراد بالفرائض هنا الأنصباء المقدرة في كتاب الله تعالى وهي النصف ونصفه ونصف نصفه، والثلثان ونصفهما ونصف نصفهما والمراد بأهلها من يستحقها بنص القرآن.

وقد ورد من معانيه عند أهل اللغة ما فرضه الله، أي أوجبه، ومن معانيه الحكم الشرعي، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن الفرائض المذكورة في الحديث هو جميع ما هو مذكور في الكتاب والسنة، سواء كان مقدرا، أو غير مقدر، ومعنى إلحاقها تقديمهم على الترتيب الشرعي، والمراد بقوله: " وما بقي فلأولى رجل ذكر " (¬1) يعني ممن لم يذكر في الكتاب العزيز، كالعم، وابن العم، وإلا لزم تقديم أهل الفروض المقدرة على البنين وبني البنين، وهو باطل بالإجماع. نعم. إن صح ما ذكره النووي في شرح مسلم (¬2) أن حديث: " ألحقوا الفرائض بأهلها " يدل على أن الباقي بعد استيفاء أهل الفروض المقدرة للعصبات، وأن ذلك مجمع عليه كان الإجماع متمسكا للمستدلين بالحديث في مسألة السؤال. فإن قلت: على فرض أنه لا يصح الاستدلال بالحديث على اختصاص الإخوة لأم بالثلث الباقي بعد فرض الزوج والأم مما هو الحق عندك من المذهبين المذكورين في مسألة السؤال. قلت: قد دل قوله - سبحانه -: بقوله} وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ {(¬3) مع انضمام الإجماع (¬4) على أن المراد بالأخ والأخت أو أكثر منهما في هذه ¬

(¬1) قال الحافظ في "فتح" (12/ 11): في رواية الكشميهني (فلأولى) بفتح الهمزة واللام بينهما واو ساكنة أفعل تفضيل من الولي بسكون اللام وهو القرب أي لمن يكون أقرب في النسب إلى المورث، وليس المراد هنا الأحق، وقد حكى عياض أن رواية ابن الحذاء عن ابن هامان في مسلم (فهو الأدنى) بدال ونون وهي بمعنى الأقرب. قال الخطابي: المعنى أقرب رجل من العصبة. (¬2) (11/ 53): حيث قال: وقد أجمع المسلمون على أن ما بقي بعد الفروض فهو للعصبات يقدم الأقرب فالأقرب فلا يرث عاصب بعيد مع وجود قريب .. (¬3) [النساء: 12]. (¬4) تقدم ذكره. وانظر: "المغني" (9/ 21، 25).

الآية الإخوة لأم كما تقدم تقريره. ومع انضمام قراءة من قرأ [3أ]: وله أخ أو أخت من أم إلى ذلك كما في قراءة سعد بن أبي وقاص أخرج ذلك عنه سعيد بن منصور (¬1)، وعبد بن حميد (¬2)، والدرامي (¬3)، وابن جرير (¬4)، وابن جرير (¬5)، وابن المنذر، وابن ابن أبي حاتم (¬6)، والبيهقي في سننه (¬7) بلفظ: أنه كأنه يقرأ: وله أخ أو أخت من أم، على أنه إذا كان الميت كلالة أي لا ولد له، وإن سفل ولا أب له وإن علا، ووجد في الورثة أخ لأم أو إخوة لأم ثبت لمن وجد منهم الميراث، ولم يشرط الله - سبحانه - في ميراث الإخوة لأم غير هذا الشرط. ومسألة السؤال قد حصل فيها هذا الشرط، وهو كون الوارث كلالة، وثبت ميراث الإخوة لأم لوجود المقتضى، وهو كون الموروث كلالة، وعدم المانع من ميراث الإخوة لأم، ولا يصح جعل الإخوة لأبوين مع الإخوة لأم مانعا بالاتفاق، أما من جهة القائلين بأن الإخوة لأبوين يشاركون كون الإخوة لأم في الثلث الباقي فكذلك لأنهم لم يدعوا أن وجود الإخوة لأبوين مانعا من ميراث الإخوة لأم، بل ادعوا أنهم يشاركونهم. والمقتضي [3ب] للمشاركة لا يصح إطلاق اسم المانع عليه. غاية الأمر أنه مانع في البعض، وهو ما صار إلى الإخوة لأبوين مع الإخوة لأم لا مانع في الكل، وعلى كل تقدير أنه لا يصح إطلاق اسم المانع من إرث الإخوة لأم عليه، فقد تقرر بهذا أنه وجد ¬

(¬1) في سننه (3/ 1187 رقم 592). (¬2) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (2/ 448). (¬3) في سننه (2/ 264 رقم 2979). (¬4) في "جامع البيان" (3/ ج- 4/ 287). (¬5) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (2/ 448). (¬6) في تفسيره (3/ 887 - 888 رقم 4936). (¬7) 6/ 231).

المقتضي لميراثهم وانتفى المانع. وأما يتعلق به القائلون بأن الإخوة لأبوين يشاركون الإخوة لأم، وهو أنه قد صدق على الإخوة لأبوين أنهم إخوة لأم، ولا يقدح في هذا الصدق كونهم إخوة لأب، لأنه قد حصل المطلوب بكون أمهم وأم الميت واحدة فمندفع بما قدمنا من الإجماع (¬1) على أن قوله تعالى:} وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ {(¬2) مع القراءة التي صحت عن الصحابي المتقدم ذكره، وإذا كانت هذه الآية في الإخوة لأم دون سائر الإخوة ثبتت دلالة الدليل على المطلوب [4أ]، ولا يضرنا كون الإخوة لأبوين يصدق عليهم أنهم إخوة لأم، فإنه وإن صدق عليهم هذا الوصف، لم يصدق عليهم أنهم إخوة لأم فقط، وهذه الآية التي دلت على تقديم الإخوة في لأم في مثل مسألة السؤال قد أقمنا البرهان على أنها في ميراث الإخوة لأم فقط. وأما الإخوة بغير هذا الوصف أعني فقط، فهم مذكورون، ومذكور ميراثهم بعد هذا الدليل الذي دل على ميراث الإخوة لأم فقط، وهو قوله تعالى:} وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ {(¬3) فهذه الآية هي الدليل على ميراث سائر الإخوة غير الإخوة لأم، وهي لا تعارض آية الإخوة لأم بوجه من الوجوه (¬4). وتقرر بهذا أن الدليل [4ب] الدال على تقديم الإخوة لأم فقط على الإخوة لأبوين في مسألة السؤال هو قرآني على فرض أن حديث: " ألحقوا الفرائض بأهلها " (¬5) لا يدل ¬

(¬1) انظر "المغني" (9/ 25). (¬2) [النساء: 12]. (¬3) [النساء: 176]. (¬4) انظر ما قدمنا من مناقشة ابن قدامة للمسألة والرأي الراجح ما قاله الشوكاني. "المغني" (9/ 25). (¬5) (5): تقدم تخريجه.

على ذلك كما قاله من تقدم حسبما أوضحناه، على أنا نقول: إن الظاهر هو دلالة هذا الحديث على تقديم الإخوة لأم في مسألة السؤال، واستحقاقهم للباقي بعد فرض الزوج والأم، وما نقص به الناقص المتقدم ذكره من أنه كان يلزم ذلك في الولد وولد الابن فجوابه أنا نقول بموجب هذا الإيراد، ونقول هذا الإلزام ملتزم ولا نقض ولا إبطال، بل تقدم على الولد وولد الابن جميع من يوجد معهم من أهل الفروض المقدرة كالأم والأب والزوج والزوجة ونحوهم، لا من كان ساقطا بالولد، وولد الابن من أهل الفروض كالإخوة لأم. فتقرر لك بهذا دلالة الحديث على تقدم الإخوة لأم فقط. فتنضم دلالة السنة إلى دلالة الكتاب (¬1). وفي هذا المقدار كفاية، وإن كان البحث محتمل للتطويل. والحمد لله أولا وأخيرا. بقلم المجيب محمد الشوكاني. ¬

(¬1) وهو الراجح لدلالة الدليل الصحيح عليه: أ- قوله تعالى: (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل وحد منهما السدس .. ). ب- للإجماع على أن المراد من هذه الآية ولد الأم على الخصوص. ج- القراءة الصحيحة للصحابي سعد بن أبي وقاص. د- قوله تعالى في بيان ميراث سائر الإخوة غير الإخوة لأم: (وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين) [النساء: 176]. هـ- الحديث النبوي الصحيح: " ... ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكرًا" ودلالته وقد تقدم توضيحه في اختصاص من الإخوة لأم بالثلث الباقي، ووجهه أنهم من أهل الفروض ... "المغني" (9/ 25 - 26).

إيضاح القول في إثبات العول

(162) 51/ 2 إيضاح القول في إثبات العول تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب وقد صدر هذه الرسالة بجواب عن مسألة دوس الزرع بالحيوانات غير المأكولة كالحمير ونحوها، وتروث وتبول حال دوس الزرع والجواب عن ذلك.

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: إيضاح القول في إثبات العول. 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم" وبعد حمد الله على كل حال. وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وصحبه خير خصبٍ وآل فإنَّه وصل هذان السؤالان من مولاي العلامة المفضال صفي الآل نبراس الكمال والجلال، أحمد بن يوسف زبارة 4 - آخر الرسالة: فلا حاجة بنا إلى إيراده هاهنا، وتكريم الكلام عليهن وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية والله ولي التوفيق. حرر في شهر رجب سنة 1217هـ. بقلم مؤلفه المجيب بن علي الشوكاني غفر الله لهما. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 31 صفحة ما عدا صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 22 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة. 9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني. 10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم وبعد حمد الله على كل حال وصلاتِه وسلامِه على سيدنا محمد وآله وصحبه خيرِ صحبٍ وآلهْ. فإن وصل هذان السؤالانِ من موالي العلامةِ المفضال، صفي الله، نِبْراسِ الكمال والجلال أحمدَ بنِ يوسفَ زبراة (¬1) - ثبت الله إيراده وإصداره- قال: كثر الله فوائده-: السؤال الأول: فيما يقع في حال الدِّياسِ للزرع من الحميرِ والأُتَنِ من الرَّوْثِ والبولِ على الحبِّ المْداسِ فماذا يكون الحكمُ فيه؟ الأول: هل يجوز ذلك مما لا يؤكل لحمه؛ لأن فيه تعريضَ المداسِ للإهانةِ بوقوعِ الروث النجس، والبولِ النجسِ عليه. الثاني: إذا وقع على التبن والحبِّ مع المشاهدة هل يجبُ غسلُ الحبِّ جميعًا أو يعفى عن ذلك، أو يُرجَعُ إلى البراءة الأصليةِ؟ أو تقولُ ربَّما أصاب البولُ الحبَّ الكثير فمع تفرُّقِ الحبِّ في الحبوب الكثيرةِ ربما أنه يبقى على الحبة الواحدة ما هو معفوٌّ عنه، أو ما ذلك الحكمِ فقد بحثتُ عن ذلك في مظانَّه لم أجدْ ما يطمئنُّ إليه الخاطر؟ فأفضِلوا بالإفادةِ والتحقيقِ لذلك بما يغني عن الإعادةِ فالمسألةُ حادثةٌ والاستعمالُ لذلك من الزُّراعِ كائنٌ مأنوسٌ، فأدَاها الموروثُ إلى وارثَهُ. انتهى السؤال الأول. ¬

(¬1) تقدمت ترجمته.

وأقول: إنه وقع الاتفاق بين جميع علماء الإسلام. أن الأصلَ في كل شيء الطهارةُ وأن هذا الأصلَ يجبُ استصحابُه (¬1) حتى يُعْلَمَ وجودُ الناقلِ عنه، علمًا شرعيًّا لا مجرَّد الظنون (¬2) الفاسدةِ، التي هي شأن كثير من الموسوسينَ في الطهارةِ، فإن الانتقالَ عن ذلك الأصل المجمعِ عليه [اأ] بشيء من ظنونِ أهلِ الوسوسةِ لم يقل به قائلٌ من أهل العلم، بل هو غير جائز لا سيما في أبواب تطهيرِ النِّجسِ ورَفْعِ الحدث ولهذا ثبتَ عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "فمن زاد فقد أساءَ، وتعدَّ وظلم" (¬3). بل جزم بعض أهل العلمِ بِفِسْقِ الموسوسينَ في الطهارةِ، المجاوزين للحدود التي شرعها الشارع. وإذا تقرَّر ما ذكرناه من الإجماع على أن الأشياءَ جميعَها طاهرةٌ أصالة حتى يُعلمَ وجودُ الناقلِ علمًا شرعيًّا. فاعلم أن الشارعَ قد أشار على هذا الأصلِ، وأرشدَ إليهن وعمل عليهن وقدَّره في غير موطنٍ، فمن ذلك حديثُ عبَّادِ بنِ تميم عن عمِّه قال: شكى إلى النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والرجلُ يُخيَّلُ إليه أنه يجد الشيء في الصلاةِ قال: "لا ينصرف حتى يسمع ¬

(¬1) يشير إلى استصحاب البراءة الأصلية ويسميها ابن القيم براءة العدم الأصلية كبراءة الذمة من التكليفات الشرعية حتى يقوم الدليل على ذلك التكليف ... وهي استدامة ما كان ثابتًا ونفي ما كان منفيًّا. "أعلام الموقعين" (1/ 339)، "إرشاد الفحول"، (772 - 780) (¬2) يبنى الاستصحاب على مبادئ منها: أ- اليقين لا يزول. ب- الأصل في الأشياء الإباحة. ج- الأصل براءة الذمة. وانظر أنواع الاستصحاب وحجيته في "إرشاد الفحول" (ص 773 - 774) (¬3) أخرجه: أبو داود، رقم (135)، والنسائي رقم (140)، وابن ماجه، رقم (422)، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بسند حسن.

صوتًا أو يجد ريحًا" أخرجه الشيخانِ (¬1) وغيرهما، وحديثِ أبي هريرة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئًا فأشكل عليه أخرجَ منه شيء أم لا فلا يخرج من المسجد حتى يسمعَ صوتًا أو يجد ريحًا" أخرجه مسلم (¬2) والترمذي (¬3)، وأخرج نحوه الشيخان (¬4) أيضًا من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم المازني وأخرج نحوه أيضًا أحمدُ (¬5) والحاكمُ (¬6) وابنُ حبَّانَ (¬7) من حديث أبي سعيد وفي إسناده عليُّ بن زيد بن جدعان. وأخرج نحوَه أيضًا البزَّار (¬8) والبيهقي (¬9) من حديث ابن عباس، وفي إسناده أبو أوَيْسٍ لكنَّه تابعه الدَّراوَرْديُّ. قال النوويُّ في شرح مسلم (¬10): هذا الحديثُ أصلٌ من أصول الإسلام، وقاعدةٌ عظيمةٌ من قواعد الدين وهي أنَّ الأشياء يُحْكَمُ ببقائها على أصولها حتى يُتيقَّنَ خلافُ ذلك، ولا يضرُّ الشكُّ الطارئ عليها، فمن ذلك مسألةُ الباب التي ورد فيها الحديثُ، ¬

(¬1) البخاري في صحيحه رقم (137) ومسلم في صحيحه رقم 98/ 361). (¬2) في صحيحه، رقم (99/ 362) (¬3) في "السنن" رقم (75)، وقال: حديث حسن صحيح. قلت: وأخرجه أبو داود، رقم (177)، وهو حديث صحيح. (¬4) البخاري في صحيحه، رقم (98/ 361). قلت: وأخرجه أبو داود، رقم (176)، والنسائي، رقم (160)، وابن ماجه، رقم (513). (¬5) في "المسند" (3/ 12). (¬6) في "المستدرك" (1/ 134). (¬7) في صحيحه رقم (2665). وهو حديث صحيح لغيره. (¬8) في مسنده (1/ 147 رقم 281 - كشف). وأورده الهيثمي في "المجمع" (1/ 242)، وقال: رواه الطبراني في "الكبير" رقم (6622)، والبزار بنحوه ورجاله رجال الصحيح. (¬9) في "السنن الكبرى" (1/ 117، 220). وهو حديث حسن. (¬10) (4/ 49).

وهي أن من تيقَّن الطهارةَ وشكَّ في الحديثِ حكمَ ببقائِهِ على الطهارةِ ولا فرق بين حصول الشكِّ في نفس الصلاةِ، وحصولِه خارجَ الصلاة. وهذا مذهبنا ومذهبُ جماهيرِ [1ب] العلماء من السلفِ والخلفِ. ثم قال: ومن مسائلِ القاعدةِ المذكورةِ أن من شكَّ في طلاق زوجته، أو في عِتْقِ عبدِه أو نجاسةِ الماء الطاهر أو طهاة الماء النجسِ، أو نجاسةِ الثوبِ أو الطعام أو غيرِه، أو أنه صلى ثلاثَ ركعاتٍ أم أربعًا، أم أنه ركعَ وسجد أم لا، أو أنَّه نوى الصومَ، أو الصلاةَ، أو الوضوءَ أو الاعتكافَ، وهو في أثناء هذه العبادات ومن أشبهَ هذهِ الأمثلةَ! فكل هذه الشكوكُ لا تأثير لها، والأصل عدمُ الحادثِ. انتهى. ومن الأدلة الدالة على ذلك الأصلِ العظيم ما أخرجه الدارقطنيُّ (¬1) وغيره من حديث ابن عمرَ قال: خرج رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بعض أسفاره فسارَ ليلًا، فمرُّوا على رجل جالس عند مِقراةٍ له وهي الحوض الذي يجتمع فيه الماء. فقال عمر: أولغتِ السباعُ عليكَ الليلةَ في مِقْراتِك؟ فقال له النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا صاحب المقراةِ لا تخبره، هذا متكلِّفٌن لها ما حملتْ في بطونِها ولنا ما بقيَ شرابٌ طهورٌ" ففي هذا الحديث إرشاد إلى الوقوفِ على حكم الأصلِ، وهو الطهارة وعدمُ البحث والسؤال عن أسباب النجاسةِ المجوِّزِة، وأن ذلك من التكلُّف الذي يخالفُ الشريعةَ (¬2). ¬

(¬1) في "السنن" (1/ 26 رقم 30) وهو حديث ضعيف. (¬2) والأصل الطهارة فلا ينقل عنها إلا ناقلٌ صحيحٌ لم يعارضه ما يساويه أو يقدم عليهن لأن كون الأصل الطهارة معلوم من كليات الشريعة المطهرة وجزيئاتها ولا ريب أن الحكم بنجاسة شيء يستلزم تكليف العباد بحكم من أحكام الشرع. والأصل البراءة من ذلك ولا سيما من الأمور التي تعم بها البلوى، وقد أرشدنا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى السكوت عن الأمور التي سكت الله تعالى عنها وأنها عفو فما لم يرد فيه شيء من الأدلة الدالة على نجاسته فليس لأحد من عباد الله تعالى أن يحكم بنجاسته بمجرد رأي فاسد أو غلط في الاستدلال .... ".

وتأملْ موقع هذا الخطابِ من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيث يقول: "يا صاحبَ المقراةِ لا تخبره" ثم يواجه هذا الصحابيَّ الجليلَ بقوله: "هذا متكلِّفٌ" فإنَّ في هذا أبلغَ زاجرٍ للمحكِّمينَ للشكوكِ، المتنطعينَ المتكلِّفين، المثبتين في هذه الشريعة ما ليس منها والأحاديث (¬1) في هذا الباب كثيرة لمن تتبعها، وأمعنَ النظرَ في شأنها. ولا شك أن الزرعَ الذي وقعَ السؤالُ عنه عند دياسته بدوابً لا تؤكلُ كالحميرِ والأُتنِ محكومٌ له بالطهارةِ؛ لأنه متولِّد بين طاهرينِ: الترابِ الذي نبتَ، والماء الذي سُقي به، بل هما مستحقَّان لوصف زائدٍ على مجرد كونِهما طاهرينِ وهو أنهما مطهَّران لغيرهما. وإذا تقرر أن الزرع المذكورَ [2أ] طاهرٌ وأن طهارتَه مجمعٌ عليها من جميع المسلمينَ فالواجبُ استصحابُ هذا الأصل. ومن عَرَضتْ له شكوكٌ فسأل عن طهارتِها قلنا كما قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعمر رضي الله عنه أنه متكلِّفٌ. وأما إذا كان السؤالُ بأشياءَ لا عن مجرَّد شكوكٍ كهذا السؤالِ الذي أورده السائل- كثر الله فوائده- فإنه إنما سأل عن شيء يشاهده ويشاهده غيرُه من دياسِ الزُّرَّاعِ في الجرينِ بالدوابِّ التي لا يؤكلُ لحمُها؟ فنقول: لا شكَّ أن الدياس بها مظنَّة لوقوع البولِ ¬

(¬1) منها ما أخرجه البخاري رقم (7288) ومسلم رقم (1337) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله فقال: "يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجُّوا". فقال رجلٌ: أكلُ عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثًا فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم" ثم قال: "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلك بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه". ومنها: ما أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/ 375) وصحح إسناده ووافقه الذهبي عن أبي الدرداء رضي الله عنه (رفع الحديث) قال: ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية فاقبلوا من الله العافية فإنَّ الله لم يكن نسيًّا، ثم تلا هذه الآية: (وما كان ربك نسيا) [مريم: 64]

والرَّوث منها في ذلك الشيء الذي تدوسه، فإن لم يحصلْ للإنسان إلا مجرَّدُ هذه المظنة فلا يجوز له أن ينتقل عن الأصل بها لأن المظنَّةَ هي محلُّ الظنِّ أعمُّ من أن يكون صحيحًا أو غيرَ صحيح، والانتقالُ عن ذلك الأصل إنما يكون بالعلم اليقيني عند جميع أهل العلم. ومن سوَّغ الانتقال بالظنِّ المقارِب للعلم فلكونه جعلَه لاحقًا بالعلم، ومن جوَّز الانتقالَ بخبر العدلِ الذي لا يُستفاد منه العلمُ فلكونه ورد الدليلُ العامُّ بالتعبُّد بأخبار العدلِ في مسائلِ العبادةِ ولم يردْ ما يدل على جواز العلم بمجرَّد كون الشيء محلًّا للظنِّ ولا سيما في النقل عن الأصل والبراءة المعتضدينِ بأقوال الشارعِ وأفعالِه، فمن رأى زرْعًا يداسُ بدوابِّ لا يؤكل لحمُها فلا يحلُّ له أن ينتقلَ عن طهارةِ شيء من ذلك، بل الحبُّ والكُدُسُ (¬1) طاهرانِ ولا أظنه يخالفُ في هذا مخالفٌ من علماء الإسلام. وأما إذا شاهدَ البولَ والرَّوثَ خارجًا من الدابة التي لا تؤكلُن واقعًا على مجموع الكُدُسِ والحبِّ اللذين يُداسانِ فاعلمْ أن من الجائز أن يكون ذلك الخارجُ واقعًا على الكُدُسِ وحدَه. وهذا هو الظاهر لكونه مثلَ الحبِّ أضعافًا مضاعفةً، ولكونه أيضًا يكون عن الدياسِ مرتفعًا وأما الحبُّ فإنه إذا خرجَ من سنابلهِ انحطَّ إلى تحت الكُدُسِ والحبِّ، ويأخُذ كل جنس حصَّتَه على مقدارِ كَثْرَتِه وقلَّتِهِ ومن الجائز أيضًا أن يكون واقعًا على الأرض عن انحفارِ الكدسِ والحبِّ، وإن كان ذلك نادرًا وهذا إنما هو باعتبار البولِ. وأما الروثُ فقد شاهدنا كثيرًا ممن يدوسُ يتلقَّف ذلك قبل وصوله إلى الأرض ويرمي به خارجًا وإذا وقع شيء من ذلك على الكدسِ أخذَه وأخذ ما قد لصق به من الكدسِ ورمى به خارجًا، ولا يتركونه يبقى ويتلوَّث بالكدسِ والحبِّ أصلًا. ¬

(¬1) الكُدُسُ: العرمة من الطعام والترم والدراهم ونحو ذلك والجمع أكداس وهو الكدِّيس يمنية. "لسان العرب" (12/ 45).

وإذا تقرر لك هذا فاعلم أن مجرد الاحتمالِ المرجوحِ الذي ذكرناه في وقوع البولِ على الحبِّ لا يقول أحدٌ من علماء الإسلام أنَّه مسوغٌ للانتقال عن ذلك الأصلِ المعلومِ المجمعِ عليهن فإنه ليس بظنِّ فضلًا عن أن يكون علْمًا. وأما ما ذكره- كثر الله فوائده- من أن في الدياسِ بما لا يؤكل لحمهُ تعريضًا لما وقع الدياسُ له للإهانةِ بالبولِ والرَّوث والمحكومِ بنجاستهما فالأمر كذلك. فلا يجوز إلا عند الضرورة، والغالبُ أنهم يدوسونَ الكثيرَ بالبقرِ. والقليل يخبطونه بالخشبِ كما شاهدنا ذلك في غير مكان.

قال- كثر الله فوائده-: السؤال الثاني: فيما ذاكرتُكم به شِفاهًا أيضًا في مسائل العول (¬1)، واستدلال ابن عباس- رضي الله عنهما- بأن الزوجَ والأمّ لم يخرُجَا عن الفريضةِ بحالٍ، وأشار العلامة الحسن الجلال- رحمه الله- في ضوءه (¬2) بأن من أعال أغفلَ التقييدَ، وأن ميراثَ الزوجينِ والأمِّ مقيِّداتٌ فروضُها وما عداها من الفروض مطلقاتٌ وأنه لم يحملوا المطلقَ على المقيَّد، وهي مخالفةٌ للعملِ الأصوليِّ، هذا ولم أحقِّقِ البحثَ لأني إنما [3أ] سمعتُه إملاءً من بعض العلماء فقط، فأفضلوا بتحقيق البحثِ ¬

(¬1) العول لغة: وله معان عدة. العول: الميل في الحكم إلى الجور: قوله تعالى: (ذلك أدنى ألا تعولوا). العول: النقصان. وقال الجوهري في "الصحاح" (2/ 148) العول والعولة رفع الصوت بالبكاء والعول والعويل: الاستغاثة. وقيل العول: الغلبة والشدة تقول منه: عالني الأمر يعُولني عولًا إذا غلبك واشتدَّ عليك وعجزت عن التغليب عليه. وقيل العول: الاتفاق على العيال تقول منه: عال الرجل أولاده يعولهم تريد أنفق عليهم. "لسان العرب" (9/ 478). العول في الاصطلاح: هو زيادة في مجموع السهام المفروضة، ونقص في أنصباء الورثة، وذلك عند تزاحم الفروض وكثرتها، بحيث تستغرق جميع التركة، ويبقى بعض أصحاب الفروض، بدون نصيب من الميراث فنضطر عند ذلك إلى زيادة أصل المسألة. حتى تستوعب التركة جميع أصحاب الفروض. وبذلك يدخل النقص إلى كل واحدٍ من الورثة، ولكن بدون أن يحرم أحد من الميراث ... فالزوج الذي يستحق النصف، قد يصبح نصيبه الثلث في بعض الحالات، كما إذا عالت المسألة من (6) إلى (9) فعوضًا عن يأخذ (3/ 6) وهو النصف يأخذ (3/ 9) وهو الثلث وهكذا بقية الورثة يدخل عليهم النقص في أنصبائهم في حالة عول المسألة. وبذلك يتحقق ويتَّضح لنا معنى قول الفرضيين، في تعريف العول: "هو زيادة في السهام المفروضة ونقص في أنصباء الورثة". (¬2) أي "ضوء النهار" (4/ 2646).

في ذلك؟ فكلام السيِّد الحسن الجلالِ لا يخلُو عن مقال، إذِ التقييدُ في قوله تعالى:} إن امرؤا هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك {(¬1) كالتقييدِ في قوله تعالى:} ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد (¬2) إلى آخر الآياتِ، فأفضلوا بالإيضاحِ. وتجويدِ البحثِ بما يكون به كمالُ الإيضاحِ؟ كثر الله فوائدكم، وكتب ثوابكم، وجزاكم الله خيرًا- آمين انتهى السؤالُ الثاني. ¬

(¬1) [النساء: 176] (¬2) [النساء: 12]

وأقول مستعينًا بالله، ومتكلًا عليه: إن هذا السؤالَ من أشدِّ الأسئلة إشكالًا، وأقواها إعضالًا؛ لأنه انقضى زمن النبوةِ، وأيامُ نزول الوحي من السماء، ولم تحدث مسألةٌ عائلةٌ إنما حدث العولُ في زمن الصحابة (¬1) فاختلفوا، وليسوا بملومينَ فإن تزاحُم الفرائضِ التي أهلُها يرثون جميعًا ولا يُسْقِطُ بعضُهم بعضًا قبلَ ذلك التزاحُم إذا قلنا أنَّه يرثُ بعضُهم ويُسْقِطُ بعضٌ عند التزاحمِ كان هذا الإسقاطُ لا دليلَ عليه إلا مجرَّدُ الرأي ولا يخفى أن إبطالَ ميراثِ وارثٍ وأثبتَ اللهُ ميراثَه مع كل وارثٍ من المزاحمينَ له بمجرَّد اجتماعِهم على الميراثِ اجتماعًا زادتْ به أجزاءُ فرائضِهم على أجزاء التركةِ. كما لم يدلُّ عليه دليل لا ترتضيه قلوبُ المتورِّعين، ولا تطمئنُّ به خواطرُ المتقيَن ولا تميلُ إليه عقولُ المجتهدين. وانظر إلى كل مسألةٍ من مسائل العولِ فإنك تجدُ جميعَ من فيها وارثًا غيرَ ساقطٍ، فمن قال أن البعضَ منهم وارثٌ عند التزاحم والبعضَ الآخرَ ساقِطٌ به فهو محتاجٌ إلى دليل يدلُّ على إسقاطِ ذلك الوارثِ، لا سيما بعد الاتفاقِ على إثباتِ ميراثِه في تلك الفريضةِ، فإن جاء بدليل قبِلْناه، وإن لم يأتِ بدليل إلا مجرَّدَ [3ب] ما يتخيَّلُه من أن التزاحمُ مسوِّغٌ لجعل البعض وارِثًان والبعضِ الآخر ساقطًا فهذا التخيلُ ليس بدليل وهكذا ما قاله بعضُ المانعينَ (¬2) للعَوْلِ من أنه ليس في المالِ نصفٌ ونصفٌ وثلثٌ. ذهب ¬

(¬1) روي عن ابن عباس أنه قال في زوجة وأخت وأمٍّ: من شاء باهلتهُ أن المسائل لا تعول إنّ الذي أحصى رمل عالج عددًا أعدلُ من أنه يجعل في مالٍ نصفًا، ونصفًا وثلثًا، هذا نصفان ذهبا بالمال، فأين موضع الثلث؟ فسمِّيت هذه المسألة مسألة المباهلة لذلك، وهي أول مسألةٍ عائلة حدثت في زمن عمر رضي الله عنه، فجمع الصحابة للمشورة، فقال العباس: أرى أن نقسم المال بينهم على قدر سهامهم، فأخذ به عمر رضي الله عنه واتبعه الناس على ذلك .. ". "المغني" (9/ 28) "موسوعة فقه عمر رضي الله عنه" (ص 73). (¬2) وهو قول ابن عباس رضي الله عنه. أخرج البيهقي في "السنن" (6/ 253) وسعيد بن منصور في سننه (1/ 44) روى الزهري، عن عبد الله بن عتبة قال: لقيت زفر بن أوس البصري فقال: نمضي على عبد الله بن عباس نتحدث عنده فأتيناه فتحدثنا عنده فكان من حديثه، أنَّه قال: سبحان الله الذي أحصى رمل عالجٍ عددًا، ثم يجعل في مال نصفًا، ونصفا، وثلثًا، ذهب النصفان بالمال، فأين موضع الثلث؟ وأيم الله لو قدَّموا ما قدم الله وأخَّروا ما أخر الله، ما عالت فريضة أبدًا فقال زفر: فمن الذي قدمه الله ومن الذي أخَّره الله؟ فقال: الذي أهبطه من فرض إلى فرض فذلك الذي قدمه الله والذي أهبطه من فرض على ما بقي، فذلك الذي أخَّره الله؟ فقال: الذي أهبطه من فرض إلى فرض فذلك الذي قدمه الله، والذي أهبطه من فرض إلى ما بقي، فذلك الذي أخَّره الله. فقال زفر: فمن أوَّل من أعال الفرائض؟ قال عمر بن الخطاب فقلت: ألا أشرت عليه؟ فقال: هِبته وكان امرأ مهيبًا. قال ابن قدامة في "المغني" (9/ 29): قوله من أهبطه من فريضة إلى فريضة فذلك الذي قدَّمه الله. يريد أنَّ الزوجين والأمِّ، لكل واحد منهم فرض ثم يحجب إلى فرض آخر لا ينقص منه، وأما ما أهبطه من فرض إلى ما بقي، قلَّ أو كثر فكان مذهبه، أنَّ الفروض إذا ازدحمت ردَّ النقص على البناتِ والأخوات.

النصفان بالمال فأين موضع الثلث؟ فإن هذا مجرَّد استبعاد عمليٍّ، وعلى فرض صحَّتِه، والقول بموجبِه فنقول: نعم ذهب النصفانِ بالمال، فأين موضع الثلث؟ لكنْ أخبرونا مَنِ الذي أذنَ لكم عند هذه الحالةِ المستبعدةِ أن تورَّثوا بعضًا وتسقطوا بعضًا؟ إن قلتُم الآذِنُ لكم بذلك هو الله أو رسولُهُ فهذه باطلٌ بلا خلافٍ؛ فإن الله ورسولَه إنما فرضًا مواريثَ الوارثينَ حسبَما تضمَّنه القرآنُ والسنةُ، وبيَّنا الوارثَ والساقطَ، ولم يكن في القرآن ولا في السنة حرفٌ واحد في العولِ، ولا حدثَ ذلك في الأيام التي هي أيامُ نزولِ الوحي على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما قدمنا ذِكْرَهُ. وأما ما يروى عن ابن عباس وهو رأسُ القائلينَ بعدم العولِ من أنَّه قال: "لو قّدَموا من قدَّم الله، وأخَّروا من أخَّر الله" (¬1) هكذا حُكيَ ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة

عنه، وما أظنُّه يصحُّ فإن هذا الدليلَ مع كونه لا يشبهُ كلامَ الفصحاء ولا يحكي كلامَ العرب العرَْباء، فيه غايةُ السقوطِ، والجوابُ عنه من وجوه. الأول: على فرض صحة صدورهِ عن ابن عباس يقال له ما تريد بالتقديم والتأخير (¬1) هل تقديمُ الذِّكرِ [4أ] في النزولِ أم التقديم في المصحفِ الشريفِ، أم مرادُكَ بالتقديم أن الله قدَّمهم في تقديم إخراجِ ميراثِهم من التركةِ قبلَ إخراجِ ميراثِ غيرِهم، أو المرادُ بالتقديم أنه جاء عن الله- سبحانه- على لسان رسوله؟ إن قال: المرادُ الأولُ أو الثاني فممنوعانِ، بل بطلانهما ظاهرٌ لا يخفى على عالمٍ. وإن أرادَ الثالثَ فأيُّ دليل من كتاب الله- سبحانه- ورد بأنه يقدِّم إخراجِ ميراث بعض الورثةِ من التركةِ قبل إخراجِ ميراثِ البعضِ الآخَرِ، فإنا لم نسمع بشيء في هذا، فمن وقف على ما يفيد ذلك فلْيُهْدِه إلينا. وإن أراد الرابعَ فليأتنا بالحجة أنَّه جاء شيء من ذلك على لسان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والوجه الثاني: أن الورثةَ الذين ينتقلون (¬2) من فريضةٍ إلى فريضةٍ هم كثيرٌ، فإن البنتَ الواحدةَ مع عصبته فرضُها النصفُ، فإذا وُجدت معها بنتٌ أخرى انتقلتْ من النصف إلى الثلثِ (¬3)، وهكذا الأخت الواحدةُ لأب وأم، أو لأب مع العُصْبَةِ فرضُها النصفُ. فإذا وجدتْ معها أختُها انتقلت من النصف إلى الثلثِ (¬4)، وهكذا الأختُ لأبٍ مع العصبةِ ¬

(¬1) تقدم توضيحه. انظر: "المغني" (9/ 29). (¬2) قال ابن قدامة في "المغني" (9/ 29): قوله: وأما أهبط من فرض إلى ما بقي يريد البنات والأخوات فإنَّهنَّ يفرض لهنَّ فإذا كان معهُنَّ إخوتهنَّ، ورثوا بالتعصيب. (¬3) قال تعالى: (فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ... ) [النساء: 11]. (¬4) في قوله تعالى: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤا هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك) [النساء: 176].

فرضُها النصفُ. فإن وُجدت معها أخت مثلها انتقلت إلى الثلث، وهكذا الأخ لأمٍّ فرضُه السدسُ، فإن وجدَ معه أخوانِ لأمٍّ انتقل إلى التسع. وهكذا الزوجُ والزوجةُ فإنهما ينتقلانِ من النِّصفِ والرُّبُعِ إلى الرُّبعِ والثُّمُنِ (¬1)، وهكذا الأمُّ تنتقلُ من الثلثِ إلى السدسِ (¬2) فهول لا يصدق على كل واحد [4ب] منهم أنه ينتقلُ من فريضةٍ إلى فريضةٍ. فإن كان ابن عباس يجعلُهم جميعًا من المقدَّمين فكيف يصنعُ مثلًا في زوجٍ وأختٍ وأمٍّ! أو في زوج وأختينِ لأبٍ وأمٍّ وأم! أو في زوج وابنتين وأمٍّ،! أو في زوجةٍ وأختينٍ لأبوين وأمٍّ! ونحوِ هذه الفرائضِ، فإن هؤلاء جميعَهم على فرض أنه يقول بأنَّهم ممن قدَّم الله قد تزاحمتْ فرائضهم وعالتْ، فإن قال أنه يرثون جميعًا لأنهم ممن قدَّم اللهُ. فإن كل واحد منهم سيأخُذ فريضتَه المنصوصَ عليها لزمَهُ القولُ بالعولِ. وإن يخصُّ بعضَهم بإعطائِه نصيبَه وينقصُ على غيرِه فهذا تحكُّم محضٌ بعد تسليم أنَّهم جميعًا ممن قدم الله. فإن قال: إن الذي قدَّمهم الله إنما هو الزوجان والأبوان. فيقال له: قد وُجِدَ في جميعه ما جعلتَه كالبيانِ لمن قدَّم الله ولمن أخَّر فإن كلَّ واحد من هؤلاء إذا زال عن فريضة في جميعهم ما جلتَه كالبيانِ لمن قدَّم اللهُ ولمن أخَّر فإن كلَّ واحد من هؤلاء إذا زال عن فريضة انتقلَ إلى فريضة أخرى. فإن قال: المراد بذلك هو الذي لا يسقطُ بحال، بل يكون وارثًا في جميع الأحوالِ، ومع كلِّ وارث. ولكنه ينتقلُ من فريضة إلى فريضة بحسب اختلافِ الورثةِ. فنقول: البنتُ هكذا لا تسقطُ بحال، بل تنتقل من النصفِ إلى الثلثِ، أو إلى أقلَّ من الثلثِ بحسب عددِّ من يرثُ معهَا. ¬

(¬1) في قوله تعالى: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم تكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم .. ) [النساء: 12]. (¬2) في قوله تعالى: (فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس) [النساء: 11].

ثم ما الدليل على أن من لا يسقط بحالٍ هو الذي [5أ] قدَّمه الله. وعلى فرض هذا فإن خلفت الميتٌ ابنتَها وزوجها وأبويها، فإن كانوا ممن قدَّم الله جميعًا ففرْضُ البنت النصف، والزوجُ الربُع، والأبوينِ الثلثُ. فلا بد من القولِ بالعولِ، فإن قال أن بعضَ هؤلاء أقدمُ من بعض فمن هو الأقدم وما الدليلُ على ذلك مع كون كل واحد منهم لا يسقط بحال وبالجملة فلم يظهر لهذا الكلام الذي يروى عن ابن عباس وجهُ صحةٍ لا من طريق الأثرِ، ولا من طريق النظر. بل هو كلام متهافتٌ متناقضٌ (¬1). والوجه الثالث: لو سلَّمنا أن هذا الكلامَ صحيحٌ، وأنه غير متناقضٍ بل مقبولٌ فلا يخفاك أن كلام الصحابي ليس بحجةٍ (¬2) على ما هو الحقُّ كما تقرَّر في الأصول فلا تقوم على القائلين بالعول الحجةُ بكلامه، وكيف يقومُ بكلامِهِ الحجَّةُ وقد خالفه من هو أكبرُ منه من الصحابة!. كما روي عن علي- عليه السلام- أنه قال على المنبر: "صار ثُمنها تسعًا" (¬3) بل سيأتي أن الصحابة .................................. ¬

(¬1) قال ابن قدامة في "المغني" (9/ 29 - 30): وقد يلزم ابن عباس على قوله مسألةٌ فيها: [زوج وأم وأخوان من أمٍّ، فإن حجب الأمّ إلى السدس خالف مذهبه في حجب الأم بأقل من ثلاثةٍ من الإخوة، وإن نقص الأخوين من الأم، ردّ النقص على من لم يهبطه الله من فرض إلى ما بقي، وإن أعال المسألة رجع إلى قول الجماعة وترك مذهبهن ولا نعلم اليوم قائلًا بمذهب ابن عباس، ولا نعلم خلافًا بين فقهاء الأمصار في القول بالعول. (¬2) تقدم توضحيه. انظر "إرشاد الفحول" (ص795). (¬3) أخرج ابن شيبة في مصنفه (2/ 183) وعبد الرازق في مصنفه (10/ 258) والبيهقي في "السنن" (6/ 253): اشتهر عن علي رضي الله عنه أنه كان يخطب على منبر الكوفة فقال: "الحمد لله الذي يحكم بالحقِّ قطعًا ويجزي كل نفس بما تسعى، وإليه المآل والرجعى ... ". فقطع عليه ابن الكواء خطبته ليسأله عن رجل توفي وترك زوج وبنتين وأمًا وأبا، فأدرك عليَّ بما حباه الله من ذكاء أن القصد من السؤال هو التأكد من نصيب الزوجة فبادره عليَّ الجواب وقال متابعًا دون توقف "صار ثمنها تسعًا" ومضى في خطبته وكأنه أراد أن يقول رضي الله عنه أنَّ المسألة قد عالت ولذلك نقص نصيب الزوجة من الثمن إلى التسع. المسألة أصلها من [24] فأعالها علي رضي الله عنه إلى [27] وقد كان نصيب الزوجة [3/ 24] وهو الثمن فأصبح نصيبها بعد العول [3/ 27] وهو التسع. بعد العول 27 أصلها 24 صورتها: 3 1/ 8 الزوجة 16 2/ 3 بنتان 4 1/ 6 أم 4 1/ 6 أب

أجمعوا (¬1) على إثبات العولِ ولم يخالفْهم إلا ابن عباس. وإذا تقرر لك هذا فاعلم أنَّ السائل- دامت إفادته- لما أشار في سؤاله إلى كلام المحققِ الجلالِ (¬2) كما عرفَ تعيَّن علينا أن ننقلَ كلامَ الجلالِ بحروفِه ثم نتكلَّم على ما فيه، ثم بعد ذلك نتكلَّم على كلامِه في كل فريضةٍ من الفرائضِ العائلةٍ لتعرفِ الحقِّ في هذه المسألةِ. فإنها مسألةٌ عظيمةٌ يترتَّب عليها اختلافُ التوريثِ في كثير من المسائلِ وذلك هو حق من حقوق العباد [5ب]، ومظلمةٌ ماليَّةٌ لا بدَّ أن يقعَ السؤالُ عنها بين يدي اللهِ لكل من قضى فيها بقضيةٍ أو أفتى فيها بِفُتْيا، فإن من انتقص من نصيبِه بتقديمِ غيرِه عليه أو بمزاحمةِ غيره لا بدَّ أن يتعلَّق بمن صنعَ به ذلك حتى يفكَّه عدلُه,. وموافقتُه للحق أو يوبقْه جَوْره ومخالفته له. وأقلُّ الأحوال أن ينتقصَ أجرُه مع توفيتِه حقَّ الاجتهادِ كما ورد في الحديث المتفق عليه: "إذا اجتهدَ الحاكمُ فأصابَ فله أجرانِ، وإن اجتهدَ فأخطأَ فله أجرٌ" (¬3). ولكنه لا يكون هكذا إلا من وفَّى الاجتهادَ حقَّه في هذه المسألةِ، وقليلٌ ما هم. قال الجلال في ضوء النهار (¬4) ما لفظه: وقيل: قاله الجمهورُ: لا يقدَّم أحدٌ بل تعولُ ¬

(¬1) انظر "المغني" (9/ 30). (¬2) في "ظهور النهار" (4/ 2654 - 2646). (¬3) تقدم تخريجه مرارًا (¬4) (4/ 2645).

الفرائضُ أي تميلُ عن مقاسمتِها بحيثُ يصيرُ لكل منهم اسمٌ غير اسمِه الأولِ كما سمّى أمير المؤمنين كرم الله وجهه (¬1) في الخطبة المنبرية (¬2) الثمنَ تِسْعًا، لأن [مقسم] (¬3) الثمن ثمانية فأميل إلى تسعةٍ واحتجَّ القائلون بالعول بأنه استحال أن يكون لشيء ونصفٌ، ونصفٌ وثلثٌ، كما في زوج وأختٍ وأمٍّ مثلًا، فوجب تقسيطُ المال على المقادير، وهو معنى القولِ. وإلا كان إسقاطُ أحدِ المقاديرِ أو نقصه تحكُّمًا، وأجيبَ بمنع التحكُّم مسنَدًا بأن فرضَ غير الأبوينِ والزوجينِ مطلقٌ (¬4)، والمطلقُ غيرُ عامٍّ للأحوال المسماةِ بالأوضاعِ والأزمان لأنَّ العامَّ مقيَّدٌ (¬5) كما علم في الأصول، ولا شيء من المطلق مقيَّدٌ على أنه لو كان ¬

(¬1) قال السفاريني في "غذاء الألباب". كما في "المناهي اللفظية" (ص 454): "قد ذاع ذلك وشاع وملأ الطروس والأسماع، قال الأشياخ: وإنَّما خص علي رضي الله عنه بقوله كرم الله وجهه، لأنه ما سجد إلى صنم قد وهذا إن شاء الله لا بأس ... ". فقال صاحب "المناهي اللفظية" (ص 454): أما وقد اتخذته الرافضة- أعداء علي رضي الله عنه والعترة الطاهرة- فلا، منعًا لمجاراة أهل البدع. ولهم في ذلك تعليلات لا يصح منها شيء ومنها: لأنّه لم يطلع على عورة أحد أصلًا. ومنها: لأنه لم يسجد لصنم قط، وهذا يشاركه فيه من ولد في الإسلام من الصحابة رضي الله عنهم ... ". (¬2) تقد التعليق عليها. (¬3) زيادة من "ضوء النهار" (4/ 2645). (¬4) قال الأمير الصنعاني في "منحة الغفار على ضوء النهار" (4/ 2645): قوله: بأن فرض غير الزوجين والأبوين مطلق أقول: أي في اللفظ الدال على فرضهم وذلك أن قوله تعالى: (فإن كن نساء فوق اثنتين) وقوله: (وإن كانت واحدة فلها النصف) لم يقيد بوجود أحد ولا بعدمه، بخلاف فرض الأبوين فإنه قيد استحقاقهم الكثير منه بعد وجود الولد واستحقاق القليل منه بوجوده ومثله فرض الزوجين قيد استحقاق القليل منه بوجود الولد واستحقاق الكثير منه بعدمه. (¬5) انظر "إرشاد الفحول" (ص 454).

عاما لوجوب تخصيصُه بفرضِ الأبوين والزوجينِ (¬1)، لأن الأقلَّ مقيَّدٌ بوجود الولد والأكثرَ بعدمِ الولدِ، فهو خاصٌّ في الأحوالِ، والخاصُّ مقدَّمٌ على العامِّ كما عَلِمَ. وإذا ثبتَ أنْ لا عمومَ للمطلق (¬2) فهو صادقٌ في ضمن مقيَّدٍ ما، وهو ما خلا [حالة] (¬3) مزاحمةِ فروض الأبوينِ والزوجينِ مقيدٌ المعارضةَ للمطلقِ، وإلا لزمَ مخالفةَ أصلينِ متفقٍ عليهما: أحدهما: أن الاجتهادَ إنما يصح في مقابلةِ الظواهرِ [6أ] بتأويلها وتخصيصِها وتقييدِها بالقياس ونحوه، وأما النصوص الصرائح التي لا تحتملُ تخصيصًا ولا تقييدًا ولا تأويلًا فلا يصحُّ فيها الاجتهادُ. ثانيهما: أن المقيَّد هو المقدمُ على المطلقِ، وقد عكسَ الأمرين مَنْ قالَ بالعولِ فأخرج السدسَ والرُّبُعَ والثُّمنَ ونحوَهما التي هي نصوصٌ صريحةٌ لا تحتملُ غيرَ معنى واحدٍ من معانيها وقدم المطلقَ على المقيَّد مع أن دلالةَ المقيدِ على مدلوله أقوى من دلالة المطلقِ على ذلك المقيَّد. ولهذا يجب تخصيصُ العامِّ بالخاصِّ إن اختلفَ حكمُهما، ويُحْملُ المطلقُ على المقيَّد إنِ اتَّفق حكمُهُما (¬4) والقائل بالعولِ قد زاغَ عن الثبوت على جبال هذه القواعد الرسيةِ. وحينئذ يجبُ أن يَستوفي الأبوانِ والزوجانِ فرضَهُما في محلِّهما، وما بقي كان لأقرب فرعٍ تعصيبًا لا فرضًا؛ إذ لا مانعَ من أن يكونَ بعضُ الورثةِ ذا فرضٍ على تقدير وعصَبَةً على آخر كما في الأب والجدِّ فإنهما ذو فرض مع الأولاد، وعصَبَةٌ مع غيرهم، فيجب أن يكون البناتُ كذلك ذواتِ فرضٍ عند انفاردهنَّ مع الأبوينِ والزوجينِ وعصَبَاتٍ معَهما كما يكنَّ عصباتٌ مع إخوتهنَّ، والأخواتُ أيضًا ¬

(¬1) تقدم. انظر: آيات المواريث. (¬2) تقدم مرارًا. (¬3) زيادة من "ضوء النهار" (4/ 2644). (¬4) تقدم ذلك مفصلًا

مع البناتِ، وكذا الأبوان يقتسمان ما بقي بعد [أحد] (¬1) الزوجين للذكرِ مثلُ حظ الأنثيينِ على الأصحِّ تعصيبًا لا فرْضًا؛ لأنَّ ما بقي بعد فروضِ الزوجينِ والأبوينِ إن زاد على قدر فرضِ الإناثِ وجب أن يوفين منه على قدرِ فرضهنَّ، وما بقي فلذي فرضٍ أو عصَبَةٍ غيرِهنَّ لئلا يزيدَ ما لهنَّ مع المزاحمِ عليه مع عدمِه. انتهى كلامه (¬2). وها أنا أتكلم على كلامه هذا بما تراه فتدبَّر الصوابَ. أما قوله: وأجيب بمنع التحكُّمِ مسندًا بأن فرضَ غيرِ الأبوينِ والزوجينِ مُطْلَقٌ. فأقول: ماذا أردتَ بالمطلق؟ إن قلتَ هو ما دلَّ على ماهيَّتِهِ مجرَّدُهُ، أو ما دل على شائعٍ في جنسهِ (¬3)، فلا فرقَ بين الأبوين والزوجينِ وبين غيرهم من الورثةِ في هذا المفهومِ؛ لأنهم مذكورون في القرآن الكريم على نمطٍ متفقٍ. فإنه من حكم على قوله تعالى: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم}، قوله: {ولهن الربع مما تركتم} (¬4)، وقوله: {وورثه أبواه فلأمه الثلث}، وقوله: {فإن كان له إخوة فلأمه السدس} (¬5) وبالعموم أو الإطلاقِ [6ب] لزمه أن يحكمَ على مثل قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} (¬6)، وقوله: {فإن كُنَّ نساء فوق اثنتين فلهن ثلث ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف} (¬7) بمثل ذلك الحكم وهكذا في الآية الواردةِ في ميراث الأخواتِ، وذلك في قوله تعالى: {فإن كانتا اثنتين} الآية. وكذلك قوله: {إن امرؤا هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك} ¬

(¬1) زيادة من "ضوء النهار". (¬2) أي الجلال في "ضوء النهار" (4/ 2644 - 2648). (¬3) انظر "إرشاد الفحول" (ص 540)، "المسودة" (ص 147). (¬4) [النساء: 12]. (¬5) [النساء: 11] (¬6) [النساء: 12] (¬7) [النساء: 12]

(¬1)، وكذلك الإخوة لأم، ونحوُ ذلك. وهكذا العكسُ. وإن أردتَ بالمطلقِ هاهنا هو ما لم يقيَّد بقيدٍ، وميراثُ الزوجين والأبوين مقيَّدٌ. فإن الزوجَ يستحقُّ النصفَ بقيد عدمِ الولدِ، والرُّبُعَ بقيد وجوده، والزوجة الربع أو الثمن بقيدين المذكورين، والأمُّ تستحقُّ والأبُ الباقي بقيد أن لا يكون للميِّت وارثٌ سواهما. فنقول: وهكذا البنتُ تستحقُّ النصفَ بقيد أن لا يكون معها أحدٌ من إخوتها وأخواتِها، وتستحق الثلثَ بقيد وجودِ أختِها معها. والأختُ لأبوين أو لأب تستحقُّ النصف بقيد عدم وجود أختِها معها، وذلك حيث يخلِّف الميت مثلًا أختًا لأبوينِ أو لأب وعصبَةً كالأعمام، وأولادِ الإخوةِ. وتستحق الثلَث بقيدِ وجودِ أختِها معها، وهكذا الإخوةُ والأخوات لأمٍّ، فإن الواحد منهم يستحقُّ السدسَ بقيد وجودِه منفردًا. أو مع واحدٍ معه منهم، وتستحقُّ التسعَ بقيد وجود اثنين معه. ونحو ذلك كثيرٌ. فإن قال المرادُ التقييد مع عدمِ السقوطِ بحال. فنقول: والبنتُ أيضًا كذلك، فإنه وُجِدَ التقييدُ فيها مع عدم السقوط بحال، فكيف تقول في امرأة خلَّفت أبوين وابنتين وزوجًا، أو أبوين وبنتًا وزوجةً، إن قال يأخذ الأبوان الثلثَ والزوجُ الربعَ والابنتانِ أو البنتُ الباقي، وهو ثلثٌ ونصف سدسٍ فقد أدخل النقصَ على من هو الميِّتِ بمكان القُرْبِ لا يلحقُ به غيرُه مع كونِه لا يسقطُ بحالٍ، ومع كونه يستحقُّ مقدارًا معينًا بقيدٍ، ومقدارًا آخر بقيدٍ آخَرَ. وأما قوله: والمطلق غيرُ عام للأحوال المسماة بالأوضاع والأزمانِ، وأن العامَّ مقيد كما علم في الأصول ولا شيءَ من المطلق. فأقول: هذا الفرق بين [7أ] المطلق والعام لا يتعلَّق به فائدةٌ معتدًّ بها في محل النزاع لأنك قد عرفتَ اتحادَ الصيغِ الواردةِ في ميراث الأبوين والزوجين وغيرِهما، فإن أراد ¬

(¬1) [النساء: 176]

أن الورادَ في ميراث الأبوين والزوجين عامٌّ، والواردَ في ميراثِ غيرِهما مطلقُ فهذا هو التحكُّم البحْتُ، والتكلُّف الصِّرْفُ، وإن أراد أن الصيغَ الواردةَ في الجميع مطلقة، لكن التقييدَ في الأبوين والزوجين صار كالعامِّ من جهة كونِه مقيَّدًا فليس كل مقيَّد له حكم العامِّ، ولا يخالف في ذلك من له أدنى إلمام بعلمِ الأصولِ، بل من له أدنى إلمام باللغة العربية. ومع هذه فقد قررنا فيما سبق أنه لم يختصَّ بالتقييد ميراثُ الأبوينِ والزوجين فقط بل معَهم غيرهم كما عرفت، فالعلَّة موجودةٌ، والإلزام مشتركٌ. وأما قوله على أنه لو كان عامًّا لوجب تخصيصه بفرضِ الأبوينِ والزوجينِ لأن الأقلَّ مقيَّدٌ بوجود الولدِ، والأكْثَرَ بعدم العولِ، فهو خاص في الأحوال، والخاصُّ مقدم على العامِّ كما عُلِمَ. فأقول: قد تردد ميراثَ من عدا الأبوين والزوجينِ بين أن يكون مطلقًا أو عامًّا. وأجاب على فرض العموم بأن ميراث الأبوين والزوجينِ خاصٌّ، والواجبُ بناء العام على الخاصِّ، ولا يخفى عليك أن هذه التفرقةَ بين الأبوين والزوجين وبين غيرهم إن كان من حيث الصيغُ الواردةُ في مواريثهم في القرآن الكريم أو السنة النبوية فممنوعٌ. فإن من يعرفُ علم البيانِ والأصولِ يعلم أن الحكمَ على الصيغِ الواردةِ في ميراثِ الأبوين والزوجين بالتقييدِ أو التخصيص، وعلى الصيغِ الواردةِ في ميراث غيرهم بالإطلاقِ أو العمومِ باطلٌ لا يرجع إلا قاعدةٍ مقرَّرةٍ، ولا إلى قانون صحيح، بل مجازفةٌ محْضةٌ [7ب]، وتحكُّم خالصٌ. وإن كانت هذه التفرقةُ من حيث كونُ ميراثِ الأبوينِ والزوجينِ مقيَّدينِ بتلك القيود، فميراث غيرِهما أيضًا مقيَّد بمثل تلك القيودِ. وإن كانت من حيث عدمُ السقوطِ بحال فميراثُ غيرِهم كذلك كالبنتِ. وأما قوله: وإذا ثبت أنه لا عمومَ للمطلقِ فهو صادقٌ في ضمن مقيَّد ما وهو ما خلى عن مزاحمة فرض الأبوينِ والزوجين. فأقول: هذا إنما يتمُّ بعد تسليم الإطلاقِ في ميراثًِ غير الأبوينِ والزوجينِ، والتقييدِ

في ميراثهما. وقد عرفتَ أنه منقوضٌ على كل تقدير، وأنه قوله: وإلَّا لزم مخالفةً أصلينِ متفقٍ عليهما: أحدُهما أن الاجتهادَ إنما يصحُّ في مقابلةِ الظواهِر بتأويلها وتخصيصِها وتقييدها بالقياسِ ونحوِه. وأما النصوص الصرائحُ التي لا تحتمل تخصيصًا ولا تقييدًا ولا تأويلًا فلا يصحُّ فيها الاجتهادُ. فأقول: هذا يرد على القائلين بعدم ثبوت العول، وتقديم الزوجين والأبوين على سائر الورثة لا على القائلين بثبوت العول، وتقديم الزوجين والأبوين على سائر الورثة لا على القائلين بثبوت العول، وبيانه أن الله- سبحانه- جعل للبنتين الثلثينِ، وهذا نصٌّ صريحٌ. فاجتهد القائلون بعدم العولِ بأن الأب والأمِّ يأخذانِ الثلثَ كاملا، والزوجُ الربعَ كاملًا، ولم يجعلوا للبنتين إلا ثلثَ التَّركةِ ونصفَ سُدُسِهِا، وكذلك جعل الله للأختين الثلثين. فقال النافون للعول: إن للزوج النصفَ وللأبوين الثلثَ وللأختين السدسَ، وهكذا في البنت الواحدة في المسألة الأولى فإنها أخذتْ دون ما فرضه الله لها وهو النصفُ بدون دليل، بل لمجرد اجتهادٍ في مقابلة النصوصِ الصريحةِ، وهكذا الأخت الواحدةُ في المسألة الثانية إذا انفردت عن أختها أخذتِ السدسَ وهو ثلثَ فَرْضِها، وهكذا الأخوانِ للأمِّ مع زوجٍ وأختٍ لأبوين، وغيرت هذهِ الصورِ كثيرٌ. وستعرف ذلك عند الكلام على كل مسألةٍ من مسائلِ العولِ، فانظر بعين الإنصافِ أيّما أشد مخالفةً للنص هل مَنْ جعلَ الميراثَ [8أ] لبعض الورثةِ، وأسقطَ البعضَ الآخَرَ مع كونهم جميعًا وارثينَ في تلك الفريضة بالنصوص الصحيحة، أم من قسمَ الميراث بينهم جميعًا لكل واحد منهم بمقدارِ فريضتِه؟ ولكنها لما تزاحمتْ وزادتْ فرائضُ الورثة على أجزاء التركةِ جعلوا لكلِّ ذي فرض من الورثةِ بمقدارِ نصيبِه من التركةِ، فإنه لا شكَّ ولا ريبَ أن المثبتين للعول أبعدُ لموافقةِ النصوصِ من النافينَ، لأن المثبتين أعملوا النصوصَ بحسب الإمكانِ، وبغاية الحرص على أن لا يقطعوا ميراثَ وارثٍ، ولا يفضِّلوا عليه غيْرَه بدون دليل.

وأما النافونَ فإنَّهم أعملوا بعضَ النصوص فوفَّروا ما فيها من الفرائض على أهلِها وطرحُوا النصوصَ الآخرةَ فنقصُوا أهلَها من بعض ما يستحقونه، أو من كلِّه بدون برهانٍ ولا قُرآنٍ، ولا عقلٍ ولا نقلٍ، فتأمل في هذا الأصل الأول الذي أورده الجلالُ على القائلينَ بالعول، حتى يتبينَ لك أنه أورد عليهم ما هو واردٌ عليه، عند من أنصفَ فإن القائلينَ بالعول إنما أعملوا النصوصَ ولم يهدُروا شيئًا منها، بل جمعوا بينَها بما يمكن عند التزاحُم، وزيادةِ أجزاء الفريضةِ على أجزاء التركةِ، بخلاف المانعينَ للعول، فإنهم أهدروا بعضَها إهدارًا ظاهرًا، وقدموا البعضَ وأخَّروا البعضَ بل دليل يدلُّ على ذلك، بل بمجرد رأي قد تبين فساده. وأما قوله: وثانيها أن المقيَّد هو المقدَّمُ على المطلقِ. وقد عكس الأمرينِ من قال بالعول فأخرجَ السدسَ والربعَ والثمنَ ونحوَها التي هي نصوصٌ صريحةٌ لا تحتملُ غيرَ معنى واحد من معانيها، وقدَّم المطلقَ على المقيَّد مع أن دلالةَ المقيد على مدلوله أقوى من دلالة المطلق على ذلك المقيد، إن اتَّفقَ حكمُهما [8ب] والقولُ بالعولِ قد زاغ عن الثبوتِ على جبال هذه القواعدِ الراسيةِ. فأقول: لا شكَّ فيما ذكره من تقديمِ المقيَّد على المطلق، ولكن نحن نمنع أن بعضَ فرائضِ الورثةِ مطلقةٌ، وبعضَها مقيَّدةٌ كما عرفت ذلك. فهذا الكلامُ إنما يكون نافعًا في محل النزاعِ بعد الاتفاقِ على أن فريضةِ الزوجينِ والأبوينِ مقيَّدةٌ، وفريضةُ مَنْ عداهما مطلقةٌ، وهو غيرُ صحيح كما مرَّ. وأما دعواه أنه قد عكس الأمر من قال بالعول فباطلٌ. فإنه إنما تتمُّ هذه الدعوى بعد تسليم أنهم قدَّموا المطلقَ على المقيدِ، ولم يفعلوا ذلك، بل جمعوا بين جميعِ الفرائضِ وأخرجوا لكل واحدة منها بمقدارها من التركةِ. ثم أيضًا هذا الكلام في نفسه فاسدٌ، فإن أهل العولِ لم يقدِّموا المطلقَ على المقيَّد على فرض صحة ما ادَّعاه من كون فريضةِ الأبوينِ والزوجينِ مقدَّرةٌ، وفريضةُ مَنْ عداهم

مطلقةٌ، بل أعطوا كل ذي فرضٍ فرْضَهُ، وإنما يكون التقديمُ لو وفَّروا نصيبَ من عدا الزوجينِ والأبوينِ، وجعلوا النقصَ في نصيبهما عند التزاحم، فالعكسُ الذي ادعاه إنما يصدُق بهذا ولا يصدُق بمجرَّد التسويةِ على أهلِ الفرائضِ المتزاحمةِ، بل الذي جاء بما لا يعقلُ ولا يجري على قواعدِ الأصولِ هو النافي للعولِ، فإنه قُدِمَ مطلقًا على مطلق أو مقيَّدًا على مقيِّد، أو عامًا على عامٍّ، أو خاصًّا على خاصٍّ، على حسب تلك النصوصِ الواردةِ، فإنها متساوية الأقدام. فمن ادَّعى العمومَ أو الخصوصَ في بعضها فالآخر مثلُه، ومن ادَّعى الإطلاقَ أو التقييدَ في بعضها فالآخر أيضًا مثلُه لما عرَّفناك سابقًا. وأما ما ادعاهُ من إخراجِ السدس والربعِ والثمنِ ونحوِها فأهلُ العول لم يخْرِجُوها كما زعم [9أ]، بل أعطوا كلِّ واحد من أهلها فرْضَهُ المسمَّى له، لكنها لما تزاحمت الفرائضُ، وزادتِ على أجزاءِ التركةِ قسمُوا التركةَ على تلك الفرائضِ من غير إخراجٍ، بل لضرورة عقليةٍ اقتضتْ أنه لا يجتمعُ في المال مثلًا نصفانِ وثلثُ، أو نصفانِ وسدسٌ، أو ثلثانِ ونصفٌ، أو نحو ذلك. وإنما الذي أخرج وخالف النصوصَ هو الذي أثبتَ بعضَها وأسقطَ بعضَها لمجرد خيالٍ مختلٍّ، وتوهمٍ فاسدٍ. وبهذا تعرف أن عدمَ القولِ بالعولِ هو الذي زاغ عن جبال هذه القواعدِ الراسيةِ. وأما قوله: وحينئذ يجبُ أن يستوفي الأبوانِ والزوجانِ فرضَهما في محلهما، وما بقي كان لأقربَ نوع تعْصيبًا لا فَرْضًا. إذ لا مانعَ من أن يكون بعض الورثة ذا فرضٍ على تقديرٍ وعصَبَةٍ على آخر كما في الأبِ والجدِّ، فإنهما ذو فرضٍ مع الأولادِ وعصَبَة مع غيرهم فيجب أن يكون البناتُ كذلك ذواتِ فرضٍ عن انفرادهنَّ عن الأبوينِ والزوجينِ، وعصَبَاتٍ معهما كما هنَّ عصباتٌ مع أخوتهنَّ. والأخواتُ أيضًا مع البناتِ على الأصح تعصيبًا لا فرضًا لأن ما بقي بعد فرض الزوجينِ والأبوينِ إن زاد على قدرِ فرضِ الإناثِ وجب أن يوفى منه على قدرِ فرضهنَّ، وما بقي فلذي فرض أو عصبةٍ غيرهنَّ لئلا يزيدَ حالُهن مع المزاحم عليه مع عدمه.

فأقول: لا يخفى على كل ذي لبٍّ وإنصافٍ ما في هذا الكلام من التكلُّف والتهافُتِ، فإنه ما تم عدمُ القول بالعول إلا بقطع ميراث وارثٍ وإحرامه جميعَ ميراثِه أو بعضه، ثم لم يكتف النافون للعول بهذا حتى جاوزه إلى إخراجِ أهل الفرائضِ المقدَّرِة عن فرائضهم وإبطال كونهم [9ب] من ذوي السِّهام، وإلحاقِهم، بالعصَبَاتِ لا لدليل ولا لأمر اقتضاه العقلُ، بل لمجرد رأي فاسدٍ، ثم اقتحام قياس من عالتْ بهم المسألةُ في مصيرهم عصباتٍ في بعض الأحوال على الأبِ والجدِّ الذين ورد الدليل بأنهم كذلك. ثم إخراجُ أقربِ الورثةِ وأحقِّهم بالإحسان، وأمسِّهم رجاءً، وأقدمهم في كل شيء البناتِ الذين هنا قطعةٌ من كبد الميت، وتأثير أحد الزوجينِ وتقديمُه عليهنَّ لا لدليل عقلٍ ولا نقلٍ، فانظر بعين الإنصافِ ما لزم القائلينَ بعد العولِ من المخالفاتِ للأدلةِ الصريحةِ الصحيحةِ، فإنهم رجحوا بل مرجِّحٍ، وقدموا بل سببٍ شرعيٍّ يقتضي التقديمَ، وجعلوا النقضَ على من الأدلةِ والجمعُ بينهما على وجهٍ هو أعدل الوجوهِ وأقومُها، من دون تأثير ولا تقديمٍ ولا العولِ إذا جمعتْ أجزاؤُها زادت على أجزاء التركةِ قسموا التركةَ بين أهل تلك الفرائضِ لكل واحد منهم بمقدارِ فريضتِه، ولم يقعوا في عملٍ يلزمهم به التحكُّمُ من قطع ميراثِ وارثٍ، وتقديمِ غيرِه عليه، وإخراجه عن كونه من أهلِ الفرائضِ المقدرةِ المنصوصةِ في المعادلة بين ما يلزمُ عن كل قول [10أ] من هذين القولين من المصالحِ والمفاسدِ والمطابقةِ للمقاصدِ الشرعيةِ والمخالفةِ لها، فلو لم يكن بيد من أثبتَ العولَ ونفاهُ إلا محضُ الرأي لكان رأي المثبتين أحقَّ بالقبول وأقربَ إلى المنقولِ والمعقولِ. وهكذا لو نظرنا إلى من قال لا إلا ما قالَ، لكن العملُ بقول الجمهورِ، وهم المثبتونَ للعول أولى من العمل بقولِ شِرْذِمَةٍ يسيرةٍ من العلماء النافينَ للعول. وقد حكى الأمير الحسني صاحبُ .................................................

الشِّفا (¬1) عن الإمام المؤيَّد بالله أنه قال: أجمع الصحابةُ على القول بالعول، ولم يخالِفْ في ذلك إلا ابنُ عباس، فانظُر أين يقعَ ابنُ عباس- رحمه الله- من جميع الصحابةِ، وأين يقع قوله منفردًا من قول جميعِهم! ومع هذا فهاهنا دليلٌ يصلح للتعويلِ، وهو حديث ابن عباس الصحيحُ المتفقُ (¬2) عليه بلفظ أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأول رجلٍ ذكرٍ" فإن من تأمل هذه الحديث حقَّ التأمُّلِ وجدَ فيه ما يرد على ابن عباس النافي للعولِ، وعلى سائرِ القائلينَ بقوله، فإن المرادَ بالفرائضِ المذكورةِ في الحديثِ هي الأنصباءُ المقدَّرةُ (¬3)، وأهلها هم المستحقون لها بالنصِّ. هكذا فسَّر الحديثَ المحققونَ من شرَّاحِ كتب الحديث. قالوا: والحديثُ يدل على أنَّ الباقي بعد استفياء أهل الفروضِ المقدرةِ لفروضِهم يكون لأقربَ العصَبَاتِ من الرجال ولا [10ب] يشاركُه من هو أبعدُ منه (¬4). وقد حكى النووي (¬5) الإجماعَ على ذلك، فعرفتَ أن استيفاءَ أهل الفروض المقدرةِ لفروضِهم لا يكون إلا بإعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه أما مع عدم المزاحمةِ بالعول فظاهرٌ، وأما مع المزاحمةِ بالعول فلا يحصلُ العملُ بالحديثِ إلا بإعطاءِ كلِّ وارثٍ في تلك الفريضة بمقدارِ فَرْضِهِ من التركةِ، وتعول المسألةُ بخلافِ إسقاطِ بعض ميراثِ أهلِ الفروضِ المقدرةِ أو كلِّه، فإنه لم يحصل العملُ فيه بالحديثِ لأنه لم يقع إلحاقُ الفرائضِ بأهلها. وقد اعترف الجلالُ في ضوء النهار (¬6) بأن ¬

(¬1) أي "شفاء الأوام" (3/ 471). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) قال الحافظ في "الفتح" (12/ 11) قوله: "ألحقوا الفرائض بأهلها" المراد بالفرائض هنا الأنصباء المقدرة في كتاب الله تعالى وهي النصفُ ونصف نصفه والثلثان ونصفهما ونصف نصفهما والمراد بأهلها من يستحقها بنص القرآن. (¬4) انظر "فتح الباري" (12/ 11 - 12). (¬5) في شرحه لصحيح مسلم (4/ 49 - 50). (¬6) (4/ 2643).

الفرائض المذكورة في هذا الحديثِ هي الفرائضُ المذكورة في القرآن. فلزمه هو وسائرُ النافينَ للعول أن يقولوا به؛ لأنه يتمُّ إلحاقُ الفرائضِ بأهلها مع تتزاحمِ إلا بالعولِ، لا بتقديمِ البعضِ على البعضِ فإنه ليس بإلحاق لجميع أهل الفرائض بفرائضِهم، بل لبعضِهم. فهذا ما أمكنَ من الكلام على كلام الجلالِ فقد نقلناه بحروفِهِ، وتكلمنا على كل لفظٍ من ألفاظِه، ولم يحضرْ عندي حالَ تحريرِ هذا حاشيتُه للعلامةِ الأميرِ المسماةِ بالمنحة (¬1) فلينظر فيها هل وافقَ اجتهادُ صاحبها اجتهادَ صاحبِ الشرح أم خالفه؟ وإذا قد فرغنا من الكلام على ما استدلَّ به القائلين بعدمِ العولِ فلنتكلم الآن في كل صورة من صور العولِ التي مثَّل بها لمسائل العولِ (¬2)، وذكر فيها كيفيةَ التوريث على العول، وكيفية ¬

(¬1) أي "منحة الغفار على ضوء النهار" (4/ 2642 - 2651): قال ابن الأمير: " ... أن المسألة لا نص فيها إنما اجتهد فيها الصحابة لما دهمهم وليس فيها إلا رأي عمر شبه التركة بالدين والورثة بالغرماء الذين لا تفي التركة بمقدار دينهم، وابن عباس على ما ذكره اجتهادًا منه أيضًا والشارح- أي الجلال- رجح رأي ابن عباس وجعله متنًا وشرحه وفصله. (¬2) خلاصة مسألة العول: 1 - أصول سهام الفرائض التي تعول: معنى أصول المسائل: المخارج التي تخرج منها فروضها. وأصول المسائل كلها سبعة لأن الفروض المحدودة في كتاب الله تعالى ستةٌ: النصفُ والربع، والثمن والثلثان، والثلث، والسدس. ومخارج هذه الفروض مفردة خمسة: الثلث والثلثان مخرجهما واحد. النصف من اثنين والثلث الثلثان من ثلاثة، والربع من أربعة والسدس من ستة والثمن من ثمانية، والربع والسدس أو الثلث أو الثلثين من اثني عشر، والثمن من السدس أو الثلثين من أربعةٍ وعشرين. فصارت سبعةٌ. وهذه الفروض نوعان: أحدهما: النصف ونصفه، ونصف نصفه. ثانيهما: الثلثان ونصفهما ونصف نصفهما. وكل مسألةٍ فيها فرض مفردٌ فأصله من مخرجه، وإن كان فيها فرضان يؤخذ أحدهما من مخرج الآخر فأصلها من مخرج أقلها، وإن كان فيها فرضان من نوعين لا يؤخذ أحدهما من مخرج الآخر. فاضرب أحد المخرجين في الآخر أو وفقه، فما بلغ فهو أصل المسألة، وفيها يكون العول، لأن العول إنما يكون في مسألة تزدحم فيه الفروض، ولا يتسع المال لها، فكل مسألة فيها نصف وفرض من النوع الآخر فأصلها من ستة، لأن مخرج النصف اثنان ومخرج الثلث ومخرج الثلث والثلثين ثلاثة. فتضرب اثنين في ثلاثة تكن ستة. والمسألة على ثلاثة أضرب: - عادلة: وهي التي يستوي مالها وفروضها. - عائلة: وهي التي تزيد فروضها عن مالها. - رد: وهي التي يفضل مالها عن فروضها ولا عصبة فيها. 1 - ما فيه نصف وسدس: فإن مخرج النصف اثنان، ويوجد ذلك في مخرج السدس وهو الستة فكان أصلهما جميعًا ستة وهكذا لو كان سدس وثلث أو ثلثان فأصلهما من مخرج السدس ولا يزيد عليه. 2 - ما فيه نصف وثلث أو نصف وثلثان: فإن مخرج النصف اثنان. ومخرج الثلث والثلثان ثلاثة ولا وفق بينهما. فاضرب أحد المجروحين في الآخر تكن ستة ويصير كل كسر بعدد مخرج الآخر ويدخل العول هذا الأصل لازدحام الفروض فيه، وهي أكثر عدولًا. والعول زيادة في السهام ونقصان في أنصباء الورثة. قاعدة: فما كان أصلها من ستة كما تقدم تعول إلى سبعة وإلى ثمانية وإلى تسعة وإلى عشرة ولا تعول أكثر من ذلك. وما فيها ربع وسدس، أو ربع وثلث، أو ربع وثلثان، فأصلهما من اثني عشر وتعول إلى ثلاثة عشر، وإلى خمسة عشر، وإلى سبعة عشر، ولا تعول إلى أكثر من ذلك. وما فيه ثمن وسدس أو ثمن وسدسان، أو ثمن وثلثان، فأصلهما من أربعة وعشرين، وتعول إلى سبعة وعشرين، ولا تعول إلى أكثر من ذلك. انظر: "المغني" (9/ 35 - 38).

التوريث على عدمه، وإنما جعلنا الاعتراض منا مختص بما ذكره الجلال في الاستدلال والمثال، لأن السائل- كثر الله فوائده- قد أشار في سؤال الذي قدمنا ذكره إلى كلام الجلال، واستفهم عنه فنقول [11أ]: قال في عول سبعة (¬1) بعد أن مثلها بزوج وأخت ¬

(¬1) مثاله: ماتت امرأة وتركت زوجًا وأختًا لأب وجدا، فأصل المسألة من ستة لأن فيها نصفا وسدسا وتعول إلى سبعة. للزوج ثلاثة فينقص نصيبه بمقدار الفرق بين (3/ 6، 3/ 7) وللأخت ثلاثة كذا وللجد واحد فينقص نصيبه بمقدار بين (1/ 6، 1/ 7). وانظر: "المغني" (9/ 36).

لأبوين، وأخت لأب أنه يكون للزوج النصف، وللأخت لأبوين النصف، وتسقط الأخت لأب لأنهم إنما قاسوا الأخت لأب مع الأخت لأبوين على بنت الابن مع البنت، ولم يفرض تكملة الثلثين ببنت الابن من البنت إلا في حديث ابن مسعود المقدم يعني ما أخرجه أحمد (¬1)، والبخاري (¬2)، وأبو داود (¬3)، والترمذي (¬4)، وابن ماجه (¬5)، والحاكم (¬6) من حديث ابن مسعود أنه سئل عن بنت وبنت وابن وأخت فقال أقضي فيها بما قضى به رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للابنة النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت. قال: ولا زوج في تلك المسألة، وقضاء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذلك فعل، والفعل لا عموم له كما علم، فتوقف استحقاق بنت الابن والأخت لأب بتكملة الثلثين على مورد النص الذي لا عموم فيه ولا إطلاق أيضًا حتى يكون ظاهرًا، بل الفعل لا ظاهر له فلا عول حينئذ. انتهى. ولا يخفى عليك أن دعواه أن قضاء رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في البنت وبنت الابن والأخت فعل لا يتم إلا إذا كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ¬

(¬1) في "المسند" (1/ 389). (¬2) في صحيحه رقم (6736) وطرفه رقم (6742). (¬3) في "السنن" رقم (2890). (¬4) في "السنن" رقم (2890). (¬5) في "السنن" رقم (2721). (¬6) في "المستدرك" (4/ 334 - 335). قال الحافظ في "الفتح" (12/ 18): قال ابن بطال: ولا خلاف بين الفقهاء فيما رواه ابن مسعود وعن ابن عبد البر: لم يخالف في ذلك إلا أبو موسى الأشعري وسلمان بن ربيعة الباهلي، وقد رجع أبو موسى عن ذلك.

قسمَ التركةَ على ذلك من دون أن يتكلَّم في شأنها بشيء، أما إذا كان القضاءُ منه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو أن يقولَ: يكون للبنتِ النصفُ، ولبنتِ الابنِ السدسُ تكملةَ الثلثينِ، وللأخت الباقي، فهذا من قسمِ الأقوالِ لا من قسمِ الأفعال، ومثل هذا لا يخفى على أحدٍ وكثيرًا ما يجعلُ الجلالُ مثلَ هذا من قسمِ الأفعالِ، وهو غلطٌ بحتٌ، ووهْمٌ فاحشٌ، والظاهرُ من قوله قضَى رسول الله أنه أخبرهم بكيفية قسمةِ تلك الفريضةِ، لا أنه قسمَها بنفسه من دون أن يتكلَّم، فإن هذا خلافُ ما كان عليه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وخلافُ ما يفهمه الناسُ. وقد عمل الجلالُ بهذا القياس الذي ذكره، فجعل للأختِ لأبٍ مع الأخت لأبوينِ السدسَ تكملةَ الثلثينِ، فرَفْضه لهذا القياسِ هاهنا إن كان لما ذكره من أن ذلكَ فعلٌ، فقد عرفتَ أنه قولٌ [11ب] وليس بفعلٍ، وأيضًا إذا كان كونه فعلًا كما زعمه موجبًا لبطلانِ قياسِ الأختِ لأبٍ على النبتِ فكان يلزمه أن لا يعطيها السدسَ لا في مسألة أختٍ لأبوينِ، وأختٍ لأبٍ، وعصَبَةٍ، ولا في مسألة زوجٍ وأختٍ لأبوين، وأختٍ لأب فما باله عمل بالقياس في المسألة الأولى! فأعطاها السدس كما قرره في ذلك الكتابِ، ولم يعطِها السدس مع الزوجِ بل تركَ العملَ بالقياس، فإن الإلزام مشتركٌ، والمانع مُتَّحِدٌ على زعْمِه، فإذا تقرَّر لك هذا فاعلم أن إعطاءَ الأختِ لأبٍ مع الأخت لأبٍ وأمٍّ، والعصَبَةِ السدسَ يلزمُ مثلُه في مسألة زوجٍ وأختٍ لأبوينِ، وأختٍ لأبٍ. ومن زعم أن الأختَ لأبٍ قد سقطت وبطل إرثها بمجرد تزاحم الفرائضِ احتاجَ إلى دليلٍ يدلُّ على ذلكَ، وإلا كان قط قطع ميراثَ وارثٍ بل حجةٍ شرعيةٍ. وقد عرفتَ فيما قدمنا بأنَّه لا حجَّة للقائلينَ بعد العول فيما حكموا به من إبطال ميراثِ بعض الورثةِ، لا من كتاب ولا من سُنَّةٍ، ولا من قياس، ولا من اجتهاد صحيح. ومثَّل (¬1) - رحمه الله- عول ثمانية (¬2) بزوجٍ، وأم ..................................... ¬

(¬1) الجلال في "ضوء النهار" (4/ 2648). (¬2) ومثاله: ماتت امرأة وتركت زوجًا وأمًّا وأختين لأب. أصل المسألة: من ستة لأن فيها نصفًا وسدسًا. تعول إلى ثمانيةٍ: للزوج ثلاثة فينقص نصيبه بمقدار الفرق (3/ 6، 3/ 8) وللأم واحد فينقص نصيبها بمقدار الفرق بين (1/ 6، 1/ 8). وللأختين لأب أربعة فينقص نصيبهما بمقدار الفرق بين (4/ 6، 4/ 8).

وأختٍ (¬1)، وقال: لا فرضَ للأختِ لأن فرضها إنما هو في الكلالةِ ولا كلالة مع وجود الأمِّ، أو لأنَّ الأم أقوى منها، وأخصُّ بمالها من الولادةِ، ولهذا لا تسقُطُ مع الأولادِ بخلافِها، والأختُ الواحدةُ لا تحجُبها عن الثلثِ فحينئذٍ تستوفي الأمُّ الثلثَ، وتأخذ الأختُ ما بقي تعصيبًا كما تأخذه البناتُ. انتهى. وأقول: إن كان لا كلالة مع وجودِ الأمِّ فلا ميراث للأختِ أصلًا مع وجود الأمِّ فإذا خلّف الميت أمَّه وأختَه لأبويه، وعصبةً كان للأمِّ الثلثُ، والباقي للعصبةِ، ولا شيء للأختِ، وهذا من أغرب الاجتهاداتِ وأبعدِها عن الحقِّ، وأشذِّها عن علماء الإسلامِ!. فانظر ما وقع فيه النافونَ للعول من المضائقِ المخالفةِ [12أ] للشريعةِ، فإن الأختَ لأبوينِ قد أثبت الله- سبحانه- ميراثَها في محكم كتابه، وجعل لها فريضةٌ مقدَّرةٌ محدودٌ؟ فأيُّ دليلٍ دلَّ على أنه لا ميراثَ لها هاهنا! وما ذاكَ الذي أوجبَ نسخَ ما في كتاب الله عند تزاحم الفرائضِ بالعولِ؟ إن قالوا هو كونُها لا ترِثُ إلا إذا كان الميِّتُ كلالة (¬2)، وهو من لا ولدَ له ولا والدَ، فما بالُهم أثبتوا ميراثَها مع الأمِّ في غير مسألة! ومن جملتهم المتكلِّم بالكلام المنقولِ، وهكذا أثبتوا ميراثَ الإخوةِ لأمٍّ في غير مسألة! ومن جملتهم المتكلِّم بالكلام المنقولِ، وهكذا أثبتوا ميراثَ الإخوةِ لأم مع الأمِّ مع أنَّ الله يقول: {وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخت أو أخت فلكل واحد منهما السدس} (¬3)، فإن هذا فيه التصريحُ بالكلالةِ، وترتيبِ ميراثِ الأخ والأختِ لأمٍّ على ¬

(¬1) [زوج وأختٌ وأمٍّ] للزوج النصف وللأخت النصف وللأم الثلث سهما تعول إلى ثمانية وهي مسألة المباهلة وتقدم ذكرها. وإن كان معهم أختٌ أخرى من أي جهة كانت، أو أخ من أم فهي من ثمانية أيضًا. (¬2) تقدم توضيحه. (¬3) [النساء: 12]

وجودِها، وصرَّحوا أيضًا بأن الإخوةَ مطلقًا يحجبونَ الأمِّ، في الله العجبُ من هذه الاجتهادات التي أبطلتِ النصوصَ، وعطَّلتْ منها العمومَ والخصوصَ! والجلال قط اضطره الحال فصرَّح في بحث ميراث الإخوة لأمٍّ بأنهم يسقطونَ مع الأمِّ اتباعًا للإماميةِ، وعملًا بمجرد مناسبةِ ساقطة ذكرها هنالك لا يجوز العلمُ بها على فرض عدمِ الدليل، فكيفَ مع وجودِه ومع إجماع الأمة إلا من لا يعتد به! وإن كان المانعُ من توريثِ الأختِ لأبوينِ هاهنا هو قولُهُ أو لأن الأمَّ أقوى إلى آخر ما نقلناه عنه، فيقال: إن كانت أقوى منها مطلقًا فينبغي أن تكون أقدمَ من الأختِ في جميعِ الأحوالِ، وعلى كل تقدير لا في مسائلِ العولِ بخصوصِها. فإن قيل: أنَّه لا يظهر أثرُ هذه الأولوية إلا في مسائِل المزاحمةِ عند العولِ، وأما في غيرها فكلُّ وارث يأخذ نصيبه المقدَّر وفرْضَهُ المسمَّى. فيقال: وما الدليلُ على هذه الأولوية التي كانت سببًا لإبطال حكمٍ شرعيٍّ مصرِّحٍ به في القرآن الكريم، وهو ميراثُ الأختِ حتى صارَ ميراثها أو بعضَه بيدِ غيرِها؟ وكيف تصلُحُ مثلُ هذهِ الأولويةِ المدَّعاةِ لرفعِ الآياتِ القرآنيةِ والأحاديث الصحيحة [12ب]! وهل هذه إلا معارضةٌ لصريح الدليل بفساد الرأي وكاسد الاجتهادِ الذي لا دليلَ عليه بوجه من الوجوه! وبالجملة فلو كانت مثلُ هذه الدَّعاوي الباردة نافقًا ومقدِّمًا على أدلةِ الكتاب والسنةِ لقال من شاء ما شاء، وادعى نسخَ القرآنِ الكريمِ والسنةَ الصحيحةَ كلُّ مبطلٍ ومبتدعٍ. فانظر ما وقع فيه المانعونَ للعول فكانوا كما قال: فكنت كالساعي إلى مثعبٍ ... موايلًا من سُبل الراعد (¬1) ومثّل- رحمه الله-: عول تسعةٍ (¬2) بزوجٍ وأمٍّ وأختٍ وجد، وقال: إن الأختَ. ¬

(¬1) تقدم ذكر معناه. (¬2) مثاله: ماتت امرأة وتركت زوجًا وأختين لأب وأختين لأم، فأصل هذه المسألة من ستة لأن فيها نصفًا وثلثًا، وتعول إلى تسعة. للزوج: ثلاثة فينقص نصيبه بمقدار الفرق بين (3/ 6، 3/ 9). وللأختين لأب: أربعة فينقص نصيبها بمقدار الفرق بين (4/ 6، 4/ 9). وللأختين لأم: اثنان فينقص نصيبهما بمقدار الفرق بين (2/ 6، 2/ 9).

تسقطُ إما بانتفاء الكلالة التي فرضَها فيها بوجود الجدِّ، وإما لأنهما وإن استويا في أنَّ كلًّا منهما وارثٌ بواسطةِ الأبِ فللجدِّ مزيةٌ، الأصالة والولادةِ، وبها ورثَ مع الأولادِ كما قلنا في الأمِّ. انتهى. أقول: أما ما ادَّعاه من انتفاء الكلالة مع الجدِّ فالجواب عنه كالجواب المتقدم في المسألةِ التي قبلَ هذه. ويالله للعجبُ كيف يحكم المصنفُ وغيرُه من النافينَ للعول بأن الأختَ لأبوين أو لأبٍ ترثُ مع الأم والجدِّ! ولم يلتفتوا إلى اشتراط الكلالةِ فلما أرادوا نفيَ العول وأعْوَزَهُم الحالُ صرَّحوا بأن الكلالةِ، شرط في ميراث الأخت المذكورة فإن كان ميراثها تارة مشروطًا بالكلالة وتارة غيرَ مشروطٍ فما هو الذي اقتضى هذه التفرقةَ والتحكُّمَ والتلاعُبَ بالأدلةِ المصرحة في الكتاب والسنةِ وإن كانت الكلالةُ شرطًا في ميراثِ الأخواتِ فما بالُهم أهملوا هذا الشرطَ في غير باب العولِ وإن كانت ليست بشرط مطلقًا، فما هذه الدَّعاوي الباردةِ المخالفة [13أ] للثابت في الشريعة، وأعجبُ من هذا ما ذكره من مزيةِ الجدِّ فإن كانت هذه المزيةُ مؤثرةٌ في الميراثِ إثباتًا ونفيًا فما الدليلُ على ذلك؟ فما قد سمعنا عن عالم من علماء الإسلام، أنه يثبتُ الأحكام الشرعية بمثل هذه الخيالاتِ المختلَّةِ فضلًا عن أن يبطُلَ بها حكمًا ثابتًا في كتاب الله، أو سنة رسوله. ورحم الله هذا العلامةَ فلقد كان قدوة في الإنصافِ وفي التقيد بالدليل، ولكنه يوقعُ نفسه في كثير من المعاركِ فلا يخرُجُ منها إلا وقد جنى على الكتابِ والسنة جنايةً عظيمةً، ومحبةُ الإغراب والتفرُّدِ لا تأتي إلا بمثل هذا. ومثَّل (¬1) - رحمه الله- عولَ ........................... ¬

(¬1) أي الجلال في "ضوء النهار" (4/ 2648).

عشرةٍ (¬1) بأمٍّ وزوجٍ وأخوينِ لأمٍّ وأختٍ لأبوينِ وأختٍ لأبٍ، وقال: إنه يبطُلُ فرضُ غيرِ الزوجِ بوجود الأمِّ لما تقدَّم، يعني من اعتبار الكلالةِ، ثم قال: لا سيَّما الأخوين لأمٍّ فإنَّهما إنما يرثانِ بواسطتِهما، وذو الواسطة لا يرثُ مع وجودِها كالجدّاتِ مع وجود الأمِّ، والجدِّ والإخوة مع الأبِ، وذو الأرحامِ مع وجودِ واسطتِهم، وهذا استقراء بعد الزوج والأم إلا السدس، لأن إناث الإخوةِ لا يحجُبها عن الثلثِ فتكونُ الأختُ لأبوينِ أحقَّ بالسدسِ الباقي تعصيبًا، وتسقط الأختُ لأبٍ لأن سدسَها إنما هو بعد استيفاء الأختِ لأبوين النصفَ، ومع غير الزوجينِ كما تقدَّم على أنَّا لو فرضنا [13ب] أن لا أمَّ في المسألةِ حتى تكونَ مسألةُ كلالةٍ لكلِّ من إخوةِ الأمِّ وإخوةِ الأبِ فيها فرضٌ بنصِّ القرآن يوجبُ سقوطَ إخوةِ الأمِّ بالأختِ لأبوينِ؛ لأنَّ ذا النَّسبِ الواحدِ يسقط مع وجود ذي النسبينِ كما قدمنا تحقيقَه في فرض الثلثِ. انتهى. أقول: فيما ذكره هاهنا إشكالٌ من وجوه: الأول: الحكمُ ببطلانِ ميراث مَنْ عدا الزوجَ والأمَّ، فإن ميراثَ الأخوينِ لأمٍّ ثابتٌ بصريح القرآنِ (¬2)، وكذلك ميراثُ الأختِ لأبوينِ، وكذا الأختُ لأب، إما بصدقِ اسم الأختِ عليها، أو للإجماعِ، فكيف أبطلَ الجلالُ الأدلةَ القرآنيةَ وما استدلَّ بها! إن كان مجردُ الفرارِ من العولِ فالأمرُ أيسرُ من هذا، وما بمثل هذه الأمورِ تطرحُ أدلةُ ¬

(¬1) قال ابن قدامة في "المغني" (9/ 37) فنقول في زوجٍ وأمٍّ وست أخوات متفرقات: الزوج النصف ثلاثة، وللأم السدس سهمٌ وللأختين الثلثان أربعةٌ وللأختين من الأم الثلث سهمان صارت عشرةً. قال: ومتى عالت المسألة إلى تسعة أو إلى عشرة، لم يكن الميت إلا امرأة؛ لأنها لا بدَّ فيها من زوج ولا يمكن أن تعول المسألة إلى أكثر من هذا، ولا يمكن أن يجتمع فروض أكثر من هذا، وطريق العمل في العول، أن نأخذ الفروض من أصل المسألة، وتضم بعضها إلى بعض، فما بلغت السَّهام فإليه ينتهي .. ". (¬2) تقدم، وانظر الرسالة (160).

الكتاب والسنة. الوجه الثاني: قوله بوجودِ الأمِّ ... إلخ. قد قدَّمنا أن ميراثَ الإخوةِ مطلقًا إن كان مشروطًا بالكلالةِ فلا ميراثَ لهم مع وجودِ الأمِّ، في مسائلِ العول، ولا في غيرِها، وهو خلافُ ما اختارَهُ الجلال في هذا الكلام الذي نحن بصددِ الكلامِ عليه هاهنا، وخلاف ما اختارَه غيرُه من النافينَ للعولِ، فما هو المسوغُ للتفرقةِ؟ وهل هذه التفرقةُ كانت بدليلٍ أو بخيالٍ فاسدٍ ورأي كاسدٍ؟ والوجه الثالث: قولُه لاسيَّما الأخوانِ لأمٍّ فإنَّهما إنما يرثانِ بواسطتِها إلخ. ولا يخفاكَ أنه يلزمُ من هذا أنْ لا يرثَ الإخوةُ لأمٍّ مع وجود الأمِّ بحالٍ، وهو خلافُ ما عند أهل العولِ، بل قد صرَّحوا في بحث ميراثِ الإخوةِ لأمٍّ بأن وجودها لا يسقُط ميراثهم وخصَّصوا الكلالة بالنسبةِ إليهم بالولدِ والأب [14أ] دونَ الجدَّ، وبعضهم زاد الجد. وأما الأم فلم يجعلْها مسقطةً لميراثِ الإخوةِ لأمٍّ أحدٌ إلا الإماميةُ، وليسوا ممن يُقتدى به أو يُعتدُّ بخلافه. ومن الغرائب أن الجلالَ (¬1) قال بعد حكاية مذهبهم أنه الحقُّ، مع أنه قال في أول البحثِ المشارِ إليه ما لفظه: ولولا الإجماعُ (¬2) على أن الأبَ يسقطُ الإخوةَ لكان في حَجْبٍ الإخوةِ للأمِّ من الثلث إلى السدسِ إيماءً إلى حَجْبِهم الأبَ من الثلثينِ إلى الثلث. انتهى. فانظر هذا التلوُّن والاضطرابَ. والوجه الرابعُ: قوله: وهذا استقراءٌ تامٌّ، ولا يخفى عليك أن هذا الاستقراءَ لأفرادِ الساقطينَ مع وجودِ واسطتِهم هو باعتبارِ دلالةِ الأدلةِ على ذلك، أو إجماعِ المسلمينَ أو علماء الفرائضِ منهم لا غيرَ ذلك. فلا استقراءَ تامٌّ قطُّ، فإن الأدلةَ لم تدلُّ على ذلك. ¬

(¬1) في "ضوء النهار" (4/ 2649). (¬2) في "ضوء النهار" (4/ 2633).

وهكذا لا إجماعَ من جميع المسلمينَ، ولا من أهل للفرائضِ فقط، وإن كان هذا الاستقراءُ التامُّ باعتبار اجتهادِه الذي قد اضطربَ في هذه المباحثِ اضطرابًا يخرجُه عن حد الإتقانِ فليسَ بحجةٍ على أحدٍ. الوجه الخامس: قوله وقياسٌ صحيحٌ، ولستُ أدري كيف كان هذا القياسُ عنده صحيحًا! فإن إثباتَ ميراثِ الإخوةِ لأم مع الأم قد أجمعَ (¬1) عليه المسلمونَ إلا من لا يُعْتدُّ به، فلو فرضنا أن للقياسِ وجهًا لكان هذا الإجماعُ مانعًا منه. الوجه السادس: أن إناثَ الإخوةِ لا تحجُبها يعين الأمِّ عن الثلثِ، وإلا يخفى أنَّ هذا مبنيٌّ على ما هو عنده من أنه لا يحجب الأمَّ إلا الإخوةُ لأبوينِ أو الأخواتُ إذا كان معهن أخٌ لهن ذَكَرٌ. مستدلًّا على ذلك بقوله تعالى: {فإن كان له إخوة فلأمه السدس} (¬2) ويردُّ عليه أن الكلامَ في هذه الآيةِ [14ب] كالكلام في قوله تعالى: {فإن كن نساء فوق اثنتين} (¬3) بل هذه الآيةُ أدلُّ على اعتبار الزيادةِ على الاثنتين لقوله: {فوق اثنتين} بخلاف تلك، فإن الجمعَ قد يصدُق على الاثنين إما حقيقةً عند مثل الزخشريِّ ومن وافقَه على أن أقلَّ الجمعِ اثنان، وإما مجازًا عند غيره. وكان يلزمُه أيضًا أن لا يحجبها إلاَّ الثلاثة الذكورِ، ولا يكفي في الحجبِ أنثيان مع ذكرٍ كما سوَّغ ذلكَ لأن التغليبَ مع كونه مجازًا هو مع كثرةِ عددِ الإناثِ خلافُ الظاهر، وأيضًا كان يلزمُهُ أن يحجب الأمَّ بالثلاثةِ من الإخوةِ لأبٍ أو الثلاثةِ من الإخوةِ لأمٍّ. فما باله اشترطَ أن يكونوا لأبوين في كلامِه على حجب الأم! الوجه السابع: قوله: توقُّفٌ يوجبُ سقوطَ إخوةِ الأمِّ بالأختِ لأبوينِ إلى آخرِ كلامِهِ استشعرَ هاهنا أن المسألةَ عائلةٌ بدون الأمِّ، وأنه لا يتم له من سقوط الإخوة لأم ¬

(¬1) انظر "المغني" (9/ 7). (¬2) [النساء: 11] (¬3) انظر "التبصرة" (127)، "المستصفى" (3/ 312)، "إرشاد الفحول" (425).

بالأمِّ لكونهم ورثّوا بواسطتِها فأجاب بأنَّهم يسقُطون بالإخوةِ لأبوينِ. وقد ذكر مثلَ هذا فيما سبق له في ميراثِ الإخوةِ لأمٍّ من هذا الكتاب (¬1)، وجعلَ الدليلُ له في ذلك القياسِ على إسقاطِ الإخوةِ لأبوينِ للإخوةِ لأبٍ، ولكنه اقتصرَ على الأخ لأبوين. وهاهنا توسَّع فصرَّح بأن الأختَ لأبوين تُسْقِطُ الإخوةَ لأمٍّ، فإن كان ذلك بالقياسِ على الأخ لأبوينِ فهو قياسٌ مع الفارقِ؛ لأنه لما قوي على إسقاطِ الأخ لأبٍ قوي على إسقاطِ الأخ لأمٍّ على زعمه بخلافِ الأختِ لأبوين فإنها لا تقوى على إسقاطِ الأختِ لأب، فلا تقوى على إسقاطِ الإخوةِ لأمٍّ. وأقول: ما أحقَّه- رحمه الله- في هذه الأبحاثِ بقول القائِل: تفرقت الضِّباءُ على خداشٍ ... فما تدري خداشٌ ما تصيدُ (¬2) ولقد انتشرتْ أبحاثُ الفرائضِ عليه انتشارًا عظيمًا حتى خالفَ النصوصَ الصحيحةَ الصريحةَ في الكتاب والسنةِ، وخالف إجماعاتِ الأُمَّةِ، بمجرَّد خيالاتٍ باطلةٍ، وآراء فاسدةٍ فليت شعري ما حملَه على ذلك! فلقد كان له سعةٌ عن الوقوع في مثل هذه المضائقِ المظلمةِ التي ليس له بها أنيسٌ [15أ]، ومثَّل عول ثلاثةَ عشَرَ بزوجٍ وأمٍّ وبنتٍ وبنتِ ابنٍ وقال إنها تصيرُ البنتُ مع الأمِّ عصَبَةً؛ لأن فرضها إنما هو على تقدير الانفراد عن الأبوينِ ولكن لما كان الباقي بعد الزوج والأمِّ أكثرُ من فرض البنتِ منفردةً رُدَّت إلى قدرِ فرضِها لئلا يكونَ ما تأخذُه مع المزاحم أكثرَ مما تأخذه مع الانفراد. مع أن المعقولَ هو العكسُ وحينئذٍ لا يبقى إلا نصفُ سدسٍ، إن قلنا أن بنتَ الابن تصير كالأخت مع البنت عصبةً كان الباقي لها، وذلك من قياس الأولى؛ لأن بنتَ الابن بنتٌ، وهي أخصُّ من الأختِ. وقد بطل عمومٌ فما بقيَ فلأَوْلى رجلٍ ذكرٍ لما عرفناكَ سابقًا، وإن قلنا البنتُ ¬

(¬1) "ضوء النهار" (4/ 2633). (¬2) "ضوء النهار" (4/ 2633).

والأمُّ تصيرانِ كبنتين استوفَيا الثلثينِ، ولا فرضَ لبنتِ الابنِ من غيرِ الثلثينِ كان الباقي للعصَبَةِ. انتهى. أقول: انظر إلى هذا الاجتهادِ الذي هو شبيهٌ بِلَعبِِ الصبيانِ، حكمَ بكون البنتِ عصَبَةً فأخرجَها عن أهل الفرائضِ، ثم حكمَ برجوعِها إلى أهل الفرائضِ فقصَرَها على فَرْضِها الأصلي، ثم تردَّد في بنتِ الابنِ، هل هي عصَبَةٌ للبنتِ التي عصبةٌ، فتأخذُ الباقي أم ليست بعصبة؟ فيكون الباقي لعصبةِ غيرِها. وهكذا حالت من تعمَّد مخالفةَ النصوصِ؛ فإنَّه يصير كلامُهُ المؤسَّسُ على محضِ الرأي خالصا عن قانونِ المعقولِ والمنقولِ عقوبةٍ من الله- عز وجل- لمن لم يقفْ حيث أوقفه. فانظر كم الفرقُ بين هذه الطريقةِ العوجاءِ وبين عمل القائلينَ بالعول! فإنَّهم لما وجدُوا النصوصَ من كتاب الله- سبحانه- قد قضتْ بأن للزوج الرٌُّبُعَ مع الولدِ، وللأمِّ السدسَ معه أيضًا، وللبنت النِّصفُ، ولبنتِ الابنِ السدسَ تكملةَ الثلثينِ كما في حديث ابن مسعودٍ السابقِ الثابتِ في الصحيحِ (¬1) أخذُوا بهذه النصوصِ الواردةِ، ولم يقدِّموا بعض أهل هذه الفرائضِ على بعض؛ لأنَّ هذه الأدلةَ لم يثبتْ تقييدها بقيود تسوِّغُ تقديم بعضِ أهلِها على بعض، ولكن لما كان المالُ لا يتَّسعُ لجميعِ هذه الفرائضِ أعطُوْا كلَّ وارثٍ بمقدارِ فريضتِه من المال، ودخل النقصُ على الجميعِ [15ب] لأن الضرورةَ أوجبتْ ذلك، استعملوا النصوصَ بحسبِ الإمكانِ، ولم يهملوا شيئًا منها. ومثَّل عولَ خمسةَ عشرَ (¬2) بزوجٍ وأبوينِ وابنتينِ. وقال: تكون البناتُ عصَبَةً مع ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) أصلها اثني عشر، لأن مخرج الربع أربعة، ومخرج الثلث ثلاثة، ولا وفق بينهما، فإن ضربت أحدها في الآخر، كان اثني عشر، فإذا كان مع الربع سدس فبيَّن الستة والأربعة موافقة، فإذا ضربت وفق أحدهما في الآخر صار اثني عشر. ولا بدَّ في هذا الأصل من أحد الزوجين؛ لأنه لا بد من الربع، ولا يكون فرضًا لغيرهما. مثاله: ماتت امرأة وتركت زوجًا وبنتين وأمًّا وأبًا. أصل المسألة من اثني عشر لأن فيها ربعًا وسدسًا. تعول إلى خمسة عشر: الزوج: من ثلاثة فينقص نصيبه بمقدار الفرق بين (3/ 12، 3/ 15). البنتين: لهما ثمانية فينقص نصيبهما بمقدار الفرق بين (8/ 12، 8/ 15). الأم: اثنان فينقص نصيبها بمقدار الفرق بين (2/ 12، 2/ 15). الأب: اثنان فينقص نصيبه بمقدار الفرق بين (2/ 12، 2/ 15).

الأبوين. وأقول: لله درُّ هذا النظرِ الذي جعلَ النقصَ على بناتِ الميِّت لصُلْبِهِ! وأخرجهنَّ من فرائضهنَّ المقدَّرة في كتاب الله، وسنةِ رسول الله! وجعلهنَّ عصبَاتٍ يأخذنَ الباقي كالرجالِ الأباعدِ من العصَبَاتِ بلا دليلٍ اقتضى ذلك، ولا عقلٍ أوجَبه، بل مجرَّد خيالاتٍ مختلَّةٍ قد قدَّمنا إبطالَها. ومثلَ عولَ سبعَ عشرَ (¬1) بأمٍّ وزوجةٍ وأخوينِ لأمٍّ، وأختينِ لأبٍ. وقال: تأخذ الأمُّ الثلثَ، والزوجةُ الربعَ، والباقي للأختينِ لأبٍ تعصيبًا، ويسقطُ الأخوانِ لأمٍّ بأمٍّ. وقد عرفت فيما سبقَ جوابَ هذا، وأهل العولِ يقولون: ميراثُ كلِّ واحد من هؤلاء ثابتٌ في الكتاب العزيز، فالواجبُ العملُ بذلك كما سلف على الصفةِ المتقدِّمةِ من دون طرحٍ لشيء من ذلك، بل معارضٍ راجحٍ، بل بلا معارض مرجوح، بل بمجرَّد رأي فاسدٍ لا يقبلُه العقلُ. ومثَّل عولَ سبعةً وعشرينَ (¬2) بأبوينِ وابنتينِ، وزوجةٍ، وجعل البناتِ مع الأبوينِ ¬

(¬1) وأصل هذه المسألة من اثني عشر تعول إلى سبعة عشرة. قال ابن قدام في "المغني" (9/ 38): ولا يعول هذا الأصل إلى أكثر من هذا ولا يمكن أن يكمل هذا الأصل بفروضٍ من غير عصبة ولا عول، ولا يمكن أن تعول إلا على الأفراد، لأنَّ فيها فرضًا يباين سائر فروضها، وهو الرب فإنَّه ثلاثة وهي فرد، وسائر فروضها يكون زوجًا، فالسدس اثنان، والثلث أربعة والثلثان ثمانية، النصف ستة، ومتى عالت إلى سبعة عشر لم يكن الميت فيها إلا رجلًا. (¬2) أصل هذه المسألة من أربعة وعشرينَ لأنَّ فيها ثمنًا وسدسًا وتعول إلى سبعة وعشرين: الأب: له أربعةُ فينقص نصيبه بمقدار الفرق بين (4/ 24، 4/ 27). الأم: لها أربعة فينقص نصيبها بمقدار الفرق بين (4/ 24، 4/ 27). البنتان: لهما ستة عشر فينقص نصيبها بمقدار الفرق (16/ 24، 16/ 27). الزوجة: لها ثلاثة فينقص نصيبها بمقدار الفرق (3/ 24، 3/ 27). وانظر: "المغني" (9/ 38 - 42).

عصَبَةً. وقد تقدم جوابُه في عول ثلاثةَ عشرَ وما بعدَه وما قبله. وبالجملة فإنه تارةً يجمع الأمَّ مسقطةً للإخوةِ والأخواتِ مطلقًا. وتارةً يخصُّ بالإخوة لأمٍّ، وتارةً يجعلُ البناتِ والأخواتِ من أهل الفرائضِ، وتارةً يجعلهنَّ عصَبَاتٍ مع كون حديثِ: "فما أبقتِ الفرائضُ فلأَوْلى رجلٍ ذكرٍ" (¬1) يردُّ عليه لأن لم يثبت التعصيب إلا للرجل الذكر. وأما كون الأخواتِ مع البناتِ عصَبَةً، فإذا كان ثابتً بدليل صحيح يصلُح لتخصيص هذا الحديث، كان ذلك مقصورًا على ذلك الخاصِّ لا يجاوزُه إلى غيرِه لا بمجرد القياس عند من قال به، لأن الفارقَ موجودٌ، ولا بمحض الرأي الذي لا مستندَ له فلا وجهَ لمخالفةِ الحديث بلا دليلٍ، وجعل البناتِ عصباتٍ في بعض الحالاتِ بلا مقتضٍ. وقد تكلَّم الجلال- رحمه الله- بعد فراغِه من مسائل العولِ بكلام قد أسلفنا دفْعَهُ فلا حاجةَ بنا إلى إيراده هاهنا، وتكرير الكلامِ عليه. وفي هذا المقدار كفايةُ لمن له هدايةٌ. والله ولي التوفيق. حرر في شهر رجب سنة 1217. بقلم مؤلِّفه المجيبِ محمد بن علي الشوكانيِّ- غفر الله لهما-. ¬

(¬1) تقدم تخريجه وتوضيح دلالته.

بحث في تعداد الشهداء الواردة بذكرهم الأدلة

(163) (6/ 1) بحث في تعداد الشهداء الواردة بذكرهم الأدلة تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في تعداد الشهداء الواردة بذكرهم الأدلة. 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم بحث في تعداد الشهداء الواردة بذكرهم الأدلة 4 - آخر الرسالة: انتهى البحث بمن الله وفضله والصلاة والسلام على خير خلقه وآله وصحبه. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 5 صفحات ما عدا صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 23 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 10 - 12 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

[بسم الله الرحمن الرحيم] بحثٌ في تعداد الشهداء الواردةِ بذكرهم الأدلة: قال رضي الله عنه: الأول والثاني والثالث والرابع والخامس: المَبْطونُ والمطعونُ، والغريقُ وصاحبُ الهدمِ والشهيدُ في سبيل الله كما ثبت في البخاري (¬1) ومسلم (¬2) وغيرِهما (¬3). من حديث أبي هريرة، والسادس: ُ صاحبُ ذاتِ الجنبِ. السابع: صاحبُ الحريقِ. والثامن: المرأةُ تموت بجمع (¬4) أي وفي بطنها ¬

(¬1) في صحيحه رقم (653). وأطرافه (720، 2829، 5733). (¬2) في صحيحه رقم (1914). (¬3) كمالك في "الموطأ" (1/ 131). الشهيد: قال الحافظ في "الفتح" (6/ 43): اختلف في سبب تسمية الشهيد شهيدًا. فقال النضر بن شميل: لأنه حيٌّ فكأن أرواحهم شاهدة أي حاضرة. قال ابن الأنباري: لأنَّ الله وملائكته يشهدون له بالجنة. وقيل: لأنه يشهد عند خروج روحه ما أعد له من الكرامة. وقيل: لأنه يشهد له بالأمان من النار. وقيل: لأن عليه شاهدًا بكونه شهيدًا. وقيل: لأنه لا يشهده عند موته إلا ملائكة الرحمة. وقيل: لأنَّه يشهد يوم القيامة بإبلاغ الرسل. وقيل: لأن الملائكة تشهد له بحسن الخاتمة. وقيل: لأن الأنبياء تشهد له بحسن الاتباع. قال الحافظ: بعض هذه يختص بمن قتل في سبيل الله، وبعضها يعم غيره وبعضها قد ينازع فيه. المبطون: أي الذي يموت بمرض بطنه كالاستسقاء. "النهاية" (1/ 136). (¬4) المرأة تموت بجُمْع: بضم الجيم وسكون الميم، وقد تفتح الجيم وتكسر أيضًا هي النفساء، وقيل هي التي يموت ولدها في بطنها ثم تموت بسبب ذلك. وقيل: هي التي تموت بمزدلفة وهو خطأ ظاهر، وقيل التي تموت عذراء. قال الحافظ في "الفتح" والأول هو الأظهر. "الفتح" (6/ 43).

ولدٌ. هؤلاء الثلاثةُ مذكورون في حديث جابرٍ عند مالكٍ في الموطأ (¬1) وأحمد (¬2) وأبي داود (¬3)، والنسائي (¬4) والحاكمِ في المستدرك (¬5) وابن حبانَ (¬6) والبيهقيِّ في الشعب (¬7). والتاسعُ: الذي يموت بالسيل أخرجه الطبراني في الكبير (¬8) من حديث سلمان. والعاشر: المسافر يموت، أخرجه ابن ................................... ¬

(¬1) (1/ 233 - 234). (¬2) في "المسند" (5/ 446). (¬3) في "السنن" رقم (3111). (¬4) في "السنن" رقم (4/ 13). (¬5) (2/ 109). (¬6) في صحيحه رقم (3189) و (3190). (¬7) وفي "السنن" (4/ 69 - 70). عن جابر بن عتيك أخبره أنَّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء يعود عبد الله بن ثابت، فوجده قد غلب عليه، فصاح به، فلم يجبه فاسترجع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: "غلبنا عليك يا أبا الربيع" فصاح النسوة، وبكين، وجعل ابن عتيك يسكِّنهن، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دعهن فإذا وجب، فلا تبكينَّ باكية". فقالوا: ما الوجوب يا رسول الله؟ قال: "إذا مات" قالت ابنته: والله إن كنت لأرجو أن تكون شهيدًا، فإنَّك كنت قد قضيت جهازك فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله قد أوقع أجره على قدر نيَّته وما تعدّون الشهادة؟ " قالوا: القتل في سبيل الله، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله: المبطون شهيد، والغريق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمطعون شهيد، والحريق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة بجُمعٍ شهيد". وهو حديث صحيح. (¬8) (6/ 247 رقم 6115). وفي "الأوسط" رقم (1243). وأورده الهيثمي في "المجمع" (5/ 301) وقال: رواه الطبراني في "الأوسط" وفيه مندل بن علي وهو ضعيف وقد وثق، ورواه البزار. مندل بن علي وثقه ابن معين في رواية وضعفه في أخرى. "الميزان" (4/ 180).

ماجه (¬1) من حديث ابن عباس. والحادي عشر: من صُرع عن دابته في سبيل الله فمات أخرجه أبو يعلى (¬2). من حديث عقبة بن عامرٍ. والثاني عشر: من مات مرابطًا أخرجه الطبراني (¬3) من حديث سلمان، وابن ................. ¬

(¬1) في "السنن" رقم (1613). وهو حديث ضعيف. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (6/ 43): إسناد ابن ماجه ضعيف لأن الهذيل منكر الحديث. قال البخاري في "التاريخ الكبير" (2/ 152) منكر الحديث. وقال ابن عدي في "الكامل" (7/ 124) لا يقيم الحديث. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (11/ 246 رقم 11628) وأبو يعلى (121/ 1) وأورده ابن الجوزي في الموضوعات (2/ 221) من طريق آخر عن عبد العزيز. وأخرجه العقيلي في "الضعفاء" (4/ 365 - 366) في ترجمة هذيل بن الحكم الأزدي وقال: روى عن طاوس مرسلًا وهو أولى. وأخرجه الطبراني رقم (11034) من طريق أخرى وفي عمرو بن الحصين وهو متروك. وهو حديث موضوع. (¬2) في مسنده (2/ 290 رقم 1752). وأورده الهيثمي في "المجمع" (5/ 282 - 283) وقال: رواه أبو يعلى وفيه من لم أعرفه. وقال في "المجمع" (5/ 301): أخرجه الطبراني (17/ 323 رقم 892) ورجاله ثقات. عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "من صرع عن دابته في سبيل الله فمات فهو شهيد". (¬3) في "الأوسط" رقم (4049) وفي "الكبير" رقم (6134) وأورده الهيثمي في "المجمع" (5/ 290) وقال: رواه الطبراني وفيه من لم أعرفهم. عن سلمان قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "رباط يوم في سبيل الله خيرٌ من صيام شهر وقيامه ومن مات مرابطًا في سبيل الله أُجير من فتنة القبر وجرى عليه صالح عمله إلى يوم القيامة". وأخرج مسلم في صحيحه رقم (163/ 1913) عن سلمان قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "رباط يوم وليلة خيرُ من صيام شهرٍ وقيامه، وإن مات جرى عليه عملُهُ الذي كان يعمله، وأُجري عليه رزقه وأمن الفتان".

حبان (¬1) من حديث أبي هريرة. والثالث عشر: المتردَّي من رءوس الجبالِ. أخرجه الطبرانيُّ (¬2) من حديث ابنِ مسعودٍ وأخرجه أيضًا من وجه آخر بلفظ المتردِّي من دون ذكر رءوس الجبال. والرابع عشر: الغريُب يموت. أخرجه أيضًا الطبرانيُّ (¬3) من حديث عبدِ الملكِ [1أ] بن هارونَ بنِ عنترةَ عن أبيه عن جده. والخامس عشر: من قُتِلَ دون ماله. والسادس عشر: من قُتِلَ دون دينِه. والسابع عشر: من قتل دون دمِه، هؤلاء الثلاثة في حديث سعيدٍ بنِ زيدٍ عند أبي داودَ (¬4) والنسائي (¬5) وابن ماجه (¬6). والأول منهم في صحيح ................................. ¬

(¬1) في صحيحه رقم (4627). (¬2) كما في "مجمع الزوائد" (5/ 302) وقال الهيثمي رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (5/ 269). "من تردى من رءوس الجبال وتأكله السباع ويغرق في البحار لشهيد عند الله". قال الحافظ في "الفتح" (6/ 44) وأخرجه الطبراني من حديث ابن مسعود بإسناد صحيح. (¬3) أخرجه الطبراني في "الكبير" (18/ 87 رقم 161) (من) عنترة قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذات يوم: "ما تعدون الشهيد فيكم؟ قلنا يا رسول الله من قتل في سبيل الله قال: إن شهداء أمتي إذًا لقليل، من قتل في سبيل الله فهو شهيد، والبطن شهيد، والمتردي شهيد، والنفساء شهيد، والغريق شهيد ... ". وأورده الهيثمي في "المجمع" (5/ 301) وقال: رواه الطبراني وفيه عبد الملك متروك. قال ابن حبان: يضع الحديث وقال يحيى بن معين، كذاب وقال السعدي: عبد الملك بن هارون دجال كذاب وسرد له الذهبي أحاديث اتهم بوضعها. "الميزان" (2/ 666 - 667). (¬4) في "السنن" رقم (4772). (¬5) في "السنن" رقم (4049). (¬6) في "السنن" رقم (2580). وأخرجه الترمذي رقم (1421). وهو حديث صحيح

مسلم (¬1) عن ابن عمرو. والثامن عشر: من قُتل دون مظلمةٍ. أخرجه أحمدُ في المسند (¬2) بإسناد صحيحٍ من حديث ابن عباسٍ. والتاسع عشر: من أدّى زكاة مالهِ فتعدي عليه في الحق فأخذ سلاحه فقاتل فقُتل أخرجه الطبراني (¬3) والحاكمُ في المستدرك (¬4) وقال صحيح على شرط الشيخين من حديث أمِّ سلمةَ. والموفي عشرين: من قام إلى إمام جائر فأمره بمعروف أو نهاه عن منكر فقتله، أخرجه البزَّار (¬5) من حديث أبي عبيدةَ بنِ الجراح. والحادي والعشرون والثاني والعشرون والثالث والعشرون والرابع والعشرون: من وَقَصه ¬

(¬1) رقم (226/ 141) من حديث ابن عمرو قال: "من قتل دون ماله فهو شهيد". وأخرجه البخاري رقم (2480). (¬2) في "المسند" (5/ 205) بسند صحيح. قال الهيثمي في "المجمع" (6/ 244) رواه أحمد. ورجاله رجال الصحيح. (¬3) في "الكبير" (23/ 287 رقم 632). قال الهيثمي في "المجمع" (3/ 82) رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" ورجال الجميع رجال الصحيح. (¬4) (1/ 404) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وفيه: " ... من أدى زكاة ماله طيب النفس بها، يريد بها وجه الله والدار الآخرة فلم يغيب شيئًا من ماله وأقام الصلاة ثم أدى الزكاة فتعدي عليه في الحق فأخذ سلاحًا فقاتل فقتل فهو شهيد". (¬5) في مسنده (4/ 109 رقم 3314 - كشف). وأورده الهيثمي في "المجمع" (7/ 272) وقال رواه البزار وفيه ولم أعرفه اثنان. عن أبي عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه- قال: قلت: "يا رسول الله، أي الشهداء أكرم على الله؟ قال: رجل قام إلى إمام جائر فأمره بمعروف ونهاه عن المنكر فقتله".

فرسُه أو بعيرُه أو لدغته هامَّةٌ أو مات على فراشه في سبيل الله أخرجه الطبراني (¬1) من حديث أبي مالكٍ الأشعريِّ وأخرج أيضًا في الكبير (¬2) من حديث سرّا بنتِ نبهانَ من قتلته الحيَّة، وأخرج (¬3) أيضًا من حديث ابن عباسٍ بلفظ "اللديغ شهيد". ¬

(¬1) في "المعجم الكبير" (3/ 282 رقم 3418). قلت: وأخرجه الحاكم (2/ 78، 79) وقال: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه. والبيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 166). وأبو داود في "السنن" رقم (2499). قال الذهبي: ابن ثوبان لم يحتج به مسلم وليس بذاك وبقية ثقة وعبد الرحمن بن غنم لم يدركه مكحول فيما أظن. قلت: صرح الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (6/ 250) بسماع مكحول من عبد الرحمن بن غنم والله أعلم. عن أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- رفعه: "من وقصه فرسه أو بعيره أو لدغته هامة، أو مات على فراشه في سبيل الله على أي حتف شاء فهو شهيد". ولفظ أبي داود عن أبي مالك الأشعري قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "من فصل في سبيل الله فمات أو قُتل فهو شهيد، أو وقصه فرسه أو بعيره أو لدغته هامَّة أو مات على فراشه أو بأي حتف شاء الله فإنه شهيد وإن له الجنة". وهو حديث ضعيف. (¬2) (24/ 308 - 309 رقم 779). وأورده الهيثمي في "المجمع" (4/ 45) وقال: رواه الطبراني في "الكبير" وفيه أحمد بن الحارث الغساني وهو متروك. أحمد بن الحارث الغساني: بصري شيخ لابن دارة قال أبو حاتم متروك الحديث وقال البخاري: فيه نظر. "ميزان الاعتدال" (1/ 88). وقال الهيثمي مرَّة في "المجمع" (3/ 78) شيخ لابن دارة ضعيف. سرّا بنت نبهان بن عمرو الغنوية. صحابية. "الإصابة" (7/ 675). قالت: سُئل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الحيَّات، ما يُقتل منها؟ فقال: "ما ظهر منها كبيرها وصغيرها أسودها وأبيضها، فإنَّ من قتلها من أمتي كانت فداه من النار ومن قتلته كان شهيدًا". (¬3) أي الطبراني في "الكبير" (11/ 263 - 264 رقم 11686). وأورده الهيثمي في "المجمع" (5/ 300) وقال: رواه الطبراني في "الكبير" وفيه عمرو بن عطية بن الحارث الوادعي وهو ضعيف. وفيه: " ... والمرء يموت على فراشه في سبيل الله شهيد، والمبطون شهيد، واللديغ شهيد، والغريق شهيد، والشريق شهيد، والذي يفترسه السبع شهيد والخار عن دابته شهيد، وصاحب الهدم شهيد، وصاحب الجنب شهيد، والنفساء يقتلها ولدها نحرها بسرره إلى الجنة".

والخامس والعشرون من عشَقَ فعفَّ فكتم فمات أخرجه الخطيب في تاريخه (¬1)، والديلميُّ في مسند الفردوسِ (¬2) من حديث ابن عباسٍ. والسادس والعشرون والسابع والعشرون والثامن والعشرون الفريس الذي يفترسه السبع، والخار عن دابَّته من غير تقييدٍ بكونه في سبيل اللهِ أخرجه ................ ¬

(¬1) (12/ 479). (¬2) لم أجده. وأخرجه ابن حبان في "المجروحين" (1/ 349). قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (2/ 283 - 284): وقد أنكره على سويد الأئمة. قاله ابن عدي في "الكامل"، وكذا أنكره البيهقي، وابن طاهر، وقال ابن حبان: من روى مثل هذا عن علي بن مسهر تجب مجانبة روايته، وسويد بن سعيد هذا وإن كان مسلم أخرج له في صحيحه فقد اعتذر مسلم عن ذلك. وقال: إنه لم يأخذ عنه إلا ما كان عاليًا وتوبع عليه، ولأجل هذا أعرض عن مثل الحديث. وقال أبو حاتم الرازي: صدوق وأكثر ما عيب عليه التدليس والعمى. وقال الدارقطني: كان لما كبر يقرأ عليه حديث فيه بعض النكارة فيجيزه. وقال يحيى بن معين: لما بلغه أنه روى أحاديث منكرة لقنها بعد عماه فتلقن لو كان لي فرس ورمح لكنت أغزو سويد بن سعيد وانظر "العلل المتناهية" (2/ 771). وكلام حفاظ الإسلام في إنكار هذا الحديث هو الميزان، وإليهم يرجع في هذا الشأن، ولم يصححه ولم يحسنه أحد يعوّل في علم الحديث عليه - ويرجع في التصحيح إليه، ولا من عادته التسامح والتساهل، فإنه لم يصف نفسه له، ويكفي أن ابن طاهر الذي يتساهل في أحاديث التصوف، ويروي منها الغث والسمين، قد أنكره وشهد ببطلانه. وهو حديث موضوع. "المقاصد الحسنة" رقم (1153)، "سلسلة الأحاديث" الضعيفة للألباني رقم (409).

الطبراني (¬1) من حديث ابن عباسٍ. التاسع والعشرون: من حبسه السلطانُ ظلمًا فمات في السِّجن، أخرجه ابنُ منده في كتاب الإيمان [1ب] بالسؤال عن عليِّ بنِ أبي طالب -رضي الله عنه- ولم يرفعه. الموفي ثلاثين والحادي والثلاثون: من ضُرب فمات في الضرب وكلُّ مؤمن يموت، أخرجه أيضًا ابنُ منده عن علي مرفوعًا كما تقدم قبل هذا. والثاني والثلاثون المرأةُ تصبِرُ على الغيرة فلها أجر شهيدٍ، أخرجه البزَّارُ (¬2) والطبراني (¬3) بسند حسنٍ من حديث ابن مسعود. والثالث والثلاثون من قال في يوم خمسًا وعشرينَ مرةً اللهم باركْ لي في الموت وفيما بعدَ الموتِ ثم مات على فراشه أعطاه الله أجر شهيد. أخرجه الطبرانيُّ في الأوسط (¬4) من حديث عائشة. والرابع والثلاثون: من صلى الضحى وصام ثلاثة أيام من الشهر ولم يترك الوتر في ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) في مسنده (2/ 190 رقم 1495). (¬3) في "الكبير" (10/ 107 رقم 10040). وأورده الهيثمي في "المجمع" (4/ 320) وقال رواه البزار والطبراني وفيه عبيد بن الصياح ضعفه أبو حاتم ووثقه البزار، وبقية رجاله ثقات. عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إن الله عز وجل كتب الغيرة على النساء والجهاد على الرجال، فمن صبر منهنَّ إيمانًا واحتسابًا كان لها مثل أجر الشهداء". (¬4) رقم (7676) بإسناد صحيح. وأورده الهيثمي في "المجمع" (5/ 301) وقال: رواه الطبراني في "الأوسط" وفيه من لم أعرفه. عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، ليس الشهيد إلا من قتل في سبيل الله؟ فقال: "يا عائشة إن شهداء أمتي إذًا لقليل، من قال في يوم خمسةٍ وعشرين مرةً: اللهم بارك في الموت، وفيما بعد الموت ثم مات على فراشه أعطاه الله أجر شهيد". وأخرجه أحمد في "مسنده" (3/ 489)، (5/ 317) من طرق.

حضر ولا سفر كُتب له أجر الشهيد أخرجه الطبراني في الكبير (¬1) بسند حسن من حديث ابنِ عمرَ. والخامس والثلاثون: المتمسّكُ بالسنة عند فسادِ الأمةِ له أجرُ شهيد. أخرجه الطبرانيُّ في الأوسط (¬2) من حديث أبي هريرة. السادس والثلاثون: طالبُ العلم إذا مات في طلبه أخرجه البزّارُ (¬3) من حديث أبي هريرةَ وأبي ذرَّ. السابع والثلاثون: من دعا في مرضه أربعين مرةً بقوله سبحانه: {ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين} (¬4) أُعطيَ أجر شهيدٍ أخرجه الحاكمُ في مستدركه (¬5) من حديث سعدِ بن أبي وقاص. ¬

(¬1) كما في "مجمع الزوائد" (2/ 241) وقال فيه أيوب بن نهيك ضعفه أبو حاتم وغيره ووثقه ابن حبان وقال: يخطئ." انظر "ميزان الاعتدال" (1/ 294). عن ابن عمر - رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "من صلى الضحى وصام ثلاثة أيام من الشهر ولم يترك الوتر في حضر ولا سفر كتب له أجر شهيد". وسنده حسن. (¬2) (5/ 315 رقم 5414). وأورده الهيثمي في "المجمع" (3/ 208) فيه محمد بن صالح العدوي ولم أر من ترجم له وبقية رجاله ثقات. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "المتمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر الشهيد". (¬3) في "المسند" (1/ 84 رقم 138 - كشف). وأورده الهيثمي في "المجمع" (1/ 124) وقال وفيه هلال بن عبد الرحمن الحنفي وهو متروك. عن أبي هريرة وأبي ذر قالا لباب من العلم يتعلمه الرجل أحب إليَّ من ألف ركعة تطوعًا وقالا: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا جاء الموت لطالب العلم وهو على هذه الحالة مات وهو شهيد". (¬4) [الأنبياء: 88]. (¬5) (1/ 506) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

الثامن والثلاثون: التاجرُ الأمينُ الصَّدوقُ مع الشهداء يوم القيامةِ أخرجه الحاكمُ (¬1) من حديث ابنِ عمرَ، وأخرجه (¬2) مثلَه من حديث أبي سعيدٍ. التاسع والثلاثون: من جلب طعامًا إلى مصر من أمصار المسلمين كان له أجرُ شهيدٍ أخرجه الديلميُّ (¬3) من حديث ابن مسعود. الموفي [2أ] أربعين: من سعى على أهله وولدِه وما ملكت يمينُه يُقيم فيهم أمر الله ويُطعمهم من حلال كان حقًّا على الله أن يجعله مع الشهداء في درجاتهم أخرجه الطبراني في الكبير (¬4) من حديث أبي كاهل. قال الذهبيُّ: إسنادُهُ مُظلم. الحادي والأربعون: عن ابن عباس: من مات مداريًا مات شهيدًا. أخرجه الديلميُّ (¬5) من حديث جابر وأخرجه السلفي في المُنتقى من حديث أبي طاهرٍ الخياط. الثاني والأربعون: المؤذَّنُ المحْتسِبُ كالشهيد المتشحّط في دمه. أخرجه الطبرانيُّ (¬6) من ¬

(¬1) (2/ 6). وأخرجه ابن ماجه رقم (2139) وهو حديث ضعيف. "التاجر الصدوق الأمين مع الشهداء يوم القيامة". (¬2) أي الحاكم في "المستدرك" (2/ 6). وأخرجه الترمذي رقم (1209) وقال: هذا حديث حسن غريب. وهو حديث ضعيف. (¬3) عزاه إليه صاحب "كنز العمال" (4/ 9740) والسيوطي في "جمع الجوامع" (1/ 770) ولفظه: "من جلب طعامًا إلى مصر من أمصار المسلمين كان له أجر شهيد". (¬4) (18/ 361 - 362 رقم 928). وأورده الهيثمي في "المجمع" (4/ 219) وفيه الفضل بن عطاء ذكره الذهبي وقال إسناده مظلم. وهو جزء من حديث طويل وفيه: " ... اعلمن يا أبا كاهل أنَّه من سعى على امرأته وولده وما ملكت يمينه يقيم فيهم أمر الله ويطعمهم من حلال كان حقًّا على الله أن يجعله مع الشهداء في درجاتهم". (¬5) عزاه إليه السيوطي في "جمع الجوامع" (1/ 800). (¬6) في "الكبير" (12/ 422 رقم 13554). وأورده الهيثمي في "المجمع" (2/ 3) وقال رواه الطبراني وفيه محمد بن الفضل القسطاني ولم أجد من ذكره. عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "المؤذن المحتسب كالشهيد يتشحط في دمه حتى يفرغ من أذانه ويشهد له كل رطب ويابس، وإذا مات لم يدود في قبره"

حديث ابن عمر. الثالث والأربعون: من اغتسل بالثلج فأصابه البردُ فمات أخرجه ابن أبي شيبةَ (¬1) في المصنف عن الحسن البصري من قوله. الرابع والأربعون: من صلى على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مائةَ مرة أسكنه الله يوم القيامة مع الشهداء أخرجه الطبراني في الأوسط (¬2) والصغير (¬3) من حديث أنس. الخامس والأربعون: من قال حين يمسي وحين يصبح اللهم إني أشهدك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدكَ لا شريكَ لك وأن محمدًا عبدُك ورسولك أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبوءُ بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب غيرُك فمات مات شهيدًا. أخرجه الأصبهانيُّ في الترغيب (¬4) من حديث حُذيفةَ بنِ اليمانِ. السادس والأربعون: من قال حين يصبح ثلاثَ مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ الثلاثَ [2ب] الآياتِ من آخر سورة الحشرِ وكّل اللهُ سبعين ألفَ ملكٍ يصلّون عليه حتى يُمسي فإن مات في ذلك اليوم مات شهيدًا، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلةِ. أخرجه الترمذي (¬5) من حديث معقل بن يسار. ¬

(¬1) لم أعثر عليه في المصنف (¬2) كما في "مجمع الزوائد" (10/ 163) وقال الهيثمي وفيه إبراهيم بن سالم بن سلم الهجيمي ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات. (¬3) (2/ 48) (¬4) لم أجده في الترغيب للأصبهاني. (¬5) في "السنن" رقم (2922). وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وأخرجه أحمد (5/ 26)، وابن السني في "علم اليوم والليلة"، رقم (80) وهو حديث ضعيف.

السابع والأربعون: من قرأ سورةَ الحشر إذا أخذ مضْجَعَه فمات مات شهيدًا، أخرجه ابن السُّنِّي (¬1) من حديث أنس. الثامن والأربعون: من مات يوم الجمعة كتب الله له أجرَ شهيد أخرجه حميدُ بنُ زنجويه في فضائل الأعمال (¬2) من مرسل إياسِ بنِ بكر مرفوعًا. التاسع والأربعون: من طلب الشهادة صادقًا أُعطيها ولو لم يُصبها أخرجه مسلمٌ (¬3) من حديث أنس. الموفي خمسين: أخرج الحاكم (¬4) عن عروة أن أبا سفيان بنَ الحارث حلقه الحالق بمنى ¬

(¬1) في "عمل اليوم والليلة" رقم (718) بإسناد ضعيف عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أوصى رجلًا إذا أخذ مضجعه أن يقرأ سورة الحشر، وقال إن مت مت شهيدًا أو قال من أهل الجنة. (¬2) ذكره الحاجي خليفة في "كشف الظنون" (2/ 1274). (¬3) في صحيحه، رقم (156/ 1908). (¬4) في "المستدرك" (3/ 256) وصححه ووافقه الذهبي. قال ابن التين كما في "فتح الباري" (6/ 44): هذه كلها ميتات فيها شدة تفضل الله على أمة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأن جعلها تمحيصًا لذنوبهم وزيادة في أجورهم يبلغهم بها مراتب الشهداء. قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أن المذكورين ليسوا في المرتبة سواء. ويتحصل مما ذكر في هذه الأحاديث أن الشهداء قسمان: شهيد الدنيا وشهيد الآخرة وهو من يقتل في حرب الكفار مقبلًا غير مدبر مخلصًا. وشهيد الآخرة وهو من ذكر بمعنى أنهم يعطون من جنس أجر الشهادة ولا تجري عليه أحكامهم في الدنيا ... وفي حديث العرباض بن سارية - عند النسائي (6/ 17 - 38) وأحمد (4/ 128) مرفوعًا: "يختصم الشهداء والمتوفّون على فرشهم إلى ربنا عز وجل في الذي يتوفّون من الطاعون، فيقول الشهداء: إخواننا قتلوا كما قتلنا ويقول المتوفون على فرشهم: إخواننا ماتوا على فرشهم كما متنا على فرشنا فيقول ربنا عز وجل انظروا إلى جراحهم، فإن أشبهت جراحُهُم جراح المقتولين، فإنهم منهم ومعهم فإذا جراحُهم قد أشبهت جراحهم"- حديث حسن لغيره-. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (6/ 44): وإذا تقرر ذلك فيكون إطلاق الشهداء على غير المقتول في سبيل الله مجازًا، فيحتج به من يجيز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه. والمانع يجيب بأنه من عموم المجاز فقد يطلق الشهيد على من قتل في حرب الكفار لكن لا يكون له ذلك في حكم الآخرة لعارض يمنعه كالانهزام وفساد النية.

وفي رأسه ثؤلولٌ فقطعه فمات قال فيروز إنه شهيدٌ. انتهى البحثُ بمنّ اللهِ وفضْلِهِ والصلاةُ والسلامُ على خير خلقه محمدٍ وآلِهِ وصحبه.

ترجمة علي بن موسى الرضا

ترجمة علي بن موسى الرِّضا (¬1) تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب ¬

(¬1) كذا في المخطوط "العنوان" ولكن موضوع الرسالة يحتم أن يكون عنوان الرسالة "تحريم قتل الكافر بعد قوله: لا إله إلا الله".

وصف المخطوط 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: ترجمة علي بن موسى الرِّضا. 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، وجدت بخط المولى شيخ الإسلام -رضي الله عنه- ما لفظه: ذكر الخطيب في تاريخ بغداد في ترجمة علي بن موسى الرِّضا. 4 - آخر الرسالة: هذا غير بعيد فليراجع هذا البحث، فإني لم أكتبه هنا إلَّا لقصد إمعان النظر فيه بعد حين إن شاء الله محمد بن علي الشوكاني. 5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول. 6 - عدد الصفحات: 5 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 19 سطرًا، ما عدا الصفحة الأولى فعدد أسطرها 10 أسطر. 8 - عدد الكلمات في السطر: 8 كلمات. 9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني. 10 - الرسالة من المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم وجدتُ بخطِّ المولى شيخ الإسلام -رضي الله عنه- ما لفظه: ذكر الخطيب في تاريخ بغداد في ترجمة علي بن موسى الرضا (¬1) ما لفظُهُ: بعد حذف السندِ منه إليه لما أُدخِلَ على المأمون رجلٌ نصراني قد وُجِدَ مع امرأةٍ هاشميةٍ، فلما أدخل عليه أسْلَمَ فغاظ المأمون ذلك غيظًا شديدًا، فاستفتى الفقهاء فكلٌّ قال: هدمَ إسلامُهُ ما فعلَه، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، اكتب إلى علي بن موسى في هذا. قال: فكتب إليه فوافاهُ علي بن موسى فقال: يا أمير المؤمنين، اضرب عنُقَهُ؛ فإنه إنما أسلمَ [اأ] مخافةً من السيف، فقال الفقهاء: من أين لك هذا؟ قال: فقرأ علي بن موسى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} (¬2) انتهى. ¬

(¬1) علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق، بن محمد الباقر، بن علي، بن الحسين، الهاشمي العلوي المدني، وأمه ثويبة اسمه سُكينة. كان مولده بالمدينة سنة 148هـ. قال ابن جرير الطبري في تاريخه (8/ 554): "إن المأمون جعل عليّ بن موسى وليّ عهده لأنه نظر في بني العباس وبني علي، فلم يجد أحدًا هو أفضل ولا أعلم ولا أورع منه وأنه سماه الرضي من آل محمد توفي سنة 203هـ. انظر "تاريخ الطبري" (8/ 554، 568)، "سير أعلام النبلاء" (9/ 387)، "شذرات الذهب" (2/ 602)، "وفيات الأعيان" (3/ 269). (¬2) [غافر: 84، 85]. قال الألوسي في "روح المعاني" (24/ 92 - 93): "فلما رأوا بأسنا" مترتب على قوله تعالى: " فلما جاءتهم رسلهم بالبينات " تابع له لأنه بمنزلة فكفروا إلا أن " فلما جاءتهم " الآية بيان كفر مفصل مشتمل على سوء معاملتهم وكفرانهم بنعمة الله تعالى العظمى من الكتاب والسنة فكأنه قيل: فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا، ومثلها الفاء "فلم يك ينفعه" عطف على آمنوا دلالة على أن عدم نفع إيمانهم ورده عليهم تابع للإيمان عند رؤية العذاب كأنه قيل: فلما رأوا بأسنا آمنوا فلم ينفعهم إيمانهم إذ النافع إيمان الاختيار. " سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ " أي سن الله تعالى ذلك أعني عدم الإيمان عند رؤية البأس سنة ماضية في العباد وهي من المصادر المؤكدة كوعد الله وصبغة الله. قال القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (15/ 336) "سنة الله" منصوب على التحذير والإغراء: أي احذروا يا أهل مكة سنة الله في إهلاك الكفرة. وانظر "جامع البيان للطبري" (12جـ 24/ 90). قال الرازي في تفسيره (27/ 91 - 92): المعنى: فلم يصح ولم يستقم أن ينفعهم إيمانهم، فإن قيل اذكروا ضابطًا في الوقت الذي لا ينفع الإتيان بالإيمان فيه. قلنا: إنه الوقت الذي يعاين فيه نزول ملائكة الرحمة والعذاب لأن في ذلك الوقت يصير المرء ملجأ إلى الإيمان، فذلك الإيمان لا ينفع إنما ينفع مع القدرة على خلافه، حتى يكون المرء مختارًا، أما إذا عاينوا علامات الآخرة فلا. قال تعالى: "سنة الله التي قد خلت في عباده " المعنى أن عدم قبول الإيمان حال البأس سنة الله مطردة في كل الأمم. قال ابن كثير في تفسيره (7/ 160): " فلما رأوا بأسنا " أي: عاينوا وقوع العذاب بهم. " قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين " أي: وحدوا الله وكفروا بالطاغوت، ولكن حيث لا تقال هذه العثرات ولا تنفع المعذرة، وهذا كما قال فرعون حين أدركه الغرق: " آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ " [يونس: 90]. قال سبحانه وتعالى: "الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين " [يونس: 91]. أي: فلم يقبل الله منه، لأنَّه قد استجاب لنبيه موسى دعاءه عليه حين قال: "واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم " [يونس: 88]. وهكذا هاهنا أيضًا قال: " فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ": أي هذا حكم الله في جميع من تاب عند معاينة العذاب. أنه لا يقبل ولهذا جاء في الحديث: "أن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر"- أخرجه الترمذي رقم (3537) وابن ماجه رقم (4253) من حديث ابن عمر - أي: فإذا غرغر وبلغت الروح الحنجرة وعاين الملك، فلا توبة حينئذ ولهذا قال: "وخسر هنالك الكافرون ".

أقول: وهذا استدلال قوي، ودليل قرآني سوي، فإنَّ الله- سبحانه- جاء في هذه الآية بما هو يشفي ويكفي، فذكر أولا وقتَ هذه المقالةِ منهم فقال: {فلما رأوا بأسنا} أي: وقتَ رؤيتهم لبأسنا قالوا آمنا بالله وحده، وذكر مع الجملة الدالةِ على إنشاء الإيمان منهم، وهو قوله: {آمنا بالله} ما يفيد تأكيدَ هذا، ثم لم يكتفِ بهذا حتى جاء بجملةٍ مؤكِّدةٍ لمضمون الجملة الأولى فقال: {وكفرنا بما كنا به مشركين} فهذا المعنى فُهِمَ أولًا من قولهم: {آمنا بالله} ثم فهم ثانيًا من قولهم: {وحده} ثم فهم ثالثا بأبلغ عبارةٍ، وأوضح دلالةٍ، وأتمِّ تصريحٍ من قولهم: {وكفرنا بما كنا به مشركين} وهذا التأكيدُ المستفاد من كلام الله تعالى [1ب] يدلُّ على أنه قد أظهروا بألسنتهم من الإيمان غايةَ ما يمكن من الإظهارِ، وكفروا بما يخالف الإيمانَ أبلغَ كفرٍ، ثم

عقَّب سبحانه هذا بقوله: {فلم يك ينفعهم إيمانهم} فجاء بهذه الجملة المصدَّرة بحرف النفي المتوجِّه إلى نفي النفعِ الكافي له بذلك الإيمانِ، فأفاد ذلك العمومَ، وأنه لا نفعَ لهم في هذا الإيمان الواقع عند رؤية الناس بوجه من الوجوه، كما تقرر من أن الأفعال مشتملةٌ على النكرات، فهو في قوة: لا نفعَ لهم بهذا الإيمان، والنكرةُ في سياق النفي من أبلغ صيغِ العمومِ (¬1)، ثم كرر هذا ذكر الوقت الذي وقع فيه ذلك الإيمان بعد أن ذكره أولا بلفظه وحروفه فقال: {لما رأوا بأسنا} فكان من التأكيد الدال على عدم نفع الإيمانِ في هذا الوقتِ، فوجهٌ من وجوه النفعِ لم يكتف بهذا حتى أردفه بجملةٍ دالةٍ على أنَّ عدم نفعِ الإيمانِ في هذا الوقت هو سنةُ الله - عز وجل-، ثم لم يكتف بمجرَّد ذكرِ ¬

(¬1) قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" (ص 410): إن النكرة المنفية بما، أو لن أو لم أو ليس أو لا مفيدةًُ للعموم سواءٌ دخل حرف النفي على فعل ما رأيت رجلًا أو على اسم نحو لا رجلٌ في الدار ونحو ما أحدٌ قائمًا. وما قام أحدٌ. ولو أنها لم تكن النكرة في النفي للعموم لما كان قولنا لا إله إلا الله نفيًا لجميع الآلهةِ سوى الله سبحانه وتعالى. "البحر المحيط" (3/ 112)، "تيسير التحرير" (1/ 225).

السنةِ حتى أبانَ لنا بأنَّ هذه السنة (¬1) هي التي خلتْ في عباده، وأنه شرْعُه الذي ارتضاه لمن مضَى من الأمم، وأنَّ الشرائع التي شرعَها لسابق عبادِه ولاحقِهم في كتبه المنزَّلةِ [2أ]، وعلى ألسنِ رسله هي هذه، ثم ذيَّلَ هذا الكلامَ بقوله: {وخسر هنالك الكافرون} فكان في هذه الجملة [ .... ] (¬2) أبلغ مناداةِ، فإنه لم يحصلْ لهم من ذلك الإيمانِ عند رؤية الناس إلا الخسران، فلم يعاقبوا بمجرَّد الخيبةِ مما قالوه بألسنتهم، بل ضمَّ لهم إلى ذلك الخسرانَ المشعِرَ بأنه قد نزل بهم من المِحَنِ ما لا يُعَبَّرُ عنه إلا بهذه العبارة المفيدة لجمعِ العقوبةِ لهم على أبلغِ وجهٍ، وأتمِّ صورة، فكان فيها من الدلالة على ما أراده الإمام علي بن موسى - رحمه الله- والمناداةُ بما قصده بما هو أوضحُ من شمس النهار، وأمَّا حديثُ: "الإسلام يجب ما قبله" (¬3) فغايتُه أنه دلَّ بعمومه باعتبار تعريفِ المسندِ إليه على أنه يجبُّ كلَّ ما تقدَّمهُ، وإن كان قائله إنما قاله عند رؤية الناس، ومخافةِ السيفِ. ولا يصلح مثل هذا الحديث لتخصيص عموم الآيةِ؛ لأنه عامٌّ فيها يعارضُ عموماتٍ، فيطلب المرجح لأحدِهما، لا سيَّما بعد ورودِه على هذا الوجه من التأكيد، والتكرُّرِ، والمبالغةُ في العبارة أرجحُ لكونه قطعيَّ المتنِ، وإن كان ظنيَّ الدلالة لكنه أرجحُ من الحديث، فإنه ظنيُّ المتن والدلالةِ جميعًا [2ب]. ¬

(¬1) تقدم شرحها. (¬2) كلمة غير واضحة في المخطوط. (¬3) أخرجه أحمد في "المسند" (4/ 199) و (4/ 205). وأخرجه الطبراني كما في "المجمع" (9/ 350 - 351) وقال: رجالهما رجال الصحيح. والبيهقي في "السنن الكبرى" من حديث عمرو بن العاص أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "الإسلام يجب ما قبله". وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" (7/ 296 - 497)، من حديث جبير بن مطعم. وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (192/ 121) من حديث عمر بلفظ: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأنَّ الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله".

فإن قلت: من جملة الأدلة الخارجية القاضيةِ بترجيح عمومِ الحديثِ على عموم القرآنِ ما وقع منه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في معاقبته لمحمد بن مسلمةَ، أو لأسامةَ (¬1) بن زيد على اختلاف الرواية لما قتَلَ كافِرًا تكلَّم بكلمة الشهادةِ عند رؤية السيفِ، أو نحو هذه العبارة. فقال له: "هل شققتَ عن قلبه" (¬2) وكرر ذلك عليه حتى عاهد الله أن لا يقاتلَ بعدها من تكلَّم بكلمة الشهادةِ. والقصةُ معروفة مشهورةٌ. ¬

(¬1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (4269) وطرفه (6872) ومسلم رقم (96) وأبو داود رقم (2643) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما: "بعثنا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى الحُرَقة، فصبَّحنا القوم فهزمناهم، ولحقتُ أنا ورجلٌ من الأنصار رجلًا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكفَّ الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "يا أسامة أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟ " قلت: كان متعوذًا. فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم". قال الخطابي في "معالم السنن" (3/ 102) فيه من الفقه: أن الكافر إذا تكلم بالشهادة وإن لم يُصَفْ بالإيمان وجب الكف عنه والوقوف عن قتله سواء كان بعد القدرة عليه أو قبلها. وفي قوله: "هلا شققت عن قلبه"- وفي رواية أبي داود رقم (2643) - دليل على أن الحكم إنما يجري على الظاهر وأن السرائر موكولة إلى الله سبحانه. وفيه أنَّه لم يلزمه - مع إنكاره عليه- الدية، ويشبه أن يكون المعنى فيه أن أصل دماء الكفار الإباحة وكان عند أسامة إنما تكلم بكلمة التوحيد مستعيذًا، لا مصدقًا بها، فقتله على أنه كافر مباح الدم فلم تلزمه الدية إذ كان في الأصل مأمورًا بقتاله والخطأ عن المجتهد موضوع. ويحتمل أن يكون قد تأول فيه قول الله تعالى: " فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا " [غافر: 58]. وقوله في قصة فرعون: "الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين " [يونس: 91]، فلم يخلصهم إظهار الإيمان عن الضرورة والإرهاق من نزول العقوبة بساحتهم ووقوع بأسه بهم. قال الحافظ في "الفتح" (12/ 196): كأنَّه حمل نفي النفع على عمومه دنيا وأخرى وليس ذلك المراد، والفرق بين المقامين أنَّه في مثل تلك الحالة ينفعه نفعًا مقيَّدًا بأن يجب الكف عنه حتى يختبر أمره هل قال ذلك خالًصا من قلبه أو خشية من القتل، وهذا بخلاف ما لو هجم عليه الموت ووصل خروج الروح إلى الغرغرة وانكشف الغطاء فإنه إذا قالها لم تنفعه بالنسبة لحكم الآخرة وهو المراد بالآية. (¬2) أخرجه أبو داود في "السنن". رقم (2643) وهو حديث صحيح.

وفي هذا ما يدلُّ على اعتبار إسلامِ من تكلَّم بكلمة الشهادةِ عند رؤية السيفِ (¬1)، ومخافةَ القتل، فيحمل ما في الآية من البأس على ما هو من الله - سبحانه- كما يرشد إليه إضافةُ البأس إلى ضميره - سبحانه- كالقيامةِ، والخسِْف، والصواعقِ، ونحو ذلك. ¬

(¬1) ويؤيد ذلك الحديث المشهور الذي أخرجه مسلم رقم (33/ 21) والنسائي (6/ 4 - 5) (6 - 7) وابن حبان في صحيحه رقم (218) والطبراني في "الأوسط" (2/ 158 رقم 1294) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 213) وابن منده في "الإيمان" (1/ 162 رقم 23) و (1/ 359 رقم 199) و (1/ 360 رقم 200) من طريق الزهري عن سعيد، عن أبي هريرة: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله". قال القاضي عياض في كتاب "الإيمان من إكمال المعلّم بفوائد صحيح مسلم" (1/ 206): ومعنى "عصموا" منعوا. قال الله تعالى: " والله يعصمك من الناس " [المائدة: 67]. و" لا عاصم اليوم من أمر الله " [هود: 43]، و {يعصمني من الماء} [هود: 43]. وقد فسره في الحديث الآخر بقوله: "حرم ماله ودمُه"- أخرجه مسلم رقم (34/ 21) - واختصاصه ذلك بمن قال: "لا إله إلا الله" تعبيرٌ عن الإجابة إلى الإيمان وأنَّ المراد بهذا مشركو العرب وأهل الأوثان ومن لا يقر بالصانع ولا يوحده وهم كانوا أوَّل من دُعي إلى الإسلام وقوتل عليه، فأمَّا غيرهم ممن يقر بالتوحيد والصانع فلا يُكتفى في عصمة دمه بقول ذلك إذا كان يقولها في كفره وهي من اعتقاده فلذلك جاء الحديث الآخر: "وأني رسول الله ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة". انظر: "فتح الباري" (3/ 358)، (12/ 279)، "مجموع الفتاوى" (7/ 186 - 189). وقد بوب مسلم في صحيحه رقم (41) - باب تحريم قتل الكافر بعد قوله: لا إله إلا الله. وأخرج حديث رقم (155/ 95) عن المقداد بن الأسود أنَّه قال: يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلًا من الكفار. فقاتلني. فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمت لله، أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا تقتله" قال فقلت: يا رسول الله إنَّه قد قطع يدي، ثم قال بعد ذلك: إن قطعها أفأقتله؟ قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا تقتله، فإن قتلته فإنّه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال". وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (4019).

قلت: هذا غير بعيد فلنراجع هذا البحثَ، فإني لم أكتبه هنا إلّا لقصد إمعان النظر فيه بعد حين - إن شاء الله- محمد بن علي الشوكاني [3أ].

رسالة في حكم صبيان الذميين إذا مات أبوهم

رسالة في حكم صبيان الذميين إذا مات أبوهم تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: رسالة في حكم صبيان الذميين إذا مات أبوهم. 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: هذا البحث كتب به إلى السيد العلامة الحسين بن عبد الله الكبسي من كوكبان وأجبت بالبحث المذكور بعده. 4 - آخر الرسالة: "فإني كتبه ورسوله قائم بالباب، والله أعلم بالصواب". انتهى من تحرير المجيب حفظه الله، وبارك لنا وللمسلمين في أيامه إنه جواد كريم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 5 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرًا. ما عدا الصفحة الأولى فعدد الأسطر فيها 20 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

هذا البحث كتب به إلى السيد العلامة الحسين بن عبد الله الكبسي (¬1) من كوكبان، وأجبت بالبحث المذكور بعده. بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم، مذاكرة مهمة في شأن الصبيان الذميين (¬2) إذا مات أبواهم، هل ينزعون من بين الذميين إلى المسلمين؟ فحكى ابن حجر - رحمه الله تعالى- في فتح ............................................. ¬

(¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) الذمة في اللغة: الأمان والعهد. وأهل الذمة هم المعاهدون من النصارى واليهود وغيرهم ممن يقيم في دار الإسلام. وقد جاء في الحديث الشريف: " ... يسعى بذمتهم أدناهم "، وفسر الفقهاء "ذمتهم" بمعنى الأمان. وقالوا في تفسير عقد الذمة بأنه إقرار بعض الكفار على كفرهم بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الملة. وعقد الذمة: هو عقد بمقتضاه يصير غير المسلم في ذمة المسلمين أي في عهدهم وأمانهم على وجه التأييد، وله الإقامة في دار الإسلام على وجه الدوام. "القاموس الفقهي" (ص 1434)، "كشف القناع" (1/ 704). شرع عقد الذمة بعد فتح مكة، أما ما كان قبل ذلك بين النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبين المشركين فعهود إلى مدد لا على أنهم داخلون في ذمة الإسلام وحكمه. ويؤيد ذلك أن آية الجزية المتضمنة عقد الذمة، وهي قولة تعالى: " قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ {[التوبة: 29]. قال ابن كثير في تفسيره (4/ 132) نزلت هذه الآية الكريمة أول الأمر بقتال أهل الكتاب، بعدما تمهدت أمور المشركين ودخل الناس في دين الله أفواجًا، فلما استقامت جزيرة العرب أمر الله ورسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى وكان ذلك في سنة تسع ... " أما الحكمة من مشروعية عقد الذمة فهي أن يترك الحربي القتال مع احتمال دخوله في الإسلام عن طريق مخالطته للمسلمين واطلاعه على شرائع الإسلام، وليس المقصود من عقد الذمة تحصيل المال.

الباري (¬1)، في كتاب (¬2) الجنائز عن أحمد بن حنبل أنه قال: من مات أبواه، وهما كافران حكم بإسلامه، وظاهره العموم، سواء كان الأبوان مشركين أو غيرهما لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، ثم يقول: اقرءوا:} فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ {أخرجه الشيخان (¬3) وغيرهما (¬4). زاد البخاري (¬5): "فأبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه"، وزاد مسلم (¬6) في رواية أخرى: "ما من مولود إلا وهو يولد على الملة، حتى يبين عنه لسانه"، وبين ابن حجر (¬7) أن قوله: اقرءوا فطرة الله إلخ مدرج من قول أبي هريرة، وهذا عام يشمل المرتدين والمشركين والذميين. وذكر ابن حجر (¬8) اختلاف السلف في المراد بالفطرة في هذا الحديث على أقوال كثيرة. قال: وأشهر الأقوال أن المراد بالفطرة الإسلام، وعن ابن عبد البر أنه قال: وهو المعروف عند عامة السلف. وأجمع أهل العلم بالتأويل على أن المراد بقوله تعالى:} فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا {(¬9) وأيد ابن حجر هذا القول بأدلة قرآنية، وسنية، وجزم البخاري في تفسير (¬10) سورة الروم بأن الفطرة الإسلام. ¬

(¬1) (3/ 248). (¬2) الباب رقم (92) ما قيل في أولاد المشركين. (¬3) البخاري في صحيحه رقم (1319) ومسلم رقم (2658) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) كأحمد (2/ 346) وأبو داود رقم (4714) والترمذي رقم (2139). (¬5) في صحيحه رقم (1319) (¬6) في صحيحه رقم (000/ 2658). (¬7) في "الفتح" (3/ 248). (¬8) في "الفتح" (3/ 248). (¬9) [الروم: 30]. (¬10) في "فتح الباري" (8/ 512) باب: "لا تبديل لخلق الله".

واستدل أحمد بحديث الباب بناءً على هذا التفسير، وتعقب بعضهم هذا التفسير كما حكاه ابن حجر (¬1) بأنه كان يلزم أنا لا يصح استرقاقه، ولا يحكم بإسلامه إذا أسلم أحد أبويه. ثم قال ابن حجر: والحق أن الحديث سيق لبيان ما هو في نفس الأمر، لا لبيان الأحكام في الدنيا. قال ابن حجر (¬2): ولا حجة فيه لمن حكم بإسلام الطفل الذي يموت أبواه كافرين، كما هو قول أحمد، فقد استمر عمل الصحابة، ومن بعدهم على عدم التعرض لأطفال أهل الذمة انتهى. وقال أهل المذهب الشريف مثل مقالة أحمد [1]، كما نص الإمام المهدي في الأزهار (¬3) بقوله: "وبكونه في دارنا دونهما" (¬4) زاد في الأثمار (¬5) مطلقًا. قال في الوابل: سواء كان أبواه ميتين في دار الإسلام، أم غائبين عنها، هكذا مفهوم عبارة الأزهار، وهو الموافق للقواعد (¬6)، ولذلك صرح به المؤلف، وهذا الذي صححه المؤلف ¬

(¬1) في "الفتح" (3/ 249). (¬2) في "الفتح" (3/ 249). (¬3) (3/ 789 - مع السيل الجرار). (¬4) قال الشوكاني تعليقًا: إذا كان مولودًا على الفطرة الإسلامية، وكان ذلك كافيًا في الحكم به بالإسلام فإسلامه مع إسلام أحد أبويه أظهر، ولا يحتاج إلى الاستدلال بدليل يخص هذه الصورة، وهكذا لا يحتاج إلى الاستدلال بدليل يخص قوله: "وبكونه في دارنا دونهما" لأنه قد اجتمع له الولادة على الفطرة والكون في دار الإسلام، فكان من جملة من يحكم له بالإسلام بالسببين المذكورين. كما استحق من أسلم أحد أبويه أن يحكم له بالإسلام بالسببين، وهما الولادة على الإسلام مع إسلام أحد أبويه، وقد كان أبواه هما اللذان يهودانه، ويمجسانه، فمع إسلام أحدهما صار داعيًا له إلى الإسلام كما صار يدعوه الآخر إلى الكفر وداعي الإسلام أرجح وأقدم؛ لأن الإسلام يعلو، ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا. (¬5) "الأثمار في فقه الأئمة الأطهار" تأليف الإمام يحيى بن شمس الدين الحسني اليمني. انظر: "مؤلفات الزيدية" (1/ 44). (¬6) مخطوط انظر "مؤلفات الزيدية" (2/ 356).

قد صححه كثير من العلماء، وهو الموافق للأدلة، وكذلك صرح به في الأثمار (¬1) انتهى. وقال في الغيث (¬2): لأنه صار في دار الإسلام، وأبواه في دار الحرب فقد انقطعت ولايتهما، فلا يلحق حكمهما في ذلك، بل يحكم بأنه ولد على الفطرة حتى يعرب (¬3) عنه لسانه بعد تكليفه لأجل الخبر انتهى. وروي عن ابن حميد أنه حكاه أن الإمام شرف الدين - رضوان الله عليه- بعث في البلاد لقبض من مات أبواه من صبيان اليهود انتهى. فالذي يظهر لي رجحان ما ذهب إليه أهل المذهب وأحمد. بقي الكلام في ميراث الصبي من أبويه وغيرهما ما دام صبيًّا، فالواقع عند عامة العلماء أن أبويه يرثانه مع قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم". اتفق عليه الشيخان (¬4)، وكذا قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "وهل ترك لنا عقيل من رباع؟ " (¬5) وسببه كما ذكره ابن دقيق العيد (¬6) أن أبا طالب لما ¬

(¬1) تقدم في تعليقة سابقة. (¬2) مخطوط انظر "مؤلفات الزيدية" (2/ 297) (¬3) أخرج مسلم في صحيحه رقم (000/ 2658) من رواية أبي كريب عن أبي معاوية: "ليس من مولود يولد إلا على هذه الفطرة حتى يعبر عنه لسانه". وأخرجه أحمد في "المسند" رقم (14741 - الزين) بسند صحيح. من حديث جابر قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فإذا أعرب عنه لسانه فإما شاكرًا وإما كفورًا". (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6764) ومسلم رقم (1/ 1614). قلت: وأخرجه مالك (2/ 519 رقم 10) والطيالسي (1/ 283 رقم 1435) - "منحة المعبود" وأحمد (5/ 200) وأبو داود رقم (2909) والترمذي رقم (2107) والدارمي (2/ 37) وغيرهم من حديث أسامة بن زيد. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1588). (¬6) في "إحكام الأحكام شرع عمدة الأحكام" (4/ 18).

مات لم يرثه علي، وجعفر، وورثه عقيل، وطالب؛ لأن عليًّا وجعفر كانا مسلمين حينئذ، فلم يرثا أبا طالب. وقال في البحر (¬1): معاذ ومعاوية والناصر- عليه السلام- والإمامية: يرث الكافر لقوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه" انتهى. وهذا عموم كما لا يخفى. قال ابن دقيق العيد (¬2): ومن المتقدمين من قال بأن المسلم يرث الكافر دون العكس، وكان ذلك تشبيه بالنكاح، حيث ينكح المسلم الكافرة الكتابية بخلاف العكس انتهى. فعلى قول معاذ، والناصر، ومن معهما لا إشكال في ميراث الصبي من أبويه الكافرين، وكذا إذا قلنا بإسلامه كما هو ظاهر حديث: "كل مولود" (¬3) وكان إثبات التوارث من الجانبين؛ أعني: ميراث الصبي من أبويه، وميراثهما منه بحكم المعاملة له معاملتهما في أحكام الدنيا، وهذا واضح كما يظهر. وإن أشكل فيه أن الصبي يعامل به معاملة أبويه حتى يموت أبواه، فموتهما يثبت له حكم الإسلام مقارنًا لموتهما، فكيف لا يكون مانعًا من إرثه لهما على قول الجمهور (¬4) من عدم التوارث بين أهل ملتين! فالمقام مقام نظر وإمعان. ويظهر لي صحة نزع الصبي بوجوبه وبثبوت ميراثه من أقاربه ما دام صبيًّا قبل نزعه، إذ بنزعه تنقطع عنه المعاملة له معاملة أبويه. ويؤيد هذا الظاهر حتى يصير متعينًا وجوبًا. الوجه الأول: أنه بعد أن ثبت أن المراد بالفطرة (¬5) الإسلام، وقد ثبت عند عامة ¬

(¬1) أي البحر الزخار (5/ 369). (¬2) في "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" (4/ 17). (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) انظر "درء تعارض العقل والنقل" (8/ 361). (¬5) انظر الرسالة رقم (16).

العلماء أو إجماعهم على ما يظهر من عدم حكاية مخالف أنه يرثه أبواه الكافران إذا ماتا مع اختلاف الملة، وما ذاك إلا لحكم معاملته معها معاملة الموافق في الملة. والوجه الثاني: هو ما أشار إليه ابن حجر (¬1) بقوله: والحق أن الحديث سيق لبيان ما هو في نفس الأمر، لا لبيان الأحكام في الدنيا، فإنه يفيد أن أحكام الذمي من التوارث والاسترقاق وغيرهما منظور فيهما عند الشارع إلى الظاهر، وإلى معاملة الصبي معاملة أبويه وإن كان ابن حجر - رحمه الله- لم يسلك الحق في ما مضى له من قوله بعد ذلك: ولا حجة فيه؛ أي في حديث "كل مولود" إلخ، لمن حكم بإسلام الطفل الذي يموت أبواه كافرين، كما هو قول أحمد. وأسند عدم الحجة باستمرار عمل الصحابة ومن بعدهم على عدم التعرض لأطفال أهل الذمة. ولا يخفى أنه لا حجة في ذلك الاستمرار إلا إذا كان إجماعًا، ولا إجماع كما هو ظاهر، على أن قول ابن حجر: ولا حجة إلخ مناف لما قد قرره من أن الفطرة الإسلام، تظهر ما قلته لمن تأمل المقام. والوجه الثالث: إن ثبت كون المراد بالفطرة الإسلام، وثبوت معاملة الصبي معاملة أبويه في الأحكام الدنيوية يصح أن يقال: إن قد قارن موت أحد أبوبه مانع من الإرث، وهو اختلاف الملتين، وارتفاع ولاية أبويه عليه بالمرة، وثبوت الإسلام، وأن ينزع من أيدي أهل الكفر، وزوال المعاملة بالمرة لأنا نقول: قد ثبت عند الشارع إحدى هذه المعاملة في الأحكام الدنيوية في الاسترقاق، فإنه يسترق الصبي من غير فرق بين تقدم هلاك أبويه على استرقاقه وعدمه، وذلك معلوم، وذلك ما ثبت عند عامة العلماء من إثبات ميراث أبويه منه، مع حصول الاختلاف وارتفاع موجب المعاملة، ما ذاك إلا لانسحاب حكم المعاملة بعد الموت. ونظير ذلك عتق المدبر بعد موت سيده، مع حصول المانع، وهو خروجه عن ملك مدبره لموته، ونظير ذلك أيضًا ما قالوه في المملوك إذا مات أبواه أو نحوه، فعتق قبل حوز المال إلى بيت المال أنه يرث أباه، ونحوه مع ¬

(¬1) في "الفتح" (6/ 43).

حصول مانع الرق عند الموت لانسحاب إعمال حكم القرابة الموجب للتوارث. هذا ما ظهر مع قصور الباع؛ فإن كان صوابًا فبهداية الله، وأرجو الأجرين من الله تعالى الكريم المنان، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، وأرجو من الله الأجر. حرر هذا السؤال في شهر رمضان سنة 1209، وقلم السائل السيد حسين بن عبد الله الكبسي - عافاه الله-.

هذا لفظ ما حرره في المقام الولد العلامة الهمام محمد بن علي الشوكاني، أدام الله إفادته، وجعله للمتقين إمامًا، وجعل الجميع ممن يعمل ما يرضيه، ويتجنب ما لا يرضيه. الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وبعد: فإنه وصل هذا البحث النفيس من سيدي العلامة الأجل شرف الملة - حماه الله ورعاه، وكلأه وبارك للمسلمين في علومه-. وقد أفاد وأجاد، ولكنه خطر بالبال حال تحرير هذه الأحرف من دون بحث كتاب أن مرجع الأمر إلى معرفة ما هو المراد بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "يهودانه، وينصرانه" (¬1) هل المراد أنهما يصيرانه كذلك بمجرد كون الأب أبًا له، والأم أمًّا له حال كونهما متصفين بوصف الكفر، أو المراد أنهما يحببان إليه ذلك أو المراد أنه يصير بالملازمة لهما متدينًا بدينهما بعد كونه مولودًا على الفطرة، أو المراد أنهما يصيرانه على دينهما عند أن يصير متصفًا بوصف البلوغ الذي هو المناط للأحكام الشرعية؟ فإن هذا كان المراد المعنى الأول فالصبي المولود لليهوديين والنصرانيين يصير كافرًا بمجرد كون أبويه كذلك، سواء كان الأبوان باقيين على الحياة، أو ميتين، وسواء كان الموت عند الولادة أو بعدهما، قبل بلوغ الصبي، فعلى هذا لا يصير الولد مسلمًا بكونه في دارنا دونهما؛ لأن الأبوين قد هوداه ونصراه بمجرد كونهما متصفين بوصف الأبوة، ويرثهما ويرثانه، ولا يثبت له حكم الإسلام إلا باختياره بعد بلوغه (¬2)، ولكن يبقى الكلام هل تصح على معنى هذا الجملة المضارعية! أعني: قوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "يهودانه، وينصرانه"، لما تقرر أنها للاستمرار التجددي، ويمكن أن يقال أن المراد بالاستمرار الذي هو مدلوله المضارعية هو الكائن في حال حياتهما، أي: ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) في حاشية المخطوط ما نصه: لا يخفى أن هذا الوجه ... لا يساعده قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ما من مولود إلا ويولد على الملة حتى يبين عليه لسانه، وجعل بيوت الملة له متهيأ بأنه لسانه، ولا آبائه عند بلوغه" تأمل غفر الله له، ومتع المسلمين بأيامه.

يستمر ذلك ما داما في الحياة وإن كانت غير مستمرة إلى حال البلوغ فإذا مثلًا: مات الأبوان بعد ولادة الولد بشهر فقد استمر في تلك المدة جعلهما له يهوديًّا أو نصرانيًّا، وليس في الحديث ما يدل على غير هذا، وإن كان المراد المعنى الثاني فلا يصدق ذلك إلا على من عاش أبواه أو أحدهما إلى زمان يتعقل فيه الصبي ما يقال له، ويؤيد هذا أنه لا بد في كونهم مهودين له أو منصرين من تعقل المفعول به لذلك المعنى، وهو لا يتعقله قبل بلوغ سن التمييز. وعلى هذا يكون الصبي كافرًا بكفر أبويه، بمجرد إدراكه لهما أو لأحدهما، وهو مميز فلا يصير بعد موتهما مسلمًا بكونه في دارنا دونهما، بل هو على دينهما حتى يبلغ، ويختار خلافه، وحينئذ يرثهما ويرثانه ما دام غير خارج عن دينهما (¬1) باختياره. وإن كان المراد المعنى الثالث فالولد يصير متدينًا [4] بدين الأبوين مجرد ثبوت الملازمة لهما، وليس في ذلك ما يقتضي اعتبار استمرارها إلى البلوغ، لصدق مسمى الملازمة على ثبوتها في مدة من المدد. ألا ترى أنه يقال في اللغة (¬2): لازم فلانًا يومًا، أو يومين، أو ثلاثًا، أو أسبوعًا وسنة. ويأتي ما سلف من اعتبار كونهما بين مميزين. والظاهر عدم اعتبار ذلك؛ لأنه يقال: لازم فلان داره، أو بلده، أو ضيعته، أو المسجد. وعلى هذا فلا يكون الصبي مسلمًا بعدم وجود أبويه في دارنا، وحكمه حكم غيره من الكفار في أحكام الذمي. وأما في الأحكام الأخرى ففيه الخلاف الطويل العريض في أحكام أطفال الكفار. والأدلة في ذلك مختلفة غاية الاختلاف. وعلى الجملة فالمسألة من مطارح الأنظار، ومسارح اجتهاد الأئمة الكبار. وقد حررت فيها في سالف الأيام بحثًا مطولًا. ¬

(¬1) في حاشية المخطوط ما نصه: لا يخفى أن اختيار هذه الإرادة يهدم ما دل عليه الحديث في ثبوت الإسلام حتى يبلغ عنه. (¬2) "لسان العرب" (12/ 542) ط: دار صادر- بيروت.

وإن كان المراد المعنى الرابع فلا شك أنه لا يصير متصفًا بوصف الكفر، لكونهما أبوين له، ولا بالملازمة المنقطعة قبل البلوغ؛ لأن تصييرهما له كذلك هو عند البلوغ، وعلى هذا فإذا وجد في دارنا دونهما صار مسلمًا؛ لأنه لم يحصل ذلك المعنى، بل يحكم عليه بالإسلام قبل بلوغه مطلقًا؛ لأن تهويده لم يحصل، وذلك يستلزم نزعه حال صغره، ولو كان الأبوان باقيين؛ لأن كونه في أيديهما يفضي به إلى الكفر، واللازم باطل فالملزوم مثله. أما الملازمة فلأن المفروض أنه مسلم قبل البلوغ، فكيف يقر في أيدي الكفار! وأما بطلان اللازم فلم يثبت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، ولا عن الصحابة، ولا عن سائر علماء الأئمة أنهم انتزعوا صبيان الكفار على اختلاف أنواعهم، مع وجود الأبوين، أو أحدهما، وأيضًا معنى الحديث وهو قوله: "يهودانه وينصرانه إلخ" لا يدل على ذلك المعنى؛ لأن الظاهر أنه يولد على تلك الصفة فيتعقبه تصيير الأبوين له كذلك. والضمير في قوله: يهودانه إلخ راجع إلى المولود، وإطلاق اسم المولود في عرف اللغة إنما يصح على من كان قريب العهد بها. هذا ما لاح للنظر القاصر بدون تحرير للنظر، ولا تكرير له، وإذا تصفحه المتأهل استفاد، ومنه ما هو الحق في المسألة، فليمعن سيدي الشرفي النظر في ذلك، وإذا عرضه فليعرضه على من له مسرح في المعارف الاجتهادية، ويتعذر إذا رأى فيه ما لا يناسب؛ فإني كتبته ورسوله قائم بالباب، والله أعلم بالصواب. انتهى من تحرير المجيب - حفظه الله-، وبارك لنا وللمسلمين في أيامه، إنه جواد كريم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.

حل الإشكال في إجبار اليهود على التقاط الأزبال

حل الإشكال في إجبار اليهود على التقاط الأزبال تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: (أ) 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: حل الإشكال في إجبار اليهود على التقاط الأزبال. 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، أحمدك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك. 4 - آخر الرسالة:" .... فربما كانت هذه الأحموقة محمودة عند الله تعالى. كمل من تحرير جامعه محمد بن علي الشوكاني حفظ الله به الدين وأقام به عمود الدين، وكان التحرير والجمع يوم الجمعة شهر القعدة سنة 1205 هـ وصليت على نبينا محمد وآله وصحبه آمين. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 7 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 23 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 23 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

وصف المخطوط: (ب) 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: إزالة الإشكال في إجبار اليهود على التقاط الأزبال. 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، أحمدك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآله وصحبه. قلتم طول الله مدتكم وحرس مهجتكم في مشرفكم. 4 - آخر الرسالة: ... مدينة صنعاء المحمية بالله تعالى، كتبه الفقير إلى الله عبد الرحمن بن أحمد البهلكي. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 6 صفحات ما عدا صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 28 سطرًا ما عدا الصفحة السادسة فعدد أسطرها 7 أسطر. 8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة. 9 - الناسخ: عبد الرحمن بن أحمد البهكلي. 10 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم أحمدك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي على رسولك وآله وصحبه. قلتم - طول الله مدتكم وحرس مهجتكم في مشرفكم-: هل من دليل يدل على إجبار اليهود على التقاط الأزبال؟ فأقول: لم أقف قبل كتب هذه الأحرف على كلام في ذلك لأحد من العلماء، وقد خطر بالبال حال زبر هذه الأحرف من الأدلة خمسة عشر دليلًا. الأول: قال الله تعالى:} حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ {(¬1) ضرب الله- جل جلاله-[لجواز] (¬2) مصالحة الكفار غاية هي إعطاء الجزية، وقيدها بالجملة الحالية (¬3) وهي قوله: وهم صاغرون، إشعارًا بأن مجرد إعطاء الجزية غير كاف في جواز الموادعة والمصالحة، وحقن الدماء، وجعلها اسمية تنبيهًا على دوام الصغار لهم وثباته كما ¬

(¬1) [التوبة: 29]. (¬2) زيادة من (أ). * على الصفحة الأولى من المخطوط (أ) ما نصه: هذا الجواب على سيدي العلامة الروح عيسى بن محمد بن الحسين حفظه الله تعالى. (¬3) قال الشوكاني في "السيل الجرار" (3/ 776 - 777): وجهه أن الله سبحانه قد قال في محكم كتابه: " حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " [التوبة: 29]. فهذه الجملة حالية قد أفادت أنه ينزل بهم ما فيه صغار في ملبوسهم وبيوتهم ومركوبهم، ونحو ذلك من شئونهم، ويمنعون مما يخالف الصغار، وهو التشبه بالمسلمين في ملبوسهم وبيوتهم ومركوبهم ونحو ذلك، وقد أخذ عليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه عهدًا ذكر فيه ما يعتمدون عليه في حالهم ومالهم ومساكنهم وكنائسهم، ومن جملته: أنهم لا يتشبهون بالمسلمين في ملبوساتهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر، وفيه أنهم يجزون مقاديم رءوسهم وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم، ولا يظهرون صليبًا ولا شيئًا من كتبهم في طريق المسلمين، وفيه أنهم لا يضربون ناقوسًا إلا ضربًا خفيفًا، ولا يرفعون أصواتهم بالقراءة في شيء في حضرة المسلمين، وهذا العهد العمري. انظر: "المحلى" (7/ 346 - 347).

قرره أئمة البيان، وصرح به العلامة في مواضع من كشافه (¬1)، وقرره السعد في جميع كتبه، واعتبار السكاكي، والشريف، وصاحب المجاز للمقامات غير قادح في المطلوب لقضاء المقام بذلك بلا نزاع فهو إجماع. وضمير الجماعة ظاهر في تعلق الحكم بكل فرد، فلا يصار إلى غيره إلا لموجب، وهذا على فرض تجرده عن الأدلة العاضدة لذلك الظاهر، أما مقام النزاع فهو فيه معقود بالنص والإجماع. وإهمال اعتباره فيما نحن فيه مستلزم لجواز تقرير بعض أهل الذمة على الصلح بلا جزية ولا صغار، وهو باطل. أما الأولى: فلأن هجر الظاهر موجب لعدم التعلق بالكل الإفرادي، وغايته التعلق بالمجموع من حيث هو، وأنه غير مناف لخروج البعض. وأما الثانية: فالنص والإجماع قاضيان قضاء لا ينكر ببطلان تقرير أهل الذمة في جزيرة المسلمين بلا قتال ولا جزية وصغار. إذا تقرر أن كل فرد من أفراد أهل الذمة لا ينفك عن الصغار بحكم الشرع، وأن الصغار هو الذلة والإهانة كما تقرر في اللغة (¬2) فدعوى اختصاصه ببعض ما فيه ذلك، أو بوقت دفع الجزية أخذًا بظاهر التقييد ممنوع؛ لأن الأولى تحكم محض. والثانية: تفت في عضدها أنه يصدق على الذمي أنه معط للجزية في جميع أوقات المصالحة، وإلا لزم بطلان مصالحته، [فأمانه] (¬3) في وقت عدم الإعطاء بالفعل وهو باطل، وهذا يعود إلى الخلاف في اشتراط بقاء المعنى في إطلاق المشتق (¬4). وقد تقرر [1] في الأصول أنه باعتبار الماضي حقيقة على قول، ومجاز على آخر، ¬

(¬1) انظر: "الكشاف" (3/ 32). (¬2) انظر: "لسان العرب" (7/ 352). (¬3) في (ب) وأمانه. (¬4) انظر: "إرشاد الفحول" (ص 97 - 98).

وباعتبار المستقبل مجاز بالاتفاق كما قرره العضد وشارح الغاية. قال سعد الملة في المطول ما لفظه: قلت: لا خلاف في أن اسم الفاعل والمفعول فيما لم يقع كالمستقبل مجاز، وفيما هو واقع كالحال حقيقة، وكذا الماضي عند الأكثرين. فانظر كيف جعل الماضي كالحال في أنه حقيقة، ونسبه إلى الأكثرين لا كما وقع في شرح الغاية من نسبة ذلك إلى أبي علي، وأبي هاشم، وابن سينا فقط. وقد نسبه الشلبي إلى الشافعية وعبد القاهر (¬1). وعلى الجملة فإن كل ما في القرآن والسنة من هذا القبيل إلا القليل النادر، وقد جود البحث في ذلك المحلي في شرح جمع الجوامع، وابن أبي شريف في حاشيته. إذا عرفت هذا علمت أن إعفاء اليهود عن التقاط الأزبال الذي هو أعظم أنواع الصغار وأهمها لا سيما مع استلزامه لإلصاق هذا العار الهادم لكل شعار بالمسلمين - لا محالة- يعود على الفرض المقصود من المصلحة الباعثة على المصالحة بالنقض، ويخدش [1 أ] في وجه تبلج الإسلام خدشًا تظهر للسرور به أسارير وجه الكفر، فلينظر المتفكر، وليتأمل المعتبر ما وسم به المسلمون من التقاط أزبال اليهود، وأي الفريقين صاحب الصغار عند مباشرة المسلمين لهذه النقيصة المشوهة} إنا لله وإنا إليه راجعون {(¬2) أي مذلة احتملها المسلمون، وأي ضعة ومهانة صبر عليها الأولون؟! الدليل الثاني: قال الله تعالى:} وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ {(¬3). وقال عز وجل:} ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ {(¬4). ¬

(¬1) انظر: "المحصول" (1/ 239)، "التقرير والتحبير" (1/ 162). (¬2) [البقرة: 156]. (¬3) [البقرة: 61]. (¬4) [آل عمران: 112].

قال جار الله الزمخشري (¬1) في تفسير الآية: جعلت [الذلة] (¬2) محيطة بهم، مشتملة عليهم، فهم فيها كما يكون في القبة من ضربت عليه، أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضرب لازب كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه. وقال (¬3) في تفسير الآية الثانية: والمعنى ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس، يعني ذمة الله وذمة المسلمين؛ أي: لا عز لهم قط إلا هذه الواحدة وهي التجاؤهم إلى الذمة لما قبلوا الجزية، ثم قال: وضربت عليهم المسكنة كما يضرب البيت على أهله، فهم ساكنون في المسكنة غير ظاعنين عنها، وهم اليهود عليهم لعنة الله وغضبه. انتهى. إذا تقرر هذا فربك - جل وعز- قد أخبرك في كتابه أن الذلة مضروبة على اليهود، دائمة لهم بدوامهم، شاملة لجميع الأشخاص في جميع الأزمان، على جميع الأحوال، وليس المراد بذلك الأمر [2] الخلقي الجبلي، بل المراد التسليط عليهم، فلا تزال الحوادث تطرقهم، والمصايب تتعاورهم على ممر الدهور، وتعاقب العصور، وليس المراد بالذلة المضروبة [الذلة الحاصلة بسبب خاص، أو ببعض معين؛ لأن ذلك تحكم لم يدل عليه دليل، بل المراد] (¬4) [إلا] (¬5) الذلة الناشئة عن أي سبب كان من الأسباب التي لم يمنع الشارع منها، فإجبارهم على الالتقاط محصل للذلة المضروبة، وكل محصل للذلة المضروبة جائز، فإجبارهم على الالتقاط جائز. أو يقال: التقاطهم للأزبال ذلة، وكل ذلة مضروبة عليهم، فالتقاطهم للأزبال مضروب عليهم، أو التقاطهم صادق عليه اسم الذلة، وكل صادق عليه اسم الذلة ¬

(¬1) في "الكشاف" (1/ 276). (¬2) في (أ) الدلالة. (¬3) أي الزمخشري في "الكشاف" (1/ 610). (¬4) زيادة من (أ). (¬5) زيادة من (ب).

مضروب عليهم، فالتقاطهم مضروب عليهم. أما الصغرى فلا شك أن الإجبار على مثل هذا الصغار من [أبلغ] (¬1) أنواع الذلة في العرف واللغة. وأما الكبرى فلعدم صحة إرادة ذلة مخصوصة لما عرفت، ويدل لعدم صحة هذه الإرادة قول الله تعالى:} وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ {(¬2) والمراد بالبعث التسليط كما ذكره العلامة (¬3)، ولا يخفى ما في الإضافة إلى العذاب المحلى من إباء إرادة المعين وما في جعل يوم القيامة غاية من الدلالة على عدم إرادة مخصوص. الدليل الثالث: قول الله تعالى:} لهم في الدنيا خزي {(¬4) قال جار الله (¬5): قتل، وسبي، أو ذلة بضرب الجزية. وقيل فتح مدائنهم قسطنطينية (¬6)، ورومية الكبرى، وعمورية. وأقول: تعين ما به الخزي لا يكون إلا توفيقًا أن يراد به خزي كثير، أو خزي عظيم ¬

(¬1) في (ب): أعظم أبلغ. (¬2) [الأعراف: 167]. (¬3) الزمخشري في "الكشاف" (2/ 526). (¬4) [البقرة: 114]. قال ابن جرير الطبري في "جامع البيان" (1 \ جـ 1/ 500): قوله: (لهم في الدنيا خزي) فإنه يعني بالخزي: العار والشر والذلة إما القتل والسباء، وإما الذلة والصغار بأداء الجزية. (¬5) يعني الزمخشري في "الكشاف" (1/ 313 - 314). (¬6) أخرجه ابن جرير الطبري في "جامع البيان" (1 \ جـ 1/ 501): عن السدي قوله: (لهم في الدنيا خزي) أما خزيهم في الدنيا: فإنهم إذا قام المهدي وفتحت القسطنطينية قتلهم فذلك الخزي، وأما العذاب العظيم: فإنه عذاب جهنم الذي لا يخفف عن أهله، ولا يقضى عليهم فيموتوا. وانظر: "الجامع لأحكام القرآن" (2/ 79).

على جعل التنكير للتكثير، أو للتعظيم، أو مجموعهما على جعله لمجموعهما، ولا يصح القصد إلى فرد من أفراد الخزي، أو إلى نوع منه، لعدم مناسبته لمقام هذا الوعيد الشديد. إذا تقرر ذلك فاليهود عليهم اللعنة أحق بالخزي العظيم، وما نحن فيه بالغ من العظم إلى غاية لا يقادر قدرها، على أن التنكير هاهنا فيه معنى العموم، وإن لم يصح تناوله للمجموع دفعة كما ذكره الأئمة في نظائره، فيكونون أهلًا لكل فرد من الأفراد الموجبة للخزي. ولا يخفى فيما تقدم [1 ب] المسند واللازم من المناسبة للمدعي [لما] (¬1) في المقام. الدليل الرابع: قول الله عز وجل مخاطبًا لرسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:} واغلظ عليهم {(¬2) يعني الكفار؛ أي: اغلظ على جنس الكفار، وعلى كل كافر. وخطابه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- خطاب لأمته. أما على القول بأن خطابهم يعم أمته إلا لدليل يدل على الفرق فواضح، وأما على القول بأن خطابه الخاص به لا يعم إلا لقرينة [3]، فالقرائن المقتضية لذلك في المقام لا تخفى على عارف، وإذا كان كل فرد من أفراد المسلمين مأمورًا بالغلظة على الكفار فكيف يتردد في جواز إجبار اليهود على الالتقاط وهم أعداء الدين وأهله. الدليل الخامس: ما وصف الله به أهل الإسلام من قوله:} أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين {(¬3)، فالعزة على الكفار على وجه الاستعلاء المشهور به من على وصف مادح للمؤمنين، الانخراط في سلكه أمر يرغب إليه كل نفس أبية، ويطلبه كل همة قسورية، وإن ما نحن فيه - لعمر أبيك- حقيق بأن يكون مقدم قافلة ركب العزة، وعنوان ذلك ¬

(¬1) زيادة من (ب). (¬2) [التوبة: 73]، [التحريم: 9]. (¬3) [المائدة: 54].

الشرف الذي ما صادف غير مجزه، فأي عزة لمسلم يعمد إلى جيوش اليهود، ويحمل أزبالهم! وأي فضيلة لإخوانه المسلمين المقرين له على ذلك العمل! الذي عورت به عين عزة الدين، وجدع به مازن شرفه، وقرت به عين ضلال اليهود! وقال لسان حال عداوتهم: انظروا أينا صاحب الصغار يا أولي الأبصار. وهكذا فلتكن غيرة الإسلام وحمية أهله التي لا تضام. الدليل السادس: أخرج الطبراني في الصغير (¬1) من حديث عمر، والدارقطني (¬2) من حديث عابد المزني مرفوعًا: "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه" وكل عاقل يعلم أن ملابسة المسلمين لهذه المهنة الخبيثة التي لا أوضع، ولا أفظع، ولا أشنع منها دينًا وعقلًا وعرفًا، مع امتناع اليهود منها تعذرًا واستخباثًا منافية للعلو الذي أخبر به الصادق المصدوق، وموجبة لعكس القضية، وكثير من الأخبار النبوية مراد به الإنشاء كحديث: "لا تغزى مكة بعد اليوم، لا يقتل قرشي بعد اليوم" (¬3) برفع لام يقتل " [والأمانة] (¬4) في الأزد، القضاء في الأنصار، الأذان في الحبشة، الخلافة في ................................. ¬

(¬1) (2/ 153 رقم 948 الروض الداني). قال الحافظ في (التلخيص) (4/ 231 رقم 2315) ورواه الطبراني في "الصغير" من حديث عمر مطولًا في قصة الأعراب والضب، وإسناده ضعيف جدًّا. (¬2) في "السنن" (3/ 252)، بسند حسن. قلت: وأخرجه البخاري في صحيحه معلقًا (3/ 218 - كتاب الجنائز باب رقم (79) إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه؟ قال الحافظ في "الفتح" (3/ 220): لم يعين البخاري القائل وكنت أظن أنه معطوف على قول ابن عباس فيكون من كلامه، ثم لم أجده من كلامه بعد التتبع الكثير ... ثم وجدته من قول ابن عباس كما كنت أظنه: ذكره ابن حزم في "المحلى" ... (¬3) أخرجه أحمد في "المسند" (3/ 412) والطحاوي في "مشكل الآثار" رقم (1508) والطبراني في "المعجم الكبير" (جـ 20 رقم 691) من حديث مطيع. وهو حديث حسن. (¬4) في المخطوط (القضاء) والصواب ما أثبتناه من مصدر الحديث.

قريش" (¬1). ونحو ذلك مما يكثر إيراده. وتخلف هذه في الواقع ضروري لا ينكر، وعدم تخلف الأخبار النبوية ضروري، فلهذا قلنا: إنها أخبار مراد بها الإنشاء. ولعل حديث: "الإسلام يعلو [ولا يعلى عليه] (¬2) " من هذا القبيل، فيكون في قوة أمر المسلمين بأن يجعلوه عاليًا ببذل الأنفس والأموال، والتشديد على عداء الله، وهو أدخل في الدلالة على المطلوب. الدليل السابع: أخرج مسلم (¬3) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه" (¬4). أمر- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الأمة بأن لا يدعوهم يمشون في وسط الطريق؛ لما في ذلك من ظهور العزة، وأمرهم بأن يضطروهم [4] إلى أضيقه إظهارًا لإذلالهم، وإهانتهم وكراهة لمساواتهم المسلمين في جادة الطريق. وفحوى الخطاب ولحنه قاضيان بمنعهم عن ¬

(¬1) أخرج أحمد في "المسند" (2/ 364) عن أبي مريم أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الملك في قريش، والقضاء في الأنصار، والأذان في الحبشة والسرعة في اليمن" وقال زيد - ابن الحباب- مرة يحفظه: "والأمانة في الأزد". * ورجاله رجال الصحيح غير أبي مريم وهو الأنصاري، فقد روى له أبو داود والترمذي وهو ثقة. واختلف في وقفه ورفعه، والموقوف أصح. (¬2) زيادة من (ب). (¬3) في صحيحه رقم (2167) وأحمد (2/ 436) وأبو داود رقم (5205) من حديث أبي هريرة. قال القرطبي في "المفهم" (5/ 490): إنما نهى عن ذلك لأن الابتداء بالسلام إكرام، والكافر ليس أهلًا لذلك، فالذي يناسبهم الإعراض عنهم وترك الالتفات إليهم، تصغيرًا لهم، وتحقيرًا لشأنهم، حتى كأنهم غير موجودين. (¬4) قال القرطبي في "المفهم" (5/ 490): أي: لا تنتحوا لهم عن الطريق الضيق إكرامًا لهم واحترامًا، وعلى هذا فتكون هذه الجملة مناسبة للجملة الأولى في المعنى والعطف، وليس معنى ذلك أنا إذا لقيناهم في طريق واسع أننا نلجئهم إلى حرفة حتى نضيق عليهم؛ لأن ذلك أذى منا لهم من غير سبب، وقد نهينا عن أذاهم

مساواة المسلمين في مثل هذه الخصلة، وفيما هو أشد ضرارًا منها على المسلمين، ولا يشك عاقل أن هذه الرذيلة التي نحن بصددها أشد وأشد، بل بين الخصلتين مسافات تنقطع فيها أعناق الإبل، ويبكي لها الإسلام بملء جفونه، والله المستعان. الدليل الثامن: ثبت تواترًا أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أخرج بني النضير من ديارهم لما في ذلك [2 أ] من المصلحة للمسلمين (¬1). وقد قرن الله الخروج من الديار بقتل الأنفس، فإذا كانت مراعاة المصلحة مجوزة للإجبار لهم بمثل هذا الأمر العظيم فكيف لا يجوز إجبارهم بما هو دونه بمراحل في إضرار المجبرين، وفوقه بدرجات في الصلاح. الدليل التاسع: حديث: "نزلوا الناس منازلهم" (¬2) وأدلة الكتاب والسنة والإجماع قاضية بأن منزلة المسلم أرفع من منزلة الكافر، فينبغي أن يعطى المسلم من المكاسب ما يليق بدرجته العلية، ويعطى الكافر منها ما يليق بمرتبته الدنية، فإذا قدرنا على ذلك وجب علينا ذلك التنزيل المأمور به، وإجبار من لم يمتثل من الكفار مقدمة للواجب، وكل مقدمة للواجب واجب، فإجبار من لم يمتثل واجب. الدليل العاشر: أخرج البخاري (¬3) ومسلم (¬4) .............................. ¬

(¬1) انظر تفصيل ذلك في "فتح الباري" (7/ 329 - 334). (¬2) أخرجه أبو داود رقم (4842). عن ميمون بن أبي شبيب، أن عائشة مر بها سائل، فأعطته كسرة، ومر بها رجل عليه ثياب وهيئة، فأقعدته، فأكل، فقيل لها في ذلك؟ فقالت: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أنزلوا الناس منازلهم". وهو حديث ضعيف. انظر "الضعيفة" (1894). ولكن أخرج أبو داود في "السنن" رقم (4843) عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط". وهو حديث حسن. (¬3) في صحيحه رقم (13). (¬4) في صحيحه رقم (45).

والترمذي (¬1) [والنسائي (¬2)] (¬3) عن أنس مرفوعًا: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وهؤلاء المباشرون لهذه النجاسات قد جمعتنا وإياهم أخوة الإسلام، وإيماننًا لا ثبوت له حتى نحب لهم ما نحب لأنفسنا، ومجرد المحبة القلبية مع عدم إبلاغ الجهد في إيصال ما نحبه له به لا سيما مع قدرتنا عليه ليس هو الذي ندب إليه الشارع وحض عليه. ولا شك في وجوب إزالة المانع عن الأمور التي لها أصل في الوجوب فكيف بالإيمان! فإذا لم يحل بيننا وبين إيماننا إلا إجبار هؤلاء الملاعين على هذا الأمر فالخطب يسير، والحائل حقير، وكيف يصح من القادر على إنفاذ الأوامر أن يدعي أنه ممن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وهو يرى إخوانه المسلمين في حشوش (¬4) اليهود وشوارعهم، يلتقطون العذرات، ويجرون على شرف الإسلام الرفيع هذه المذلات. الدليل الحادي عشر: ما استنبطه الأمير الحسين في الشفاء (¬5)، والإمام المهدي في الغيث (¬6) من حديث: "أخرجوا اليهود من الحجاز [5] " (¬7) قالا: لما قال أخرجوهم ¬

(¬1) في "السنن" رقم (2515). (¬2) في "السنن" (8/ 125). (¬3) زيادة من (أ). (¬4) حشوش وحشون: بالفتح، النخل الناقص القصير، ليس بمسقي ولا معمور. "القاموس" (ص 761). (¬5) (3/ 569). (¬6) تقدم تعريفه. (¬7) أخرجه أحمد (1/ 195، 196) والبيهقي (9/ 208) والحميدي في مسنده (1/ 46 رقم 85) بإسناد صحيح. من حديث أبي عبيدة بن الجراح قال: آخر ما تكلم به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "أخرجوا اليهود من الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب. وفي لفظ: أخرجوا يهود أهل الحجاز". وانظر الرسالة رقم (14) من "عون القدير من فتاوى ورسائل ابن الأمير" بتحقيقي.

من جزيرة العرب (¬1) ثم قال: أخرجوهم من الحجاز عرفنا أن مقصوده بجزيرة العرب الحجاز فقط، ولا مخصص للحجاز عن سائر البلاد إلا أن رعاية المصلحة في إخراجهم منه أقوى، فوجب مراعاة المصلحة إذا كانت في تقريرهم أقوى منها في إخراجهم. ولا شك أن امتناعهم من القيام بهذه العهدة التي هي رأس المصالح قادح في جواز التقرير، قادح. قال في الغيث (¬2): هذا أقوى ما يحتج به أصحابنا في جواز تقريرهم في بلاد العرب. انتهى. وهذا الاستدلال وإن كان فيه عندي نظر من وجوه ليس هذا محل إيرادها إلا أنه هو الدليل الذي بنيت عليه القناطر عند المتأخرين. وأما تخصيص الأمر بالإخراج بالحجاز فقد ذهب إليه جماعة من العلماء (¬3)، ونصره العلامة المغربي الحسين بن محمد صاحب البدر، وألف في ذلك رسالة نفيسة، ولكنه إذا نظر المنصف إلى أن آخر ما تكلم به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "أخرجوا اليهود من جزيرة العرب" (¬4) وأمعن النظر في المسألة الأصولية - أعني بناء العام على الخاص على جميع التقادير-، أو بناه على بعضها دون ¬

(¬1) أخرجه أحمد (1/ 222) والبخاري رقم (3053) ومسلم رقم (20/ 1637) من حديث ابن عباس قال: اشتد برسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجعه يوم الخميس وأوصى عند موته بثلاث: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم" ونسيت الثالثة. والشك من سليمان الأحول. * وأخرج البخاري في صحيحه رقم (3152) من حديث ابن عمر: أن عمر أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز، وذكر يهود خيبر إلى أن قال: أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء. (¬2) تقدم تعريفه. (¬3) قال الحافظ في "الفتح" (6/ 171): الذي يمنع المشركون من سكناه منها الحجاز خاصة وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها. لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم جزيرة العرب، لاتفاق الجميع على أن اليمن لا يمنعون منها مع أنها من جملة جزيرة العرب، وهو مذهب الجمهور، وعن الحنفية يجوز مطلقًا إلا المسجد، وعن مالك يجوز دخولهم الحرم للتجارة، وقال الشافعي: لا يدخلون الحرم أصلًا إلا بإذن الإمام لمصلحة المسلمين خاصة. (¬4) تقدم تخريجه.

بعض. وتأمل ما ثبت في الحديث بلفظ: "لا يجتمع دينان" (¬1)، "لا يبق دينان بأرض العرب" (¬2). "لا تجتمع قبلتان" (¬3). "المسلم والكافر لا تتراءى ناراهما" (¬4) عرف العلة [2 ب] التي هي الباعثة على الأمر بالإخراج، وعرف الزيادة التي يجب قبولها عند كمال شروطها بالاتفاق في أي الجانبين هي، وتبين له لزوم الإلحاق بالعلة المنصوصة، ولاح له أن مفهوم حديث "أخرجوا اليهود من الحجاز" لا يعارض منطوق ما في الصحيحين وتقرير الأدلة على وجه يلوح به رجحان وجوب (¬5) إخراجهم من جميع جزيرة العرب ¬

(¬1) أخرجه أحمد (6/ 275). من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: آخر ما عهد رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن قال: "لا يترك بجزيرة العرب دينان". وهو حديث صحيح لغيره. (¬2) أخرجه مالك في "الموطأ" (2/ 892). (¬3) أخرجه أحمد (1/ 223) وأبو داود رقم (3032). من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا تصلح قبلتان في أرض، وليس على مسلم جزية". وهو حديث ضعيف. (¬4) أخرجه أبو داود رقم (2645). من حديث جرير بن عبد الله أن رسول الله بعث سرية إلى خثعم فاعتصم ناس بالسجود، فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأمر له بنصف العقل وقال: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. قالوا: يا رسول الله: ولم؟ قال: لا تتراءى ناراهما". وهو حديث صحيح دون جملة [العقل]. (¬5) قال الشوكاني في "نيل الأوطار" (5/ 241): هذا الحديث الذي فيه بالإخراج من الحجاز فيه الأمر بإخراج أهل نجران كما وقع في حديث - ابن عباس- وليس نجران من الحجاز، فلو كان لفظ الحجاز مخصصًا للفظ جزيرة العرب على انفراده، أو دالًّا على أن المراد بجزيرة العرب الحجاز فقط، لكان في ذلك إهمال لبعض الحديث، وإعمال لبعض، وإنه باطل. وأيضًا غاية ما في حديث أبي عبيدة الذي صرح فيه بلفظ: الحجاز. أن مفهومه معارض لمنطوق ما في حديث ابن عباس المصرح فيه بلفظ جزيرة العرب، والمفهوم لا يقوي على معارضة المنطوق، فكيف يرجح عليه؟ فإن قلت: فهل يخصص لفظ جزيرة العرب المنزل منزلة العام لما له من الإجزاء بلفظ الحجاز عند من جوز التخصيص بالمفهوم. قلت: هذا المفهوم من مفاهيم اللقب وهو غير معمول به عند المحققين من أئمة الأصول حتى قيل: إنه لم يقل به إلا الدقاق، وقد تقرر عند فحول أهل الأصول: أن ما كان من هذا القبيل يجعله من قبيل التنصيص على بعض الأفراد لا من قبيل التخصيص إلا عند أبي ثور. * أهل الحجاز: الحجاز: مكة، والمدينة، والطائف، ومخاليفها؛ لأنها بين نجد وتهامة، أو بين نجد والسراة، أو: لأنها احتجزت بالحرار الخمس، حرة بني سليم، وواقم، وليلى، وشوران، والنار. "القاموس" (ص 653).

محتاج إلى بسط طويل يخرجنا عن المقصد الذي نحن بصدده. والدليل الثاني عشر: أن ملاحظة المسلمين إذا لم تتم إلا بإتعاب النفوس، وتقحم المشاق فليس الأمر بذلك بدعة لما ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من أمر المهاجرين والأنصار بحفر الخندق. وعزة الإسلام التي هي رأس المصالح الدينية إذ لم تتم إلا بإجبار اليهود فهي أولى بالجواز من حفر الخندق. فإن قلت: إذا كانت المصلحة موجبة لمثل هذا فلم لا يكون تقرير المسلمين على ذلك من هذا القبيل. قلت: في التقرير مفسدة عظمية، والمصالح مطرحة بجنب المفاسد. وقد صرح أئمة الأصول كابن الحاجب في المختصر (¬1)، والسبكي في جمع الجوامع (¬2)، وابن الإمام في الغاية (¬3) وغيرهم أن المناسبة (¬4) تنخرم بلزوم مفسدة [6] راجحة أو مساوية، ولم يخالف ¬

(¬1) (2/ 239). (¬2) (2/ 274). (¬3) تقدم التعريف به. (¬4) المناسبة ويعبر عنها بالإخالة وبالمصلحة وبالاستدلال وبرعاية المقاصد ويسمى استخراجها تخريج المناط وهي عمدة كتاب القياس ومحل غموضه ووضوحه والمناسبة في اللغة الملائمة والمناسب الملائم. انظر تفصيل ذلك في "البحر المحيط" (5/ 220). قال في "البحر المحيط" (5/ 220): اختلفوا هل تنخرم المناسبة بالمعارضة التي تدل على وجود مفسدة أو فوات مصلحة تساوي المصلحة أو ترجح عليها على قولين: 1 - أنها تنخرم وإليه ذهب الأكثرون واختاره الصيدلاني وابن الحاجب لأن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح ولأن المناسبة أمر عرفي والمصلحة إذا عارضها ما يساويها لم تعد عند أهل العرف مصلحة. 2 - أنها لا تنخرم واختاره الرازي في "المحصول" (5/ 168) والبيضاوي في "المنهاج" (2/ 691).

في ذلك إلى الرازي (¬1) كما حكاه في جمع الجوامع (¬2) وشرحه، وهو البعض الذي أشار إليه ابن الإمام في شرح الغاية (¬3)، وأنت تعلم أنه لا مفسدة في أمر اليهود بذلك. الدليل الثالث عشر: قد تواترت أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا شك أن أمر المسلمين بالكف عن ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما واجبان. فإذا لم يتم هذا الواجب إلا بإجبار اليهود فما لا يتم الواجب إلا به واجب كوجوبه على ما تقرر في الأصول (¬4) في مقدمة الواجب. الدليل الرابع عشر: أن حفظ الدين [أحد] (¬5) الضرورات الخمس (¬6) المعروفة في ¬

(¬1) في "المحصول" (5/ 168). (¬2) (2/ 274). (¬3) تقدم التعريف به. (¬4) انظر "الكوكب المنير" (1/ 357). (¬5) في (ب): من. (¬6) وهي: 1 - حفظ النفس بشرعية القصاص لقوله تعالى: " ولكم في القصاص حياة} [البقرة: 179]. 2 - حفظ المال بأمرين: أ- إيجاب الضمان على المتعدي فإن المال قوام العيش. ب- القطع بالسرقة: لقوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما" [المائدة: 38]. لقوله تعالى: "ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " [البقرة: 188]. 3 - حفظ النسل بتحريم الزنى وإيجاب العقوبة عليه بالحد. قال تعالى: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة" [النور: 2]. 4 - حفظ الدين بشرعية القتل بالردة والقتال للكفار. 5 - حفظ العقل بشرعية الحد على شرب المسكر فإن العقل قوام كل فعل تتعلق به المصلحة فاختلاله يؤدي إلى مفاسد عظيمة. انظر: "البحر المحيط" (5/ 208)، "إرشاد الفحول" (ص 716).

الأصول، وهو أيضًا القسم الأول من أقسام المناسب وأعلاه في إفادة الظن وأقواه، ولا يحفظ دين أولئك المسلمين إلا بمنعهم من ذلك، وأما تقريرهم على ذلك فمناسب ملغى (¬1) ومعارض بمفاسد، وأمر اليهود بعد تسليم فقد الأدلة مناسب مرسل ملائم (¬2) إن لم يدع أنه ضروري، فعلى فرض [أنه لا] (¬3) دليل في المقام هذا الدليل فيه كفاية عند من له إلمام بالأصول، وتدرب [في طرائق] (¬4) الفحول. الدليل الخامس عشر: هب أن لا دليل يدل على الحتم ففي حديث: "لأن يهدي الله بك رجلًا" (¬5) دليل على جواز الإجبار، بل على الندب لتحقق الإثابة على الفعل، وأمن المخافة من العقاب فيه لعدم المانع. والنفوس الشريفة لا تزال راغبة في اقتناص شوارد [الأجور] (¬6)، مشجعة على قطع ما يحول بينها وبينه، باذلة الوسع في دركه، وأنتم بحمد الله ................................... ¬

(¬1) ما علم من إلغاء الشرع له كما قال بعضهم بوجوب الصوم ابتداء في كفارة الملك الذي واقع في رمضان؛ لأن القصد منها الانزجار وهو لا ينزجر بالعتق فهذا وإن كان قياسًا لكن الشرع ألغاه حيث أوجب الكفارة مرتبة من غير فصل بين المكلفين فالقول به مخالف للنص فكان باطلًا. انظر: "إرشاد الفحول" (ص 721)، "الكوكب المنير" (4/ 180). (¬2) وهو ما لا يعلم اعتباره ولا إلغاؤه، وهو الذي لا يشهد له أصل معين من أصول الشريعة بالاعتبار وهو المسمى بالمصالح المرسلة. وقد اشتهر انفراد المالكية بالقول به. قال الزركشي في "البحر المحيط" (5/ 215): وليس كذلك فإن العلماء في جميع المذاهب يكتفون بمطلق المناسبة ولا معنى للمصلحة المرسلة إلا ذلك. انظر: "إرشاد الفحول" (ص 721 - 722). (¬3) في (ب): ألا. (¬4) في (ب): بطرائق. (¬5) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (3/ 598) من حديث أبي رافع قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يا علي: لأن يهدي الله على يديك رجلًا خير لك مما طلعت عليه الشمس". (¬6) في (ب) الأمور.

[ممن] (¬1) لا يدرك شأوه، ولا يشق غباره، فقد سبقتم إلى مضمار كل مكرمة سبقًا أتبعتم به من رام اللحوق فما باراكم في هذا الحلبة أحد إلا جلب على نفسه عار القصور، ودعا [3 أ] إلى تسميته بالتبكيت واللطيم بين الجمهور، وفي هذا المقدار من الأدلة كفاية، فإن صادف القبول فبها ونعمت وإن لم يلاحظ بعين الرضا أفضلتم بالإفادة بما يعرف به القاصر قصور ما بناه من بيوت هذه الأدلة، وإشادة. فمنكم يستفاد وعليكم يعول النقاد، وأهدي التمر إلى هجر، وإن كان طليعة من طلائع الحماقة فربما كانت هذه الأحموقة محمودة عند الله تعالى. [كمل من تحرير جامعه محمد بن علي الشوكاني حفظ الله به الدين، وأقام به عمود الدين، وكان التحرير والجمع في يوم الجمعة شهر القعدة سنة 1205. خمس ومائتين وألف عام. وصليت على نبينا محمد وآله وصحبه آمين] (¬2). [حرره جامعه في يوم الجمعة في شهر ذي القعدة سنة 1205. وأقول كتبه من خط مؤلفه حفظه الله، وتم زبره ليلة الأربعاء وقت العشاء لعلها ليلة الثلاثين من شهر محرم الحرام افتتاح سنة 1209 لمحروس مدينة صنعاء المحمية بالله تعالى كتبه الفقير إلى الله عبد الرحمن بن أحمد البهكلي] (¬3). ¬

(¬1) في (أ) من. (¬2) زيادة من (أ). (¬3) زيادة من (ب).

توضيح وجوه الاختلال في إزالة الإشكال في إجبار اليهود على التقاط الأزبال

توضيح وجوه الاختلال في إزالة الإشكال في إجبار اليهود على التقاط الأزبال حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب على صفحة الغلاف: "هذا الجواب لبعض علماء صنعاء حرره لما وقف على الرسالة المتقدمة، وسيأتي الجواب عن هذا الجواب إن شاء الله.".

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: توضيح وجوه الاختلال في إزالة الإشكال في إجبار اليهود على التقاط الأزبال. 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم حمدًا لمن تفرد بالكلام وعز جلاله فلا نقص يجوز عليه ولا اختلال 4 - آخر الرسالة: والمسارعة إلى الخيرات وإلى مضاعفة الحسنات والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل وتمت ثم بهذا الجواب. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 8 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرًا ما عدا الصفحة الأولى فعدد أسطرها 18 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم حمدًا لمن تفرد بالكلام، وعز جلاله فلا نقص يجوز عليه ولا اختلال، والصلاة والسلام على صفيه من خلقه، من جميع حميد الخلال، وعلى آله وأصحابه المهتدين بهديه في الأقوال والأفعال، وبعد: فإني وقفت على رسالة (¬1) لبعض علماء الحصن، جعلها جوابًا على مذاكرة دارت بينه وبين بعض علماء عصره الأخيار، سماها (حل الإشكال في إجبار اليهود على التقاط الأزبال)، وهي من النفاسة بمحل إلا أن بعض أبحاثها غير خال عن زلل أو خلل، كما هو شأن غير الخلاق العليم المفصح عنه الذكر الحكيم بقوله: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا} (¬2)، ولما كان الدين النصيحة كما ثبت عن المختار في صحيح الأخبار، كما في حديث جرير عند مسلم (¬3) وغيره (¬4) بلفظ: "الدين النصيحة لله ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم" هكذا لفظه أو معناه، بعثني على التنبيه على تلك الأبحاث، عملًا بمقتضى ذلك الحديث وغيره. قال بعض شراح الحديث: إن الراوي إذا بايع أحدًا في سلعة، ورضي له بدون الثمن المعروف يقول له: إن ثمن سلعتك كذا، فرحم الله من أمحض أخاه المسلم النصح، ولم يسكت عما فيه زلل، جعلنا الله ممن اقتدى بصالح السلف بحوله وقوته. ولنقدم مقدمة تتضمن آثارًا عن صالحي السلف، قاضية بتورعهم فيما لا نص عليه نبوي، ما ذاك إلا لخطر الأمر، وأن الإحجام خير من الإقدام. ¬

(¬1) الرسالة رقم (167). (¬2) [النساء: 82]. (¬3) في صحيحه رقم (55). (¬4) كالنسائي (7/ 156) وأبو داود رقم (4944) والترمذي رقم (1926) وقال: حديث حسن صحيح. من حديث تميم الداري. وهو حديث صحيح.

روي عن ابن مسعود وحذيفة أنهما كانا جالسين، فجاء رجل، فسألهما عن شيء فقال ابن مسعود لحذيفة: لأي شيء ترى تسألوني عن هذا؟ قال: يعلمونه ثم يتركونه، فأقبل إليه ابن مسعود وقال: ما سألتمونا عن شيء من كتاب الله نعلمه إلا أخبرناكم به، أو سنة من نبي الله [1] إلا أخبرناكم، ولا طاقة لنا بما أحدثتم. وقال عطاء: لما سئل عن شيء فقال: لا أدري، فقيل له: ألا تقول برأيك؟ قال: إني لأستحي من الله أن يدان في الأرض برأيي. وكان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم في ذلك سنة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين، فقال: أتاني كذا وكذا، فإن لم يجد عندهم سنة، جمع رءوس الناس وخيارهم، فإن أجمع رأيهم على أمر قضى به. وقال أمير المؤمنين عليه السلام: وأبردها على الكبد إذا سئلت عما لا أعم أن أقول: الله أعلم (¬1). وجاء رجل إلى ابن عمر يسأله عن شيء فقال: لا علم لي، ثم التفت بعد أن قفى الرجل، فقال: نعم، قال ابن عمر: سئل عما لا يعلم فقال: لا علم لي؛ يعني نفسه (¬2). قال ابن عباس لما رأى طاوسًا يصلي ركعتين بعد العصر، فقال ابن عباس: اتركهما، فقال طاوس: إنما نهى عنها أن تتخذ سلمًا، قال ابن عباس: فإنه قد نهى عنها فلا أدري أتعذب عليها أم تؤجر؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (¬3). ¬

(¬1) أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" رقم (1569). (¬2) أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" رقم (1566) بسند صحيح. (¬3) [الأحزاب: 36]. أخرجه ابن كثير في تفسيره (6/ 423) وابن أبي حاتم في تفسيره (9/ 3134 - 3135 رقم 17688)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/ 610) وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي وعبد الرزاق. فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد هاهنا، ولا رأي، ولا قول.

وكم لهذه الآثار من نظائر عن السلف من التحرج عن الإقدام، وإنما ذكرنا هذه النبذة ليقتدي بهم العالم العامل، ويهتدي بهديهم، ولنعد إلى ما نحن بصدده. قال - عافاه الله-: قلتم: هل من دليل يدل على إجبار اليهود على التقاط الأزبال؟ فأقول: لم أقف قبل رقم هذه الأحرف على كلام في ذلك لأحد من العلماء، وقد خطر بالبال حال زبر هذه الأحرف خمسة عشر (¬1) دليلًا أقول: هذا اعتراف منه بعدم النص لأحد من العلماء، إنما هذه الأدلة من مستنبطاته، مع أنه نقل في غصون الأدلة ما يقضي الاستناد إلى أقوال العلماء، الذين استظهر بكلامهم كما ستعرفه. قال: الدليل الأول: قال الله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (¬2) وذكر كلامًا طويلًا حاصله دلالة الآية أن إعطاء الجزية غير كاف لتقييده بالصغار وثباته، واستظهر بكلام الكشاف (¬3) والسعد على ذلك، وأن متعلقها الكل الإفرادي، فلا بد من الجزية من كل فرد صاغرًا لا الكل المجموعي، وأن الصغار هو الذلة والإهانة. ثم قرر أن الصغار دائم في جميع الأوقات. ونقل الكلام المعروف لأهل الأصول، وكل هذا ديدنه حول ما يريده من إجبار اليهود على التقاط الأزبال. وأقول: لا يشك ذو مسكة ودربة أن الآية الكريمة تدل بمنطوقها على أن اليهود يقاتلون حتى يعطوا الجزية، وبعد إعطاء الجزية يكف عنهم، ثم قيد هذه الجملة بقوله [2]: {وهم صاغرون} والمعروف في العربية أن الحال قيد في عاملها، وصدق ¬

(¬1) انظرها في الرسالة رقم (166). (¬2) [التوبة: 29]. (¬3) (3/ 32).

اسم الفاعل من بعد تقضيه على من أطلق عليه حقيقة كما استظهر به لا يفيده فيما يريده من الاستدلال؛ فإن الذمي إذا أعطى الجزية وهو صاغر فقال: صدق عليه الصغار، ودام عليه بإعطاء الجزية، وما صحبها من الصغار، فلا اشتراط أن يخلفه صغار آخر من التقاط الأزبال، أو نحوه، كما أراده، ثم إن الصغار هو الذل كما قاله المفسرون، وأئمة اللغة. وقال في القاموس (¬1) الصغر كعنب والصغارة بالفتح خلاف العظم الأولى في الحرم، والثانية في القدر، وصغر ككرم وفرح صغارًا وصغر كعنب، وصغر محركة، وصغرانًا بالضم انتهى المراد. وقال خير الأئمة (¬2) المقدم في التفسير على الأئمة في تفسير الصغار أن تقبض الجزية من اليهودي، وتوجئ عنقه، وكذا عن غيره (¬3) من المفسرين نحوه لم يذكر خصوص هذا الالتقاط. وقال الإمام المهدي عليه السلام في البحر الزخار (¬4): مسألة: ويلزمهم إصغارهم عند العطاء لقوله: {وهم صاغرون} قيل: معناه أن يطأطئ الذمي رأسه، ونصب الجزية، وكف المستوفي بلحيته إن كانت، ويضرب بيده في لهازمه. وقيل: أن يعطي الجزية قائمًا، والمستوفي قاعدًا، وقيل: يعطيها باليمين، والمستوفي يأخذها بالشمال، وهذه الكيفيات مستحبة، إذ لا يجب من العقوبات إلا الحدود. وقيل: معناه إجراء أحكام الإسلام عليهم، وامتثال ما قضى به حكامنا انتهى. نعم، وكل هذا لا يدل على خصوص المدعى من الأخبار على الالتقاط لا لغة ولا شرعًا، وما كأنه أراد إلا أن التقاط شيء ما يتم معنى الآية إلا به، فإن أراد أن الآية عموم، وأن المراد كل صغار حتى يدخل الالتقاط في الجملة فأين صيغة العموم؟ وإن أراد أن الصغار المراد في الآية هو الالتقاط فلا بد من نقل عليه إما لغوي أو شرعي، وأما ما ¬

(¬1) (ص 545). (¬2) انظر "تفسير القرآن العظيم" (4/ 133)، "جامع البيان" (6/ جـ10/ 110). (¬3) انظر "الجامع لأحكام القرآن" (8/ 115). (¬4) (5/ 459).

أدلى به وشنع من تخصيص المسلمين بهذه الرذيلة فغير محل النزاع. ونقول له: هل أمر النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بالتقاط الأزبال؟ وهل كتب به العهود؟ وهل أمر به الصحابة والخلفاء من بعده أم كان يكتفي منهم بالجزية لا سواها؟ ولم يؤمروا برفع القمامات وإزالة الأوساخ، وقد كانت الآية نزلت ولم يفهم منها خير الخلائق، ولا أهل بيته وأصحابه ما فهمه - عافاه الله منها-، وقد جاء في كلامه بملازمة عقلية ظاهرها عدم الانفكاك حيث قال: إن إعفاء اليهود من ذلك يستلزم إلصاق هذه العارة بالمسلمين، ولا يخفى بطلان الملازمة، فإن إعفاء اليهود ممكن مع إعفاء المسلمين، والعدول إلى إيقاد الحطب أو اتخاذ ما بقي فلا [3] ملازمة، فلا يخفى ما في كلامه من التهافت. ثم قال: الدليل الثاني: قال الله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} (¬1) وقال: {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا} (¬2). ونقل كلام الكشاف (¬3)، لكنه لا يدل على خصوص مدعاه لا بالنص ولا بغيره. وأقول: أول ما نورده عليه الاستفسار هل الآية إخبار من الله تعالى بإنزال العقوبة بأعداء الدين، بسبب خذلهم خلص المؤمنين، وتسلية لهم عما نالهم من أذاهم، لئلا يحزنوا ولا تجرح صدورهم؟ بأن العقوبة لاصقة بهم مكافأة على ما فعلوه بضرب الذلة التي من جملتها إعطاء الجزية والفقر والمسكنة. قال القاضي في تفسيره: فإنك تجد أكثر اليهود فقراء ومساكين، وإذا كان إخبارًا كما هو ظاهره فلا تكليف به على أحد، بل لو وقعت تلك العقوبة من غير المسلمين لما كانوا مخلين بواجب تركوه، فكيف يقال إنه يجب إجبار اليهود على ذلك الالتقاط ¬

(¬1) [البقرة: 61]. (¬2) [آل عمران: 114]. (¬3) (1/ 276 و610).

لتحصيل ما دلت عليه الآية! وهل كانت زمن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- خالية على المدلول حتى اخترع في الزمن الأخير أن توقد المستحمات بالأزبال؟ إن هذا لشيء عجاب. وإن قال: إن الآية خبر في معنى الأمر (¬1) فباطل بمثل ما بطل به الأول؛ لأنه لم يأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ولا أصحابُه، اليهودَ بالالتقاط تحصيلًا لما دلت عليه الآية، وإلا كانوا غير ممتثلين، فإن قال: هو عام لكل ذلة وهذا من الجملة فقد حصل الإخلال، وإن قال هو خاص فأين دليله من لغة أو شرع. وقد ركب قياسًا منطقيًّا من الشكل الأول البدهي الإنتاج، لكنه مختل وقد أخذه مما استنبطه من الآية فقال: إجبارهم على الالتقاط محصل للذلة وكل محصل للذلة جائز. فإجبارهم على الالتقاط جائز. فيقال له أولًا: إن أردت أنا مكلفون بما دلت عليه الآية فإنه خبر في معنى الأمر، فالكبرى ممنوعة، بل يجب إبدالها بقوله: وكل محصل للذلة واجب، فينسخ أن إجبارهم على الالتقاط واجب؛ لأن الأمر للوجوب لا للجواز كما عرف في الأصول عند الجمهور، ولا يخفى أنها إن سلمت الكبرى، وهو الحتم على كل مكلف، بل ما يحصل به الذلة لليهود من مأكل، ومشرب، وملبس، ومسكن على كل حال، وفي أي زمان من كل فرد مع اختلاف الأحوال، والأشخاص، والأزمان والأمكنة، والأعراف. ولهذه الكلية لا تنعقد لهم ذمة، ولا يتم لهم صلح، كيف وقد ثبتت مصالحتهم من سالف الأعصار في كل الأقطار، وثبتت معاملتهم لخير القرون في البيوعات وغيرها بما يطول شرحه، حتى تأجير المسلمين منهم، وقد مات خير خلق الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وسلم [4] ودرعه مرهونة في آصع من شعير كما ثبت في الصحيح (¬2). ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (168). (¬2) البخاري في صحيحه رقم (2066) من حديث أنس.

ولم يناف عزة الإسلام، وإهانة الكفر وأهله. وقد لزم مما قرره المجيب في دليله هذا الباطل وما لزم عنه الباطل فباطل. ويقال له أيضًا: كبرى القياس ممنوعة، وسند المنع مصادمتها للنصوص الصريحة إذ يلزم من تلك الكلية نهب أموالهم، وسفك دمائهم، وسبي ذراريهم، ومنعهم طيبات أموالهم من مأكل ومشرب وغير ذلك؛ إذ هو محصل للذلة، واللازم باطل فالملزوم مثله. ولنا أن نعارض ذلك القياس بقياس من الشكل الأول بأن نقول: إجبارهم على الالتقاط غير ما دون فيه من الشارع، وكل ما لم يأذن به الشارع حرام، فإجبارهم على الالتقاط حرام، ثم ذكر قياسين آخرين ظاهري الاختلال بمثل ما ظهر به الأول، وذكر في سند كلية الكبرى دليلًا من الكتاب، وهو قوله تعالى: {وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم} (¬1) الآية. ويريد أن سوء العذاب عام، وأنه يدخل تحته ما استنبطه من الإجبار على الالتقاط، وهو مبني على أنا مكلفون بما أخبر الله به من إنزال العقوبة بهم، وفيه ما في الأول فلا نكرره (¬2). ثم قال: الدليل الثالث: قال الله تعالى: {لهم في الدنيا خزي} (¬3) وفسر الآية بما هو يدندن حوله، وإلا فالتفاسير مروية عن السلف من الجزية، والسبي، والقتل إن لم يكن توقيفًا، فما صدق عليه الخزي كافٍ، وأي خزي أعظم من أداء الجزية، والذلة، وفتح المدائن، والقتل والسبي! فما الدليل على دخول الالتقاط إن أراد العموم، فلا صيغة، وما الدليل على أن التنكير هنا فيه معنى العموم؟ وجعله التنكير للتعظيم والتنكير (¬4)، وأن لا شيء أبلغ في الخزي مما نحن فيه غير مسلم؛ ¬

(¬1) [الأعراف: 167]. (¬2) انظر رد الشوكاني في الرسالة رقم (168). (¬3) [البقرة: 114]. (¬4) لعلها التكثير.

فإن القتل، والسبي، والتمثيل، والتعذيب أفظع وأفظع، ثم إنه وإن يسلم أن المراد من الخزي ما قاله فمن أين لنا التكليف لما دلت عليه الآية؟ إذ لا صيغة أمر حتى يدخل الإجبار على الالتقاط، ويجعله دليلًا لما سأل عنه المستفهم بقوله: هل من دليل على الإجبار؟ فينظر في ذلك. ثم قال: الدليل الرابع: قول الله تعالى مخاطبًا لرسوله: {واغلظ عليهم} (¬1) يعني الكفار؛ أي جنس الكفار، وكل كافر، وخطابه خطاب لأمته. واستنبط من الآية أن كل فرد من المسلمين مأمور بالإغلاظ، وإذا كان كذلك فكيف يتردد في جواز الإجبار؟ إلخ ... كلامه وفي كلامه نظر لأنه إن أراد أن هذا هو الإغلاظ لغة فلا نعرفه في اللغة. قال في القاموس (¬2): الغلظة مثلثة، والغلاظة بالكسر، وكعنب: ضد الرقة، والفعل ككرم وضرب فهو غليظ وغلاظ، كغراب. والغلظ بالفتح الأرض الخشنة، وأغلظ نزل بها، والثواب وجده غليظًا واشتراه غليظًا كذلك، والقول خشن وغلظ عليه تغليظًا جعله غليظًا، وأغلظ له في القول لا غير انتهى. ولا يخفى [5] اختصاص أغلظ بالقول، وإن أراد أنه عموم فلا صيغة عموم؛ إذ الأفعال مطلقات لا عمومات، وإن أراد قياسًا صحيحًا فليبينه بشروطه المعتبرة. ثم قال: الدليل الخامس: ما وصف الله به أهل الإسلام من قوله: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} (¬3). وأتى بكلام منمق مسجع يروق السامع، ويأخذ من القلوب بالمجامع، حاصله أن الإيمان شأنه العزة والكفر بضده، فكيف يقر المسلمون على ما فيهم من العزة على حمل ¬

(¬1) [التوبة: 73]، [التحريم: 9]. (¬2) "القاموس المحيط" (ص 900). (¬3) [المائدة: 54].

الأزبال، وهذا وجه غير وجيه باعتبار ما سأل عنه المستفهم؛ لأنه إنما سأل عن جواز الإجبار إذا لم يحصل امتثال، ولم يقل إني أنزه اليهود عن هذه الرذيلة، وأخص لها أهل الإسلام إهانة مني لهم، وإعزازًا لأعداء الله، وتعظيمًا لهم، فتنزه أهل الإيمان عن الرذائل، لما يشك في حسنها. قل: فالجواب ليس بمطابق للسؤال. ثم قال: الدليل السادس: أورد فيه حديث: "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه" (¬1). وديدن حول ما أراد من إجبار اليهود على ذلك المراد، ولعمري أن الحديث لا يدل على ذلك، مع تسليم أنه خبر في معنى الأمر كما قرره في كلامه، غايته أنه أمر المسلمين بالعلو، والتنزه عن الرذائل، فمن أين لنا الدليل من الحديث على إجبار اليهود؟ وكيف المأخذ؟ هل مطابقة أو تضمن، أو التزام مع أنه إنما قال لعله خبر في معنى الأمر ترجيًّا: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (¬2). ثم قال: الدليل السابع: وذكر حديثًا أخرجه مسلم بلفظ: "لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه" (¬3). ومراده أن أهل الإسلام مأمورون بذلك لما فيه من ظهور العزة، يقال عليه: نعم مأمورون بذلك، فأين الدليل فيه على الإجبار على الالتقاط الذي هو المسئول عنه، وهو محل النزاع؟ فالله المستعان كيف جعل الأمر باضطرار اليهود إلى أضيق الطريق دليلًا على إجبارهم على التقاط الأزبال! فهذا الاستدلال لم يخطر لأحد على بال. إن كان من النص فالمنصوص إنما هو الاضطرار، وإن كان قياسًا فهو محتاج إلى التصحيح والبيان، وأما التوجع على المسلمين من تلك الخصيلة الشنعاء فأمر وراء الجواب وغير داخل في محل النزاع. ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) [الأحزاب: 4]. (¬3) تقدم تخريجه.

ثم قال: الدليل الثامن: إجبار بني النضير على الخروج ومراعاة المصلحة هذه حكاية صحيحة منصوصة، لكن أثبتوا لنا وجه الدليل منها، هل بالنص أم بالقياس؟ وهل لعلة مستنبطة أم منصوصة؟ قولكم: فإذا كانت مراعاة المصلحة مجوزة للإجبار لم يمثل هذا الأمر العظيم أي الخروج من ديارهم فكيف لا يجوز إجبارهم بما هو دونه بمراحل في إصرار المجبرين، وفوقه بدرجات في الصلاح؟ يقال عليه [6] يلزم على كلامكم جواز إجبارهم على كل ما هو دون الخروج من الديار المساوي للقتل، ولعل هذا لا يقوله أحد للزومه الباطل كما أشير إليه. ثم قال: الدليل التاسع: حديث: "نزلوا الناس منازلهم" (¬1) وطول في ذلك، وأراد أن فيه دليلًا على مقصوده من توزيع الحرف الدنية على الكفار، والحرف الرفيعة على المؤمنين. ولا دليل فيه على ذلك؛ فقد كانت التجارة أشرف المكاسب، وكم من كافر كان متعلقًا بها وغيرها من المهن، وإن كانت دنية كم من مسلم تلبس بها، وهذا مستمر من عصر النبوة إلى زمننا؛ حتى صار مما يدعى فيه الإجماع، ولم يقع التوزيع من أحد من السلف، ولا من غيرهم، ولم يعلمهم أخلوا بواجب تركوه حيث لم يوزعوا الحرف، فكيف يجعل من مقدمة الواجب! وكل مقدمة الواجب واجب، فإجبارهم من لم يمتثل واجب. فنقول: الصغرى ممنوعة وسند المنع عدم دلالة حديث: "نزلوا الناس منازلهم" (¬2) عليه، ولا على وجوبه، مع أنه على تسليم دلالته وجوب تنزيل الناس منازلهم في الحرف هو ممكن بدون إجبار اليهود بالعدول إلى الحطب أو غيره كما قدمناه. ثم قال: الدليل العاشر: حديث أنس مرفوعًا أخرجه الشيخان (¬3) والترمذي والنسائي: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" ومراده أنا لا نرضى ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه.

لإخواننا بهذه المهنة الخبيثة، وأنه لا يتم الإيمان لنا إلا بإجبار اليهود، هذا معنى كلامه. وأقول: هذا لا يصلح جوابًا عما استفهم السائل عنه من الإجبار، ولا يشك عاقل أن هذه قصة سعى المسارعة إليها، وأما الإجبار فهو محل النزاع. ثم قال: الدليل الحادي عشر: ونقل فيه كلام الشفاء (¬1) أو معناه، وما في الغيث وقال آخر: إنه الدليل الذي بنيت عليه القناطر، وأشار إلى ما اعترض به في ضوء النهار (¬2) من أنه اجتهاد في مقابلة النصوص في شرح قول الإمام عليه السلام: ولا يسكنون في غير خططهم إلا بإذن المسلمين لمصلحة، وذكر الأحاديث التي ذكرها صاحب ضوء النهار (¬3)، وترجيحه إخراج اليهود من جزيرة العرب بمقتضى الأدلة، وهو غير البحث. وأقول: لو عول على نقل كلامهم فيه، كما فعل غيره من دون تعرض لتلك الاستنباطات الواهية لكان أحسن، أو قال: إن عقد الأئمة الصلح لهم كان بشرط قبول ما أراده المسلمون منهم من إزالة الأوساخ، والقيام بالمصالح الدنية بالآخرة أو غيرها، على حسب ما يعتادونه كان للكلام وجهًا وجهيا، وأنهم لم يعقد والصلح معهم على أداء الجزية فقط، بل مع ما ذكر، فتأمل ترشد. ثم قال: الدليل الثاني عشر [7]: إن ملاحظة (¬4) المسلمين إذا لم تتم إلا بإتعاب النفوس، وتقحم المشاق، فليس الأمر بذلك بدعة، وعزة الإسلام التي هي رأس المصالح الدينية إذا لم تتم بإجبار اليهود فهي أولى بالجواز من حفر الخندق، يريد من المهاجرين والأنصار. يقال له: نعم هذه من أعظم الملاحظة لعزة الإسلام، لكنها لا تصلح ردًّا على السائل؛ فإن العزة تتم بدون الإجبار بإعفاء الجميع، وإيقاد الحطب أو نحوه كما مر. ¬

(¬1) (3/ 567 - 568). (¬2) (4/ 2573). (¬3) (4/ 2573). (¬4) كذا في المخطوط ولعلها (مصالح).

كذلك يقال في الرد على الدليل الثالث عشر. ثم قال: الدليل الرابع عشر وهو الذي عليه التعويل: إن حفظ الدين (¬1) من الضرورات الخمس، ولا يتم حفظ دين هؤلاء المسلمين إلا بإجبار اليهود. وأقول: محفوظ لغير إجبار اليهود من ترك المستخم الذي هو غير واجب أو نفاد غير الملتقط المعهود وجعله إجبار اليهود من مناسب المرسل الملائم غير الظاهر؛ لأنهم ذكروا في مثاله اعتبار عين العلة (¬2) في جنس الحكم، كاعتبار الصغر في الولاية الشاملة للمال والنكاح في تعليل ولاية المال بالصغر، الثابت بالإجماع فأين المنظر من المنظرية؟ فهو محتاج إلى تحقيق، فلم تظهر الكفاية، ومع ظهوره فهو مغني عن التكلفات الواهية لتلك الاستنباطات، وقد اعتبروه في مسائل عدة عند القائلين به. وأما الاستدلال بتلك الاستنباطات فغير ظاهر. ثم قال: الدليل الخامس عشر: هب أن لا دليل على جواز الإجبار إلخ. هذه منه تسليم تنزل، وإلا فهو جازم بالوجوب، إلا أنه ناقضه بجعله ذلك للندب والترغيب، ومع هذا فما أفاد في هذا الجواب عما سئل عنه أنه هل يجوز الإجبار مع الامتناع، وأما الترغيب فهو مسلك آخر، وفضيلة لا تنكر، ولا ينكر السائل فضلها وإن تنزه المسلمين عن ذلك، والإنكار عليهم ملابسة تلك القاذورات الثابتة نجاستها بالضرورة الدينية، والأحاديث المتواترة العلية من المهمات، والمسارعة إلى الخيرات، وإلى مضاعفة الحسنات. والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل. وتمت تم بهذا الجواب. ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (166). (¬2) في حاشية المخطوط: المذكور في الأصول أن الملائم المرسل ما اعتبر عينه في جنس الحكم، أو جنسه في غير الحكم، أو جنسه في جنس الحكم، وكلام المعترض يسعى بقصره على الأول، وصدوره من مثله عجيب، ولم يذكر المعترض هذا في جوابه، وكان اكتفى لظهوره عن ذكره كاتبه.

الإبطال لدعوى الاختلال في رسالة إجبار اليهود على التقاط الأزبال

الإبطال لدعوى الاختلال في رسالة إجبار اليهود على التقاط الأزبال تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: الإبطال لدعوى الاختلال في رسالة إجبار اليهود على التقاط الأزبال. 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، يقول الحقير، أسير التقصير، محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما، أسألك اللهم العصمة عن مجبة القيل والقال. 4 - آخر الرسالة: أقول: أما من له فهم وإنصاف فما أظنه يلتبس عليه الصواب. كمل تحرير مؤلفه حفظه الله في يوم الجمعة شهر محرم الحرام 1206 هـ. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 10 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 27 سطرًا ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها 8 أسطر. 8 - عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم يقول الحقير، أسير التقصير، محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما -، أسألك اللهم العصمة عن مجبة القيل والقال، وأعوذ بك من تحمل فوق الطاقة من أعباء المراء والجدال؛ فإنك إن هديتنا إلى معرفة عيوب أنفسنا صرفنا العناية إلى ما هو أولى بنا وأحرى، وإن بصرتنا بما نجهله من قدورنا لم يرَ غيرنا منا ما لا نرى، وبعد حمد الله على كل حال، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه خير صحب وآل، فإنها جرت مذاكرة بيني وبين بعض الأعلام النحار أوجبت تأليف رسالة سميتها بحل الإشكال في إجبار اليهود على التقاط الأزبال، ثم مضت برهة من الأيام، فرأيت رسالة (¬1) لبعض إخواني من علماء العصر، مستدركًا بها على تلك الرسالة، وقد علم الله أني في شغل شاغل عن المباراة والمماراة ولكن لما رسخ في بالي، وصح عندي أن إجبار اليهود على ذلك، وإعفاء المسلمين منه من أعظم القرب، وأنفس المحاسن، التي ينبغي أن تعد من مناقب العصر وأهله، فإني - كما علم الله - لم أزل مستنكرًا لتقرير المسلمين على ذلك من أيام الوقوف مع الصبيان في المكتب، ورأيت الصغير والكبير، والعالم والجاهل موافقين على ذلك، فحداني محبة نجاز هذا المقتصد، ونجاح هذا المطلب إلى تبيين ما في رسالة المعترض من الأوهام التي لا يحتمل مخافة أن يعتريها، فتكون من الأعذار عن تنجيز هذا العمل، مستعينًا بالله، ومتكلًا عليه، مقتصرًا على الإشارة بأخصر عبارة، فإن التطويل ربما أفضى إلى تحرير كراريس. قال: ولما كان الدين النصيحة (¬2). . إلى قوله: ولنقدم مقدمة. أقول: الغرض الباعث على هذه النصيحة، والغاية الجاملة عليها إما أن تكون مخافة أن يعمل من وجهت إليه تلك الرسالة بمقتضاها فيربح المسلمين من التلوث بالنجاسات، ¬

(¬1) الرسالة رقم (167). (¬2) تقدم تخريجه.

ويفرح عليهم من ملابسة [1] حشوش اليهود، والتقاط أزبالهم، ويأمر الملاعين بالنيابة عن المسلمين قلتم در هذا الناصح، وما أمحض نصيحة للمسلمين، وما أغيره على حرمات هذا الدين المتين. وإما أن يكون الغرض والغاية تنبيه صاحب الرسالة المعترض عليها بأنه غلط في تطبيق هذه الأدلة على ذلك المدلول، وارتكب في رسالته ما يخالف المعقول والمنقول. فنقول مستفسرين لهذا الناصح، ومستور بين لزناد هذا القادح: هل هذا الغلط الذي تزعمه، والمخالفة التي تدعيها قطعيان أم ظنيان؟ لا سبيل إلى الأول لتوقف الجزم به على ما لا وجود له فيما نحن بصدده بإجماع كل ناقل. والثاني ليس من مواطن المناصحة، لما ثبت في الحديث الصحيح (¬1) أن المصيب فيه والمخطئ مأجوران، فالظفر بالأجر متحقق بعد بذل الوسع؛ لأن الاجتهاد لا ثمرة له غير الظنون. فإذا كان تسليم الخطأ لا يقدح في ثبوت الأجر فكيف يلام طالب تحصيله ويناصح! ولو كان الاختلاف في الظنيات مستدعيا للمناصحة لكان كل مجتهد متعبدًا بمناصحة كل مخالف له، واللازم باطل بالإجماع، فكذا الملزوم. وإما أن يكون مراده تنبيه الواقف من سائر الناس غير السائل والمجيب، فيعود الكلام على السالف. وإما أن يكون مراده تنبيه الجميع فيرد عليه الجميع، وإما أن يكون مراده كما قيل: ويهتر (¬2) للمعروف في طلب العلا ... لتذكر يومًا عند ليلى شمائله فهذا شيء لا نرضاه له - عافاه الله - ولا يرضاه لنفسه. قال: ولنقدم مقدمة تتضمن آثارًا عن صالحي السلف، قاضية بتورعهم فيما لا نص عليه نبوي إلى آخر البحث. ¬

(¬1) تقدم تخريجه مرارًا. (¬2) يهتر هترًا والانهتار الولوع بالشيء والإفراط فيه كأنه أهتر أي خرف. "لسان العرب" (15/ 24).

أقول: ظاهر هذه العبارة أنهم يتوقفون مع فقد النص النبوي عن القضاء بالكتاب العزيز، وهو فاسد بالإجماع، ففي العبارة قصور. ثم إن هذه المقدمة إنما تصلح عنوانًا لرد الآراء المحضة، ورسالتنا مشحونة بأدلة الكتاب والسنة، مربوطة بقواعد وفوائد لا يعرف قدرها إلا المتأهلون، فكان المجيب - عافاه الله - لا يفرق بين الرواية والرأي، فإن قال: قد بين عدم انطباق هذه الأدلة على المطلوب فمع كون ذلك البيان مبنيًّا على شفا جرف هار كما ستعرفه، لا يستلزم أن يكون الخطأ في الاستدلال من قبيل الأخذ بالرأي، فإن تهافت بدعوى الملازمة، فقد عرفت من الكلام السالف سببية هذا الأمر للأجر والتورع عن طلب الأجور زهد مذموم بإجماع الجمهور، فما هذه المقدمة المبنية على أركان مهدمة! فإن قال مسالك المناظرة أربعة [2]: الدعاء إلى الحق بالحكمة البرهانية، ثم الجدلية، ثم الخطابية، ثم الوعظية؛ وهذا نوع من المسلك الرابع قلنا: فأين المقتضى؟. أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا يا سعد تورد الإبل (¬1) لا جرم: فتشبهوا إن لم تكونوا منهم ... إن التشبه بالكرام فلاح قال: هذا اعتراف بعدم النص إلخ. أقول: الذي صرحت به في أول تلك الرسالة تصريحًا لا يلتبس على من له أدنى فهم، أني لم أقف على كلام لأحد من العلماء في إجبار اليهود على التقاط الأزبال. وما نقلته عن العلماء في تلك الرسالة ليس عين ما نفيته، بل قواعد كلية، وجزئية نقلية، وعقلية لتصحيح الاستناد وربط الدليل بالمدلول، وما كنت أظن أن مثل هذا يلتبس على أحد فانظر - أيها الناظر - إلى هذا الاعتراض الذي افتتح به المعترض رسالته التي حمله عليها محبة النصح وأنشد في عذره: ¬

(¬1) تقدم توضيح المثل مرارًا.

وإنما يبلغ الإنسان طاقته ... ما كل ماشية بالرحل شملال (¬1) قال: وأقول: لا يشك ذو مسكة ودربة إلى قوله، ثم الصغار. أقول: قد ذكرت في تلك الرسالة أن دعوى اختصاص الصغار ببعض ما فيه ذلك، أو بوقت دفع الجزية أحدًا لظاهر التقييد، كما فهمه المعترض ممنوع، ثم أوردت سند المنع، وسقت كلام الأئمة، فأغمض المعترض عن جميع ذلك، ومنع السند منعًا مجردًا لعدم صحة دليله، وهو خلاف ما تقرر في علم الجدل. ثم جاء بمقدمة النزاع فجعلها دليلًا، فوقع في مضيق المصادرة، وهو أيضًا مخالف لما تقرر في علم العقول، فكثر الله في المناظرين من أمثاله، وما حمله على ذلك إلا عدم التدبر لكلام خصمه. غزلت لهم غزلًا فم أجد ... لغزلي نساجًا فكسرت مغزلي ثم ذكر بعد ذلك معنى الصغار، واستظهر على تخصيصه ببعض أنواعه بما نقله عن المفسرين (¬2) والبحر (¬3) وهو كلام قد عرفناه وأشرنا في تلك الرسالة إلى أنه تحكم. ثم إن المعترض نقل كلام البحر (¬4) في صفة الصغار عند إعطاء الجزية، ولم ينقل ما في البحر في السير من إلزامهم أنواعًا من الصغار، بل لم ينقل ما في الأزهار هنالك، ولعله لم يحضر ليحال الاعتراض إلا ذلك. فمالك والتلدد حول نجد ... وقد غصت تهامة بالرجال قال: نعم وكل وهذا لا يدل على خصوص المدعي إلى قول: غير محل النزاع. أقول: كلا شقي الترديد غير ما أوردناه، بل المراد أن هذا نوع من الصغار المأذون لنا [3] بإلصاقه بهم، إلا أن يمنع عنه مانع شرعي، ولا مانع فيما نحن بصدده، وعدم أمر ¬

(¬1) قال في "لسان العرب" (7/ 205): جمل شمل وشملال وشمليل: سريع. (¬2) انظر "الجامع لأحكام القرآن" (8/ 115). (¬3) (5/ 459). (¬4) (5/ 459).

رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وخلفائه بذلك فمخصوصية لا يستلزم عدم الأمر به، أو الإذن مطلقًا، لا سيما مع عدم الحامل على ذلك، لما تقرر من أن الناس كانوا في زمن النبوة على عادة العرب الأولى، يخرجون للتبرز حتى النساء إلى البرية، كما ثبت في الصحيح (¬1) من حديث عائشة، وهذا ظاهر لا سترة به، ولكن الأمر كما قيل: وإذا كان في الأنابيب خلف ... وقع الطيش في صدور الصعاد قال: وقد جاء في كلامه بملازمة عقلية إلخ. أقول: قد تقرر عند علماء البيان أن اللزوم عقلي وعرفي، وهذا في مختصر التلخيص وتهذيب المنطق، اللذين هما مدرس صغار الطلبة، فما بال المعترض قيد اللزوم، الذي أطلقته في كلامي بالعقلي بغير قرينة، ورتب عليه الاعتراض الذي ليس له انتهاض، وكل ناظر يعلم أن من له أدنى تمسك لا يريد في هذا الموطن اللزوم العقلي، فترك التقييد اتكالًا على هذا الظهور، وبيان الملازمة العادية أنه لما كان بقاء الأزبال مضرًّا بأهل المدن غاية الإضرار جرت العادة بالتقاط جماعة له، فإذا لم يكونوا من الكفار لزم إعادة أن يكونوا من المسلمين؛ لعدم وقوع الالتقاط في العادة من غير نوع الإنسان، ودفع الضرر عن أهل المدن هو المقصود الأهم من ذلك، وإيقاد الحمامات به، إنما هو لإذهاب عينه، وتحصيل الأجرة للمباشرين، ثم إن المعترض جعل الواسطة القادحة في الملازمة إيقاد الحمامات بالحطب، ولا يشك عاقل أن الواسطة بين التقاط الكفار والمسلمين إما ترك الالتقاط من الجميع أو التقاط غيرهم إن فرض، لا إيقاد الحمامات فإنه قال: لازم لترك الجميع الذي هو الواسطة، فلا أزيد الناظر على إيقافه على هذه الملازمة، وما أدري على ما أغبط المعترض. يقولون أقوالًا ولا يعرفونها ... ولو قيل هاتوا حققوا لم يحققوا قال: أول ما نورده عليه الاستفسار إلى قوله: إن هذا لشيءٌ عجيبٌ. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4750) من حديث عائشة.

أقول: سلمنا أن الآية واردة على ذلك السبب، فالذلة لا تختص بفرد معين دون غيره إلا بدليل، وقد تقرر في الأصول عدم القصر على السبب، وتقرر أن قصر الذلة على مجرد إعطاء الجزية، والفقر، والمسكنة تحكم محض، فما هذا الكلام الذي لا نفاق له في سوق الجدال والخصام، ثم رتب على هذا الكلام أنه إخبار به ولا تكليف به، وكأنه ظن أن التكليف مقصور على الواجب [4] وهو فاسد يدفعه إطباق أئمة الأصول على شموله لغيره من الأحكام. ثم قال: فكيف يقال أنه يجب إجبار اليهود، وأنت تعلم أن السؤال الذي أجبنا عليه بالرسالة إنما هو في مطلق ما يدل على الإجبار، فما دل على الوجوب، أو الندب، أو أعم منهما - أعني الجواز - فهو صالح لجعله جوابًا؛ لأن السائل لم يسأل عن خصوص ما يدل على الوجوب، ولا اقتصرت في الجواب على هذا الصنف، بل جمعت بين جميع أنواع الجواز، ولم أقصر في بيان هذا الأمر بعد جعلي له عنوانًا لتلك الرسالة، وتصريحي به قبل الشروع فيها، وقد وهم علي المعترض وهمًا فاحشًا، فواخذني في كل دليل لا يدل على الوجوب، وما أدري ما الحامل له على هذه التعسفات، فإن كان مجرد المعارضة من غير مبالاة بما وقع من الخبط والخلط، فما هذا دأب أهل العلم والإنصاف. إنك إن حملتني ما لا أطيق ... ساءك ما سرك مني من خلق وغاية الأمر أن الرجل يريد أن يدل دليل على هذه الخصلة بخصوصها، ولو كان ذلك شرطًا في التكليف لاستراح الناس عن أكثر التكاليف، ومن بلغ به الأمر إلى هذا الحد لم يستحق المراجعة. قال: وإن قال: الآية خبر في معنى الأمر إلى قوله: من لغة أو شرع. أقول: إبطاله لدلالة هذه الآية على المطلوب بقوله: لأنه لم يأمر به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من الغرائب، فإنه لا شك بعد تسليم دلالة الآية على الإذن بضرب الذلة العامة عليهم، أو الإذن بجنسها، أو الأمر بأحد الأمرين أنها متناولة للفرد الكامل من أفراد الذلة تناولًا أوليًّا، إلا أن ينهي الشارع عنه، وتوقف ذلك على أن النبي - صلى الله

عليه وآله وسلم - أمر به بخصوصه، أو أن الدليل دل عليه بخصوصه أمر يعرف اختلاله صغار الطلبة. إذا رام التخلق جاذبته ... خلائقه إلى الطبع القديم قال: وقد ركب قياسًا منطبقًا إلى قوله: ولنا أن نعارض ذلك القياس. أقول: لا يخفى عليك أن الجواز أعم من الوجوب، وأن الواجب جائز، فاختيار لفظ الجواز في تلك المقدمة لشموله للوجوب والندب، ومجرد الجواز بلا تقييد. فإن كانت الآية أمرًا في معنى الخبر فكيف يقال الكبرى ممنوعة! بل يجب إبدالها بقوله: وكل محصل للذلة واجب، وإطلاق لفظ الجائز على الواجب جائز بالإجماع. ولو سلم عدم صحة التعبير بالأعم عن الأخص لعدم استلزام وجوده فلا يكون إلا مجازًا، لما كان في الاقتصار على أخف مما يدل عليه الدليل ضير. وإن كانت الآية مجرد خبر فلا شك في صحة التعبير [5] بلفظ جائز ثم إيراده على الكبرى بعد تسليمه لما اشتملت عليه من الحتم في زعمه لزوم منعهم من المأكل، والمشرب، والملبس، والمعاملة، من أفحش الأوهام التي أوقع في مثلها عدم التأمل. وقد صرحت في تلك الرسالة (¬1) بما يحسم هذا الإيراد فقلت: بل المراد الذلة الناشئة عن أي سبب كان من الأسباب التي لم يمنع الشارع منها انتهى بحروفه. وكل ما أورده المعترض مستثنى من تلك الكلية لمنع الشارع منه، وليس الالتقاط من هذا القبيل، لما عرفت من عدم الاحتياج إليه في زمنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وشدة الحاجة إليه في المدن في هذه الأعصار، لا لإيقاد الحمامات كما ظنه المعترض، بل لما في تركه من الضرر العام، فما هذه التخليطات التي يكبر المعترض عنها!. يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ... ومنهج الحق له واضح قال: ولنا أن نعارض ذلك القياس بقياس من الشكل الأول، بأن نقول: إجبارهم ¬

(¬1) رقم (166).

على الالتقاط غير مأذون فيه من الشارع، وكلما لم يأذن فيه الشارع حرام. إلخ. . . أقول: قد عرفت مما سبق، ومما سيأتي بطلان الصغرى، وأن الالتقاط مأذون به، وليس للمعترض متمسك، إلا أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر به بخصوصه، وقد عرفت بطلان هذا الاشتراط. وأما الكبرى فممنوعة، والسند إجماع المسلمين، إلا من شذ أن الحل لا يتوقف على الإذن، وأن البراءة الأصلية كافية، لا سيما مع اعتضادها بكليات وجزئيات من الكتاب والسنة، وليسارع المعترض - عافاه الله - إلى تصغير عمامته، وتقصر ذيله، وترك أكل المحور، وترك افتراش الثياب المحشوة بالعطب، وترك شرب القهوة، إلى ما لا نهاية له من هذا الجنس؛ لأن الشارع لم يأذن بشيء منها؛ فهي حرام، وهو قائل بذلك، والعلم العمل، والإنسان أحق الناس باتباع قوله: ونحن لا نرى صحة ذلك، فلا يلزمنا إذا عرفت هذا. فقوله: وكل ما لم يأذن فيه الشارع حرام، وجعله كبرى لصغرى ذلك القياس، مع ما فيه من عدم التكرار المعتبر من الأدلة الدالة على كمال خبرته بالفن، ولله دره، وهكذا وليكن التحقيق، والله يعلم أني أكره إطلاع الناس على هذه السقطات المضحكة، ولكن البادي أظلم، ولولا أن اعتراضاته قد وقعت إلى يد غيري قبل وقوعها في يدي لناصحته باللسان، وتركت شغله وقت فيما لا طائل تحته. ولو منح الله الكمال ابن آدم ... لخلده والله ما شاء يفعل [6] قال: وفسر الآية بما هو يدندن حوله. أقول: أما الأدلة الدالة على النكرة تأتي بالعموم، فقد ذكر الأئمة في مثل أن جاءك رجل فأكرمه، وفي مثل: إن جاءكم فاسق بنبأ، في أمثال ذلك كثير، حتى لقد احتج السيد علي بن محمد بن أبي القيم في رسالته التي أجابها العلامة الإمام محمد بن إبراهيم بمثل ذلك، فسلمه في العواصم، مع استكثار من الاعتراضات والمناقشات. ومن تتبع كتب التفسير في نظائر المدعي، وكذا كتب البيان وغيرها علم صحة ذلك. وما أسرع ما ذهب من حفظ المعترض ما ذكره العلامة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الزمخشري (¬1) في قول الله: {علمت نفس ما أحضرت} (¬2)، وما ذكره أهل الحواشي، ولم يمر بنا إلا أيام قلائل من قراءة ذلك البحث نحن وهو على شيخنا العلامة، فإن قال: هذا ليس من ذلك القبيل فعليه البيان، على أن ابن كثير قد صرح في تفسيره بأن الخزي عام، ونعم السلف لنا في ذلك. قوله: فمن أين لنا التكليف بما دلت عليه الآية؛ إذ لا صيغة أمر إلخ. قلنا: الدليل على الإجبار أعم من ذلك، وقد أسلفنا ما فيه كفاية، وغاية الأمر أن المعترض في هذا البحث وما بعده. . . إلخ الرسالة عول على المنوعات المجردة، وهي غير مقبولة على الأسانيد، وسنجاريه على مشيه. قال: وأستنبط من الآية أن كل فرد إلخ ثم نقل من القاموس (¬3) معنى الغلظة، وأغلظ له وعليه، ثم نعم لفهمه السليم أن صاحب القاموس جعل أغلظ مطلقًا ومقيدًا خاصًَّا بالقول وهذا من أقبح الغلظ؛ فإن صاحب القاموس (¬4) إنما جعل المختص بالقول أغلظ له ولا نزاع فيه، وأما أغلظ عليه فهذا إمام اللغة والتفسير جار الله (¬5) يقول في كشافه (¬6) في تفسير هذه الآية نفسها ما لفظه: جاهد الكفار بالسيف، والمنافقين بالاحتجاج، واستعمل الغلظة والخشونة على الفريقين فيما تجاهدهم به من القتال والمحاجة، ثم ذكر روايات عن. . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

(¬1) في "الكشاف" (6/ 323). (¬2) [التكوير: 14]. قال: فإن قلت: كل نفس تعلم ما أحضرت، كقوله: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا) [آل عمران: 30]. لا نفس واحدة فما معنى قوله: (علمت نفس) قلت: هو من عكس كلامهم الذي يقصدون به الإفراط فيما يعكس عنه. . . (¬3) (ص 900). (¬4) الفيروز آبادي (ص900). (¬5) الفيروز آبادي (ص 900). (¬6) أي الزمخشري.

المفسرين (¬1)، وأنت تعلم أنه تصريح منه بأن الغلظة المأمور بها تكون في الأقوال والأفعال، وهو الإمام الذي جعل استعماله بمنزلة روايته، وصرح أيضًا في تفسير: {عليها ملائكة غلاظ شداد} (¬2) فقال ما لفظه (¬3): في إجرامهم غلظة وشدة؛ أي: جفاء وقوة، أو في أفعالهم جفاء وخشونة لا يأخذهم رأفة في تنفيذ أوامر الله والغضب له، والانتقام من أعدائه انتهى. قال: وأتى بكلام مسجع منمق إلى آخر البحث. أقول: إذا كانت العزة من أوصاف المؤمنين، والذلة من أوصاف الكفار، كما في غير هذه الآية، فإجبار اليهود على ملازمة هذه الصفة التي أخبر الله بها جائز، ومنع المسلمين عن الأمور التي تقدح في العزة جائز، فكيف قلت: ليس الجواب مطلقًا للسؤال! وما ذنب المجيب إن لم يفهم غيره ما أراده. قال: ودندن [7] حول ما أراد إلى آخر البحث. أقول: قوله فمن أين لنا الدليل من الحديث على إجبار اليهود بعد أن سلم أن خبر في معنى الأمر من العجائب، فإنا إذا أمرنا بجعل الإسلام عاليًا، ونهينا عن أن يكون شيء عاليًا عليه، ففي تنزيه الكفار عن هذه المهنة الخبيثة مع وقوع المسلمين فيه إعلاءً لهم على المسلمين ظاهر، وهو منهي عنه، ومأمور بخلافه، كيف لا يكون في الحديث دلالة على المطلوب!. قال: ومراده أن أهل الإسلام إلى آخر البحث. أقول: قد بينت في رسالتي (¬4) وجه الدلالة فقلت ما لفظه: وفحوى الخطاب ولحنه قاضيان إلى آخر ما هناك، فانظر إلى قول المعترض كيف جعل الأمر باضطرار اليهود ¬

(¬1) (3/ 68): سورة التوبة. الآية (73). (¬2) [التحريم: 6]. (¬3) أي الزمخشري في "الكشاف" (6/ 161). (¬4) الرسالة رقم (166).

إلخ، فهو يدلك على عدم التدبر للأصل المعترض عليه، أو عدم الفهم، وقد سئمنا ومللنا من إبطال كلامه، حتى لقد وددت أن أجد بحثًا صحيحًا. أقول: فيه أصبت فلم أجد. قال: هنا حكاية صحيحة إلى آخر الكلام. أقول: المصلحة متحققة هاهنا، ومسلك المناسبة (¬1) مقتضى للإلجاء والالتزام ملتزم لا يستثني منه إلا مانع منه الشارع، أو منع منه العقل. وقوله: ولعل هذا لا يقوله أحد إلخ ممنوع، والسند ما سلف، قال: وطول في ذلك وأراد أن فيه دليلًا إلى آخر البحث. أقول: لا شك أن حديث: "نزلوا الناس منازلهم" (¬2) دال على المدعي وعلى غيره إلا ما خصه دليل، وتبين أنه ما يغتفر فيه التنزيل، وهذا لا ينكره المعترض، ونحن نسلم الإفراد من المكاسب التي أقر الشارع عليها، إذ فرض تلبس المسلمين بمكسب يتنزه اليهود كما نحن بصدده، وندعي دخول محل النزاع بحث الحديث، فكيف يقال لا دلالة فيه على المطلوب! ثم أين لنا - أيها المعترض - أي خصلة تشابه هذه المكاسب التي تنزه اليهود عنها، وتلبس بها المسلمون، وأقرهم السلف والخلف عليها، وأجمعوا على ذلك! فلا أقل لمدعي الإجماع في ذلك. قوله: تنزيل الناس منازلهم ممكن بدون إجبار اليهود بالعدول إلى الحطب أو غيره. قلنا: قد عرفت ما على هذا الكلام فلا نعيده. قال: وهذا لا يصلح جوابًا إلخ. أقول: إعفاء المسلمين عن ذلك يفضي إلى الإجبار، والواسطة التي يتعلل لها المعترض غير صحيحة. ¬

(¬1) تقدم توضيحه. (¬2) تقدم تخريجه.

ومن أعجب الأمور أن المعترض أورد في أول هذه الرسالة آثارًا دالة على تجنب الرأي ثم اعتذر عن الأدلة التي أوردناها من الكتاب والسنة بهذه الأعذار الباردة، ثم مال هاهنا إلى محض الرأي فقال أو قال: إن عقد الأئمة الصلح إلخ. لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم قال: يقال له: نعم إلى آخر البحث. أقول: قد عرفت تمسك المعترض لهذا المنع المجرد في جميع هذه الأبحاث، وعرفت ما عليه، وقد طال الكلام. قال: وأقول: محفوظ بغير إجبار اليهود إلخ. أقول: هو من ذلك المنع الذي عرفناك، وأي حفظ لدين من تلوث بأزبال المسلمين والكفار، وترك المستخم لا يدفع مؤنة الالتقاط، لما عرفت من أعظم فوائد الالتقاط دفع مضرة المسلمين التي تحصل بعدمه، ثم استنكر جعل اليهود من المناسب المرسل، وذكر المثال المعروف في الأصول [9]، واستبعد إمكانه في محل النزاع، حتى كان اعتبار عين الكفر في جنس أنواع الصغار أمر لا يمكن ولا يتيسر. قال: هذا منه تسليم تنزل، وإلا فهو جازم بالوجوب. أقول: قد عرفت مما أسلفنا لك أنا لم نقتصر في هذه الرسالة على أدلة الوجوب فقط، وعلى تسليم الجزم به، فكيف يناقضه التنزيل إلى الندب، وكيف خفي هذا على المعترض بعد تصريحه بأنه تسليم تنزل أن هذا لا يقع لأدنى متأهل. وقوله: ومع هذا فما أفاد في هذا الجواب. أقول: أما من له فهم وإنصاف فما أظنه يلتبس عليه الصواب. كمل تحرير مؤلفه حفظه الله في يوم الجمعة شهر محرم الحرام سنة 1206 [10].

إرسال المقال على إزالة الإشكال

(169) 47 - /1 إرسال المقال على إزالة الإشكال تأليف عبد الله بن عيسى بن محمد حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: إرسال المقال على إزالة الإشكال. 2 - موضوع الرسالة "فقه". 3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم" الحمد لله رب العالمين، اللهم وفقنا إلى أوضح السبيل، واجعل كتابك المنير لنا خير دليل. . . . . 4 - آخر الرسالة: انتهى تحرير ذلك ليلة ثامن عشر من الحجة الحرام سنة 1205، وكان انتهى نقلها من السواد إلى البياض آخر يوم الأحد من خامس محرم الحرام سنة 1206 ستة واثنتا عشرة مائة. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 18 صفحة. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرا ما عدا الصفحة الأولى فعدد أسطرها ثمانية. 8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، اللهم وفقنا إلى أوضح السبيل، واجعل كتابك المنير لنا خير دليل، وارزقنا فهم معانيه، والوقوف عند أوامره ونواهيه، واللزوم لحدوده، والثبات عند نصوصه، والتوقف عند متشابهه، والتحرز عن القول فيه بالرأي، وأنه وصل من القاضي القطب الرباني محمد بن علي الشوكاني رسالة (¬1) في معنى إجبار اليهود على التقاط الأزبال، ولقد أجاد وأحسن الانتقاد، واستخرج بذكائه بنات أفكار كواعب أبكار عز اجتلاؤها على العلماء النظار، وخفيت محجاتها عن الأبصار. ولقد دل على طول باع، وكثرة اطلاع، فلله دره والله دره. ولا شك أن ما ذهب إليه حسن [1] إلا أنه لم ينحل شكال ذلك الإشكال، ولم تنفك تكلم الأقفال، إذ أشكل على بعض من اطلع عليها بعض ما فيها، وما أسند مقدماته إليها، فطلب القاضي بيان ذلك من القاضي - حماه الله وكثر من فوائده - لا قصد الجدال، بل هداية إلى أحسن مثال، وللاجتماع على ما به حل العقال. قال: الدليل الأول: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (¬2) ضرب الله - جل جلاله - لجواز مصالحة الكفار غاية هي إعطاء الجزية، وقيدها بالجملة الحالية وهي قوله: {وهم صاغرون} إشعارا بأن مجرد إعطاء الجزية غير كاف في جواز الموادعة والمصالحة وحقن الدماء، وجعلها اسمية تنبيها على دوام الصغار لهم وثباته كما قرره أئمة البيان إلخ. أقول: الجملة الاسمية لا شك أنها تدل على الدوام والثبوت إذا كان خبرها اسما، لكن إذا وقعت حالا تصير كالشيء المبتدئ به الذي تجدد وقوعه في تلك الحال، من دون نظر إلى الدوام وعدمه، ولذا قالوا: إنك تقصد في الحال أن صاحبها كان على هذا ¬

(¬1) الرسالة رقم (166). (¬2) [التوبة: 29]

الوصف حال مباشرة الفعل، فهي قيد للفعل، وبيان لكيفية وقوعه، بخلاف النعت، فإن المقصود بيان حصول هذا الوصف لذات المنعوت من غير نظر إلى كونه مباشرا لفعل أو غير مباشر، ولهذا جاز أن يقع الأسود والأبيض، والطويل والقصير، وما أشبه ذلك من الصفات التي لا انتقال فيها نعتا لا حالا. وأما الدوام فعلا يعتبر هنا، وإن اعتبر فليس مقصودا أولا وبالذات، فإن أريد الدوام هنا بالفعل فهو ممتنع، وإن أريد بالقوة، فلا نزاع كما سيأتي. قال في دلائل الإعجاز (¬1): إذا قلت: جاء زيد وهو مسرع، أو وغلامه يسعى بين يديه، أو وسيفه على كتفه كان المعنى أنك بدأت وأثبت المجيء، ثم استأنفت خبرًا، وابتدأت إثباتا ثانيا لما هو مضمون الحال، ولهذا احتيج إلى ما يربط الجملة الثانية بالأولى فجيء بالواو كما جيء بها في نحو: زيد منطلق، وعمرو ذاهب انتهى. وقال في موضع آخر (¬2): إنك إذا قلت: جاء زيد والسيف على كتفه، أو خرج التاج عليه فكان كلاما نافرا لا يكاد يقع في الاستعمال؛ لأنه بمنزلة قولك: جاءني زيد وهو متقلد سيفه، وخرج وهو لابس التاج في أن المعنى على استئناف كلام، وابتداء إثبات، وأنك لم ترد جاءني كذلك، ولكن جاءني وهو كذلك انتهى. فعرفت من هذا أن المعنى في قوله تعالى: {وهم صاغرون} على استئناف [2] كلام وابتداء صغار عند إعطاء الجزية من دون نظر إلى الدوام وعدمه، وهو ما فهمه السلف الماضون - رضي الله عنهم - وفهمه إمام البيان والتفسير الزمخشري (¬3) رحمه الله تعالى إذ قال: أي تؤخذ منهم الجزية على الصغار والذل، وهو أن يأتي بنفسه ماشيا غير ¬

(¬1) (ص214) لأبي بكر الجرجاني. (¬2) أي الجرجاني في "دلائل الإعجاز" (ص 202). (¬3) في "الكشاف" (3/ 32).

راكب ويسلمها وهو قائم، والمستلم جالس، وأن يثلثل تلتلة، ويؤخذ بتلبيبه ويقال له أد الجزية وإن كان يؤديها ومزح في قفاه انتهى، وقال الفقيه يوسف في الثمرات (¬1) في تفسير هذه الآية ما لفظه: وفي هذه الجملة حكمان: الأول: وجوب قتال من هذه صفته حتى يخرج عن هذه الصفة بالإسلام، أو يبذل الجزية فيقر على ذلك، وإن كانوا يرتكبون من المنكرات العظائم من الكفر، وشرب الخمر، وأكل الخنزير، وغير ذلك. ومثل هذا لا يكون في حق من أسلم أن يؤخذ منه عوض، ويقر على المعاصي؛ لأن الشرع قد ورد بهذا، ولا بد أن يكون مصلحة وإن جهل وجهها، مع أن إقرارهم بالجزية قد يكون لطفا لنا بالشكر على قهرهم، ولطفا لهم يكون لهم باعثا على الدين لأجل المخالطة، انتهى. وقال السيوطي (¬2): قوله تعالى: {وهم صاغرون} أخرج ابن أبي حاتم (¬3) عن المغيرة أنه قال لرستم: أدعوك إلى الإسلام، أو تعطي الجزية وأنت صاغر، قال: أما الجزية فقد عرفتها فما قولك: وأنت صاغر؟ قال: تعطيها وأنت قائم وأنا جالس والسوط على رأسك (¬4). وأخرج أبو الشيخ (¬5) عن سعيد بن المسيب قال: أحب لأهل الذمة أن يتعبوا في أداء ¬

(¬1) الثمرات اليانعة المصطفة من آي القرآن المجتناة من كلام الإله الرحمن" مؤلفه: يوسف بن أحمد الثلائي اليمني. مؤلفات الزيدية (1/ 351). (¬2) في "الدر المنثور" (4/ 168). (¬3) في تفسيره (6/ 1780 - 1781، رقم (10042). (¬4) عن أبي سعد قال: بعث المغيرة إلى رستم، فقال له رستم: ما تدعو؟ فقال له: أدعوك إلى الإسلام، فإن أسلمت فلك ما لنا وعليك ما علينا، قال: فإن أبيت؟ قال: فتعطي الجزية عن يد وأنت صاغر، فقال لترجمانه، قل له: أما إعطاء الجزية فقد عرفتها، فما قولك وأنت صاغر؟ قال: تعطيها وأنت قائم وأنا جالس، وقال غير أبي سعد: والسوط على رأسك. (¬5) عزاه إليه السيوطي في "الدر المثنور" (6/ 169).

الجزية لقوله: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (¬1) فاستدل بها من قال: إنها تؤخذ منهم بإهانة فيجلس الآخذ، ويقوم الذمي، ويطأطئ رأسه، ويحني ظهره، ويضعها في الميزان، ويقبض الآخذ لحيته، ويضرب لهزمته، ويرد به عليهم النووي (¬2) حيث قال: إن هذه هيئة باطلة. واستدل بالآية من قال: إن أهل الذمة يتركون في بلد أهل الإسلام؛ لأن مفهومها الكف عنهم عن أدائها، ومن الكف أن لا يجلوا. ومن قال: هي عوض حقن الدم فلا أجرة الدار انتهى، والمراد من ذلك أنه يعطونها في حال هم صاغرون فيه أي صغار، إذ الجملة الحالية إنما يقيد العامل بمضمونها، فمعنى وهم صاغرون في حال صغار. ولا يخفى أن لفظ صغار يصدق بأدنى شيء من الصغار، ولا يشترط أن يخلفه شيء آخر من الصغار. وأما ما لحظ إليه من الدوام أي دوام كل صغار على كل فرد، فإن أراد الدوام بالفعل فلا يقول له؛ لما يلزم عنه من اللوازم، وإن أراد بالقوة فلا نزاع. وما في القوة ليس واجب الوجود. قوله [3]: واعتبار السكاكي، والشريف، وصاحب المجاز للمقامات غير قادح في المطلوب لقضاء المقام بذلك بلا نزاع فهو إجماع. أقول: هذا الزمخشري وغيره لم يفهم ما فهمته من دوام الصغار، وعموم أنواع ¬

(¬1) [التوبة: 29]. (¬2) في "روضة الطالبين" (10/ 316): حيث قال: هذه الهيئة المذكورة لا نعلم لها على هذا الوجه أصلا معتمدا، وإنما ذكرها طائفة من أصحابنا الخراسانيين، وقال جمهور الأصحاب، تؤخذ الجزية برفق، كأخذ الديون، فالصواب الجزم بأن هذه الهيئة باطلة مردودة على من اخترعها، ولم ينقل أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أحد من الخلفاء فعل شيئا منها مع أخذهم الجزية.

الصغار لكل فرد في كل، فحسبنا الزمخشري (¬1) مخالفا وقامعا في الإجماع، فكيف والمخالف غيره كثير. قوله: وإهمال اعتباره أي اعتبار الظاهر فيما نحن فيه مستلزم لجواز تقرير بعض أهل الذمة بلا جزية ولا صغار وهو باطل. أقول: هم لا يهملون اعتبار الظاهر، أما في جانب الإعطاء فلما يجيء أنها من كل حالم دينار (¬2) وأما اعتبار كل صغار بالفعل لكل فرد على جهة اللزوم في حال الإعطاء وإلا ¬

(¬1) انظر: الكشاف (3/ 32). (¬2) أخرجه أبو داود رقم (1576) والترمذي رقم (623) والنسائي (5/ 26) وابن الجارود رقم (1104) والدارقطني (2/ 102رقم 29) والحاكم في "المستدرك" (1/ 398)، والبيهقي (4/ 98)، و (9/ 193) وأحمد (5/ 230)، والطيالسي (1/ 240 رقم 2077 - منحة المعبود) وابن أبي شيبة في "المصنف" (3/ 126 - 127)، وعبد الرزاق في "المصنف" (4/ 21 - 22 رقم 6841)، وابن ماجه رقم (1803)، من حديث معاذ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا أو تبيعة ومن كل أربعين مسنة، ومن كل حالم، يعني محتلما - دينارا أو عدله من المعافر، ثياب تكون باليمن". وهو حديث صحيح. قال ابن قدامة في "المغني" (13/ 209 - 210) وفي مقدار الجزية ثلاث روايات: 1 - أنها مقدرة بمقدار لا يزيد عليه ولا ينقص منه، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرضها مقدرة بقوله لمعاذ - تقدم -: خذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر. . . . وفرضها عمر بمحضر من الصحابة فلم ينكر عليه، فكان إجماعا. 2 - أنها غير مقدرة بل يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام في الزيادة والنقصان، قال الأشرم: قيل لأبي عبد الله: فيزداد اليوم فيه وينقص؟ يعني من الجزية، قال: نعم، يزاد فيه وينقص على قدر طاقتهم، على ما يرى الإمام، وذكر أنه زيد عليهم فيما مضى درهمان، فجعله خمسين، قال الخلال: العمل في قول أبي عبد الله على ما رواه الجماعة، فإنه قال: لا بأس للإمام أن يزيد في ذلك وينقص على ما رواه عنه أصحابه في عشرة مواضع، فاستقر قوله على ذلك، وهذا قول الثوري، وأبي عبيد؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر معاذا أن يأخذ من كل حالم دينارا، وصالح أهل نجران على ألفي حلة النصف في صفر والنصف في رجب. وعمر جعل الجزية على ثلاث طبقات: - على الغني ثمانية وأربعين درهمًا. - وعلى المتوسط أربعة وعشرين درهما. - وعلى الفقير اثني عشر درهما. وصالح بني تغلب على مثلي ما على المسلمين من الزكاة، وهذا يدل على أنها إلى رأي الإمام. قال البخاري في صحيحه (4/ 117)، قال ابن عيينة: عن ابن أبي نجيح، قلت لمجاهد: ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير، وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال: جعل ذلك من أجل اليسار، ولأنها عوض فلم تتقدر كالأجرة. 3 - أن أقلها مقدر بدينار، وأكثرها غير مقدر، وهو اختيار أبي بكر، فتجوز الزيادة ولا يجوز النقصان؛ لأن عمر زاد على ما فرض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم ينقص منه، وروي أنه على ثمانية وأربعين، فجعلها خمسين.

فليست بجزية فلم يقل به أحد، ولا دليل على وجوبه؛ لأن الصغار الحاصل للكل المجموعي، أو للفرد الكامل عائد إلى الإفراد من ذلك، غاية ما يلزم من ذلك جواز تقرير بعض أهل الذمة بلا صغار مخصوص بالفعل في حال إعطاء الجزية وهو مستلزم. أو يقال: الصغار ثابت لكل واحد بالفعل في حال إعطاء الجزية، إذ الواقع أنهم يعطونها وهم في حال صغار، ولا يخفى أن نزع العمامة عنهم صغار ثابت لازم لهم، مقارن لإعطاء الجزية، كذلك لبس الغيار صغار. الزنار (¬1) المعروف صغار. كذلك الفقر والمسكنة والذلة التي ضرب الله عليهم صغار، هذا مما هو ثابت بالفعل في عامة الأحوال، وتقارن إعطاء الجزية، وأما ما هو ثابت في بعض الأحوال فكثير. قوله: وإذا تقرر أن كل فرد من أفراد أهل الذمة لا ينفك عن الصغار بحكم الشرع، وأن الصغار هو الذلة والإهانة كما تقرر في اللغة، فدعوى اختصاصه ببعض ما فيه ذلك، ¬

(¬1) من زنره ملأه، وزنره الرجل ألبسه الزنار، وهو ما على وسط النصارى والمجوس. "القاموس" (ص 514).

أو بوقت دفع الجزية آخذا بظاهر التقييد ممنوع؛ لأن الأولى تحكم محض، والثانية يفت في عضدها أنه يصدق على الذمي أنه معط للجزية في جميع أوقات المصالحة، وإلا لزم بطلان مصالحته، وإهانته في وقت عدم الإعطاء بالفعل وهو باطل. أقول: أما كونهم لا ينفكون عن الصغار والذلة بالقوة فمسلم، وأما عن الصغار والذلة بالفعل فهو معلوم الانفكاك. قوله: آخذا بظاهر التقييد ممنوع. أقول: لا ملجئ إلى مخالفة الظاهر وما أطبق عليه المفسرون وعلماء المعاني والبيان. قوله: لأن الأولى تحكم محض يعني اختصاصها الصغار ببعض ما فيه الصغار. أقول: هكذا فسره السلف بصغار مخصوص حال إعطاء الجزية، ولو قلنا بعدم الاختصاص لم يلزمنا إجبارهم على التقاط العذرة، إذا ما صدق عليه الصغار كان في المقصود. قوله: والثانية يفت في عضدها أنه [4] يصدق على الذمي أنه معط للجزية في جميع أوقات المصالحة. . . إلخ. أقول: لعله يريد أن القول بأن الصغار بالفعل يمنع اعتبار الإعطاء بالقوة، ولا يلزم ذلك؛ لأنا نقول: إن الإعطاء في الآية بالفعل، والصغار الذي هو قيد الإعطاء كذلك بالفعل، وإذا حصل الإعطاء والصغار بالفعل صدق عليهم أنهم معطون بالقوة، وصاغرون بالقوة، إذا لكانت بالفعل وكانت بالقوة ولا عكس. قوله: إذا عرفت هذا علمت أن إعفاء اليهود عن التقاط الأزبال الذي هو أعظم أنواع الصغار وأهمها لا سيما مع استلزامه لإلصاق هذا العار الهادم لكل شعار بالمسلمين لا محالة يعود على الغرض المقصود من المصلحة الباعثة على المصالحة بالنقص. أقول: الإجماع حاصل على جواز تأييد صلح الكتابي (¬1) بالجزية وأنواع الصغار ¬

(¬1) قال ابن قدامة في "المغني" (13/ 207): ولا يجوز عقد الذمة المؤبدة إلا بشرطين: الأول: أن يلتزموا إعطاء جزية في كل حول. الثاني: التزام أحكام الإسلام، وهو قبول ما يحكم عليهم من أداء حق أو ترك محرم لقوله تعالى: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) [التوبة: 29]. وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فادعهم إلى أداء الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم" ولا تعتبر حقيقة الإعطاء، ولا جريان الأحكام؛ لأن إعطاء الجزية إنما يكون في آخر الحول، والكف عنهم في ابتدائه عند البدل، والمراد بقوله: (حتى يعطوا الجزية) أي يلتزموا الإعطاء ويجيبوا إلى بذله كقوله تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) والمراد به التزام ذلك دون حقيقته. . . . .

مخصوصة من أنواع الصغار لا على إلزام أعظم أنواع الصغار، فإلزام أعظم أنواع الصغار محتاج إلى دليل، أو على فرض ثبوت دليل فقد جعلوا عمل الأمة بخلاف الدليل علة فيه. ثم يقول بعد ذلك: إنه لا فرق عند من له فهم بين إخراج الحشوش ووضع ما فيها من الأموال، وبين التقاط الأزبال ووضعها في الحمام، وقد أباح الشرع الأول، ولم يمنع من الثاني، ولم يأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ اليهود بإخراج الحشوش، ولا بالتقاط الأزبال إلى الحمامات، ولا أجد من الصحابة ولا الخلفاء الأربعة مع اتساع بسطتهم على البلاد، ولا فهموا من هذه الآية ما فهمه القاضي - حماه الله - ولا يقول أحد أن الحمامات لم تكن توجد ذلك اليوم، ولا يقول أحد أن الأموال كانت لا توضع فيها الأزبال. قال ابن حجر: قوله: وأما تسميد الأرض بالزبل فجائز، قال الإمام: لم يمنع منه أحد للحاجة القريبة من الضرورة، وقد نقله الأثبات عن أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ انتهى، قد رواه البيهقي (¬1) من حديث سعد بن أبي وقاص. وروي عن ابن عمر خلاف ذلك عند ............................ ¬

(¬1) في "السنن الكبرى" (6/ 136) كان سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - يحمل مكتل عرة إلى أرض له. قال الأصمعي: العرة، هي عذرة الناس.

الشافعي (¬1)، وأسنده عن ابن عباس مرفوعًا بسند ضعيف، ولفظه: "كنا نكري الأرض على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ نشرط عليهم ألا يزبلوه بعذرة الناس (¬2) انتهى كلام ابن حجر، وقد سمعت أن إسناد هذا الحديث ضعيف، وأن المروي عن ابن عمر بصيغة التمريض، وأن المروي عن الإثبات جواز تسميد الأرض بالزبل. وقد استثنى أهل الفقه من عدم جواز الانتفاع بالنجس أمورًا. منها: تسجير التنور بالعذرة، ومن المعلوم أن المتسجر للتنور ليس يهوديا ولا نصرانيا وكذلك الاستصباح بالنجس فما أباحه الشرع فليس فيه عار، وما أذن فيه فلا يحسن معه إلا الانقياد والتسليم، وقد علم القاضي [5] أن الأمة لا تجتمع على ضلالة بنص الحديث الذي هذا لفظه. وأن اختلاف هذه الأمة رحمة. والقضاء بإجبار أهل الذمة على ذلك، وأنه واجب متحتم يقضي بأن الأمة أجمعت على خطأ، وسكتت عن عار، لا شرف للإسلام معه، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} (¬3). {وما آتاكم الرسول فخذوه ما نهاكم عنه فانتهوا} (¬4). قال: الدليل الثاني: قال الله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} (¬5) ثم نقل تفسير جار الله (¬6) للآية الأولى، ولم يكمله، وتمامه: فاليهود ¬

(¬1) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 139) عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر كان يشترط على الذي يكريه الأرض أن لا يعرها وذلك قبل أن يدع عبد الله الكراء. (¬2) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 139). (¬3) [المائدة: 3]. (¬4) [الحشر: 7]. (¬5) [البقرة: 61]. (¬6) أي الزمخشري في "الكشاف" (1/ 276).

صاغرون، إذا لا أهل مسكنة ومدقعة، إما على الحقيقة، وإما لتصاغرهم وتفاقرهم خيفة أن تضاعف عليهم الجزية انتهى، فتمام كلام الكشاف مخالف لما يريده القاضي من إنزال كل صغار بهم، وكان الواجب عليه نقله. قوله (¬1) وقال (¬2) في تفسير الآية الثانية (¬3): والمعنى ضربت عليم الذلة في عامة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل من الله وحبل من الناس، يعني ذمة الله وذمة المسلمين، أي لا عز لهم قط إلا هذه المواحدة، وهي التجاؤهم إلى الذمة لما قبلوا من الجزية انتهى، وأول كلام جار الله لم ينقله القاضي وهو: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} (¬4). {بحبل من الله} في محل النصب على الحال، بتقدير: إلا معتصمين، أو متمسكين، أو متلبسين بحبل من الله، وهو استثناء من أعم عام الأحوال انتهى. وبعده ما نقله القاضي. وأقول: على تسليم أن الذلة ليست الأمر الخلقي التي أنزلها الله عليهم، فهذا الآية التي في آل عمران (¬5) مقيد للآية الأولى في البقرة (¬6) وإذا كانت مقيدة لتلك كما هو القاعدة أن المطلق يحمل على المقيد، فقد صاروا في كنف الإسلام وحماه وعزته، وقد اكتسبوا حرمة باعتزائهم إلى جانب الإسلام، ودخوله تحت الذمة والعهد والواقع بين المسلمين وبينهم، فيكف يجوز لنا تغيير ما مشى عليه الأولون، وأقروهم عليه من لدن معاذ بن جبل إلى الآن، ولم ينقل عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا معاذ بن جبل أنه أمر اليهود وألزمهم بالتقاط الأزبال، إنما عوهدوا على أداء الجزية. ¬

(¬1) أي الشوكاني في الرسالة رقم (166). (¬2) الزمخشري في "الكشاف" (1/ 610). (¬3) من سورة آل عمران (112). (¬4) [البقرة: 61]. (¬5) من سورة آل عمران (112). (¬6) [البقرة: 61].

قال الخزرجي في تاريخه: وعن محمد بن إسحاق، وساق كتاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لأهل اليمن، وفيه: وأنه من أسلم يهوديا أو نصرانيا فإنه من المؤمنين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته، فإنه لا يرد عنها وعليه الجزية على كل حالم ذكر وأنثى، حر أو عبد دينار واف من قيمة المعافر، أو عرضه ثيابا، فمن أدى ذلك إلى [6] رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فإن له ذمة الله وذمة رسوله، وإن منعها فإنه عدو لله لرسوله انتهى محل الحاجة، وذكر أن كتاب ملوك حمير مقدمة من تبوك، وكان جوابه هذا عليهم مقدمة منها أيضًا وهو آخر غزوة غزاها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: إنك سترد على قوم أكثرهم أهل كتاب، فاعرض عليهم الإسلام، فإن امتنعوا فاعرض عليهم لجزية، وخذ من كل دينارا، فإن امتنعوا فقاتلهم، وسبق إلى إيراده هكذا الغزالي في الوسيط (¬1) وتعقبها ابن الصلاح (¬2). قلت: والظاهر أنه ملفق من حديثين: الأول في الصحيحين (¬3) من حديث ابن عباس فأوله إلى قوله: فادعهم إلى الإسلام، وفيه بعد ذلك زيادة ليست هنا. ¬

(¬1) (7/ 55). (¬2) في مشكل الوسيط (2/ 128) وهو بذل الوسيط. الحديث الذي ذكره الغزالي - يجمع بين حديثين كلاهما عن معاذ رضي الله عنه أخرج البخاري في صحيحه رقم (1458)، ومسلم رقم (19) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما بعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن قال: "إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه، عبادة الله، فإذا عرفوا، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا الصلاة، فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة في أموالهم وترد على فقرائهم، فإذا أطاعوا بها فخذ منهم، وتوق كرائم أموال الناس. ". ما أخرجه أبو داود في السنن رقم (1576) عن معاذ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما وجهه إلى اليمن، أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله من المعافر (ثياب تكون باليمن) - تقدم تخريجه. (¬3) انظر: " التعليقة السابقة

وأما الجزية فرواه أحمد (¬1) أبو داود (¬2) والنسائي (¬3) والترمذي (¬4) والدارقطني (¬5) وابن ماجه (¬6) ابن حبان (¬7) والحاكم (¬8) والبيهقي (¬9) من حديث مسروق عن معاذ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم دينارًا أو عدله من المعافر - ثياب تكون باليمن -. قال أبو داود (¬10) هو حديث منكر، قال: وبلغني عن أحمد أنه كان ينكره، وذكر البيهقي (¬11) الاختلاف فيه، فبعضهم رواه عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما بعث معاذا. وأعله ابن حزم (¬12) بالانقطاع، وأن مسروقا لم يلق معاذا، وفيه نظر. ¬

(¬1) في "المسند" (5/ 230). (¬2) في "السنن" (1577). (¬3) في "السنن" (5/ 26). (¬4) في "السنن" (623). (¬5) في "السنن" (2/ 102رقم 29). (¬6) في "السنن" (رقم 1803). (¬7) في صحيحه رقم (4886). (¬8) في "المستدرك" (1/ 398). (¬9) في "السنن الكبرى" (4/ 98) و (9/ 193) وهو حديث صحيح. (¬10) ذكره الحافظ في "التخليص" (2/ 152). (¬11) في "السنن الكبرى" (4/ 98). (¬12) في "المحلى" (6/ 16) حيث قال وجدنا حديث مسروق إنما ذكر فيه فعل معاذ باليمن في زكاة البقر، وهو بلا شك قد أدرك معاذا، وشهد حكمه وعمله المشهور المنتشر، فصار نقله لذلك، ولأنه عن عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نقلا عن الكافة عن معاذ بلا شك.

وقال الترمذي: (¬1) حديث حسن، وذكر أن بعضهم رواه مرسلا، وأنه أصح انتهى ما في التخليص. وقال الحاكم (¬2) صحيح على شرطهما انتهى من الخلاصة. إذا تقرر هذا عرفت أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ صالحهم على الجزية، وعقد لهم بذلك ذمة الله، وذمة رسوله، فيكف يجوز نقض ما عوهدوا عليه، والزيادة على ما سن من السنة، في أهل الكتاب! فنحن نقتصر على ما عاهدهم عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ من الجزية، ومن عدم ابتدائهم بالسلام، ومن إلجائهم إلى أضيق الطريق، وما أذن فيه الشرع على الوجه المعتبر، وقد علمتم أنه يسعى بذمة المسلمين أدناهم (¬3) وأنها لا تخفر (¬4) هذه الذمة، فيكف بما عقده النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، ومشى عليه الخلفاء من بعده وأقرهم الأئمة عليه! وأن هؤلاء اليهود باليمن كما قال الشاعر: فصرت أذل من وتد بقاع ... يشجج رأسه بالفهر واجي فلا مزيد على ما هم فيه من الذمة والصغار، ولا نقول: إنها قد سقطت حرمتهم بالمرة فلهم حرمة بسبب دخولهم تحت الذمة. والعهد مقبرة المسلم والذمي [7] من الثرى إلى الثريا، فلا تزدرع (¬5) ولا تقوآها حتى يذهب قرارها، وكذلك أباح الشرع نكاح الكتابيات ولو كانوا بحيث لا يؤبه لهم، وأنه ¬

(¬1) في "السنن" (3/ 20). (¬2) في "المستدرك" (1/ 398). (¬3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه ابن ماجه رقم (2684) من حديث معقل بن يسار مختصرا بلفظ: "المسلمون يد على من سواهم تتكافأ دماؤهم" وهو حديث صحيح. (¬4) أخرج مسلم في صحيحه رقم (470/ 1371) من حديث أبي هريرة بلفظ: "إن ذمة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين". (¬5) المزدرع: الذي يزدرع زرعا يتخصص به لنفسه، وازدرع القوم اتخذوا ذرعا لأنفسهم خصوصا أو احترثوا وهو افتعل إلا أن التاء لما لان مخرجها ولم توافق الزاي أبدلوا منها دالا، لأن الدال والزاي مجهورتان والتاء مهموسة. لسان العرب (8/ 141).

ينبغي أن يكسوا جميع ملابس الصغار والذلة لم يأذن (¬1) الشارع الحكيم بنكاح الكتابيات. وهذه المسألة التي الخوض فيها مبنية على التأجير، والتأجير مبني على الرضا، والرضا ينافي الإجبار الذي لحظتم إليه. قوله: وليس المراد بالذلة، الذلة الحاصلة بسبب خاص أو ببعض معين ليس ذلك إلا تحكم لم يدل عليه دليل. أقول: لفظ ذلة مصدر نوعي يدل على النوعية، والتاء تدل على الواحدة، واللام في الذلة للعهد الخارجي (¬2) الذي هو أم الباب، ولذا فسرها أبو السعود (¬3) لهدر النفس والمال والأهل. أو ذل التمسك بالباطل، ولا يخفى أنه لم يفسره أحد بما يعم أنواع الذلة، ووجوب إنزال أسبابها بهم، بل إما بالمصدر، وهو صادق على نوعين من الذلة، أو على الذلة الطبيعية، وإما بشيء مخصوص، فالقصد إلى تفسير السلف هو الأولى مع مناسبته للمقام فكيف يقال أن التفسير بسبب خاص، أو ببعض معين تحكم، والحال أن جوهر اللفظ يدل على نوع من الذلة مخصوص. قوله: ويدل لعدم صحة هذه الإرادة قوله تعالى: {وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب} (¬4). . . إلخ. ¬

(¬1) قال تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) [البقرة: 221]. (¬2) في حاشية المخطوط ما نصه: والمعهود إما أن يتقدم ذكره لفظا أو معنى، والإشارة باللام إما إلى الحصة من الجنس أو اثنين منها أو ثلاثة ولا يجتمع العهد والاستغراق حتى يقال: إن الإشارة إلى جميع أنواع الذلة، ولم يتفق ذلك إلا في قوله تعالى: (فجمع السحرة) بعد قوله: (بكل سحار عليم) وفيه بعد ذلك كلام. تمت. (¬3) في إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (1/ 207)، (3/ 374)، بتحقيقي. (¬4) [الأعراف: 167].

أقول: قال في الكشاف (¬1) في تفسير سوء العذاب ما لفظه: "فكانوا يؤدون الجزية إلى المجوس، إلى أن بعث الله محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ؛ فضربها عليهم، فلا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر". قوله: ولا يخفى ما في الإضافة إلى العذاب المحلى باللام من إباء (¬2) إرادة المعين وما في جعل يوم القيامة غاية لذلك من الدلالة على عدم إرادة مخصوص. أقول: اللام (¬3) هي تستعمل لمعان كثيرة، فلا نص هنا على العموم، بل المقام محتمل أن المراد عذابا معينا، إذ قد أمر الله سبحانه وتعالى أن يقاتلهم حتى يعطوا الجزية وهم صاغرون، فدل على أن سوء العذاب الجزية، وهذا هو اللائم المقيد سقوطه يقوم القيمة أو بعض آياتها مثل نزول عيسى، وفسرها الإمام جار الله بذلك. قال: الدليل الثالث: قول الله تعالى: {لهم في الدنيا خزي} (¬4) قال جار الله الزمخشري (¬5) قتل وسبي، أو ذلة بضرب الجزية إلى أن قال: وأقول تعيين ما به الخزي لا يكون إلا توفيقا، والأحسن أن يراد خزي كثير، أو خزي عظيم إلخ. أقول: نتكلم هنا مع القاضي في طرفين الأول: أن الآية [8] اختلف في سبب نزولها فعن ابن عباس (¬6) ومجاهد (¬7) وقتادة (¬8) نزلت في النصارى، والقول الثاني عن ابن زيد (¬9) قال: هؤلاء المشركون حين حالوا بين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يوم الحديبية ¬

(¬1) (2/ 526.). (¬2) في المخطوط غير واضحة ولعلها إباء. (¬3) انظر: "مغني اللبيب" (1/ 207 وما بعدها). (¬4) [البقرة: 114]. (¬5) في "الكشاف" (1/ 313). (¬6) أخرجه ابن جرير في "جامع البيان" (1\ج1/ 499) وابن كثير في تفسيره (1/ 386). (¬7) أخرجه ابن جرير في "جامع البيان" (1\ج1/ 499). (¬8) أخرجه ابن جرير في "جامع البيان" (1\ج1/ 499). (¬9) أخرجه ابن كثير في تفسيره (1/ 386) وابن جرير في "جامع البيان" (1\ج1/ 450).

وبين أن يدخل مكة. قال ابن كثير (¬1) وهو الأظهر؛ لأنه لما وجه الذم في حق اليهود والنصارى شرع في ذم المشركين، فهذه الأقوال كما ترى، ولم يذكر أنها نزلت في اليهود، وإنما استدل القاضي بها؛ لأن العام لا يقصر على سببه، وفيه الخلاف المشهور في الأصول، فإن تقرر عنده ذلك فله الاستدلال بها. الطرف الثاني: أنه قال: إن تعيين ما به الخزي لا يكون إلا توفيقا، وقد سبقه إلى كون الخزي في الدنيا أعم من ذلك ابن كثير (¬2) لكن نقول: من جعل الآية عامة للنصارى واليهود فسر الخزي لكل ما يليق به ويناسبه، ففسر السدي وعكرمة ووائل بن داود الخزي في الدنيا المهدي (¬3) وفسره (¬4) قتادة بأداء الجزية وهم صاغرون، فهذه الأقوال المحكية عن السلف محتملة للتوقيف، ومحتملة للوقف، لكن الحمل على الطرف الأول أولى، حملا لهم على السلامة من أن يقولوا في كتاب الله برأيهم. والثاني: فهو الوقف إن كان نظرهم أدى إلى ذلك فذلك مراد الله منهم أنه قال جل وعلا: {لهم في الدنيا خزي} ففهموا أنه إذا حصل أي خزي عظيم فقد كفى، إذ بحصول خزي واحد يصدق أن لهم خزي أي واقع بهم، أو وقع فتصدق الآية عليه. ولو كان المطلوب منا كل خزي، أو خزي معين عنده تعالى لا نعرفه نحن، وطلب الشارع منا إصابته لكان في ذلك من الحرج والمشقة ما لا يخفى، إذ لا يمكن إنزال كل خزي بهم، ولا نعرفه أنه لم يبق خزي في الدنيا إلا أنزلناه بهم، إذ تحوز العقل أن الخزي المراد لله سبحانه وتعالى لم يصادفه ولم يصبه، فلا يزال يتطلب ذلك، ويلزم من ذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لم ينزل بهم الخزي الذي أراده، ولا أحد من صحابته ¬

(¬1) في تفسير (1/ 388). (¬2) في تفسيره (1/ 390). (¬3) ذكره ابن كثير في تفسيره (1/ 390). (¬4) ذكره ابن كثير في تفسيره (1/ 390).

ولا من بعدهم، وأنهم جميعا لم ينزلوا باليهود شيئا من الخزي المراد لله، ونحو هذا من اللوازم، فلنقف عند قوله تعالى: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (¬1). على أنه لا يستفاد من هذه الآية وهي قوله: {لهم في الدنيا خزي} (¬2) الأمر لنا بإيقاع الخزي، إنما أمرنا بأوامر أخرى أن نقاتلهم، ونسبي ذاراريهم، ونصطفي أموالهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية وهم صاغرون، فهذه الآية إنما هي وصف لهم بالخزي، والخزي بالفعل مفارقهم في كثير من الأحوال، ولذا قال القاضي: إن المراد [9] أنهم أهل لكل فرد من الأفراد الموجبة للخزي، ولم نقض بأنه واجب علينا إنزال كل فرد من أفراد الخزي لهذه الآية. وأعلم أنه قد بنى - حماه الله - على أن التنكير إما للتكثير، أو للتعظيم أو مجموعهما وأنه لا يصح القصد إلى فرد من أفراد الخزي، أو إلى نوع منه لعدم مناسبته لمقام الوعيد الشديد. أقول: لا يجوز أن يكون التنكير للنوعية مع إرادة التعظيم، ولا منافاة بين إرادة النوعية والتعظيم، كما صرح به علماء البيان، فيكون معنى الآية على هذا نوع عظيم من الخزي كما قيل في قوله تعالى: {وعلى أبصراهم غشاوة} (¬3) ولا مانع من ذلك، وذلك مناسب للمقام، ومعارض لما أيده القاضي - حماه الله - من أن التنكير للتكثير والتعظيم، ومع الاحتمال يبطل الاستدلال لا سبيل إلى القطع بما قاله القاضي، وأن مراد الله ذلك. قال: الدليل الرابع: قول الله - عز وجل - مخاطبا لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: ¬

(¬1) [التوبة: 29]. (¬2) [البقرة: 114]. (¬3) [البقرة: 7].

{وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (¬1) يعني الكفار أي اغلظ على جنس الكفار، أو على كل كافر، وخاطبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ خطاب لأمته. . . إلخ. أقول: صدر الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (¬2) قال جار الله (¬3): جاهد الكفار بالسيف، والمنافقين بالحجة، واغلظ عليهم في الجهادين جميعا ولا تحابهم. وكل من وقف منه على فساد في العقيدة هذا الحكم ثابت فيه يجاهد بالحجة ويستعمل معه الغلظة ما أمكن منها. عن ابن مسعود أن من لم يستطع بيده فبلسانه، وإن لم يستطع فليكفهر في وجهه، فإن لم يستطع فبقلبه (¬4) يريد الكراهة والبغضاء التبرؤ منه، وقد حمل الحسن (¬5) جهاد المنافقين على إقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها انتهى، فعرفت من هذا أن الإغلاظ على الكافرين بالسيف، وعلى المنافقين بالحجة، إذ لا جهاد للمنافقين بالسيف، وأن الأمر بالجهاد للكفار مع بقائهم على الكفر، وعدم تسليم الجزية، فإذا سلموا الجزية فلا جهاد لهم ولا إغلاظ. وقد قال تعالى {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (¬6) وقال في الثمرات (¬7) في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} (¬8). ¬

(¬1) [التوبة: 73] [التحريم: 59]. (¬2) [التوبة: 73]، [التحريم: 59] (¬3) أي الزمخشري في "الكشاف" (3/ 68). (¬4) أخرجه ابن جرير الطبري في "جامع البيان" (6\جـ 10/ 183). (¬5) أخرجه ابن جرير الطبري في "جامع البيان" (6\جـ10/ 184). (¬6) [العنكبوت: 46]. (¬7) تقدم ذكره. (¬8) [التوبة: 73]، [التحريم: 59].

الآية ما لفظه: دلت على وجوب الجهاد، قيل بالسيف للكفار، وجهاد المنافقين بالحجة، وقيل جهاد المنافقين بإقامة الحدود عليهم عن الحسن وقتادة. وقال الضحاك (¬1) وابن جريح: جهاد المنافقين بأن يغلظ عليهم الكلام، وهذا حيث لا يقابل ذلك مصلحة [10] فإن ترتب على الرفق بهم مصلحة من رجاء توبة به جازت الملاطفة، وقد جوزوا التعزية لأهل الذمة والوصية، وقال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (¬2) انتهى. قال: الدليل الخامس: ما وصف الله به أهل الإسلام من قوله: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} (¬3) فالعزة على الكفار على وجه الاستعلاء المشعور به من على وصف المادح الانخراط في سلكه أمر ترغب إليه كل نفس أبية، وتطلبه كل همة قسورية وأن ما نحن فيه - لعمر أبيك - حقيق بأن يكون مقدم قافلة ركب العزة، وعنوان ذلك الشرف الذي ما صادف غيرة مجزه. ¬

(¬1) انظر تفسير القرآن العظيم (4/ 178) لابن كثير. (¬2) [الممتحنة: 8] قال ابن جرير في "جامع البيان" (14\جـ28/ 66) وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: لا ينهاكم الله عن الذين لا يقاتلوكم في الدين من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلوهم، وتقسطوا إليهم إن الله عز وجل عم بقوله: (الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم) جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصص به بعضا دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ، لأن بر المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرم ولا منهي عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له، أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح. (¬3) [المائدة: 54].

أقول: لا ننكر أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأما كون هذه مقدمة ركب العزة فلا، إذ يلزم من ذلك أنه لا عزة للإسلام في البلاد الخالية عن اليهود، إذ بالضرورة أنهم يلتقطون أزبالهم هم بنفوسهم، أو يقوم بهذه الوظيفة أحدهم، فلا عزة لهم حينئذ، وقد قال ربك سبحانه وتعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} (¬1) قال جار الله (¬2): هذه الهمزة للإنكار المستقبل بالتجهيل والتعجب من اعتراضهم وتحكمهم، وأن يكونوا هم المدبرين من النبوة والتخير لها من يصلح لها ويقوم بها، والمتولين لقسمة رحمة الله التي لا يتولاها إلا هو بباهر قدرته وبالغ حكمته، ثم ضرب لهم مثلا فاعلم أنهم عاجزون عن تدبير خويصة أمرهم، وما يصلح في دنياهم، وأن الله - عز وعلا - هو الذي قسم لهم معيشتهم، وقدرها ودبر أحوالهم تدبير العالم بها، فلم يسو بينهم، ولكن فاوت في أسباب العيش، وغاير بين منازلهم، فجعل منم أقوياء وضعفاء، أغنياء ومحاويج، وموالي وخدما ليصرف بعضهم بعضا في حوائجهم ويستخدموهم في مهنهم، ويسخروهم في أشغالهم، حتى يتعايشوا، ويترافدوا، ويصلوا إلى منافعهم، ويحصلوا على مرافقهم، ولو وكلهم إلى أنفسهم، وولاهم تدبير أمرهم لضاعوا وهلكوا، فإذا كانوا في تدبير المعيشة الدنية في الحياة الدنيا على هذه الصفة، فما ظنك بهم في تدبير أمر الدين الذي هو رحمة الله الكبرى ورأفته العظمى؟ وهو الطريق إلى حيازة حظوظ الآخرة، والسلم إلى حلول دار السلام انتهى. فبعد قوله الله تعالى: {ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًا} (¬3) لا مجال للكلام [11] في ¬

(¬1) [الزخرف: 31 - 32]. (¬2) أي الزمخشري: في "الكشاف" (5/ 438). (¬3) [الزخرف: 32].

أن ذلك عار وشنار وحطة تلحق الإسلام، على أن المسلمين قد دخلوا في حرف كثيرة فيها دناءة وصغار وإن لم يبلغ في الجد هذه، فهلا قيل: إنه لا عز للإسلام مع ذلك. وقد تقدم أنه لا فرق بين نقل الأزبال إلى الأموال ونقلها إلى الحمامات، وجرى بالأول العرف الذي لا ينكر، كما جرى بالثاني في جميع أقطار اليمن، ومضى عليه الأولون. وهاهنا أيضًا مانع من الاستدلال بالآية: على العموم، وأن سياق الآية يفهم خلاف ذلك وهي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} (¬1) قال أبو السعود في تفسير قوله: (¬2): {يجاهدون في سبيل الله} صفة أخرى لقوم، مترتبة على ما قبلها \ مبنية مع ما بعدها لكيفية، عزتهم، أو حال من الضمير في أعزة. قوله: فأي عز لمسلم يعمد إلى حشوش اليهود، ويحمل أزبالهم، وأي فضيلة لإخوانه المسلمين المقرين له على ذلك العمل إلخ. أقول: هذا مما لم نعلم بوقوعه عندنا، فإن كان واقعا بصنعاء فأنتم أعرف، وعلى ما فيه فلعل له عذرا وأنت تلوم. وهو أنه قد تقرر أن الضرورات تبيح المحظورات، قال تعالى: {إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله} (¬3) إلى قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (¬4) فقد تكون الضرورة ألجأته إلى العمل بالأجرة فيما يسد خلته، ويقوم بأود عياله، ويسد رمقه، ويبلغ به البلغة من العيش، وأنه لا يجب عليه أكل الميتة وثمة شيء يتناوله وينتفع بإيقاده، فيحصل من أجرة الإيقاد ما يقتات به، ¬

(¬1) [المائدة: 54]. (¬2) إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم" (2/ 499). (¬3) [البقرة: 173]. (¬4) [البقرة: 173]

ولعمر أبيك أنه ما طلب الدنيا أحد بما تستحق مثل هذا الرجل. فقد روي عن بعض السلف حكاية ظريفة، وهو أنه رأى رجلا مضحكا عليه آثار النعمة، فقال: ما هذا؟ فقيل: هذا رجل يضحك الملوك بأن يضرط لهم فقال: ما طلب الدنيا أحد بما يليق بها مثل هذا، أو في حديث أعزل الأذى عن طريق المسلمين أخرجه أحمد (¬1). وفي الحديث: "استعفف عن السؤال ما استطعت" أخرجه الديلمي (¬2). وفي الحديث: "إن الله يحب العبد المؤمن المحترف" أخرجه أحمد (¬3). وفيه إن الله يحب العبد ينتحل المهنة، يستغني بها عن الناس، ويبغض العبد يتعلم العلم يتخذه مهنة. وقد أجر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه في الجنة، نفسه من يهودي، قال ابن حجر (¬4) حديث علي أنه أجر نفسه من يهودي [12] يسقى له كل دلو بتمرة [أخرجه] (¬5) ابن. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

(¬1) في "المسند" (4/ 420) بإسناد حسن. قلت: وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (131/ 2618) البيهقي في "الشعب" رقم (11165) وابن أبي شيبة (9/ 28) وابن ماجه رقم (3681) وأبو يعلى في مسنده رقم (7472) وابن حبان رقم (541) من طرق عن أبي برزة قال: قلت يا رسول الله علمني شيئا أنتفع به قال: "اعزل الأذى من طريق المسلمين". (¬2) لم أجده. (¬3) أخرجه الطبراني في "الكبير" (12/ 308 رقم 13200) وفي "الأوسط" (8/ 380) رقم (8934). وأورده الهيثمي في "المجمع" (4/ 62) وقال رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" وفيه عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف. أخرجه البيهقي في "الشعب" رقم (1237)، كلهم من حديث عبد الله بن عمر. (¬4) في "التخليص" (3/ 134). (¬5) زيادة يقتضيها السياق.

ماجه (¬1) والبيهقي (¬2) من حديث ابن عباس، وفيه حنش راويه (¬3) عن عكرمة عنه، وهو ضعيف، وسياق البيهقي أتم، وعندهما أن عدد التمر سبع عشرة، ورواه أحمد (¬4) من طريق علي بسند جيد، ورواه ابن ماجه (¬5) بسند صححه (¬6) ابن السكن مختصرا قال: كنت أدلو الدلو بتمر، واشترط أيضًا جلدة انتهى، كذا أي يابسة جيدة لم يأنف أمير المؤمنين أن يعمل ليهودي، ولم يقل أنه سقط شيء من عزة الإسلام، وقد يكون تعاطي الأعمال الدنية لهضم النفس من الكبر والخيلاء والعجب. وذلك لا يفي بمن عرف من نفسه عدم الوقوف عند الحد، وهو المناسب لما حكى أن مطرف بن عبد الله بن الشخير (¬7) نظر إلى المهلب بن أبي صفرة (¬8) وعليه حلة يسجها، ويمشي الخيلاء، فقال له: يا أبا عبد الله ما هذه المشية التي يبغضها الله ورسوله؟ فقال ¬

(¬1) في "السنن" (2446) (¬2) في "السنن الكبرى" (6/ 119) وهو حديث ضعيف جدًا. (¬3) اسمه حسين بن قيس، وحنش لقب، قال أحمد: متروك وقال أبو زرعة وابن معين: ضعيف، وقال البخاري: لا يكتب حديثه، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال: متروك، وقال السعدي: أحاديثه منكرة جدًا، وقال الدارقطني: متروك. الميزان (1/ 546). (¬4) في المسند (1/ 90، 135). وأورده الهيثمي في "المجمع" (4/ 97) وقال: رجاله رجال الصحيح إلا أن مجاهد لم يسمع من علي، وقال ابن الملقن: وهو من رواية مجاهد عنه، يعني علي - وهو منقطع. (¬5) في السنن رقم (2447). وهو حديث حسن (¬6) ذكره ابن حجر في التلخيص (3/ 134). (¬7) هو مطرف بن عبد الله بن الشخير الحرشي العامري أبو عبد الله البصري قال العجلي ثقة. وذكره ابن سعد في "الطبقات" (7/ 141) في الطبقة الثالثة من أهل البصرة وقال روى عن أبي بن كعب وكان ثقة ذا فضل وورع وأدب. انظر: "تهذيب التهذيب" (10/ 157 رقم 326)، "التقريب" (2/ 235). (¬8) انظر "تهذيب التهذيب" (10/ 293).

المهلب: أوما تعرفني؟ فقال: بل أعرفك أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وحشوك فيما بين ذلك بول وعذرة، قلت: ففي ذلك مناسبة ليكون حمله لذلك ظاهرًا وباطنا، وقد أخذ ابن عون هذا الكلام فنظمه شعرًا: عجبت من معجب بصورته ... وكان بالأمس نطفة مذره وفي غد بعد حسن صورته ... يكون في اللحد جيفة قذرة وهو على تيهه ونخوته ... ما بين هذين يحمل العذرة قال: الدليل السادس: أخرج الطبراني في الصغير من حديث عمر والدارقطني، من حديث عائذ المزني مرفوعًا: "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه" (¬1) إلخ. أقول: "الكلام عليه من وجهين: الوجه الأول: من حيث المعنى أنه إذا كان في معنى الأمر، وقد تقرر أن المشرع لم يمنع من بعض المهن التي فيها سقوط، فالإسلام باقي على علوه، إذ لا نقص فيما أباحه المشرع، وجرى عليه العرف، سيما على قول من يقول أن المباح مأمور به (¬2). الوجه الثاني في الكلام: على إسناده، قال ابن حجر (¬3) حديث: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه الدارقطني (¬4) من حديث عائذ المزني، وعلقه البخاري (¬5) ورواه الطبراني في الصغير (¬6) من حديث عمر مطولا قصة الأعرابي والضب، وإسناده ضعيف جدا انتهى. وفي خلاصة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر "روضة الناظر" (1/ 194) الإحكام للآمدي (1/ 168). (¬3) في "تلخيص الحبير" (4/ 231). (¬4) في "السنن" (3/ 252). (¬5) في صحيحه (3/ 258) كتاب الجنائز، باب: إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه؟. (¬6) (2/ 153) رقم (948) الروض الداني).

البدر (¬1) من رواية ابن عمرو المزني بإسناد واه أبو نعيم (¬2) والبيهقي (¬3) في كتابيهما دلائل النبوة من رواية عمر، ولفظه: الحمد الذي هداك لهذا الدين الذي يعلو ولا يعلى عليه. قاله للأعرابي في حديث طويل، وفي سنده محمد بن علي بن الوليد [13] السلمي البصري، قال البيهقي: الحمل فيه على السلمي، قاله الذهبي (¬4) قال: صدق والله الذهبي والبيهقي، فإنه خبر باطل انتهى. قال: الدليل السابع: أخرج مسلم (¬5) من حديث أبي هريرة، "لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه" إلخ. أقول: نعمل فيهم بما أمر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. قوله: وفحوى الخطاب ولحنه قاضيان بمنعهم عن مساواة المسلمين في مثل هذه الخصلة، وفيما هو أشد ضررا منها على المسلمين. أقول: الشروع غير قاض بالمنع عن المساواة مطلقا، ألا تراه قد أجاز الشارع تساويهم في الحرف الدنية غير هذه، ولم يلزمنا منع المسلم عن الاحتراف بحرفة الكافر ولا العكس، فقياس أمور لم يمنعها الشرع، وجرى بها العرف على هذا الحديث بعيد، فلا نأمن أن نقع في الغلط، وقياس الأولى في هذه ممنوع لإطباق الأمة على جواز تسميد الأرض بالزبل، ولم ينقل عن أحد أنه أجبر اليهود على نقل ذلك. وحشوش الشام وغيره يجتمع فيه المخرجان، فيصير كأنه طينة الخبال أشد مما رأيتم في اليمن، ولم يسمع أن أحدا من العلماء إلى الآن مع تطاول الزمان، وظهور العلم، وانتشار الأقوال، سير الكتب في الأقطار أن أحدا أجبر اليهود على إخراج طينة الخبال، ¬

(¬1) (2/ 362) رقم (2607). (¬2) في "الدلائل" رقم (320). (¬3) في "الدلائل" (6/ 36 - 38). (¬4) في الميزان (3/ 651 رقم 7964). (¬5) في صحيحه رقم (2167) وقد تقدم

وعلى فرض أنه يقول بذلك قائل فليس بحجة علينا، وبعد انعقاد الإجماع لا ظهور لمخالف. قال: الدليل الثامن: ثبت تواترا أن رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أخرج بني النضير (¬1) من ديارهم لما في ذلك لمصلحة للمسلمين، وقد قرن الله الخروج من الديار بقتل الأنفس، فإذا كانت مراعاة المصلحة مجوزة للإجبار لهم بمثل هذا الأمر العظيم، فكيف لا يجوز إجبارهم بما هو دونه بمراحل في إضرار المجبرين وفوقه بدرجات في الصلاح! أقول: لا قياس: فإن قصة بني النضير في صدر الإسلام بعد قصة بدر التي عاتب الله فيها نبيه في الفدى: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} (¬2) الآية فقتل بني قريظ، وإجلاء بني النضير عوضا عن القتل، وقد كتب الله عليهم ذلك فقال: {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬3) يعني أن الله قد عزم على تطهير أرض المدينة منهم، وإراحة المسلمين من جوارهم وتوريثهم أموالهم، فلولا أنه قد كتب الجلاء، واقتضته حكمته، ودعاه إلى اختياره أنه أشق عليهم من الموت لعذبهم في الدنيا بالقتل كما فعل بإخوانهم بني قريظة، هذا كلام [14] جار الله (¬4) فهل كتب الله على هؤلاء اليهود إخراج المزابل، والتقاط الأزبال على لسان نبيه بصريح سنته أو كتابه؟ فالقياس على قضية بني النضير خطر عظيم إذ هم في تلك الحال محاربون، قد كتب الله عليهم الجلاء، ولا يقبل منهم إلا الإسلام، فإن فعلوا؛ نجوا. ¬

(¬1) تقدم ذكره. (¬2) [الأنفال: 67]. (¬3) [الحشر: 3 - 4]. (¬4) أي الزمخشري في "الكشاف" (6/ 75).

وأما هؤلاء فقد عقدت لهم الذمة، وسلموا الجزية، فيكف يجوز أن نقيس المحاربين على المعاهدين في شيئين بينهما بون بعيد!. قال: الدليل التاسع: حديث: "نزلوا الناس منازلهم" (¬1) وأدلة الكتاب والسنة والإجماع قاضية بأن منزلة المسلم أرفع من منزلة الكافر، فينبغي أن يعطى المسلم من المكاسب ما يليق بدرجته العلية، ويعطى الكفار ما يليق بمرتبته الدنية إلخ. أقول: إن كان الأمر هنا للندب فالقصد منه الإرشاد، وإن كان المراد الوجوب فهو عام، وقد خصصته السنة بأحكام أهل الذمة، وتبيين منازلهم، وما سنه فيهم، ونحن نقول بموجب ذلك، ونقول: قد أقرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ومن بعده على أمور معروفة، وأخذوا منازلهم، فنحن حاذون حذوهم. وقد يقال: إن من تعاطى الحرف الدنية من المسلمين فتلك منزلته، إذ لا يتعاطى ذلك إلا أراذل الناس وسفهاؤهم، وبالحكم الضروري والخبر النبوي أن في الناس رؤوسا وأذنابا فقد أعطي كل منزلته. قال: الدليل العاشر: أخرج. . . (¬2) البخاري (¬3) ومسلم (¬4) والترمذي (¬5) والنسائي (¬6) عن أنس مرفوعا: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" إلخ الحديث. ليس على ظاهره لأنه إما أن يراد: لا يؤمن الإيمان الكامل، وذلك لا يضر، إذ الإيمان الكامل عزيز، والإيمان يزيد وينقص ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم، وعن الحسن أن رجالا سأله أمؤمن أنت؟ قال: الإيمان إيمانان، فإن كنت تسأل عن الإيمان بالله وملائكته ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) كلمة غير مقروءة. (¬3) في صحيحه رقم (13). (¬4) في صحيحه رقم (45). (¬5) في السنن رقم (2515) وقال: هذا حديث صحيح. (¬6) في السنن رقم (8/ 114 - 115رقم5013).

وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والجنة النار، والبعث والحساب، فأنا مؤمن، وإن كنت تسألني عن قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا} (¬1) فوالله لا أدري أمنهم أنا أم لا (¬2) انتهى. وإما أن يراد به لا يؤمن أي: لا يكون مسلما بل كافرا، فالقاضي لا يقول بذلك، وقد تكلموا في معنى الحديث فقال بعض: إن هذا من الصعب الممتنع، قال المناوي: ولم يفهم معنى الحديث، وفسره المناوي بأن المعنى المراد هو أن تحب له حصول مثل ذلك من جهة لا تزاحم فيها، وقال ابن حجر (¬3) قوله: لا يؤمن أي من يدعي الإيمان، والمراد بالنفي كمال الإيمان، ونفي اسم الشيء على معنى الكمال عنه مستفيض في كلامهم، كقولهم: فلان ليس بإنسان، فإن قيل: فيلزم أن يكون من حصلت له هذه الخصلة مؤمنا كاملا، وإن لم يأت ببقية الأركان [15] أجيب بأن هذا ورد مورد المبالغة أو استفاد من قوله لأخيه المسلم ملاحظة بقية صفات المسلم، وقد صرح ابن حبان (¬4) من رواية ابن عدي عن حسين المعلم بالمراد ولفظه: لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان، ومعنى الحقيقة هنا الكمال ضرورة أن من لم يتصف بهذه الصفة لا يكون كافرًا، وبهذا يتم استدلال المصنف يعني: البخاري على أنه يتفاوت، وأن هذه الخصلة من شعب الإيمان، وهي داخلة في التواضع على ما سنقرره انتهى كلامه (¬5). قال: في الدليل الحادي عشر: ولا شك أن امتناعهم من القيام بهذه العهدة التي هي رأس المصالح قادح في جواز التقرير قادح. أقول: لا يجوز القدح فيما أمر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، إذا عرفت أن النبي ¬

(¬1) [الأنفال: 2]. (¬2) ذكره الزمخشري في "الكشاف" (2/ 553). (¬3) في "الفتح" (1/ 57). (¬4) في صحيحه (رقم 235). (¬5) ابن حجر في "الفتح" (1/ 57).

صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عقد لهم الذمة على الجزية فقط حسب الكتاب الذي كتبه لحمير وما ورد في معناه حسبما نقلناه، وصححه الحاكم (¬1) وألحق الأئمة بالجزية كل على حسب ما أدى إليه اجتهاده، ولا يلزمنا اجتهاد مجتهد آخر، ولا يجوز لمجتهد أن يعمل بقول مجتهد آخر إلا عند تضييق لحادثة، أو يرتضيه بعد البحث، وقد عرفت ما قاله الفقيه (¬2) يوسف من أن إقرارهم بالجزية قد يكون لطفا لنا بالشكر على قهرهم، ولطفا لهم يكون باعثا لهم على الدين لأجل المخالطة انتهى. قال: الدليل الثاني عشر: إن ملاحظة مصلحة المسلمين إذا لم تتم إلا بإتعاب النفوس إلى قوله فهي أولى بالجواز من حفر الخندق. أقول: قد عرفت أن حفر الخندق (¬3) إنما كان للحاجة الماسة إلى ذلك من حفظ النفوس والدين معا لليوم الذي قال الله فيه: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} (¬4) فلا يشك عاقل أن حفظ النفس في تلك الحال مع قلة المسلمين، وكثرة الظالمين مقدم على حفظ الدين، فكيف يصح قياس ما فيه مصلحة لا تقطع برجحانها، إذ أن عزة الدين ثابتة وبدونها على ما يجب به حفظ النفس، فقد صار معنى كلامه أنه يجوز الإجبار أو يجوز على هذه المصلحة كما جاز حفر الخندق الذي وقع ¬

(¬1) تقدم تخريجه، وانظر فتح الباري (6/ 258 - 260). (¬2) في الثمرات (مخطوط). (¬3) الذي حفر حول المدينة بأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان الذي أشار بذلك سلمان. وكان ذلك في غزوة الأحزاب لاجتماع طوائف من المشركين على حرب المسلمين وهم قريش وغطفان واليهود ومن تبعهم، وكانت في شوال سنة خمس للهجرة. "الفتح" (7/ 392 - 394). (¬4) [الأحزاب: 10 - 12].

لحفظ النفس والدين مع أنه لم يقع من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إجبار على حفره، ثم إن ندب الناس لحفر الخندق لفائدة عائدة إليهم، فهم يقبلون إليه رهبة للعدو، ورغبة في الجنة، وأي فائدة لليهود من الإجبار على ذلك؟ هل الأجرة في التأجير من شأنه الرضى أم الفائدة لنا فيعملون بلا أجرة سخرية مكرهين، فهل من دليل؟ قال: الدليل الثالث عشر: [16]: قد تواترت أدلة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهما واجبان، فإذا لم يتم هذا الواجب إلا بإجبار اليهود فما لا يتم الواجب إلا به يجب كوجوبه. أقول: قد قدمنا لك أن نقل الأزبال إلى الأموال لا فرق بينه وبين نقلها إلى الحمام، وأنه لم يمنع من ذلك شرع ولا عرف، وقد رددنا الاستنباطات التي سماها القاضي أدلة كما سمعت، وقال تعالى: {وأمر بالعرف} (¬1) قال السيوطي: قال ابن الغرس: المعنى اقض بكل ما عرفته النفوس مما لم يرده الشرع، وهذا أصل للقاعدة الفقهية في اعتبار العرف (¬2) وتحتها مسائل كثيرة لا تحصى انتهى. فهذا الذي جعله القاضي - كثر الله من فوائده - منكر معروف حسب هذا التقرير. قال: الدليل الرابع عشر: أن حفظ الدين أحد الضرورات (¬3) الخمس المعروفة في الأصول. أقول: يستفسر ما أراد بالدين، فإن أراد بالدين الأركان التي بني الإسلام عليها، وأنه لا يتم حفظها إلا بمنع المسلمين عن التقاط الأزبال ممنوع، إذ هي تامة بدون ذلك. وإن أراد بالدين الدين الداخل فيه جميع شعب الإيمان، ومنها المندوب، والمسنون فقد أوجبنا عليه حفظ ما ليس بواجب. ¬

(¬1) [الأعراف: 199] (¬2) انظر"الكوكب المنير" (4/ 448) ومجموع الفتاوى (9/ 16 - 17). (¬3) تقدم ذكرها.

ويعارض أيضًا بأن منع المسلم المحترف بتلك الحرفة يؤدي إلى عدم حفظه للدين، لاختلال حاله بالمنع عن تلك الحرفة، وافتقاره فيشرف، وكاد الفقير أن يكون كافرا، ولذا قرن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الفقر بالكفر بالتعوذ منهما. وقد نهى عن أجرة الحجامة (¬1) وأعطى الحجام أجره (¬2) فعرف أن النهي للكراهة لما فيها من الدناءة، فإن الحرف الدنية التي يباشر فيها النجاسة على القول بنجاسة الدم تطيب منها الأجرة، وإلا لما أعطاه الأجرة. قوله: وأما تقريرهم على ذلك يستفسره من هم؟ هل المراد، تقرير المسلمين على التقاط الأزبال؟ أم تقرير اليهود على الإعفاء عنها؟. قوله: فمناسب (¬3) ملغى. المناسب الملغى ليس بملغى عند مالك، ويحيى بن يحيى الليثي عاقل الأندلس (¬4) وإن ¬

(¬1) أخرج أحمد في "المسند" (5/ 435، 436) وأبو داود رقم (3422) والترمذي رقم (1277) وقال: حديث حسن صحيح. وابن ماجه رقم (2166) عن ابن مسعود: أنه كان له غلام حجام فزجره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن كسبه فقال له: ألا أطعمه أيتامًا لي؟ قال: "لا" قال: أفلا أتصدق به، قال: "لا" فرخص له أن يعلفه ناضخه. وأخرج أحمد في مسنده (2/ 299، 332، 347، 415، 500) بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن كسب الحجام ومهر البغي وثمن الكلب". (¬2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2103) ومسلم في صحيحه رقم (62/ 1577) عن أنس قال: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احتجم حجمه أبو طيبة وأعطاه صاعين من طعام وكلم مواليه فخففوا عنه". وأخرج مسلم رقم (1202) من حديث ابن عباس: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احتجم وأعطى الحجام أجره ولو كان سحتا لم يعطه". والأولى الجمع بين الأحاديث بأن كسب الحجام مكروه غير حارم إرشادا منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى معالي الأمور. (¬3) تقدم ذكره. وانظر: مختصر ابن الحاجب (2/ 242) "الكوكب المنير" (4/ 180). (¬4) أفتى به يحيى بن كثير الليثي صاحب الإمام مالك، إمام أهل الأندلس عبد الرحمن بن الحكم نظر إلى جارية له في رمضان نهارا فلم يملك نفسه أن واقعها، ثم ندم وطلب الفقهاء وسألهم عن توبته، فقال: يحيى بن يحيى: صم شهرين متتابعين. فسكت العلماء، فلما خرجوا قالوا ليحيى: ما لك لم تفته بمذهبنا عن مالك أنه مخير بين العتق والصوم والإطعام؟ قال: لو فتحنا له هذا الباب لسهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة فحملته على أصعب الأمور لئلا يعود. انظر: الكوكب المنير (4/ 180) جمع الجوامع (2/ 284).

حكا الاتفاق ابن الحاجب (¬1) على إلغائه. قوله: وأمر اليهود بعد تسليم فقد الأدلة مناسب مرسل ملائم ينظر من أي أقسام الملائم المرسل هو، هل مما علم اعتبار عينه في جنس الحكم أو جنسه في غير الحكم، أو جنسه في غير جنس الحكم؟ على أن ملائم (¬2) المرسل فيه الخلاف، وكذلك المرسل بأقسامه أيضا، على أن المناسبة تنخرم بلزوم مفسدة راجحة، أو مساوية، فلو قيل: إن المصلحة في التقاط المسلمين الأزبال مرجوحة، وفي إجبار اليهود على ذلك راجحة. قلت: لو لم يلزم من ذلك نقض العهد بالزيادة على ما عوهدوا عليه. قال: الدليل الخامس عشر: هب أنه لا دليل يدل على الحتم ففي حديث: "لأن يهدي الله بك رجل [17] " (¬3) دليل على جواز الإجبار بل على الندب. أقول: لا يدل هذا الحديث على أكثر من الندب على ترغيب المسلم في ترك التقاط الأزبال، إذ الهداية إنما هي للمسلم، وهي تامة من دون إجبار اليهود على أن الذمي المؤدي للجزية المعاهد بعهد من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عليها، فقط الواقف عند الحد الذي نص عليه ولا وجه لإجباره على حمل العذرة، سيما والمفعول لأجله وهو الحمام أمر مباح يتوصل به إلى محظور، وهو خول النساء الحمام، وخضب الكفين والرجلين من الكهل والغلام، وقد عرفت أنه جاء في الحديث: "لعن الله داخلات الحمام" أخرجه الديلمي (¬4). ¬

(¬1) تقدم ذكره. (¬2) تقدم ذكره، انظر: "إرشاد الفحول" (ص222)، "البحر المحيط" (5/ 215). (¬3) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح. (¬4) لم أجده. ولكن قد وردت في الحمامات روايات غالبها الضعف وفيها ما هو في رتبة الحسن. (منها): ما أخرجه أبو داود رقم (4009) والترمذي رقم (2802) وقال: إسناده ليس بالقائم وابن ماجه رقم (3749) وأحمد (6/ 179). من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن دخل الحمامات، ثم رخص للرجال أن يدخلوها في الميازر، وهو حديث ضعيف. قال الألباني في "غاية المرام" رقم (191): وذلك لأن أبا عذرة هذا لا يعرف. وقال ابن المديني: مجهول. كما في "الميزان" وقال الحفاظ في "التقريب" مجهول ووهم من قال: له صحبة، وذكر المنذري في "المختصر" (1/ 89) عن أبي بكر بن حازم أنه قال: لا يعرف هذا الحديث إلا من هذا الوجه، وأبو عذرة غير مشهور. (ومنها): ما أخرجه أبو داود رقم (4011) وابن ماجه رقم (3748) عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إنها ستفتح لكم أرض العجم، وستجدون فيها بيوتا يقال لها: الحمامات، فلا يدخلنها الرجال إلا بالأزر وامنعوها النساء إلا مريضة أو نفساء". وهو حديث ضعيف. قال الألباني في "غاية المرام" (192) وهذا إسناد ضعيف، ابن رافع هو التنوخي المصري، قاضي أفريقية، ضعيف كما في "التقريب" ومثله الراوي عنه ابن أنعم الإفريقي قاضيها، قال الحافظ: ضعيف في حفظه. (ومنها): ما أخرجه أبو داود رقم (4010) والترمذي رقم (2803) وقال: هذا حديث حسن، وابن ماجه رقم (3750) عن أبي المليح، قال: دخل نسوة من أهل الشام على عائشة رضي الله عنها فقالت: ممن أنتن؟ قلن: من أهل الشام، قالت: لعلكن من الكورة - المدينة والصقع - التي تدخل نساؤها الحمامات؟ قلن: نعم. قالت: أما إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "ما من امرأة تخلع ثيابها في غير بيتها إلا هتكت ما بينها وبين الله تعالى". وهو حديث حسن. (ومنها): وما أخرجه النسائي (1/ 198) والحاكم في "المستدرك" (4/ 288) وأحمد (3/ 339) من طريق أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها خمر" قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وأبو الزبير مدلس وقد عنعنه. لكن تابعه طاووس، أخرجه الترمذي رقم (2801) من طريق ليث بن أبي سليم عنه به، وقال: حديث حسن غريب. وقد حسنه الألباني في "غاية المرام" رقم (190).

والأكثر والغالب دخول النساء الحمام لغير ضرورة، ولا يخفى ما ينشأ عن دخول الحمام من الفتنة، وتمكن إبليس من نصب حبائل المحنة. أما برزن من الحمام مائلة ... أو راكهن صقيلات العراقيب وأما الولدان المخلدون ... فكم بهم من مفتون لو شاهدت عيناك والحنا على ... أعطافه ولجسمه لآلأ لرأيت ما يسبيك منه بقامة ... سال النظار بها وقام الماء وقد قرأتم في الأزهار (¬1): ويحرم خضب غير الشيب، وأنه يجب عليكم وعلى مثلكم النكير في دخول النساء الحمام وما شاكلهن، ولقد حمدت الله تعالى على وجود مثلكم في هذا الزمان الأخير، ولعلكم تكونون عوضا عن البدر المنير. ومما ينبغي التبين له هنا، وهو مقابل هذه الحروف الدنية التي دندنتم حولها تلقى الإفرنج في بندر المخا إلى سيف البحر بالأفراس المحلاة، كالمجللة المكرمة، وضرب الكؤوس والطبول إعلانا بذلك، والمشي بها بين يدي الإفرانجي، فهذه في رفعة الكفر كما ذكرتم في تلك من وضعية الإسلام، وإلى هنا انتهى سوط القلام، ولو بسطنا ما يشاء به ذلك، وفتحنا باب الإنكار لاتسعت المسالك. اللهم اجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم يا أرحم الراحمين. على أنا بعد هذا كله نرغب إلى ترغيب اليهود وإنصافهم بالأجرة، ولا ينكر حسن ذلك، وقد عرفتهم أنه ينبغي إعلام الأجير بقدر الأجرة قبل الشروع في العمل، وأنه ¬

(¬1) (3/ 284 - مع السيل الجرار).

يعطى الأجرة قبل أن يجف عرقه، ولا يخفى عليكم التشديد في مطل الأجرة، وإن رضا الأجير بالأجرة أمر لازم. انتهى تحرير ذلك ليلة ثامن عشر من الحجة الحرام سنة 1205 وكان انتهى نقلها من السواد إلى البياض آخر يوم الأحد من خامس محرم الحرام عام سنة 1206 ستة واثنا عشرة مائة [18].

تفويق النبال إلى إرسال المقال

(170) 48 - /1 تفويق النبال إلى إرسال المقال تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: تفويق النبال إلى إرسال المقال. 2 - موضع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم" حمدًا لك يا من هديتنا لحل الإشكال وأرشدتنا إلى دفع الاختلال بالإبطال. . 4 - آخر الرسالة: كمل تحريره كما حرره جزاه الله خير الدارين بحق محمد وآله الأطهار. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 28 صفحة. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 27 سطرًا ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها (15). 8 - عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات. 9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم حمدًا لك يا من هديتنا لحل الإشكال (¬1)، وأرشدتنا إلى دفع دعوى الاختلال بالإبطال، وأعنتنا على رد إرسال المقال (¬2) بتفويق المقال (¬3) النبال، وصلاة وسلامًا على رسولك وآله وصحبه أرباب الجلال والكمال، وبعد: فإنه وصل إلى الحقير محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما - شموس براهين تعمل بأشعة أنوارها خفافيش الابتداع، ورياض رياحين تموت عند هبوب نسيمها جعل الاختراع، نظم فوائدها، وألف عقد شواردها مولاي العلامة الأوحد عبد الله بن عيسى بن محمد (¬4)، ولله دره من عالم! ما أعرفه بمسالك المناظرة والمقامرة! وأبعده عن تعسفات المجادلة والمكابرة، فلقد أفاد وأجاد، وحرر لما يجيز حسنه النقاد، وسمى تلك الأبحاث الحسان، والأنضار الرصان: إرسال المقال على حل الإشكال، وهي رسالة كتبت بها إلى والده مولانا العلامة النحرير، بركة اليمن والزمن عيسى بن محمد (¬5) ولقد أرسل من المقال ما يبهر أعلام الجدال، إلا أني وجدت لي في هذا القطيع شاة، وفي مضيق هذا الوادي الذي يتلون الخريت في حافاته ممشاة، فأحببت التكلم بما خطر حال الاطلاع على تلك الفوائد، والتسبب بذلك إلى الاستكثار من هذه الشوارد. غير مطول لمجال المقال ولا مرسل لعنان أفراس الجدال. ¬

(¬1) يشير إلى الرسالة رقم (166). (¬2) يشير إلى الرسالة رقم (168). (¬3) في رسالتنا هذه وتحمل رقم (170). (¬4) عبد الله بن عيسى بن محمد بن الحسين الكوكباني ولد سنة 1175 وقيل سنة 1170 هـ. من مؤلفاته: "اللواحق بالحدائق" وله كتاب ترجم فيه لشعراء عصره. توفي سنة 1224 هـ. " البدر الطالع" رقم (225)، "نيل الوطر" (2/ 92). (¬5) تقدمت ترجمته.

وليعلم قبل الشروع في الجواب أن التمسك بأذيال أقوال الرجال من غير ربط لها بالأدلة غير نافق في سوق المناظرة، إلا أن يكون ذلك في القواعد التي تبني عليها الأدلة [1]، ومرجعها بالآخرة إلى الرواية لا إلى الرأي، كالاحتجاج بأقوال أئمة النحو والصرف، والبيان، والقواعد الأصولية الراجعة إلى ما هو كذلك. وأما الاحتجاج بما فهمه البعض منهم من الكتاب أو السنة، أو اجتهد فيه رأيه، فهذا ليس بحجة على أحد، وإلا لزم اجتماع النقيضين، وأنه باطل على أن القول بعدم حجية الإجماع بعد النزاع الطويل في إمكانه، ووقوعه، ونقله، والعلم به هو الراجح عند من لم يخبط بأسواط هيبة الجمهور، وركب في سفره إلى دار ليلى كل عاقر جهور، ولم تطف مصباح إنصافه رياح هذه المذاهب، ولا أعشاب بصيرته قتام تلك المواكب. قال (¬1) نفع الله بعلومه: الجملة الاسمية - لا شك - أنها تدل على الدوام والثبوت، إذا كان خبرها اسمًا، لكن إذا وقعت حالًا يصير كالمشي المبتدأ به، الذي تجدد وقوعه في تلك الحال من دون نظر إلى الدوام وعدمه، ولذا قالوا: إنك تقصد في الحال أن صاحبها كان على هذا الوصف حال مباشرة الفعل؛ فهي قيد للفعل. إلى قوله: قال في دلائل الإعجاز. أقول: نستفسر مولانا فجر الإسلام عن قوله من دون نظر إلى دوام أهل الدوام الشامل لجميع الأوقات مطلقًا، حال وقوع المقيد وقبله، وبعد نقتضيه أم الدوام الخالص بزمن المقيد. الأول: مسلم، ولا يضرنا ولا ينفعكم؛ لأنا لم ندع في تلك الرسالة دوامًا زائدًا على وقت المقيد، ولكنا دللنا على عدم انفكاك صدق الإعطاء الذي هو المقيد عن صاحب الحال، الذين هم اليهود، لما قررناه من الأمور بموادعتهم حال إعطاء الجزية، ولو كان المعتبر في الموادعة الإعطاء بالفعل لما أتم لأهل الذمة أمان على مرور الأزمان، ¬

(¬1) يشير إلى الفقيه عبد الله بن عيسى في رسالته رقم (169).

لعدم القدرة على دوام الإعطاء بالفعل. وإذا ثبت هذا الدوام للمقيد فالقيد مثله، ولا يتوقف دلالة ذلك على محل النزاع، على كون إنزال الصغار بهم الذي هو القيد دائمًا بالفعل لعدم إمكان الوفاء بذلك من القدر البشرية، فإلزامهم ما فيه صغار من المهن الدنية ونحوها كاف في إصغارهم، وانفكاكهم عن مباشرة ذلك في بعض الأوقات، كوقت النوم، والطعام، والراحة لا يقدح في حصول الأثر؛ لأنهم صاغرون بجعلنا لذلك لاصقًا بهم كما ترى المتمسكين بالوظائف الوضعية، والمكاسب الدنية، ولا يريد إنزال كل صغار بكل فرد منهم؛ لعدم وفاء قدرهم به، وقدرنا، بل إنزال ما هو أشد الأنواع وأعظمها في الإذلال، ولا أفظع وأوضع من الالتقاط، لا سيما ومباشرته محرمة على المسلمين شرعًا. وإن أردتم عدم الدوام بالنظر إلى وقت المقيد فهذا لا يقول به أحد. وقد تقرر أن [2] الحال كاشفة لهيئة الصاحب حال تلبسه بعاملها، وإن لم تكن جملة اسمية، فكيف إذا كانت كذلك!. قال - حفظه الله -: قال في دلائل الإعجاز (¬1): إذا قلت: جاء زيد وهو مسرع، أو غلامه يسعى بين يديه، أو وسيفه على كتفه كان المعنى أنك بدأت وأثبت المجيء، ثم استأنفت خبرًا، وابتدأت إثباتًا ثانيًا لما هو مضمون الحال، ولهذا احتيج إلى ما يربط الجملة الثانية بالأولى، فجيء بالواو كما جيء بها في نحو: زيد منطلق وعمرو ذاهب. انتهى. ثم نقل - حفظه الله - كلامه من موضع آخر مثل هذا. أقول: هذا مسلم ولا يضرنا؛ لأنا نثبت اتصاف صاحب الحال بمضمونها قبل ملابسته لعاملها، ولم ندع في محل النزاع لزوم الصغار في شرعنا لليهود قبل إعطاء الجزية، وضرب الذمة، بل من وقت الإعطاء والضرب. وصاحب (¬2) دلائل الإعجاز لا ¬

(¬1) (ص 202)، (ص 214) وقد تقدم. (¬2) أي الجرجاني.

ينكر هذا، وليس في كلامه ما ينفيه، ومراده بابتداء الكلام الذي هو قيد المجيء، واستئنافه في ذلك المثال إن لم يكن أمرًا ثابتًا قبله، بل إثبات مضمون الحال لصاحبها بعد إثبات مضمون عاملها له، وليس المراد أنه ثبت له المجيء أولًا، ثم الإسراع مثلًا ثانيًا، بل المراد تعقب إثبات الصفة من المتكلم، وفرق بين الثبوت والإثبات، ولا نزاع في مقارن الحال وعاملها في القيام بالصاحب، أو الوقوع عليه، وهذا هو المراد يقول الشيخ في آخر الكلام، وأنك لم ترد جاءني كذلك، ولكن جاءني وهو كذلك؛ لأن الثاني مشعر بثبوت هذه الصفة له، مقارنة للمجيء بخلاف الأول. قال: فعرفت من هذا أن المعنى في قوله تعالى: {وهم صاغرون} (¬1) على استئناف كلام، وابتداء صغار عند إعطاء الجزية، من دون نظر إلى الدوام وعدمه، وهو ما فهمه السلف الماضون - رضي الله عنهم -. أقول: ونحن معكم على هذا إن أردتم بقولكم من غير نظر إلى الدوام. الدوام الزائد على زمن المقيد. قولكم: عند إعطاء الجزية، قلنا: مسلم لكن على الوجه الذي سلف. قال: وهو الذي فهمه إمام البيان والتفسير الزمخشري (¬2) - رحمه الله - إلخ. أقول: أما مجرد فهم هذا الإمام فلا يوجب رفع الجدال والخصام، وإنما الحجة روايته المستندة إلى اللغة، أو إلى من قوله حجة، فإن قلتم: إمامته وعدالته يمنعه من أن يقول في القرآن برأيه، فلكلامه حكم الرفع. قلنا اختلاف أئمة التفسير من الصحابة والتابعين وتابعيهم معلوم لكل باحث، حتى ربما انتهت الأقوال لهم في آية واحدة إلى عشرين أو ثلاثين قولًا، كل واحد منها مخالف للآخر، فإن كانت عدالة كل واحد وإمامته تمنعه من أن يقول في القرآن برأيه فلتفسيره حكم الرفع، ولزم التعبد بالجمع ولا قائل به [3]. وربما اجتمع في بعض المواطن النقيضان، وبطلانه معلوم ضرورة، بل الذي ينبغي تعويل ¬

(¬1) [التوبة: 29]. (¬2) في "الكشاف" (3/ 32).

أرباب الإنصاف عليه هو نصر ما يختار منها بالحجج العقلية أو النقلية، أو مجموعهما، لا مجرد الأقوال، والله - جل جلاله - قد أطلق الصغار في كتابه، ولم يقيده بفرد معين ولا بأفراد، ولا بلغنا عن رسوله ما يصلح للتقييد، فعولنا عند ذلك على ما يقتضيه جوهر اللفظ، قائمين في مقام المنع، قائلين: أين دليل التعيين؟ ولا شك أن وظيفة المدعي للتعيين بعد سمعه لمنع دليله ليست إلا إبراز الدليل كما تقرر في علم الجدل. قال العلامة العضد في آداب البحث (¬1): إذا قلت بكلام، إن كنت ناقلًا فيطلب منك الصحة، أو مدعيًا فالدليل فنحن مائلون مع جوهر اللفظ القاضي بجوار إلصاق ما فيه صغار، لم يمنعه منه الشارع لهم، لصدق اسمه، على أنه ليس في كلام هذا الإمام ما يشعر بقصر الصغار على ما ذكره، حتى يكون كلامه دليلًا لكم، والتنصيص على البعض لا ينفي غيره. غاية الأمر أنه اقتصر على ذكر ما جرت به غالب العادات عند إعطاء الجزية، وأنه قادح في محل النزاع وما نقلتموه من الثمرات (¬2) كذلك. وقوله: أو يبذل الجزية فيقر على ذلك. وقلنا: إن أراد - رحمه الله - أن مجرد بذل الجزية مجوز للتقرير كما تشعر به ظاهر العبارة ممنوع، والسند وهم صاغرون، وإن أراد مع غيره فمسلم ولا يضرنا. وأما المنقول عن السيوطي (¬3) رواية عن المغيرة فهذه هيئة لم تثبت عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، ولا أمر بها، ولا فسر بها كتاب الله تعالى. ولهذا قال النووي (¬4): أنها هيئة باطلة، وثبوت مثل هذا لا يصلح ردًّا على من قال: إنها هيئة لم ¬

(¬1) انظر "الكوكب المنير" (4/ 354 وما بعدها). (¬2) للفقيه يوسف بن أحمد الثلائي اليمني. (¬3) في "الدر المنثور" (4/ 168). (¬4) في "روضة الطالبين" (10/ 316).

تثبت، والمحل مجال اجتهاد، واجتهاد المغيرة ليس بحجة على الناس، ولا فيه ما يوجب قصر الصغار على ما ذكر، ولا نشك أن ما ذكره صغار، ولكن ما الدليل على تعينه، وعدم جواز غيره، وإن كان أشد منه في الإذلال والإهانة؟ وهذا القرآن مطلق فهل تقولون بتقييده بقول المغيرة، أو سعيد بن المسيب؟ فإن قلتم: المصير إلى تفسير السلف أرجح. قلنا: ونحن نقول كذلك ونسلم صحة تفسير الصغار بمثل هذا، ولكن ما الدليل على قصر الصغار الصادق على كل فرد صدقًا بدليًّا إن لم يكن شموليًّا بالقرائن المقامية وغيرها عليه؟. قال: واستدل بالآية من قال: إن أهل الذمة يتركون في بلد أهل الإسلام؛ لأن مفهومها الكف عنهم عن أدائها، ومن الكف أن لا يجلوا. أقول: إن أراد هذا القائل ببلاد الإسلام جزيرة العرب فغير مسلم؛ لتأخر الأمر [4] بالإخراج منها، حتى قيل: إنه آخر ما تكلم به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كما ثبت في الصحيح (¬1)، فهذا الاستنباط لا يعارض هذا المنطوق الصريح المعلوم تأخره وإن أراد ببلاد الإسلام الجزيرة وغيرها فلا يتم؛ لأن السنة تخصص نصوص القرآن، فكيف بمثل هذا! فحديث: "أخرجوا اليهود من جزيرة العرب" مخصص لهذا المفهوم، وإن أراد ببلاد الإسلام ما عدا جزيرة العرب فمسلم، ولا يحتاج في جواز التقرير في غيرها إلى دليل، وما سكت عنه الشارع ولم يدل على وجوبه العقل فهو عفو، والتقرير في غير الجزيرة من هذا القبيل، ولنا أن نعارض هذا الاستنباط ونقلبه. فنقول: تقريرهم في بلاد الإسلام فيه نوع إعزاز، وقد أمرنا بأخذ الجزية منهم، ألا وهم في غير بلاد الإسلام، وهذا الاستنباط وإن لم يكن بذاك القوي ولكنه لا ينحط عن ¬

(¬1) (منها): ما أخرجه أحمد (1/ 222) والبخاري رقم (3053) ومسلم رقم (20/ 1637) عن ابن عباس قال: اشتد برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعه يوم الخميس وأوصى عند موته بثلاث: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم". وقد تقدم.

رتبة مقابله. قال: والمراد من ذلك إلخ. أقول: قد سبق تحرير الجواب عليه، على أنا إذا عولنا على أقوال الرجال، قلنا: هؤلاء أئمة أهل البيت؛ فهموا خلاف ما فهمتهم من أنه لا يشترط أن يخلفه شيء آخر من الصغار. فقالوا (¬1): ويلزمون زيًّا يتميزون به، فيه صغار لهم من زنار، ولبس غيار، وجز وسط الناصية، ولا يركبون على الأكف إلا عرضًا ثم قالوا: ولا يظهرون شعارهم إلا في الكنائس، ولا يحدثون بيعة، ولهم تجديد ما خرب، ولا يسكنون في غير خططهم إلا بإذن المسلمين لمصلحة، ولا يظهرون الصلبان في أعيادهم إلا في البيع، ولا يركبون الخيل ولا يرفعون دورهم على دور المسلمين، ويبيعون رقًّا مسلمًا شروه، ولا نقول أن هذا حجة عليكم، ولكن أخبرونا هل جعلهم هذه الأمور صحيح أم لا؟ إن قلتم بالأول لم يصح ما ذكرتموه من كفاية الصغار الحاصل عند قبض الجزية، ولا يشترط أن يخلفه صغار آخر. وتبين لكم صحة قولنا بعدم اختصاص الصغار بنوع معين. ولاح أن المراد إذلالهم بأبلغ أنواع الإذلال؛ والإهانة التي لم يمنع الشارع منها، ولا شك أن هذا من أبلغها وأهمها لما فيه من الإعلاء الظاهر، ولا شك أن ركوبهم الخيل، ورفع الدور لم يمنعوا منه إلا لما فيه من العز والشرف على المؤمنين، وفي إعفائهم عن هذه القضية من العزة والشرف فرق ذلك بدرجات. وإن قلتم بالثاني فمع كونه لم يتعرض للاعتراض عليه من اشتهر لمحبة ذلك كالجلال، والمقبلي، فأبينوا لنا وجه عدم الصحة. فكم ترك الأول للآخر، على أنه قد روي ما ذكروه من الصغار عن غيرهم [5] من العلماء، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما ¬

(¬1) في "الأزهار" (3/ 774 مع السيل الجرار).

أخرجه أبو عبيد في كتاب الأموال (¬1)، وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه زاد على ذلك فقال: يختم رقاب أهل الذمة بخاتم الرصاص، أخرجه أبو عبيد (¬2) والبيهقي (¬3). فإذا فرضنا أن قول الصحابي حجة كما ذهب إليه البعض، وإن كان غير صحيح، فما اقتصر عليه المغيرة من الصغار كما ذكرتم لا يعارض ما روي عن عمر بن الخطاب من الزيادة. قال الزمخشري (¬4) وغيره: لم يفهم ما فهمتموه من دوام الصغار، وعموم أنواع الصغار، ولكل فرد، فحسبنا الزمخشري مخالفًا وقادحًا في الإجماع، فكيف والمخالف غيره كثير!. أقول: قد علمت أن فهم الزمخشري ليس بحجة، وإنما الحجة روايته عن أئمة اللغة أو غيرهم. وقد ذكرنا في حل الإشكال أن الزمخشري من القائلين أن الجملة الاسمية تدل على الدوام والثبات؛ وهذه لا تكون إلا رواية عن أئمة اللغة، فأخذنا بروايته، وتركنا فهمه ورأيه، على أنه لم يدع الحصر في كلامه. وأما عموم أنواع الصغار لكل فرد فلم نقل به، لما ذكرنا من عدم الاستطاعة له، والذي صرحنا به في حل الإشكال ما لفظه: وجعلها اسمية تنبيهًا على دوام الصغار وثباته، ومنعنا بعد ذلك الاختصاص بالبعض، فأخبرونا من أين أخذتم عموم أنواع الصغار من كلامنا؟ وما صرحنا به من تعلق الحكم بكل فرد فلا نصار إلى غيره إلا لموجب هو المتقرر في الأصول، وليس في ذلك ما يدل أنا أردنا عموم أنواع الصغار. إذ المراد به أن الصغار المخبر به عن الجماعة ظاهر في تعلق الصغار بكل فرد وفرد؛ وهذا لا ¬

(¬1) (ص 54). (¬2) (ص 55). (¬3) في "السنن الكبرى" (9/ 202). (¬4) في "الكشاف" (3/ 32).

يخالف فيه الزمخشري، وكلامه الذي نقلتموه شاهد له. وقد حقق هذه المسألة - أعني تعلق الحكم بالكل الإفرادي - صاحب جمع الجوامع (¬1) وشراحه، وأهل الحواشي بما لا مزيد عليه، فلا نطول بذكره. قال: وأما اعتبار كل صغار بالفعل لكل فرد على جهة اللزوم في حال الإعطاء، وإلا فليست بجزية، فلم يقل به أحد، ولا دليل على وجوبه. أقول: ولا أقول أنا بوجوب ما جمع تلك القيود، ولا يقول به عاقل لعدم إمكان الإحاطة بأنواع الصغار، وعدم استطاعة الطباع البشرية القيام به، واستحالة عدم الانفكاك منه بالفعل؛ فهذه ثلاثة موانع ضرورية، ويزداد ذلك إحالة إذا اعتبر اجتماعه في وقت مخصوص كما يشعر بذلك قولكم في حال الإعطاء. فإن كنتم بصدد المناقشة لكلامي فأخبروني أين ذكرت هذا الكلام الذي يعرف استحالته كل عاقل؟ وإن كنتم بصدد المناقشة [6] لكلام غيري فلا أدري من هو، ولا دخل له في كلامنا. قال: لأن الصغار الحاصل للكل المجموعي، أو للفرد الكامل عائد إلى الأفراد إلخ. أقول: الكل المجموعي لا ينافيه خروج البعض، فما الدليل على أنه إذا حصل الصغار ليهود القدس مثلًا لم يعتبر حصوله ليهود اليمن؟ وإذا راجعتم البحث في جمع الجوامع (¬2) وشروحه وغيره من كتب الأصول، تبين لكم أن ضمير الجماعة للكل الإفرادي إلا بدليل، وأما كفاية الصغار الحاصل للفرد فما عثرت إلى الآن على قائل يقول أنه يكفي في الصغار المكلف بإنزاله بهم، بمجرد إنزاله بواحد من كبرائهم؛ فما أظن هذا إلا مخالفًا للإجماع، فأخبرونا: هل لكم في هذه المقالة من سلف؟ فإن لم تجدوا، فأفيدونا بالدليل عليها فهو نعم السلف. قال: أو يقال: الصغار ثابت لكل واحد بالفعل في حال إعطاء الجزية؛ إذ الواقع أنهم يعطونها وهم في حال صغار إلخ. ¬

(¬1) (1/ 429). (¬2) (1/ 429).

أقول: قد حققنا في حل الإشكال أن عدم اشتراط بقاء المعنى هو الحق عند من أمعن النظر، وهو مذهب الجمهور، كما حكاه السعد. وانظروا في أدلة الفريقين؛ فإنكم ستجدون أدلة القائلين بعدم الاشتراط ضعيفة جدًّا ومزيفة بما هو أظهر من الشمس، وستجدون أدلة القائلين بعدم الاشتراط في غاية القوة والصحة، وما أجيب به عليها من مردود مزيف؛ ولهذا اقتصر المحقق ابن الإمام في الغاية (¬1) وشرحها على الجوابات على حجج القائلين بالاشتراط، ولما احتج للقائلين بعدمه ذكر الجوابات على أدلتهم، ولم يقتصر عليها، بل أجاب عنها واقتصر على ذلك، وإذا ثبت رجحان القول بعدم الاشتراط فالذمي معطٍ للجزية في جميع الأوقات بعد أول مرة. والصغار لازم له في جميع تلك الأوقات، ولا يقول بأنه يجب تجديد الصغار له في كل وقت، أو استمراره بالفعل، بل نقول إلزامه لما فيه صغار في أي تلك الأوقات جائز، والاكتفاء بمجرد ما يلصق به منه حال إعطاء الجزية لم يدل عليه دليل، وصدق اسم الصغار عليه لا يبقي جواز غيره الذي هو المطلوب؛ فإن كلامنا كله ليس إلا فيما يدل على الإجبار، فعلام الدندنة حول صدق اسم الصغار على الواقع منه حال إعطاء الجزية؟ فإن التعويل عليه إنما ينفعكم في رد الوجوب لا في رد الجواز، فما ثم باعتبار سؤالكم عن دليل يدل على الإجبار ما يوجب المهاولة، والمطاولة، والمناضلة، والمصاولة، والمجادلة والمقاولة. فانظروا بعين الإنصاف؛ فإن بها يحصل الائتلاف، ويرتفع الخلاف الذي لا يشب ناره إلا ركوب [7] مطي الاعتساف، وأنتم - بحمد الله - بريئون من ذلك، منزهون عما هناك. قال: وأما كونهم لا ينفكون عن الصغار، والذلة بالقوة فمسلم، وأما عن الصغار والذلة بالفعل فهو معلوم الانفكاك. أقول: هذا كلام صحيح، ونحن لا نقول بخلافه، واحتجاجنا إنما هو على منع ¬

(¬1) تقدم ذكره.

تخصيص إلصاق الصغار بهم حال دفع الجزية، فقولكم: إن عدم الانفكاك عن الصغار والذلة بالقوة مسلم لا يوجب منع إجبارهم على هذه القضية التي هي محل النزاع؛ لأن صغارهم بعد التلبس بها لا يكون دوامه إلا بالقوة للقطع بتركهم لذلك حال النوم والأكل، والاستراحة؛ وهذا مشي معكم على مقتضى كلامكم، وإلا فتقييدكم للصغار بالقوة تارة، وبالفعل أخرى، غير مناسب؛ لأن الصغار بمعنى الذلة لا يصير بترك مباشرة الذي هو الالتقاط، أو لبس الغيار، أو ما يقع عند أخذ الجزية، أو نحو ذلك صغارًا بالقوة، بل هو صغار بالفعل؛ لأن الذلة التي هي الاستكانة والخضوع ثابتة لهم في جميع الأوقات، وإنما الذي يصح إنصافه بالقوة تارة، والفعل أخرى أسبابه لا هو. وهذا كما يقال لمن صار للجبن له غريزة جبان، ولا يشترط في تحقيق جبنه بالفعل حدوث أسباب الجبن؛ من مقارعة الأبطال، وتقحم معارك النزال. ونزاعنا ليس إلا في تخصيص الأسباب التي يتأثر عنها هذا الأثر. فقولنا في حل الإشكال: وإذا تقرر أن كل فرد من أفراد أهل الذمة لا ينفك عن الصغار بحكم الشرع، وأن الصغار هو الذلة والإهانة كما تقرر في اللغة (¬1) مقدمة لدفع التخصيص الذي ذكرناه، أما التخصيص ببعض ما فيه ذلك فظاهر؛ لأن أسباب الذلة والإهانة أعم من ذلك. وأما التخصيص بوقت دفع الجزية فلذلك، ولعدم تحقق مثل هذا الأثر عنه - أعني الذلة الداعية على الدوام - التي أشعر بها القرآن. وهب أنه يتحقق بها ذلك الأثر، فما الدليل على الاقتصار عليه؟ إن قلت ما سيأتي من أنها إجارة لا تجوز إلا برضا الأجير، فسيأتي الكلام عليه. قال: لا ملجئ على مخالفة الظاهر، وما أطبق عليه المفسرون، وعلماء المعاني والبيان. أقول: قد عرفت مما سلف أنه لم يذهب إلى الأخذ بظاهر التقييد أحد؛ لأن ما ذكره الزمخشري (¬2). . . . . . . . . . . . ¬

(¬1) انظر "القاموس" (ص 514). (¬2) في "الكشاف" (3/ 32).

وغيره إن بينوا نوعًا من أنواع الصغار، وهو الواقع حال إعطاء الجزية، ولم يتعرضوا لنفي غيره، وهذه كتب اللغة على ظهر البسيطة لم يخص أحد من أهلها الصغار بمثل هذا النوع، بل فسره بعضهم بالذلة، وبعضهم بها مع الإهانة، والواجب علينا عند فقد التفسير المرفوع تفسير كتاب الله بما تقتضيه لغة العرب، وقد وجدنا لغة العرب مشعرة بأعم من الصغار الواقع حال إعطاء الجزية فقلنا: يجوز إجبارهم على الالتقاط آخذًا بذلك، فهل في هذا من ضير؟. وأما [8] أئمة البيان فقد عرفت كلامهم في الجملة الاسمية الواقعة حالًا أنها تدل على دوام مدلولها لصاحب الحال، مدة ثبوت عاملها له، ونحن لا ندعي غير ذلك، لكن بذلك التحقيق الذي أسلفناه، وإنما أردنا بقولنا أحدًا بظاهر التقييد دفع ما يسبق إلى نظر من يسري إلى ذهنه حال الوقوف على ذلك ما قاله النحاة، من أن الحال قيد في عاملها، من غير التفات إلى ما تقرر في البيان والأصول، على ما هو المذهب الحق من عدم اشتراط بقاء المعنى في إطلاق المشتق، كما وقع لبعض الناظرين في حل الإشكال، فتأمل هذا في نظائر محل النزاع. قال: هكذا فسره السلف بصغار مخصوص حال إعطاء الجزية، ولو قلنا بعدم الاختصاص لم يلزمنا إجبارهم على التقاط العذرة؛ إذ ما صدق عليه الصغار كاف في المقصود. أقول: قد عرفت أن عمر بن الخطاب (¬1)، وعمر بن عبد العزيز (¬2) فسر الصغار بما هو أعم من ذلك، وكذلك أئمة أهل البيت (¬3) - عليهم السلام - وغيرهم. وتفسير بعض السلف به بصغار مخصوص من دون ادعاء القصر لا يعارض ما ثبت عن البعض الآخر، ولا يقيد مطلق الآية، ومع أداء القصر تنزيلًا منا. ¬

(¬1) تقدم ذكره. (¬2) تقدم ذكره. (¬3) انظر "الأزهار" (30/ 774 مع السيل الجرار).

البعض الذي نقل إلينا الزيادة أولى بالقبول، ولم يقع منافيه للمزيد؛ فهي مجمع على العمل بها، وهذا على فرض أن تفسير بعض السلف حجة علينا، وقد عرفت بيان بطلانه فدع الجميع، وانظر إلى مطلق القرآن وفسره بما تقتضيه لغة العرب: فما كل بيضاء الترائب زينب قولكم: لم يلزمنا إجبارهم. قلنا: النزاع أعم من ذلك إن أردتم باللزوم الوجوب، وهذا الدليل كاف في الأعم وإن دل بعض أدلة حل الإشكال (¬1) على الوجوب كما قررناه هنالك، وسيأتي له مزيد بيان. قال: ولا يلزم ذلك؛ لأنا نقول: إن الإعطاء في الآية بالفعل، والصغار الذي هو قيد الإعطاء كذلك بالفعل، وإذا حصل الإعطاء والصغار بالفعل صدق عليهم أنهم معطون بالقوة، وصاغرون بالقوة، إذا كانت بالفعل كانت بالقوة، ولا عكس. أقول: قد عرفت مما أسلفناه أن الآية تدل على ما هو أعم من الإعطاء بالفعل، وإلا لزم ما ذكرناه، وعرفت أن الصغار الذي جعل كافيًا هنا لم يدل دليل على تقييد المطلق به، ولا قائل به على جهة القطع والبت أحد، والتنصيص عليه لا يستلزم القول بأنه متعين، وهذا قد قرر في مواطن من هذه الرسالة فلا نطول بإعادته. قال: الإجماع حاصل على جواز تأبيد (¬2) صلح الكتابي بالجزية، وأنواع صغار مخصوصة من أنواع الصغار لا على أعظم أنواع الصغار، فإلزام أعظم أنواع الصغار محتاج إلى دليل، وعلى فرض ثبوت دليل فقد [9] جعلوا عمل الأمة بخلاف الدليل علة فيه. أقول: إن أردتم بقولكم مخصوصة أفرادًا، معينة مثل الصغار حال إعطاء الجزية، أو نحوه، فما الدليل على ذلك مع إطلاق القرآن؟ فإن قلتم تفسير بعض السلف وبعض ¬

(¬1) في الرسالة رقم (166). (¬2) تقدم توضيحه. وانظر: "المغني" (13/ 207 - 208).

المفسرين فقد أسلفنا ما فيه. وإن قلتم غير ذلك فما هو؟. وإن أردتم بالنوع المخصوص هو ما لم يدل دليل على منعه فمسلم، ومحل النزاع لم يمنع مانع منه، وهذا ظاهر قولكم. فإلزام أعظم أنواع الصغار محتاج إلى دليل. قلنا: لا تنكرون أن إطلاق الصغار في القرآن يقتضي صدقه على الأعظم، كما يقتضي صدقه على الأوسط، والأحق، فالدليل على جواز ذلك قرآني. ثم إذا كان الصغار هو الذلة والإهانة فذلك مطلوب للشارع، وما كان أدخل في بابها كان توجه الطلب والقصد إليه أولى، وأما عمل الأمة بغير ذلك فمع كون مجرد العمل بدون قدح في الدليل ولا إنكار، وكون المقام محل خلاف فممنوع، والمسند أن أهل القرى الباقين على أحوال العرب، وأهل المدن الخالية عن أهل الذمة من الأمة. وهل حصل لكم الاستقراء التام في أقطار الأرض بأن الأمة على ذلك العمل؟ عولنا في ذلك عليكم، وأجبنا بما يقدح في حجيته كل إجماع، فكيف بهذا النوع فإن قلتم: إن مثل هذا العمل وإن كان من بعض الأمة لا يخفى على باقيها، فمع كونه قولًا بالظن، وتخمينًا ممنوع، والسند أن ملوك أقطار بأرض الإسلام قد تخفى علينا أسماؤهم وحروبهم، وما هو أشد من ذلك، فكيف لا يخفى مثل هذه القضية وينبغي أن تمعنوا النظر في أصل تذكرة هاهنا ربما أفاد، وهو أن المسلمين بأسرهم أجمعوا (¬1) على نجاسة العذرة، وتحريم التلوث بها، وأنه منكر يجب اجتنابه، والنكير على ملابسته، ففعل هؤلاء المسلمين محرم بالإجماع، ومنكر بلا نزاع، وتقرير من قررهم لا يكون مخصصًا لهذا الدليل، واحتجاجكم بتسميد الأرض يستحي، الكلام عليه حينئذ وجب عليكم الإنكار على أولئك المسلمين، ومنعهم بدليل إجماعي أنهض من الدليل الذي ذكرتم. ¬

(¬1) انظر "فتح الباري" (4/ 414 - 417).

ثم لو سلمنا عدم دليل يدل على إجبار اليهود لم يكن ذلك موجبًا لسقوط الإنكار، ولم يعول من أقر المسلمين على ذلك من علماء هذه الديار، إلا على نوع من أنواع المناسب (¬1)، وكونه من ذلك محل نزاع، بل كون المناسب حجة ما عدا الضروري منه قول مرجوح لمن أنصف ولم يقلد، فكيف يصلح التمسك بذلك في مقابلة الإجماع والنصوص ولقد جعل الصادق المصدوق عامة عذاب القبر من البول، وقال: "وما يعذبان [10] في كبير، بل إنه كبير" (¬2)، كما ثبت في بعض روايات الصحيح، (¬3) ولا شك أن نجاسة العذرة أخبث من ذلك وأقذر، وهذا بمجرده كاف في منعكم للمسلمين عن ذلك؛ فتدبروا - طول الله مدتكم -. قال: ثم يقول بعد ذلك: إنه لا فرق عند من له فهم بين إخراج الحشوش، ووضع ما فيها في الأموال، وبين التقاط الأزبال، ووضعها في ملة الحمام. وقد أباح الشرع الأول، ولم يمنع من الثاني، ولم يأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بإخراج الحشوش، ولا بالتقاط الأزبال إلى الحمامات، ولا أحد من الصحابة، ولا الخلفاء الأربعة. أقول: إباحة الشرع الأول أعني: إخراج الحشوش، ووضع ما فيها ممنوع والسند أنها لم تكن في المدينة في عصره، ولا في بلاد العرب المجاورين لها، ولهذا ثبت عن عائشة ¬

(¬1) في هامش المخطوط ما نصه: على أنه من قسم الملغى، لمصادمته النصوص القاضية لتحريم ملابسة النجاسة، وهو مردود إجماعًا، إلا ما يحكى عن يحيى بن يحيى في إفتاء عبد الرحمن بن الحكم بالتكفير بالصوم على التعيين، وهو خلاف الإجماع كما ذكر في الأصول. - وقد تقدم ذكره وبيانه - كاتبه. (¬2) يشير إلى الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري رقم (1378) ومسلم رقم (292) وأبو داود رقم (20) والنسائي (1/ 28 - 30) والترمذي رقم (70) وابن ماجه رقم (347). عن ابن عباس قال: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بقبرين يعذبان فقال: " إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، بل إنه كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله". (¬3) يشير إلى الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري رقم (1378) ومسلم رقم (292) وأبو داود رقم (20) والنسائي (1/ 28 - 30) والترمذي رقم (70) وابن ماجه رقم (347). عن ابن عباس قال: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بقبرين يعذبان فقال: " إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، بل إنه كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله".

في الصحيح (¬1): وكنا على عادة العرب الأولى نعاف هذه الكنف التي تتخذها الأعاجم، أو كما قالت: فكيف يقال أن الشارع أباح ما لا وجود له في تلك البلاد! فإن قلت: وجوده في بعض البلاد الإسلامية في ذلك الوقت كاف، والاحتجاج بتقريره ركن. قلنا: أين لنا في أي بلاد الإسلام كان ذلك؟ وأين لنا أن المسلمين كانوا يقولون ذلك؟ وأين لنا أنه بلغ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقرره؟ وبعد هذا البيان نقول: النهي عن التلوث بالنجاسة لغير ما واجب أو ندب عام مجمع عليه، فيقتصر في تخصيصه على ذلك المقدار؛ أعني إخراج الحشوش إلى الأموال الحاجة أهلها، وأما إلحاق محل النزاع بذلك فمع كون التخصيص بالقياس محل خلاف، ثم فارق لا يصح إلغاؤه، فيكون معه فاسد الاعتبار، وإلا لزم إلحاق كل تلوث، وأنه باطل. أما الملازمة فلأن إلغاء الفارق يوجب ذلك، وأما بطلان اللازم فضروري. وأما قولكم: ولا يقول أحد: إن الأموال كانت لا توضع فيها الأزبال، فإن قلتم بتعميم الأزبال الداخلة تحته العذرة فممنوع، ويعود البحث الأول، وما نقلتموه عن الصحابة لا يفيد ذلك، كيف وابن عمر يقول: ويشترط عليهم أن لا يزبلوه بعذرة الناس. وإن قلتم: الأزبال الظاهرة فمسلم، ولا ينفعكم ولا يضرنا. وإن قلتم: المراد بالأزبال جنسها الشائع في الأفراد، فغاية ما فيه احتمال أن يكون من الطاهرة، واحتمال أن تكون من المتنجسة بعد الاستحالة، كما نشاهده الآن، واحتمال أن يكون من النجسة قبل الاستحالة، والاحتمال قادح في صحة الاستدلال، فتدبروا في قولكم، وقد أباح الشرع الأول. ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (56/ 2770) من حديث عائشة وفيه: ". . . وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع. وهو متبرزنا، ولا نخرج إلا ليلًا إلى ليل. وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبًا من بيوتنا، وأمرنا وأمر العرب الأول في التنزه وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا. . . ".

قولكم: ولم يمنع من الثاني. قلنا: المنع من التلوث بالنجاسة متواتر. قال: وقد استثنى أهل الفقه إلخ [11]. أقول: لا ملازمة بين ما ذكرتم، وبين التلوث المحرم، ولا حجة في قول أهل الفقه بعد تسليم الملازمة. قال: وإن اختلاف هذه الأمة رحمة، والقضاء بإجبار أهل الذمة على ذلك، وأنه واجب متحتم؛ يقضي بأن الأمة أجمعت على خطأ، وسكتت عن عار. أقول: قد حققنا الكلام على هذا، وأن دعوى الإجماع باطلة، وأن الأمر بالعكس؛ أعني إجماع الأمة على المنع، فلا يفيده، فراجعه. قال: فتمام كلام الكشاف (¬1) مخالف لما يريده القاضي من إنزال كل صغار بهم، وكان الواجب عليه نقله. أقول: إنما تركناه لكونه تفسيرًا للمسكنة، وهي خارجة عن محل النزاع؛ إذ المراد من الآية الاستدلال بضرب الذلة لا بضرب المسكنة، فإنه لا دخل له في المطلوب، فأي مخالفة في ذلك، ولما أردناه؟ وأي قدح له فيما قصدناه؟ فكان اللائق بكم ترك ذكره أولًا، كما فعلنا، وترك الاستنباط منه ثانيًا لخلاف ما أردنا، وجعل المسكنة وتفسيرها علة للصغار لا يوجب حصره فيها، ولا أنه حاصل بها، وتركنا لنقل أول كلام جار الله في تفسير الآية الثانية لذلك، والاقتصار في النقل على محل الحجة هو بإجماع أهل النظر المحجة، والتطويل بذكر ما ليس فيه دليل ما عليه عند أرباب هذا الشأن تعويل. قال: فهذه الآية التي في آل عمران (¬2) مقيدة للآية الأولى في البقرة (¬3)، وإذا كانت ¬

(¬1) (3/ 32). (¬2) [آل عمران: 112]. (¬3) [البقرة: 61].

مقيدة لتلك كما هو القاعدة أن المطلق يحمل على المقيد، فقد صاروا في كنف الإسلام وحماه وعزته إلخ. أقول: الذلة والمسكنة مذكورتان في آية آل عمران، مفعولتان لفعل هو ضربت، فأين المقتضي للتقييد؟ فإن قلتم: هو قول الله تعالى: {إلا بحبل من الله وحبل من الناس} (¬1). قلنا: هو حجة عليكم لا لكم؛ لأن المراد به نفي العزة عنهم في جميع الأحوال، إلا في حال الالتجاء إلى الذمة بإعطاء الجزية، فهذا الالتجاء والإعطاء هو غاية ما لهم من العزة، وأنتم تجعلون إعطاء الجزية مع ما يصحبه من الإذلال كافيًا في الصغار الذي هو شرط ترك المقاتلة، والقيد مشعر بخلاف ذلك. وهذا القلب مع كون فيه ما فيه لا يقصر عن دليل مطلوبكم من التقييد. قولكم: إنما عوهدوا على أداء الجزية. قلنا: القرآن والسنة مشعران بخلاف ذلك، وما نقلتموه عن محمد بن إسحاق لا يفيدكم؛ لأن غايته الاقتصار على الجزية، وفي القرآن زيادة يجب قبولها بالإجماع؛ لعدم منافاتها للأصل، وهي قوله: {وهم صاغرون} وقد سلف تحقيق الصغار منا ومنكم، وكذلك ما نقلتموه عن التلخيص وما بعده. قال: إذا تقرر هذا، وعرفت أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - صالحهم على الجزية، وعقد لهم بذلك [12] ذمة الله، وذمة رسوله، فكيف يجوز نقض ما عوهدوا عليه، والزيادة على ما سن من السنة في أهل الكتاب! أقول: لم ينقض ما عوهدوا عليه، فنحن نقول بموجب كل ما ذكرتم، ولم ترد على السنة التي سنها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وكيف لا ونحن لا نطلب منكم إلا ما أذن الله به من الصغار والإذلال، بعد أن حققنا دلالتهما على محل النزاع، فالله المستعان، ولو كان مجرد ¬

(¬1) [آل عمران: 112].

إلزامهم حصل فيها صغار أو ذلة نقضًا للعهد، ومخالفة لما سنه رسول الله، وخفرًا للذمة لكان أول الواقعين في ذلك عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز، والأكابر من أئمة أهل البيت، وهو باطل. أما الملازمة فلأنكم قد جعلتم مجرد الزيادة على ما ذكرتم موجبًا لذلك، وهؤلاء قد ألزموهم من زي الصغار وغيره ما أسلفناه. وأما بطلان اللازم فبالإذن القرآني بمطلق الصغار، وسائر ما في تلك الأدلة. قال: ولو كان بحيث لا يؤبه لهم، وأنه ينبغي أن يكسو جميع ملابس الصغار والذلة، لم يأذن الشارع الحكيم بجواز نكاح الكتابيات (¬1). أقول: هذا من الجنس الذي عرفناك أنا لم نقل به، ولا قال به غيرنا، لكونه محالًا من وجوه قد قدمناها، وكونهم أحقاء بأي نوع من أنواع الصغار والذلة لا تستلزم أنهم أحقاء بكل نوع. ولو قلنا: إنهم بكل نوع لم يستلزم إنزال ذلك بهم دفعة، أو في عصر من العصور لتعذر ذلك. قال: وهذه المسألة التي الخوض فيها هي مبنية على التأجير، والتأجير مبني على الرضا والرضا ينافي الإجبار الذي لحظتم إليه. أقول: هذا أشق ما مر بنا في هذه الرسالة من المناقشات وأنهضها، وجوابه من وجهين: تحقيق ومعارضة. أما التحقيق فهو ينبني على استفساركم عن تقرير اليهود في اليمن، التي هي من جزيرة العرب إجماعًا، هل يجوز مطلقًا، أو مع المصلحة؟ إن قلتم بالأول نقلنا المراجعة إلى غير البحث الذي نحن بصدده، وكتبنا إليكم برسالة مستقلة في تزييفه. وإن قلتم بالثاني فهذه مصلحة متبالغة، ونحن نزعم أنها الفرد الكامل في صلاح المسلمين من هذه الحيثية. فإن أبيتم هذا فأرشدونا إلى خصلة أصلح للمسلمين منها من ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (169).

خصال الصلاح التي يتلبس بها اليهود الآن، وإن سلمتم أن لا خصلة من خصال الصلاح تساميها، فلا نقول لكم: أجبروا اليهود على هذه الخصلة، مع كراهتهم وعدم رضاهم، ولكنا نقول: مروهم بذلك؛ فإن قبلوا ورضوا فبها ونعمت، وإن أبوا أمرتموهم بالخروج من ذلك المحل، ولا يجب عليكم زيادة على ذلك، وكل ما ذكرناه في أدلة حل الإشكال فهو على فرض عدم الإخراج، وإلا فهو المتعين عندنا. ولو سلم أن هذه الخصلة ليست الفرد الكامل في باب الصلاح، لما كان ذلك قادحًا في جواز أمرهم بالخروج على أصلكم إن لم يحصل [13] الرضا والقبول. ولا شك ولا ريب أنهم يؤثرون قبول هذه الخصلة، ويرضون بها على الخروج المذكور، كما وقع مثل ذلك من يهود صنعاء عند تخييرهم. ولقد صاروا الآن يتحاسدون في ذلك المكسب، ويتنافسون فيه، ويغتبطون به غاية الاغتباط. وكل قرين إلى شكله ... كأنس الخنافس بالعقرب وأما المعارضة فيقول: تسليم عدم الجواز ذلك لا يفيدكم في عدم إجبار المسلمين على الترك، لما قررنا من أن مباشرة العذرة محرم، ومنكر بالإجماع، وأدلة إنكار المنكر متواترة؛ فإن اعتذرتم بما سلف من تسميد الأرض، فلا دلالة فيه على المطلوب إن أنصفتمونا. قال: لفظ ذلة مصدر نوعي، يدل على النوعية، والتاء تدل على الوحدة واللام في الذلة للعهد الخارجي الذي هو أم الباب إلخ. أقول: اعلم أن وحدة الذلة وعدمه ليس لنا فيه نزاع، إنما النزاع في أسبابها، والذي نفيناه في حل الإشكال هو الذلة الحاصلة بسبب خاص، ولا شك أن وحدة الذلة أو نوعيتها كما ذكرتم لا يستلزم وحدة السبب الذي تحصل عنده؛ فإنه لا يحصل عن الأسباب المتعددة، وإن تبالغت في الكثرة إلا مسمى الذلة، ولهذا لم نحم حول وحدتها وعدمها؛ فاشتغالكم ببيان اللام والتاء في الذلة كاشتغالكم ببيان الصغار بالقوة والفعل؛ وذلك لا يكون إلا باعتبار الإذلال في الأول، والإصغار في الثاني لما سلف، فتنبهوا

- حفظكم الله -، ثم جعل التاء دالة على الوحدة على جهة الجزم لا يستلزم نفي دلالة اللام على الجنس كما قال نجم الأئمة الرضي في شرح الكافية (¬1) في الكلام على الكلمة ما لفظه: "فإن قيل: إن التاء تنفي لفظ الكلمة للوحدة؛ لأن كلمة وكلمًا كتمرة وتمر، واللام فيه للجنس، فيتناقضان لدلالة الجنس على الكثرة المناقضة للوحدة، فالجواب أن اللام في مثله ليس للجنس، ولا للعهد، كما يجيء في باب المعرفة، ولئن سلمنا ذلك. قلنا: الجنس على ضربين، أحدهما: استغراق الجنس؛ وهو الذي يحسن فيه لفظ كل، كقوله تعالى: {إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا} (¬2)؛ أي: كل إنسان وإلا لم يجز الاستثناء؛ لأنه عند جمهور النحاة يخرج ما لولاه لوجب دخوله تحت المستثنى منه، وهذا الاستغراق مفيد للكثرة فيناقض الوحدة. (¬3). والثاني: ماهية الجنس من غير دلالة اللفظ على القلة ولا الكثرة، بل ذاك احتمال عقلي كما في قوله تعالى: {لئن أكله الذئب} (¬4) لم يكن هناك ذئب معهود، ولم يرد استغراق الجنس أيضًا. ومثله قولكم: ادخل السوق، "واشتر اللحم"، وكل الخبر" وهذا [14] النوع من الجنس لا يناقض الوحدة؛ إذ لا دلالة فيه على الكثرة. والمقصود في هذا الموضع هو الثاني؛ أي: ماهية الجنس من حيث هي هي؛ لأن الحد إنما يذكر لبيان ماهية [الجنس] (¬5)، لا لبيان استغراقه انتهى بحروفه (¬6). وكون اللام للعهد الخارجي ليس هو الأصل، ولا أم الباب، لما اشتهر من الخلاف بين أئمة النحو والبيان، ¬

(¬1) (1/ 21، 23). (¬2) [العصر: 2 - 3]. (¬3) انظر "شرح الكافية" (1/ 24). رضي الدين محمد بن الحسن الأستراباذي. (¬4) [يوسف: 14]. (¬5) كذا في المخطوط وفي "شرح الكافية" (1/ 24) الشيء. (¬6) كلام: رضي الدين في "شرح الكافية" (1/ 23 - 24).

وإن قال بذلك الرضي. والحق أن الأصل الذي هو أم الباب لام الحقيقة؛ لأنها لا تنفك عن الوجود في ضمن الكل أو الفرد المنتشر، أو الخصة المعينة في الاستغراق، أو الجنس، أو العهد. قال: وفي الكشاف (¬1) في سوء العذاب ما لفظه إلخ. أقول: اقتصاره هاهنا على مجرد إعطاء الجزية، مع تعرضه لغيرها في غيره مما ينفعك في ذاك البحث الذي أسلفناه؛ أعني: أنه إنما اقتصر في تلك الآية على ما يقع حال دفع الجزية، كما اقتصر هاهنا على الجزية، وليس ذلك جزمًا بأن لا صغار إلا ذلك، كما أن هذا ليس جزمًا بأنه لم يضرب إلا ذلك. قال: نتكلم هنا مع القاضي في طرفين؛ الأول: أن الآية اختلف في سبب نزولها إلخ. أقول: لا يشك من أمعن النظر في الأصول أن الحق مع من قال أن العام لا يقصر على سببه، فإن كان الترجيح بالأدلة فلا شك أن أدلته راجحة على مقابله بمراتب كثيرة وإن كان بكثرة القائلين فهو قول الجماهير، وأنتم فيما أظن معنا على ذلك. فإن خالفتمونا في ذلك نقلنا البحث إليه ليظهر الصواب. قال: الطرف الثاني أنه قال: إن تعيين ما به الخزي لا يكون إلا توفيقًا، وقد سبقه إلى كون الخزي في الدنيا أعم من ذلك، ابن كثير (¬2)، لكن نقول: من جعل الآية عامة للنصارى واليهود. . . إلى قوله: محتملة للتوقيف، ومحتملة لوقف، لكن الحمل على الأولى أولى، حملًا لهم على السلامة من أن يقولوا في كتاب الله برأيهم. أقول: هاهنا جوابان، الأول: تحقيق. والثاني: معارضة. أما التحقيق: فنقول مستفسرين لكم: هل المراد أن المحتمل للتوقيف والوقف كل ما وقع من التفسير من الأئمة المعتبرين، الحائزين للقدر، المعتبر فيه من علومه، سواء ¬

(¬1) (1/ 313). (¬2) في تفسيره: (1/ 387).

كان تفسيرًا للسلف أو للخلف، أم المختص بذلك تفسير السلف فقط؟ إن قلتم بالأول قلنا: قد فسره جماعة (¬1) من أئمة السلف والخلف بأداء الصغار والجزية، وخروج المهدي، وأعم من ذلك نثبت مطلوبنا، وإن قلتم باختصاص ذلك بالسلف. قلنا: ما المخصص بعد إحراز نصاب التفسير من غيرهم، مع ما تشعر به العلة التي ربطتم التوقيف بها من عدم الاختصاص؛ لأن الحمل على السلامة لا يختص بالسلف إجماعًا، على أن القول بحمل تفاسير السلف على التوقيف يستلزم المنع [15] من تفسير القرآن بغير المرفوع إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وهو خلاف الإجماع، ويستلزم منع الخلف من تفسير آية فسرها أحد السلف اجتماع، وهو خلاف الإجماع، ويستلزم النقيضين في مواطن التفسير المتقابلة، وهو خلاف الإجماع والضرورة، على أنه لم يدع أحد من السلف فيما نحن بصدده الحصر، حتى يجعل تفسير ابن كثير بأعم من ذلك مخالفًا له. وأما المعارضة فهذا عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز، وأئمة أهل البيت، وغيرهم قد فسروا الصغار بما يقدح في مدعاكم السابق، - أعني تخصيصه - وهم من خير السلف، فلم لا يحملونه على التوقيف؟ وتسلمون لنا ما ادعيناه فيه من عدم الاختصاص، فأنتم أحق لهذه الأولوية التي ذكرتم هنا؛ أعني الحمل على التوقيف. قال: وأما الثاني وهو الوقف إن كان نظرهم أدى إلى ذلك، فذلك مراد الله منهم إلى قوله: فتصدق الآية عليه إلخ. أقول: نزاعنا إلا فيما هو الحق، ونحن أخوان في طلبه، فما لنا ومطابقة نظرهم لمراد آية وعدمها، وأي مطلوب يتعلق بها، ونحن نجلكم عن التقليد، ولا نرضى بانخراطكم في سلك أهله، فدعونا من هذا. فدع عنك نهبًا صيح في حجراته ... وهات حديثًا ما حديث الرواحل ¬

(¬1) تقدم ذكره.

قال: ففهموا أنه إذا حصل أي خزي عظيم فقد كفى؛ إذ بحصول خزي واحد يصدق عليهم أن لهم خزيًا إلخ. أقول: قد تقرر لك أن ادعاء كفاية فرد من أفراد الخزي بعينه لا دليل عليه، وقد ذكرت في حل الإشكال أن التنكير فيه معنى العموم، وإن لم يصح تناوله للمجموع دفعة كما ذكر ذلك جماعة من العلماء، وخرج له ابن كثير كما ذكرتم في تفسير هذه الآية، على أن النزاع إنما هو في أسباب الخزي التي يحصل عندها ليس إلا، والأسباب الكثيرة لا يحصل بها إلا مجرد الخزي؛ فلا فائدة في تطويلنا للاحتجاج على ذلك، ولم ندع المطلوب منا إنزال كل موجب للخزي بهم كما ذكرتم. قلن: إنهم أحقاء بالخزي العظيم، وأهل لكل فرد من الأفراد الموجبة للخزي، لا أن المطلوب منا إنزال جميعها بهم، فهذا لم أقله أنا ولا غيري فيما أعلم؛ لأن القائل بعموم الخزي لا يقول بأن إنزاله بهم جميعه مطلوب، وهذا ظاهر. قال: فهذه الآية إنما هي وصف لهم بالخزي، والخزي بالفعل يفارقهم في كثير من الأحوال. . . إلى قوله: ولم يقض أنه واجب علينا إنزال كل فرد من أفراد الخزي بهم لهذه الآية. أقول: إن أردتم بفراق الخزي فراق أسبابه الموجبة له فمسلم، ولم نقل بلزومه [. . . .] (¬1) وإن أردتم فراقه نفسه فهو من ذلك القبيل الذي نبهناكم عليه في الصغار، ولا يخفاكم أن النزاع في دليل إجبار اليهود، وهو أعم من الوجوب. وقد جمعت في حل الإشكال (¬2) الأدلة الدالة على الجواز، ومنها ما يفيد الوجوب، ومنها ما لا يفيده [16]، مطابقة لما سألتم عنه. قال: لم لا يجوز أن يكون التنكير للنوعية، مع إرادة التعظيم ولا منافاة؟ إلخ. ¬

(¬1) في المخطوط كلمة غير مقروءة. (¬2) الرسالة رقم (166).

أقول: سلمنا تنزلًا. فما يقولون في الأسباب الموجبة للخزي هل هي معينة أم لا؟ إن قلتم بالأول فما دليلكم؟ وإن قلتم بالثاني صح استدلالنا، وثبت مطلوبنا. قال: صدر الآية: {يا أيها النبي جاهد الكفار} (¬1) إلى آخر البحث. أقول: غير خاف على فطرتكم السليمة، وفكرتكم القويمة أن صيغة الكفار عامة، ولم يقع الخلاف في مثلها إلا من جهة استغراقها للجموع، أو لما هو أعم من ذلك، وقد اختلف كلام جار الله (¬2) في ذلك، وقد حقق سعد الملة التالي، ورجحه وكرره في حاشية الكشاف مرات، وطول الكلام في المطول، وزعم أنه مذهب أهل الأصول والتفسير، وعلى ذهني أنه ذكر في حاشيته على شرح المختصر، ولم يطول الكلام أحد في ذلك بمثل ما طوله. وقد تقرر عدم القصر على السبب؛ فاستدلالنا بها من هذه الحيثية وكون مقام النزاع من أسباب الأغلاظ أمر لا ينكر، والدليل على مدعي التخصيص إن سلم العموم أو التقييد إن لم يسلم، ولا دليل يخرج الالتقاط فيما نعلم، فأفيدونا به، وهذا الدليل صالح للاستدلال به على وجوب الإجبار على هذه القضية، ولا يقال أن الأمر بجميع أسباب الأغلاظ لا يمكن الوفاء به؛ لأنا نقول: أسباب الأغلاظ متفاوتة، وهذه من أهمها، فغاية الأمر أن الأغلاظ عليهم بالأهم ممكن بالفعل، فلا شك في صحة التكليف به. والاستدلال بقوله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} (¬3) مسلم، ولا يضرنا تسليمه؛ لأن البحث في غيره. قال: لا ينكره أن العزة لله ورسوله وللمؤمنين، وأما كون هذه مقدمة ركب العزة فلا، إذ يلزم من ذلك أنه لا عزة للإسلام في البلاد الخالية عن اليهود إلخ. ¬

(¬1) [التوبة: 73]، [التحريم: 59]. (¬2) الزمخشري في "الكشاف" (3/ 68). (¬3) [العنكبوت: 46].

أقول: نعم، ولا ذلة عليهم مع عدم مساكنة أعداء الله؛ لأن كون هذه القضية فيها غاية الإهانة على المسلمين بالنسبة إلى إعفاء اليهود منها، ومشاهدتهم لمباشرة المسلمين لذلك، وتقذرهم لفعلهم، حتى تراهم إذا رأوا المسلم يباشر ذلك يتجنبون القرب منه، ويسدون أنافهم، فمن هاهنا - يا فخر الإسلام - جاءت الذلة العظيمة، وكان في تخليص المسلمين منها غاية العزة. قال: فبعد قول الله: {ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًّا} (¬1) لا مجال للكلام إلخ. أقول: وقد صرح - جل جلاله -: برفع المؤمنين ووضع الكفار، وجعل الرفع في هذه المقيدة بما في آية رفع المؤمنين معللًا بقوله: {ليتخذ بعضهم بعضًا [17] سخريًّا} (¬2) وقد رفعكم الله، ورفعنا بالإيمان، وخصكم بالأقدار على إنفاذ الأوامر؛ فاتخذوا هؤلاء الملاعين سخريًّا. ولا يقولوا قد اتخذناهم سخريًّا في كذا وكذا؛ فإن ذلك أمر مشترك بينهم وبين المسلمين ولكن: انزلوها بحيث أنزلها الله ... بدار الهوان والإتعاس ذلها أظهر التودد منها ... وبها منكم كحر المواس وقد سبق ما أسلفناه في نقل الأزبال إلى الأموال، فلا نعيده هنا في الجواب على ما ذكرتم. قال: وهاهنا مانع من استدلال بالآية على العموم إلخ. أقول: لم ندع العموم حتى يرتب على ذلك منعنا من الاستدلال بها، إنما جعلناه وصفًا مادحًا ترغب في التلبس به النفوس، لما قررنا من ظهور عدم عزة أهل هذه الحرفة من المسلمين على اليهود؛ لمباشرتهم لما لا يساعدون عليه، ويرونه من أعظم صفات الذلة، والنقص والمهانة، والمسلم أخو المسلم (¬3)؛ فبذل الجهد في تحصيل المعزة له ¬

(¬1) [الزخرف: 32]. (¬2) [الزخرف: 32]. (¬3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه رقم (32/ 2564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تحاسدوا ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم: لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه". وهو حديث صحيح.

بتخليصه من هذه الورطة التي لا ذلة أعظم منها أمر ترغب إليه النفوس، ولو سلم أن ثم مدعيًا يدعي العموم في الآية لما كان ما ذكرتم هنا موجبًا للمنع من ذلك؛ لعدم حصر العزة في المذكور بعدها. قال: فقد تكون الضرورة ألجأته إلى العمل بالأجرة فيما يسد خلته إلخ. أقول: هل سدت طرق المكاسب على هؤلاء؟ أم غلقت دونهم، أبواب المعايش؟ أم طردهم الناس عن جميع المهن؟ حتى يقال أنهم مضطرون إلى الأجرة من هذه الخصلة اضطرارهم إلى أكل الميتة، وهل عدمت المعاول أم فقدت المكاتل؟!. أم منعوا من نقل الصخور؟ أم ما هو الذي ألجأهم إلى ذلك؟ وأحوجهم إلى ما هنالك؟. ولو فتحنا هذه الباب، واقتحمنا هذا الاقتحام لقلنا، وكذلك المعتادون للاحتراف بالغناء والمزاهر، والمعازف، ربما ألجتهم الضرورة إلى ذلك، بل هذا أخف من ذلك، لما اشتهر من اختلاف الأدلة والأقوال فيه، بخلاف الاحتراف بمباشرة العذرة حال رطوبتها فإنه محرم بالإجماع، مع ما ينضاف إليه من البيع لها، الذي هو من المحرمات. فما أشبه تقرير هؤلاء بتقرير بائع الخمر على بيعه! والاعتذار عن ذلك بأنه ربما ألجته الضرورة إليه كما يجوز إذا ألجت الضرورة إلى أكل الميتة، لاستواء الخمر، ومباشرة هذه النجاسة كالإجماع على الحرمة، وكذلك على البيع، إلا عن قليل من أهل العلم، على أن العذرة أشد من حيثية النجاسة للإجماع (¬1) على نجاستها، والاختلاف في نجاسة الخمر، بل الحق عند من أنصف عدم نجاسة الخمر [18]؛ فجهة الاستواء هي التحريم لا النجاسة. ¬

(¬1) انظر "فتح الباري" (4/ 414، 417).

والحاصل أنا إذا جعلنا تقرير المحترف على حرفته جائزًا لظن أنه ألجئ إليها سددنا باب إنكار المنكر، وضربنا بيننا وبينه بسور، وأدى إلى أن يفعل من شاء ما شاء قائلًا: إنه لم يجد له حرفة غير ذلك، وما أظن إنصافكم يبلغ إلى مثل هذا، فالله المستعان. وجريان مثل هذا الإلزام في البغايا (¬1) أظهر، لما ثبت بالضرورة من ضعفهن عن مزاولة الأعمال الشاقة، التي يباشرها الرجال لتحصيل قوام العيش، فالله يحب الإنصاف وأنتم - أهل هذا البيت - الحاملون لرايته والمقتدي بكم بين أهله وعصابته. وحديث: "إن الله يحب العبد المحترف" (¬2) لا يقول أحد من الناس أن الاحتراف يعم الحرفة الحلال والحرام، وإلا عاد الإلزام. وتأجير النفس من أهل الذمة في الأعمال الجائزة لا نقول بمنعه، ولا أحد من العلماء، مع عدم استلزامه لذلة تلحق بالمسلمين. وكذلك حمل الطعام والثياب والإدام والفاكهة إلى مساكنهم، وأين هذا من ذاك! ولقد كان خير القرون يتأجرونهم، ويبايعونهم، ويؤجرون أنفسهم منهم، وليس في ذلك خدش في وجه عزة الإسلام، ولكنهم ما كانوا يلتقطون عذراتهم الذي هو محل النزاع. فإن قلتم: إن ذلك غير واقع عندكم، فلا أقل من إذنكم لأهل الذمة بالدخول إلى محلكم المحروس، وما أظنكم تمنعونهم من قضاء الحاجة ما داموا هنالك. فانظروا، هل يصح إلحاق محل النزاع بمعاملاتهم مع الاختلاف في أمور؟ أحدها: بمجرده يقدح في صحة القياس، فإن لاحت لكم الصحة أفدتم، وهضم النفس بمباشرة الحرف الدنية إن سلم جوازه في الحرف الحلال، فكيف يجوز التواضع بمباشرة الحرام! فقبح الله هذا التواضع الذي يفضي إلى ذهاب الدين، ويثل عرش عزة المؤمنين؛ فإن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها. ¬

(¬1) منها ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2282) ومسلم رقم (39/ 1567) من حديث أبي مسعود البدري قال: "نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن". (¬2) تقدم تخريجه.

قال: الوجه الأول من حيث المعنى أنه إذا كان في معنى الأمر، وقد تقرر أن الشرع لم يمنع من بعض المهن التي فيها سقوط؛ فالإسلام باقِ على علوه؛ إذ لا نقص فيما أباحه الشرع إلخ. أقول: نحن أولًا نمنع الدخول في المهن التي فيها سقوط، ونقول: لا سقوط في مجرد معاملة الكفار، ولو سلم فأخبرونا عن محل النزاع، هل إباحة الشارع بالنص أو أقستموه على المعاملات؟. فإن قلتم بالأول فما هو؟. وإن قلتم بالثاني فقياس المغلظ على المخفف بعد تسليم أن في معاملتهم سقوطًا لا يجوز عند جميع الفحول من أئمة الأصول (¬1). قال: الوجه الثاني [19] في الكلام على إسناده. قال ابن حجر (¬2): حديث "الإسلام يعلو" إلخ. أقول: قد ثبت بطرق متعددة ليس فيها من يتهم بالوضع، وثبت من طريق عمر وابنه عبد الله، وعايذ، وبعض طرقه تشهد لبعض، وينجبر الضعف بذلك. فأما القصة بطولها فموضوعة، ولم يأت بها إلا السلمي البصري، وهو متهم، ولا شك أنه بطوله كما قال الذهبي. ولكن قد روي من طريق غيره بغير تلك القصة، ولهذا روه البخاري (¬3)، والبخاري ومعلقاته قد ذكر الحافظ ابن حجر أنه أسندها في مؤلف (¬4)، ولم يبق منها إلا النزر اليسير، ونفاق الموضوعات على مثل محمد بن إسماعيل من أبعد ما ¬

(¬1) انظر "إرشاد الفحول" (ص 684، 699)، "تيسير التحرير" (3/ 295). (¬2) في "الفتح" (3/ 200). وانظر: "التلخيص" (4/ 231). (¬3) في صحيحه (3/ 218 باب رقم 79) إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه؟. (¬4) "تغليق التعليق" لابن حجر وهو في (5) مجلدات. دراسة وتحقيق: سعيد عبد الرحمن موسى القزقي.

يقال، ولم يسبق أحد إلى رميه بمثل ذلك، إلا الحافظ ابن حزم؛ فإنه زعم في حديث شريك الذي ذكره البخاري (¬1) في الشق والإسراء أنه موضوع، ثم فوقت إليه سهام الملام، ونقض الأئمة ما جاء به في ذلك المقام من الكلام، وهكذا في دعواه في حديث مسلم (¬2) الذي فيه تزويج أبي سفيان لأم حبيبة من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، على أن الأئمة من أهل البيت وغيرهم قد أودعوه في بطون مؤلفاتهم. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7517). قال ابن حجر في "هدي الساري" (ص 383): وقد خالف فيه شريك أصحاب أنس في إسناده ومتنه، أما الإسناد فإن قتادة يجعله عن أنس عن مالك بن صعصعة، والزهري يجعله عن أنس عن أبي ذر، وثابت يجعله عن أنس من غير واسطة لكن سياق ثابت لا مخالفة بينه وبين سياق قتادة والزهري، وسياق شريك يخالفهم في التقديم والتأخير والزيادة المنكرة. وقد أخرج مسلم إسناده فقط تلو حديث ثابت وقال في آخره فزاد ونقص وقدم وأخر، وتكلم ابن حزم والقاضي عياض وغيرهما على حديث شريك وانتصر له جماعة منهم أبو الفضل بن طاهر فصنف فيه جزءًا. انظر مناقشة تفصيله لذلك في "الفتح" (13/ 380). ورد ابن حجر على ابن حزم. . . ". (¬2) في صحيحه رقم (168/ 2501) من حديث ابن عباس قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه فقال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا نبي الله! ثلاث أعطنيهن، قال "نعم" عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها! قال "نعم" قال: ومعاوية، تجعله كاتبًا بين يديك. قال: "نعم" قال: تؤمرني حتى أقاتل الكفار، كما كنت أقاتل المسلمين؟ قال: "نعم". . . ". قال القرطبي في "المفهم" (5/ 456): قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: تزوج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم حبيبة سنة ست من التاريخ، قال غيره: سنة سبع. فقد ظهر أنه لا خلاف بين أهل النقل أن تزويج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متقدم على إسلام أبيها أبي سفيان، وعلى يوم الفتح. ولما ثبت هذا تعين أن يكون طلب أبي سفيان تزوج أم حبيبة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد إسلامه خطأ ووهم، وقد بحث النقاد عمن وقع منه ذلك الوهم فوجدوه قد وقع من عكرمة بن عمار. . . ". ثم قال القرطبي في "المفهم" (5/ 457): قد تأول بعض من صح عنده ذلك الحديث بأن قال: إن أبا سفيان إنما طلب من النبي أن يجدد معه عقدًا على ابنته المذكورة ظنًّا منه: أن ذلك يصح لعدم معرفته بالأحكام الشرعية؛ لحداثة عهده بالإسلام. . . ".

قال: الشرع غير قاض عن المساواة مطلقًا؛ ألا تراه قد أجاز الشرع تساويهم في الحرف الدنية غير هذه إلخ. أقول: لم نقل إلا أن فحوى الخطاب (¬1) ولحنه قاضيان بمنعهم عن مساواة المسلمين في مثل هذه الخصلة إلخ. فلا يرد علينا تجويز الشارع مثل ذلك في سائر الحرف الدنية؛ لأنا لم ندع المنع من المساواة مطلقًا، بل ادعيناه في هذه الخصلة، وفي ما هو أشد ضررًا منها على المسلمين، وهو محل النزاع، فلا يتم لكم إلزامنا بذلك إلا بعد بيان أنه مساوِ لخصلة النزاع في تأثر الذلة، والقدح في العزة [عه] (¬2)، وفحوى الخطاب من أقوى المفاهيم وكذلك لحنه. فإذا قضيا بمنع المساواة فكيف لا يقضيان بمنع تفضيل اليهود على المسلمين في هذه الخصلة الذي يستلزمه إعفاؤهم عنها، وإلصاقها بالمسلمين من القائلين بالعمل بالمفهوم! فما عذركم في ترك العمل به هاهنا؟. وإن كنتم من المانعين من العمل به فما الدليل على ذلك؟ فإن مفهوم الموافقة كما نحن بصدده معمول به في كثير من الأحكام، ومقبول عند الخاص والعام، وخلاف من خالف في العمل بالمفهوم ليس على الإطلاق، بل مقيدًا لمفهوم المخالفة، ولهذا لم يقع الخلاف في مفهوم الموافقة إلا من حيث إنه من باب المفهوم، أو من باب القياس، ومن حيث قطعيته وظنيته. وقد عرفتم [20] ما حررناه في تسميد الأرض، فلا حجة لكم فيه. وقولكم: لم يسمع أن أحدًا من العلماء إلى الآن، مع تطاول الأزمان إلخ. قد أسلفنا لكم الكلام عليه، فلا نطول بإعادته. قال: لا قياس، فإن قضية بني النضير في صدر الإسلام بعد قضية بدر التي عاتب الله فيها نبيه في الفداء إلى آخر البحث. أقول: هذا معلوم لكل ناقل، ولم نقل إلى أن إجلاءهم لم يكتب عليهم إلا لمراعاة ¬

(¬1) تقدم توضيحه. (¬2) كلمة غير واضحة في المخطوط.

مصلحة المسلمين، لما نالهم من الأمور التي قد اشتهرت اشتهار النهار، وقد اعترفتم بهذا في كلامكم فقلتم: يعني أن الله قد عزم على تطهير أرض المدينة منهم، وإراحة المسلمين من جوارهم، وتوريثهم أموالهم. والامتنان على المسلمين، من أعظم الأدلة على أن وجه الحكمة في الإخراج هو مصلحة المسلمين فإن كنتم توافقوننا على أن مراعاة المصلحة هي السبب في الجلاء، فالإلحاق صحيح، ولا خطر عظيم كم ذكرتم، ولا موجب للتهويل. وإن أبيتم ذلك، وناقضتم كلامكم الذي في إرسال المقال فأخبرونا عن وجه الحكمة؟، فإن قلتم لا نعلمها فقد علمها غيركم، ومن علم حجة على من لم يعلم. وقولكم: فكيف يجوز أن يقيس المحاربين على المعاهدين، لعله من سبق القلم والصواب العكس. قال: إن كان الأمر هنا للندب فالقصد منه الإرشاد، وأن المراد الوجوب فهو عام، وقد خصصه الشارع. أقول: كلا، يبقى الترديد محصل للمطلوب؛ لأن السؤال إنما هو عن دليل الإجبار، وهو أعم فالأمر كما قيل: خذا بطن هرشى أو قفاها فإنه ... كلا جانبي هرشى (¬1) لهن طريق ودعوى تخصيص ذلك الأمر بالسنة نستفسركم عنه فنقول: بعد تسليمكم لدخوله تحت العموم، هل خصصت السنة هذا الأمر بعينه أو غيره؟ وهل ذلك الغير مماثل له في المهانة أو فوقه أو دونه؟ الأول: ما أظنكم تدعونه، والثاني: ممنوع، إن قلتم بالأول منه أو الثاني فعليكم الدليل، ولا ينفعكم ما ذكرتم من التسميد لما سلف. وإن قلتم بالثالث منه فلا يضرنا ولا ينفعكم، فأين الإنصاف؟ ¬

(¬1) هرشى: ثنية في طريق مكة قريبة من الجحفة يرى منها البحر ولها طريقان فكل من سلكهما كان مصيبًا. وقيل: هي ثنية بين مكة والمدينة، وقيل جبل قريب من الجحفة. "اللسان" (15/ 76). وقد تقدم.

قال: الحديث ليس على ظاهره؛ لأنه إما أن يراد: لا يؤمن الإيمان الكامل؛ وذلك لا يضر؛ إذ الإيمان الكامل عزيز إن قال، وإما أن يراد: لا يؤمن؛ أي: لا يكون مسلمًا بل كافرًا، فالقاضي لا يقول بذلك إلخ. أقول: قد تقرر أن الأصل في النفي [21] يتوجه إلى الذات، وإن أمكن، وإن لم يمكن توجه إلى الصحة التي هي أقرب إلى الذات، لا إلى الكمال، إلا لقرينة، ولو سلمنا لكم ما ذكرتم لكان كلا شقي الترديد صالحًا للاستدلال به على مطلوبنا. أما الأول فكيف يرضى المسلم بتقرير المسلمين على ذلك، ويشح باليهود عنه، مع علمه أن إيمانه ينقص بذلك، وكيف يؤثر على طلب كمال إيمانه ما لا فائدة تحته!. وقولكم: لا يضر إن أردتم بالضر ذهاب الإيمان بمرة فمع كون الأصل توجه النفي إليه كما تقدم، ليس الضرر مقصورًا عليه؛ فإن انتقاص الإيمان الكامل ضرر وأي ضرر. وليس الضرر مختصًّا بموجبات العقاب؛ فإن فوات منافع كمال الإيمان الموجبة لرفع الدرجات من الضرر، وصعوبة معنى الحديث لا يكفي في التخلص عن عهدته وورطته. ولو سلم أن المعنى ما ذكره النووي (¬1) من أنه يجب له حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها، لما خرج عن الدلالة على محل النزاع؛ إذ لا مزاحمة فيه، وكلما ذكرتموه من الأقوال شاهد لدلالة الحديث على محل النزاع. قال: لا يجوز القدح فيما أمر به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلخ. أقول: قولي في حل الإشكال (¬2) قادح في جواز التقرير، أردت به ما جعلته عنوانًا ¬

(¬1) في شرحه لصحيح مسلم (2/ 17): "إذ معناه لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه في الإسلام مثل ما يحب لنفسه والقيام بذلك يحصل بأن يحب له حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها بحيث لا تنقص النعمة على أخيه شيئًا من النعمة عليه وذلك سهل على القلب السليم وإنما يعسر على القلب الدغل. (¬2) انظر الرسالة رقم (166).

لذلك البحث من قولي: الدليل الثاني عشر ما استنبطه الأمير الحسين. . . إلى أن قلت حاكيًا لكلامهم: ولا مخصص للحجاز عن سائر البلاد إلا أن رعاية المصلحة في إخراجهم منه إلخ. ثم قلت: ولا شك أن امتناعهم من القيام بهذه العهدة التي هي رأس المصالح قادح في جواز التقرير، قادح لأن الأمير ومن معه قد جعلوا مستند التقرير المصلحة، وهذا واضح لا إشكال فيه، فكيف يقال لا يجوز القدح فيما أمر به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -! على أنا قد أسلفنا أحاديث الجزية مقيدة بالصغار بنص القرآن، ثم نقول: قد تعقب عقد الذمة الذي ذكرتم ما صح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من قوله عند موته، وكان آخر كلامه، كما في بعض الروايات: "أخرجوا اليهود من جزيرة العرب" (¬1) ونحوه؛ فهو ناسخ لتقريرهم منها بالجزية، للقطع بتأخر القول عن التقرير فلا تقرير، فلا قدح، فتدبروا. قال: قد عرفت أن حفر الخندق إنما كان للحاجة الماسة إلى ذلك، من حفظ النفس والدين معًا إلى آخر البحث. أقول: هذا كلام رصين، لكنه - حفظه الله - جرد بالنظر إلى تفاوت المصلحتين، وجعله مانعًا من الإلحاق، ولم يمش على ذلك في إلحاقه للالتقاط بالتسميد، بل بسائر الحرف الجائزة، فليعمل بما حرره هاهنا ولينصف. وأما نحن فنقول: ليصحح ذلك الاستدلال [22]، هل كان ما يتوقعه المسلمون من الكفار عند حفر الخندق من دخول المدينة، وهلاك النفوس، وهتك الحرم معلومًا لهم أم مظنونًا؟ الأول باطل لا يقول به عاقل، والثاني يوجب رجحان المصلحة التي نحن بصددها على تلك المصلحة؛ لأنها وإن نقصت عن تلك بذلك الاعتبار، فقد رفع من شأنها كونها معلومة. ثم نقول ثانيًا: أنتم لا تنكرون أنما نحن بصدده مصلحة واقعة، وتلك التي حفر الخندق من أجلها لم تقع إذ ¬

(¬1) تقدم تخريجه.

ذاك، ودفع المفاسد الواقعة أرجح من دفع المفاسد التي لم تقع بالإجماع، وبما أسلفناه من أول هذه الرسالة: إلى هنا يجاب قولكم آخر البحث فهل من دليل؟. قال: قد قدمنا لك أن نقل الأزبال إلى الأموال لا فرق بينه وبين نقلها إلى الحمام، وأنه لم يمنع من ذلك شرع ولا عرف إلخ. أقول: قد عرفت إبطالنا لذلك فيما سلف، وأنه قياس أولًا على غير دليل، وثانيًا مع الفارق. وكيف يقال لم يمنع من الالتقاط شرع ولا عرف! وأدلة تحريم التلوث بالنجاسة لغير حاجة متواترة، ومجمع على تحريمها. فهب أن جميع الأدلة التي سردناها في إجبار اليهود كما ذكرتم، وأن ما حررناه من رد كلامكم في هذه الرسالة غير ناهض، فما العذر عن تقرير المسلمين على ذلك المنكر، الذي لم يخصه من عموم تحريم ملابسة النجاسة دليل؟ إن قلتم: نقل الأزبال إلى الأموال فنقول: إذا ذهب عن ذهنكم ما مر في أثناء هذه الرسالة فارجعوا إليه لتعلموا أنه لم يدل على ذلك سنة، ولا قرآن، ولا إجماع، ولا قياس ولا استدلال. فكيف التعلق بالقياس على مثله؟! وتخصيص الأدلة المتواترة به، وترديده في هذه الأبحاث، حتى كأنه في أم الكتاب، فما دأب المناظرة إلا المناصرة على طلب الحق لأرمي المنازع بكل هجر ومدر. وأما قولكم: قد رددنا الاستنباطات التي سماها القاضي أدلة كما سمعت، فما هذه بأول قارورة من قوارير الإنصاف كسرت. وقد علم الله أني نظرت إلى رسالتكم بعين الإنصاف ووطنت النفس عند فض خاتمها على تنكب مزالق الاعتساف، ولو صح لي شيء من تلك الردود لصليت وسلمت. ولا أقول قد وضح الصح لذي عينين، ولا عادت إرسال المقال بخفي حنين، ولكني أكل الأمر إلى إنصافكم، فإن لاح لكم بعد التدبر الاختلال أفدتمونا. وقد نبهنا لها عمرًا وزمنًا، وإن يكن الأخرى فما في الانقياد للحق وصمة وسقوط واحد من تلك الأدلة، أو سقوط بعضها لا يستلزم سقوط جميعها. وقولكم: هذا الذي جعله القاضي [23] من فوائد منكرًا معروفًا حسب هذا التقرير. أكل الكلام عليه نظركم، وأفوضكم في جعل طرده عكسًا، فقد طال الكلام،

وربما أفضى ذلك إلى ما لا حاجة إليه. قال: يستفسر ما أراد بالدين، فإن أراد بالدين الأركان الخمسة التي بني الإسلام عليها إلخ. أقول: المراد بالدين الذي حفظه أحد الضرورات الخمس أعم من الشق الأول، وأخص من الثاني، فما كان يستلزم تركه أو فعله ذهاب الدين وانتقاصه انتقاصًا بوقع في العقاب، فحفظه واجب. وقد قررنا فيما سلف أن نجاسة الغائط مجمع عليها، لم يخالف فيها أحد من المسلمين، كما حكى ذلك الأئمة. وبعد ثبوت هذا الإجماع، وثبوت الأدلة المتواترة في ذلك، وعدم صحة التعلق بنقل الأزبال إلى الأموال في المعارضة من جهة أنه ليس جوازه مرفوعًا إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بقول، ولا فعل، ولا تقرير، ولا دل عليه غير ذلك من الأدلة، ولا أجمعت عليه الأمة، لا قولًا ولا فعلًا، مع كونه لم ينقل أن أحدًا من أهل العلم السلف والخلف أجاز نقل العذرة حال رطوبتها إلى الأموال لتسميدها. وغاية ما في ذلك حكاية جواز التسميد بالزبل، وهو مع عمومه لكل زبل مع ما نقلتم عن ابن عمر أنه قال: كنا نشرط عليهم ألا يزبلوه بالعذرة، والمجيء بهذه الصيغة المشعرة بإسناده الاشتراط إلى جماعة الصحابة كالمخصص، على أنه لو فرض أن القول بجواز التسميد بالزبل إجماع، وفرض شموله للغائط، لكان مخصوصًا بالإجماع القولي، والدليل الصحيح، القاضيان بنجاسة العذرة، وإلا لزم إن قيل بالتعارض، إما عن جميع الوجوه، أو من وجه كما هو شأن العموم والخصوص، ومن وجه تعارض القواطع، إن جعلتم الإجماع الفعلي على جواز التسميد قطعيًّا، وأنه باطل، وإن جعلتموه ظنيًّا فلا ينتهض لمعارضة القطعي، وهو الإجماع على نجاسة العذرة في مادة الاجتماع. فكيف بمادة الافتراق التي هي محل النزاع! إن قلنا أن بينهما عمومًا وخصوصًا من وجه، فكيف والظاهر أن الإجماع على نجاسة العذرة أخص مطلقًا؛ لأن العموم والخصوص من وجه إنما يتم في نجاسة العذرة بالنظر إلى عموم الحكم بنجاستها للأوقات، والأزمان،

والأشخاص، وأنه غير معتبر مع عموم الأزبال باعتبار الصيغة، فطاحت المسألة على جميع التقادير، واسترحنا من تعبها من جميع الوجوه، ولم يبق ما يصلح متمسكًا للمعارضة. إذا عرفت هذا التقرير، مع ما ينضم إليه من الأدلة المتواترة على وجوب إنكار المنكر [24]، وإجماع الأمة على أنه واجب، فالمتلوث بالعذرة الواقع في محرم مقطوع به، وهو مخالفة الإجماع لمباشرتها لم يحفظ دينه من هذه الحيثية، والمقرر له على ذلك الواقع في محرم مقطوع به، وهو مخالفة الإجماع، والدليل القطعي بترك إنكار المنكر لم يحفظ دينه أيضًا من هذه الحيثية؛ فهذا مرادنا بالدين الذي استفسرتمونا عنه، ويحفظه الذي جعلناه ضروريًّا على حسب مصطلح أرباب الأصول. وأما معارضة ذلك بأن منع المسلم المحترف بتلك الحرفة يؤدي إلى عدم حفظه للدين، فمع كونه يستلزم التقرير على كل حرفة محرمة بتجويز هذه المظنة، ويسد عنك باب الإنكار، وتنفتح أبوب كل فساد للأشرار، وحاشا إنصافكم أن تلتزم مثل هذا، فهو لا ينفعكم في مثل ما نحن بصدده؛ لأن هذه مفسدة متيقنة واقعة، وتلك مظنونة لما تقع، وهذه حفظ لمفارقة المحرم، وتلك بملازمته والتقرير عليه. ورفعها لا يقوم بالخرق، وبينهما مفاوز وعقاب تتقطع في قطعهما أعناق مطي الطلاب، وبمثل هذا لا يخفى على من كان في التيقظ مثلكم، وما أظنه إلا وقع في حال سهوِ، وإن كان لكم عليه دليل فما بيننا وبين الحق عداوة، ولو جاءنا به من لا يؤبه له، فكيف بمن هو ابن مجدته ونجدته!. وأما احتجاجكم بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أعطى الحاجم (¬1) أجرته فنقول: أولًا: لا يصح إلحاق العذرة بالدم؛ لأن قياس ما هو أغلظ حكمًا على ما هو أخف ¬

(¬1) تقدم تخريجه.

لا يجوز. وثانيًا: أن الحق عدم انتهاض أدلة نجاسة الدم. وثالثًا: أن مباشرة الحاجم لدم الحجامة حالها ليس بأكثري، ولا كلي، بل وقوعه في حيز الندرة، فكيف يجعل من أدلة النزاع!. قال: يستفسر من هم: هل المراد تقرير المسلمين على التقاط الأزبال، أم تقرير اليهود على الأعداء؟. أقول: هم المسلمون. قال: المناسب الملغى (¬1) ليس بملغى عند مالك، ويحيى بن يحيى الليثي إلخ. أقول: إنه سافر إنصافكم إلى التمسك لها في مقابلة جميع المسلمين، فأخبرونا: هل أخذتم بقولهما في كل مناسب ملغى، أم في هذه المسألة فقط، لقصد التخلص عن احتجاج الشوكاني؟ وهل كان ذلك اجتهادًا منكم؟ فما دليله مع مصادمته للإجماع والأدلة، أم تقليدًا؟ فالمسألة أصولية، والحق عدم انتهاض أدلة مطلق التقليد، فكيف بمقيده الذي وافق في عدم جوازه كل مجوز للمطلق إلا من شذ!. قال: وينظر من أي أقسام الملائم المرسل إلخ. أقول: من الأول: أعني: اعتبار عين الكفر في جنس الصغار الثابت لأهله بالإجماع [25]، وكونه فيه خلاف ليس بموجب لهجر موطنه، وفراق مسكنه، ولو كان مجرد وقوع الخلاف موحيًا لذلك لاختص التكليف بمسائل الإجماع، على أن ما نحن فيه بحمد الله من ذلك كما قررناه، ولا انخرام لهذه المناسبة؛ لعدم تحقق مفسدة في إجبار اليهود فضلًا عن أن يكون مساوية أو راجحة، وكون ذلك يستلزم نقض العهد على ما عوهدوا عليه، فقد حققنا فيما سلف أن أهل الذمة منسوخ بما قاله رسول الله - صلى الله عليه ¬

(¬1) تقدم ذكره. انظر: "إرشاد الفحول" (ص 721 - 722)، "البحر المحيط" (5/ 215).

وآله وسلم - عند نزول الموت به: "أخرجوا اليهود من جزيرة العرب" (¬1). وعلى تسليم عدم النسخ، فالزيادة التي لا تنافي المزيد مقبولة بالإجماع، وفي القرآن زيادة الصغار. وقد حققنا الكلام فيما سلف فلا نعيده، فلا نقض، فلا مفسدة، فلا انخرام. قال: على أن الذمي المؤدي للجزية المعاهد بعهد من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عليها فقط إلخ. أقول: قد كرر - حفظه الله - هذه الدعوى في مواطن من هذه الرسالة، وكررنا ردها كذلك آخر هذا البحث الذي خرجنا منه، فلا نعيد ما سلف. وأما جعل المفعول لأجله هو الحمامات فإن لم يكن موجب الالتقاط عندكم غيرها فأريحوا المسلمين من هذا المنكر الذين هم متلبسون به، واهدموا الحمام الذي صار وسيلة وذريعة إلى هذه القبائح؛ فإن البلاد بلادكم، والأمر أمركم، وأنتم أحق بالعمل بقولكم من غيركم، ودعوا اليهود وشأنهم؛ فإنا لم نقل بإجبار اليهود إلا لما ظنناه من أن ترك الالتقاط يضر بالمسلمين، وأنه لا بد من قائم به من النوع الإنساني، فإذا لم يكن الحامل على الالتقاط إلا الحمامات فقد قربتم المسافة. بعد اعترافكم أنها صارت وسائل إلى المنكرات، فلا تخلوا بإنكار المنكر بالإجماع، لأجل التوسل إلى ما هو أيضًا منكر عندكم، وسنشد عضد ما ذكرتم من أن دخول النساء الحمامات محظور، فنقول: أخرج أبو داود (¬2) والترمذي (¬3) عن عائشة قالت: نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الرجال والنساء عن دخول الحمام، ثم رخص للرجال أن يدخلوه في المآزر. وهو من حديث حماد بن سلمة بن دينار، عن عبد الله بن شداد، عن أبي عذرة، عنها. وأبو عذرة مجهول. قال الترمذي (¬4): لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة، وإسناده ليس بذلك ¬

(¬1) تقدم تخريجه مرارًا. (¬2) في "السنن" رقم (4009). (¬3) في "السنن" رقم (2802). (¬4) في "السنن" (5/ 113). وهو حديث ضعيف وقد تقدم.

القائم. وفي رواية (¬1) لهما عن أبي المليح الهذلي قال: دخل على عائشة نسوة من نساء أهل الشام فقالت: لعلكن من الكورة التي تدخل نساؤها الحمام، قلن: نعم، قالت: أما أني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ما من امرأة تخلع ثيابها في غير بيت زوجها [26] إلا هتكت ما بينها وبين الله من حجاب" ورجاله كلهم رجال الصحيح؛ لأنه عن شعبة، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي المليح، عنها. فلا يقدح في ذلك رواية جرير عن سالم عنها؛ لعدم إدراكه لها. وقال الترمذي (¬2): حسن. وفي رواية للنسائي (¬3) عن جابر: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام إلا من عذر" هكذا بلفظ "إلا من عذر" في الجامع (¬4)، ولم يذكره الترمذي، ولا وجد الحديث في النسائي، فلعل ذلك في بعض النسخ، فينظر. ولم يذكره الشريف أبو المحاسن في كتابه في الحمام، ولا عزاه إلى النسائي. وفي رواية للنسائي (¬5): "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر يدخل الحمام إلا بمئزر" هكذا في الجامع (¬6)، وهو من حديث طاووس عن جابر، وقال (¬7): حسن غريب لا نعرفه من حديث طاووس إلا من هذه الطريق، طريق ليث بن أبي سليم. ثم ذكر الاختلاف فيه، لكن رواه أحمد (¬8) من طريق ثانية عن أبي لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر، ولم ¬

(¬1) أخرجه أبو داود رقم (4010) والترمذي رقم (2803) وهو حديث حسن. (¬2) في "السنن" (5/ 114). (¬3) لم أجده عن النسائي. (¬4) في "جامع الأصول" لابن الأثير (7/ 340). (¬5) في "السنن" (1/ 198) وهو حديث حسن. (¬6) في "جامع الأصول" لابن الأثير (7/ 340). (¬7) أي الترمذي في "السنن" (5/ 113 رقم 2801). (¬8) في "المسند" (3/ 339).

يخرجه النسائي منهما. والكلام في ابن لهيعة مشهور. ورواه الشريف أبو المحاسن (¬1) في كتابه في الحمام من طريق ثالثة منكرة عن سعيد بن عروبة، عن أبي الزبير عن جابر، فمداره على هذه الطرق الثلاث، وليس في واحد منها الاستثناء لعذر. وفي الباب عن أبي هريرة رواه أحمد (¬2)، وذكره في المنتقى (¬3)، وليس فيه ذكر الاستثناء (¬4). فالظاهر أن دخول النساء الحمام من المحرمات، ولو لم نظن أن هذه العهدة ¬

(¬1) وهو محمد بن علي بن الحسن الحسيني الدمشقي، من حفاظ الحديث ومن العلماء بالتاريخ 715 - 765 وكتابه المشار إليه اسمه "الإلمام بآداب دخول الحمام". (¬2) في "المسند" (2/ 321) وأورده الهيثمي في "المجمع" (1/ 277) وقال رواه أحمد وفيه أبو خبرة: بل هو محب بن حذلم ثابت بن زيد، يكنى أبا خبره. انظر: "الجرح والتعديل" (8/ 444) و"الميزان" (4/ 521) وهو حديث صحيح. أما "الاستثناء" فقد أخرج أبو داود رقم (4011) وابن ماجه رقم (3748) عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إنها ستفتح لكم أرض العجم، وستجدون فيها بيوتًا يقال لها: الحمامات فلا يدخلنها الرجال إلا بالأزر، وامنعوها النساء إلا مريضة أو نفساء". وهو حديث ضعيف. وانظر مزيد تفصيل في "نيل الأوطار" الحديث رقم (352، 353). (¬3) (1/ 318 - 319). (¬4) انظر التعليقة رقم (2) في هذه الصفحة. ومنها أحاديث صحيحة: حديث أبي أيوب الأنصار رضي الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر من نسائكم فلا تدخل الحمام". أخرجه ابن حبان في صحيحه رقم (5597) والحاكم (4/ 289) وقال الحاكم: إسناده صحيح ووافقه الذهبي. وأخرجه الطبراني في "الكبير" رقم (3873) وفي "الأوسط" رقم (8658) وهو حديث صحيح. انظر تخريجه مفصلًا في "نيل الأوطار" (1/ 319). (ومنها): عن أم الدرداء قالت: خرجت من الحمام، فلقيني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "من أين يا أم الدرداء؟ قالت: من الحمام. قال: والذي نفسي بيده ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت أحد من أمهاتها إلا وهي هاتكة كل ستر بينها وبين الرحمن". أخرجه أحمد (6/ 361، 362) والطبراني في "الكبير" (24/ 252، 253، 255 رقم 645، 646، 652) من طرق عن أم الدرداء. وهو حديث حسن. قال الشوكاني في "نيل الأوطار" وحديث الباب يدل على جواز الدخول للذكور بشرط لبس المآزر وتحريم الدخول بدون مئزر وعلى تحريمه على النساء مطلقًا، واستثناء الدخول من عذر لهن لم يثبت من طريق تصح للاحتجاج بها، فالظاهر المنع مطلقًا.

لا بد من قائم بها من النوع الإنساني من مسلم أو كافر، لما في ترك ذلك من الضرر للمسلمين، لما احتجنا إلى الدندنة حول تلك الأدلة في إجبار اليهود، جعلنا مكانها أدلة تحريم تقرير المسلمين. وقد اشتملت هذه الرسالة على ما فيه كفاية. وكيف يظن بمن يرى تحريم دخول النساء الحمامات، ولم يدخله في عمره إلا مرة واحدة، أنه يشتغل بتأليف الرسائل بما هو وسيلة إليه، فالله المستعان. وأما ما لمحتم إليه من تحريم خضب غير الشيب، وقولكم: قد قرأتم في الأزهار (¬1) فنقول: نعم قرأناه وقرأنا الأدلة الموافقة له والمخالفة، فوجدنا ما يخالفه أنهض مما يوافقه في هذه المسألة، فملنا مع الناهض، لكنه إذا كان وسيلة إلى معصية فهو محرم لا لذاته، بل لكونه وسيلة. قال: ومما ينبغي التنبه له هنا، وهو مقابل لهذه الحرفة الدنية التي دندنتم حولها تلقي الإفرنج إلخ. أقول: صدقتم، وكم لهذه الهنات من أخوات، ولكن الأمر كما قلته (¬2) من أبيات: ¬

(¬1) (3/ 284 - مع السيل الجرار). (¬2) الشوكاني. انظر الديوان (ص 102).

لعمرك ما في الركب [حر ولا أرى] (¬1) ... [بهذا الوادي من طالب (¬2) للعلية [27]] فيا طالما قد صحت: هل من مساعد ... ويا طالما قد درت بين البرية فلم أر إلا شارقًا ببلاهة ... يطيش بها أو مصمتًا بتقية وبعد فهذا فلنسمك عنان القلم عن التفلت في هذه الشعاب والهضاب، ونكتفي بهذه الوثبة في ميادين خيول أدلة السنة والكتاب، ملقين عن ظهورنا أعباء التكلفات والتوغلات، طارحين عن كواهلنا أحمال أثقال التعسفات والتعصبات، غير متوغلين في مضمار الجدال والنضال، ولا مقتحمين لمحبة القلب أشباح معارك مهالك أبطال المقال. اللهم فاجعل هذه المناظرة مناصرة لا مقامرة، وهذه المذاكرة مباصرة لا مكابرة، وهذه المطاولة مقاولة لا مصاولة، وهذه المجادلة مناولة لا مهاولة، وأعنا على تنقية كدورات الأهوية والعصبية، بمياه الإنصاف، واغننا عن الاحتياج إلى ورود مواردها الوبية بما صفا من معين علوم الأسلاف. وصل وسلم على من قال: "اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، وآله وصحبه يا كريم". وكان فراغ مؤلفه القاضي ¬

(¬1) كذا في المخطوط وفي الديوان [ذو لوعة ولا]. (¬2) والذي في الديوان (ص 102): لعمرك ما في الركب ذو لوعة ولا ... بذا الحي من تزجى إلية مطيتي فائدة من أقوالهم: قال النووي في "المجموع" (21/ 329): الصغار: هو أن تجري عليهم أحكام المسلمين، ولا فرق بين الخيابر وغيرهم في الجزية. وقال الشافعي في "الأم" (9/ 65) سمعت عددًا من أهل العلم يقولون: الصغار أن يجري عليهم حكم الإسلام. وما أشبه ما قالوا لامتناعهم من الإسلام فإذا جرى عليهم حكمه فقد أصغروا بما يجري عليهم منه. وقال الشافعي في "الأم": الصغار أن تؤخذ منهم الجزية وهم قيام والآخذ جالس. انظر: "المهذب" (5/ 325 - 330) و"البناية في شرح الهداية" (6/ 683 وما بعدها)، "روضة الطالبين" (10/ 315 - 316).

القطب الرباني محمد بن علي الشوكاني - حفظه الله، ومتع المسلمين بحياته - وكان فراغه - حفظه الله - في يوم الخميس سادس عشر محرم الحرام، سنة 1206 كمل من تحريره كما حرره جزاه الله خير الدارين بحق محمد وآله الأطهار. ... * تنبيه: * حصلت على رسالة بعنوان "تحقيق المقال وقطع الجدال على حل الإشكال وإرسال المقال" إنشاء الفقير إلى الله: عبد الله بن بشير المالكي مذهبًا. وتتألف من (15) صفحة في كل صفحة (22) سطرًا إلا أن الصورة المرسلة إلي من الدكتور "هيكل" غير واضحة ولا يمكن كتابتها ليتم تحقيقها. ومعها رسالة بعنوان "الإعلال لتحقيق المقال" لشيخ الإسلام القاضي محمد بن علي الشوكاني. نفع الله بعلومه. تتألف من (12) صفحة في كل صفحة (24) سطرًا ما عدا الصفحة الأخيرة فيها (10) أسطر. إلا أن الصورة المرسلة إلي من الدكتور "هيكل" غير واضحة أيضًا ولا يمكن كتابتها ليتم تحقيقها. والله ولي الهداية والتوفيق.

تنبيه الأمثال على عدم جوز الاستعانة من خالص المال

تنبيه الأمثال على عدم جوز الاستعانة من خالص المال تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: تنبيه الأمثال على عدم جواز الاستعانة من خالص المال. 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم" إياك نعبد وإياك نستعين. أحمدك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآله وصحبه. وبعد .. فإنه استدل القائلون بجواز الاستعانة من خالص أموال الرعية بأدلة منها. 4 - آخر الرسالة: وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والله ولي التوفيق كتبه مؤلفه محمد الشوكاني غفر الله له. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 12 صفحة ما عدا العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 25 سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 11 كلمة. 9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني. 10 - الرسالة من المجلد الرابع من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

بسم الله الرحمن الرحيم إياك نعبد وإياك نستعين. أحمدك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآله وصحبه. وبعد .. فإنه قد استدل القائلون بجواز الاستعانة من خالص أموال الرعية بأدلة منها: قوله سبحانه: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬1) وقد أجيب عن هذا الاستدلال بهذه الآية بالمنع من دلالتها على الوجوب؛ لقوله في أولها: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم} فإن ذلك لا يستفاد منه إلا مجرد الندب، وكذلك أن قوله في آخر الآية: {ذلك خير لكم} يدل أبلغ دلالة على عدم الوجوب، وأجيب عن الأول بأنه - سبحانه - قرن ذلك بالإيمان وبالجهاد بالنفس، وهما واجبان إجماعًا، فيجب الجهاد بالمال كوجوبهما، ورد هذا الجواب بأن دلالة الاقتران (¬2) ليست بحجة كما تقرر في الأصول؛ لكثرة اقتران الواجب ¬

(¬1) [الصف: 10 - 11]. (¬2) أنكرها الجمهور فقالوا: القران في النظم لا يوجب القران في الحكم. وصورته: أن يدخل حرف الواو بين جملتين تامتين، كل منهما مبتدأ وخبر، أو فعل وفاعل، بلفظ يقتضي الوجوب في الجميع أو العموم في الجميع، ولا مشاركة بينهما في العلة، ولم يدل دليل على التسوية بينهما. واحتج المثبتون لها بأن العطف يقتضي المشاركة، وأجاب الجمهور بأن الشركة إنما تكون في المتعاطفات الناقصة المحتاجة إلى ما تتم به، فإذا تمت بنفسها فلا مشاركة كما في قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح: 29]، فإن الجملة الثابتة معطوفة على الأول ولا تشاركها في الرسالة، ونحو ذلك في القرآن والسنة كثير، والأصل في كل كلام تام أن ينفرد بحكمه ولا يشاركه غيره فيه، فمن ادعى خلاف هذا في بعض المواضع فلدليل خارجي. انظر تفصيل ذلك في "إرشاد الفحول" (ص 810 - 812)، "البحر المحيط" (6/ 100 - 103)، "التبصرة" (ص 230).

بما ليس بواجب، كما في قوله تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} (¬1) فقرن ما بين الإيمان الذي هو أعظم الواجبات، وبين الحض على طعام المسكين الذي ليس بواجب، مع ما في أول هذه الآية من الوعيد الشديد، وعلى تسليم الدلالة على المطلوب في أنه الجهاد فليس في ذلك أنه يجب على المجاهد بنفسه أن يخرج قطعة من ماله ليتجهز بها غيره، بل غاية ما يجب عليه تجهيز نفسه بما يحتاج إليه. وأما تجهيز غيره بعد تجهيزه لنفسه فليس ذلك بواجب شرعًا، بل مندوب فقط. ثم لو سلمنا أنه يجب على من كثر ماله، وتمكن من زيادة على تجهيزه لنفسه وما يحتاج إليه من يعوله لكان أمر ذلك يدفعه إلى من يشاء من المجاهدين، وليس عليه أن يدفعه إلى السلطان. ولو كان ذلك من الواجبات الشرعية لأوجبه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - على أهل الأموال. ولم يثبت من وجه صحيح أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أوجب على أحد من الصحابة [1 أ] أن يجهز غازيًا، أو أكثر أو أقل، بل غاية ما وقع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - هو الترغيب (¬2)، وأن ذلك من أعظم ¬

(¬1) [الحاقة: 30 - 34]. (¬2) منها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2843) ومسلم رقم (1895) وأبو داود رقم (2509) والترمذي رقم (1628) والنسائي (6/ 46) عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيًا في أهله بخير فقد غزا". ومنها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2841) ومسلم رقم (1027) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من أنفق زوجين في سبيل الله دعاه خزنة الجنة - كل خزنة باب - أي قل هلم، قال أبو بكر: يا رسول الله، ذاك الذي لا توى عليه، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني لأرجو أن تكون منهم". ومنها: ما أخرجه النسائي (6/ 49) والترمذي رقم (1625) وابن حبان رقم (4628) والحاكم (2/ 87) من حديث خريم بن قاتك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من أنفق نفقة في سبيل الله كتبت بسبعمائة ضعف". وهو حديث صحيح.

موجبات الأجور، ومن أكبر أسباب المثوبة. ومع هذا فتلك الترغيبات ليس فيها أنهم يدفعون تلك الأموال إليه حتى يجهز بها الغزاة، بل غاية ما في ذلك [أنه] (¬1) رغبهم في أن يجهزوا [أنفسهم] (¬2) ثم بعد هذا كله لا يخفى عليك أن هذه الآية في خصوص الجهاد لمثل من كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يجاهده فإلحاق غير الجهاد به، أو إلحاق جهاد غير الكفار بالجهاد للكفار إن كان بطريق القياس فهو من قياس المخفف على المغلظ، وإن كان بغير القياس فما هو؟. واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} (¬3). ويجاب عن هذا الاستدلال بأن غاية ما في الآية الأمر بالمسارعة إلى ما يوجب المغفرة، والمسارعة إلى ما يوجب الجنة المعدة للمتقين. ثم لو سلم أن الأمر بالمسارعة إلى ذلك أمر بالأسباب الموجبة للمغفرة والجنة لكان آخر الآية وهو قوله: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} (¬4) واجبًا، واللازم باطل فالملزوم مثله. ولكانت الأقوال والأفعال الصالحة التي ليست بواجبة واجبة؛ لأنها من الأسباب الموجبة لذلك بلا شك ولا شبهة كصدقة النافلة، وصلاة النافلة، والأذكار المرغب فيها ونحو ذلك، واللازم باطل فالملزوم مثله. ثم على تسليم الدلالة تنزلًا فغاية ما في ذلك مشروعية الإنفاق في السراء والضراء من صاحب المال، فما الدليل الدال على أنه يجب عليه أن يدفع ذلك إلى السلطان؟ بل ينفق ماله في أي وجه من وجوه الخير كائنًا ما كان، ومن فعل ذلك فقد سارع وفعل ما ¬

(¬1) في المخطوط أنهم، والصواب ما أثبتناه. (¬2) في المخطوط بأنفسهم، والصواب ما أثبتناه. (¬3) [آل عمران: 133 - 134]. (¬4) [آل عمران: 134].

ندبه الله إليه، فالرجل الذي أنفق بعضًا من ماله في الفقراء، أو في صلة الأرحام، أو في سائر القرب المقربة إلى الله - سبحانه - قد امتثل ما ندبه الله إليه في هذه الآية، وإن لم ينفقه في الجهاد، ومن قال إنه لا يكون ممتثلًا إلا بالإنفاق في الجهاد فقد أوجب عليه ما لم تدل عليه هذه الآية [1 ب]. واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬1). وبقوله - سبحانه -: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} ... الآية} (¬2). والجواب عن الآية الأولى كالجواب عن الآية المذكورة قبلها. والجواب عن الآية الثانية أنه ليس فيها إلا الترغيب لأهل الأموال أن ينفقوها في سبيل الله بأنفسهم على حسب اختيارهم، وليس فيها ما يدل على إيجاب ذلك عليهم، وهذا لا شك فيه. واستدلوا أيضًا بقوله: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} (¬3) وهذه الآية ليس فيها ما يدل على الوجوب، وأيضًا لو سلم أن فيها دلالة فغاية ذلك الإنفاق في سبل الخير كائنة ما كانت، فمن أنفق في شيء منها فقد فاز بما ندبه إليه الشارع، ونال البر بذلك ومن قال: إنه لا ينال البر إلا بالإنفاق في خصلة خاصة وقربة معينة فقد ألزم العباد بما لا تدل عليه الآية. وهكذا الجواب عما استدلوا به من مثل قوله سبحانه: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (¬4) ¬

(¬1) [البقرة: 254]. (¬2) [البقرة: 261]. (¬3) [آل عمران: 92]. (¬4) [آل عمران: 180].

فإن إنفاق بعض من المال في قربة من القرب ينفي عن المنفق وصف البخيل، ويخرجه عن صفة الباخلين، وإلا لزم أنه لا يخرج عن وصف البخل إلا بالإنفاق في الجهاد، وإن أنفق ماله في وجوه الخير. وهذا لا تدل عليه الآية بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام. وهكذا الجواب عما استدلوا به من قوله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (¬1) فإن من أخرج بعضًا من ماله في وجه من وجوه الخير، ونوع من أنواع الإنفاق فيما شرعه الله ليس بباخل قطعًا. واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا} (¬2)، وبقوله: {وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله} (¬3)، وبقوله: {من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا} (¬4)، وبقوله: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} (¬5) وليس في هذه الآيات دلالة على المطلوب أصلًا، وغايتها الترغيب في الإنفاق في وجوه الخير، ومن فعل شيئًا من ذلك فقد فعل ما ندب إليه، فما الدليل على أنه لا يكون ممتثلًا إلا بالإنفاق في وجه خاص من وجوه الخير؟. وبالجملة فالآيات القرآنية التي فيها الترغيب في الإنفاق كثيرة جدًّا. ولا شك أن معناها الترغيب لعباد الله في إنفاق شيء من أموالهم فيما أرادوه كائنًا ما كان، ومن فعل ذلك فقد امتثل واستحق الأجر المذكور في تلك الآيات، فمن أوجب عليه بعد ذلك أن ¬

(¬1) [النساء: 37]. (¬2) [النساء: 39]. (¬3) [الحديد: 10]. (¬4) [الحديد: 11]. (¬5) [الحشر: 9]، [التغابن: 16].

يدفع جزءًا من ماله إلى غيره لينفقه في شيء من وجوه الخير، فقد ادعى ما لا تدل عليه الآيات القرآنية التي استدل بها هذا على فرض أن هذه الآيات المشتملة على الإنفاق غير محمولة على ما هو واجب في المال بإيجاب الله - سبحانه - كالزكاة ونحوها. وأما إذا كانت محمولة على ذلك كما هو قول الجماهير فلا دلالة فيها على المطلوب من الأصل. واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (¬1) وليس في هذه الآية شيء من الدلالة على المطلوب، وهو إيجاب الإنفاق والجهاد، وتحتمه، ودفع ما ينفقه صاحب المال إلى السلطان، بل فيها المفاضلة بين الطائفتين، ولا شك في ذلك، وليس المراد بهذه النفقة خصوص النفقة في الجهاد، بل المراد الإنفاق العام في وجوه الخير، ومن جملة ذلك الإنفاق على فقراء الصحابة كأهل الصفة الذين حكى الله عن المنافقين أنهم يقولون في شأنهم: {لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا} (¬2) فهذا الوجه من جملة ما رغب الله فيه من النفقة. وقد أرشد الله سبحانه إلى الإنفاق سرًّا فقال: {وأنفقوا مما رزقناهم سرًّا وعلانية} (¬3) وورد أن صدقة السر أفضل من صدقة الجهر في أحاديث صحيحة فهي من أفضل أنواع الإنفاق [2 ب] التي وردت الآيات القرآنية بالإرشاد إليها، والحث عليها. ومن جملة أنواع الإنفاق الفاضلة الإنفاق على النفس والأهل والأقارب، فإنه قد ثبت أن ذلك من أفضل أنواع الإنفاق، وأنه مقدم على سائر الأنواع كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة. واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: ¬

(¬1) [الحديد: 10]. (¬2) [المنافقون: 7]. (¬3) [الرعد: 22].

{هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (¬1) وليس في هذه الآية ما يفيد وجوب الإنفاق من خالص المال في نوع خاص، بل من أنفق في سبيل الله فقد امتثل، والمراد بسبيل الله كل ما فيه بر وثواب كائنًا ما كان. وعلى تسليم الدلالة فذلك أمر مفوض إلى رب المال يضعه حيث يشاء، وكيف يشاء، وفي من يشاء، فما الدليل على أنه يدفعه إلى السلطان؟ ولو كان ذلك جائزًا لكان أولى الناس به رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الذي هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم. ولم يثبت أنه أكره أحدًا من أرباب الأموال في عصره على دفع شيء من ماله، ولا قبض ذلك منه، وليس في القرآن إلا الأمر للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بأن يأخذ الصدقة الواجبة كما في قوله: {خذ من أموالهم صدقة} (¬2) ولو كان مطلق الإنفاق الخارج عن الصدقة الواجبة واجبًا لكان الحمل على هذا الواجب والإكراه عليه واجبًا كسائر الواجبات الشرعية، فلما لم يحصل ذلك منه كما حصل في الزكاة المفروضة حيث قال: "فإنا آخذها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا" (¬3) دل ذلك على أنه لا وجوب لما عدا ذلك إلا بدليل يخصه كالإنفاق على الزوجات بلا خلاف في ذلك، وعلى بعض القرابة كالأبوين والأولاد الصغار على خلاف في ذلك، ولكنه قد أذن (¬4) - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لهند بنت ¬

(¬1) [محمد: 38]. (¬2) [التوبة: 103]. (¬3) أخرجه أحمد (5/ 2 - 4) وأبو داود رقم (1575) والنسائي (5/ 15 - 16 رقم 2444) والحاكم في "المستدرك" (1/ 398) وصححه ووافقه الذهبي والبيهقي (4/ 105) والدارمي (1/ 396) وابن أبي شيبة (3/ 122) والطبراني في "الكبير" (19/ 411 رقم 984 - 988) عبد الرزاق رقم (6824) وابن خزيمة (4/ 18 رقم 2246). من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده. وهو حديث حسن. (¬4) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (5364) ومسلم رقم (1714) عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت هند بنت عتبة - امرأة أبي سفيان - على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني، إلا ما أخذت من ماله بغير علمه فهل علي في ذلك من جناح؟ فقال: "خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك وما يكفي بنيك". وقد تقدمت مناقشة الحديث والتعليق عليه.

عتبة زوجة أبي سفيان أن تأخذ من ماله ما يكفيها ويكفي أولادها، فكان ذلك دليلًا على وجوب ذلك. وأما الإنفاق [3 أ] في الجهاد فقد جعل الله في بيت مال المسلمين الذي هو في الحقيقة مجموع من الأموال التي هي للمسلمين كالفيء والخراج والجزية والمعاملة، وسائر ما يؤخذ من أموال المسلمين من خمس أو عشر أو نصف عشر للجهاد نصيبًا، فإن لم يكن لهم بيت مال فقد أوجب الله عليهم مجاهدة الكفار بالأنفس والأموال، يجاهد كل منهم بنفسه وماله على حسب ما تبلغ إليه طاقته، ويقدم نفسه أولًا، فإذا أراد الاستزادة من الخير جهز من المجاهدين من أراد تجهيزه هذا معنى الجهاد المذكور في الآية، وهو الذي كان عليه عمل الصحابة في عصر النبوة، ولما فتح الله بالخير في أواخر أيام النبوة قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فيما صح عنه: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن ترك مالًا فلورثته، ومن ترك دينًا فإلي وعلي" (¬1) ثم هكذا كان الأمر في عصر الصحابة بعد موته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ثم عصر التابعين وتابعيهم لم يسمع في هذه العصور التي هي خير القرون أنهم أكرهوا أحدًا على إخراج ماله إلى يد السلطان أو نائبه، بل كان المجاهدون في تلك العصور طائفتين؛ طائفة مرتزقة أي مرتزقة من بيت مال المسلمين وهم جند السلطان، وطائفة متطوعة يخرجون للجهاد ويتجهزون له من أموالهم من غير أن يأمرهم السلطان بالخروج أو يكرههم عليه، وهكذا كان الأمر في العصور ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2298، 2398، 2399، 4781، 5371، 6731، 6745، 6763) ومسلم في صحيحه رقم (14، 15، 16، 17/ 1619)، والترمذي رقم (1070) والنسائي (4/ 66) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

التي بعد عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم. واستدلوا أيضًا بقوله - سبحانه -: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} (¬1) وهذا فيه الأمر للمسلمين بإعداد العدة للجهاد في سبيل الله، فكل واحد منهم يعد ما يحتاج إليه فيه من سلاح ومركوب ونحو ذلك حسب طاقته [3 ب]، وما تبلغ إلى قدرته، ومن زاد الله في حسناته، وليس النزاع في هذا، إنما النزاع في أخذ شيء من أموال الرعايا زيادة على ما فرضه الله عليهم في أموالهم، يأخذه السلطان طوعًا أو كرهًا، رضوا أم أبوا، وقد يأخذون ذلك في جهادات لا تأتي للرعية بنفع، بل فيها عليهم أعظم الضرر كما يقع بين سلاطين الإسلام من الحروب على بعض البلاد، هذا يريد أن تكون الولاية فيها له، والآخر يريد أن تكون الولاية فيها له فإن هذا ليس هو من الجهاد الذي شرعه الله وندب عباده إليه، بل هو شبيه بالحروب الجاهلية. وكثيرًا ما يقتل أجناد هؤلاء ضعفاء الرعايا، ويأخذون أموالهم، ويهتكون حريمهم، ويتفق بينهم معارك جاهلية، وقتلات طاغوتية، فليس هذا إلا من الظلم البحت، والجور الخالص، فكيف إذا ضم إلى ذلك ظلم الرعايا بأخذ أموالهم المحرمة بحرمة الإسلام، المعصومة بعصمة الدين، ثم بعد أخذ أموال الرعايا يكرهونهم على القتال، ويجمعون لهم بين غرم المال والبدن، ويعرضونهم للجنود الظالمة يأخذون ما بقي في أيديهم، ويسخرون أبدانهم فيما يريدون، كأنهم ليسوا من بني آدم، ولا ممن حرم الله دمه وماله وعرضه. واستدلوا بقوله: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (¬2) وليس فيه إلا مجرد الإنفاق في سبيل الله، والامتثال ¬

(¬1) [الأنفال: 60]. (¬2) [البقرة: 195].

يحصل بالإنفاق في وجه من وجوه الخير كائنًا ما كان؛ لأنه من سبيل الله. هذا على فرض أن الأمر هاهنا للوجوب، وليس كذلك، فإن قوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (¬1) يدل على أن ذلك مندوب، وإلا لكان كل إحسان واجبا، واللازم باطل فالملزوم مثله. ولا ريب أن المندوبات بأسرها هي من الإحسان، ومع هذا فإن الآية وردت لسبب خاص، أخرج أبو داود (¬2) عن أبي أيوب الأنصاري قال: "إنما نزلت هذه فينا معشر الأنصار لما نصر الله نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ [4 أ]- قلنا: هل نقيم في أموالنا ونصلحها؟ فأنزل الله: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ... الحديث". فهي للحث (¬3) لهم على الجهاد لما عزموا على الإقامة في أموالهم وإصلاحها. ومع هذا فهذه الآيات التي ذكروها المشتملة على الأمر بالإنفاق والترغيب فيه لو سلمنا دلالتها على المطلوب لكان ذلك الإنفاق هو ما بينه الله - سبحانه - في قوله: {ويسألونك ماذا ينفقون قال العفو} (¬4) والعفو هو الشيء الفاضل الذي لم يكن لصاحبه به حاجة، ولكن هذا ما ثبت في ............................ ¬

(¬1) [البقرة: 195]. (¬2) في "السنن" رقم (2976). وهو حديث صحيح. قلت: وأخرجه الترمذي رقم (2972) والنسائي في "السنن الكبرى" رقم (11029). (¬3) قال ابن كثير في تفسيره (1/ 530): ومضمون الآية: الأمر بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه القربات ووجوه الطاعات وخاصة صرف الأموال في قتال الأعداء وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوهم، والإخبار عن ترك ذلك بأنه هلاك ودمار وإن لزمه واعتاده، ثم عطف بالأمر بالإحسان وهو أعلى مقامات الطاعة فقال: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. وأخرج البخاري في صحيحه رقم (4516) عن حذيفة: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قال: نزلت في النفقة. (¬4) [البقرة: 219].

الصحيح (¬1) عن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "يا ابن آدم، إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك" فمعنى الآية المذكورة هو معنى هذا الحديث، وليس فيه ما يدل على الوجوب، بل فيه ما يدل على الندب لقوله: "خير لك". ومن الترغيب في الإنفاق العام الصادق على كل نوع من أنواعه ما ثبت في الصحيح (¬2) عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "اللهم اجعل لمنفق خلفًا، ولممسك تلفًا" وقوله: "أنفق ينفق عليك، ولا توكي فيوكأ الله عليك" (¬3). ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (¬4) فهذا ترغيب في الإنفاق العام الذي يحصل الامتثال بنوع من أنواعه، ومن قام بنوع منه فقد فعل ما طلب منه، ولا يخاطب بنوع خاص، ولا يكره على ذلك. وعلى فرض أن يلزمه أن يصرفه في تجهيز المجاهدين لكونه من أعلى أنواع الإنفاق وأفضلها فذلك أمر مفوض إليه، والخطاب متوجه إليه، وهو المالك لماله، فيكون أمر التجهيز إليه لا إلى غيره. وإذا أخل بهذا فحكمه حكم من لم يمتثل ما أمر به أو ما ندب إليه من غير إيجاب، ومما يدل على عدم وجوب الإنفاق المذكور في هذه الآيات التي استدلوا بها ما ورد في الكتاب العزيز في آيات كثيرة، وفي السنة المطهرة في أحاديث كثيرة صحيحة من ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1036). (¬2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (1442) ومسلم رقم (1010) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا". (¬3) أخرج البخاري في صحيحه رقم (1433) ومسلم رقم (1029) وأبو داود رقم (1699) عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا توكي فيوكأ عليك". وأخرج البخاري في صحيحه رقم (2591) ومسلم في صحيحه رقم (2331) عن أسماء قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "انفحي (أو انضحي أو أنفقي) ولا تحصي فيحصي الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك". (¬4) [سبأ: 39].

الترغيب في الصدقات تارة بلفظ الأمر، وتارة بما يدل على أعظم ترغيب بترتيب الأجور الكثيرة عليه، والأجزية الفاضلة على فعله، ولم يقل أحد من الناس أنه يجب على أحد أن يتصدق [4 ب] بشيء من ماله. ولا فرق بين الأمر بالإنفاق، والأمر بالصدقة، فإذا قال قائل لغيره: تصدق من مالك كان كقوله: أنفق من مالك، وإذا قال القائل لغيره: أنفق من مالك كان كقوله: تصدق من مالك، لا فرق بينهما. فدعوى وجوب الإنفاق بالآيات التي فيها الأمر به يستلزم القول بوجوب الصدقة في الآيات التي فيها الأمر بها، واللازم باطل فالملزوم مثله. فإن قال قائل: الأوامر بالصدقة قد اقترنت بما يصرفها عن الوجوب. قلنا: وكذلك الأوامر بالنفقة قد اقترنت بما يصرفها عن الوجوب، بل كل ما جعل صارفًا للأوامر بالصدقة فهو صارف للأوامر بالإنفاق لما ذكرناه هاهنا، ولا نخرج من ذلك إلا ما دل عليه دليل يفيد إيجابه على طريقة الخصوص كما قدمنا الإشارة إلى ذلك. وبهذا يتضح لك أن الاستدلال بآيات الإنفاق على وجوب إخراج جزء من المال في الجهاد فوق ما يتجهز به المجاهد مصادرة على المطلوب؛ لأنه استدلال بمحل النزاع، وبموضع الخلاف. ثم هذا النوع الخاص لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه ألزم أحدًا من الصحابة به على طريقة الحتم والجزم، ولا ورد ذلك في حديث صحيح ولا حسن، بل كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يرغب في ذلك بمثل قوله: "من جهز غازيًا كان له مثل أجره" (¬1)، "ومن جهز غازيًا فقد غزا" (¬2) فما أحق الإمام الفاضل، والسلطان العادل أن يسلك هذا المسلك النبوي إذا احتاج إلى تجهيز الغزاة! ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1896) وأبو داود رقم (2510) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وهو حديث صحيح. (¬2) أخرجه الترمذي رقم (1629) وابن ماجه رقم (2759) وابن حبان في صحيحه رقم (4611) من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه. وهو حديث صحيح.

فيقوم بين ظهراني المسلمين مرغبًا لهم في تجهيز الغزاة، نادبا لهم إلى هذه الخصلة الشريفة، والحسنة الرفيعة، والقربة العظيمة، فإن فعلوا فقد ظفروا بالخير، وظفر هو بأجر الدلالة عليه وإن أبوا فلا إكراه لهم ولا إجبار عليهم في أموالهم المعصومة بعصمة الإسلام المحترمة بحرمة الدين. ثم اعلم أن هذه الآيات التي استدلوا بها معارضة بما هو أوضح دلالة منها، وهي الآيات المصرحة بتحريم أموال العباد كقوله: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (¬1) [5 أ] ونحوها، وبالأحاديث الناطقة بالمنع من أخذها كما ثبت في الصحيح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) (¬2) وكان هذا القول منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في حجة الودع التي تعقبها موته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فهو ناسخ لكل ما يظن أن فيه ترخيصًا في أموال العباد، أو توسيعًا لدائرة التهافت على الأموال [المحترمة] (¬3)؛ لأن الأدلة المتأخرة ناسخة لما تقدمها، فكيف إذا كانت مشتملة على النهي والتحريم! فإنه لو فرض جهل التاريخ لكان النهي أرجح من الأمر، والدال على التحريم أقدم من الدال على الإباحة كما تقرر في الأصول (¬4). ¬

(¬1) [النساء: 29]. (¬2) تقدم مرارًا. وهو حديث صحيح. (¬3) كذا في المخطوط ولعلها: المحرمة. (¬4) انظر "إرشاد الفحول" (ص 903)، "البحر المحيط" (6/ 169). والراجح في المسألة ما قاله الشوكاني في "السيل الجرار" (3/ 715 - 716) قوله: "والاستعانة من خالص المال": أقول - الشوكاني - وجه هذا أن مع خشية استئصال الكفار لقطر من أقطار المسلمين مع عدم وجود بيت مال المسلمين، وعدم التمكن من الاقتراض واستعجال الحقوق قد صار الدفع عن هذا القطر الذي خشي استئصاله واجب على كل مسلم، ومتحتم على كل من له قدرة على الجهاد أن يجاهدهم بماله ونفسه، ومن الاستعداد له - للجهاد -، كالباعة في الأسواق والحراثين تجب عليهم الإعانة للمجاهدين بما فضل من أموالهم، فإن هذا من أهم ما أوجبه الله على عباده، والأدلة الكلية والجزئية من الكتاب والسنة تدل عليه، وعلى الإمام أن لا يدع في بيت المال صفراء ولا بيضاء، وبعين بفاضل ماله الخاص به كغيره، ولكن الواجب أن يأخذ ذلك على جهة الاقتراض، ويقضيه من بيت مال بيت المسلمين عند حصول ما يمكن القضاء منه؛ لأن دفع ما ينوب المسلمين من النوائب يتعين إخراجه من بيت مالهم وهو مقدم على أخذ فاضل أموال الناس؛ لأن أموالهم خاصة بهم، وبيت المال مشترك بينهم، فإن كان لا يمكن القضاء من بيت المال في المستقبل فقد حق الوجوب على المسلمين. وإذا تقرر لك هذا فاعلم أن الاستعانة المقيدة بهذه القيود المشروطة باستئصال قطر من أقطار المسلمين هي غير ما يفعله الملوك في زمانك من أخذ أموال الرعايا زاعمين أن ذلك معونة جهاد مؤلف قد منعوه ما هو مؤلف به من بيت مال المسلمين، أو جهاد من أبى من الرعايا أن يسلم ما يطلبونه منه من الظلم البحت الذي لم يوجبه الشرع، أو جهاد من يعارضهم في الإمامة وينازعهم في الزعامة، فاعرف هذا، فإن هذه المسألة قد صارت ذريعة لعلماء السوء يفتون بها من قربهم من الملوك، وأعطاه نصيبهم من الحطام، ومع هذا ينسون أو يتناسون هذه القيود التي قيدها المصنف بها وفاء بأغراض من يرجون منه الأغراض، والأمر لله العلي الكبير.

هذا على فرض أنهم قد تمسكوا بما يدل على ذلك، وقد عرفت مما قدمنا أنهم لم يأتوا بشيء مما يصلح للتمسك به، وقد ثبت بالقطع الذي لا يخالف فيه مسلم أن أصل أموال العباد التحريم، وأن المالك للشيء مسلط عليه، محكم فيه، ليس لغيره فيه إقدام، ولا إحجام، ولا تصرف إلا بدليل يدل على ذلك كالحقوق الواجبة في الأموال، وقد أشرنا إليها فيما سبق فمن ادعى أنه يحل له أخذ مال أحد من عباد الله ليضعه في طريق من طرق الخير، وفي سبيل من سبل الرشد لم يقبل منه ذلك إلا بدليل يدل على ذلك بخصوصه، ولا يفيده أنه يريد وضعه في موضع حسن، وصرفه في مصرف صالح، فإن ذلك ليس إليه بعد أن صار المال ملكًا لمالكه، وهذا لا يخفى على أحد ممن له أدنى علم بهذه الشريعة المطهرة، وبما ورد في الكتاب والسنة، وسأضرب لك هاهنا مثلًا يزيدك فائدة، ويوضح لك ما ذكرناه، وهو أن رجلًا لو كان له مال كثير، وقد أخرج زكاته الواجبة عليه، وفعل ما يجب عليه فيه فقال من له سلطان: لا عذر لهذا الرجل الغني الكثير المال من إخراج بعض من ماله [5 ب] يصرف في فقراء المسلمين، وفي محاويج

العباد، مستدلًّا على ذلك بما تقدم من الآيات التي ذكر فيها الأمر بالإنفاق، والترغيب فيه، قائلًا هذا الإنفاق من جملة ما يدخل تحت هذه الأيات، وتصدق عليه. فهل يقول هؤلاء المستدلون بها على تلك الاستعانة التي استدلوا بها عليها أن هذا الاستدلال صحيح، وأن الذي فعله ذلك الذي له سلطان، وأمر به صواب، أم يقولون هو خطأ وظلم وتصرف في مال الغير بما لم يأذن الله به؟ فإن قالوا بالأول فقد خالفوا إجماع المسلمين أجمعين، وجوزوا ما لم يجوزه أحد من سلف هذه الأمة وخلفها. وإن قالوا بالثاني، قيل لهم فما الفرق بين ما ذهبتم إليه وألزمتم به الرعايا طوعًا أو كرهًا، وبين ما فعله هذا الرجل الذي له سلطان؟ فإن ما فعله وأمر به مما يصدق عليه آيات الإنفاق التي استدللتم بها ولا تجدون إلى دفع هذا سبيلًا. فإن قلتم: بعض أنواع الإنفاق أولى من بعض، وأكثر ثوابًا، وأعظم نفعًا. قلنا لكم: هذه الأولوية والأكثرية والأعظمية ممنوعة، ثم لو سلمنا ذلك بعد تسليمكم أن تلك الآيات تدخل تحتها ما فعله ذلك الذي له سلطان وأمر به، وما فعلتموه أنتم وأمرتم به، فما الدليل الدال على تعين فرد من الأفراد المرادة بذلك الدليل العام؟ مع أنه صدق على من فعل فردًا أو أفرادًا غير ما أردتم وطلبتم أنه قد امتثل ما أمره الله به وندبه إليه، ثم نقول زيادة إيضاح: لم قدمنا لك أنه لا دلالة لما استدلوا به على مطلوبهم، وهو الوجوب، ثم لا دلالة له على أن الفرد الذي أرادوه هو المراد من الآيات دون غيره. فإن قالوا: هو أحد المرادات من الآيات. لم يتم الاستدلال، ثم بعد هذا كله لا دليل فيما استدلوا به على أنه يجب [6 أ] على رب المال أن يدفع ذلك الذي طلب منه إلى يد السلطان حتى يجهز به من أراد، بل ذلك هو إلى رب المال يجهز به من أراد، ويصرفه فيمن يختار من غير إكراه ولا إجبار. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والله ولي التوفيق. كتبه مؤلفه محمد الشوكاني - غفر الله له [6 ب]-.

بحث في التصوير

بحث في التصوير تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في التصوير. 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين. وبعد: فإنه وصل السؤال من سيدي العلامة المفضال جمال الكمال علي بن يحيى - أمتع الله بحياته وكثر فوائده .... . 4 - آخر الرسالة: فقد برئ بذلك من وجوب إنكار المنكر عليه، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هدايةٌ. والله ولي التوفيق. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 9 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 23 سطراً ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها سبعة. 8 - عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات. 9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني. 10 - الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين وبعد: فإنه وصل السؤال من سيدي العلامة المفضال، جمال الكمال علي بن يحيى (¬1) - أمتع الله بحياته، وكثر فوائده - ولفظه: خطر بالبال سؤال مولاي - كثر الله فوائده - عن التصوير، هل يصح النهي عنه أم لا؟ وبعد صحة النهي، هل يحمل على التحريم أو على الكراهة. وبعد الحمل على أحدهما، فهل النهي عن تصوير بعض الأشياء دون بعض أو لا؟ وهل ذلك مما يجب فيه الإنكار أم لا؟ انتهى. ¬

(¬1) علي بن يحيى بن علي بن راجح بن سعيد الكينعي، الصنعاني المولد والمنشأ والدار، ولد سنة 1151 وقرأ على السيد العلامة الحسن بن زيد الشامي وعلى شيخنا العلامة الحسن بن إسماعيل المغربي. وحضر على جماعة من علماء صنعاء. وحفظ المسائل المهمة المتعلقة بأمر الدين. انظر: "البدر الطالع" رقم (349)

أقول: قد اشتمل هذا السؤال على مسائل أربع. الأولى: هل صح النهي عن التصوير أم لا؟. وأقول: قد صح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في ذلك ما هو أشد من النهي، وأدل على التحريم منه؛ وهو الوعيد للمصورين بالنار. أخرج البخاري (¬1) ومسلم (¬2) وغيرهما (¬3) من أهل الأمهات وغيرهم عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقول: "كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفسًا تعذبه في جهنم، فإن كنت لا بد فاعلاً فاجعل الشجر وما لا نفس له". وأخرج البخاري (¬4) ومسلم (¬5) وغيرهما عن ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "الذين يصورون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم". وأخرج البخاري (¬6) ومسلم (¬7) وغيرهما أيضًا عن عائشة قالت: قدم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من سفر، وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل، فلما رآه هتكه، وتلون وجهه، وقال: يا عائشة [1 أ]، أشد الناس (¬8) عذابًا يوم القيامة الذين ¬

(¬1) في صحيحه رقم (2225، 5963) (¬2) في صحيحه رقم (2110) (¬3) كأحمد (1/ 216) والنسائي (8/ 215). وهو حديث صحيح. (¬4) في صحيحه رقم (4951) (¬5) في صحيحه رقم (2018). وهو حديث صحيح. (¬6) في صحيحه رقم (5954) (¬7) في صحيحه رقم (2107). وهو حديث صحيح. (¬8) قال القرطبي في "المفهم" (5/ 430 - 431) قوله: "أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون" مقتضى هذا: ألا يكون في النار أحد يزيد على المصورين. وهذا يعارضه مواضع أخر منها قوله تعالى: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [غافر: 46]. قال القرطبي ردًا على ذلك - التعارض - أن الناس الذين أضيف إليهم: أشد، لا يراد بهم كل نوع الناس بل بعضهم المشاركون في ذلك المعنى المتوعد عليه بالعذاب، ففرعون أشد الناس المدعين للإلهية عذابًا ومن يقتدي به في ضلالة كفره أشد ممن يقتدي به في ضلالة بدعة. ومن صور صور ذات الأرواح أشد عذابًا ممن يصور ما ليس بذي روح، إن تنزلنا على قول من رأى تحريم تصوير ما ليس بذي روح، وهو مجاهد، وإن لم نتنزل عليه فيجوز أن يعني بالمصورين الذين يصورون الأصنام للعبادة، كما كانت الجاهلية تفعل، وكما تفعل النصارى فإن عذابهم يكون أشد ممن يصورها لا للعبادة. وقال النووي: قال العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم وهو من الكبائر لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد، وسواء صنعه لما يمتهن أم لغيره فصنعه حرام بكل حال، وسواء كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها، فأما تصوير ما ليس فيه صورة حيوان فليس بحرام. قال البخاري في "الفتح" (10/ 384): ويؤيد التعميم فيما له ظل وفيما لا ظل له ما أخرجه أحمد من حديث علي: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثنا إلا كسره ولا صورة إلا لطخها أي طمسها". وقال الخطابي: إنما عظمت عقوبة المصور لأن الصور كانت تعبد من دون الله، ولأن النظر إليها يفتن، وبعض النفوس إليها تميل، قال: والمراد بالصور هنا التماثيل التي لها روح، وقيل يفرق بين العذاب والعقاب، فالعذاب يطلق على ما يؤلم من قول أو فعل كالعتب والإنكار، والعقاب يختص بالفعل فلا يلزم من كون المصور أشد الناس عذابًا أن يكون أشد الناس عقوبة.

يضاهون بخلق الله" قالت: فقطعناه، فجعلنا منه وسادة أو وسادتين. وأخرج البخاري (¬1)، والترمذي (¬2)، والنسائي (¬3) من حديث ابن عباس أيضًا قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "من صور صورة عذبه الله بها يوم ¬

(¬1) في صحيحه رقم (7042). (¬2) في "السنن" رقم (1751) وقال: حديث حسن صحيح. (¬3) في "السنن" رقم (8/ 215). قلت: وأخرجه أبو داود رقم (5024) ومسلم رقم (2110) وهو حديث صحيح.

القيامة حتى ينفخ فيها الروح وما هو بنافخ" (¬1). فهذه الأحاديث فيها التصريح بأن المصورين يعذبون في النار، وهي من أعظم الأدلة الدالة على تحريم ذلك، لأنه لا يوجب عذاب النار إلا ما هو محرم شرعًا، وهي أيضًا أدل على التحريم من مجرد النهي، فإن النهي قد يكون مصروفًا من معناه الحقيقي، وهو التحريم إلى معناه المجازي، وهو كراهة التنزيه لقرينة توجب ذلك، كما هو مقرر في الأصول بخلاف الوعيد بالنار، فإنه يدل على التحريم دلالة لا يصرفها صارف، ولا يخرج الأمر الذي وقع الوعيد عليه بالنار عن التحريم إلا بدليل يدل على نسخه، وارتفاع حكمه. ومن جملة الأدلة الدالة على قبح التصوير أحاديث منها: "إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه تماثيل" (¬2). ومنها: أحاديث فيها التصريح بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - غير ذلك. ¬

(¬1) قال البخاري في "الفتح" (10/ 394): قال الكرماني: ظاهره أنه من تكليف ما لا يطاق، وليس كذلك وإنما القصد طول تعذيبه وإظهار عجزه عما كان تعاطاه ومبالغة في توبيخه وبيان قبح فعله. وقوله: "ليس بنافخ" أي لا يمكنه ذلك فيكون معذبًا دائمًا. وقد تقدم في "باب رقم 89 عذاب المصورين" من حديث ابن عمر أنه يقال للمصورين أحيوا ما خلقتم وأنه أمر تعجيز، وقد استشكل هذا الوعيد في حق المسلم، فإن وعيد القاتل عمدًا ينقطع عند أهل السنة مع ورود تخليده يحمل التخليد على مدة مديدة. وهذا الوعيد أشد منه لأنه معينًا بما لا يمكن وهو نفخ الروح، فلا يصح أن يحمل على أن المراد أنه يعذب زمانًا طويلاً ثم يتخلص، والجواب أنه يتعين تأويل الحديث على أن المراد به الزجر الشديد بالوعيد بعقاب الكافر ليكون أبلغ في الارتداع وظاهره غير مراد، وهذا في حق العاصي بذلك، وأما من فعله مستحلاً فلا إشكال فيه ... " (¬2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (5958) ومسلم رقم (2106) والترمذي رقم (2805) والنسائي رقم (8/ 212، 213) وابن ماجه رقم (3649) من حديث أبي طلحة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب أو صورة". وفي رواية عن أبي طلحة الأنصاري قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة تماثيل". أخرجه البخاري رقم (3235) ومسلم رقم (2106)

ومنها أحاديث أخر تفيد تأكيد القبح. أخرج أحمد (¬1)، وأبو داود (¬2)، والترمذي (¬3) وصححه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "أتاني جبريل - عليه السلام - فقال: إني أتيتك الليلة فلم يمنعني أن أدخل البيت الذي أنت فيه إلا أنه كان في البيت تمثال رجل، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمر برأس التمثال الذي في باب البيت يقطع يصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر يقطع فيجعل منتبذتين [1 ب] يوطئان، وفي لفظ: (فيجعل وسادتان توطئان) ومر بالكلب يخرج"، ففعل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وإذا الكلب جرو كان للحسن والحسين - رضي الله عنهما -. وأخرج البخاري (¬4) وأحمد (¬5) وأبو داود (¬6) من حديث عائشة: "أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يترك في بيته شيئًا فيه تصاليب إلا نقضه". وأخرج البخاري ومسلم والترمذي، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجه من حديث أبي طلحة الأنصاري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة تماثيل" (¬7). وأخرج أبو داود (¬8) والنسائي (¬9) من حديث علي قال: قال النبي - صلى الله عليه وآله ¬

(¬1) في "المسند" رقم (2/ 305، 478) (¬2) في "السنن" رقم (4158) (¬3) في "السنن" رقم (2806). قلت: وأخرجه مسلم رقم (87/ 2106). وهو حديث صحيح (¬4) في صحيحه رقم (5952) (¬5) في "المسند" رقم (17/ 285 الفتح الرباني) (¬6) في "السنن" رقم (4151). وهو حديث صحيح (¬7) تقدم تخريجه آنفًا وهو حديث صحيح (¬8) في "السنن" رقم (227، 4152) (¬9) في "السنن" رقم (1/ 141) (7/ 185). قلت: وأخرجه ابن حبان رقم (1205) وأحمد (1/ 83، 104، 139، 150) وابن ماجه رقم (3650) والحاكم في "المستدرك" (1/ 171) وهو حديث ضعيف

وسلم - "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة، ولا جنب، ولا كلب"، وفي إسناده عبد الله بن نجي وفيه ضعف. وأخرج أبو داود (¬1) من حديث سفينة قال: دعا علي رضي الله عنه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى طعام صنعه، فجاء فوضع يده على عضادتي الباب، فرأى القرام قد ضرب في ناحية البيت، فرجع، فقيل له في ذلك فقال: "إنه ليس لنبي أن يدخل بيتًا مزوقًا". وأخرج البخاري (¬2) عن ابن عباس قال: لما رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الصور في البيت حتى أمر بها فمحيت، ورأى صورة إبراهيم وإسماعيل بأيديهما الأزلام فقال: "قاتلهم الله، والله [ما علموا: ما] (¬3) استقسما بالأزلام قط" (¬4). وأخرج أبو داود (¬5) عن ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أتى فاطمة، فوجد على بابها سترًا فلم يدخل، قال: وقل ما كان يدخل إلا - بدأ بها -، فجاء علي فرآها مهتمة فقال: ما لك؟ قالت: جاء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلي فلم يدخل، فأتاه علي فقال: يا رسول الله، إن فاطمة اشتد عليها أنك جئتها فلم تدخل عليها، قال: "وما أنا والدنيا والرقم"، فذهب إلى فاطمة فأخبرها بقول رسول الله [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ] فقالت: قل لرسول الله ما يأمرني به؟ قال: "قل لها فلترسل به إلى بني فلان". وفي رواية [2 أ] وكان سترًا موشى. وعلى هذا فلا ¬

(¬1) في "السنن" رقم (3755) وهو حديث حسن. (¬2) في صحيحه رقم (4288). (¬3) في المخطوط (إن) والمثبت من صحيح البخاري. (¬4) ولفظه في البخاري: "قاتلهم الله، والله ما علموا: ما استقسما بها قد" ثم دخل البيت، فكبر في نواحي البيت، وخرج ولم يصل فيه. (¬5) في "السنن" رقم (1494) وهو حديث صحيح

يكون هذا الحديث، ولا حديث سفينة السابق من الأحاديث التي هي واردة في الصور، بل من الأحاديث الواردة في الستور والزينة. وقد أوردهما بعض من أخرجهما في باب التصوير، وبعضهم في باب الستور. وأخرج أبو داود (¬1) عن جابر بن عبد الله أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه زمن الفتح، وهو بالبطحاء، أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، فلم يدخلها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - حتى محيت كل صورة فيها. وأخرج مسلم (¬2)، وأبو داود (¬3)، والنسائي (¬4) من حديث ميمونة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن جبريل كان وعدني أن يلقاني الليلة فلم يلقني، فلما لقيه جبريل قال: إنا لا ندخل بيتًا فيه كلب ولا صورة". والأحاديث في هذا الباب كثيرة، ولو لم يكن منها إلا الأحاديث الواردة في ذم المصورين ولعنهم، وذم من ذهب يخلق كخلق الله تعالى. والمراد هنا الاستدلال على ما طلبه السائل - كثر الله فوائده - والبعض مما ذكرناه هنا يكفي. المسألة الثانية: قوله: وبعد صحة النهي، هل يحمل على التحريم أو على الكراهة؟. وأقول: قد قررنا فيما سبق أن الأدلة الدالة على أن المصور يعذب في النار يستفاد منها التحريم استفادة لا كالاستفادة للتحريم من النهي لما قدمنا؛ فالتصوير للصور الحيوانية حرام، وبيانه أن المصور توعده الشارع بأنه يعذب في النار، وكل من توعده الشارع بأنه يعذب في النار فاعل لمحرم، فالمصور فاعل لمحرم، أما الصغرى فبالأحاديث الصحيحة المذكورة سابقًا. وأما الكبرى فلما تقرر في هذه [2 ب] الشريعة الإسلامية أنه لا يوجب النار ترك ¬

(¬1) في "السنن" رقم (4156) بإسناد حسن (¬2) في صحيحه رقم (2105) (¬3) في "السنن" رقم (4157) (¬4) في "السنن" رقم (4288). وهو حديث صحيح

مندوب، أو فعل مكروه كراهة تنزيه، أو فعل مباح أو تركه، فلم يبق إلا فعل المحرم أو ترك الواجب. وتصوير الصور من فعل المحرم، فكان التصوير محرمًا. المسألة الثالثة: قوله - كثر الله فوائده -: وبعد الحمل على أحدهما، فهل النهي عن تصوير بعض الأشياء دون بعض أو لا؟. وأقول: قد قدمنا ما يدل على أن ذلك مختص بتصوير الحيوانات فقط، فمن ذلك قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في حديث ابن عباس المتفق عليه (¬1) "فإن كنت لا ¬

(¬1) تقدم تخريجه. فائدة رقم (1): 1 - معنى التصوير لغة: الصور جمع صورة وتجمع على تصاوير وهي بكسر الصاد وضمها وقيل أنها مثلثة الصاد. وهي الشكل، والخط والرسم. "اللسان" (2/ 492)، "القاموس" (ص 373). والتصوير يطلق على التخطيط، والتشكيل يقال: صوره، إذا جعل له صورة، وشكلاً، أو نقشًا معينًا، وهذا الاستعمال والإطلاق عام في الصورة المجسمة وغيرها، فالكل يطلق عليه صورة من حيث الاستعمال اللغوي. "معجم الفقهاء" (ص 278). وجاء في "معجم الفقهاء" (ص 278): الصورة "شكل مخلوق من مخلوقات الله تعالى مجسمة كانت كالصنم، أو غير مجسمة". معنى التصوير في الاصطلاح: بما أن التصوير ليس نوعًا واحدًا، بل هو جنس يشمل أنواع ثلاثة، كل نوع يختلف عن غيره من حيث الوسيلة ومن حيث المادة التي تصنع منها الصورة، ومن حيث الكيفية، وبسبب هذا الاختلاف لا يمكن جمع هذه الأنواع في تعريف واحد من حيث الاصطلاح الفقهي وذلك لأن التصوير منه المجسم، والمسطح، والقديم، والحديث مع الاختلاف في وسائل كل نوع وآلاته. (أ): النوع الأول: التصوير المجسم: "أن الصورة الجسمية هي جوهر متصل بسيط لا وجود لمحله دونه قابل للأبعاد الثلاثة المدركة من الجسم في بادئ النظر والجوهر الممتد في الأبعاد كلها المدرك في بادئ النظر بالحس، وهذا ما يعرف بذوات الظل من المجسمات، التي تتميز عن غيرها بأن لها طولاً وعرضًا، وعمقًا، ويكون لها جسم بحيث تكون أعضاؤها نافرة وبارزة تشغل حيزًا من الفراغ، وتتميز باللمس بالإضافة إلى تميزها بالنظر فيكون عند النظر إلى هذا النوع من الصور كالمخلوق ... ". وهذا النوع من الصور قد تصنع من جبس أو نحاس أو حديد أو خشب أو حجر أو غير ذلك مما له جرم ومحسوس. انظر: "التعريفات" للجرجاني (ص 65)، "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب الأصفهاني (ص 196). (ب): النوع الثاني: التصوير اليدوي: وقد عرف بأنه "من تمثيل الأشخاص، والأشياء بالألوان". وجاء في "المعجم الوسيط" (ص 528): التصوير اليدوي غير المجسم: "أنه نقش صورة الأشياء، أو الأشخاص، على لوح، أو حائط، أو نحوهما بالقلم، أو بالفرجون أو بآلة التصوير". (جـ): النوع الثالث: التصوير الضوئي "الفوتوغرافي" وهو آلة تنقل صور الأشياء بانبعاث أشعة ضوئية من الأشياء التي تسقط على عدسة في جزئها الأمامي، ومن ثم إلى شريط أو زجاج حساس في جزئها الخلفي، فتطبع عليه الصورة بتأثير الضوء فيه تأثيرًا كيماويًا". "المعجم الوسيط" (ص 528). فائدة رقم (2): الألفاظ ذات الصلة بالتصوير: 1 - التمثال: هو اسم للشيء المصنوع، مشبهًا بخلق من خلق الله حيوانًا كان أو جمادًا. انظر: "فتح الباري" (10/ 401). 2 - الرسم: وهو تمثيل الأشياء، والأشخاص بالألوان يدويًا. "المعجم الوسيط" (ص 345). والمشهور في عرف الناس إطلاق لفظ "الرسم" على ما يوافق إطلاقه اللغوي وهو استعماله في تصوير الصور المسطحة باليد دون الصور المجسمة من ذوات الظل أو الآلية ومن ذلك: الرسوم المتحركة وهي التي كانت ترسم يدويًا. ثم تجمع وترتب لها الأصوات والحركات. 3 - النحت: ويطلق على تقطيع الخشب، والجبال. قال تعالى: {وتنحتون من الجبال بيوتًا فارهين} [الشعراء: 149]. ويطلق ويراد به النشر والقشر. والنحت في الاصطلاح: هو الأخذ من كتلة صلبة كالخشب والحجر بأداة حادة كالإزميل، أو السكين، حتى يكون ما يبقى منها على الشكل المطلوب، فإن كان ما بقي يمثل شيئًا آخر فهو تمثال أو صورة وإلا فلا". "المعجم الوسيط" (ص 906). 4 - النقش والرقم والتزويق والوشي: - النقش: هو تلوين الشيء بلونين أو بألوان". وقال في "معجم الفقهاء" (ص 486): النقش بفتح فسكون، من نقش، وجمعه نقوش، ما يرسم أو يطرز من الرسوم على الأشياء. الرقم: لغة: التخطيط يقال: ثوب مرقوم ومرقم أي مخطط. واصطلاحًا: يطلق على كل رسم لا ظل له، وذلك كالتطريز على الثوب، والورق ونحو ذلك، سواء كان التطريز بالقلم، أو بفرشة أو أي آلة من آلات الرسم، أو الكتابة، وسواء كان التطريز كتابة أو خطوطًا فقط أو كان صورًا منقوشة مسطحة. التزويق: يطلق ويراد به التحسين. وأصل الزاووق: نوع من الدهن يخلط مع الذهب ويدهن به الشيء المراد تزيينه وتحسينه، فإذا وضع في النار ذهب "الزاووق" وبقي الذهب صافيًا حسنًا. ثم توسعوا في استعماله حتى أطلقوا على كل منقش ومزين، ومحسن وإن لم يكن فيه زاووق، فلم يقتصر فيه على جعل الزاووق مع الذهب وطلي الشيء المراد تزيينه وتحسينه، بل تدرج بهم الاستعمال إلى أن أطلقوه بعد على التصاوير المنقوشة والمرسومة باليد. "القاموس" (ص 1151). "معجم مقاييس اللغة" (6/ 114). الوشي: يطلق ويراد به التزيين، والتحسين، والتنقيش، ويطلق على الألوان. قال في "اللسان" (3/ 934): وشى الثوب وشيًا وشيه: حسنه، ووشاه نمقه ونقشه وحسنه ... ". فائدة رقم (3) علل تحريم التصوير: 1 - في التصوير من المضاهاة لخلق الله تعالى، وتشبيه فعل المخلوق بفعل الخالق سبحانه، فمن صور شيئًا من ذوات الروح فقد وقع في المضاهاة المنهي عنها بمجرد انتهائه من صناعتها، سواء كانت الصورة ممن ذوات الظل أو غير ذوات الظل. (أ): إذا أراد بفعله: التكسب المادي، أو التسلي، أو غير ذلك من الأغراض التي لا يقصد من ورائها الإبداع وإظهار القدرة البشرية على أنها تشابه قدرة الخالق سبحانه وتعالى. فهذا الصنيع المجرد عن قصد المضاهاة يعد محرمًا وكبيرة من كبائر الذنوب ولكنه لا يبلغ بصاحبه إلى حد الكفر. وقد تقدم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن من أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون". (ب): أما من صنع الصورة بقصد محاكاة فعل الخالق بفعله فإنه يكون بهذا القصد كافرًا. وقد تقدم الحديث: "أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون الذين يضاهون خلق الله ... ". انظر: "فتح الباري" (10/ 397)، "مغني المحتاج" (3/ 247 - 248). 2 - كون تصوير ذوات الأرواح وسيلة إلى الغلو فيها من دون الله تعالى، وربما جر ذلك إلى عبادة تلك الصورة، وتعظيمها، وسيما إن كانت الصورة لمن يحبهم الناس ويعظمونهم سواء كان ذلك تعظيم علم وديانة، أو تعظيم سلطان ورئاسة أو تعظيم صداقة وقرابة. أخرج البخاري في صحيحه رقم (4920) عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر قال: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون إليها أنصابًا، وسموهم بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت". 3 - أن صناعة صور ذوات الروح المحرمة واتخاذها فيه تشبه بفعل من كانوا يصنعون الصور والتماثيل ويعبدونها من دون الله تعالى. سواء كان المصور قاصدًا التشبه بأولئك أم لا، فمجرد صناعته للصورة أو استعمالها على وجه محرم بنصب، أو تعليق أو نحو ذلك يكون حاله شبيهًا بحال المشركين ومقلديهم الذين كانوا يصنعون الصور، ويضعونها في معابدهم، أو بيوتهم تقديسًا وتعظيمًا لها. هذا إن لم يكن للمصور قصد في التشبه، أما إذا كان قاصدًا التشبه فإن إثمه أعظم وذنبه أشد وأكبر ربما وصل به إلى الكفر بالله تعالى. انظر: "إغاثة اللهفان" (2/ 322 - 340)، "مغني المحتاج" (3/ 247). 4 - كون صور ذوات الروح مانعة من دخول الملائكة إلى مكان وجودها وقد ورد هذا التعليل في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة". تقدم تخريجه. انظر: "حاشية ابن عابدين" (1/ 649) بتحقيقنا. 5 - ويعلل بعضهم لتحريم الصور صناعة واستخدامًا: بالنهي عن إضاعة المال وتبذيره، وأن الإنسان مسئول عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وإنفاق المال في التصوير والصور مما لا ضرورة إليه ولا مصلحة تترتب عليه فيه إسراف، وتبذير، وإن كان قليلاً، لأن إنفاقه في غير محله، فأيما درهم أنفق في غير محله فهو إسراف ومجاوزة لحد الإنفاق المباح. فكما أن التقتير تضييق ونقص في الإنفاق، فالإسراف زيادة ومجاوزة للحد في الإنفاق، وكلاهما منهي عنه بقوله تعالى: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا} [الفرقان: 67]. فائدة رقم (4): من أحكام التصوير: 1 - حكم صناعة صور المصنوعات البشرية وتحسينها: والمراد بالمصنوعات البشرية كل ما يكون ليد المخلوق فيه تأثير، وتغيير وصناعة، والصناعة إجادة الفعل وإتقانه ويشمل كل المنتوجات والمصنوعات كالطائرات، والسيارات والسفن البحرية وجميع الآلات الميكانيكية بشتى أنواعها، وكذلك يشمل بنيان الدور، والمصانع ونحوهما مما لم يذكر هنا. وإن كان أصل المادة مخلوقًا لله سبحانه وتعالى، كما بين الله ذلك بقوله جل ذكره. {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} [البقرة: 29]. الرأي الراجح: وهو الجواز ذهب إليه جماهير العلماء ومن أدلتهم. 1 - ): ما تقدم من حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس تعذبه في جهنم" ثم قال ابن عباس رضي الله عنهما: "فإن كنت لا بد فاعلاً فاصنع الشجر وما لا نفس له". 2 - ): حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "أتاني جبريل فقال: إني كنت أتيتك البارحة، فلم يمنعني أن أكون دخلت عليك البيت الذي كنت فيه إلا أنه كان في باب البيت تمثال الرجال، وكان قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمر برأس التمثال فليقطع، ومر بالستر فيقطع فيجعل منه وسادتين منبوذين". 3 - ): وما أخرجه البخاري رقم (5961) ومسلم رقم (97) من حديث عائشة رضي الله عنها في قصة النمرقة التي فيها تصاوير حيث قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم" تقدم تخريجه. انظر: "حاشية ابن عابدين" (1/ 649)، "فتح الباري" (10/ 409). - حكم صناعة المخلوقات الكونية: المراد بالمخلوقات الكونية في هذا المطلب: كل ما كان باقيًا على هيئته وخلقته التي خلقه الله عليها من المخلوقات الجامدة والتي لا يمكن أن يكون ليد المخلوق فيه أي تعديل، أو تغيير، أو صناعة وذلك مثل صورة الشمس، والقمر، والنجوم، والجبال، والبحار، والأنهار والأودية. الراجح: جواز تصوير سائر المخلوقات الكونية ومن أدلتهم: حديث أبي هريرة والذي فيه قول جبريل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فمر برأس التمثال الذي في البيت يقطع، فيصير كهيئة الشجرة ... ". فالشاهد من الحديث: هو قول جبريل عليه السلام: "فمر برأس التمثال الذي في البيت فليقطع كهيئة الشجرة ... ". قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (29/ 370): "فيجوز تصوير الشجر والمعادن في الثياب، والحيطان، ونحو ذلك لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ"، ولهذا قال ابن عباس لمن استفتاه "صور الشجرة، ومالا روح فيه" - تقدم تخريجه وفيه: " ما لا نفس له ". ولعل ابن تيمية ذكر المعنى - وفي "السنن" عن النبي صَلَّى ال

بد فاعلاً فاجعل الشجر، وما لا نفس له"؛ فإن هذا يفيد جواز تصوير أشكال ما لا نفس له من الجمادات، كصور الجبال، والأودية، والسماء والأرض، والشجر، ومما

يفيد الاختصاص بصور الحيوانات قوله في حديث ابن عمر المتقدم: "أحيوا ما خلقتم"؛ فإن التحدي بالإحياء، وتكليف المصورين بنفخ الأرواح في الأجسام التي صوروها لا يكون إلا إذا كانت الأجسام المصورة حيوانية لا جمادية. ومثل ذلك ما تقدم في حديث ابن عباس (¬1) الآخر بلفظ: "من صور صورة عذبه الله بها يوم القيامة حتى ينفخ فيها الروح، وما هو بنافخ". المسألة الرابعة: قال - كثر الله فوائده -: وهل ذلك مما يجب فيه الإنكار أم لا؟. أقول: قد تقرر بأدلة الكتاب العزيز (¬2)، والسنة المطهرة (¬3) أن إنكار المنكر من أوجب ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) (منها): قوله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} [آل عمران: 104]. ومنها قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرًا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} [آل عمران: 110]. ومن الآيات التي تدل على خطورة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قوله تعالى: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} [المائدة: 78 - 79] (¬3) أخرج مسلم في صحيحه رقم (49) والترمذي رقم (2172) وابن ماجه رقم (1275، 4013) والنسائي (8/ 11، 112). عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان". وهو حديث صحيح. وأخرج أبو داود رقم (4336) والترمذي رقم (3047) وابن ماجه رقم (4006) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وفيه: " ... والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرًا". وهو حديث حسن بشواهده.

الواجبات [3 أ]، بل ورد في السنة ما يفيد أن هذا هو أعظم قواعد الدين، وأقوى دعائمه وأشد أركانه، وأن هذه الأمة لا تزال بخير ما أمرت بالمعروف، ونهت عن المنكر، فإذا تركت ذلك حل بها من العقوبة ما هو معروف، ولم يقع الخلاف بين المسلمين في وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإن اختلفوا في بعض تفاصيله وشروطه، وكيف لا يجمعون على وجوب ذلك وتحريم تركه! وقد صرح به القرآن الكريم في عدة مواضع، وجاء في السنة المطهرة من ذلك ما لو جمع لكان مؤلفًا بسيطًا. وقد قررنا فيما سبق أن تصوير الحيوانات حرام (¬1). وتقرر بأدلة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر أن كل محرم يجب إنكاره، فالتصوير حرام، وكل حرام منكر، فالتصوير منكر، وكل منكر يجب إنكاره، فالتصوير يجب إنكاره، وأدلة هذه المقدمات معلومة مما تقدم. لا شك فيه من يتعقل الحجج الشرعية. ولكنه بقي هاهنا بحث يحتاج إلى التعرض لبيانه، فإنه يقع السؤال عنه كثيرًا، ويستشكله كثير من أهل العلم، وهو ما وقع في كتب أهل العلم - رحمهم الله - من اشتراط كون التمثال (¬2) تمثال حيوان كامل مستقل، أو منسوخ، أو ملحم لا مطبوع. واعلم أن الظاهر من الأدلة [3 ب] اعتبار الكمال، لأن التحريم والوعيد في تلك الأدلة واللعن للمصورين إنما هو في تصوير الحيوانات، والمعنى الحقيقي لهذا هو أن تكون الصورة صورة حيوان كاملة، لأن من صور بعض حيوان لا يصدق عليه أنه صور حيوانًا، بل بعض حيوان، والوعيد إنما ورد على تصوير الحيوان، ولكنه لا بد من اعتبار ما ذكره أهل العلم من ذلك، وهو أنه إذا كان التمثال (¬3) خاليًا عن بعض ما لا تستقيم ¬

(¬1) تقدم ذكره. وانظر: "بدائع الصنائع" (6/ 2968)، "فتح الباري" (10/ 402) (¬2) تقدم ذكره. (¬3) (أ): اتفق جماهير العلماء على جواز صناعة التماثيل لذوات الروح، إذا كانت مقطوعة الرءوس قطعًا كاملاً، يزيل الرأس بعيدًا عن الجسد. (ب): تحريم صناعة التماثيل والصور المجسمة وغيرها ما دام الرأس باقيًا على الجسد سواء كانت الصورة نصفية، أو مشوهة، أو ناقصة الأعضاء لا تبقى الحياة إذا فقد شيء منها، لو فرض زوالها من الحي. انظر: "حاشية ابن عابدين" (1/ 648)، "تحفة المحتاج" (7/ 434)

حياة الحيوان إلا به كان تمثالاً غير محرم، لأنه ليس تمثال حيوان على الحقيقة. وأما إذا كان التمثال خاليًا عن بعض الأعضاء التي يعيش الحيوان بدونها، ويوجد في الخارج كذلك كالعينين، أو الأذنين، أو نحو ذلك، فهذا وإن نقص منه بعض الأعضاء فهو حيوان كامل، لأنه على شكل حيوان من الحيوانات التي توجد في الخارج، والاعتبار في كل فرد من أفراد الحيوانات بنوعه الذي قصد المصور تصويره، فلو صور شكل نصف إنسان قاصدًا بذلك تصوير النسناس الذي يقول كثير من المؤرخين أنه موجود، وأنه على شكل نصف إنسان كان ذلك التصوير حرامًا على فرض وجود هذا الحيوان في الخارج، فاعتبر بهذا في غير هذه الصورة. وأما اعتبار كونه مستقلاً بنفسه، أو منسوخًا، أو ملحمًا لا مطبوعًا، فقد استدل على ذلك بأن زيد بن خالد الراوي للحديث السابق عن أبي طلحة دخل عليه في مرضه [4 أ] بشر بن سعيد يعوده؛ فإذا على بابه ستر فيه صورة، قال بشر: فقلت لعبيد الله الخولاني ربيب ميمونة زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. ألم يخبرنا زيد عن الصور يوم الأول؟ فقال عبيد الله: ألم تسمعه حين قال: "إلا رقمًا في ثوب". هكذا في سنن أبي داود (¬1)، وهو بعض من حديث أبي طلحة السابق، وقد أخرجه غيره كما تقدم، ولكنه لا يخفى أن هذا المروي من قول زيد بن خالد لا بد أن يصح رفعه من طريق أبي طلحة، فإذا صح رفعه فقد عورض بمثل الحديث السابق أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أمر عمر يمحو كل صورة في الكعبة فمحاها، والمحو لا يكون إلا ¬

(¬1) تقدم ذكره.

لما هو مطبوع، ومثله حديث ابن عباس السابق أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أمر بالصور التي في البيت فمحيت. ومن ذلك الأحاديث الصحيحة الواردة في تحريم تصوير الصور؛ فإن ظاهرها أعم من المطبوع وغيره، فالواجب البقاء على ما توجبه هذه الأدلة العامة حتى يصح رفع ما قاله زيد بن خالد من وجه صحيح تقوم الحجة بمثله. وأما ما وقع في كتب الفقه من أن التصوير إذا كان فراشا (¬1) فلا بأس به، فقد استدلوا على ذلك بما تقدم في حديث قرام عائشة، وأنها قطعته وسادتين، وارتفق عليها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كما ثبت في رواية صحيحة، ومثله ما تقدم في حديث أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أمره جبريل بأن يقطع الستر وسادتين [4 ب] توطئان، وفي ذلك دليل على جواز بقاء الصور المصورة إذا كانت قد صارت فراشًا، ولكنه لا يدل على جواز تصوير الصور على الفراش، بل التصوير حرام على المصور على أي صفة كان، فإذا فعل فقد فعل المحرم. ومن صارت إليه الصورة فجعلها فراشًا فقد برئ بذلك من وجوب إنكار المنكر عليه. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. والله ولي التوفيق [5 أ]. ¬

(¬1) جواز استخدام الفرش والسجاجيد التي فيها صور ذوات الروح إذا كانت توطأ، وتمتهن دون أن تعلق، أو تنصب وهذا مذهب جماهير العلماء من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم بما في ذلك الأئمة الأربعة. قال ابن عبد البر في "التمهيد" (21/ 196) وهذا هو أعدل المذاهب كلها ومن حمل عليه الآثار لم تتعارض. انظر: "الإنصاف" (8/ 336)، "بدائع الصنائع" (1/ 337)، "المدونة الكبرى" (1/ 91).

إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع

إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع (¬1) تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب ¬

(¬1) كتب في صفحة العنوان ما نصه: "الموجب لتحرير هذا البحث ما وقع من بعض المقصرين، من الافتراء البحت بأن السماع محرم بالإجماع، ولا يخفى أن هذه المقالة مع كونها من الكذب الظاهر تستلزم القدح في جماعة من الصحابة والتابعين، وسائر علماء الدين. فهذا هو الحامل لتحرير هذه الرسالة، كما سيقع التصريح بذلك في غضون البحث، فلا يظن جاهل أن جمع هذا البحث لقصد الترخيص والترويح فيأبى الله ذلك"

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة: إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع. 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله وصلى الله وسلم: ذهب أهل المدينة ومن وافقهم من علماء الظاهر وجماعة من الصوفية إلى الترخيص في السماع. 4 - آخر الرسالة: فيفتقر فيغتم فيعتل فيموت. كمل من تحرير جامعه القاضي بدر الدين محمد بن علي الشوكاني حفظه الله تعالى بحق محمد وآله. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 16 صفحة. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرا ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها (13) سطرًا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة. 9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني. 10 - الرسالة من المجلد الأول من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. ذهب أهل المدينة، ومن وافقهم من علماء الظاهر (¬1)، وجماعة من الصوفية (¬2) إلى الترخيص في السماع، ولو مع العود واليراع (¬3). وقد حكى الأستاذ أبو منصور البغدادي الشافعي في مؤلفه في السماع أن عبد الله بن جعفر (¬4) رضي الله عنه كان لا يرى بالغناء بأسًا (¬5)، ويصوغ الألحان لجواريه، ويسمعها منهن على أوتاره، وكان ذلك في زمن أمير المؤمنين علي - كرم الله وجهه -. وحكى الأستاذ المذكور أيضًا مثل ذلك عن القاضي شريح، وسعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، والزهري، والشعبي، وقال إمام الحرمين في النهاية، وابن أبي الدم: ¬

(¬1) انظر: "المحلي" (9/ 59) (¬2) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (5/ 261)، "الرسالة القشيرية" (2/ 645) (¬3) اليراع: بفتح التحتية وتخفيف الراء بالمهملة، جمع يراعة، أو اسم جنس واحدة يراعه. انظر: "كف الرعاع" لابن حجر الهيثمي (ص 121). قال الجوهري في "الصحاح" (3/ 1310): اليراع القصب، واليراعة القصبة إذا علمت ذلك علمت أن اليراع متعدد. (¬4) عبد الله بن جعفر بن أبي طالب القرشي يكنى أبا جعفر، ولدته أمه أسماء بنت عميس بأرض الحبشة وهو أول مولود في الإسلام بأرض الحبشة وقدم مع أبيه المدينة، وحفظ عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وروى عنه. توفي سنة ثمانين وهو ابن تسعين. انظر: "الاستيعاب" رقم (1506)، "الإصابة" رقم (4609). " سير أعلام النبلاء " (3/ 459). (¬5) قال القرطبي في "الاستيعاب" (3/ 17) كان عبد الله بن جعفر كريمًا، جوادًا ظريفًا، خليقًا عفيفًا سخيًا يسمى بحر الجود ويقال: إنه لم يكن في الإسلام أسخى منه، وكان لا يرى بسماع الغناء بأسًا. روي أن عبد الله بن جعفر كان إذا قدم على معاوية أنزله له داره، وأظهر له من بره وإكرامه ما يستحقه، فكان ذلك يغيظ فاختة بنت قرظ بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف زوجة معاوية، فسمعت غناء عند عبد الله بن جعفر، فجاءت إلى معاوية، وقالت: هلم فاسمع ما في منزل هذا الرجل الذي جعلته بين لحمك ودمك، قال: فجاء معاوية فسمع وانصرف، فلما كان آخر الليل سمع معاوية قراءة عبد الله بن جعفر، فجاء فأنبه فاختة فقال: اسمعي مكان ما أسمعتني.

نقل الأثبات من المؤرخين أن عبد الله بن الزبير كان له جوار عوادات، وأن ابن عمر - رضي الله عنهما - دخل عليه وإلى جنبه عود، فقال: ما هذا يا صاحب رسول الله؟ فناوله إياه، فتأمله ابن عمر، فقال: هذا ميزان شامي، فقال لابن الزبير: توزن به العقول (¬1). وروى الحافظ أبو محمد بن حزم (¬2) في رسالته في السماع بسنده إلى ابن سيرين قال: إن رجلاً قدم المدينة بجوار، فنزل على عبد الله بن عمر، وفيهن جارية تضرب، فجاء رجل فساومه فلم يهو منهن شيئًا، قال: انطلق إلى رجل هو أمثل لك بيعًا من هذا قال: من هو؟ قال: عبد الله بن جعفر، فعرضهن عليه، فأمر جارية منهن فقال لها: خذي العود، فأخذته وغنت، فبايعه، ثم جاء إلى ابن عمر، إلى آخر القصة. قال ابن حزم (¬3) فهذا ابن عمر، وابن جعفر سمعا الغناء بالعود، وسعى ابن عمر في البيع كما في آخر القصة. وروى صاحب العقد العلامة الأديب أبو عمر الأندلسي أن عبد الله بن عمر دخل على ابن جعفر، فوجد عنده جارية في حجرها عود، ثم قال ابن عمر: هل ترى بذلك بأسًا؟ قال: لا بأس بهذا. وحكى الماوردي عن معاوية، وعمرو بن العاص أنهما سمعا العود عند ابن جعفر. وروى أبو الفرج الأصفهاني (¬4) أن حسان (¬5) ¬

(¬1) انظر: "إيضاح الدلالات في سماع الآلات" (ص 96 - 97) لعبد الغني النابلسي (¬2) انظر: "المحلى" (9/ 62 - 63) (¬3) انظر: "المرجع السابق". (¬4) في "الأغاني" (17/ 164). وقد تقدم التعليق على كتاب الأغاني. (¬5) أي حسان بن ثابت قال أبو الفرج الأصبهاني (17/ 666): أخبرنا وكيع، عن حماد بن إسحاق، عن أبيه، عن الواقدي، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال سمعت خارجة بن زيد يقول: دعينا إلى مأدبة في آل نبيط، قال خارجة: فحضرتها، وحسان بن ثابت قد حضرها، فجلسنا جميعًا على مائدة واحدة وهو يومئذ قد ذهب بصره، ومعه ابنه عبد الرحمن، فكان إذا أتى طعامًا سأل ابنه: أطعام يد أم يدين؟ يعني باليد الثريد وباليدين الشواء، لأنه ينهش نهشًا فإذا قال: طعام يدين أمسك يده، فلما فرغوا من الطعام أتوا بجارتين: إحداهما رائقة والآخرة عزة، فجلستا وأخذتا من مزهريهما، وضربتا ضربًا عجيبًا وغنتا بقول حسان: انظر خليلي بباب جلق هل ... تبصر دون البقاء من أحد فأسمع حسان يقول: قد رآني بها سميعًا بصيرًا. وعيناه تدمعان ...

سمع من عزة (¬1) الميلاء الغناء بالمزهر بشعر من شعره. وذكر أبو العباس المبرد نحو ذلك، والمزهر عند أهل اللغة (¬2). العود، وذكر الأدفوي (¬3) أن عمر بن عبد العزيز كان يسمع من جواريه قبل الخلافة. ونقل ابن السمعاني الترخيص عن طاوس، ونقله الحافظ بن قتيبة، وصاحب الإمتاع عن قاضي المدينة سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الزهري من التابعين، ونقله الحافظ أبو يعلى الخليلي في الإرشاد (¬4) عن عبد العزيز بن سلمة الماجشون مفتي المدنية. وحكى الروياني عن القفال أن مذهب مالك بن أنس إباحة الغناء بالمعازف، وهي الآلات الشاملة للعود وغيره. وحكى الأستاذ أبو منصور، والفوزاني في العمدة عن مالك جواز العود. وذكر أبو طالب المكي في فوت القلوب (¬5) عن شعبة [1] أنه سمع ................ ¬

(¬1) كانت عزة مولاة للأنصار، ومسكنها المدينة، وهي أقدم من غنى الغناء الموقع من النساء بالحجاز، وكانت من أجمل النساء وأحسنهن جسمًا وسميت الميلاء لتمايلها في مشيها. وقيل: بل كانت تلبس الملاء وتشبه بالرجال، فسميت بذلك وقيل هي أول من فتن أهل المدينة بالغناء. وحرض نساءهم عليه. "الأغاني" (17/ 163). (¬2) قال الجوهري في "الصحاح" (2/ 675): المزهر: العود الذي يضرب به. (¬3) هو أبو الفضل جعفر بن ثعلب بن جعفر بن علي الأدفوي، صاحب كتاب "الإمتاع في أحكام السماع". انظر: "طبقات الشافعية" (9/ 407). (¬4) (1/ 310). (¬5) ذكره ابن تيمية في "الاستقامة" (1/ 299).

طنبورًا (¬1) في بيت المنهال بن عمرو المحدث المشهور. وحكى أبو الفضل بن طاهر (¬2) في مؤلفه (¬3) في السماع (¬4) أنه لا خلاف بين أهل المدينة في إباحة العود. قال ابن النحوي في العدة: قال ابن طاهر هو إجماع أهل المدينة، قال ابن طاهر: وإليه ذهبت الظاهرية ....................... ¬

(¬1) أخرج العقيلي في "الضعفاء" (4/ 237) من طريق وهب - ابن جرير - عن شعبة قال: أتيت منزل المنهال بن عمرو، فسمعت منه صوت الطنبور، فرجعت ولم أسأله، قلت: هلا سألته، فعسى كان لا يعلم " إسناده إلى شعبة صحيح. * قال الحافظ ابن جعفر في "هدي الساري" (ص 445 - 446): "هذا اعتراض صحيح فإن هذا لا يوجب قدحًا في المنهال". * وقال الذهبي في "الميزان" (4/ 192 رقم 8806): " ... ثم في الآخر ترك الرواية عنه شعبة فيما قيل، لأنه سمع من بيته صوت غناء، وهذا لا يوجب غمز الشيخ". * وقال الألباني في "تحريم آلات الطرب" (ص 105): على أن هذا الأثر يمكن قلبه على المرخصين. لأن شعبة أنكر صوت الطنبور، فهو في ذلك مصيب، وإن كان أخطأ في ظنه أن المنهال كان من المرخصين به. (¬2) هو أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي المعروف بـ "ابن القيسراني الأثري الظاهري الصوفي. قال يحيى ابن منده: "كان ابن طاهر أحد الحفاظ حسن الاعتقاد، جميل الطريقة، صدوقًا عالمًا بالصحيح والسقيم كثير التصانيف لازمًا للأثر، ولقد طعن عليه بأنه يذهب مذهب الإباحة، وإطلاق القول بذلك جور قائله، وقد رد الذهبي رحمه الله هذا الإطلاق. "سير أعلام النبلاء" (19/ 361). "الوافي بالوفيات" (3/ 166 - 168)، "شذرات الذهب" (4/ 18)، "هدية العارفين" (2/ 28). قال صاحب الشذرات (4/ 18): قال الحافظ ابن ناصر الدين كان - محمد بن طاهر - حافظًا جوالاً في البلاد كثير الكتابة جيد المعرفة ثقة في نفسه حسن الانتقاد ولو لا ما ذهب إليه من إباحة السماع لانعقد على ثقته الإجماع. (¬3) (ص 63). (¬4) انظر: "السماع" لابن طاهر (ص 63) و"المحلى" (9/ 62 - 63).

قاطبة (¬1). قال الأدفوي (¬2): لم يختلف النقلة في نسبة الضرب بالعود إلى إبراهيم بن سعد بن عبد الرحمن بن عوف (¬3) انتهى. وإبراهيم المذكور من أئمة الحديث المتوسعين في الرواية، أخرج له الجماعة كلهم، وحكى الماوردي إباحة العود عن بعض الشافعية، وحكى أبو الفضل بن طاهر في كتاب السماع (¬4) أن أبا إسحاق الشيرازي كان يبيحه ويحضره، وحكاه الأسنوي في المهمات عن الروياني، والماوردي، ورواه ابن النحوي عن الأستاذ أبي منصور، وحكاه ابن الملقن في العمدة عن ابن طاهر، وحكى الأدفوي عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام أنه كان يقول بإباحته. وحكى صاحب الإمتاع إباحة العود عن أبي بكر بن العربي، وجزم الأدفوي بعد أن استوفى أدلة التحريم والجواز بأن المتجه فيه الإباحة، هكذا في كتابه المعروف بالإمتاع في أحكام السماع؛ وهو كتاب لم يؤلف مثله في بابه. وقد ألف أبو الفتوح الغزالي كتابًا سماه: بوارق الإلماع في تكفير من يحرم السماع؛ وهذه التسمية في غاية الشناعة، ولكنه كان يذكر في ذلك الكتاب مثلاً حديث أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ سمع الجواري يغنين بالدف، كما في حديث (¬5) الربيع بنت معوذ بن عفراء، ثم يقول بعده: فمن قال أن النبي ¬

(¬1) في "السماع" (ص 63). (¬2) انظر: "السماع" لابن طاهر (ص 63) و"المحلى" (9/ 62 - 63). (¬3) الإمام الحافظ، أبو إسحاق القرشي الزهري العوفي المدني ولد سنة 108 هـ. كان ثقة صدوقًا، صاحب حديث، وثقة الإمام أحمد، وقال: كان وكيع كف عن الرواية عنه، ثم حدث عنه. قال أبو حاتم: ثقة، وقال أحمد والعجلي: مدني، ثقة. قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (8/ 306): كان ممن يترخص في الغناء على عادة أهل المدينة، توفي سنة 184 هـ. انظر: "تهذيب التهذيب" (1/ 105)، "تاريخ بغداد" (6/ 81 - 86). (¬4) في "السماع" (ص 63). (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4001) وطرفه رقم (5147) عن الربيع بنت معوذ قالت: دخل علي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غداة بني علي، فجلس على فراشي كمجلسك مني وجويريات يضربن بالدف؛ يندبن من قتل آبائهن يوم بدر، حتى قالت جارية، وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت تقولين".

صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ سمع حرامًا، وما منع عن سماع حرام، واعتقد ذلك، فقد كفر بالاتفاق. وساق الأدلة فيه هذا المساق. هذه صورة الخلاف في السماع من آلة من آلات اللهو. وسيأتي ذكر الخلاف في مجرد السماع للغناء بلا آلة، أو مع الدف، ولنبدأ بذكر الأدلة التي استدل بها المختلفون في السماع مع آلة. فنقول: قال المجوزون: إنه ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسوله، ولا في معقولهما - من القياس والاستدلال، ما يقتضي تحريم مجرد سماع الأصوات الطيبة الموزونة، مع آلة من آلات اللهو. وقد استدل القائلون بالتحريم وهم الجمهور بأدلة منها: ما أخرجه البخاري (¬1) من حديث أبي عامر، وأبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر، والحرير، والخمر، والمعازف" قالوا: والمعازف: هي آلات اللهو، فيدخل فيها العود والمزمار وغيرهما. وأجاب المجوزون عن هذا الحديث بأجوبة منها: أنه قد أعله جماعة من الحفاظ من وجوه: أحدها: الانقطاع (¬2)؛ فإن البخاري إنما علقه عن شيخه هشام بن عمار فقال في ¬

(¬1) في صحيحه رقم (10/ 51 رقم 5590) بصيغة الجزم. (¬2) قال الحافظ محمد بن حزم في "رسالة الملاهي" (ص 434) - مجموعة رسائله -: "وأما حديث البخاري فلم يورده البخاري مسندًا، وإنما قال فيه: قال هشام بن عمار". وقال في "المحلى" (9/ 59): هذا منقطع، لم يتصل ما بين البخاري وصدقة بن خالد. والمترجح أن الحديث صحيح متصل على شرط البخاري وذلك من وجوه: 1 - أن هشام بن عمار من شيوخ البخاري، لقيه، وسمع منه، خرج عنه في الصحيح حديثين غير هذا محتجًا به، كما أفاد الحافظ ابن حجر في "هدي الساري" (ص 448 - 449) يقول فيهما: "حدثنا هشام بن عمار ... " من غير واسطة. أ - الأول في البيوع (4/ 308). ب - الثاني في "فضائل الصحابة" باب فضل أبي بكر (7/ 18). 2 - أن قول الراوي: قال فلان بمنزلة قوله "عن فلان" في كونها صيغة محتمة السماع، وإن كان قائلها غير موصوف بالتدليس كانت محمولة على الاتصال على الصحيح الذي عليه الجمهور إن ثبتت المعاصرة كما هو شرط مسلم واللقاء كما شرط البخاري. ولقد تحقق هنا شرط البخاري. وهو ثبوت اللقاء. كما بين في الوجه الأول. 3 - أنه وقع استعمال البخاري لهذه الصيغة (قال فلان) كثيرًا جدًا عن شيوخه في الأسانيد المتصلة، وذلك في "تاريخه الكبير" وهذا وإن لم يعهد منه في "الصحيح" إلا أنه ممكن الوقوع. لا سيما وأنه ليس عندنا تنصيص من البخاري نفسه على تجنب مثل هذا في "الصحيح"، يؤكده قول من قال: "إن البخاري إذا قال في صحيحه "قال فلان" ولم يصرح بروايته عنه وكان قد سمع منه فإنه يكون قد أخذ عنه عرضًا أو مناولة أو مذاكرة. وقد ورد الحديث موصولاً من طرق عن هشام بن عمار في غير الصحيح. أخرجه الحسن بن سفيان في "مسنده" و"أبو بكر الإسماعيلي" في "المستخرج" وأبو ذر الهروي على "الصحيح" وابن حبان في صحيحه رقم (6754) والطبراني في "الكبير" (3/ 319 رقم 3417). ودعلج في "مسند المقلين [ق 1 - 2/ 1] قالا: حدثنا موسى بن سهل الجوني البصري: ثنا هشام بن عمار به مثل رواية البخاري، ومن طريق الطبراني رواه الضياء المقدسي في "موافقات هشام بن عمار" (ق 37/ 1 - 2). كما في "تحريم آلات الطرب" للمحدث الألباني (ص 40) رحمه الله. - قال الطبراني في "مسند الشاميين" (1/ 334، 588): حدثنا محمد بن يزيد بن (الأصل: عن) عبد الصمد الدمشقي. ثنا هشام بن عمار به. ومحمد بن يزيد هذا مترجم له في "تاريخ دمشق" للحافظ ابن عساكر (16/ 124) برواية الجماعة عنه. توفي سنة 269 هـ. - وقال الإسماعيلي في "المستخرج على الصحيح" ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 221) حدثنا سفيان: حدثنا هشام بن عمار به. والحسن بن سفيان - هو الخراساني النيسابوري حافظ ثبت من شيوخ ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما من الحفاظ - مترجم له في "السير" (14/ 157 - 162). انظر: "هدي الساري" (ص 59) و"تغليق التعليق" (5/ 18). وهناك أربعة آخرون سمعوه من هشام، خرجهم الحافظ في "تغليق التعليق" (5/ 17 - 19) والذهبي عن بعضهم في "السير" (21/ 157) (7/ 23). ثم إن هشامًا لم يتفرد به لا هو ولا شيخه (صدقة بن خالد)، بل إنهما قد توبعا، فقال أبو داود في "السنن" رقم (4039): حدثنا عبد الوهاب بن نجدة، حدثنا بشر بن بكر، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بإسناده المتقدم على أبي عامر أو أبي مالك مرفوعًا بلفظ: "ليكونن من أمتي أقوامًا يستحلون الحر والحرير - وذكر كلامًا قال يمسخ منهم آخرون قردة وخنازير إلى يوم القيامة". قال ابن القيم في "إغاثة اللهفان" (1/ 260) وهذا إسناد صحيح متصل تبعًا لشيخه في "إبطال التحليل" (ص 23)، لكن ليس فيه التصريح بموضع الشاهد منه، وإنما أشار إليه بقوله: "ذكر كلامًا" وقد جاء مصرحًا به في رواية ثقتين آخرين من الحفاظ، وهو عبد الرحمن بن إبراهيم الملقب بـ (دحيم). قال: ثنا بشر بلفظ البخاري المتقدم. "يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ... ". أخرجه أبو بكر الإسماعيلي في "المستخرج على الصحيح" كما في "الفتح" (10/ 56) و"التغليق" (5/ 19) ومن طريق الإسماعيلي البيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 272) والآخر (عيسى بن أحمد العسقلاني) قال: نا بشر بن بكر به إلا أنه قال: "الخز" بالمعجمتين، والراجح بالمهملتين كما في رواية البخاري وغيره. انظر: "فتح الباري" (10/ 55). وأخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (19/ 156) من طريق الحافظ أبي سعيد الهيثم بن كليب الشاشي: نا عيسى بن أحمد العسقلاني به مطولاً. قال المحدث الألباني في "تحريم آلات الطرب" (ص 43): وهذه الطريق مما فات الحافظ فلم يذكره في "الفتح" بل ولا في "الغليق". وقال الحافظ أبو عمرو بن الصلاح في "علوم الحديث" (ص 61 - 62): "ولا التفات إلى أبي محمد بن حزم الظاهري الحافظ في رده على ما أخرجه البخاري من حديث أبي عامر أو أبي مالك الأشعري ... من جهة أن البخاري أورده قائلاً فيه: قال هشام بن عمار، وساقه بإسناده، فزعم ابن حزم أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام، وجعله جوابًا عن الاحتجاج به على تحريم المعازف، وأخطأ في ذلك من وجوه، والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح. وقال الحافظ ابن حجر في "تغليق التعليق" (5/ 22) " هذا حديث صحيح، لا علة له ولا مطعن، وقد أعله أبو محمد بن حزم بالانقطاع بين البخاري وصدقة بن خالد وبالاختلاف في اسم أبي مالك، وهذا كما تراه قد سقته من رواية تسعة عن هشام متصلاً فيهم، مثل الحسن بن سفيان، وعبدان، وجعفر الفريابي وهؤلاء حفاظ أثبات". وقال الحافظ ابن رجب في "نزهة الأسماع" (ص 44): "هكذا ذكره البخاري في صحيحه بصيغة التعليق المجزوم به، والأقرب أنه مسند فإن هشام بن عمار أحد شيوخ البخاري، وقد قيل: إن البخاري إذا قال في صحيحه: قال فلان، ولم يصرح بروايته عنه، وكان قد سمع منه، فإنه يكون قد أخذه عنه عرضًا، أو مناولة، أو مذاكرة، وهذا كله لا يخرجه عن أن يكون مسندًا، والله أعلم. ثم ذكر وصله عند البيهقي إلى هشام، وقال: فالحديث صحيح، محفوظ عن هشام بن عمار".

صحيحه: قال هشام بن عمار: حدثنا صدقة بن خالد، ثم ساق إسناده، ولم يصرح [2] بالسماع من هشام. قال ابن حزم: ولم يتصل ما بين البخاري وصدقة بن خالد، وإنما علقه البخاري؛ فلا حجة فيه. انتهى. وثانيها: أنه حكى ابن الجنيد (¬1) عن يحيى بن معين أن صدقة بن خالد المذكور ليس بشيء، وروى المروزي (¬2) عن أحمد أنه ليس بمستقيم. ثالثهما: ما ذكره ابن حزم، وهو أن الراوي شكك في اسم الصحابي، فجاء بأداة ¬

(¬1) قال الحافظ في "الفتح" (10/ 54) قال الحافظ ابن الملقن - رحمه الله -: "ليته - يعني ابن حزم - أعل الحديث بصدقة، فإن ابن الجنيد روى عن يحيى بن معين: ليس بشيء، وروى المروزي عن أحمد: ذلك ليس بمستقيم، ولم يرضه". وأجاب الحافظ على هذا الاعتراض في "الفتح" (10/ 54): "وهذا الذي قاله الشيخ خطأ، وإنما قال يحيى وأحمد ذلك في صدقة بن عبد الله السمين، وهو أقدم من صدقة بن خالد، وقد شاركه في كونه دمشقيًا، وفي الرواية عن بعض شيوخه، كزيد بن واقد، وأما صدقة بن خالد فقد قدمت قول أحمد فيه. وأما ابن معين فالمنقول عنه أنه قال: كان صدقة بن خالد أحب إلى أبي مسهر من الوليد بن مسلم، قال: وهو أحب إلي من يحيى بن حمزة، ونقل معاوية بن صالح عن ابن معين أن صدقة بن خالد ثقة". قلت - ابن حجر -: ولم ينفرد به صدقة، وإنما تابعه بشر بن بكر. كما تقدم (¬2) في المخطوط المزني. والصواب ما أثبتناه من "الفتح" (10/ 54).

الترديد كما سلف. قال المهلب: وذلك هو سبب كون البخاري لم يقل فيه حدثنا هشام (¬1). رابعها: أن الحديث مضطرب سندًا أو متنًا، أما الإسناد فللتردد في اسم الصحابي، ¬

(¬1) لقد سلف بيان أن جميع الطرق عن هشام بن عمار على الشك في اسم الصحابي، إلا عند ابن حبان رقم (6754) أخبرنا الحسين بن عبد الله القطان، قال: حدثنا هشام بن عمار، قال: حدثنا صدقة بن خالد، قال: حدثنا ابن جابر، قال: حدثنا عطية بن قيس، قال حدثنا عبد الرحمن بن غنم، قال: حدثنا أبو عامر وأبو مالك الأشعريان سمعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحرير والخمر والمعازف". وابن عساكر وقال: "كذا قال: وأبو مالك، وإنما هو: أو أبو مالك بالشك". وانظر: "فتح الباري" (10/ 54). ورواية الجماعة بالشك أولى وأصح. قال الألباني في "تحريم آلات الطرب" (ص 50): قول البخاري عقب حديث إبراهيم - وفيه شك الراوي في صحابي الحديث بقوله: "أبي مالك الأشعري أو أبي عامر". "إنما يعرف هذا عن أبي "مالك" - ثم ساق دليله، وهي رواية مالك بن أبي مريم عن ابن غنم عن أبي مالك بغير شك -. انظر: "التاريخ الكبير" (1/ 1/ 305). قال المحدث الألباني: ففيه إشعار لطيف بأن (مالك بن أبي مريم) معروف عنده؛ لأنه قدم روايته التي فيها الجزم بأن الصحابي هو (أبو مالك الأشعري) على رواية شيخه هشام بن عمار التي أخرجها في "صحيحه" كما تقدم، ورواية إبراهيم المذكورة آنفًا، وفي كل منهما الشك في اسم الصحابي، فلولا أن البخاري يرى أن مالك بن أبي مريم ثقة عنده لما قدم روايته على روايتي هشام وإبراهيم. فلعل هذا هو الذي لاحظه ابن القيم رحمه الله، حين قال في حديث مالك هذا: "إسناده صحيح" والله أعلم. ثم قال الألباني رحمه الله: وخلاصة الكلام في هذا الحديث: أن مداره على عبد الرحمن بن غنم، وهو ثقة اتفاقًا، رواه عنه قيس بن عطية الثقة، وإسناده إليه صحيح كما تقدم، وعلى مالك بن أبي مريم، وإبراهيم بن عبد الحميد، وهو ثقة، وثلاثتهم ذكروا "المعازف" في جملة المحرمات المقطوع بتحريمها، فمن أصر بعد ذلك على تضعيف الحديث فهو متكبر معاند ... "

فقيل أبو عامر، وقيل أبو مالك كما سلف، ورواه أحمد (¬1)، وابن أبي شيبة (¬2) من حديث أبي مالك بغير شك، ورواه أبو داود (¬3) من حديث أبي عامر، وأبي مالك، وهي رواية ابن داسة عن أبي داود، وفي رواية الرملي عنه بالشك. وفي رواية ابن حبان (¬4) أنه سمع أبا عامر، وأبا مالك الأشعريين. وأما اضطراب المتن ففي لفظ: تستحلون كما سلف، وفي طريق ذكرها البخاري في التاريخ (¬5) بدونه، وعند أحمد (¬6) وابن أبي شيبة (¬7) بلفظ: "ليشربن أناس من أمتي الخمر"، وفي رواية "الحر" بمهملتين وهو الفرج، وهو كذلك في معظم الروايات. ولم يذكر عياض ومن تبعه غيره. والمعنى يستحلون الزنا. وضبطه ابن التين (¬8) بالمعجمتين، وقال: هو عند البخاري كذلك، وكذا وقع في ¬

(¬1) في "المسند" رقم (5/ 342) (¬2) في "المصنف" (7/ 465 رقم 3810) (¬3) في "السنن" رقم (4039). قال في "عون المعبود" (11/ 58): هكذا بالشك في نسخ الكتاب وكذا المنذري. ثم ذكر كلام الشوكاني في رسالته "إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع". قلت: يخالف في هذا الحافظ ابن حجر في "الفتح" (10/ 54) و"التهذيب" (12/ 144) و"تغليق التعليق" (5/ 20) فيذهب إلى أن رواية بشر بن بكر عند أبي داود بغير شك، ويتعقب المزي في ذلك. وقول الحافظ مرجوح بدلائل، فرواية بشر بن بكر إذا موافقة لرواية هشام بن عمار، وأن الحديث محفوظ عن ابن جابر بالشك فهو حاصل إما منه أو ممن فوقه، والذي يبدو أنه ممن فوقه لمتابعة إبراهيم بن عبد الحميد لعطية بن قيس، فإنه فيها على الشك أيضًا. (¬4) في صحيحه رقم (6754). (¬5) (1/ 1\ 305) (¬6) في "المسند" (5/ 345) (¬7) في "المصنف" (7/ 465 رقم 3810) (¬8) ذكره الحافظ في "الفتح" (10/ 54 - 55).

رواية أبي داود (¬1). وقال ابن الأثير (¬2): المشهور في رواية هذا الحديث بالإعجام، وهو ضرب من الإبريسم. وخامس الوجوه: أن لفظة المعازف التي هي محل النزاع ليست عند أبي داود. وقد أجاب المحرمون عن هذه العلل بأجوبة أوردها المجوزون بردود لا نطيل بذكرها. هذا ما أجاب به المجوزون عن الحديث من حيث ثبوته، وأما من حيث دلالته فقالوا: لا نسلم دلالته على التحريم، وأسندوا هذا المنع بوجوه: أحدها: أن لفظة يستحلون ليست نصًا في التحريم؛ فقد ذكر أبو بكر بن العربي (¬3) لذلك معنيين: أحدهما: أن المعنى يعتقدون أن ذلك حلال. الثاني: أن يكون مجازًا عن الاسترسال في استعمال تلك الأمور. الثاني: أن المعازف تختلف في مدلولها، فقيل: هي اسم تجمع العود والطنبور وشبههما، وقيل: آلة لها أوتار كثيرة. وقال الجوهري في صحاحه (¬4) هي آلات اللهو، وقيل: أصوات الملاهي، وقيل: الغناء، وحكاه القرطبي (¬5) عن الجوهري، وليس في صحاحه، وقال ابن الأثير (¬6): عزيف الجن: جرس أصواتها، وإذا كان اللفظ محتملاً؛ لأن يكون لغير آلة، ولآلة مخصوصة، ولمطلق الآلات، فإما أن يكون مشتركًا بين الجميع، والأرجح عند الجمهور التوقف فيه ¬

(¬1) في "السنن" رقم (4039) (¬2) في "النهاية" (1/ 366) (¬3) ذكره الحافظ في "الفتح" (10/ 55) (¬4) (4/ 1403) (¬5) ذكره الحافظ في "الفتح" (10/ 55) (¬6) في "النهاية" (3/ 230)

فلا يحمل أحد معنييه إلا بقرينة، وإما أن يكون حقيقة [3] في أحدها، ولا نعرفه فيكون مجملاً، وعلى فرض صحة حمل المعازف على التفسير الدال على مدعى المحرمين، وهو آلات اللهو، أو أصوات الملاهي، فلا شك أن ذلك يعم الدف والمزمار الذي هو الشبابة، وهم يخصصون ذلك من عموم آلات اللهو أو أكثرها. وقد ذهب قوم من أهل الأصول إلى أن العام بعد التخصيص يصير مجملاً في الباقي، فلا يحتج به إلا بدليل (¬1)، وعند آخرين منهم يكون مجازًا فيه (¬2)، وعند آخرين لا يكون حجة (¬3)، ولا ينكر أحد أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قرر الضرب بالدف، وسمعه ولم ينكره، كما في صحيح البخاري (¬4) وغيره، ولعله يأتي بيانه، ويحتمل أن تكون المعازف المنصوص على تحريمها هي المقترنة بشرب الخمر كما ثبت في رواية (¬5) بلفظ: "ليشربن أناس من أمتي الخمر، تروح عليهم القيان وتغدو عليهم المعازف" ويحتمل أن يكون المراد يستحلون (¬6) مجموع الأمور المذكورة، فلا يدل على تحريم واحد منها على ¬

(¬1) انظر: "إرشاد الفحول" (ص 468)، "البحر المحيط" (3/ 270). (¬2) قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" (ص 462 - 463): اختلفوا في العام إذا خص هل يكون حقيقة في الباقي أم مجازًا؟ فذهب الأكثرون إلى أنه مجاز في الباقي مطلقًا سواء كان ذلك التخصيص بمتصل أو منفصل، وسواء كان بلفظ أو بغيره، واختاره البيضاوي وابن الحاجب والصفي الهندي، قال ابن برهان في "الأوسط": وهو المذهب الصحيح. وانظر مزيد تفصيل: "التبصرة" (ص 122)، "مختصر ابن الحاجب" (2/ 106) (¬3) انظر: "إرشاد الفحول" (ص 466 - 468) و"البحر المحيط" (3/ 269)، "التبصرة" (ص 187). (¬4) تقدم تخريجه (¬5) أخرجه ابن ماجه رقم (4020) وأبو داود رقم (3688) والبخاري في تاريخه (1/ 1\ 305) و (4/ 1\ 222) وابن حبان رقم (1384) والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 295) وأحمد في "مسنده" (5/ 342) والطبراني في "المعجم الكبير" (1/ 167\ 2). وهو حديث صحيح (¬6) قال ابن تيمية في كتاب "إبطال التحليل" (ص 20 - 21): "لعل الاستحلال المذكور في الحديث إنما هو بالتأويلات الفاسدة، فإنهم لو استحلوها مع اعتقاد أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرمها كانوا كفارًا. ولم يكونوا من أمته، ولو كانوا معترفين بأنها حرام لأوشك أن لا يعاقبوا بالمسخ كسائر الذين لم يزالوا يفعلون هذه المعاصي، ولما قيل فيهم: " يستحلون" فإن المستحل للشيء هو الذي يأخذه معتقدًا حله. فيشبه أن يكون استحلالهم الخمر، يعني أنهم يسمونها بغير اسمها كما في الحديث، فيشربون الأشربة المحرمة، ولا يسمونها خمرًا، واستحلالهم المعازف باعتقادهم أن آلات اللهو مجرد سمع صوت فيه لذة، وهذا لا يحرم كألحان الطيور، واستحلال الحرير وسائر أنواعه باعتقادهم أنه حلال للمقاتلة، وقد سمعوا أنه مباح لبسه عند القتال عند كثير من العلماء فقاسوا سائر أحوالهم على تلك! وهذه التأويلات واقعة في الطوائف الثلاثة التي قال فيها ابن المبارك رحمه الله تعالى: وهل أفسد الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها ومعلوم أنها لا تغني عن أصحابها من الله شيئًا بعد أن بلغ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين تحريم هذه الأشياء بيانا قاطعًا للعذر، كما هو معروف في مواضعه. وقال ابن القيم في "إغاثة اللهفان" (1/ 371 - 372). "أن المعازف هي آلات اللهو كلها، لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك. ولو كانت حلالاً لما ذمهم على استحلالها، ولما قرن استحلالها باستحلال الخمر والحر.

الانفراد، وقد تقرر أن النهي عن الأمور المتعددة، أو ترتيب الوعيد على مجموعها لا يدل على تحريم كل فرد منها، ومن أعظم الأدلة على ذلك قوله تعالى: {خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين} (¬1) ولا شك أن ترك الحض على طعام المسكين لا يوجب على انفراده ذلك الوعيد الشديد، وليس أيضًا بمحرم. واستدل المحرمون ثانيًا بما أخرجه ........................... ¬

(¬1) [الحاقة: 33 - 34]. قال المحدث الألباني رحمه الله ردا على كلام الشوكاني: "ويجاب بأن الاقتران لا يدل على أن المحرم هو الجمع فقط، وإلا لزم أن الزنا المصرح به في الحديث (يعني حديث البخاري ألا يحرم إلا عند شرب الخمر واستعمال المعازف) واللازم باطل بإجماع، فالملزوم مثله ... ".

الترمذي (¬1) عن الفرج بن فضالة، عن يحيى بن سعيد يرفعه: "إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء" فذكر منها اتخاذ القيان والمعازف. وأخرج (¬2) أيضًا بسند فيه رميح الجذامي يرفعه وفيه: وظهرت القيان والمعازف. والجواب عن الأول أن في إسناده الفرج بن فضالة عن يحيى بن سعيد، وقد تكلم (¬3) فيه أهل الحديث، وسئل الدارقطني (¬4) عن حديثه فقال: باطل، وقال أحمد بن ................ ¬

(¬1) في "السنن" رقم (2210). وأخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" رقم (5) وابن حبان في "المجروحين" (2/ 207) والخطيب في تاريخه (12/ 396) وابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص 233 - 234) و"العلل" (2/ 366 - 367) من طرق عن الفرج بن فضالة عن يحيى بن سعيد عن محمد بن علي عن أبيه به مرفوعًا، وقد أعل هذا الإسناد بعلتين: أ): قال الترمذي عقب الحديث: "هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث علي بن أبي طالب إلا من هذا الوجه، ولا نعلم أحدًا رواه عن يحيى بن سعيد الأنصاري غير الفرج بن فضالة، والفرج بن فضالة قد تكلم فيه بعض أهل الحديث، وضعفه من قبل حفظه، وقد رواه عنه وكيع وغير واحد من الأئمة". ب): الانقطاع بين يحيى بن سعيد ومحمد ابن الحنفية، أعله بذلك ابن حزم في رسالة الغناء له (ص 434) قال: "ويحيى بن سعيد لم يرو عن محمد ابن الحنفية كلمة ولا أدركه، وكذلك أعله بهذا العلائي في "جامع التحصيل" (ص 238) فقال: "محمد بن علي هو ابن الحنفية، وذلك مرسل .. . لأن يحيى بن سعيد الأنصاري لم يدركه". (¬2) في "السنن" رقم (2211) وهو حديث ضعيف. (¬3) قال البخاري: فرج بن فضالة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري منكر الحديث. وقال أبو حاتم: صدوق لا يحتج به. "الميزان" (3/ 343 - 345) (¬4) انظر سؤالات البرقاني (ص 619). وقال الخطيب في "تاريخه" (12/ 396): أخبرنا البرقاني قال: سألت الدارقطني عن الفرج بن فضالة؟ فقال: ضعيف. قلت: فحديثه عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن علي عن علي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا عملت أمتي خمس عشرة خصلة ... " الحديث قال: "هذا باطل" قلت: من جهة الفرج بن فضالة؟ قال: نعم".

حنبل: إذا روى عن الشاميين فليس به بأس، وأما عن يحيى بن سعيد فعنده مناكير. وقال مسلم (¬1): الفرج منكر الحديث. والجواب عن الثاني: بأن زميح الجذامي: مجهول الحال (¬2)، ولم يخرج له أحد من أهل الأمهات الست، وبأن الترمذي رواه من طرق (¬3)، وكلها متفقة على وجود المسخ في هذه الأمة. وقد ثبت في الصحيح (¬4) أن هذه الأمة لا مسخ فيها، وفيه نظر؛ لأن الجمع ممكن بأن يقال: المرفوع عن الأمة هو المسخ العام لا الخاص بقوم، أو قرية؛ فإن الأحاديث الكثيرة قد دلت على ذلك، وواقع ذلك في مواضع كما صرح به جماعة من ثقات أهل التاريخ. نعم يمكن الجواب عن الحديثين المذكورين بأن الوعيد المذكور مرتب على مجموع أشياء، فلا يلزم أن يترتب على أحدهما [4] كما سلف. واستدل المحرمون أيضًا بما أخرجه البيهقي (¬5) بلفظ: "إن ربي حرم الخمر والميسر، ¬

(¬1) في "الكنى" (ص 91) (¬2) "التقريب" (1/ 253 رقم 109) من الثالثة. أخرجه الترمذي رقم (2211) حدثنا علي بن حجر. حدثنا محمد بن يزيد الواسطي، عن المستلم بن سعيد، عن رميح الجذامي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... الحديث ... " وهو حديث ضعيف. (¬3) أخرجه الترمذي في "السنن" رقم (2212) حدثنا عباد بن يعقوب الكوفي، حدثنا عبد الله بن عبد القدوس، عن الأعمش، عن هلال بن يساف، عن عمران بن حصين، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف" فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله! ومتى ذلك؟ قال: "إذا ظهرت القينات والمعازف وشربت الخمور". وهو حديث حسن. (¬4) تقدم في بداية الرسالة. (¬5) في "السنن الكبرى" (10/ 222). من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إن الله عز وجل حرم الخمر، والميسر، والكوبة، والغيبراء، وكل مسكر حرام". وله عنه ثلاث طرق: الأولى: عن الوليد بن عبدة، ويقال عمرو بن الوليد بن عبدة به. أخرجه أبو داود رقم (3685) وأحمد (2/ 158، 170) وفي "الأشربة" رقم (207) والفسوي في "المعرفة" (2/ 519) وابن عبد البر في "التمهيد" (5/ 167). الثانية: عن ابن وهب: أخبرني ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة، عن أبي هريرة أو هبيرة العجلاني عن مولى لعبد الله بن عمرو، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج إليه ذات يوم وهم في المسجد فقال: إن ربي: "حرم علي الخمر، والميسر، والكوبة، والقنين". الكوبة: الطبل. أخرجه أحمد (2/ 172) والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 222) ورجال البيهقي ثقات. غير المولى فلم يعرفه الألباني ولعله أبو هبيرة وهو مجهول. كما في "تعجيل المنفعة". الثالثة: عن فرج بن فضالة، عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن رافع، عن أبيه، عن عبد الله بن عمر مرفوعًا بلفظ: "إن الله حرم على أمتي الخمر، والميسر، والمزرر، والكوبة، والقنين، وزادني صلاة الوتر". قال يزيد بن هارون: القنين: البرابط. أخرجه أحمد في "المسند" (2/ 165 - 167) وفي "الأشربة" (212، 214) والطبراني في "الكبير" (13 رقم 127) بسند ضعيف. وهو حديث حسن لغيره

والكوبة، والقنين" قالوا: والقنين هو العود. وأجيب بأن البيهقي (¬1) رواه من حديث عمرو بن العاص بإسناد فيه ابن لهيعة، وقد ضعفه غير واحد من الأئمة كما ذلك معروف، ورواه (¬2) عن قيس بن سعد بن عبادة بإسناد فيه عبيد الله بن .................. ¬

(¬1) في "السنن الكبرى" (10/ 222). (¬2) أي البيهقي في "السنن" رقم (10/ 222) حدثني الليث بن سعد وابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عمرو بن الوليد عن عبدة عن قيس بن سعد مرفوعًا، وزاد: " ... والغبيراء وكل مسكر حرام". ولعمرو بن الوليد متابع عن قيس، وهو بكر بن سوادة. أخرجه أحمد في "الأشربة" رقم (27) وابن أبي شيبة (8/ 197) والطبراني في "الكبير" (18/ 352) والبيهقي (10/ 222) من طريقين عن يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زحر عن بكر بن سوادة عن قيس به مرفوعًا وقال: " ... وإياكم والغبيراء فإنها ثلث خمر العالم". وهذا إسناد لين، لكنه لا بأس به في المتابعات، عبيد الله بن زحر صدوق فيه ضعيف.

زحر (¬1) وهو ضعيف أيضًا عند أهل الحديث، وأيضًا القنين مختلف فيه، فقيل (¬2) هو الطنبور بلسان الحبشة، وقيل لعبة يتقامرون بها. حكاه الزمخشري في كتاب الفائق (¬3) عن ابن الأعرابي. وفي تحريم المعازف وسائر الملاهي أحاديث مروية في غاية الكثرة، ولكنها متكلم عليها من أئمة الحديث، وبعضهم يجزم بوضعها، وما ذكرناه أصح ما روي وأحسنه. هذا الكلام في الغناء مع آلة من آلات اللهو، وأما مجرد الغناء من غير آلة فقد ذهب إلى تحليله جمهور العلماء، بل قال: الأدفوي في الإمتاع: إن الغزالي نقل في بعض تواليفه الفقهية الاتفاق على حله. ونقل ابن طاهر (¬4) إجماع الصحابة والتابعين عليه، ونقل التاج الفزاري، وابن قتيبة إجماع أهل الحرمين عليه، ونقل ابن طاهر، وابن قتيبة أيضًا إجماع أهل المدينة عليه، وقال الماوردي: لم يزل أهل الحجاز يرخصون فيه في أفضل أيام السنة المأمور فيه بالعبادة والذكر. وقال يونس بن عبد الأعلى: سألت الشافعي (¬5) عن إباحة أهل المدينة للسماع ¬

(¬1) قال الدارقطني: ليس بالقوي، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات وقال أبو زرعة: عبيد الله بن زحر صدوق. وقال النسائي: لا بأس به. "الميزان" (3/ 6 رقم 5359). (¬2) في "النهاية" لابن الأثير (4/ 116). (¬3) (3/ 284). (¬4) في "السماع" (ص 48) (¬5) قال الشافعي في "أدب القضاء" إن الغناء لهو مكروه، يشبه الباطل والمحال، ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته". انظر: "كشف الغطاء عن حكم الإسلام في الغناء" (ص 11) لابن القيم. قال ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص 227): وقد كان رؤساء أصحاب الشافعي رضي الله عنهم ينكرون السماع، وأما قدماؤهم فلا يعرف بينهم خلاف، وأما كبائر المتأخرين فعلى الإنكار منهم أبو الطيب الطبري وله في ذم الغناء والمنع منه كتاب مصنف - الرد على من يحب السماع - ثم قال ابن الجوزي (ص 229): فهذا قول علماء الشافعية وأهل التدين منهم، وإنما رخص في ذلك من متأخريهم من قل علمه وغلبه هواه. وقال الشافعي: وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته" انظر: "الرد على من يحب السماع" (ص 27 - 28) للشيخ طاهر الطبري.

فقال: لا أعلم أحدًا من أهل الحجاز كره السماع إلا ما كان منه في الأوصاف. قال ابن النحوي في العمدة: وقد روي الغناء وسماعه عن جماعة من الصحابة، وكذا روي سماعه، والقول بجوازه عن جماعة منهم من التابعين، فمن الصحابة عمر كما رواه ابن عبد البر (¬1) وغيره ..................... ¬

(¬1) كما في كتاب "السماع" (ص 42) عن يحيى بن عبد الرحمن قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب في الحج الأكبر حتى إذا كان عمر بالروحاء كلم الناس رياح بن المعتمر وكان حسن الصوت بغناء الأعراب، فقالوا: أسمعنا، وقصر عنا الطريق فقال إني أفرق من عمر، قال فكلم القوم عمر: إنا كلمنا رياحًا يسمعنا ويقصر عنا المسير فأبى إلا أن تأذن له، فقال له: يا رياح أسمعهم وقصر عنهم المسير، فإذا أسحرت فارفع واحدهم من شعر ضرار بن الخطاب، فرع عقيرته يتغنى وهم محرمون. وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" رقم (10/ 224) عن السائب بن يزيد بنحوه بإسناد جيد. قال الألباني في "تحريم آلات الطرب" (ص 129): وفي هذه الأحاديث والآثار دلالة ظاهرة على جواز الغناء بدون آلة في بعض المناسبات، كالتذكير بالموت أو الشوق إلى الأهل والوطن، أو للترويح عن النفس، والالتهاء عن وعثاء السفر ومشاقه ونحو ذلك، مما لا يتخذ مهنة، ولا يخرج به عن حد الاعتدال، فلا يقترن به الاضطراب والتثني والضرب بالرجل مما يخل بالمروءة كما في حديث أم علقمة مولاة عائشة: أن بنات أخي عائشة رضي الله عنها خفضن فألمن ذلك، فقيل لعائشة يا أم المؤمنين: إلا ندعو لهن من يلهيهن؟ قالت: بلى، قالت: فأرسلت إلى فلان المغني، فأتاهم، فمرت به عائشة رضي الله عنها في البيت فرأته يتغنى ويحرك رأسه طربًا، وكان ذا شعر كثير، فقالت عائشة رضي الله عنها: "أف! شيطان أخرجوه أخرجوه" فأخرجوه. أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 223 - 224) والبخاري مختصرًا في "الأدب المفرد" رقم (1247) بسند حسن. وصححه ابن رجب في "نزهة الأسماع" (ص 61).

وعثمان (¬1) كما نقله الماوردي (¬2) وصاحب البيان (¬3)، وحكاه الرافعي، وعبد الرحمن بن عوف كما رواه ابن أبي شيبة (¬4) وأبو عبيدة بن الجراح كما أخرجه البيهقي (¬5)، وسعد بن أبي وقاص كما أخرجه ابن قتيبة، وأبو مسعود الأنصاري كما أخرجه البيهقي (¬6)، وبلال وعبد الله بن الأرقم، وأسامة بن زيد كما أخرجه البيهقي (¬7) أيضاً، وحمزة كما في الصحيح (¬8)، وابن عمر كما أخرجه ابن طاهر (¬9)، والبراء بن مالك كما أخرجه أبو نعيم (¬10)، وعبد الله بن جعفر كما رواه ابن عبد البر (¬11) وغيره، وعبد الله بن الزبير كما ¬

(¬1) عزاه إليه الماوردي في "الحاوي" (21/ 203 - 205). قال عمر رضي الله عنه: "الغناء زاد المسافر" أخرجه البيهقي (5/ 68). وأخرج البيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 68): كان لعثمان جاريتان تغنيان في الليل، فإذا جاء وقت السحر قال: أمسكا فهذا وقت الاستغفار وقام إلى صلاته. قال ابن تيمية في "الاستقامة" (1/ 281): وقد روي عن ابن عمر آثار في إباحته للسماع ... ". أما النقل عن ابن عمر فباطل، بل المحفوظ عن ابن عمر ذمه للغناء ونهيه عنه وكذلك سائر أئمة الصحابة ... ". وانظر: "كشف الغطاء عن حكم سماع الغناء" لابن قيم الجوزية (ص 195) (¬2) في "الحاوي" (21/ 204). (¬3) "البيان في مذهب الإمام الشافعي" للعمراني (13/ 292 - 294) (¬4) في "المصنف" (4/ 192) (¬5) في "السنن الكبرى" رقم (10/ 224 - 225) (¬6) في "السنن الكبرى" رقم (10/ 225) (¬7) في "السنن الكبرى" رقم (10/ 225). (¬8) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1/ 1979) من حديث علي بن أبي طالب (¬9) في كتاب "السماع" (ص 44). (¬10) في "معرفة الصحابة" (3/ 64 - 65) وانظر "تلبيس إبليس" (ص 294). (¬11) الاستيعاب (2/ 300 - 301).

نقله أبو طالب المكي (¬1)، وحسان كما رواه أبو الفرج الأصبهاني (¬2)، وعبد الله بن عمر وكما رواه الزبير بن بكار (¬3)، وقرظة بن كعب كما رواه ابن قتيبة (¬4)، وخوان بن جبير (¬5)، ورباح المعترق كما أخرجه صاحب الأغاني، والمغيرة بن شعبة كما حكاه أبو طالب المكي، وعمرو بن العاص كما حكاه الماوردي (¬6)، وعائشة (¬7) ........................ ¬

(¬1) في "قوت القلوب" كما في "الاستقامة" (1/ 229). (¬2) انظر: "إيضاح الدلالات في سماع الآلات" (ص 79) (¬3) ذكره ابن حجر في "الإصابة" (3/ 393) وابن عبد البر في "الاستيعاب" (2/ 300). (¬4) ذكره ابن حجر في "الإصابة" (3/ 393) وابن عبد البر في "الاستيعاب" (2/ 300) (¬5) انظر: كتاب "السماع" لابن طاهر (ص 44 - 45) (¬6) في "الحاوي" (21/ 204). (¬7) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (949) وأطرافه (952، 987، 3907، 3530، 3931) عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعندي جاريتان تغنيان بغناء يعاث، فاضطجع على الفراش وحول وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فأقبل عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "دعهما" فلما غفل غمزتهما فخرجتا. وفي رواية دخل علي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعندي جاريتان (من جواري الأنصار) وفي رواية (قينتان) (في أيام منى، تدففان وتضربان) تغنيان بغناء. وفي رواية: بما تقاولت وفي أخرى (تقاذفت) الأنصار يوم بعاث وليستا بمغنيتين) فاضطجع على الفراش وحول وجهه، ودخل أبو بكر [والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متغش بثوبه] فانتهرني. وفي رواية: فانتهرهما، وقال: مزمارة، وفي رواية مزمار الشيطان عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي رواية أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [مرتين]؟!. فأقبل عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي رواية: فكشف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجهه فقال: "دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدًا وهذا عيدنا" فلما غفل غمزتهما فخرجتا. قال ابن حجر في "الفتح" (2/ 442): 1 - ): قوله: فانتهرهما: أي الجاريتين ويجمع بأنه شرك بينهن في الانتهار والزجر، أما عائشة فلتقريرها، وأما الجاريتان فلفعلهما. 2 - ): قوله: مزمارة الشيطان بكسر الميم يعني الغناء أو الدف لأن المزمارة أو المزمار مشتق من الزمير وهو الصوت الذي له الصفير، ويطلق على الصوت الحسن وعلى الغناء. وسميت به الآلة المعروفة التي يزمر بها. وإضافتها إلى الشيطان من جهة أنها تلهي، فقد تشغل القلب عن الذكر. 3 - ): قوله دعهما: إيضاح خلاف ما ظنه الصديق من أنهما فعلتا ذلك بغير علمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكونه دخل فوجده معطى بثوبه فظنه نائمًا فتوجه له الإنكار على ابنته من هذه الأوجه مستصحبًا لما تقرر عنده من منع الغناء واللهو. فبادر إلى إنكار ذلك قيامًا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك مستندًا إلى ما ظهر له فأوضح له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعرفه الحكم مقرونًا ببيان الحكمة بأنه يوم عيد. أي يوم سرور شرعي. فلا ينكر فيه مثل هذا كما لا ينكر في الأعراس. وبهذا يرتفع الإشكال عمن قال: كيف ساغ للصديق إنكار شيء أمره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتكلف جوابًا لا يخفى تعسفه. 4 - ): استدل جماعة من الصوفية بحديث الباب - رقم (949) - على إباحة الغناء وسماعه بآلة وبغير آلة. ويكفي في رد ذلك تصريح عائشة في الحديث رقم (952) بقولها: "وليستا بمغنيتين" فنفت عنهما من طريق المعنى ما أثبته لهما باللفظ، لأن الغناء يطلق على رفع الصوت وعلى الترنم الذي تسميه العرب النصب بفتح النون وسكون المهملة وعل الحداء. ولا يسمى فاعله مغنيًا وإنما يسمى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير وتهييج وتشويق بما فيه تعريض بالفواحش أو تصريح. قال القرطبي في "المفهم" (2/ 534): قولها: وليستا بمغنيتين أي: ليستا ممن يعرف الغناء كما تعرفه المغنيات المعروفات بذلك. وهذا منها تحرز من الغناء المعتاد عند المشتهرين به، الذي يحرك النفوس، ويبعثها على الهوى والغزل والمجون، الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن، وهذا النوع إذا كان في شعر يشبب فيه بذكر النساء، ووصف محاسنهن وذكر الخمور، والمحرمات. لا يختلف في تحريمه، لأنه اللهو واللعب المذموم بالاتفاق. فأما ما يسلم من تلك المحرمات فيجوز القليل منه وفي أوقات الفرح: كالعرس، والعيد، وعند التنشيط على الأعمال الشاقة، ثم قال: وأما ما أبدعه الصوفية اليوم من الإدمان على سماع المغاني بالآلات المطربة، فمن قبيل ما لا يختلف في تحريمه، لكن النفوس الشهوانية والأغراض الشيطانية على كثير ممن ينسب إلى الخير وشهر بذكره حتى عموا عن تحريم ذلك وعن فحشه، حتى قد ظهرت من كثير منهم عورات المجان والمحانيث والصبيان فيرقصون ويزفنون بحركات مطابقة، وتقطيعات متلاحقة كما يفعل أهل السفه والمجون. وقد انتهى التواقح بأقوام منهم إلى أن يقولوا: إن تلك الأمور من أبواب القرب وصالحات الأعمال وأن ذلك يثمر صفاء الأوقات وسيئات الأحوال، وهذا على التحقيق من آثار الزندقة وقول أهل البطالة والمخرقة. قال الحافظ في "الفتح" (2/ 443) ولا يلزم من إباحة الضرب بالدف في العرس ونحو إباحة غيره من الآلات كالعود ونحوه. قال القرطبي في "المفهم" (2/ 535): فأما الغناء بآلة فيمنع وبغير آلة اختلف الناس فيه: فمنعه أبو حنيفة وكرهه الشافعي ومالك وحكى أصحاب الشافعي عن مالك: أن مذهبه الإجازة من غير كراهة. قال القاضي: المعروف من مذهب مالك المنع لا الإجازة. قال ابن القيم في "إغاثة اللهفان" (1/ 257): "فلم ينكر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أبي بكر تسميته الغناء (مزمار الشيطان)، وأقرهما لأنهما جاريتان غير مكلفتين، تغنيان بغناء الأعراب الذي قيل في يوم حرب بعاث من الشجاعة والحرب وكان اليوم يوم عيد". قال أبو الطيب الطبري كما ذكره ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص 223 - 224): "هذا الحديث حجتنا لأن أبا بكر سمى ذلك مزمور الشيطان، ولم ينكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أبي بكر قوله وإنما منعه من التغليظ في الإنكار لحسن رفعته لا سيما في يوم العيد. وقد كانت عائشة رضي الله عنها صغيرة في ذلك الوقت ولم ينقل عنها بعد بلوغها وتحصيلها إلا ذم الغناء وقد كان ابن أخيها القاسم بن محمد يذم الغناء ويمنع من سماعه وقد أخذ العلم عنها"

والربيع (¬1) كما في صحيح البخاري وغيره. وأما التابعون فسعيد بن المسيب، وسالم بن عمرو بن حسان، وخارجة بن زيد وشريح القاضي، وسعيد بن جبير، وعامر الشعبي، وعبد الله بن أبي عتيق، وعطاء بن أبي رباح، ومحمد بن شهاب الزهري [5]، وعمر بن عبد العزيز، وسعد بن إبراهيم الزهري قاضي المدينة. وأما تابعوهم فخلق لا يحصون: منهم الأئمة الأربعة، وابن عيينة وجمهور الشافعية (¬2). انتهى كلام ابن النحوي. واختلف هؤلاء المجوزون. فمنهم من قال بكراهته، قال الماوردي (¬3) كرهه .... ¬

(¬1) تقدم تخريجه (¬2) تقدم ذكره. وانظر: "الحاوي" (21/ 203) (¬3) في "الحاوي" (21/ 203)

مالك (¬1)، وأبو حنيفة (¬2)، والشافعي (¬3) في أصح ما نقل عنهم. قال الأدفوي: ولا نص لأبي حنيفة، وأحمد على التحريم، ونقل عنهما أنهما سمعاه. ومنهم من قال باستحبابه لكونه يرق القلب، ويهيج الأحزان والشوق إلى الله تعالى، وإلى ذلك ذهب جماعة من الأكابر كالقشيري، والأستاذ أبي منصور، والغزالي (¬4)، وابن عبد السلام، والسهروردي (¬5)، وابن دقيق العيد، وجمع من الصوفية (¬6) كأبي طالب وحكاه عن الجنيد. وجرى عليه ابن حزم (¬7) وغيره، وقال الأكثر بإباحته. قال الأدفوي وجزم به صاحب البدائع من الحنفية، قال صاحب الهداية (¬8) من الحنفية: وبه أخذ شمس الأئمة السرخسي (¬9). وقد أطبق على إباحة الغناء الظاهرية (¬10)، وجماعة ........... ¬

(¬1) أما الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه نهى عن الغناء وعن استماعه، فقال: "إذا اشترى جارية مغنية كان له ردها بالعيب" وهو مذهب أهل المدينة إلا إبراهيم بن سعد وحده، فإنه قال: حكى أبو يحيى الصاحبي في كتابه أنه كان لا يرى به بأسًا. انظر: "الرد على من يحب السماع" (ص 29 - 30). "إغاثة اللهفان" (1/ 245). (¬2) قال صاحب "البناية" (8/ 172) ولا تقبل شهادة مخنث ... ولا نائحة ولا مغنية لأنهما ترتكبان محرمًا ... ولا من يغني للناس، لأنه يجمع الناس على ارتكاب كبيرة. قال الطبري في "الرد على من يحب السماع" (ص 31): وأما الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - فإنه يكره ذلك مع إباحته شرب المثلث ويجعل سماع الغناء من الذنوب. وكذلك مذهب سائر أهل الكوفة، وسفيان الثوري، وحماد، وإبراهيم النخعي، والشعبي، وغيرهم، لا اختلاف بينهم في ذلك ... " (¬3) تقدم ذكره. وانظر: "الحاوي" (21/ 203) (¬4) انظر: "الإحياء" (2/ 285) وللأخ علي حسن كتاب بعنوان (كتاب إحياء علوم الدين في ميزان العلماء) فانظره فإنه مفيد في بابه. (¬5) انظر كتاب: "عوارف المعارف" (5/ 118 - 119) (¬6) انظر: "الإحياء" (2/ 285) وللأخ علي حسن كتاب بعنوان (كتاب إحياء علوم الدين في ميزان العلماء) فانظره فإنه مفيد في بابه. (¬7) انظر: "المحلى" (9/ 59) (¬8) انظر: "البناية في شرح الهداية" (8/ 177). (¬9) في "المبسوط" (16/ 132). (¬10) "المحلى" (9/ 59 - 61)

الصوفية (¬1)، ونصره الغزالي في الإحياء (¬2)، وأوضح أدلته، وأجاب عن أدلة المحرمين. وقال أبو الفتوح في الإلماع (¬3) في تكفير من يحرم السماع: الأحاديث في إباحة الدف والغناء، أحاديث مشهورة. فمن أنكرها فسق، فإن رجح قول أبي حنيفة على فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كفر بالاتفاق انتهى. ومن جملة ما استدل به على الجواز ما أخرجه البخاري في صحيحه (¬4)، وأبو داود (¬5) والترمذي (¬6) عن الربيع بنت معوذ أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - دخل عليهم صبيحة عرسها، وعندهم جاريتان تغنيان: وتقولان فيما يقولان: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال: "أما هذا فلا تقولاه، لا يعلم ما في غد إلا الله" وفي رواية للبخاري (¬7) "دعي هذا وقولي الذي كنت تقولين" وللحديث ألفاظ. وفي الصحيحين (¬8) وسنن النسائي (¬9) عن عائشة قالت: دخل عليها أبو بكر في يوم فطر أو أضحى، وعندها قينتان تغنيان بما تقاولته الأنصار يوم بعاث والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مغشى بثوبه، فانتهرهما أبو بكر، فكشف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عن وجهه وقال له: دعهما يا أبا بكر؛ فإن لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا. وأخرج النسائي في سننه (¬10) بإسناد صحيح، والطبراني في الكبير (¬11) أن امرأة جاءت ¬

(¬1) انظر: "إحياء علوم الدين" (2/ 285) (¬2) انظر: "إحياء علوم الدين" (2/ 285) (¬3) (ص 71) (¬4) في صحيحه رقم (4001، 5147) (¬5) في "السنن" رقم (4922) (¬6) في "السنن" رقم (1090) (¬7) في صحيحه رقم (4001) وقد تقدم (¬8) البخاري في صحيحه رقم (52) ومسلم رقم (892) تقدم توضيحه (¬9) في "السنن" رقم (3/ 196 - 197) (¬10) في "السنن الكبرى" رقم (5/ 310). وفي "عشرة النساء" رقم (74). (¬11) (7/ 158). قلت: وأخرجه أحمد (3/ 449) بسند صحيح.

إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقال لعائشة: "أتعرفين هذه؟ " قالت: لا يا نبي الله، فقال: "هذه قينة بني فلان، أتحبين أن تغنيك؟ قالت: نعم، فغنتها". وأخرج ابن ماجه (¬1) بسند رجاله ثقات عن أنس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مر في أزقة بعض المدينة بجوار من بني النجار يضربن بدفوفهن ويقلن: نحن جوار من بني النجار ... يا حبذا محمد من جار فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "الله يعلم أني لأحبكن". وأخرج أبو داود (¬2) والترمذي (¬3) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لما رجع من بعض مغازيه جاءته امرأة فقالت: يا نبي الله، إن نذرت إن ردك الله سالما [6] أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى، فقال: "أوف بنذرك" قال الترمذي (¬4) هذا حديث حسن صحيح، ورواه ابن حبان في صحيحه (¬5)، وفيه فقعد عليه السلام، وضربت الدف. وفي بعض الروايات (¬6) أنها غنت بقولها: ¬

(¬1) في "السنن" رقم (1899) وهو حديث صحيح. (¬2) في "السنن" رقم (3312) بإسناد حسن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. (¬3) في "السنن" رقم (3690) من حديث بريدة. وهو حديث صحيح انفرد به الترمذي. (¬4) في "السنن" رقم (5/ 621) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث بريدة. (¬5) في صحيحه رقم (10/ 232 رقم 4386). وهو حديث صحيح. قال الخطابي في "معالم السنن" (4/ 382) مع مختصر السنن: ضرب الدف ليس مما يعد في باب الطاعات التي يتعلق بها النذور وأحسن حاله أن يكون من باب المباح، غير أنه لما اتصل بإظهار الفرح بسلامة مقدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قدم المدينة من بعض غزواته وكانت فيه مساءة الكفار وإرغام المنافقين صار فعله كبعض القرب من نوافل الطاعات ولهذا أبيح ضرب الدف". قال الألباني في "تحريم آلات الطرب" (ص 125): ففيه إشارة قوية إلى أن القصة خاصة بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهي حادثة عين لا عموم لها كما يقول الفقهاء في مثيلاتها، والله سبحانه وتعالى أعلم. (¬6) وقال الألباني "وهذه زيادة باطلة هنا، وضعيفة في قصة قدومه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة، وإسنادها معضل، وليس فيها بيان هل كان قدومه من تبوك كما ساقها ابن القيم في "مسألة السماع" (ص 265 - 266). انظر: "الصحيحة" (5/ 331) و"الضعيفة" (2/ 63).

طلع البدرعلينا ... من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داعي (¬1) وفي الباب عن عبد الله بن عمرو عند أبي داود (¬2)، وعن عائشة عند الفاكهي في تاريخ مكة (¬3) بسند صحيح. وأخرج النسائي (¬4) والحاكم (¬5) وقال: صحيح على شرط الشيخين. عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، قال: دخلت على ابن مسعود الأنصاري، وقرظة بن كعب، وثابت بن زيد، وعندهم جوار يغنين بدفوف لهن، فقلت: أتفعلون هذا وأنتم أصحاب محمد! فقالوا: نعم، رخص لنا في ذلك. وأخرج هذا الحديث أيضًا الدارقطني (¬6) وألزم الشيخين إخراجه. ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة. (¬2) في "السنن" رقم (3312) بإسناد حسن. (¬3) عزاه إليه الحافظ في "التلخيص" (4/ 371). (¬4) في "السنن" (6/ 135) (¬5) في "المستدرك" (2/ 184). (¬6) في "الإلزامات والتتبع" (ص 92). هذا الحديث يرويه أبو إسحاق السبيعي، عن عامر بن سعد به، واختلف عليه فيه. فرواه شريك القاضي، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد قال: دخلت على قرظة بن كعب، وأبي مسعود، وثابت بن زيد. ورواه عن شريك بهذه الكيفية: ابن أبي زائدة، ويحيى الحماني، ويحيى بن صبيح وعلي بن عابس. "المعرفة" (3/ 240 - 241) لأبي نعيم. "الموضح" للخطيب (2/ 11 - 12). وثابت بن زيد: اختلف في اسمه على أوجه. انظر: "معجم الصحابة" (1/ 131) لابن قانع. ورواه كل من: علي بن حجر، وأبو غسان، والهيثم بن جميل عن شريك، عن أبي إسحاق عن عامر بن سعد، به، ولكنهم لم يذكروا "ثابت بن زيد". أخرجه النسائي في "السنن" رقم (6/ 135) والطبراني في "المعجم الكبير" (17/ 248) (19/ 39) مختصرًا. والحاكم في "المستدرك" (2/ 184) ولعل هذا من شريك، فإنه كان سيئ الحفظ كما هو معروف، وزد على هذا أنه خولف، فرواه إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، واختلف عنه: فرواه عبد الله بن رجاء، عنه، عن أبي إسحاق عن عامر، به، وذكر فيه "أبي بن كعب" بدلاً من "قرظة بن كعب". أخرجه الطبراني في "الكبير" (7/ 247) والحاكم في "المستدرك" (1/ 102) من طريق يحيى الحماني عن إسرائيل، عن عثمان بن أبي زرعة، عن عامر بن سعد به، وخالفهما شعبة - ولعل هذا هو المحفوظ - فرواه عن أبي إسحاق، عن عامر قال: شهدت ثابت بن وديعة، وقرظة بن كعب الأنصاري في عرس ... الحديث. هكذا بدون ذكر لـ (أبي مسعود) في الحديث. أخرجه الطيالسي في "مسنده" (ص 169) والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 289) والحاكم (2/ 184) وصححه.

وأخرج الحاكم في المستدرك (¬1)، والترمذي (¬2)، وابن ماجه (¬3) أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "فضل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت" يعني في النكاح. صححه الحاكم (¬4)، وألزم الدارقطني (¬5) الشيخين إخراجه. وفي البخاري (¬6) من حديث عائشة قالت: زففنا امرأة لرجل من الأنصار، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "أما كان معكم لهو؛ فإن الأنصار تحب اللهو" وأخرج عبد الرزاق (¬7) بسند صحيح عن ابن عمران أن داود عليه السلام كان يأخذ المعزفة، فيضرب بها فيقرأ عليها، ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لما سمع أبا موسى يقرأ: "لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير آل داود" كما في المتفق عليه (¬8) من حديثه. ¬

(¬1) (2/ 184). (¬2) في "السنن" رقم (1088). (¬3) في "السنن" رقم (1896). قلت: وأخرجه أحمد (3/ 418) من طرق عن هشيم، عن أبي بلج، عن محمد بن حاطب، به. وهو حديث حسن. (¬4) في "المستدرك" (2/ 184). (¬5) في "الإلزامات والتتبع" (ص 70) (¬6) في صحيحه رقم (5162) (¬7) في "المصنف" (2/ 481). (¬8) أخرجه البخاري رقم (5048) ومسلم رقم (793)

والأحاديث في هذا الباب كثيرة. وقد قيل أنها متواترة، وبها استدل من قال بجواز الضرب بالدف، وهو مروي عن الجمهور، بل قال ابن طاهر (¬1) إنه سنة مطلقا لحديث المرأة الناذرة، ولا يصح النذر إلا في قربة. وعن الإمام أحمد (¬2) أنه سنة في العرس والختان، وشذ من قال بتحريمه. وقيل بكراهته في غيرهما. وأما ما روي عن ابن الصلاح (¬3) أنه قال: إن اجتماع الدف والشبابة لم يقل ¬

(¬1) في كتاب "السماع" (ص 51). (¬2) ذكره ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص 293). وقال ابن رجب في "نزهة الأسماع" (ص 69 - 70) قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى الطباع قال: سألت مالك بن أنس عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال: "إنما يفعله عندنا الفساق". انظر: "المدونة" (4/ 421)، "مسائل عبد الله" رقم (449). وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل سمعت أبي يقول: سمعت يحيى القطعان يقول: "لو أن رجلاً عمل بكل رخصة بقول أهل الكوفة في النبيذ وأهل المدينة في السماع وأهل مكة في المتعة لكان فاسقًا". "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" (ص 17) للخلال. "مسائل عبد الله" رقم (449). (¬3) في "فتاوى ومسائل ابن الصلاح" (2/ 499) مسألة رقم (488). أقوام يقولون: إن سماع الغناء بالدف والشبابة حلال، وإن صدر الغناء والشبابة من أمرد دلق حسن الصوت كان ذلك نور على نور وذلك يحضرهم النساء الأجنبيات ... ثم يتفرقون عن السماع بالرقص والتصفيق ويعتقدون أن ذلك حلال وقربة يتوصلون بها إلى الله تعالى.". فأجاب ابن الصلاح: ليعلم أن هؤلاء من إخوان أهل الإباحة الذين هم أفسد فرق الضلالة ... ولقد كذبوا على الله سبحانه وتعالى وعلى عباده الذين اصطفى، أحبولة نصبوها من حبائل الشيطان خداعًا، وأعجوبة من حوادث الزمان جلبوها خداعًا للعوام. ثم قال (ص 500): وأما إباحة هذا السماع وتحليله فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعت فاستماع ذلك حرام عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين، ولم يثبت عن أحد ممن يعتد بقوله في الإجماع والاختلاف أنه أباح هذا السماع والحلال المنقول عن بعض أصحاب الشافعي إنما نقل في الشبابة منفردًا والدف منفردًا ... ". وانظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 228).

بجوازه أحد، وأن من قال بإباحة المفردات لم يقل بإباحتها مجتمعة. فقد رد ذلك عليه جماعة من المحققين كالتاج السبكي وغيره. وقال الأدفوي: نظرت في نحو مائة مصنف، لم أجد ما ذكره لأحد، وأطال الكلام معه. وقد احتج المحرمون للغناء بأدلة منها قوله تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} (¬1) وفي الآية الوعيد على ذلك، ولا يكون إلا على حرام. ولهو الحديث. قال ابن مسعود: هو الغناء، وأشباهه، وأجيب (¬2) عن ذلك بأن ذلك فيمن فعله ليضل عن سبيل الله، كما يشهد لذلك السبب، وقد سمى الله الحياة الدنيا لعبًا ولهوًا فقال: {إنما الحياة الدنيا لعب ولهو} (¬3)؛ فلو كان اللهو محرمًا لكان جميع ما في الدنيا كذلك. وأخرج الفريابي (¬4)، وعبد [بن] حميد (¬5) عن محمد بن الحنفية قال في قوله تعالى: ¬

(¬1) [لقمان: 6]. أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 223) وابن أبي شيبة (6/ 309) والحاكم (2/ 411) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي وقال: حميد هو ابن زياد صالح الحديث. وأخرجه ابن جرير الطبري في "جامع البيان" (11\ جـ 21/ 61)، وابن كثير في تفسيره (6/ 331) وهو أثر صحيح. (¬2) قال الواحدي في تفسيره "الوسيط" (3/ 441): "أكثر المفسرين على أن المراد بـ {لهو الحديث} الغناء، قال أهل المعاني ويدخل في هذا كل من اختار اللهو والغناء والمزامير والمعازف على القرآن، وإن كان اللفظ ورد بـ (الاشتراء) لأن هذا اللفظ يذكر بالاستبدال والاختيار كثيرًا. (¬3) [محمد: 36] (¬4) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (6/ 283)، وابن كثير في تفسيره (6/ 130). وأخرجه ابن جرير الطبري في "جامع البيان" (11/ 48) عن مجاهد في قوله: {والذين لا يشهدون الزور} قال: لا يسمعون الغناء. ثم قال: وأصل الزور تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته، حتى يخيل إلى من يسمعه أو يراه أنه خلاف ما هو به، والشرك قد يدخل في ذلك، لأنه محسن لأهله، حتى قد ظنوا أنه حق، وهو باطل ويدخل فيه الغناء لأنه أيضًا مما يحسنه ترجيع الصوت، حتى يستحل سامعه سماعه، والكذب يدخل فيه لتحسين صاحبه إياه، حتى يظن صاحبه أنه الحق، فكل ذلك مما يدخل في معنى الزور ... ". (¬5) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (6/ 283)، وابن كثير في تفسيره (6/ 130). وأخرجه ابن جرير الطبري في "جامع البيان" (11/ 48) عن مجاهد في قوله: {والذين لا يشهدون الزور} قال: لا يسمعون الغناء. ثم قال: وأصل الزور تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته، حتى يخيل إلى من يسمعه أو يراه أنه خلاف ما هو به، والشرك قد يدخل في ذلك، لأنه محسن لأهله، حتى قد ظنوا أنه حق، وهو باطل ويدخل فيه الغناء لأنه أيضًا مما يحسنه ترجيع الصوت، حتى يستحل سامعه سماعه، والكذب يدخل فيه لتحسين صاحبه إياه، حتى يظن صاحبه أنه الحق، فكل ذلك مما يدخل في معنى الزور ... ".

{والذين لا يشهدون الزور} (¬1) هو الغناء واللهو. وأخرج نحو ذلك عبد بن حميد (¬2) عن أبي الجحاف. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم (¬3) عن الحسن، ومن ذلك حديث النهي عن بيع المغنيات، وعن شرائهن، وعن كسبهن، وأكل أثمانهن كما أخرجه [7] الترمذي (¬4) وابن ماجه (¬5)، وسعيد بن منصور (¬6) من حديث أبي أمامة، وأخرجه أبو الطيب الطبري (¬7) من حديث عائشة. وأخرج الطبراني (¬8) من حديث عمر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "ثمن ¬

(¬1) [الفرقان: 72]. (¬2) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (6/ 283) وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره رقم (15450). (¬3) في تفسيره رقم (15462). (¬4) في "السنن" رقم (1282، 3195) من حديث أبي أمامة. قال الترمذي عقب الحديث رقم (1282) حديث أبي أمامة، إنما نعرفه مثل هذا من هذا الوجه، وقد تكلم بعض أهل العلم في علي بن يزيد وضعفه وهو شامي. وقال الترمذي عقب الحديث رقم (3195): هذا حديث غريب إنما يروى من حديث القاسم عن أبي أمامة، والقاسم ثقة، وعلي بن يزيد يضعف في الحديث. قال: سمعت محمدًا - البخاري - يقول: القاسم ثقة وعلي بن يزيد يضعف. قلت: علي بن يزيد قد توبع. وعبيد الله بن زجر قواه أحمد بن صالح وأبو زرعة والنسائي والبخاري. "الميزان" (3/ 6 - 7 رقم 5359). والقاسم صدوق. (¬5) في "السنن" رقم (2168). وهو حديث حسن. (¬6) لم أجده. (¬7) لم أجده. (¬8) في "المعجم الكبير" (1/ 73 رقم 87) عن عمر بن الخطاب قال: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ثمن القينة سحت ومن نبت لحمه على السحت فالنار أولى به". وأورده الهيثمي في "المجمع" (4/ 91) وفيه يزيد بن عبد الملك النوفلي وهو متروك ضعفه جمهور الأئمة ونقل عن ابن معين في رواية لا بأس به وضعفه في أخرى. انظر: "الميزان" (4/ 433 - 434 رقم 9726). قال النسائي: متروك. قال أحمد: عنده مناكير. وقال أبو زرعة: ضعيف وقال ابن عدي عامة ما يرويه غير محفوظ. وهو حديث ضعيف. انظر: "الضعيفة" رقم (3458).

القينة وغناؤها حرام، وأخرج البيهقي (¬1) عن أبي هريرة يرفعه: "لا تبيعوا المغنيات ولا تشروهن، ولا تعلموهن، ولا خير في تجارة فيهن، وثمنهن حرام" وأخرج ابن صصري في أماليه (¬2)، وابن عساكر في تاريخه (¬3) أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "من قعد إلى قينة يستمع منها صب في إذنه الآنك يوم القيامة". وأخرج الحميدي في مسنده (¬4) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يحل ثمن المغنية، ولا بيعها، ولا شراؤها، ولا الاستماع إليها" وأخرج الديلمي (¬5) عن ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "ثلاثة لا حرمة لهم: النائحة لا حرمة لها، ملعون كسبها، والمغنية لا حرمة لها ممحوق مالها، ملعون من اتخذها، وآكل الربا لا حرمة له، ممحوق ماله". وأخرج ابن أبي الدنيا (¬6)، والطبراني (¬7)، ..................... ¬

(¬1) في "السنن الكبرى" (6/ 14 - 15) من حديث عائشة. (¬2) عزاه إليه صاحب "كنز العمال" (5/ 220 - 221) من حديث أنس. وانظر: "المحلى" (9/ 57). (¬3) عزاه إليه صاحب "كنز العمال" (5/ 220 - 221) من حديث أنس. وانظر: "المحلى" (9/ 57). (¬4) تقدم من حديث أبي أمامة (¬5) في "مسنده" (2/ 68) بسند واه. (¬6) في "ذم الملاهي" (ص 46 - 47 رقم 43) بإسناد ضعيف جدًا. (¬7) في "الكبير" رقم (7749) من طريق الوليد بن الوليد عن ابن ثوبان عن يحيى بن الحارث عن القاسم عن أبي أمامة، به. وسنده ضعيف، فيه الوليد بن الوليد وقيل ابن أبي الوليد، لين الحديث. "التقريب" (1/ 474). وأخرجه الطبراني في "الكبير" رقم (7825) من طريق ابن أبي مريم عن يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم به. وأورده الهيثمي في "المجمع" (8/ 119 - 120) وقال: رواه الطبراني بأسانيد ورجال أحدها وثقوا وضعفوا

وابن مردويه (¬1) عن أبي أمامة يرفعه من حديث: "والذي بعثني بالحق، ما رفع رجل عقيرته بالغناء إلا بعث الله له شيطانين يردفان على عاتقه، ثم لا يزالان يضربان بأرجلهما على صدره، حتى يكون هو الذي يسكت" وأخرج ابن صصري في أماليه (¬2) عن ابن عباس يرفعه: "إياكم واستماع المعازف والغناء، فإنهما ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل" وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (¬3)، والبيهقي في السنن (¬4) عن ابن مسعود أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل" وأخرج نحوه البيهقي (¬5) عن جابر يرفعه، وأخرج نحوه أيضًا الديلمي (¬6) عن أنس، وأخرج البزار (¬7)، والضياء المقدسي (¬8)، وابن .................... ¬

(¬1) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (5/ 195). (¬2) عزاه إليه صاحب "كنز العمال" (15/ 220). (¬3) (ص 45 رقم 41) (¬4) (10/ 223) وقال البيهقي في "الشعب" (9/ 329) روي مسندًا بإسناد غير قوي وأخرجه أبو داود رقم (4927) من طريق سلام بن مسكين، به عن شيخ شهد أبا وائل في وليمة فجعلوا يلعبون، يتلعبون، يغنون، فحل أبو وائل حبوته، وقال: سمعت عبد الله يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "الغناء ينبت النفاق في القلب". وهو حديث ضعيف. انظر: "الضعيفة" رقم (2430). (¬5) في "الشعب" (9/ 329). وهو حديث ضعيف جدًا. (¬6) في "مسنده" (2/ 322) وهو حديث ضعيف جدًا. (¬7) في "مسنده" رقم (795 - كشف) وقال البزار: لا نعلمه عن أنس إلا بهذا الإسناد. (¬8) في "المختارة" (6/ 188\ 2200، 2201).

مردويه (¬1)، وأبو نعيم (¬2)، والبيهقي (¬3) عن أنس وعائشة أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة، ورنة عند مصيبة" وأخرج ابن سعد (¬4)، والبيهقي في السنن (¬5) عن جابر أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين، عند نعمة لهو ولعب ومزامير الشياطين، وصوت عند مصيبة، وخمش وجه، وشق جيوب، ورنة شيطان". وأخرج الديلمي (¬6) عن أبي أمامة مرفوعًا: "إن الله يبغض صوت الخلخال كما يبغض صوت الغناء" والأحاديث المروية في هذا الجنس في هذا الباب في غاية الكثرة. وقد جمع منها جماعة من العلماء مصنفات كابن حزم، وابن طاهر، وابن أبي الدنيا، وابن حمدان الأربلي، والذهبي، وغيرهم، وأكثر الأحاديث المذكورة فيها في النهي عن آلات الملاهي. ¬

(¬1) عزاه إليه صاحب "كنز العمال" (15/ 222). (¬2) من حديث عائشة عزاه إليه صاحب "كنز العمال" (15/ 222). (¬3) انظر المصدر السابق. وهو حديث صحيح. وله شاهد من حديث جابر سيأتي. (¬4) في "الطبقات" (1/ 138). (¬5) في "السنن الكبرى" (4/ 69) و"الشعب" (7/ 241 رقم 1063، 1064). قلت: وأخرجه الحاكم (4/ 40) وابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" رقم (64). والطيالسي في مسنده رقم (1683) وابن أبي شيبة في "المصنف" (3/ 393) والبغوي في "شرح السنة" (5/ 430 - 431) وأخرجه الترمذي رقم (1005) مختصرًا. وهو حديث حسن لغيره. قال ابن تيمية في "الاستقامة" (1/ 292 - 293): "هذا الحديث من أجود ما يحتج به على تحريم الغناء كما في اللفظ المشهور، عن جابر بن عبد الله" صوت عند نعمة: لهو ولعب، ومزامير الشيطان" فنهى عن الصوت الذي يفعل عند النعمة، كما نهى الصوت الذي يفعل عند المصيبة، والصوت الذي عند النعمة هو صوت الغناء". (¬6) في "مسنده" (1/ 244) بإسناد ضعيف جدًا.

وقد أجاب المجوزون للغناء عن هذه الأحاديث فقال الأدفوي في الإمتاع (¬1) وقد ضعف هذه الأحاديث الواردة في هذا الباب جماعة من الظاهرية، والمالكية، والحنابلة، والشافعية [8]. ولم يحتج بها الأئمة الأربعة. ولا داود ولا سفيان، وهم رءوس المجتهدين، وأصحاب المذاهب المتبعة. وقد ذكر أبو بكر بن العربي في كتابه الأحكام (¬2) الأحاديث في ذلك، وضعفها وقال: لم يصح (¬3) في التحريم شيء يعني من جميع الأحاديث ¬

(¬1) انظر كتاب: "السماع" لابن طاهر (ص 41). (¬2) (3/ 1493 - 1494). (¬3) قال المحدث الألباني في "تحريم آلات الطرب" (ص 80): سبق أن رددت على ابن حزم وغيره من الطاعنين في الأحاديث الصحيحة في المقدمة، وفي أثناء تخريج الأحاديث الستة الصحيحة المتقدمة والذي أريد بيانه الآن. أن أحاديث التحريم بالنسبة لابن حزم ونظرتنا إليها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: ما ضعفه منها، وهو مخطئ. الثاني: ما لم يقف عليه منها، أو وقف على بعض طرقها دون بعض ولو وقف عليها وثبتت عنده لأخذ بها، فهو معذور - خلافًا لمقلديه ولا سيما، وقد عقب على ضعف منها بقوله حالف غير حانث إن شاء الله. "المحلى" (9/ 59). "والله لو أسند جميعه، أو واحد منه فأكثر من طريق الثقات إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما ترددنا في الأخذ به". هذا الذي نظنه فيه، والله حسيبه، وأما المقلدون له بعد أن قامت عليهم الحجة وتبينت لهم المحجة، فلا عذر لهم ولا كرامة، بل مثلهم كمثل ناس في الجاهلية كانوا يعبدون الجن، فأسلم هؤلاء، واستمر أولئك في عبادتهم وضلالهم كما قال تعالى: {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورًا}. الثالث: ما ضعفه منها، ولم يبد لنا اعتراض عليه، فلا شأن لنا به. فسيكون ردي عليه إذن في القسم الأول والثاني فأقول وبالله التوفيق: القسم الأول: انتقد ابن حزم - الحديث الذي أخرجه البخاري معلقًا - تقدم توضيحه - وهو حديث صحيح. قد صححه: البخاري، ابن الصرح، ابن القيم، ابن حبان، النووي، ابن كثير، السخاوي، الإسماعيلي، ابن تيمية، العسقلاني، ابن الأمير الصنعاني، ابن الوزير الصنعاني. وانتقد أيضًا ابن حزم الحديث الصحيح. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله حرم علي - أو حرم - الخمر والميسر والكوبة، وكل مسكر حرام". رواه عنه قيس بن حبتر النهشلي وله عنه طريقان: الأولى: عن علي بن بذيمة: حدثني قيس بن حبتر النهشلي عنه. أخرجه أبو داود رقم (3696) والبيهقي (10/ 221) وأحمد (1/ 274) وفي "الأشربة" رقم (193) وأبو يعلى في مسنده رقم (2729) وعنه ابن حبان في صحيحه رقم (5365) والطبراني في "المعجم الكبير" (12/ 101 - 102 رقم 12598، 12599) من طريق سفيان عن علي بن بذيمة، قال سفيان: قلت لعلي بن بذيمة: "ما الكوبة؟ قال: الطبل". الثانية: عن عبد الكريم الجزري عن قيس بن حبتر بلفظ: "إن الله حرم عليهم الخمر، والميسر، والكوبة - وهو الطبل - وقال: كل مسكر حرام". أخرجه أحمد (1/ 289) وفي "الأشربة" رقم (14) والطبراني رقم (12601) والبيهقي (10/ 213). قال الألباني في "تحريم آلات الطرب" (ص 56): هذا إسناد صحيح من طريقه عن قيس هذا، وقد وثقه أبو زرعة، ويعقوب في "المعرفة" (3/ 194) وابن حبان في "الثقات" (5/ 308) والنسائي والحافظ في "التقريب" واقتصر الذهبي في "الكاشف" على ذكر توثيق النسائي. وأقره. وصححه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" في الموضعين (4/ 158، 218). أعله ابن حزم بجهالة تابعيه (قيس بن حبتر النهشلي) وهذا من ضيق عطنه وقلة معرفته، فقد وثقه جمع من المتقدمين والمتأخرين. قال الحافظ بن حجر في "التهذيب" (3/ 446) وقال ابن حزم: مجهول وهو نهشلي من بني تميم. القسم الثاني: وهو ما لم يقف عليه منها أو وقف على بعض طرقها دون البعض. (منها) حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة، مزمار عند نعمة، ورنة عند مصيبة". تقدم تخريجه وهو حديث صحيح. وله شاهد من حديث جابر بن عبد الله عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إني لم أنه عن البكاء، ولكني نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نعمة - لهو ولعب - ومزامير الشيطان، وصوت عند مصيبة ولطم وجوه، وشق جيوب ورنة شيطان". تقدم تخريجه. وهو حديث حسن لغيره. قال ابن حزم في "المحلى" (9/ 57 - 58) وفي رسالته (ص 97): "لا يدرى من رواه"؟!. فهذا دليل على صحة قول الحافظ ابن عبد الهادي في ابن حزم: "وهو كثير الوهم في الكلام على تصحيح الحديث وتضعيفه وعلى أحوال الرواة". انظر: "تحريم آلات الطرب" (ص 54، 90). ومنها أحاديث لم يذكرها: 1 - ما أخرجه البيهقي (10/ 222) بإسناد حسن رجاله ثقات عن قيس بن سعد رضي الله عنه وكان صاحب راية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذلك - يعني حديث مولى ابن عمرو المتقدم - قال: "والغبيراء، وكل مسكر حرام". 2 - وأخرج الترمذي في "السنن" رقم (2213) من طرق عن عبد الله بن عبد القدوس، عن الأعمش، عن هلال بن يساف، عن عمران بن حصين، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "في هذه الأمة خسف، ومسخ، وقذف" فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله! ومتى ذاك؟ قال: "إذا ظهرت القينات والمعازف. وشربت الخمور". وهو حديث حسن. انظر: "الصحيحة" رقم (1604).

الواردة في تحريم الغناء والآلات اللهوية، وهكذا قال ابن طاهر: إنه لم يصح فيها حرف واحد. وقال الشيخ علاء الدين القونوي في شرح التعرف، قال أبو محمد بن حزم: لا يصح في هذا الباب شيء، ولو ورد لكنا أول قائل به، وكلما ورد فيه فموضوع، ثم حلف على ذلك وقال: والله لو أسند واحد حديثًا واحدًا فأكثر من طريق الثقات فهو إلى غير رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، ولا حجة في أحد دونه. كما روي عن ابن عباس وابن مسعود في تفسير قوله تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} (¬1) أنهما ¬

(¬1) [لقمان: 6]. عن ابن عباس. أخرجه البيهقي في "السنن" رقم (10/ 223) وابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" رقم (27). وابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص 219) والبخاري في "الأدب المفرد" (265، 786). وانظر: "جامع البيان" (11/ جـ 21/ 61) لابن جرير الطبري، "تفسير القرآن العظيم" لابن كثير (6/ 331) وهو أثر صحيح. أثر ابن مسعود أثر صحيح. تقدم تخريجه.

فسرا لهو الحديث بالغناء. قال ابن حزم (¬1) ونص الآية يبطل احتجاجهم بها لقوله تعالى: {ليضل عن سبيل الله} (¬2)، وهذه صفة من فعلها كان كافرًا، ولو أن شخصًا اشترى مصحفًا ليضل عن سبيل الله، ويتخذها هزوًا لكان كافرًا، فهذا هو الذي ذم الله تعالى، وما ذم من اشترى لهو الحديث ليروح به نفسه، لا ليضل به عن سبيل الله قال: واحتجوا فقالوا: من الحق الغناء أم من غير الحق، ولا ثالث لهما. وقد قال تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} (¬3) وجوابنا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "إنما الأعمال بالنيات" (¬4) فمن نوى بالغناء عونًا على معصية، فهو فاسق، وكذا بكل شيء غير الغناء، ومن نوى به ¬

(¬1) في "المحلى" (9/ 60) تقدم التعليق على ذلك. (¬2) قال في "المحرر الوجيز" (13/ 9): والآية باقية المعنى في أمة محمد، ولكن ليس ليضلوا عن سبيل الله بكفر. ولا يتخذوا الآيات هزوًا، ولا عليهم هذا الوعيد بل ليعطل عبادة، ويقطع زمانًا بمكروه، وليكون من جملة العصاة والنفوس الناقصة ... (¬3) [يونس: 32] (¬4) تقدم تخريجه. قال ابن تيمية في "مجموع فتاوى" (11/ 630): وذلك أن الكلام في السماع وغيره من الأفعال على ضربين: أحدهما: هل هو محرم؟ أم غير محرم؟ بل يفعل كما يفعل سائر الأفعال التي تلتذ بها النفوس، وإن كان فيها نوع من اللهو واللعب كسماع الأعراس وغيرها. مما يفعله الناس لقصد اللذة واللهو لا لقصد العبادة والتقرب إلى الله. النوع الثاني: أن يفعل على وجه الديانة، والعبادة، وصلاح القلوب، وتجريد حب العباد لربهم، وتزكية لنفوسهم، وتطهير قلوبهم، وأن تحرك من القلوب الخشية، والإنابة، والحب، ورقة القلوب. ثم قال رحمه الله (11/ 631 - 632): ومن المعلوم أن الدين له أصلان. فلا دين إلا ما شرع الله ولا حرام إلا ما حرم الله والله تعالى عاب على المشركين أنهم حرموا ما لم يحرمه الله، وشرعوا دينًا لم يأذن به الله. ولو سئل: عمن يقوم في الشمس. قال: هذا جائز، فإذا قيل: إنه يفعله على وجه العبادة. قال: هذا منكر. ولهذا من حضر السماع للعب واللهو لا يعده من صالح عمله، ولا يرجو به الثواب وأما فعله على أنه طريق إلى الله تعالى فإنه يتخذه دينًا، وإذا نهى عنه كان كمن نهى عن دينه، ورأى أنه قد انقطع عن الله، وحرم نصيبه من الله تعالى إذا تركه، فهؤلاء ضلال باتفاق علماء المسلمين: إن اتخاذ هذا دينًا وطريقًا إلى الله تعالى أمر مباح، بل من جعل هذا دينًا وطريقًا إلى الله تعالى فهو ضال، مغتر، مخالف لإجماع المسلمين".

ترويح النفس ليقوى به على الطاعات، ويبسط نفسه بتلك على البر فهو محسن، وفعله هذا من الحق، ومن لم ينو لا طاعة ولا معصية فهو لغو معفو عنه كخروج الإنسان إلى بستانه، وقعوده على بابه متفرجًا، ومد ساقه، وقبضها وغير ذلك (¬1). وقال العلامة مفتي العرب أبو القاسم عيسى بن العلامة ناجي التنوخي المالكي في شرح رسالة أبي يزيد، قال الفاكهاني: لم أعلم في كتاب الله، ولا في السنة حديثًَا صحيحًا صريحًا في تحريم الملاهي، وإنما هي ظواهر وعمومات يتأنس بها لا أدلة قطعية (¬2). واستدل ابن رشد بقوله تعالى: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه} (¬3) وأي دليل في ذلك على تحريم الملاهي والغناء وللمفسرين فيها أربعة أقوال: الأول: أنها نزلت في قوم من اليهود. أسلموا فكان اليهود يلقونهم بالسب والشتم، ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة. (¬2) هذا كلام مردود فانظر ما تقدم من الأحاديث. (¬3) [القصص: 55]

فيعرضون عنهم. الثاني: أن اليهود أسلموا فكانوا إذا سمعوا ما غيره اليهود وبدلوا من بعث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وصفته أعرضوا عنه، وذكروا الحق. الثالث: أنهم المسلمون إذا سمعوا الباطل لم يلتفتوا إليه. الرابع: أنهم ناس من أهل الكتاب لم يكونوا يهود ولا نصارى، وكانوا على دين الله كانوا ينتظرون بعث محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فلما سمعوا به بمكة فعرض عليهم القرآن [9] فأسلموا، وكان الكفار من قريش يقولون لهم: أف لكم اتبعتم غلامًا كرهه قومه، وهم أعلم به منكم، وهذا الأخير قاله ابن العربي في أحكامه (¬1). وليت شعري كيف يقوم الدليل من هذه الآية على تحريم الملاهي! واستدل بقوله تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} (¬2) وهذا لا صراحة فيه كما تقدم. واستدل أيضًا بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "كل لهو يلهو به المؤمن هو باطل إلا ثلاثة: ملاعبة الرجل أهله، وتأديبه فرسه، ورميه عن قوسه" (¬3). ¬

(¬1) (3/ 1482). قال ابن جرير الطبري في "جامع البيان" (11\ جـ 20/ 90 - 91): يقول تعالى ذكره وإذا سمع هؤلاء القوم الذين آتيناهم الكتاب: اللغو، وهو الباطل من القول .. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد، عن قتادة: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} لا يجارون أهل الجهل والباطل في باطلهم، آتاهم من أمر الله ما وقذهم عن ذلك. وبما أن السماع لغو .. وباطل .. فهو محرم. (¬2) [يونس: 32]. انظر: "مجموع الفتاوى" (11/ 631 - 632) وقد تقدم توضيح ذلك. (¬3) أخرجه أحمد (4/ 144) والترمذي رقم (1637) وابن ماجه رقم (2811) وابن أبي شيبة في مصنفه (9/ 22) وهو حديث ضعيف. ولكن هناك حديث حسن أخرجه الترمذي رقم (2322) وابن ماجه رقم (4112) والبيهقي في "شعب الإيمان" رقم (1708). عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله، وما والاه، وعالمًا ومتعلمًا". وأخرج الطبراني كما في "المجمع" (10/ 222): عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ما ابتغي به وجه الله ". وهو حديث حسن.

قال الغزالي (¬1) قلنا: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: فهو باطل، لا يدل على تحريها، بل يدل على عدم الفائدة. وقد سلم ذلك على أن التلهي بالنظر إلى الحبشة وهم يرقصون في مسجده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كما ثبت في الصحيح (¬2) خارج عن تلك الأمور الثلاثة (¬3). والجواب الجواب، وقد سلم الإمام حجة الإسلام الغزالي (¬4) عدم قيام دليل يدل على تحريم سماع الغناء والدف والشبابة، وانتصر للقول بإباحتها. وقال: القياس: تحليل العود، وسائر الملاهي، ولكن ورد ما يقتضي التحريم. قال ابن النحوي في العمدة بعد أن نقل عنه ذلك. ¬

(¬1) في "الإحياء" (5/ 166). (¬2) البخاري في صحيحه رقم (454) وأطرافه [455، 950، 988، 2906، 3539، 3931، 5190، 5236] من حديث عائشة. (¬3) والرد على الغزالي في شرح ابن حجر لفوائد الحديث السابق. قال الحافظ في "الفتح" (1/ 549): واللعب بالحراب ليس لعبًا مجردًا بل فيه تدريب الشجعان على مواقع الحروب والاستعداد للعدو. وقال المهلب: المسجد موضوع لأمر جماعة المسلمين، فما كان من الأعمال يجمع منفعة الدين وأهله جاز فيه. وقال الحافظ في "الفتح" (2/ 445): واستدل به على جواز اللعب بالسلاح على طريق التواثب للتدريب على الحرب والتنشيط عليه. واستنبط منه جواز المثاقفة لما فيها من تمرين الأيدي على آلات الحرب. (¬4) والرد على الغزالي في شرح ابن حجر لفوائد الحديث السابق. قال الحافظ في "الفتح" (1/ 549): واللعب بالحراب ليس لعبًا مجردًا بل فيه تدريب الشجعان على مواقع الحروب والاستعداد للعدو. وقال المهلب: المسجد موضوع لأمر جماعة المسلمين، فما كان من الأعمال يجمع منفعة الدين وأهله جاز فيه. وقال الحافظ في "الفتح" (2/ 445): واستدل به على جواز اللعب بالسلاح على طريق التواثب للتدريب على الحرب والتنشيط عليه. واستنبط منه جواز المثاقفة لما فيها من تمرين الأيدي على آلات الحرب.

قلت: لا يصح يعني ما يقتضي تحريم العود، وسائر الملاهي، وجملته ما استدل به القائلون بتحريم آلات الملاهي ما أخرجه أبو داود (¬1) أن ابن عمر سمع مزمارًا فوضع أصبعه في أذنيه، ونأى عن الطريق، وقال: يا نافع هل تسمع شيئًا قال: لا، فوضع أصبعه، وقال: كنت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فسمع مثل هذا. والجواب: أولاً: بأن الحديث ضعيف (¬2)، قال اللؤلؤي، قال أبو داود: هذا الحديث منكر. وقال أبو محمد بن حزم: خرجه أبو داود وأنكره. وثانيًا: أنه لو صح فهو حجة الإباحة لأنه لو كان حرامًا لما أباحه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن عمر، ولا ابن عمر لنافع ولنهي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك وأمر بالسكوت عنه، أو بكسر الآلة، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فإن قيل: فلم سد سمعه عنه؟ قيل: إما لكونه في ذلك الوقت في حال مع ربه لا يجب أن يشتغل عنه فيه بغيره، كما قال لي وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل أو لأنه تجنبه كما تجنب كثيرًا من المباحات، كالأكل متكئًا، وأن يبيت في بيته دينار أو درهم، وأن تعلق الستر على سهوة في البيت، وأمثال ذلك (¬3). ¬

(¬1) في "السنن" رقم (4924) وأحمد (2/ 8، 38) وابن سعد (4/ 163) والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 222). وابن حبان في صحيحه رقم (2113 - موارد). (¬2) بل هو حديث صحيح. (¬3) قال ابن تيمية مفرقًا بين السماع والاستماع تعليقًا على حديث عائشة: "وليس في حديث الجاريتين أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استمع إلى ذلك، والأمر والنهي إنما يتعلق بالاستماع، لا بمجرد السماع كما في الرؤية، فإنه إنما يتعلق بقصد الرؤية لا ما يحصل منها بغير الاختيار، كذلك في اشتمام الطيب إنما ينهى المحرم عن قصد الشم، فأما إذا شم ما لا يقصده فإنه لا إثم عليه وكذلك في مباشرة المحرمات كالحواس الخمس من السمع والبصر والشم والذوق واللمس، إنما يتعلق الأمر والنهي في ذلك بما للعبد فيه قصد وعمل، وأما ما يحصل بغير اختياره فلا أمر فيه ولا نهي. وهذا مما وجه به حديث ابن عمر: أنه لم يكن يستمع، إنما كان يسمع وهذا لا إثم فيه، وإنما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدل طلبًا للأكمل والأفضل، كمن اجتاز بطريقة فسمع قومًا يتكلمون بكلام محرم فسد أذنيه كيلا - يسمعه فهذا أحسن، ولو لم يسد أذنيه لم يأثم بذلك اللهم إلا أن يكون في سماعه ضرر ديني لا يندفع إلا بالسد". قال في "عون المعبود" (4/ 435) وتقرير الراعي لا يدل على إباحته لأنها قضية عين، فلعله سمعه بلا رؤية، أو بعيدًا منه على رأس جبل، أو مكان لا يمكن الوصول إليه، أو لعل الراعي لم يكن مكلفًا فلم يتعين الإنكار عليه. تقدم أن (المعازف) هي آلات اللهم كلها لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك. أخرج حديث عمر النسائي في "السنن" رقم (2/ 178) وأبو نعيم في "الحلية" (5/ 270) بسند صحيح. قال الأوزاعي رحمه الله تعالى: كتب عمر بن عبد العزيز إلى (عمر بن الوليد) كتابًا فيه: " ... وإظهارك المعازف والمزمار بدعة في الإسلام، ولقد هممت أن أبعث إليك من يجز جمتك حمة سوء". والخلاصة: أن العلماء والفقهاء. وفيهم الأئمة الأربعة، متفقون على تحريم آلات الطرب إتباعًا للأحاديث النبوية، وآثار السلف وإن صح عن بعضهم خلافه فهو محجوج بما ذكر، والله عز وجل يقول: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا}. الاستقامة" (1/ 281 - 282)، "منهاج السنة" لابن تيمية (3/ 439)، "تلبيس إبليس" (ص 244).

واعلم أنه قد استدل المحرمون بأدلة عقلية: أحدها: أن الغناء ولا سيما بالآلات المطربة تدعو إلى شرب الخمر، لأن اللذة عند أهل السماع في الغالب إنما تتم بشربه. الثاني: أنها تذكر غير الشارب لمجالس الشرب، فتنبعث لذلك الشهوة، فيكون الإقدام على الحرام. الثالث: أن الاجتماع عليها لما صار عادة أهل الفسوق كان محرمًا لحديث: "من تشبه بقوم فهو منهم" (¬1). وأجيب عن الأول بالمنع، والسند أن اللذة الكاملة تحصل بمجرد السماع من غير احتياج إلى أمر آخر مسكر أو غيره بدليل الحس والوجدان؛ فإن من لا شعور له بشرب المسكر كالبهائم التي هي أغلظ من بني آدم لذلك، فتستحق ¬

(¬1) تقدم تخريجه.

الأحمال الثقال، وتستقصر المسافات الطوال، كما ذلك معلوم من حال الإبل [10] عند سماع الحادي المجيد، وربما أفضى ذلك إلى تلفها، وأيضًا لو سلم أن السماع بمجرده ليفضي إلى الشراب في حق قريب العهد به، فإنما يحرم استعمالها في حق من كان كذلك، أما من لم يكن قد شربه أصلا إذا كان قد شربه، ثم تاب وحسنت توبته، وطالت مدته فلا تشمله العلة، وهذا هو الجواب عن الدليل الثاني. والجواب عن الثالث المنع عن من كون ذلك شعارًا مختصًا بأهل الفسوق، لأن غيرهم من أهل العفة والنزاهة، قديمًا وحديثًا، يقع منهم الاجتماع على السماع كما قدمنا حكاية ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين، فمن بعدهم. وقد استدل المجوزون على ما ذهبوا إليه بأدلة منها قوله تعالى: {ويحل لهم الطيبات ويحرم} (¬1) ووجه التمسك أن الطيبات جمع محلى باللام فيشمل كل طيب، والطيب يطلق بإزاء المستلذ وهو الأكثر المتبادر إلى الفهم عند التجرد عن القرائن، ويطلق بإزاء الظاهر والحلال، وصيغة العموم كلية تتناول كل فرد من أفراد المعاني الثلاثة كلها، ولو قصرنا العام على بعض أفراده لكان قصره على المتبادر هو الظاهر. وقد صرح ابن عبد السلام في دلائل الأحكام أن المراد في الآية بالطيبات المستلذات. ومن الأدلة قوله تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم} (¬2) وقال: {لتبين الناس ما نزل إليهم} (¬3) قالوا: ولم يرد نص من كتاب فيه تفصيل تحريمه، ولا سنة صحيحة، كما سبق ذلك عن حكاية جماعة من العلماء. ومن الأدلة التي ذكروها الإجماع على تحليل السماع (¬4) مطلقًا. قالوا: وذلك لأنه ¬

(¬1) [الأعرف: 157] (¬2) [الأنعام: 119] (¬3) [النمل: 44]. (¬4) تقدم التمييز بن الاستماع والسماع من كلام ابن تيمية.

اشتهر من فعل (¬1) عبد الله بن جعفر الهاشمي، وعبد الله بن الزبير وغيرهما. وانتشر ذلك في الصحابة في خلافة علي - عليه السلام - ومعاوية. ولم ينكر ذلك أحد، ولو كان محرمًا لأنكروه على فاعله، وهذا هو المذهب (¬2) السكوتي. وقد استكثر من الاحتجاج به أهل المذاهب، وأيضًا البراءة الأصلية (¬3)، وهي الحل وعدم التحريم مستصحبة لا ننتقل عنها إلا بدليل شرعي؛ فمن ادعى أن السماع الذي تلتذ به الأسماع، وتميل إليه الطباع محرم، فعليه إقامة الدليل الذي تنحسم به مادة النزاع، لا سيما كون ذلك جلب نفع خاص خال عن ضرر، فإنه حسن عقلا. إذا تقرر هذا تبين للمصنف العارف بكيفية الاستدلال، العالم بصفة المناظرة والجدال أن السماع بآلة وبغيرها من مواطن الخلاف بين أئمة العلم. ومن المسائل التي لا ينبغي التشديد في النكير على فاعلها، وهذا الغرض هو الذي حملنا على جمع هذه الرسالة؛ لأن في الناس من يوهم لقلة عرفانه بعلوم الاستدلال، وتعطل جراية عن الدراية بالأقوال أن تحريم (¬4) الغناء بالآلة وغيرها من القطعيات المجمع على تحريمها. ¬

(¬1) قاله ابن تيمية في "الاستقامة" (1/ 282 - 283). وأما ما يذكر من فعل عبد الله بن جعفر في أنه كان له جارية يسمع غناءها في بيته فعبد الله بن جعفر ليس مما يصلح أن يعارض قوله في الدين - فضلاً عن فعله - لقول ابن مسعود وابن عمر، وابن عباس وجابر وأمثالهم. ثم قال رحمه الله: الذي فعله عبد الله بن جعفر كان في داره، لم يكن يجتمع عنده على ذلك. ولا يسمعه إلا من مملوكته، ولا يعده دينًا وطاعة، بل هو عنده من الباطل. وهذا مثل ما يفعله بعض أهل السعة من استماع غناء جاريته في بيته ونحو ذلك، فأين هذا من هذا! هذا لو كان مما يصلح أن يحتج به، فكيف وليس بحجة أصلاً. (¬2) أي الإجماع السكوتي. تقدم تعريفه. (¬3) تقدم توضيح معناها. (¬4) تقدم توضيح ذلك خلال الرد على ابن حزم ومقلديه.

وقد علمت أن هذه قرية ما فيها مزية، وجهالة بلا محالة، وقصور باع بغير نزاع، فهذا هو الأمر الباعث على جمع هذه المباحث، لما لا يخفى على عارف أن رمي من ذكرنا من الصحابة (¬1) [11] والتابعين وتابعيهم وجماعة من أئمة المسلمين بارتكاب محرم قطعًا من أشنع الشنع، وأبدع البدع، وأوحش الجهالات، وأفحش الضلالات، فقصدنا الذب عن أعراضهم الشريفة، والدفع عن هذا الجناب للعقول السخيفة. وقد علم الله أنا لم نقعد في مجلس من مجالس السماع، ولا لابسنا أهلة في بقعة من البقاع، ولا عرفنا نوعًا من أنواعه، ولا أدركنا وضعًا من أوضاعه، ولكنا تكلمنا بما تقتضيه الأدلة، وأزحنا عن صدر المتكلم بالجهالة كل علة، ليكون في إيراد الإنكار وإصداره على علم، ويتبين له أن هذه المسألة ليست من المواطن التي يحمد القائم في تضليل أهلها، ولكن كيف يهتدي إلى سبيل الإنصاف من زعم أن مسألة السماع ليست من مسائل الخلاف، فيالله العجب لو نظر هذا المسكين إلى مصنف من مصنفات المسلمين، لعلم بطلان دعواه، وفور جهله وهواه. وهب أن هذه المسألة محرمة بالإجماع، أما درى هذا الغافل أن للناس في كون الإجماع حجة قطعية أو ظنية مذهبين: أحدهما: أنه حجة ظنية (¬2) لا يفيد العلم، بل يفيد الظن، وإليه ذهب جمع من المحققين كأبي الحسين البصري (¬3)، والإمام فخر الدين الرازي (¬4)، وسيف الدين الآمدي (¬5) وغيرهم. ¬

(¬1) انظر: "الاستقامة" لابن تيمية (1/ 280 - 285). (¬2) انظر: "البحر المحيط" (4/ 443 - 444). (¬3) انظر: "البحر المحيط" (4/ 443 - 444). (¬4) في "المحصول" (4/ 64). (¬5) في "الإحكام" (1/ 343).

الثاني: أنه حجة قطعية (¬1)، وإليه ذهب الأكثرون كما قال الأصفهاني (¬2)، وذهب جمع من محققي الحنفية كالبزدوي، وصدر الشريعة وأتباعهم إلى أن للإجماع مراتب، فإجماع الصحابة مثل الكتاب والخبر المتواتر، وإجماع من بعدهم بمنزلة المشهور من الأحاديث، والإجماع الذي سبق فيه الخلاف في العصر السالف بمنزلة خبر الواحد، ثم القائلون بكونه حجة قطعية اختلفوا في بعض الصور، كالإجماع الذي شذ منه بعض المجتهدين كواحد أو اثنين، وكالإجماع السكوتي؛ وهو ما أتاه بعض المجتهدين قولاً أو فعلاً، وانتشر في أهل الإجماع، وسكتوا عليه، فلم ينكروه، وكالإجماع المسبوق بالخلاف، والمشهور في الأول أنه ليس بإجماع ولا حجة، حكى ذلك أبو بكر الرازي من الحنفية عن الكرخي منهم، وقيل إنه إجماع. وفي البحر للزركشي (¬3) أنه المذهب، ونقله الآمدي (¬4) عن ابن جرير، وإليه يميل كلام الجويني (¬5)، قال الهندي: والقائلون بأنه إجماع مرادهم أنه ظني لا قطعي. والمشهور أيضًا في الثاني كما قال الرافعي أنه حجة، وهل هو إجماع؟. قال الزركشي (¬6): الراجح أنه إجماع، وقيل ليس بإجماع، وعزى إلى الشافعي. قال الزركشي (¬7) وليعلم أن المراد هنا بالخلاف أنه ليس بإجماع قطعي، وبذلك صرح ¬

(¬1) وبه قال الصيرفي وابن برهان وجزم به من الحنفية الدبوسي وشمس الأئمة. "البحر المحيط" (4/ 443). (¬2) ذكره الشوكاني في "إرشاد الفحول" (ص 294). (¬3) في "البحر المحيط" (4/ 443). (¬4) في "الإحكام" (1/ 343). (¬5) في "البرهان" (1/ 679 - 682). (¬6) في "البحر المحيط" (4/ 441). (¬7) في "البحر المحيط" (4/ 443).

ابن برهان عن الصيرفي، وكذا ابن الحاجب (¬1). وإلى كون الإجماع في هاتين الصورتين ظنيًا لا قطعيًا أشار صاحب جمع الجوامع. وهكذا الإجماع الذي يندر مخالفة إجماع ظني، وإليه يشير كلام إمام الحرمين. ونقل الزركشي عن صاحب التقويم (¬2) من الحنفية أنه أدنى مراتب الإجماع. ونقل عن قوم إحالة وقوعه [12]، واختلف القائلون بأن الإجماع حجة قطعية أيضُا في غير ما ذكر من الصور، هل يقبل فيه أخبار الآحاد والظواهر؟ فيه قولان: قيل: لا يقبل، ونقل عن الجمهور، وصححه القاضي في التقريب، والغزالي في كتبه وعليه فالمنقول بالآحاد إجماع وليس بحجة. نبه على ذلك الصفي الهندي (¬3)، وقيل: يقبل وعليه الفقهاء، وصححه المتأخرون. وقد علم من هذا أن الإجماع إما ظني كله عند قوم، أو بعضه ظني، وبعضه قطعي عند آخرين، وأن القطعي منه عند هؤلاء ما علم بطريق يفيد العلم من سماع أو تواتر صدوره عن جميع المجتهدين من الأمة، بحيث لا يشذ أحد منهم بطريق صريح كقولهم: هذا حلال، أو هذا حرام، أو هذا باطل، أو نحو ذلك، كما ذكره الغزالي (¬4)، ونبه عليه ابن أبي شريف في حاشية شرح الجمع (¬5). وإذا علم أن الإجماع منه قطعي، ومنه ظني فمنكر حكم الإجماع الظني، ومعتقد خلافه لا يكفر باتفاق العلماء، وقد نقل إجماعهم على ذلك غير واحد من المحققين، منهم سيف الدين الآمدي (¬6)، والصفي الهندي في ......................... ¬

(¬1) انظر: "الكوكب المنير" (2/ 260 - 261)، "التبصرة" (ص 349). (¬2) في "البحر المحيط" (4/ 443). (¬3) انظر: "الكوكب المنير" (2/ 261). (¬4) انظر: "المستصفى" (1/ 176، 179). (¬5) (2/ 196). (¬6) في "الإحكام" (1/ 229).

النهاية (¬1)، والقاضي عضد الدين في شرح المختصر (¬2)، وأبو العباس القرطبي فيما نقله عنه الزركشي في البحر (¬3). وممن جزم بنفي التكفير في منكر حكم الإجماع الظني السعد في شرح التوضيح، والشريف الجرجاني في شرح المواقف، والمحقق ابن الهمام. وأما منكر حكم الإجماعي القطعي فحكى فيه الآمدي (¬4)، وابن الحاجب (¬5) في أصولهما ثلاثة مذاهب، فقال الآمدي (¬6): اختلفوا في تكفير جاحد المجمع عليه، فأثبته بعض الفقهاء، وأنكره الباقون مع اتفاقهم على أن إنكار حكم الإجماع الظني غير موجب تكفيرًا، هذا والمختار إنما هو التفصيل بين أن يكون داخلاً في مفهوم اسم الإيمان كالعبادات الخمس، ووجوب اعتقاد التوحيد والرسالة؛ فيكون جاحده كافرًا أو لا يكون داخلاً كالحكم بحل البيع، وصحة الإجارة، ونحوه؛ فلا يكون جاحده كافرًا انتهى. وقال ابن الحاجب في مختصره (¬7): إنكار حكم الإجماع القطعي. ثالثها: المختار أن نحو العبادات الخمس تكفر انتهى. وقال العلامة زيد الدين - المدخل في الملخص -: لا يكفر منكر إجماع سكوتي أو أكثري، أو ظني منقول بالآحاد. قيل: وكذا ما لم يبلغ المجمعون فيه عدد التواتر، ولا يكفر منكر إجماع قطعي على الأصح، إلا إذا كان الحكم ضروريًا، لأن العلم بحجية الإجماع ليس داخلاً في الإيمان، لأنه نظري انتهى. وقال العلامة ابن القيم (¬8): الإجماع الذي تقوم به الحجة، وتنقطع معه المعذرة، ¬

(¬1) انظر: "الكوكب المنير" (2/ 262). (¬2) (2/ 33) (¬3) (4/ 443) (¬4) في "الإحكام" (1/ 229 - 231). (¬5) (2/ 32 - 33). (¬6) في "الإحكام" (1/ 229 - 231). (¬7) (2/ 32 - 33). (¬8) انظر: "إعلام الموقعين" (1/ 341 - 343).

وتحرم معه المخالفة هو الإجماع القطعي المعلوم انتهى. وقال النووي (¬1) ليس تكفير جاحد الإجماع على إطلاقه، بل من جحد مجمعًا عليه فيه نص، وهو من الأمور الظاهرة الذي يشترك في معرفتها الخاص والعام [13]، كالصلاة، وتحريم الخمر ونحوهما، فهو كافر، ومن جحد مجمعًا عليه ظاهرًا لا نص فيه ففي الحكم بتكفيره خلاف. وقد أشار ابن أبي شريف في حاشية شرح المجمع إلى أن ما لم يبلغ حد الضرورة فلا كفر به، وإن كان مشهورًا. وقال السعد في شرحه: العقائد: إن من استحل محرمًا لعينه، وقد ثبت بدليل قطعي يكفر، وإلا فلا. بأن كانت حرمته لغيره، أو ثبت بدليل ظني (¬2) انتهى. وقال الهندي في النهاية (¬3) جاحد المجمع عليه من حيث إنه مجمع عليه بإجماع قطعي لا يكفر عند الجماهير، خلافًا لبعض الفقهاء، وإنما قيدنا بقولنا: من حيث هو مجمع عليه، لأن من أنكر وجوب الصلوات الخمس ونحوها يكفر، وهو مجمع عليه، لكن لا لأنه جاحد حكم الإجماع قال: وجاحد الظني لا يكفر وفاقًا انتهى. وقال شمس الدين القرافي (¬4) المالكي بعد أن ذكر قول إمام الحرمين: كيف يكفر من جحد حكم الإجماع، ولا يكفر من رد أصل الإجماع، ولا يكون الفرع أقوى من أصله! فقال: جوابه أنا لا نكفر برد المجمع عليه من حيث إنه مجمع عليه؛ بل من حيث الشهرة المحصلة للعلم، فمتى انضافت هذه الشهرة إلى الإجماع كفر جاحده، فإذا لم تنضف لم يكفر، فليس الفرع أقوى من أصله على هذا، وإنما يلزم لو كفرنا به من حيث إنه مجمع عليه، لا من حيث الشهرة انتهى. ¬

(¬1) انظر "البحر المحيط" (4/ 443 - 445). (¬2) انظر: "الكوكب المنير" (2/ 257 - 258). (¬3) انظر: "نهاية السول" (2/ 383) و"المستصفى" (1/ 196). (¬4) في "شرح تنقيح الفصول" (ص 337).

وقال القرطبي (¬1) من المالكية: الحق في هذه المسألة التفصيل، فمن قال: إن أدله الإجماع ظنية فلا شك في نفي التكفير، لأن المسائل الظنية اجتهادية، ولا تكفير فيها بالاتفاق، ومن قال أنها قطعية فهؤلاء هم المختلفون في تكفيره، والصواب أنه لا يكفر، وإن قلنا أن تلك الأدلة قطعية متواترة، لأن هذا لا يعم كل أحد بخلاف من جحد سائر المتواترات، والتوقف عن التكفير أولى من الهجوم عليه؛ فقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "من قال لأخيه يا كافر فقد باءها بها أحدهما، فإن كان كما قال، وإلا حار عليه" (¬2) انتهى. وقال ابن دقيق العيد: من قال أن دليل الإجماع ظني فلا سبيل إلى تكفير مخالفه كسائر الظنيات، وأما من قال أن دليله قطعي فالحكم المخالف له إما أن يكون طريق ثبوته قطعيًا أو ظنيًا، فإن كان ظنيًا فلا سبيل إلى التفكير به. وإن كان قطعيًا فقد اختلف فيه، ولا يتوجب الاختلاف فيما تواتر من ذلك عن صاحب الشرع بالنقل، فإنه يكون تكذيبًا موجبًا للكفر بالضرورة، وإنما يتوجه الخلاف فيما حصل فيه الإجماع بطريق قطعي، أعني أنه ثبت وجود الإجماع به، ولم ينقل الحكم بالتواتر عن صاحب الشرع (¬3). فتلخص أن مسائل الإجماع تارة يصحبها التواتر بالنقل عن صاحب الشرع، فيكون ذلك تكذيبًا موجبًا للكفر بالضرورة، وإنما يتوجه الخلاف فيما حصل فيه الإجماع بطريق قطعي (¬4)، أعني أنه ثبت وجود الإجماع به ولم ينقل الحكم بالتواتر عن صاحب ¬

(¬1) انظر: "الكوكب المنير" (2/ 259) (¬2) تقدم تخريجه مرارًا (¬3) انظر: "إرشاد الفحول" (ص 280 - 281) (¬4) ومعنى كونه "حجة قاطعة" بالشرع - أي بدليل كونه حجة قاطعة. أي يقدم على باقي الأدلة. وليس قاطع هنا بمعنى الجازم الذي لا يحتمل النقيض، وإلا لما اختلف في تكفير منكر حكمه وهذا مذهب الأئمة الأعلام منهم الأئمة الأربعة وأتباعهم وغيرهم من المتكلمين. "تيسير التحرير" (3/ 227)، "الكوكب المنير" (2/ 215).

الشرع [14]، لا فيما صحبه التواتر بالنقل عن صاحب الشرع، كوجوب الصلوات الخمس، فإنه ينتفي الخلاف في تكفير جاحده، لمخالفته التواتر، لا لمخالفة الإجماع ... إلى آخر كلامه الذي نقله الزركشي في البحر (¬1)، وابن أبي شريف في شرح الإرشاد، وغيرهما من المتأخرين. وقد ذكر أبو إسحاق الشيرازي (¬2) في الملخص أن الفسق يتعلق لمخالفة الإجماع، والكفر يتعلق برد ما علم من دين الله قطعا ويقينًا: وقال إمام الحرمين في البرهان (¬3) إن الضابط فيه أن من أنكر طريقًا في ثبوت الشرع لم يكفر، ومن اعترف بكون الشيء، من الشرع ثم جحده كان منكرًا للشرع، وإنكار جزئه كإنكار كله انتهى. ولنقتصر على هذا المقدار من نقل أئمة الأصول من أهل المذاهب الإسلامية، وقد خرجنا عن المقصود إلى غيره، ولكنه أخذ بعض الكلام بحجزة بعض، وأردنا تكميل الفائدة في مسألة الإجماع، وحكم مخالفه، ليتيقن المسارع إلى الحكم بالإجماع من دون بصيرة (¬4). والجزم على مخالفه مطلقًا بالكفر والضلال، مع أنه قد تقرر في الأصول خلاف من خالف في إمكان الإجماع، ووقوعه، ونقله، وحجيته. وذلك معروف عند كل من له إلمام بعلم الأصول، والتفات إلى طرائق العلماء الفحول. ولقد قال العلامة محمد بن إبراهيم الوزير في كتابه الروض الباسم (¬5) إن الضروريات من الإجماع هي الضروريات ¬

(¬1) (4/ 443). (¬2) انظر: "المحصول" (4/ 445) و"البحر المحيط" (4/ 443 - 444). (¬3) (1/ 675). (¬4) نعلم أن الشوكاني يقول: بعدم حجية الإجماع. انظر: "إرشاد الفحول"، المقصد الثالث: الإجماع (ص 226). (¬5) (1/ 148 - 149).

من الدين، قال: وغالب الإجماعات المنقولة في المسائل الاجتهادية من قبيل الإجماع السكوتي انتهى. وقال الغزالي في المستصفي (¬1) كل مجتهد مصيب، ولو خالف الإجماع قبل علمه به حتى يطلع عليه انتهى. وهذا على فرض أن المسألة التي وقع فيها الإنكار مما يدعى في مثلها الإجماع. فكيف بمسألة السماع التي ادعى المجوزون فيها أنه مجمع على الجواز (¬2) كما مر تحقيقه (¬3). وبالجملة فهذا كلام مع من ير حجية الإجماع، ولهذا لم نورد إلا كلام الأئمة القائلين بحجيته، وأما من لم يقل بحجية الإجماع إما لعدم وجود دليل يدل على أنه حجة، أو لعدم إمكانه في نفسه، أو إمكان نقله، فترك الإنكار عليه مما ادعى فيه الإجماع أوضح من ترك الإنكار على غيره. والقول بعدم حجية الإجماع هو الذي (¬4) أرجحه لأمور لا يتسع لها المقام، وقد استوفيتها في غيره (¬5). وبعد هذا كله فنقول: السماع لا شك بعد ما ذكرنا من اختلاف الأقوال، والأدلة أنه من الأمور المشتبهة، والمؤمنون وقافون عند الشبهات كما ثبت ذلك في الصحيح (¬6) عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "فمن ترك المشتبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه. ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه". ولا سيما إذا كان مشتملاً على ذكر القدود والخدود، والدلال والجمال، والهجر والوصال، والفم والرشف، والتهتك والكشف ¬

(¬1) (1/ 182) (¬2) انظر: "الأحاديث وآثار السلف ورد دعواهم على ذلك". (¬3) قلنا أن الشوكاني يقول بعدم حجية الإجماع. انظر: "أدلة الإجماع"، "إرشاد الفحول" (ص 275) وما بعدها. "البحر المحيط" (4/ 440 - 446)، "الكوكب المنير" (2/ 210 - 220). (¬4) قلنا أن الشوكاني يقول بعدم حجية الإجماع. انظر: "أدلة الإجماع"، "إرشاد الفحول" (ص 275) وما بعدها. "البحر المحيط" (4/ 440 - 446)، "الكوكب المنير" (2/ 210 - 220). (¬5) انظر: "إرشاد الفحول"، المقصد الثالث: الإجماع (ص 226) وما بعدها. (¬6) تقدم تخريجه.

[15]، ومعاقرة العقار، وخلع العذار والوقار؛ فإن سامع هذه الأنواع في مجامع السماع لا ينجو من بلية، ولا يسلم من مجنة، وإن بلغ من التصلب في ذات الله إلى حد القصر عنه الوصف. وكم لهذه الوسيلة من قتيل دمه مطول، وأسير بهموم غرامه وهيامه مكبول، ولا سيما إذا المغني حسن الصورة والصوت، كالمرأة الحسناء، والغلام الجميل، وما كان الغناء الواقع في زمن العرب في الغالب إلا بأشعار فيها ذكر الحرب. وصفات الطعن والضرب، ومدح صفات الشجاعة والكرم. والتشبيب بذكر الديار، ووصف النعم. فليحذر المتحفظ لدينه، الراغب في السلامة؛ فإن للشيطان حبائل ينصب لكل إنسان منها ما يليق به، وربما كان الغناء على الصفة التي وصفناها من أعظم خدائع الخبيث، ولا سيما لمن كان في زمن الشبيبة؛ فإن نفسه تميل إلى المستلذات الدنيوية بالطبع، وأيضًا السماع من أعظم الأسباب الجالبة للفقر المذهبة للأموال، وإن كانت عظيمة القدر. وقد قال بعض الحكماء: إن السماع من أسباب الموت، فقيل له: كيف ذلك؟ فقال: لأن الرجل يسمع، فيطرب، فينفق، فيسرف، فيفتقر، فيغتم، فيعتل، فيموت (¬1). ¬

(¬1) وما أعظم كلمات الشوكاني هنا في إشارة إلى أخطار السماع وأثره على النفوس والدين والعرض والمال والمجتمع. قال ابن القيم في "إغاثة اللهفان" (1/ 352): فاعلم أن للغناء خواص لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق ونباته فيه كنبات الزرع بالماء. فمن خواصه: 1 / أنه يلهي القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره، والعمل بما فيه، فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبدًا، لما بينهما من التضاد، فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر بالعفة، ومجانبة شهوات النفوس وأسباب الغي، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان والغناء يأمر بضد ذلك كله - ويحسنه، ويهيج النفوس إلى شهوات الغي، فيثير كامنها، ويزعج قاطنها ويحركها إلى كل قبيح، ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح، فهو والخمر رضيعًا لبان. وقال بعض العارفين: السماع يورث النفاق في قوم، والعناد في قوم والكذب في قوم، والفجور في قوم، والرعونة في قوم. ثم قال رحمه الله (1/ 354): ومن علامات النفاق: قلة ذكر الله والكسل عند القيام إلى الصلاة ونقر الصلاة، قل أن تجد مفتونًا من الغناء إلا وهذا وصفه. - قال تعالى: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً} [النساء: 142]. قال ابن القيم في "كشف الغطاء عن حكم سماع الغناء" (ص 103 - 104). والتحقيق في السماع أنه مركب من شبهة وشهوة، وهما الأصلان ذم الله من يتبعهما ويحكمهما على الوحي الذي بعث به أنبياءه ورسله. قال تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} [النجم: 23]. فالظن الشبهة وما تهوى الأنفس الشهوة والهدى الذي جاءنا من ربنا مخالف لهذا. قال تعالى: {كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولادًا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا} [التوبة: 69]. فالاستماع بالخلاق وهو النصيب هو الشهوة، والخوض هو الكلام بمقتضى الشبهة فهذان الداءان هما داء الأولين والآخرين إلا من عصم الله وقليل ما هم، وهذا السماع قد تركب أمره من هذين الأصلين. فأما الشبهة التي فيه فهي تعلق أهله بالشبهة التي يستندون إليها في فعله، كقولهم حضرة سادات المشايخ ومن لا يطعن عليه، وأقره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيته، وسمع الحداء وهو ضرب من سماع الغناء وسمع الشعر وأجاز عليه ... وما هو صريح في الدلالة فكذب موضوع على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومن الشبهة التي فيه أن الروح متى سمعت ذكر المحبة والمحبوب والقرب منه ورضاه حرك ذلك لما في قلبه شيء من المحبة الصادقة وهذا أمره لا يمكن دفعه، فهذا نصيب الشبهة منه. وأما الشهوة فهي نصيب النفس منه، فإن النفس تلتذ بسماع الغناء وتطرب بالألحان المطربة، وتأخذ بحظها الوافر منه، حتى ربما أسكرها وفعل فيها ما لا يفعله الخمر. فإن الطباع تنفعل للسماع والصورة، والخمرة تسكر النفوس بها أتم سكر. ولهذا قال الله تعالى في اللوطية لما أخذهم العذاب {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون} [الحجر: 72].

كمل من تحرير جامعه القاضي بدر الدين محمد بن علي الشوكاني - حفظه الله تعالى بحق محمد وآله -.

تم ولله الحمد والمنة المجلد الخامس من كتاب الفتح الرباني ويليه المجلد السادس والأخير إن شاء الله

بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني المتوفى 1250هـ تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه وضبط نصه ورتبه وصنع فهارسه أبو مصعب محمد صبحي بن حسن حلاق بقية القسم الرابع: (الفقه وأصوله) (ص 5273 - ص5962) القسم الخامس: (اللغة العربية وعلومها) (ص5965 - ص6370) المجلد السادس

رسائل المجلد السادس بقية الفقه وأصوله والقسم الخامس: اللغة العربية وعلومها 174 - بحث في مؤاخاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الصحابة. 40/ 4. 175 - بحث في المتحابين في الله. 34/ 5. 176 - تنبيه الأفاضل على ما ورد في زيادة العمر ونقصانه من الدلائل. 43/ 4. 177 - زهر النسرين الفائح بفضائل المعمرين. 18/ 1. 178 - بحث في سؤال عن الصبر والحلم هل هما متلازمان أم لا؟ 25/ 4. 179 - بحث في الإضرار بالجار. 33/ 1. 180 - نثر الجوهر على حديث أبي ذر. 1/ 53. 181 - سؤال وجواب في فقراء الغرباء الواصلين إلى مكة من سائر الجهات ومكثهم في المسجد الحرام. 9/ 5. 182 - رفع الريبة فيما يجوز وما لا يجوز من الغيبة. 10/ 4. 183 - رسالة في حكم القيام لمجرد التعظيم. 20/ 1. 184 - العرف الندي في جواز إطلاق لفظ سيدي. 17/ 3. 185 - هذه مناقشة للبحث السابق لبعض الهنود الساكنين في تهامة تحقيق الرباني للعالم العمراني على رسالة الشوكاني [العرف الندي في جواز لفظ سيدي]. 17/ 3. 186 - ذيل العرب الندي في جواز إطلاق لفظ سيدي جوابا على المناقشة السابقة. 18/ 3. 187 - جواب سؤالات وصلت من كوكبان. 41/ 4. 188 - الدواء العاجل لدفع العدد الصائل. 17/ 4.

189 - الحسن في فضائل أهل اليمن. 33/ 4. 190 - مجموعة من الحكم لبعض الحكماء المتقدمين 24/ 3. 191 - بحث: مشتمل على الكلام فيما يدور بين كثير من الناس هل الامتثال خير من الأدب أو الأدب خير من الامتثال. 28/ 5. 192 - بحث في الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 23/ 5. 193 - سؤال وجواب عن الصلاة المأثورة عن رسول الله. 38/ 1. 194 - طيب الكلام في تحقيق لفظ الصلاة على خير من حملته الأقدام. 4/ 5. 195 - بحث في الأذكار الواردة في التسبيح. 24/ 4. 196 - نزهة في التفاضل بين الأذكار. 24/ 5. 197 - الاجتماع على الذكر والجهر به. 12/ 5. 198 - سؤال وجواب عن أذكار النوم. 36/ 1، 5/ 1. 199 - جواب الشوكاني على الدماميني 37/ 4. 200 - سؤال عن الفرق بين الجنس واسم الجنس وبينهما وبين علم الجنس وبين اسم الجنس، واسم الجمع وبين اسم الجمع مع الجواب. 11/ 1. 201 - بحث في تبادر اللفظ عند الإطلاق. 33/ 5. 202 - فتح الخلاق في جواب مسائل الشيخ العلامة عبد الرزاق الهندي. 30/ 5. 203 - نزهة الأحداق في علم الاشتقاق 1/ 5. 204 - كلام في فن المعاني والبيان "تعليق من الشوكاني على كلام صاحب الفوائد الغيائية". 10/ 5. 205 - الروض الوسيع في الدليل المنيع على عدم انحصار علم البديع. 22/ 5. 206 - فتح القدير في الفرق بين المعذرة والتعذير. 2/ 4. 207 - بحث في الرد على الزمخشري في استحسان المربة. 28/ 4.

208 - الطود المنيف في ترجيح ما قاله السعد على ما قاله الشريف من اجتماع الاستعارة التمثيلية والتبعية في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}. 20/ 3. 209 - جيد النقد بعبارة الكشاف والسعد. 29/ 3. 210 - القول الصادق في ترتيب الجزاء عن السابق. 15/ 3. 211 - فائق الكسافي جواب عالم الحسا. 5/ 3. 212 - بحث: فيما زاده الشوكاني من أبيات شعرية صالحة للاستشهاد بها في المحاورات وعند المخاصمات وأضافها إلى ما يصلح لهذه الأغراض. 18/ 5. 213 - بحث في سيحون وجيحون وما ذكره أئمة اللغة في ذلك ويليه مناقشة لبعض أهل العلم في البحث السابق ثم جواب المناقشة السابقة. 3/ 3 (¬1). 214 - الحد التام والحد الناقص (بحث في المنطق) 8/ 5 (¬2). ¬

(¬1) قامت الباحثة محفوظة بنت علي شرف الدين بتحقيق الرسائل رقم (178) و (182) و (188) و (208) و (213) من هذا المجلد. (¬2) الرقم على يمين الخط يشير إلى رقم الرسالة في المجلد. والرقم على يسار الخط يشير إلى رقم المجلد من الفتح الرباني.

بحث في مؤاخاته صلى الله عليه وآله وسلم بين الصحابة

بحث في مؤاخاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بين الصحابة تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في مؤاخاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الصحابة. 2 - موضوع الرسالة: "فقه". 3 - أول الرسالة: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الأكرمين وصحبه الأفضلين. وبعد: 4 - آخر الرسالة: ومجرد الفعل يصلح لمطلق المشروعية عند وجود السبب وفي هذا المقدار كفاية. وإن كان المقام محتملا للبسط. كتبه المجيب محمد الشوكاني غفر الله له وتجاوز عنه. هذا منقول عن خطه نفع الله المسلمين بعلومه آمين. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 7 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 15 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 9 كلمات. 9 - الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الأكرمين، وصحبه الأفضلين. وبعد: فإنه سأل بعض أهل العلم عن الحكمة فيما وقع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من المؤاخاة (¬1) بين الصحابة بعد الهجرة، وذكر في سؤاله تكميلا لما أشكل عليه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ آخى بين غني وغني، وبين مهاجري ومهاجري، حتى ¬

(¬1) قال الحافظ في "الفتح" (7/ 271) وكان ابتداء المؤاخاة أوائل قدومه المدينة واستمر يجددها بحسب من يدخل في الإسلام أو يحضر المدينة. وقال الحافظ في "الفتح" (7/ 370): قال ابن عبد البر: كانت المؤاخاة مرتين: مرة بين المهاجرين خاصة وذلك بمكة. - وقد أنكر ابن تيمية في رده على الرافضي في "منهاج السنة" (7/ 117،361) المؤاخاة بين المهاجرين وخصوصا مؤاخاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي قال: لأن المؤاخاة شرعت لإرفاق بعضهم بعضا، ولتأليف قلوب بعضهم على بعض فلا معنى لمؤاخاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأحد منهم ولا لمؤاخاة مهاجري لمهاجري، وهذا رد للنص بالقياس وإغفال عن حكمة المؤاخاة لأن بعض المهاجرين كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة والقوى فآخى بين الأعلى ليرتفق الأدنى بالأعلى ويستعين الأعلى بالأدنى ولهذا تظهر مؤاخاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي لأنه هو الذي كان يقوم به من عهد الصبا من قبل البعثة واستمر، وكذلك مؤاخاة حمزة وزيد بن حارثة لأن زيدا مولاهم فقد ثبت أخوتهما وهما من المهاجرين. ومرة بين المهاجرين والأنصار. ثم نقل الحافظ في " الفتح" (7/ 370) عن ابن سعد بأسانيد الواقدي إلى جماعة من التابعين قالوا: لما قدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار على المواساة وكانوا يتوارثون، وكانوا تسعين نفسا بعضهم من المهاجرين وبعضهم من الأنصار، وقيل كانوا مائة فلما نزل: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ} بطلت المواريث بينهم بتلك المؤاخاة. قال السهيلي: آخى بين أصحابه ليذهب عنهم وحشة الغربة ويتأنسوا من مفارقة الأهل والعشيرة ويشد بعضهم أزر بعض، فلما عز الإسلام واجتمع الشمل وذهبت الوحشة أبطل المواريث وجعل المؤمنين كلهم إخوة وأنزل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} يعني في التواد وشمول الدعوة، واختلفوا في ابتدائها فقيل بعد الهجرة بخمسة أشهر، وقيل بتسعة، وقيل وهي يبني المسجد وقيل قبل بنائه، وقيل بسنة وثلاثة أشهر قبل بدر. "فتح الباري" (7/ 270 - 271).

آخى بينه وبين علي رضي الله عنه، وهل الإخاء مرة واحدة أم بحسب التدرج أو الأسباب؟ وما الفرق بين الإخاء والحلف؟ وهل نهى عن الحلف في الإسلام أم لا؟ وهل يجب على الإمام العادل الإخاء بين المسلمين عملا بفعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أم لا؟ انتهى.

وأقول: - حامدا الله سبحانه، ومصليا على رسوله وآله -. إني لم أقف لأحد من أهل العلم على كلام فيما اشتمل عليه هذا السؤال، وقد تقرر في أصول الشريعة أنه يجب العمل بما ورد عن الشارع، وإن لم نقف على وجه الحكمة فيه، فليس ذلك معتبرا في التعبد بأحكام الشرع، بل يجب علينا قبول ما ورد، والعمل به في العمليات، واعتقاده في الاعتقادات، وإن جهلنا وجهه، ولم نعقل الحكمة (¬1) فيه. ¬

(¬1) قال ابن تيمية في "منهاج السنة النبوية " (1/ 141): "وقال الجمهور من أهل السنة وغيرهم: بل هو حكيم في خلقه وأمره، والحكمة ليست مطلق المشيئة، إذ لو كان كذلك لكان كل مريد حكيما، ومعلوم أن الإرادة تنقسم إلى محمودة ومذمومة، بل الحكمة تتضمن ما في خلقه وأمره من العواقب المحمودة، والغايات المحبوبة. والقول بإثبات هذه الحكمة ليس قول المعتزلة من وافقهم من الشيعة فقط بل هو قول جماهير طوائف المسلمين، من أهل التفسير والفقه والحديث والتصوف والكلام، وغيرهم. فأئمة الفقهاء متفقون على إثبات الحكمة والمصالح في أحكامه الشرعية". وقال القرطبي في "المفهم" (6/ 216): أن لله تعالى فيما يجريه حكما وأسرارا راعاها ومصالح راجعة إلى خلقه اعتبرها. كل ذلك بمشيئته وإرادته من غير وجوب عليه ولا حكم عقلي يتوجه إليه، بل ذلك بحسب ما سبق من علمه ونافد حكمه، فما اطلع عليه من تلك الأسرار عرف، وما لا فالعقل عنده يقف. وحذار من الاعتراض والإنكار! فإن مآل ذلك إلى الخيبة وعذاب النار. وقال الحافظ في "الفتح" (13/ 450) في "شرح باب في المشيئة والإرادة": "وقالوا في قوله تعالى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران:26] أي يعطي من اقتضته الحكمة الملك، يريدون أن الحكمة تقتضي رعاية المصلحة، ويدعون وجوب ذلك على الله، تعالى الله عن قولهم، وظاهر الآية أن يعطي الملك من يشاء سواء كان متصفا بصفات من يصلح للملك أم لا؟ من غير رعاية استحقاق ولا وجوب ولا أصلح بل يؤتي الملك من يكفر به ويكفر نعمته حتى يهلكه، ككثير من الكفار، مثل نمرود والفراعنة، ويؤتيه إذا شاء من يؤمن به ويدعو إلى دينه ويرحم به الخلق مثل يوسف وداود وسليمان - وحكمته في كلا الأمرين علمه وأحكامه بإرادته وتخصيص مقدوراته. وقال الحافظ في"الفتح" (8/ 600) في شرح كلام البخاري على قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وفيه: "وليس فيه حجة لأهل القدر" - قال الحافظ -: "أنهم يحتجون بها على أن أفعال الله لا بد أن تكون معلومة -[المعتزلة القدرية يقولون بوجوب التعليل في الأحكام، أي معللة بالمصالح وأن هذه الأحكام صدرت عن مصلحة، والوجوب في ذلك كله عندهم بجعل الله له ولكن هذا الوجوب فرضوه على الله تعالى. قال ابن تيمية في"مجموع فتاوى" (8/ 92 - 93): وهؤلاء المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة يوجبون على الله سبحانه أن يفعل بكل عبد ما هو الأصلح له في دينه وتنازعوا في وجوب الأصلح في دنياه ثم قال - رحمه الله - وأما سائر الطوائف الذين يقولون بالتعليل من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وأهل الكلام كالكرامية وغيرهم والمتفلسفة أيضًا فلا يوافقونهم على هذا، بل يقولون أنه يفعل ما يفعل سبحانه لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى، وقد يعلم العباد أو بعض العباد من حكمته ما يطلعهم عليه وقد لا يعلمون ذلك والأمور العامة التي يفعلها تكون لحكمة عامة ورحمة عامة كإرسال محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} فإن إرساله كان من أعظم النعم على الخلق وفيه أعظم حكمة للخالق ورحمة منه للعباد ... ".]- فقال: لا يلزم من وقوع التعليل في موضع وجوب التعليل في كل موضع، ونحن نقول بجواز التعليل لا بوجوبه.

وقد ثبت في هذه الشريعة المطهرة من التعبدات ما لا يمكن أن تتعقل فيه الحكمة [1أ] (¬1) بوجه من الوجوه، ومن زعم أنه يتعقل ذلك ويعرف وجهه فقد ادعى ما ليس له، وأثبت لنفسه ما لا يقوم به، فإن هذه الصلوات الخمس التي هي رأس الأركان الإسلامية، وأساس الأمور الدينية لا يتمكن أحد أن يبين وجه الحكمة في أعداد الركعات وكونها في بعض الصلوات ركعتين، وفي بعضها ثلاثا، وفي بعضها أربعا، وكون أركانها على تلك الصفة، وأذكارها على تلك الهيئة. ومن زعم أنه يبلغ علمه إلى معرفة ذلك فقد أثبت لنفسه ما ليس لها، وتحمل ما لا يطيقه، وإذا كان هذا في الصلوات التي هي أعظم شعائر الدين وفرائض الإسلام. فما ظنك بغيرها من الفرائض! بل ما ظنك بغير الفرائض من الأمور التي جاء بها الشرع! وهكذا الكلام في سائر أركان الدين، فإنه لو زعم زاعم أنه يعرف وجه الحكمة في مناسك الحج، وكونها على تلك الأعداد بتلك الصفات، أو زعم أنه يعرف وجه ¬

(¬1) قال ابن تيمية في "منهاج السنة النبوية " (1/ 141): "وقال الجمهور من أهل السنة وغيرهم: بل هو حكيم في خلقه وأمره، والحكمة ليست مطلق المشيئة، إذ لو كان كذلك لكان كل مريد حكيما، ومعلوم أن الإرادة تنقسم إلى محمودة ومذمومة، بل الحكمة تتضمن ما في خلقه وأمره من العواقب المحمودة، والغايات المحبوبة. والقول بإثبات هذه الحكمة ليس قول المعتزلة من وافقهم من الشيعة فقط بل هو قول جماهير طوائف المسلمين، من أهل التفسير والفقه والحديث والتصوف والكلام، وغيرهم. فأئمة الفقهاء متفقون على إثبات الحكمة والمصالح في أحكامه الشرعية". وقال القرطبي في "المفهم" (6/ 216): أن لله تعالى فيما يجريه حكما وأسرارا راعاها ومصالح راجعة إلى خلقه اعتبرها. كل ذلك بمشيئته وإرادته من غير وجوب عليه ولا حكم عقلي يتوجه إليه، بل ذلك بحسب ما سبق من علمه ونافد حكمه، فما اطلع عليه من تلك الأسرار عرف، وما لا فالعقل عنده يقف. وحذار من الاعتراض والإنكار! فإن مآل ذلك إلى الخيبة وعذاب النار. وقال الحافظ في "الفتح" (13/ 450) في "شرح باب في المشيئة والإرادة": "وقالوا في قوله تعالى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران:26] أي يعطي من اقتضته الحكمة الملك، يريدون أن الحكمة تقتضي رعاية المصلحة، ويدعون وجوب ذلك على الله، تعالى الله عن قولهم، وظاهر الآية أن يعطي الملك من يشاء سواء كان متصفا بصفات من يصلح للملك أم لا؟ من غير رعاية استحقاق ولا وجوب ولا أصلح بل يؤتي الملك من يكفر به ويكفر نعمته حتى يهلكه، ككثير من الكفار، مثل نمرود والفراعنة، ويؤتيه إذا شاء من يؤمن به ويدعو إلى دينه ويرحم به الخلق مثل يوسف وداود وسليمان - وحكمته في كلا الأمرين علمه وأحكامه بإرادته وتخصيص مقدوراته. وقال الحافظ في"الفتح" (8/ 600) في شرح كلام البخاري على قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وفيه: "وليس فيه حجة لأهل القدر" - قال الحافظ -: "أنهم يحتجون بها على أن أفعال الله لا بد أن تكون معلومة -[المعتزلة القدرية يقولون بوجوب التعليل في الأحكام، أي معللة بالمصالح وأن هذه الأحكام صدرت عن مصلحة، والوجوب في ذلك كله عندهم بجعل الله له ولكن هذا الوجوب فرضوه على الله تعالى. قال ابن تيمية في"مجموع فتاوى" (8/ 92 - 93): وهؤلاء المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة يوجبون على الله سبحانه أن يفعل بكل عبد ما هو الأصلح له في دينه وتنازعوا في وجوب الأصلح في دنياه ثم قال - رحمه الله - وأما سائر الطوائف الذين يقولون بالتعليل من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وأهل الكلام كالكرامية وغيرهم والمتفلسفة أيضًا فلا يوافقونهم على هذا، بل يقولون أنه يفعل ما يفعل سبحانه لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى، وقد يعلم العباد أو بعض العباد من حكمته ما يطلعهم عليه وقد لا يعلمون ذلك والأمور العامة التي يفعلها تكون لحكمة عامة ورحمة عامة كإرسال محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} فإن إرساله كان من أعظم النعم على الخلق وفيه أعظم حكمة للخالق ورحمة منه للعباد ... ".]- فقال: لا يلزم من وقوع التعليل في موضع وجوب التعليل في كل موضع، ونحن نقول بجواز التعليل لا بوجوبه.

الحكمة في الصيام وكونه على تلك الصفة في ذلك الوقف المخصوص، أو زعم أنه يعرف وجه الحكمة في كون فرائض الزكاة على تلك الصفة في تلك الأعداد لكان زاعما [1ب] زعما باطلا، ومدعيا دعوى مدفوعة، ومتكلفا (¬1) ما ليس من شأنه، ومتقولا على الله ما لم يقل، وقد ورد في الزجر عن ذلك في الكتاب العزيز ما ترجف له الأفئدة، وتقشعر له الجلود. قال الله - عز وجل -: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (¬2)، فجعل التقول على الله - سبحانه - قرينا للشرك، وعديلا للفواحش. وكفى هذا زاجرا لكل من: {لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (¬3). ¬

(¬1) نقول: إن مذاهب أهل السنة والجماعة في الحكمة والتعليل وهو: "أن أفعال الله تعالى تعلل بالحكم والغايات الحميدة، التي تعود على الخلق بالمصالح والمنافع، ويعود على الله تعالى حبه ورضاه لتلك الحكم، وهذه الحكم مقصودة، ويفعل لأجل حصولها كما تدل عليه النصوص من القرآن والسنة، ورد التعليل في القرآن في مواضع لا تكاد تحصى بأدوات متنوعة". قال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 32]. وقال سبحانه: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ} [البقرة: 143]. وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}. فأهل السنة لا ينكرون إمكان التعليل، وإنما ينكرون وجوبه. قال ابن تيمية في "مجموعة الفتاوى" (8/ 97): "إذا علم العبد من حيث الجملة أن لله فيما خلقه وأمر به حكمة عظيمة كفاه هذا. ثم كلما ازداد علما وإيمانا ظهر له من حكمة الله ورحمته ما يبهر عقله، ويبين له تصديق ما أخبر الله به في كتابه حيث قال: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]. (¬2) [الأعراف: 33]. (¬3) [ق: 37].

والحاصل أن في الشريعة المطهرة مما لا يمكن تعقل وجه الحكمة فيه ما لا يأتي عليه الحصر، وانظر هل يدعي مدع، أو يزعم زاعم أنه يعرف وجه الحكمة في كون حد الزنا مائة جلدة، وحد القذف ثمانين جلدة، وحد الشرب أربعين أو ثمانين. فكل عاقل فضلا عن عالم لا يشك ولا يرتاب في بطلان هذه الدعوى، وكذب هذا الزعم. ولو ذهب ذاهب يتكلم في ذلك لجاء بما يضحك منه كل سامع، ويسخر منه كل عاقل. وإذا عرفت هذا وتقرر عندك معناه فاعلم أن وجه الحكمة [2أ] في المؤاخاة هو ظاهر الوجه، واضح المنزع، بين السبب، جلي الفائدة. وليس القول فيه من التكلف لما لا يعلم، ولا من التقول على الله بما لا حقيقة له؛ فإن كل عاقل فضلا عن عالم يعرف أن تعاضد الرجلين على أمور المعاش، وتحصيل ما يكون به السداد من عوز الحاجة له مزيد تأثير على ما يكون من الواحد الفرد، وهكذا التعاضد على الأمور الدينية، والتعاون على تحصيلها، فإن ذلك من الأثر ما لا يخفي على عاقل، ولهذا أمر الله - سبحانه - به في قوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (¬1) وهكذا كل ما ورد في الكتاب والسنة من الندب للعباد إلى التعاضد والتناصر والتعاون، فإن وجه الحكمة فيه هو من هذا القبيل، بل لذلك تأثير في التعاضد على مجرد إدارة الرأي والتفاوض فيما ينوب من الأمور كما قال شاعر: ورأيان أحزم من واحد ... ورأي الثلاثة لا ينقض ومعلوم أن الأخوة (¬2) الدينية الكائنة على لسان النبوة المصطفوية الصادرة عن الترجيح المحمدي - عليه أشرف صلاة وأكمل تسليم - يكون لها في قلوب المؤمنين من المواقع ما ¬

(¬1) [المائدة: 2]. (¬2) انظر "فتح الباري" (7/ 270 - 271).

لا يكون لإخوة النسب [2ب]، فيجهد كل واحد منهما في تحصيل نفع أخيه بما لا يبلغ إليه الشقيق في النسب، ومن ذلك المواساة من كل واحد منهما للآخر بما تملكه يده، والتعاضد في تحصيل مواد العيش. وقد يتناوبان في أمور الدين والدنيا فيسعى أحدهما في تحصيل علم الشرع يوما، والأخر في تحصيل أمور المعاش يوما، كما ثبت في الصحيح (¬1) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يتناوب هو وأخوه الأنصاري في الذهاب إلى حضرة النبوة يوما فيوم، فيأتي من نزل منهما الحضرة المصطفوية بما حدث فيها من الأخبار والشرائع، ويقوم الآخر في ذلك اليوم بما يحتاجان إليه من أمور الدنيا، ومن أعظم الفوائد وأجل المقاصد أنه يحصل بهذه المؤاخاة المودة الخالصة، والتحاب الصحيح، وقد ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "أن المتحابين في الله على منابر من نور يوم القيامة" (¬2) فلو لم يكن من فوائد هذه الأخوة إلا هذه الفائدة فكيف ولها من فوائد الدين والدنيا ما لا يخفى على عاقل! وقد أوضحنا بعضه. وأما قول السائل - عافاه الله -: وما الفرق بين الإخاء والحلف (¬3)؟ ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (89) معلقا وأطرافه: [2468، 4913، 4915، 5191، 5218، 5843، 7256، 7263] من حديث عبد الله بن عباس، عن عمر قال: كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد - وهي من عوالي المدينة - وكنا نتناوب النزول على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينزل يوما، وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره وإذا نزل فعل مثل ذلك ... ". (¬2) أخرجه الترمذي في "السنن" رقم (2390) من حديث معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "قال الله عز وجل: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء". وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح: وهو حديث صحيح. انظر الرسالة الآتية رقم (175). (¬3) قال ابن الأثير في "النهاية" (1/ 424 - 425) أصل الحلف: المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق فما كان منه في الجاهلية على الفتن والقتال بين القبائل فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا حلف في الإسلام" أخرجه البخاري رقم (6083) من حديث أنس بن مالك. وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الرحم كحلف المطيبين وما جرى مجراه، فذلك الذي قال فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة" - أخرجه مسلم في صحيحه رقم (206/ 2530) من حديث جبير بن مطعم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة" - يريد من المعاقدة على الخير ونصرة الحق وبذلك يجتمع الحديثان وهذا هو الحلف الذي يقتضيه الإسلام. والممنوع منه ما خالف حكم الإسلام. وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا حلف في الإسلام" قاله زمن الفتح فكان ناسخا، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر رضي الله عنه من المطيبين، وكان عمر رضي الله عنه من الأحلاف والأحلاف ست قبائل: عبد الدار وجمح ومخزوم وعدي وكعب وسهم سموا بذلك لأنهم لما أرادت بنو عبد مناف أخذ ما في أيدي عبد الدار من الحجامة والرفادة واللواء والسقاية، وأبت عبد الدار، عقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكدا على أن لا يتخاذلوا، فأخرجت بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا فوضعتها لأحلافهم وهم أسد، وزهرة، وتيم، في المسجد عند الكعبة، ثم غمس القوم أيديهم فيها وتعاقدوا، وتعاقدت بنو عبد الدار وحلفاؤها حلفا آخر مؤكدا فسموا الأحلاف لذلك. وقد أخرج أحمد في "المسند" (1/ 190، 193) وأبو يعلى في مسنده رقم (846) وابن حبان في صحيحه رقم (4373) والحاكم (2/ 219 - 220) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 366) وفي "الدلائل" (2/ 37 - 38) والبخاري في "الأدب المفرد" رقم (567) عن عبد الرحمن بن عوف، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "شهدت غلاما مع عمومتي حلف المطيبين، فما أحب أن لي حمر النعم، وإني أنكثه". وهو حديث صحيح. قال القرطبي في "المفهم" (6/ 482 - 483): قوله: "لا حلف في الإسلام" أي: لا يتحالف أهل الإسلام كما كان أهل الجاهلية يتحالفون، وذلك أن المتحالفين: كانا يتناصران في كل شيء، فيمنع الرجل حليفه، وإن كان ظالما، ويقوم دونه، ويدفع عنه بكل ممكن، فيمنع الحقوق، وينتصر به على الظلم والبغي، والفساد، ولما جاء الشرع بالانتصاف بالحدود، وبين الأحكام أبطل ما كانت الجاهلية عليه ممن ذلك، وبقي التعاقد والتحالف على نصرة الحق، والقيام به، وأوجب ذلك بأصل الشريعة إيجابا عاما على من قدر عليه من المكلفين.

وأقول [3أ]: الفرق بينهما واضح، فإن التحالف الذي كان في زمن الجاهلية، وأوائل الإسلام هو مشتمل على التوارث، وتنزيل الأخ في الحلف منزلة الأخ في

النسب، وليس في المؤاخاة الإسلامية الكائنة عن أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلا مجرد التعاضد والتعاون على أمور الدين والدنيا، وهذه سنة نبوية ثابتة لم تنسخ، ولا ورد ما يرفعها بخلاف التحالف، فإنه قد نسخ (¬1) وارتفع حكمه في هذه الشريعة، فلا توارث ¬

(¬1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2292) وطرفاه (4580، 6747) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما "وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ" [النساء:33]. قال: ورثة. "وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ" قال: كان المهاجرون لما قدموا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة يرث المهاجر الأنصاري دون رحمه، للأخوة التي آخى بينهم، فلما نزلت " وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ" نسخت ثم قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ" إلا النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث ويوصي له. قال ابن كثير في تفسيره (4/ 95) في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال:72]. ذكر تعالى أصناف المؤمنين، وقسمهم إلى مهاجرين، خرجوا من ديارهم وأموالهم، وجاءوا لنصر الله ورسوله، وإقامة دينه، وبذلوا أموالهم وأنفسهم في ذلك، وإلى أنصار، وهم: المسلمون من أهل المدينة إذ ذاك، آووا إخوانهم المهاجرين في منازلهم، وواسوهم في أموالهم، ونصروا الله ورسوله بالقتال معهم، فهؤلاء بعضهم أولى ببعض أي: كل منهم أحق بالآخر من كل أحد ولهذا آخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين المهاجرين والأنصار، كل اثنين أخوان فكانوا يتوارثون بذلك إرثا مقدما على القرابة حتى نسخ الله تعالى ذلك بالمواريث. قال الحافظ في" الفتح " (4/ 474): قال الخطابي: قال ابن عيينة حالف بينهم أي آخى بينهم، يريد أن معنى الحلف في الجاهلية معنى الأخوة في الإسلام لكنه في الإسلام جار على أحكام الدين وحدوده، وحلف الجاهلية جرى على ما كانوا يتواضعونه بينهم بآرائهم، فبطل منه ما خالف حكم الإسلام وبقي ما عدا ذلك على حاله. قال الحافظ في: "الفتح" (4/ 474): واختلف الصحابة في الحد الفاصل بين الحلف الواقع في الجاهلية والإسلام. فقال ابن عباس: ما كان قبل نزول الآية المذكورة جاهلي وما بعدها إسلامي وعن علي ما كان قبل " لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ " جاهلي. وعن عثمان: كل حلف كان قبل الهجرة جاهلي، وما بعدها إسلامي. وعن عمر: كل حلف كان قبل الحديبية فهو مشدود وكل حلف بعدها منقوض، ثم قال الحافظ: وأظن قول عمر أقواها ويمكن الجمع بأن المذكورات في رواية غيره ما يدل على تأكد حلف الجاهلية والذي في حديث عمر ما يدل على نسخ ذلك. قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (16/ 82): المنفي حلف التوارث وما يمنع منه الشرع، وأما التحالف على طاعة الله ونصر المظلوم والمؤاخاة في الله تعالى فهو أمر مرغب فيه. قال القرطبي في "المفهم" (6/ 479): المؤاخاة: مفاعلة من الأخوة ومعناها: أن يتعاقد الرجلان على التناصر والمواساة. والتوارث حتى يصيرا كالأخوين نسبا، وقد يسمى ذلك حلفا ... وكان ذلك أمرا معروفا في الجاهلية معمولا به عندهم ولم يكونوا يسمونه إلا حلفا، ولما جاء الإسلام عمل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به، وورث به على ما حكاه أهل السير. ثم قال (6/ 483): وسمى ذلك أخوة مبالغة في التأكيد والتزام الحرمة ولذلك حكم فيه بالتوارث حتى تمكن الإسلام، واطمأنت القلوب، فنسخ الله تعالى ذلك بميراث ذوي الأرحام.

به. وقد نزل في شأن ذلك القرآن الكريم، قال الله - عز وجل -: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} (¬1) وتولى الله - سبحانه - تفريض الفرائض، وتقدير المواريث في كتابه العزيز، ونسخ كثيرا مما كان في زمن الجاهلية. وأما قول السائل - عافاه الله -: وهل يجب على الإمام العادل الإخاء بين المسلمين عملا بفعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ (¬2) -؟ ¬

(¬1) [الأنفال:75]. (¬2) قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (35/ 93 - 94): كذلك تنازع الناس هل يشرع في الإسلام أن يتآخى اثنان ويتحالفا كما فعل المهاجرون والأنصار؟ فقيل: إن ذلك منسوخ. لما رواه مسلم في صحيحه رقم (206) - تقدم تخريجه - عن جبير أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا حلف في الإسلام وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة" ولأن الله قد جعل المؤمنين إخوة بنص القرآن، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه". أخرج الشطر الأول البخاري في صحيحه رقم (2442) ومسلم رقم (58) من حديث عمر رضي الله عنه. وأخرج الشطر الثاني من الحديث البخاري في صحيحه رقم (13) ومسلم رقم (71، 72) من حديث أنس بن مالك. فمن كان قائما بواجب الإيمان كان أخا لكل مؤمن، ووجب على كل مؤمن أن يقوم بحقوقه، وإن لم يجر بينهما عقد خاص، فإن الله ورسوله قد عقدا الأخوة بينهما بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وددت أني قد رأيت إخواني" أخرجه مسلم رقم (39). ومن لم يكن خارجا عن حقوق الإيمان وجب أن يعامل بموجب ذلك فيمد على حسناته ويوالي عليها وينهى عن سيئاته، ويجانب عليها بحسب الإمكان وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " انصر أخاك ظالما أو مظلوما " قلت يا رسول الله! أنصره مظلوما، فكيف أنصره ظالما؟ قال: "تمنعه من الظلم، فذاك نصرك إياه" أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6952) بنحوه من حديث أنس رضي الله عنه وأخرجه مسلم رقم (62) من حديث جابر. والواجب على كل مسلم أن يكون حبه وبغضه، موالاته ومعاداته تابعا لأمر الله سبحانه ورسوله، فيحب ما أحب الله ورسوله ويبغض ما أبغضه الله ورسوله ويوالي من يوالي الله ورسوله، ويعادي من يعادي الله ورسوله.

فأقول: إن كان يظن الإمام أن لذلك مزيد أثر في الأمور العائدة على العباد بمصالح الدين والدنيا فعله، ولا سيما في مبادي ظهور الحق وفشو شرائع الإسلام في ذلك المكان ولم يرد ما يدل على الوجوب، ومجرد الفعل يصلح لمطلق المشروعية عند وجود السبب. وفي هذا [3ب] المقدار كفاية، وإن كان المقام محتملا للبسط. كتبه المجيب محمد الشوكاني - غفر الله له، وتجاوز عنه -. هذا منقول عن خطه - نفع الله المسلمين بعلومه - آمين [4أ].

بحث في المتحابين في الله

بحث في المتحابين في الله تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في المتحابين في الله. 2 - موضوع الرسالة: آداب. 3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم" وجدت بخط المولى شيخ الإسلام ما لفظه: سانحة فكرت بعض الليالي في حديث المتاحبين في الله .. 4 - آخر الرسالة: اللهم أنت الهادي لا هادي سواك اهد قلوبنا إلى سلوك ما فيه رضاك، قال في الأم: حرره قائله محمد بن علي الشوكاني وفقه الله. 5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول. 6 - عدد الصفحات: 10 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 20 سطرا. ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها أربعة. 8 - عدد الكلمات في السطر: 9 كلمات. 9 - الرسالة من المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم وجدت بخط المولى شيخ الإسلام ما لفظه: سانحة فكرت بعض الليالي في حديث: "المتحابون في الله على منابر من نور" (¬1) فاستعظمت هذا الجزاء مع حقارة العمل، ثم ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في "السنن" رقم (2390) من حديث معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " قال الله عز وجل: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء ". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. - وأخرجه أحمد (5/ 239) والطبراني في "الكبير" (20/ 144، 145، 146، 147، 148، 149، 151) وأبو نعيم في "الحلية" (2/ 131) من طرق. - وأخرجه ابن حبان في صحيحه رقم (577) بلفظ: عن أبي مسلم الخولاني، قال: قلت لمعاذ بن جبل: والله إني لأحبك لغير دنيا أرجو أن أصيبها منك، ولا قرابة بيني وبينك، قال: فلأي شيء؟ قلت: لله، قال: فجذب حبوتي، ثم قال: أبشر إن كنت صادقا، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "المتحابون في الله في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله، يغبطهم بمكانهم النبيون والشهداء". - وأخرج أحمد في: "المسند" (2/ 292) ومسلم رقم (38/ 2567) والبخاري في "الأدب المفرد" رقم (350) والبغوي في "شرح السنة" رقم (3465) عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى قال: فأرصد الله له على مدرجته ملكا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في هذه القرية، فقال له: هل له عليك من نعمة تربها؟ قال: لا، غير أني أحبه في الله، قال: فإني رسول الله إليك، إن الله جل وعلا أحبك كما أحببته فيه". - وأخرج مسلم في صحيحه رقم (37/ 2566) وأحمد (2/ 237) والدارمي (2/ 312) والبغوي في "شرح السنة" رقم (3462) ومالك في "الموطأ" (2/ 952) من طرق. - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يقول الله تبارك وتعالى أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي ". وهو حديث صحيح. - وأخرج أحمد (5/ 233) والطبراني في "الكبير" (20/ 144، 145، 147، 148) والحاكم (4/ 170) من حديث معاذ. وهو حديث صحيح. - وأخرج ابن حبان رقم (573) والطبري في "تفسيره" (7 \ جـ11/ 132) والنسائي في: "السنن الكبرى " رقم (11236) بإسناد حسن. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن من عباد الله عبادا ليسوا بأنبياء، يغبطهم الأنبياء والشهداء قيل: من هم لعلنا نحبهم؟ قال: هم قوم تحابوا بنور الله من غير أرحام ولا أنساب، وجوههم نور على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، ثم قرأ: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62]. - وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يا أيها الناس، اسمعوا واعقلوا، واعلموا أن لله عز وجل عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وقربهم من الله" فجثا رجل من الأعراب من قاصية الناس، وألوى بيده إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، ناس من الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله! انعتهم لنا جلهم لنا، يعني: صفهم لنا شكلهم لنا، فسر وجه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسؤال الأعرابي فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هم ناس أفناء الناس ونوازع القبائل، لم تصل بينهم أرحام متقاربة تحابوا في الله وتصافوا، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسون عليها، فيجعل وجوههم نورا، وثيابهم نورا. يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون". - أخرجه أحمد (5/ 343) وقال الهيثمي في "المجمع" (10/ 276 - 277): " رواه كله أحمد، والطبراني بنحوه ورجاله وثقوا". وهو حديث حسن. * وأخرجه الحاكم (4/ 170) من حديث عمر بإسناد صحيح. *وأخرجه أبو يعلى في مسنده رقم (6110) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه أحمد في "المسند" (5/ 239) بإسناد صحيح. *عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يأثر عن ربه تبارك وتعالى يقول: "حقت محبتي للمتحابين في، وحقت محبتي للمتواصلين في، وحقت محبتي للمتزاورين في، وحقت محبتي للمتباذلين في ". وقد صحح الحديث الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4320). * وعن عمرو بن عبسة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " قال الله عز وجل: قد حقت محبتي للذين يتحابون من أجلي، وقد حقت محبتي للذين يتزاورون من أجلي، وقد حقت محبتي للذين يتباذلون من أجلي، وقد حقت محبتي للذين يتصادقون من أجلي ". - أخرجه أحمد في "المسند" (4/ 386) والطبراني في "الصغير" (1095) وفي "الأوسط" رقم (9076) والبيهقي في "شعب الإيمان" رقم (8996) وأورده الهيثمي في "المجمع" (10/ 279) وقال: رواه الطبراني في الثلاثة وأحمد بنحوه ورجال أحمد ثقات. وهو حديث صحيح. قال القرطبي في "المفهم" (6/ 543): في هذه الأحاديث - ما أخرجه مسلم رقم (37/ 2566)، (38/ 2567) - على أن الحب في الله والتزاور فيه من أفضل الأعمال، وأعظم القرب إذا تجرد ذلك عن أغراض الدنيا وأهواء النفوس، وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان". أخرجه أحمد (3/ 438، 440) وأبو داود رقم (4681) من حديث أبي أمامه وهو حديث صحيح. - وأخرجه أحمد في "المسند" (3/ 438، 440) والترمذي رقم (2521) والحاكم (1/ 61) والبيهقي في "شعب الإيمان" رقم (15) وأبو يعلى في مسنده رقم (1485) من حديث معاذ بن أنس الجهني عن أبيه رضي الله عنه. وهو حديث حسن. - وأخرج البخاري في صحيحه رقم (6941) ومسلم رقم (43) والترمذي رقم (2624) والنسائي (8/ 96). عن أنس رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبدا لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار. قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (2/ 13 - 14): هذا حديث عظيم أصل من أصول الإسلام، قال العلماء رحمهم الله: معنى حلاوة الإيمان استلذاذ الطاعات وتحمل المشقات في رضى الله عز وجل ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإيثار ذلك على عرض الدنيا ومحبة العبد ربه سبحانه وتعالى بفعل طاعته وترك مخالفته وكذلك محبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال القاضي عياض في "إكمال المعلم بفوائد مسلم " (1/ 278 - 279): " وذلك لا تتضح محبة الله ورسوله حقيقة، والحب للغير في الله وكراهة الرجوع إلى الكفر، إلا لمن قوى بالإيمان يقينه، واطمأنت به نفسه وانشرح له صدره. وخالط دمه ولحمه، وهذا هو الذي وجد حلاوته. والحب في الله من ثمراته الحب لله. ومعنى حب العبد لله: استقامته في طاعته، والتزامه أوامره ونواهيه في كل شيء. ولهذا قال بعضهم: المحبة مواطأة القلب على ما يرضي الرب، فيحب ما أحب ويكره ما يكره. قال الحافظ في "الفتح" (1/ 62): قال يحيى بن معاذ: حقيقة الحب في الله أن لا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفاء. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما تحاب رجلان في الله إلا كان أحبهما إلى الله عز وجل أشدهما حبا لصاحبه" من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد " رقم (544) وابن حبان في صحيحه رقم (566) وأبو يعلى في مسنده رقم (3419) والبزار رقم (3600 - كشف) والحاكم (4/ 171) وصححه ووافقه الذهبي. وهو حديث صحيح. انظر: "الصحيحة" رقم (450).

راجعت الذكر فوجدت التحاب في الله من أصعب الأمور وأشدها، ووجوده في الأشخاص الإنسانية أعز من الكبريت الأحمر، فذهب ما تصورته من الاستعظام للجزاء، وبيان ذلك أن التحاب الكائن بين النوع الإنساني راجع عند إمعان النظر إلى محبة الدنيا، لا يبعث عليه إلا عرض دنيوي، فإنك إذا عمدت إلى الفرد الكامل من نوع المحبة وهو محبة الولد لوالده، والوالد لولده، وأحد الزوجين للآخر وجدته يؤول إلى محبة الدنيا لزواله بزوال الغرض الدنيوي، مثلا لو كان لرجل ولد كامل الأدوات والحواس الظاهرة والباطنة وجدته في الإشفاق عليه والمحبة له بمكان تقصر عنه العبارة؛ لأنه يرجو منه بعد حين أن يقوم بما يحتاج إليه من حوائج الدنيا، فلو عرض له الموت، وهو بهذه الصفة حصل مع والده ما نشاهده فيمن مات ولده من الغم والحزن والتحسر والتلهف [1ب] والبكاء والعويل، ولكن هذا ليس إلا لذلك الغرض الدنيوي، ويوضح ذلك هذا أنه لو حصل مع الولد عاهة من العاهات التي يغلب على الظن استمرارها، وعجز من كانت به عن القيام بأمور الدنيا كالعمى، والإقعاد، وجدت والده عند ذلك يعد أيامه من عافيته، ربما يتمنى موته، وإذا مات كان أيسر مفقود إن لم يحصل السرور للأب بموته، فلو كانت تلك المحبة لمحض القرابة مع قطع النظر عن الدنيا لوجدت الاتحاد في الشفقة بين الحالتين، ولكن الأمر على خلاف ذلك بالاستقراء، مع أن القرابة لا تزول بزوال البصر مثلا، إنما الذي زال ما كان مؤملا من النفع الدنيوي، فكشف ذلك أن المحبوب هو

الدنيا لا الولد لذاته، ولا لقرابته، كذلك محبة الولد لوالده، فإنك تجد الولد قبل اقتداره مع كون والده هو القائم بجميع ذلك لبقاء قوته، وعدم عجزه عن الاكتساب غير من محبة والده لا يقادر قدرها، ولا يمكن تصورها، ولا يمكن تصور كنهها، فإذا عرض موته حصل مع الولد من الجزع والفزع ما نشاهده [2أ] فيمن كانت كذلك، وهو عند التحقيق إنما يبكي لما فاته من المنافع التي كانت تصل إليه، وإلى قرابته من والده، وبرهان هذا أنه لو بلغ الولد إلى حد لا يحتاج معه في الدنيا إلى أحد، وصار وجود والده كعدمه في إدخال المنافع الدنيوية عليه وعلى من يعول كان أهون مفقود عليه، بل ربما حصل له بموته السرور، ولا سيما إذا كان للأب شيء من الحطام، وهذا على فرض بقاء قوة الأب وصحته وسلامته، فالأب باق موجود حي سوي، فلو كانت المحبة للقرابة لكانت هذه الحالة كالتي قبلها، ولكن المحبة إنما هي للدنيا، فحيث يتعلق بالأب الغرض الدنيوي كان له من المحبة ما ذكرناه أولا، وحيث لم يتعلق به ذلك الغرض لم يكن له منها شيء كما ذكرناه ثانيا. وأما إذا بلغ الأب إلى حد الضعف والقعود والعجز الكلي عن مباشرة الأمور، فربما يتمنى ولده موته، والأبوة والبنوة بحالهما، فالحاصل أن بكاء الأب على ولده بكاء على فوت دنياه الآجلة، وبكاء الولد على والده بكاء لدنياه العاجلة، ومن أنكر هذا كرر النظر فيه، وأمعنه، فإنه يجده صحيحا، كذلك محبة الزوج لزوجته ليس إلا لما [2ب] يناله منها من اللذة الدنيوية، فلو أصيبت بمصيبة أذهبت ما يدعوه إلى محبتها من جمال، أو كمال، أو حسن تدبير في أمور المعاش وحرص على مال الزوج لوجدت الزوج يمج بها للموت، ويعد ذلك من الفرج، فإن تطاول عليه الأمر كان صبره عليها من أعظم المروءة وإلا فالغالب ..... (¬1) وقطع علاقة محبتها، فإن أحبها في تلك الحالة لكونها ذات أولاد فذلك أيضًا لأمر يرجع إلى الدنيا لما عرفت. ¬

(¬1) بياض في المخطوط.

كذلك الزوجة إذا وقع مع زوجها ما يذهب غرضها الدنيوي منه كانت مثله فيما سلف، فلو كانت المحبة لمحض الزوجية لم يذهب بذهاب العرض الدنيوي مع بقائها، كذلك المحبة بين الأجانب فإن أعظم أنواعها والفرد الكامل منها هو محبة العاشق للمعشوق، وهي آيلة إلى محبة الدنيا؛ لأن غرض العاشق قرب المعشوق واجتماعه به، والباعث على ذلك إما شفاء الداء الناشئ عن البعد، أو الالتذاذ بالمشاهدة، أو بالكلام أو بالجماع، أو مقدماته، وكل ذلك أغراض دنيوية، فلو عرض للمعشوق ما يزول به الأمر الحاصل على عشقه لما كان العاشق عاشقا حينئذ، فعرفت أن المحبة العشقية [3أ] دنيوية محضة، كذلك محبة الخادم للمخدوم، فإنها ليست إلا لكونه مزرعة لمنافعه، فلو فرض ذهاب الأمر الموجب للخدمة، أو وجود مخدوم آخر يساوي المخدوم الأول، أو يزيد عليه لم يبق من تلك المودة شيء. إذا تقرر لك أن هذه الأنواع التي هي أقوى أنواع الحب ليست إلا من محبة الدنيا لتصور بعض منافعها في ضمن شخص من الأشخاص تبين لك ما هو دونهما بفحوى الخطاب، فإنه يجعله من محبة الدنيا أولى وأحرى، وذلك كالمحبة الكائنة بين الإخلاء البالغين في التخالل إلى أعلى الدرجات، حتى يستحق كل واحد منهم بالنسبة إلى الآخر اسم الصديق أو .... (¬1) عن الغاية فيطلق على كل واحد منهم اسم الصاحب، فإنك إذا أمعنت الفكر، ودققت النظر وجدت السبب الحامل على ذلك عرضا دنيويا، وهو جلي وخفي، فإذا مات أحد الإخلاء وذلك الغرض يتعلق به [3ب] كان الحزن عليه حزنا على ذلك الغرض الفائت، وإن مات وذلك الغرض غير متعلق به كان أهون فائت، هذا معلوم لا شك فيه، ومن أنكر فعليه بالاستقراء مع التفكر، وأقل الأعراض في الصحبة مثلا أنس أحد الشخصين بالآخر، والنشاط إلى الاجتماع به، وملاقاته، فإن هذا الغرض ربما يخفى أنه من أغراض الدنيا، وهو منها بلا ريب، فإن ترويح الخاطر بحالة من ¬

(¬1) كلمة غير مقروءة في المخطوط.

كان كذلك والسرور بملاقاته من الأغراض الدنيوية المحضة، فعرفت أن الأحزان والهموم المتوجه من بعض نوع الإنسان إلى بعض على الدنيا ولها وفيها. وقد كشف هذا المعنى حكيم الشعراء أبو الطيب المتنبي (¬1) حيث يقول: كل دمع يسيل منها عليها ... وبفك اليدين منها تخلى (¬2) ما أجود فكره، وأحكم شعره، وأدق نظره! وبهذا التحقيق عرفت ما انطوى عليه ذلك الحديث الشريف من الإشارة إلى شرف هذه الخصلة، وهي التحاب في الله، حتى رفع لأهلها في دار الخلد منابر من نور تكريما لهم وتعظيما لقيامهم بنوع من الطاعات، لا يقوم بها إلا من سبقت له [4أ] العناية الربانية. فإن قلت: صور لي صورة يصدق في مثلها الحديث فإنه لا بد من وجود من يتصف بهذه الصفة (¬3)؛ لأن الحديث من باب الإخبار، وأخبار الصادق يستحيل تخلفها، ¬

(¬1) في ديوانه (3/ 131) بشرح أبي البقاء العكبري. (¬2) هذا البيت من قصيدة يعزي فيها سيف الدولة بأخته الصغرى أنشدها في رمضان سنة 344، وهي من الخفيف والقافية من المتواتر. ومطلعها: إن يكن صبر ذي الرزية فضلا ... فكن الأفضل الأعز الأجلا "الديوان" (3/ 123). أما معنى البيت الذي استشهد به الشوكاني فيقول شارح الديوان (3/ 131): يريد أن كل من أبكته الدنيا إنما يبكي عليها، ولا يخلي الإنسان يديه عنها إلا قسرا. (¬3) نفتح أمامك صفحات مطوية. أخرج ابن أبي الدنيا في "الإخوان" رقم (162): حدثني رياح بن الجراح العيدي، قال: جاء فتح الموصلي إلى صديق له يقال له عيسى التمار. فلم يجده في المنزل، فقال للخادم: أخرجي إلي كيس أخي، فأخرجته له فأخذ درهمين، وجاء عيسى إلى منزله فأخبرته الخادم بمجيء فتح وأخذه الدرهمين فقال: إن كنت صادقة فأنت حرة، فنظر فإذا هي صادقة فعتقت. قال الإمام أحمد رحمه الله: لو أن الدنيا جمعت حتى تكون في مقدار لقمة، ثم أخذها أمرؤ مسلم فوضعها في فم أخيه لما كان مسرفا. انظر: "طبقات الحنابلة" (1/ 106). قال أبو سليمان الداراني: قد يعملون بطاعة الله عز وجل ويتعاونون على أمره ولا يكونوا إخوانا حتى يتزاوروا ويتباذلوا. انظر كتاب: "الإخوان" (ص127).

يوجد من يقوم بذلك عند دفع المستحيل، وهو لا يقع فيبطل ما استلزم ذلك. قلت: يصدق ذلك في مثل رجلين متحابين لمحض عرض أخروي ليس من أعراض الدنيا، ولا يتعلق بشيء ابتداء ولا انتهاء، كمن يتحابان لكونهما يجتمعان على الجهاد في سبيل الله، فينظر كل واحد منهما من صاحبه من النكاية في الكفار، وشدة الشكيمة ما يوجب له المحبة عنده، لكونه قد قام بما أوجب الله عليه، وصار من أهل الجنة، وكذلك الاجتماع على طلب العلم مع خلوص النية، وحسن الطوية، والتجرد عن كل عرض فاسد، فيحب كل واحد منهما الآخر لكونه يستوجب بعمله الجنة، وكذلك سائر الطاعات إذا كانت المحبة لأجلها، ولكن انظر كم ترى من أهل هذه الطبقة، فإن التحاب لمحض العمل الأخروي مما يعز وجوده غاية العزة عند من لم يعتز بالمبادئ، واهتم بالمطالب، وفحص في دون تعليل، ولم ينفق عليه تلبيس [4ب] ولا تغرير. ومن أعظم فوائد إمعان النظر في مثل هذا البحث أن الإنسان إذا حاط بحقيقته لم يحفل بجلب القلوب إليه وعطف الخواطر عليه؛ لأن ذلك لم يفعل لأجله، بل لأجل المنافع المتعلقة به، فيسموا بنفسه إلى أن يكون جميع ما يفعله مما يستحسنه الناس خالصة لله - جل جلاله -. فإن فعل الخير من كرم أو شجاعة أو حسن خلق أو علم أو عمل إذا كان معظم القصد به أن يكون فاعله محبوبا عند من يعلم ذلك معظما، رفيع القدر، عالي المحل فهو مع كونه من الرياء البحت، والشرك الخفي غرض ساقط لا ترغب في مثله إلا النفوس الساقطة.

ووجه سقوطه أنه وإن كان محصلا لغرض دنيوي لما فيه، رفعه المحل، ونباهة القدر، ونبالة الذكر لكنه عند التحقيق لأسباب هي غير ذلك الشخص، فإنه لو فتش عن قلوب المحبين له في الظاهر لوجدها في الحقيقة محبة لماله أو جماله، أو سائر الأغراض الدنيوية المتعلقة به، يزول بزوالها مع بقاء ذاته، فإنه إذا كان محبوبا لأجل إنفاقه على إخوانه ومعارفه زالت تلك المحبة [5أ] بمجرد ذلك الإنفاق (¬1)، وانقلبت المحبة عداوة، ¬

(¬1) قال الحريري: "تعامل الناس في القرن الأول بالدين حتى رق الدين وتعاملوا في القرن الثاني بالوفاء حتى ذهب الوفاء، وفي الثالث بالمروءة حتى ذهبت المروءة ولم يبق إلا الرغبة والرهبة". "الإحياء" (2/ 179). * قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: " أتى علينا زمان وما يرى أحد منا أحق بالدينار والدرهم من أخيه المسلم، وإنا في زمان الدينار والدرهم أحب إلينا من أخينا المسلم". لذلك عليم أن تحسن اختيار - الأخ - لأن ذلك أصبح جوهرة مفقودة فهنيئا لمن كان له أخ في الله. * قال علقمة العطاردي في وصيته لابنه حين حضرته الوفاة قال: "يا بني! إذا عرضت لك إلى صحبة الرجال حاجة فاصحب من إذا خدمته صانك، وإن صحبته زانك، وإن قعدت بك مؤونة مالك. وإن رأى منك حسنة عدها وإن رأى سيئة سدها، اصحب من إذا سألته أعطاك، وإن سكت ابتداك، وإن نزلت بك نازلة واساك، اصحب من إن قلت صدق قولك، وإن حاولتما أمرا أمرك وإن تنازعتما آثرك. وللمؤمن حق على أخيه المؤمن: 1 - ): الحق في المال: قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حقت محبتي للمتباذلين في". تقدم تخريجه. والمواساة بالمال على ثلاث مراتب: 1 - أن تقوم بحاجته من فضلة مالك فإذا سنحت له حاجة وكانت عندك فضلة عن حاجتك أعطيته ابتداء ولم تحوجه إلى السؤال فإن أحوجته إلى السؤال فهو غاية التقصير في حقه. 2 - أن تنزله منزلة نفسك وترضى بمشاركته إياك في مالك ونزوله منزلتك حتى تسمح بمشاطرته في المال. رأى بعض الحكماء رجلين يصطحبان لا يفترقان، فسأل عنهما فقيل: هما صديقان. فقال: ما بال أحدهما فقير والآخر غني؟. 3 - وهي العليا أن تؤثره على نفسك وتقدم حاجته على حاجتك وهذه رتبة الصديقين ومنتهى درجات المتحابين. 2 - ): وعليه إطعام الإخوان وكسوتهم: قال أبو سليمان الداراني: " لو أن الدنيا كلها لي في لقمة، ثم جاءني أخ لأحببت أن أضعها في فمه". "كتاب الإخوان" (ص235). وقال: إني لألقم اللقمة أخا من أخواني فأجد طعمها في حلقي". "الإحياء" (2/ 190). 3 - ): أن يعينه بالنفس والبدن في قضاء الحاجات والقيام بها قبل السؤال، وتقديمها على الحاجات الخاصة. قال بعضهم: إذا استقضيت أخاك حاجة فلم يقضها فذكره ثانية فلعله أن يكون قد نسي، فإذا لم يقضها فكبر عليه واقرأ هذه الآية: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} [الأنعام:36]. "كتاب الإخوان" (ص240 - 248). قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة". أخرجه البخاري رقم (2442) ومسلم رقم (2580) وأبو داود رقم (4893) والترمذي رقم (1426) من حديث ابن عمر. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا". أخرجه البخاري رقم (6064) ومسلم رقم (2563،2564) وأبو داود رقم (4917) والترمذي رقم (1988) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". تقدم تخريجه. 4 - ): أن يتودد إليه بلسانه، ويتفقده في أحواله التي يحب أن يتفقده فيها منها: 1 - أن يخبر بمحبته له. قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه أنه يحبه". 2 - أن تدعوه بأحب الأسماء إليه في غيبته وحضوره. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاث يصفين لك ود أخيك: أن تسلم عليه إذا لقيته أولا، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب الأسماء إليه. 3 - أن تثني عليه بما تعرف من محاسن أحواله عند من يؤثر هو الثناء عنده. 4 - أن تشكره على صنيعه في حقك. 5 - عليك الذب عنه في غيبته مهما قصد بسوء أو تعرض عرضه بكلام صريح أو تعريض. قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة". أخرجه الترمذي رقم (1931) من حديث أبي الدرداء وهو حديث صحيح. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا التقوى هاهنا - ويشير إلى صدره - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه". من حديث أبي هريرة. أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2564). 6 - التعليم والنصيحة: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الدين النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" تقدم تخريجه. قال الشافعي رحمه الله: "من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه ... ". 5 - ): من حقه عليك: أن تعفو عن زلاته وهفواته: قال الأحنف: حق الصديق أن تحتمل منه ثلاثا: ظلم الغضب وظلم الدالة، وظلم الهفوة وقد قليل: واغفر عوراء الكريم ادخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم تكرما 6): أن تدعو له في حياته وبعد مماته: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذ دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة: ولك بمثل". وقال أبو الدرداء: إني لأدعو لسبعين من إخواني في سجودي أسميهم بأسمائهم. "الإحياء" (2/ 202). قال القاضي محمد بن محمد بن إدريس الشافعي: قال لي أحمد بن حنبل: أبوك أحد الستة الذين أدعو لهم سحرا. انظر "سير أعلام النبلاء" (11/ 127). وروى الخطيب البغدادي في "تاريخه" (9/ 361) في ترجمة الطيب إسماعيل أبي حمدون أحد القراء المشهورين قال: "كان لأبي حمدون صحيفة فيها مكتوب ثلاثمائة من أصدقائه، وكان يدعو لهم كل ليلة، فتركهم ليلة فنام، فقيل له في نومه: يا أبا حمدون: لِمَ لم تسرج مصابيحك الليلة، قال: فقعد فأسرج وأخذ الصحيفة فدعى لواحد واحد حتى فرغ 7 - ): من حقه عليك الوفاء والإخلاص: 1 - الثبات على الحب وإدامته إلى الموت معه وبعد الموت مع أولاده وأصدقائه. 2 - ومن الوفاء مراعاة جميع أصدقائه وأقاربه. 3 - أن لا يصادق عدو صديقه. 4 - أن لا يتغير حاله في التواضع مع أخيه وإن ارتفع شأنه واتسعت ولايته وعظم جاهه. قال الشاعر: إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن 5 - ومن الوفاء أن تجزع من المفارقة: وقد قيل: وجدت مصيبات الزمان جميعها ... سوى فرقة الأحباب هينة الخطب قال الغزالي في "الإحياء" (2/ 204): "اعلم أن ليس من الوفاء موافقة الأخ فيما يخالف الحق في أمر يتعلق بالدين، بل الوفاء لله المخالفة، فقد كان الشافعي رحمه الله آخى محمد بن عبد الحكم وكان يقربه ويقبل عليه ويقول ما يقيمني بمصر غيره، فاعتل محمد فعاده الشافعي رحمه الله فقال: مرض الحبيب فعدته ... فمرضت من حذري عليه وأتى الحبيب يعودني ... فبرئت من نظري إليه 6 - ومن الوفاء أن تحسن الظن بأخيك. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" تقدم تخريجه. 8 - التخفيف وترك التكلف والتكليف: قال الفضيل: إنما تقاطع الناس بالتكلف، يزور أحدهما أخاه فيتكلف له فيقطعه ذلك عنه، وقالوا: من سقطت كلفته دامت ألفته ومن خفت مؤنته دامت مودته.

وكذلك لو ذهب جمال من كان محبوبا لأجل جماله، أو انتقض من كان محبوبا لأجل انبساط أخلاقه، فلا ريب أن هذه المحبة من الأغراض الساقطة، وهمه من أتعب نفسه لأجلها، واقتحم في تحصيلها مهالك الرياء أسقط وأسقط فلم لذي الهمة الرفيعة والقدر السامي إلا اطراح الطلب لذلك، والاشتغال بالأغراض الأخروية، فيجعل جهاده وصدقته وتعليمه وحسن خلقه، وسائل خصاله الخيرية لله - جل جلاله -، ولا يبالي بمن أوصل الخير إليه أشكر أم كفر، صدق أم غدر، مع أنه إذا أخلص النية كان التأثير في النفوس أوقع، وحصول المنافع الدنيوية لمن لم يقصدها أسرع، فإن ستر المرائي مبتوك، وحبل طالب الدنيا بأعمال الدين مبتوك، بخلاف المخلص فإنه أخص بأعماله من أقواله وأفعاله جناب من تعد أزمة الأمور، ومن هو المصرف لقلوب عباده كيف يشاء، ومن نظر في سر الإخلاص علم أن من لم يخلص لم يؤت إلا من قبل نفسه، والفطرة التي تهدي إلى الخير هي هلكة [5ب] العقل، وبها دارت عليه دوامة التوفيق (¬1). ¬

(¬1) كلمات لا بد أن نتأملها: 1 - قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]. 2 - قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه مسلم رقم (3638) وأبو داود رقم (3834) وهو حديث صحيح. وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (3336) من حديث عائشة رضي الله عنها. 3 - قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه أبو داود رقم (4833) والترمذي رقم (2379) وقال: هذا حديث حسن غريب. وهو حديث حسن. 5 - عن أنس رضي الله عنه أن رجلا سأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متى الساعة؟ قال: "وما أعددت لها؟ " قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله قال: "أنت مع من أحببت" قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنت مع من أحببت". قال أنس: فأنا أحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم". أخرجه البخاري رقم (3688، 6167) ومسلم رقم (2639). وعن ابن مسعود قال: جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله كيف ترى في رجل أحب قوما ولم يلحق بهم؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المرء مع من أحب". أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6170) ومسلم رقم (2640). 6 - عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي". أخرجه أبو داود رقم (4832) والترمذي رقم (2395) وأحمد (3/ 38) وابن حبان رقم (554). وهو حديث حسن. 7 - عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه". أخرجه البخاري رقم (660) ومسلم رقم (1031) وأحمد (2/ 439) والترمذي رقم (2391) قال ابن عبد البر في "التمهيد" (2/ 282): هذا أحسن حديث يروى في فضائل الأعمال وأعمها وأصحها إن شاء الله، وحسبك به فضلا لأن العلم محيط بأن كل من كان في ظل الله يوم القيامة لم ينله هول الموقف. ومن المعاني المشتركة بين الفئات السبعة: 1 - ): الرغبة والرهبة من الله وفي الله. 2 - ): مراقبة الله والإخفاء عن الناس. 3 - ): ارتباط هذه الأجناس بعضها وتأثير بعضها في بعض. 4 - ): اشتراكهم في مخالفة هواهم. فما عليك إلا أن تعمل جاهدا على أن تكون منهم ومعهم لتأمن هول الموقف وتحشر معهم فأعد العدة للفردوس الأعلى ... والله خير معين.

اللهم أنت الهادي لا هادي سواك، اهد قلوبنا إلى سلوك ما فيه رضاك. قال في الأم: حرره قائله محمد بن علي الشوكاني - وفقه الله [6أ]-.

تنبيه الأفاضل على ما ورد في زيادة العمر ونقصانه من الدلائل

تنبيه الأفاضل على ما ورد في زيادة العمر ونقصانه من الدلائل تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: تنبيه الأفاضل على ما ورد في زيادة العمر ونقصانه من الدلائل. 2 - موضوع الرسالة: آداب. 3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم" الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله الأطهرين اعلم أنه قد طال الكلام من أهل العلم على ما يظهر في بادي الأمر 4 - آخر الرسالة: ... ودين الله سبحانه بين المفرط والغالي، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والله ولي التوفيق. 5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول. 6 - عدد الصفحات: 10 صفحات ما عدا صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 34 سطر. 8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة. 9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني. 10 - الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله الأطهرين. اعلم أنه قد طال الكلام من أهل العلم على ما يظهر في بادئ الرأي من التعارض بين هذه الآيات الشريفة، وهي قوله - عز وجل -: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} (¬1)، وقوله: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ} (¬2)، وقوله: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (¬3)، وقوله: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (¬4). فقد قيل إنها معارضة لقوله عز وجل: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (¬5) وقوله - سبحانه -: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} (¬6) وقوله - سبحانه -: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} (¬7) فذهب الجمهور (¬8) إلى أن العمر لا يزيد ولا ينقص استدلالا بالآيات المتقدمة، وبالأحاديث الصحيحة كحديث ابن مسعود عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا، ويؤمر بأربع كلمات ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد". ¬

(¬1) [المنافقون: 11]. (¬2) [نوح: 4]. (¬3) [النحل: 61]. (¬4) [آل عمران: 145]. (¬5) [الرعد: 39]. (¬6) [فاطر: 11]. (¬7) [الأنعام: 2]. (¬8) [انظر "المحرر الوجيز" (7/ 51).

وهو في الصحيحين (¬1) وغيرهما (¬2) وما ورد في معناه من الأحاديث الصحيحة (¬3). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6594) ومسلم رقم (2643). (¬2) كأبي داود رقم (4708) والترمذي رقم (2137) وابن ماجه رقم (76) وأحمد (1/ 382، 414) وابن حبان في صحيحه رقم (6174) والبغوي في "شرح السنة" (1 \ رقم 71) والحميدي في مسنده (1/ 69) والنسائي في "التفسير" (1/ 593 رقم 266). قال الحافظ في "الفتح" (11/ 489): وفيه أن تقدير الأعمال ما هو سابق ولاحق، فالسابق ما في علم الله تعالى، واللاحق ما يقدر على الجنين في بطن أمه كما وقع في الحديث وهذا هو الذي يقبل النسخ. وقال الحافظ في "الفتح" (11/ 488): وفيه أن السعيد قد يشقى وأن الشقي قد يسعد لكن بالنسبة إلى الأعمال الظاهرة، وأما ما في علم الله تعالى فلا يتغير، وفيه الاعتبار بالخاتمة، قال ابن حمزة نفع الله به: هذه التي قطعت أعناق الرجال مع ما هم فيه من حسن الحال لأنهم لا يدرون بماذا يختم لهم. وفيه أن عموم مثل قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ} الآية مخصوص بمن مات على ذلك وأن من عمل عمل السعادة وختم له بالشقاء فهو في طول عمره عند الله شقي وبالعكس وما ورد يخالفه يؤول إلى أن يؤول إلى هذا. وقد اشتهر الخلاف بين الأشعرية والحنفية وتمسك الأشاعرة بمثل هذا الحديث، وتمسك الحنفية بمثل قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} وأكثر كل من الفريقين الاحتجاج لقوله. والحق أن النزاع لفظي، وأن الذي سبق في علم الله لا يتغير ولا يتبدل، وأن الذي يجوز عليه التغيير والتبديل ما يبدو للناس من عمل العامل ولا يبعد أن يتعلق ذلك بما في علم الحفظة والموكلين بالآدمي فيقع فيه المحو والإثبات كالزيادة في العمر والنقص وأما ما في علم الله فلا محو فيه ولا إثبات والعلم عند الله. وقال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (14/ 492): قال العلماء: إن المحو والإثبات في صحف الملائكة وأما علم الله سبحانه فلا يختلف ولا يبدو له ما لم يكن عالما به، فلا محو فيه ولا إثبات. (¬3) منها: ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2663) وأحمد (1/ 390، 413، 433، 445، 466) من حديث أم حبيبة عندما قالت: اللهم متعني بأبي، أبي سفيان، وبأخي معاوية وبزوجي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لقد سألت في آجال مضروبة، وأرزاق مقسومة، لا يؤخر منها شيء". قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (18/ 213): وهذا الحديث صريح في أن الآجال والأرزاق مقدرة لا تتغير عما قدره الله تعالى وعلمه في الأزل فيستحيل زيادتها ونقصها حقيقة عن ذلك، وأما ما ورد في حديث صلة الرحم تزيد في العمر ونظائره - "من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه" - وقد أجاب العلماء على ذلك بأجوبة منها: 1 - ): الصحيح: أن هذه الزيادة بالبركة في عمره والتوفيق للطاعات وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة وصيانتها عن الضياع في غير ذلك. 2 - ): أنه بالنسبة إلى ما يظهر للملائكة وفي اللوح المحفوظ ونحو ذلك فيظهر لهم في اللوح أن عمره ستون سنة إلا أن يصل رحمه فإن وصلها زيد أربعون وقد علم الله سبحانه وتعالى ما سيقع له من ذلك وهو من معنى قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} فيه النسبة إلى علم الله وما سبق به قدرة ولا زيادة بل هي مستحيلة وبالنسبة إلى ما ظهر للمخلوقين تتصور الزيادة وهو مراد الحديث. 3 - ): أن المراد بقاء ذكره الجميل يعده فكأنه لم يمت حكاه القاضي وهو ضعيف. "شرح صحيح مسلم" للنووي (18/ 2114). ومنها: ما أخرجه أبو داود رقم (4700) والترمذي رقم (2155) والطيالسي في مسنده (ص79 رقم 577) وأحمد (5/ 317) والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 204) من حديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب. قال: يا رب. ما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة". وهو حديث صحيح.

وأجابوا عن قوله - عز وجل - {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] بأن المعنى يمحو ما يشاء من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه؛ وجملة الناسخ والمنسوخ عنده في أم الكتاب. ولا يخفى أن هذا تخصيص لعموم الآية بغير مخصص (¬1). وأيضا يقال لهم: إن القلم قد جرى بما هو كائن إلى يوم القيامة كما في الأحاديث الصحيحة (¬2). ومن جملة ذلك الشرائع والفرائض فهي مثل العمر، إذا جاء فيما المحو والإثبات جاز في العمر المحو والإثبات. وقيل (¬3) المراد بالآية محو ما في ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة، لأنهم مأمورون بكتب كل ما ينطق به الإنسان، ويجاب عنه بمثل ¬

(¬1) تقدم توضيحه. (¬2) انظر الحديث المتقدم. (¬3) انظر هذه الأقوال في "الجامع لأحكام القرآن" (9/ 331 - 332).

الجواب الأول. وقيل: يغفر الله ما يشاء من ذنوب عباده، ويترك ما يشاء فلا يغفره. ويجاب عنه بمثل الجواب السابق. وقيل (¬1) يمحو ما يشاء من القرون كقوله: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} (¬2) وكقوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ} (¬3) فيمحو قرنا ويثبت قرنا، ويجاب عنه أيضًا بمثل ما تقدم. وقيل (¬4) هو الذي يعمل بطاعة الله، ثم يعمل بمعصيته الله ثم يتوب فيمحوه الله من ديوان السيئات، ويثبته في ديوان الحسنات. وقيل (¬5) يمحو ما يشاء يعني الدنيا، ويثبت الآخرة. وقيل غير ذلك (¬6). وكل هذه الأجوبة [1أ] دعاوى مجردة. ولا شك أن آية المحو والإثبات عامة لكل ما يشاؤه الله - سبحانه -، فلا يجوز تخصيصها إلا بمخصص، وإلا كان ذلك من التقول على الله - عز وجل - بما لم يقل (¬7). وقد توعد الله - سبحانه - على ذلك، وقرنه بالشرك فقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (¬8). ¬

(¬1) عزاه القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (9/ 232) لعلي بن أبي طالب. (¬2) [يس:31]. (¬3) قال القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن " (9/ 332) ذكره الثعلبي والماوردي عن ابن عباس. (¬4) قال القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن " (9/ 332) ذكره الثعلبي والماوردي عن ابن عباس. (¬5) ذكره القرطبي في تفسيره ولم يعزه لأحد (9/ 332). (¬6) (منها): قال الربيع بن أنس. هذا في الأرواح حالة النوم، يقبضها عند النوم، ثم إذا أراد موته فجأة أمسكه، ومن أراد بقاءه أثبته ورده إلى صاحبه بيانه قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}. منها: قول الحسن: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ} من أجله {وَيُثْبِتُ} من لم يأت أجله. (¬7) قال القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (9/ 329) مثل هذا لا يدرك بالرأي والاجتهاد، وإنما يؤخذ توقيفا، فإن صح فالقول به يجب ويوقف عنده وإلا فتكون الآية عامة في جميع الأشياء، وهو الأظهر والله أعلم. وهذا يروي معناه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن مسعود وأبي وائل وكعب الأحبار وغيرهم وهو قول الكلبي ... (¬8) [الأعراف:33].

وأجابوا عن قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} (¬1) بأن المراد بالمعمر الطويل العمر، والمراد بالناقص قصير العمر. وفي هذا نظر، لأن الضمير في قوله: {وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} يعود إلى قوله: {مِنْ مُعَمَّرٍ}. والمعنى على هذا: وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمر ذلك المعمر إلا في كتاب، هذا ظاهر معنى النظم القرآني (¬2)، وأما التأويل المذكور فإنما يتم على إرجاع الضمير المذكور إلى غير ما هو المرجع في الآية، وذلك لا وجود له في النظم. وقيل (¬3) إن معنى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} ما يستقبله من عمره. ومعنى (¬4): {وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} ما قد مضى. وهذا أيضًا خلاف الظاهر، لأن هذا ليس ينقص من نفس العمر، والنقص يقابل الزيادة (وما) هنا جعله مقابلا للبقية من العمر، وليس ذلك بصحيح. وقيل (¬5) المعنى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} من بلغ سن الهرم ولا ينقص من عمره، أي من عمر آخر غير هذا الذي بلغ سن الهرم عن عمر هذا الذي بلغ سن الهرم ويجاب عنه بما تقدم. وقيل (¬6) المعمر من يبلغ عمره ستين سنة، والمنقوص من عمره من يموت قبل الستين، وقيل غير من التأويلات (¬7) التي يردها اللفظ ويدفعها. ¬

(¬1) [فاطر \ 11]. (¬2) انظر "الجامع لأحكام القرآن" (14/ 333)، "جامع البيان" (12 \ جـ22/ 122). (¬3) عزاه القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (14/ 333) لسعيد بن جبير. (¬4) ذكره القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن " (14/ 333). (¬5) انظر الجامع لأحكام القرآن " (14/ 333). (¬6) قاله قتادة كما في "الجامع لأحكام القرآن" (14/ 333). (¬7) قال ابن جرير الطبري في "جامع البيان" (12 \ حـ22/ 122): عن ابن عباس قوله: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} أي: ليس أحد قضيت له طول العمر والحياة إلا وهو بالغ ما قدرت له من العمر، وقد قضيت ذلك له، وإنما ينتهي إلى الكتاب الذي قدرت له، لا يزاد عليه، وليس أحد قضيت له أنه قصير العمر والحياة ببالغ العمر، ولكنه ينتهي إلى الكتاب الذي قدرت له لا يزاد عليه، فذلك قوله: {وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} يقول كل ذلك في كتاب عنده " وهو الراجح. انظر: " تفسير البغوي" (3/ 567)، "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (14/ 333).

وأجابوا عن قوله - سبحانه -: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} (¬1). بأن المراد بالأجل الأول النوم، والثاني الوفاة (¬2). وقيل (¬3): الأول: ما قد انقضى من عمر كل أحد، والثاني: ما بقي من عمر كل أحد. وقيل (¬4) الأول أجل الموت، والثاني أجل الحياة في الآخرة. وقيل (¬5): المراد بالأول ما بين خلق الإنسان إلى موته، والثاني: ما بين موته إلى بعثه، وقيل غير ذلك مما فيه مخالفة للنظم القرآني. وقال جمع من أهل العلم: إن العمر يزيد وينقص، واستدلوا بالآيات المتقدمة. فإن المحو والإثبات عامان يتناولان العمر والرزق والسعادة والشقاوة وغير ذلك. وقد ثبت عن جماعة من السلف من الصحابة ومن بعدهم أنهم كانوا يقولون في أدعيتهم: اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيهم، وإن كنت كتبتني في أهل الشقاوة فامحني، وأثبتني في أهل السعادة (¬6). ولم يأت القائلون بمنع زيادة العمر ونقصانه ونحو ذلك بما يخصص هذا العموم. وهكذا يدل على هذا المعنى الآية الثانية. فإن معناها ¬

(¬1) [الأنعام:2]. (¬2) انظر "الجامع لأحكام القرآن " (6/ 387). (¬3) انظر هذه الأقوال في "التفسير الكبير للرازي " (12/ 153). (¬4) انظر "الجامع لأحكام القرآن " (6/ 389). (¬5) قال الألوسي في "روح المعاني " (7/ 88): ذهب بعضهم إلى أن الأجل الأول ما بين الخلق والموت، والثاني ما بين الموت والبعث وروي ذلك عن الحسن، وابن المسيب وقتادة والضحاك واختاره الزجاج. (¬6) انظره في "الكافي الشافي" (ص139).

أنه لا يطول عمر إنسان ولا ينقص إلا وهو في كتاب أي في اللوح المحفوظ (¬1). وهكذا يدل قوله - سبحانه -: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} (¬2). أن للإنسان أجلين يقضي الله - سبحانه - له بما يشاء منهما من زيادة أو نقص. ويدل على ذلك أيضًا ما في الصحيحين وغيرهما [1ب] عن جماعة من الصحابة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن صلة الرحم تزيد في العمر. وفي لفظ في الصحيحين (¬3): "من أحب أن يبسط له في ¬

(¬1) قال ابن تيمية: "فالأجل الأول هو أجل كل عبد الذي ينقضي به عمره، والأجل المسمى عنده هو أجل القيامة العامة، ولهذا قال: مسمى عنده. فإن وقت الساعة لا يعلمه ملك مقرب، ولا نبي مرسل كما قال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} ... وأما أجل الموت فهذا تعرفه الملائكة الذين يكتبون رزق العبد، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد كما ثبت في الصحيحين:" أن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ... " الحديث - تقدم - فهذا الأجل الذي هو أجل الموت قد يعلمه الله لمن يشاء من عبادة وأما أجل القيامة المسمى عنده فلا يعلمه إلا هو ". انظر: "مجموع فتاوى" (4/ 489) "والتفسير الكبير " لابن تيمية (4/ 198 - 199). وقال الطبري وأولى الأقوال عندي بالصواب قول من قال: معناه ثم قضى أجل الحياة الدنيا، وأجل مسمى عنده، وهو أجل البعث عنده، وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأنه تعالى نبه خلقه على موضع حجته عليهم من أنفسهم فقال لهم: أيها الناس، إن الذي يعدل به كفاركم الآلهة، والأنداد هو الذي خلقكم فابتدأكم وأنشأكم من طين، فجعلكم صورا أجساما أحياء، بعد إذ كنتم طينا جمادا، ثم قضى آجال حياتكم لفنائكم ومماتكم، ليعيدكم ترابا وطينا، كالذي كنتم قبل أن ينشأكم ويخلقكم: {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} لإعادتكم أحياء وأجساما، كالذي كنتم قبل مماتكم وذلك نظير قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. (¬2) [الأنعام:2]. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2067) وطرفه رقم (5986) ومسلم في صحيحه رقم (2557) وأحمد (3/ 156، 247، 266) وأبو داود رقم (1693) والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 227) والبغوي في "شرح السنة " (13/ 18 - 19) وابن حبان صحيحه رقم (440) من طرق عن أنس بن مالك. * وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (5985) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

رزقه، وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه " وفي لفظ (¬1): "من أحب أن يمد الله في عمره وأجله ويبسط في رزقه فليتق الله وليصل رحمه" وفي لفظ (¬2): "صلة الرحم، وحسن الخلق، وحسن الجوار يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار". ومن أعظم الأدلة ما ورد في الكتاب العزيز من الأمر للعباد بالدعاء كقوله - عز وجل - {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (¬3) وقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} (¬4) وقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (¬5). وقوله: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} (¬6). والأحاديث المشتملة على الأمر بالدعاء متواترة وفيها: "إن الدعاء يدفع البلاء، ويرد القضاء " وفيها: "أن الدعاء مخ العبادة " (¬7)، وفيها الاستعاذة من سوء القضاء. كما ثبت عنه - صلى الله عليه وآله ¬

(¬1) أخرجه عبد الله بن أحمد في "زوائده" (3/ 266). وقال الهيثمي في "المجمع" (8/ 153) رواه عبد الله بن أحمد والبزار والطبراني في "الأوسط" ورجال البزار رجال الصحيح. غير عاصم بن حمزة وهو ثقة. والحاكم في "المستدرك" (4/ 160) من حديث علي بن أبي طالب وهو حديث حسن. (¬2) أخرجه أحمد في "المسند " (6/ 159). وأورده الهيثمي في "المجمع" (8/ 153) بإسناد صحيح وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات إلا أن عبد الرحمن بن القاسم لم يسمع عن عائشة. (¬3) [غافر:60]. (¬4) [النمل: 62]. (¬5) [البقرة:186]. (¬6) [النساء:32]. (¬7) أخرجه الترمذي في "السنن" رقم (3371) من حديث أنس وقال الترمذي هذا حديث غريب من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة. وهو حديث ضعيف بهذا اللفظ. ولكن أخرجه أبو داود رقم (1479) والترمذي رقم (3247) وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي في "السنن الكبرى" رقم (11464) وابن حبان في صحيحه رقم (890) والحاكم في "المستدرك" (1/ 491) وصححه ووافقه الذهبي وابن أبي شيبة في المصنف (10/ 200) وأحمد (4/ 267) والبغوي في "شرح السنة" رقم (1384) والطيالسي رقم (801) وابن ماجه رقم (3828) والبخاري في "الأدب المفرد" رقم (714) وأبو نعيم في "الحلية" (8/ 120) من حديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الدعاء هو العبادة ثم تلا: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60] " وهو حديث حسن.

وسلم - في الصحيح (¬1) أنه قال: "اللهم إني أعوذ بك من سوء القضاء، ودرك الشفاء، وجهد البلاء، وشماتة الأعداء"، وثبت في حديث قنوت الوتر أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "وقني شر ما قضيت" (¬2) فلو كان الدعاء لا يفيد شيئا، وأنه ليس للإنسان إلا ما قد سبق في القضاء الأزلي، لكان أمره - عز وجل - بالدعاء لغوا لا فائدة فيه (¬3)، وكذلك وعدة بالإجابة للعباد الداعين له. وهكذا يكون ما ثبت في الأحاديث المتواترة المشتملة على الأمر بالدعاء، وأنه عبادة لغوا لا فائدة فيه. وهكذا ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6347) ومسلم رقم (53/ 2707) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتعوذ من: "سوء القضاء ومن درك الشفاء ومن شماتة الأعداء وجهد البلاء". (¬2) أخرجه أبو داود رقم (1425، 1426) والترمذي رقم (464) وابن ماجه رقم (1178) من حديث الحسين بن علي رضي الله عنه. (¬3) قال الشوكاني في "قطر الولي" (ص514): لو كان القضاء السابق حتما لا يتحول فأي فائدة في استعاذته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من سوء القضاء. * وهذا مخالف لما ذهب إليه المحققون من أهل العلم حيث قال الحافظ في "الفتح" (11/ 500): " ... أن الذي سبق في علم الله لا يتغير ولا يتبدل، وأن الذي يجوز عليه التغيير والتبديل ما يبدو للناس من عمل العامل ولا يبعد أن يتعلق ذلك بما في علم الحفظة والموكلين بالآدمي فيقع فيه المحو والإثبات كالزيادة في العمر والنقص وأما ما في علم الله فلا محو فيه ولا إثبات والعلم عند الله". وانظر: "مجموع الفتاوى" (14/ 492) و"شرح صحيح مسلم "للنووي (18/ 213).

تكون استعاذته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من سوء القضاء لغوا لا فائدة فيه. وهكذا يكون قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "وقني شر ما قضيت". لغوا لا فائدة فيه وهكذا يكون أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بالتداوي، وأن الله - سبحانه - ما أنزل من داء إلا وجعل له دواء لغوا لا فائدة فيه، ومع ثبوت الأمر بالتداوي في الصحيح (¬1) عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. فإن قلت: فعلام تحمل ما تقدم من الآيات القاضية بأن الأجل لا يتقدم ولا يتأخر، ومن ذلك قوله - عز وجل -: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (¬2). قلت: قد أجاب (¬3) عن ذلك بعض السلف وتبعه بعض الخلف، بأن هذه الآية مختصة بالأجل إذا حضر، فإنه لا يتقدم ولا يتأخر عند حضوره. ويؤيد هذا أنها مقيدة بذلك، فإنه قال: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} (¬4)، ¬

(¬1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أحمد (4/ 278) وأبو داود رقم (3855) والترمذي رقم (2038) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجه رقم (3436) وغيرهم من حديث أسامة: "قالت الأعراب: يا رسول الله: ألا نتداوى؟ قال: "نعم عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء، إلا داء واحد " قالوا: يا رسول الله وما هو؟ قال:"الهرم". وهو حديث صحيح. * قال ابن القيم في "الجواب الكافي" (ص27): "إن هذا المقدور قدر بأسباب ومن أسبابه الدعاء، فلم يقدر مجردا عن أسبابه، ولكن قدر بسببه، فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور وهكذا، كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء وقدر حصول الزرع بالبذر، وقدر خروج روح الحيوان بذبحه، وكذلك قدر دخول الجنة بالأعمال الحسنة ودخول النار بالأعمال السيئة. وحينئذ فالدعاء من أقوى الأسباب، فإذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال لا فائدة في الدعاء، كما لا يقال لا فائدة في الأكل والشرب، وجميع الحركات والأعمال، وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء، ولا أبلغ من حصول المطلوب. (¬2) [النحل:61]. (¬3) انظر أول الرسالة. (¬4) [المنافقون: 11].

وقوله - سبحانه -: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ} (¬1) فقد أمكن الجمع بحمل هذه الآيات على هذا المعنى. فإذا حضر الأجل لم يتأخر ولا يتقدم. وفي غير هذه الحالة يجوز أن يؤخره الله بالدعاء أو بصلة الرحم، أو بفعل الخير. ويجوز أن يقدمه لمن عمل شرا وقطع ما أمر الله به أن يوصل، وانتهك محارم الله - سبحانه -. فإن قلت: فعلام يحمل نحو قوله - عز وجل -: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} (¬2) وقوله سبحانه: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} (¬3) وكذلك سائر ما ورد في هذا المعنى؟ قلت: هذه أولا معارضة بمثلها وذلك قوله - عز وجل -: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (¬4). ومثل ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح (¬5) القدسي: " يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد شرا، فلا يلومن إلا نفسه .. ". وثانيًا: بإمكان الجمع بحمل مثل قوله: {إلا في كتاب} وقوله: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} على عدم التسبب من العبد بأسباب الخير من الدعاء، وسائر أفعال الخير، وحمل ما ورد فيما يخالف ذلك على وقوع التسبب بأسباب الخير الموجبة لحسن القضاء، واندفاع شره. وعلى وقوع التسبب بأسباب الشر المقتضية لإصابة ¬

(¬1) [نوح:4]. (¬2) [الحديد: 22]. (¬3) [التوبة:51]. (¬4) [الشورى:30]. (¬5) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2577).

المكروه ووقوعه على العبد. وهكذا يكون الجمع بين الأحاديث الواردة بسبق القضاء. وأنه فرغ من تقدير الأجل والرزق والسعادة والشقاوة، وبين الأحاديث الواردة في صلة الرحم بأنها تزيد في العمر، وكذلك سائر أعمال الخير، وكذلك الدعاء، فتحمل أحاديث الفراغ من القضاء على عدم تسبب العبد بأسباب الخير أو الشر. وتحمل الأحاديث الأخرى على أنه قد وقع من العبد التسبب بأسباب الخير من الدعاء والعمل الصالح، وصلة الرحم أو التسبب بأسباب الشر، فإن قلت قد تقرر بالأدلة من الكتاب والسنة بأن علمه - عز وجل - أزلي، وأنه قد سبق في كل شيء، ولا يصح أن يقدر وقوع غير ما قد علمه، وإلا انقلب العلم جهلا، وذلك لا يجوز إجماعا. قلت: علمه - عز وجل - سابق أزلي، وقد علم ما يكون قبل أن يكون، ولا خلاف بين أهل الحق من هذه الحيثية، ولكنه غلا قوم فأبطلوا فائدة [2ب] ما ثبت في الكتاب والسنة من الإرشاد إلى الدعاء. وأنه يرد القضاء، وما ورد من الاستعاذة منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من سوء القضاء، وما ورد من أنه يصاب العبد بذنبه، وبما كسبت يده، ونحو ذلك مما جاءت به الأدلة الصحيحة (¬1)، وجعلوه مخالفا لسبق العلم ورتبوا عليه أنه يلزم انقلاب العلم جهلا، والأمر أوسع من هذا والذي جاءنا بسبق العلم وأزليته هو الذي جاءنا بالأمر بالدعاء، والأمر بالدواء، وعرفنا بأن صلة الرحم تزيد في العمر، وأن الأعمال الصالحة تزيد فيه أيضا، وأن أعمال الشر ¬

(¬1) منها: ما أخرجه أحمد (5/ 277، 282) وابن ماجه رقم (90) والنسائي في "السنن الكبرى" (2/ 133) كما في "تحفة الأشراف" والحاكم في "المستدرك" (1/ 493) والطبراني في "المعجم الكبير " (2/ 100) وابن أبي شيبة في "المصنف" (10/ 441 - 442) والبغوي في "شرح السنة" (13/ 6) وابن حبان في صحيحه رقم (872). من حديث ثوبان مرفوعًا بلفظ: " لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه". وهو حديث حسن.

تمحقه، وأن العبد يصاب بذنبه كما يصل إلى الخير، ويندفع عنه الشر بكسب الخير والتلبس بأسبابه. فإعمال بعض ما ورد في الكتاب والسنة، وإهمال البعض الآخر ليس كما ينبغي. فإن الكل ثابت عن الله - عز وجل -، وعن رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - والكل شريعة واضحة، وطريقة مستقيمة، والجمع ممكن بما لا إهمال فيه لشيء من الأدلة، وبيانه أن الله - سبحانه - كما علم أن العبد يكون له من العمر كذا، أو من الرزق كذا، أو هو من أهل السعادة أو الشقاوة قد علم أنه إذا وصل رحمه زاد له في الأجل كذا، أو بسط له من الرزق كذا، أو صار من أهل السعادة بعد أن كان من أهل الشقاوة، أو صار من أهل الشقاوة بعد أن كان من أهل السعادة (¬1). وهكذا قد علم ما يقضيه للعبد. كما علم أنه إذا دعاه، واستغاث به، والتجأ إليه صرف عنه الشر، ودفع عنه المكروه. وليس في ذلك خلف ولا مخالفة لسبق العلم، بل فيه تقيد المسببات بأسبابها (¬2) كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء وقدر حصول الزرع بالبذر، فهل يقول عاقل بأن ربط هذه المسببات بأسبابها يقتضي خلاف العلم السابق أو ينافيه بوجه من الوجوه؟ فلو قال قائل: أنا لا آكل ولا أشرب بل أنتظر القضاء، فإن قدر الله لي ذلك كان، وإن لم يقدر لم يكن. أو قال: أنا لا أزرع الزرع، ولا أغرس الشجر، بل أنتظر القضاء، فإن قدر الله ذلك كان، وإن لم يقدره لم يكن. أو قال: أنا لا أجامع زوجتي أو أمتي ليحصل لي منهما الذرية، بل إن قدر الله ذلك كان، وإن لم يقدره لم يكن. لكان هذا مخالفا لما عليه رسل الله، وما جاءت به كتبه، وما كان عليه صلحاء الأمة وعلماؤها، بل يكون مخالفا لما عليه هذا النوع الإنساني [3أ] من أبينا آدم إلى الآن، بل مخالفا لما عليه جميع أنواع الحيوانات في البر والبحر، فكيف ينكر وصول العبد إلى الخير بدعائه أو بعمله الصالح؟! فإن هذا من ¬

(¬1) تقدم توضيحه. انظر "فتح الباري" (11/ 477). (¬2) انظر "الجواب الكافي " لابن القيم (ص27). "شفاء العليل" (ص25 - 26).

الأسباب التي ربط الله مسبباتها بها وعلمها قبل أن تكون، فعلمه على كل تقدير أزلي في المسببات والأسباب، ولا يشك من له اطلاع على كتاب الله - عز وجل - ما اشتمل عليه من ترتيب حصول المسببات على حصول أسبابها. كما في قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (¬1) وقوله: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} (¬2) وقوله: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (¬3) وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} (¬4) وقوله: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (¬5) وكم يعد العاد من أمثال هذه الآيات القرآنية، وما ورد موردها من الأحاديث النبوية! وهل ينكر هؤلاء الغلاة مثل هذا، ويجعلونه مخالفا لسبق العلم مباينا لأزليته؟ فإن قالوا: نعم، فقد أنكروا ما في كتاب الله - عز وجل - من فاتحته إلى خاتمته، وما في السنة المطهرة من أولها إلى آخرها، بل أنكروا أحكام الدنيا والآخرة جميعا، لأنها كلها مسببات مترتبة على أسبابها، وجزاءات معلقة بشروطها. ومن بلغ إلى هذا الحد في الغباوة وعدم تعقل الحجة لم يستحق المناظرة، ولا ينبغي معه الكلام فيما يتعلق بالدين، بل ينبغي إلزامه بإهمال أسباب ما فيه صلاح معاشه وأمر دنياه حتى ينتعش من غفلته ويستيقظ من نومته ويرجع عن ضلالته وجهالته والهداية بيد ذي الحول والقوة لا خير إلا خيره. ثم يقال لهم هذه الأدعية الثابتة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ في دواوين ¬

(¬1) [النساء:31]. (¬2) [نوح: 10 - 12]. (¬3) [إبراهيم:7]. (¬4) [البقرة:282]. (¬5) [الصافات:143 - 144].

الإسلام وما يلتحق بها من كتب السنة المطهرة. قد علم كل من له علم أنها كثيرة جدا بحيث لا يحيط بأكثرها إلا مؤلف بسيط ومصنف حافل (¬1) وفيها تارة استجلاب الخير وفي أخرى استدفاع الشر، وتارة متعلقة بأمور الدنيا وتارة بأمور الآخرة. ومن ذلك تعليمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لأمته ما يدعون به في صلواتهم [3ب] وعقب صلواتهم وفي صباحهم ومسائهم وفي ليلهم ونهارهم وعند نزول الشدائد بهم وعند حصول نعم الله إليهم. هل كان هذا كل منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لفائدة عائدة عليه، وعلى أمته بالخير خالية لما فيه من مصلحة دافعة لما فيه مفسدة؟ فإن قالوا نعم، قلنا لهم فحينئذ لا خلاف بيننا وبينكم، فإن هذا الاعتراف يدفع عنا وعنكم معرة الاختلاف، ويريحنا ويريحكم من التطويل بالكلام على ما أوردتموه وأوردناه. وإن قالوا ليس ذلك لفائدة عائدة عليه وعلى أمته بالخير، جالبة لما فيه مصلحة، دافعة لما فيه مفسدة، فهم أجهل من دوابهم، وليس للمحاجة لهم فائدة، ولا في المناظرة معهم نفع. يا عجبا كل العجب! أما بلغهم ما كان عليه أمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من أول نبوءته إلى أن قبضه الله إليه من الدعاء لربه، والإلحاح عليه، ورفع يديه عند الدعاء حتى يبدو بياض إبطيه (¬2)، وحتى يسقط رداؤه كما وقع منه في يوم بدر (¬3)! فهل يقول عاقل فضلا عن عالم، إن هذا الدعاء منه فعله رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وهو يعلم أنه لا فائدة فيه، وأنه قد سبق العلم بما هو كائن، وأن هذا السبق ¬

(¬1) انظر "الأذكار " للنووي. " عمل اليوم والليلة " للنسائي، و" عمل اليوم والليلة " لابن السني. " الكلم الطيب" لابن تيمية، " الوابل الصيب" ابن القيم. (¬2) منها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1031) وطرفاه رقم (3565، 6341) ومسلم رقم (895) من حديث أنس بن مالك قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء وإنه يرفع حتى يرى بياض إبطيه". (¬3) انظر "فتح الباري" (7/ 292 - 293).

يرفع فائدة ذلك، ويقتضي عدم النفع به؟ ومعلوم أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أعلم بربه، وبقضائه وقدره، وبأزليته وسبق علمه بما يكون في بريته. فلو كان الدعاء منه ومن أمته لا يفيد شيئا ولا ينفع نفعا لم يفعله، ولا أرشد الناس إليه وأمرهم به، فإن ذلك نوع من العبث الذي يتنزه عنه كل عاقل فضلا عن خير البشر وسيد ولد آدم. ثم يقال لهم: إذا كان القضاء واقعا لا محالة، وإنه لا يدفعه شيء من الدعاء والالتجاء والإلحاح والاستغاثة، فكيف لم يتأدب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مع ربه! فإنه قد صح عنه أنه استعاذ بالله - سبحانه - من سوء القضاء كما عرفناك، وقال: "وقني شر ما قضيت" (¬1). فكيف يقول هؤلاء الغلاة في الجواب عن هذا! أو على أي محمل يحملونه!. ثم ليت شعري علام يحملون أمره - سبحانه وتعالى - لعباده بدعائه بقوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬2) ثم عقب ذلك بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (¬3) ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) [غافر: 60]. قال الشيخ أبو القاسم القشيري في "شرح الأسماء الحسنى" ما ملخصه: جاء الدعاء في القرآن على وجوه منها: أ - العبادة: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} [يونس:106]. ب - الاستغاثة: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} [البقرة:23]. ج - السؤال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]. د - القول: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} [يونس:10]. هـ - النداء: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} [الإسراء:52]. و- الثناء: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء:110]. قال الحافظ في "الفتح" (11/ 94): هذه الآية ظاهرة في ترجيح الدعاء على التفويض وقالت طائفة الأفضل ترك الدعاء والاستسلام للقضاء. وأجابوا عن الآية بأن آخرها دل على أن المراد بالدعاء العبادة لقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} واستدلوا بحديث النعمان بن بشير عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الدعاء هو العبادة" - تقدم تخريجه. وأجاب الجمهور أن الدعاء من أعظم العبادات وقد تواترت الآثار عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالترغيب في الدعاء والحث عليه كحديث أبي هريرة رفعه: "ليس شئ أكرم على الله من الدعاء" أخرجه الترمذي في "السنن" رقم (3370) وابن حبان في صحيحه رقم (870) والبخاري في "الأدب المفرد" رقم (712) والطيالسي (1/ 253) وأحمد (2/ 362) وابن ماجه رقم (3828) - وهو حديث حسن -. ثم قال (11/ 95): أما قوله بعد ذلك: {عَنْ عِبَادَتِي} فوجه الربط أن الدعاء أخص من العبادة، فمن استكبر عن العبادة استكبر عن الدعاء وعلى هذا فالوعيد إنما هو في حق من ترك الدعاء استكبارا ومن فعل ذلك فقد كفر، وأما من تركه لمقصد من المقاصد فلا يتوجه إليه الوعيد المذكور، وإن كنا نرى أن ملازمة الدعاء والاستكثار منه أرجح من الترك لكثرة الأدلة الواردة في الحث عليه. قلت: - الحافظ ابن حجر - وقد دلت الآية الآتية قريبا من السورة المذكورة أن الإجابة مشترطة بالإخلاص، وهو قوله تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} قال الطيي: معنى حديث النعمان أن تحمل العبادة على المعنى اللغوي، إذ الدعاء هو إظهار غاية التذلل والافتقار إلى الله والاستكانة له، وما شرعت العبادات إلا للخضوع للباري وإظهار الافتقار إليه، ولهذا ختم الآية بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} حيث عبر عن عدم التذلل والخضوع بالاستكبار ووضع عبادتي موضع دعائي وجعل جزاء ذلك الاستكبار الصغار والهوان. وحكى القشيري في "الرسالة" (ص265): الخلاف في المسألة فقال: اختلف في أي الأمرين أولى: الدعاء أو السكوت والرضا؟ فقيل: الدعاء وهو الذي ينبغي ترجيحه لكثرة الأدلة لما فيه من إظهار الخضوع والافتقار وقيل السكوت والرضا أولى لما في التسليم من الفضل. قلت: وشبهتهم أن الداعي لا يعرف ما قدر له فدعاؤه إن كان على وفق المقدور فهو تحصيل حاصل. وإن كان على خلافه فهو معاندة. والجواب عن الأول أن الدعاء من جملة العبادة لما فيه من الخضوع والافتقار. وعن الثاني أنه إذا اعتقد أنه لا يقع إلا ما قدر الله تعالى كان إذعانا لا معاندة. وفائدة الدعاء: تحصيل الثواب بامتثال الأمر، ولاحتمال أن يكون المدعو به موقوفا على الدعاء لأن الله خالق الأسباب ومسبباتها. (¬3) [غافر:60].

أي عن دعائي كما صرح بذلك أئمة .............................

التفسير (¬1). فكيف يأمر عباده أولا؟ ثم يجعل تركه استكبارا منهم ثم يرغبهم إلى الدعاء، ويخبرهم أنه قريب من الداعي، مجيب لدعوته بقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (¬2)، ثم يقول معنوناُ لكلامه الكريم بحرف يدل على الاستفهام الإنكاري والتقريع [4أ] والتوبيخ: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} (¬3) ثم يأمرهم بسؤاله من فضله بقوله: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} (¬4) فإن قالوا: إن هذا الدعاء الذي أمرنا الله به، وأرشدنا إليه، وجعل تركه استكبارا وتوعد عليه بدخول النار مع الذل، ورغب عباده إلى دعائه، وعرفهم أنه قريب وأنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وأنكر عليهم أن يعتقدوا أن غيره يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف ما نزل به من السوء وأمرهم أن يسألوه من فضله، ويطلبوا ما عنده من الخير أن كل ذلك لا فائدة فيه للعبد، وأنه لا ينال إلا ما قد جرى به القضاء وسبق به العلم. فقد نسبوا إلى الرب - عز وجل - ما لا يجوز عليه، ولا يحل نسبته إليه، فإنه لا يأمر العبد إلا بما فيه فائدة يعتد بها، ولا يرغبه إلا إلى ما يحصل له به الخير، ولا يرهبه إلا عما يكون به عليه الضير (¬5)، ولا يعده إلا بما هو حق يترتب عليه فائدة فهو صادق الوعد ¬

(¬1) انظر:"جامع البيان" (12/ 78 - 79). (¬2) [البقرة:186]. (¬3) [النمل:62]. (¬4) [النساء:32]. (¬5) وقد فند مثل هذا القول ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى " (8/ 176) إذ قال: "الدعاء في اقتضائه الإجابة كسائر الأعمال الصالحة في اقتضائها الإثابة وكسائر الأسباب في اقتضائها المسببات، ومن قال: إن الدعاء علامة ودلالة محضة على حصول المطلوب المسئول، ليس بسبب، أو هو عبادة محضة لا أثر له في حصول المطلوب وجودا ولا عدما، بل ما يحصل بالدعاء يحصل بدونه فهما قولان ضعيفان، فإن الله علق الإجابة به تعليق المسبب بالسبب كقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وفي الصحيحين عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث: إما أن يعجل له في دعوته، وإما أن يدخر له من الخير مثلها، وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها"، قالوا: يا رسول الله إذا نكثر، قال: "الله أكثر". أخرجه الترمذي رقم (3573) وهو حديث حسن من حديث عبادة بن الصامت. وأخرجه أحمد (3/ 18) من حديث أبي سعيد الخدري وهو حديث صحيح.

لا يخلف الميعاد، ولا يأمرهم بسؤاله من فضله إلا وهناك فائدة تحصل بالدعاء، ويكون بسببه التفضل عليهم، ورفع ما هم فيه من الضرر وكشف ما حل بهم من السوء. هذا معلوم لا يشك فيه إلا من يعقل حجج الله، ولا يفهم كلامه، ولا يدري بخير ولا شر، ولا نفع ولا ضر. ومن بلغ به الجهل إلى هذه الغاية فهو حقيق بألا يخاطب، وقمين بأن لا يناظر. فإن هذا المسكين المتخبط في جهله، المتقلب في ضلاله قد وقع فيما هو أعظم خطرا من هذا، وأكثر ضررا منه، وذلك بأن يقال له: إذا كان دعاء الكفار إلى الإسلام، ومقاتلتهم على الكفر، وغزوهم إلى عقر ديارهم لا يأتي بفائدة، ولا يعود على القائمين به من الرسل وأتباعهم وسائر المجاهدين من العبادة بفائدة، وأنه ليس هناك إلا ما قد سبق من علم الله - عز وجل -، وأنه سيدخل في الإسلام، ويهتدي إلى الدين من قد علم الله - سبحانه - منه ذلك، سواء قوتل أو لم يقاتل، وسواء دعي إلى الحق أو لم يدع إليه كان هذا القتال الصادر من رسل الله وأتباعهم ضائعا ليس فيه إلا تحصيل الحاصل، وتكوين ما هو كائن فعلوا أو تركوا، وحينئذ يكون الأمر بذلك عبثا تعالى الله - عز وجل - عن ذلك. وهكذا ما شرعه الله لعباده من الشرائع على لسان أنبيائه، وأنزل بها كتبه يقال فيه مثل هذا، فإنه إذا كان ما قد حصل في سابق علمه - عز وجل - كائنا سواء بعث الله إلى عباده رسله وأنزل إليهم كتبه، أو لم يفعل ذلك، كان ذلك عبثا يتعالى الرب - سبحانه - عنه، ويتنزه عن أن ينسب إليه. فإن قالوا: إن الله - سبحانه - قد سبق علمه بكل ذلك، ولكنه قيده بقيود،

وشرطه بشروط، وعلقه بأسباب فعلم مثلا [4ب] أن الكافر يسلم ويدخل في الدين بعد دعائه إلى الإسلام، أو مقاتلته على ذلك، وأن العباد يعمل منهم من يعمل بما تعبدهم الله به بعد بعثه رسله إليهم وإنزال كتبه عليهم قلنا لهم: فعليكم أن تقولوا هكذا في الدعاء، وفي أعمال الخير، وفي صلة الرحم، ولا نطلب منكم إلا هذا، ولا نريد منكم غيره. وحينئذ قد دخلتم إلى الوفاق من طريق قريبة، فعلام هذا الجدال الطويل العريض، والحجاج الكثير الكبير؟ فإنا لا نقول إلا أن الله - سبحانه - قد علم في سابق علمه أن فلانا يطول عمره إذا وصل رحمه، وأن فلانا يحصل له من الخير كذا، أو يندفع عنه من الشر كذا إذا دعا ربه، وأن هذه المسببات مترتبة على حصول أسبابها. وهذه الشروطات مقيدة بحصول شروطها. وحينئذ فارجعوا إلى ما قدمنا ذكره من الجمع بين ما تقدم من الأدلة، واستريحوا من التعب، فإنه لم يبق بيننا وبينكم خلاف من هذه الحيثية. وقد كان الصحابة (¬1) - مثل عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وأبي وائل، وعبد الله بن عمر الذين كانوا يدعون الله - عز وجل - بأن يثبتهم في أهل السعادة، إن كانوا قد كتبوا من أهل الشقاوة كما قدمنا، أعلم بالله - سبحانه - وبما يجب له، ويجوز عليه. وقال كعب الأحبار حين طعن عمر وحضرته الوفاة: "والله لو دعا الله عمر أن يؤخر أجله لأخره" (¬2). فقيل له: إن الله - عز وجل - يقول: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (¬3). فقال: هذا إذا حضر الأجل، فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد، وينقص، وقرأ قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} (¬4). ¬

(¬1) انظر "فتح القدير" (3/ 89). (¬2) انظر "الكافي الشافي " لابن حجر (ص 139). أخرج هذا الأثر إسحاق بن راهوية في آخر مسند ابن عباس. (¬3) [الأعراف: 34]. (¬4) [فاطر:11].

ثم قد علمنا من أهل الإسلام سابقهم ولاحقهم سيما الصالحين منهم أنهم يدعون الله عز وجل فيستجيب لهم ويحصل لهم ما طلبوه من المطالب المختلفة بعد أن كانوا فاقدين لها، ومنهم من يدعو لمريض قد أشرف على الموت بأن يشفيه الله فيعافى في الحال، ومنهم من يدعو على فاجر بأن يهلكه الله فيهلك في الحال (¬1). ومن شك في شيء من هذا، فليطالع الكتب الصحيحة في أخبار الصالحين كحلية (¬2) أبي نعيم، وصفوة الصفوة (¬3) لابن الجوزي، ورسالة (¬4) القشيري، فإنه يجد من هذا القبيل ما ينشرح له صدره، ويثلج به قلبه، بل كل إنسان إذا حقق حال نفسه، ونظر في دعائه لربه عند عروض الشدائد، وإجابته له، وتفريجه عنه ما يغنيه عن البحث عن حال غيره إذا كان من المعتبرين المتفكرين. وهذا نبي الله المسيح عيسى بن مريم - عليه السلام - كان يحيي الموتى بإذن الله، ويشفي المرض بدعائه، وهذا معلوم عنه [5أ] حسبما أخبرنا الله - سبحانه - عنه به في كتابه الكريم، وفي الإنجيل من القصص المتضمنة لإحياء الموتى منه، وشفاء المرض بدعائه ما يعرفه من اطلع عليه. وبالجملة فهؤلاء الغلاة الذين قالوا إنه لا يقع من الله - عز وجل - إلا ما قد سبق به القلم، وإن ذلك لا يتحول ولا يتبدل، ولا يؤثر فيه دعاء ولا عمل صالح فقد خالفوا ما ¬

(¬1) قال النووي في "الأذكار" (ص567): نقلا عن الغزالي قال: فاعلم أن من جملة القضاء رد البلاء بالدعاء، فالدعاء سبب لرد البلاء، ووجود الرحمة، كما أن الترس سبب لدفع السلاح، والماء سبب لخروج النبات من الأرض، فكما أن الترس يدفع السهم فيتدافعان، فكذلك الدعاء والبلاء، وليس من شرط الاعتراف بالقضاء أن لا يحمل السلاح وقد قال تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102] فقدر الله الأمر، وقدر سببه، فالسبب والمسبب كلاهما مقدر من الله سبحانه مكتوب في اللوح المحفوظ. (¬2) تقدم التعليق عليهم. (¬3) تقدم التعليق عليهم. (¬4) تقدم التعليق عليهم.

قدمنا من آيات الكتاب العزيز، ومن الأحاديث النبوية الصحيحة من غير ملجئ إلى ذلك فقد أمكن الجمع بما قدمناه، وهو متعين. وتقديم الجمع على الترجيح متفق عليه، وهو الحق. وقد قابل هؤلاء بضد قولهم القدرية، وهم معبد الجهني وأصحابه، فإنهم قالوا: إن الأمر أنف (¬1) أي مستأنف، وقالوا: إن الله لا يعلم بالجزئيات إلا عند وقوعها، - تعالى الله عن ذلك -، وهذا قول باطل يخالف كتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين. وقد تبرأ من مقالة معبد هذه وأصحابه من أدركهم من الصحابة، منهم ابن عمر كما ثبت ذلك في الصحيح (¬2). وقد غلط من نسب مقالتهم هذه إلى المعتزلة (¬3)، فإنه لم يقل ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم التعريف بها. خلاصة: 1 - ذهب الشوكاني رحمة الله إلى أن أجل الإنسان يزيد وينقص، وأن الله سبحانه يمحو ما يشاء مما في اللوح المحفوظ، ويثبت ما يشاء منه واستدل على ذلك بما ذكر من الأدلة في الرسالة. * وقدمنا الرأي الراجح وأقوال العلماء في ذلك، كابن حجر، وابن تيمية وها نحن نختم بقول الشيخ عبد الرحمن ناصر السعدي حيث قال عند تفسيره لقوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ} الآية "يمحو الله ما يشاء من الأقدار ويثبت ما يشاء منها، وهذا المحو والتغيير في غير ما سبق به علمه، وكتبه قلمه، فإن هذا لا يقع فيه تبديل ولا تغيير، لأن ذلك محال على الله أن يقع في علمه نقص أو خلل ولهذا قال: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} أي اللوح المحفوظ الذي ترجع إليه سائر الأشياء، فهو أصلها، وهي فروع وشعب، فالتغيير والتبديل يقع في الفروع والشعب كأعمال اليوم والليلة التي تكتبها الملائكة، ويجعل الله لثبوتها أسبابا، ولمحوها أسبابا لا تتعدى تلك الأسباب ما رسم في اللوح المحفوظ، كما جعل البر والصلة والإحسان من أسباب طول العمر وسعة الرزق، وكما جعل المعاصي سببا لمحق بركة الرزق، والعمر، كما جعل أسباب النجاة من المهالك والمعاطب بحسن قدرته وإرادته وما يدبره منها لا يخالف ما قد علمه وكتبه في اللوح المحفوظ. "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان" (4/ 117).

بها أحد منهم قط، وكتبهم مصرحة بهذا، ناطقة به، ولا حاجة لنا إلى نقل مقالات الرجال. فقد قدمنا من أدلة الكتاب والسنة والجمع بينهما ما يكفي المنصف ويريحه من الأبحاث الطويلة العريضة الواقعة في هذه المسألة، ومن الإلزامات التي ألزم بها بعض القائلين البعض الآخر، ودين الله - سبحانه - بين المفرط والمغالي. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. والله ولي التوفيق. كتبه مؤلفه محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما -[5ب]. ... تمت ***

زهرة النسرين الفائح بفضائل المعمرين

زهرة النسرين الفائح بفضائل المعمرين تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: زهرة النسرين الفائح بفضائل المعمرين. 2 - موضوع الرسالة: آداب. 3 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم" الحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد الأمين وعلى آله الطاهرين وبعد. فإنه وقع السؤال عن حديث التعمير في الإسلام. 4 - آخر الرسالة: وكان تاريخ المجمع والتحرير في شطر الليل الأول من ليلة الاثنين المسفرة عن اليوم السادس عشر شهر القعدة الحرام سنة 1212 اثني عشرة ومائتين وألف. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 8 صفحات ما عدا صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 18 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

زهرة النسرين، الفائح بفضائل المعمرين للمؤلف حفظه الله بعنايته. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد الأمين، وعلى آله الطاهرين، وبعد: فإنه وقع السؤال عن حديث التعمير في الإسلام. فأجبت بما حاصلة أن هذا الحديث ورد من طرق متعددة: منها: حديث أبي هريرة أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (¬1)، من طريق الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "إن العبد إذا بلغ أربعين سنة - وهو العمر - آمنه الله من الخصال الثلاث: من الجنون، والجذام، والبرص، فإذا بلغ خمسين سنة - وهو الدهر - خفف الله عنه الحساب، فإذا بلغ ستين سنة - فهو في إدبار من قوته -، رزقه الله الإنابة إليه فيما يحبه، فإذا بلغ سبعين سنة - وهو الحقب (¬2) - أحبه أهل السماء، فإذا بلغ ثمانين سنة - وهو الخرف (¬3) - أثبتت حسناته، ومحيت سيئاته، فإذا بلغ تسعين سنة - وهو ¬

(¬1) (1/ 375) بدون سند. وذكر السيوطي في "اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة " (1/ 142) وسند الحكيم الترمذي في نوادر الأصول والحافظ ابن حجر في" معرفة الخصال المكفرة " (ص97)، هو: "حدثنا داود بن حماد العبسي، حدثنا اليقظان بن عمار بن ياسر، حدثنا ابن شهاب الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، به. قلت: وهذا الإسناد ضعيف. لجهالة داود بن حماد في لسان الميزان (3/ 416) وضعف اليقظان بن عمار كما الإصابة (2/ 102 رقم الترجمة 1817). (¬2) الحقب: جمع حقبة بالكسر وهي السنة، والحقب: بالضم ثمانون سنة، وقيل أكثر، وجمعه: حقاب. "النهاية" (1/ 412). (¬3) الخرف: بالتحريك فساد العقل من الكبر، وقد خرف الرجل بالكسر يخرف خرفا فهو خرف: فسد عقله من الكبر، والأنثى خرفة، وأخرفه الهرم. "اللسان" (4/ 68).

الفند (¬1) وقد ذهب عنه العقل - غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وشفع في أهل بيته، وسماه أهل السماء: أسير الله، وإذا بلغ مائة سنة سمي: حبيب الله (¬2)، حق على الله أن لا يعذب حبيبه في الأرض". وأخرجه أيضًا ابن مردويه (¬3) بإسناده من حديثه، وزاد في أوله قصة، وهي أنه قال: " بينما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ جالس ذات يوم في عدة من أصحابه، إذا دخل شيخ كبير متوكئ على عكازة له، فسلم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فردوا عليه السلام، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" اجلس يا حماد، فإنك على خير" قال علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - بأبي وأمي يا رسول الله، قلت لحماد: " اجلس، فإنك على خير"؟! قال: نعم يا أبا الحسن، إذا بلغ العبد ... " فذكر الحديث. وقال فيه: " وإذا بلغ ستين سنة وهو الوقف إلى الستين في إقبال من قوته، وبعد الستين في إدبار من قوته". وأخرجه أيضًا أبو موسى من طريق ابن مروديه (¬4). وقال: " هذا الحديث له طرق غرائب، وهذا الطريق أغربها [وفيها ألفاظ ليست في غيرها وهو كما .................... ¬

(¬1) " الفند" في الأصل الكذب، وأفند تكلم بالفند، ثم قالوا للشيخ إذا هرم قد أفند، لأنه يتكلم بالمحرف من الكلام عن سنن الصحة، وأفنده الكبر إذا أوقعه في الفند. "النهاية" (3/ 475). (¬2) في نوادر الأصول" (1/ 375): حبيب الله في الأرض". (¬3) في تفسيره كما في "اللآلئ المصنوعة" (1/ 143) و" معرفة الخصال المكفرة" (ص98) وإسناده:" حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد البلخي، حدثنا محمد بن صالح بن سهل الزيدي، حدثنا داود بن حماد بن الفرافصة .. " وإسناده ضعيف. قال الحافظ ابن حجر في " الإصابة" (2/ 102 رقم الترجمة 1817): في ترجمة "حماد": جاء ذكره في حديث أخرجه أبو موسى من طريق اليقظان بن عمار بن ياسر، أحد الضعفاء، عن الزهري ... ". (¬4) في تفسيره كما في اللآلئ" (1/ 143) و" معرفة الخصال المكفرة" (ص99).

قال] (¬1). وأخرجه أيضًا الدارقطني في غرائب مالك (¬2) من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة. قال الدارقطني: " لا يثبت هذا عن مالك". قلت: الطريقة الأولي رواها الحكيم الترمذي (¬3) عن داود بن حماد القيسي، حدثنا اليقظان بن عمار بن ياسر، حدثنا بن شهاب الزهري عن أبي سلمة، عن أبي هريرة فذكره. والطريقة الثانية: أخرجها أيضًا ابن مروديه (¬4) عن داود بن حامد الفرافصة؛ ولعله القيسي المذكور في الطريقة الأولي، ثم ذكر الإسناد السابق. والطريقة الثالثة: أخرجها الدارقطني (¬5) عن أبي الحسن علي بن محمد بن أحمد [1] المصري، حدثنا عبد السلام بن محمد بن عبد السلام الأموي، حدثنا الزبير بن أبي بكر، حدثنا مطرف بن عبد الله، حدثنا مالك عن أبي الزناد بذلك الإسناد، وقال عبد السلام (¬6): هذا منكر الحديث. ¬

(¬1) زيادة من "اللآلئ" (1/ 143) و" معرفة الخصال المكفرة" (ص99). (¬2) كما في: معرفة الخالص المكفرة" (ص99). وذكر الدارقطني عقب الحديث كما في المرجع السابق" وعبد السلام - بن محمد بن عبد السلام الأموي - هذا منكر الحديث". وانظر "لسان الميزان" (4/ 17). والخلاصة أن الإسناد تالف والله أعلم. (¬3) (1/ 375) بسند ضعيف كما تقدم. (¬4) في تفسيره كما في: "اللآلئ" (1/ 143) و" معرفة الخصال المكفرة" (ص98) وإسناده ضعيف وقد تقدم. (¬5) في "غرائب مالك" كما في" معرفة الخصال المكفرة" (ص99) بسند تالف. (¬6) أي الدارقطني قاله عقب الحديث كما في " معرفة الخصال المكفرة" (ص99). وانظر ترجمته في " لسان الميزان" (4/ 17).

فالحاصل أن حديث أبي هريرة له طريقتان، إحداهما: أخرجها الحكيم الترمذي، وابن مروديه، وأبو موسى. والثانية: أخرجها الدارقطني كما تقدم (¬1). ومنها من حديث عثمان بن عفان من طرق: الأولي: أخرجها ابن مروديه في تفسيره (¬2)، قال: حدثنا أحمد بن هشام بن حميد، حدثنا يحيى بن أبي طالب، أخبرنا مخلد بن إبراهيم الشامي، حدثنا عبد الله بن واقد عن عبد الكريم بن حرام، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن أبيه، عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا بلغ المسلم أربعين سنة عافاه الله من البلايا الثلاثة: من الجنون، والجذام، والبرص، فإذا بلغ خمسين سنة حاسبه الله حسابا يسيرا، فإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة إليه، فإذا بلغ سبعين سنة أحبته الملائكة، فإذا بلغ ثمانين سنة كتبت له الحسنات، ومحيت عنه سيئاته، فإذا بلغ تسعين سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وشفع في أهل بيته، وسمته الملائكة أسير الله في الأرض". الطريقة الثانية: أخرجها الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (¬3) قال: حدثنا عبد الله ابن أبي زياد القطواني، حدثنا سيار بن حاتم العنزي، حدثنا سلام أبو سلمة مولى أم هاني، سمعت شيخا يقول: سمعت عثمان بن عفان يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " قال الله جل ذكره: إذا بلغ عبدي أربعين سنة .... " فذكره. قال الحكيم الترمذي: هذا من جيد الحديث، قلت: فيه مجهول؛ فلا يكون مع ذلك جيدا. ¬

(¬1) وخلاصة القول أن حديث أبي هريرة ضعيف والله أعلم. (¬2) في تفسيره كما في " اللآلئ " (1/ 142) و" معرفة الخصال المكفرة" (ص93). وإسناده تالف. (¬3) (1/ 375) بدون سند. وذكر السيوطي في "اللآلئ" (1/ 141 - 142) و" معرفة الخصال المكفرة" (ص92) الحديث بسنده كما هو في هذه الرسالة. وهو إسناد ضعيف.

الطريقة الثالثة: أخرجها ابن مروديه (¬1) أيضا، قال: حدثنا أحمد بن عيسى بن محمد الخفاف، قال: حدثنا أحمد بن يونس الصبي، حدثنا محمد بن موسى الحرشي البصري، حدثنا عبد الله بن الزبير الباهلي، حدثنا خالد الحذاء عن عبد الأعلى بن عبد الله القرشي، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن عثمان بن عفان ... فذكر نحوه. الطريقة الرابعة: أخرجها أبو يعلى في مسنده (¬2)، والبغوي (¬3)، قالا جميعا: حدثنا عبد الله بن عمر القواريري، حدثنا عزرة بن قيس الأزدي، حدثنا أبو الحسن الكوفي عن عمرو بن أوس، قال: قال محمد بن عمرو بن عثمان عن عثمان ... فذكر نحوه. قلت: لعل محمد بن عمرو بن عثمان رواه عن أبيه عن عثمان، فإذا لم يكن ما في السند من سقط القلم فهو منقطع. الطريقة الخامسة: أخرجها أبو محمد بن الأخضر [2] في كتاب نهج الإصابة (¬4) له، من رواته: الشريف أبو عبد الله بن علي العلوي قال: أخبرنا أبو الطيب محمد بن الحسن بن جعفر، أخبرنا علي بن العباس القانعي، حدثنا محمد بن موسى الحرشي بإسناد ابن مروديه السابق ... فذكره. لكن قال: عبد الله بن عامر بن عبد الرحمن بن الحارث بن نوفل. ¬

(¬1) في تفسيره كما في " اللآلئ" (1/ 142) و" معرفة الخصال المكفرة" (ص94). بسنده كما في هذه الرسالة. وهو إسناد ضعيف. (¬2) كما في "اللآلئ" (1/ 139) وفي " معرفة الخالص المكفرة" (ص95). (¬3) في" معجمه" كما في "اللآلئ" (1/ 139) وفي" معرفة الخصال المكفرة" (ص95). وأخرجه ابن الجوزي في " الموضوعات" (1/ 180) من طريق البغوي، وإسناده ضعيف. وأورده الهيثمي في " مجمع الزوائد" (10/ 205 - 206) وقال: رواه أبو يعلى في الكبير وفيه عزرة بن قيس الأزدي وهو ضعيف. قلت: عزرة بن قيس ضعفه ابن معين، وقال البخاري: لا يتابع على حديثه. [الميزان (3/ 246) ولسان الميزان (4/ 166)]. (¬4) كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص94).

ومنها من حديث أنس بن مالك من طرق، الأولى: أخرجها أحمد في مسنده (¬1) قال: حدثنا أنس بن عياض، حدثني يوسف بن أبي ذرة عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " ما من معمر يعمر في الإسلام أربعين سنة إلا صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء: الجنون، والجذام، والبرص، فإذا بلغ الخمسين، لين الله عليه الحساب، فإذا بلغ الستين، رزقه الله الإنابة لما يحب، فإذا بلغ السبعين أحبه الله، وأحبه أهل السماء، فإذا بلغ الثمانين يقبل الله حسناته، وتجاوز عن سيئاته، فإذا بلغ التسعين غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وسمي أسير الله في الأرض". ورواه أبو يعلى أيضًا (¬2) قال: حدثنا ابن نمير، حدثنا أنس بن عياض، .... فساقه بالإسناد السابق، قال: وحدثنا أبو خثيمة زهير بن حرب، حدثنا أنس بن عياض، ... فساقه كذلك. وأخرجه أيضًا ابن مروديه (¬3) قال: حدثنا أحمد بن عيسى، حدثنا أحمد بن يونس الضبي، حدثنا زهير بن حرب ... فساقه كذلك. وأخرجه أيضًا الدينوري في " المجالسة" (¬4) له، قال: حدثنا محمد بن عبد العزيز بن المبارك، حدثني أبي، حدثني أنس بن عياض .... فساقه كذلك. وأخرجه أيضًا الخلعي في" فوائده" (¬5) قال: أخبرنا عبد الرحمن بن عمر، حدثنا أنس بن عياض .... فساقه كذلك. ويوسف ابن أبي ذرة قال ابن ............................... ¬

(¬1) (3/ 217 - 218) بسند ضعيف جدا. (¬2) في "المسند" (7/ 241 رقم 1491/ 4246) بسند ضعيف. (¬3) في تفسيره كما في" معرفة الخصال المكفرة" (ص105). (¬4) " كما في" معرفة الخصال المكفرة" (ص105). (¬5) " كما في" معرفة الخصال المكفرة" (ص105).

حبان (¬1): إنه منكر الحديث جدا. وقال ابن معين: لا شيء. الطريقة الثانية: أخرجها أبو الحسن الخلعي (¬2) قال: أخبرني عبد الرحمن بن عمر إملاء، أخبرنا بكر عبد الرحمن الخلال، حدثنا محمد بن علي بن زيد الصانع، حدثنا إبراهيم بن عمرو بن عثمان عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فذكر نحوه. والطريقة الثالثة: أخرجها ابن مردويه في تفسيره (¬3): حدثنا الحسن بن محمد بن إسحاق السوسي، ومحمد بن أحمد بن إسحاق العسكري قالا: حدثنا أحمد بن سهل بن أيوب، حدثنا إبراهيم بن المنذر ... فساقه بالإسناد الأول. الطريقة الرابعة: أخرجها أبو يعلى الموصلي في مسنده الكبير (¬4) قال: حدثنا يحيى بن أيوب، حدثنا يحيي بن سليم، حدثني رجلان من أهل العلم، من أهل حران، - وكانا عندي ثقة -[3] عن زفر بن محمد، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن أنس فذكره بنحوه. الطريقة الخامسة: أخرجها أبو يعلى (¬5) أيضًا المدني (¬6) عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن أنس بمثله. قلت: هكذا رواه هؤلاء عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان عن أنس، وأدخل غيرهم بين محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، وبين أنس رجلا. فأخرجه أحمد في ..................................... ¬

(¬1) في: "المجروحين" (3/ 131 - 132). وانظر: "الميزان" (4/ 464) و"اللسان" (6/ 320 - 321) (¬2) كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص101).بسند ضعيف وفيه انقطاع. (¬3) كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص101).بسند ضعيف وفيه انقطاع. (¬4) (7/ 243 رقم 1494/ 4249) بسند ضعيف وفيه انقطاع. (¬5) في "المسند" (7/ 244 رقم 1495/ 4250) بسند ضعيف. (¬6) هو سعد بن أبي الحكم المدني.

مسنده (¬1) عن أبي النضر هاشم بن القاسم، حدثنا الفرج بن فضالة، حدثنا محمد بن عامر، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن عمرو بن جعفر، عن أنس .... فذكره موقوفا، وهذه هي الطريقة السادسة. ورواه غيره عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، وعن جعفر بن عمرو، وهذا هو الصواب، وإنما وقع الوهم من فرج بن فضالة فقال: عمرو بن جعفر. الطريقة السابعة: أخرجها ابن مردويه قال في تفسيره (¬2): حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن أيوب، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الموال، حدثني محمد بن موسى بن أبي عبد الله، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري، عن أنس فذكر نحوه مرفوعا. الطريقة الثامنة: أخرجها أبو يعلى أيضًا في المسند (¬3) له قال: حدثنا أبو عبيده بن ¬

(¬1) في "المسند " (2/ 89) بسند ضعيف جدا. وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات" (1/ 285) قائلا: وأما حديث أنس الموقوف ففيه الفرج بن فضالة. قال يحيى والنسائي: هو ضعيف، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال ابن حيان: يقلب الأسانيد، ويلزق المتون الواهية بالأسانيد الصحيحة لا يحل الاحتجاج به. [انظر: "المجروحين" (2/ 206)، و"التاريخ الكبير" (4/ 1\ 134) و"الضعفاء والمتروكين" للنسائي رقم (491)]. وأما محمد بن عامر فقال ابن حبان: يقلب الأخبار، ويروي عن الثقات ما ليس من أحاديثهم. [المجروحين: (2/ 304)]. وأما محمد بن عبيد الله فهو العرزمي، قال أحمد: ترك الناس حديثه. [كتاب "العلل ومعرفة الرجال" (1/ 119 رقم 526)]. (¬2) كما في "معرفة الخصال المكفرة " (ص 104). بسند ضعيف. وأخرجه البزار (رقم 3587 - كشف) من طريق عبد الملك الجدي به. وفيه محمد بن عبد الله بن عمرو، وجعفر بن عمرو الضمري. وسنده ضعيف. (¬3) (7/ 242 رقم 1493/ 4248).

فضيل بن عياض، حدثنا عبد الملك الجدي، أخبرني عبد الرحمن بن أبي الموال ... فساقه به. الطريقة السابعة: أخرجها أيضًا أبو الطاهر الحسن بن فيل في "جزئه" (¬1) المشهور، قال: حدثنا عمرو بن هشام، أخبرنا عبد الملك بن إبراهيم الجدي، أخبرنا بن أبي الموال ... فساقه به. الطريقة العاشرة: أخرجها البيهقي في كتاب الزهد (¬2) له، قال: حدثنا أبو عبد الله الحافظ وغيره، قالوا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا بكر بن سهل، حدثنا عبد الله بن محمد بن رمح بن المهاجر، حدثنا ابن وهب عن جعفر بن ميسرة، عن زيد ابن أسلم، عن أنس؛ وهذا الإسناد رجاله ثقات. وقد تكلم النسائي في بكر بن سهل، ولكنه قد توبع، فأخرجه إسماعيل بن الفضل الإخشيد في "فوائده" (¬3) قال: حدثنا أبو طاهر بن عبد الرحيم (¬4)، حدثنا أبو بكر المقرئ، حدثنا أبو عروبة الحراني، حدثنا مخلد بن مالك، حدثنا حفص بن ميسرة ... فذكره. وهذه هي الطريقة الحادية عشرة. الطريقة الثانية عشرة: أخرجها الحافظ السلفي (¬5) قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الطريثيثي، حدثنا فضل الله الميهني، أخبرنا زاهر بن أحمد السرخسي، حدثنا يحيى بن صاعد، حدثنا علي بن سعيد، حدثنا مسروق بن المرزبان الكندي حدثنا خالد بن يزيد بن الزيات عن داود بن سليمان عن عبد الله [4] بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم الأنصاري، عن أنس بن مالك .... فذكر نحوه. ¬

(¬1) كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص104). (¬2) (ص 243 - 244 رقم 641) بسند تالف. (¬3) كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص108). (¬4) قال المعلمي في تعليقه على "الفوائد المجموعة" للشوكاني (ص482): " .. أبو طاهر لم أجد له ترجمة ... ". (¬5) كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص 108 - 109) بسند ضعيف.

الطريقة الثالثة عشرة: أخرجها أيضًا السلفي (¬1)، قال: حدثنا محمد بن إسحاق الصنعاني، حدثنا منصور بن أبي مزاحم، حدثنا خالد بن يزيد ... فساقه به. الطريقة الرابعة عشرة: أخرجها ابن مردويه في تفسيره (¬2) أيضا، قال: حدثنا عبد الرحمن بن العباس بن عبد الرحمن، حدثنا إبراهيم بن إسحاق، حدثنا عبد الرحمن بن صالح، حدثنا خالد الزيات .... فساقه به. الطريقة الخامسة عشرة: أخرجها أيضًا ابن مردويه (¬3)، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن أيوب، أخبرنا علي بن الحسن، حدثنا خالد الزيات .... فساقه به. الطريقة السادسة عشرة: أخرجها الحكيم الترمذي (¬4)، قال: حدثنا صالح بن عبد الله، حدثنا خالد الزيات ... فساقه به. الطريقة السابعة عشرة: أخرجها أبو يعلى الموصلي أيضًا في مسنده (¬5)، قال: حدثنا منصور بن أبي مزاحم، حدثنا خالد الزيات ... فساقه به. قلت: وخالد الزيات مجهول، وداود بن سليمان أيضًا مجهول (¬6). الطريقة الثامنة عشرة: أخرجها ابن قتيبة في غريب الحديث (¬7) له، قال: حدثنا أبو ¬

(¬1) كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص109) بسند ضعيف. (¬2) كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص109) بسند ضعيف. (¬3) في تفسيره كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص109) بسند ضعيف. (¬4) في "نوادر الأصول" (1/ 375) بدون سند. وذكره الحافظ ابن حجر في "معرفة الخصال المكفرة" (ص109) بسند الحكيم الترمذي وهو "حدثنا صالح بن عبد الله، حدثنا خالد الزيات، عن داود بن سليمان، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم الأنصاري ". وهذا الإسناد ضعيف. (¬5) (6/ 351 رقم 923/ 3678) بسند ضعيف. (¬6) قال الذهبي في "الميزان" (2/ 8): "داود بن سليمان، شيخ لخالد بن حميد مجهولان". (¬7) لم أجده في غريب الحديث المطبوع. لكن عزاه إليه ياقوت الحموي في معجم الأدباء (10/ 15) بسنده ومتنه. وكذلك عزاه إليه الحافظ ابن حجر في "معرفة الخصال المكفرة" (ص 110 - 111) بسند تالف.

سفيان الغنوي، حدثنا معقل بن مالك عن عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الله بن أنس، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا بلغ العبد ثمانين سنة؛ فإنه أسير الله في الأرض، تكتب له الحسنات، وتمحى عنه السيئات " هكذا رواه مختصرا. وقد رواه أبو الشيخ الأصبهاني (¬1) عن عبد الرحمن المذكور من وجه آخر، وهو مجهول. الطريقة التاسعة عشرة: أخرجها أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج (¬2)، قال: حدثنا ثابت بن سعد بن ثابت الأملوكي عن أبيه، عن عمه عبادة بن رافع الأملوكي، عن أنس، فذكر الحديث مطولا. الطريقة المكلمة العشرين: أخرجها البزار في مسنده (¬3)، قال: حدثنا عبد الله بن شبيب، حدثنا عبد الله بن عبد الملك أبو شيبة، حدثنا أبو قتادة، حدثنا ابن أخي الزهري عن عمه، عن أنس، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ... فذكره. قال البزار: " لا نعلم رواة عن ابن أخي الزهري إلا أبا قتادة ". قال البزار: كان يغلط. وقال ابن معين: ضعيف، وقال البخاري: تركوه، واسمه عبد الله بن واقد الحراني (¬4). ¬

(¬1) في "فوائد الأصبهانيين" كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص 111). (¬2) كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص111 - 112). (¬3) (4/ 226 - 3588 - كشف) بسند ضعيف. (¬4) عبد الله بن واقد، أبو قتادة الحراني، مات سنة عشر ومائتين. قال البخاري: سكتوا عنه، وقال أيضا: تركوه. وقال أبو زرعة، والدارقطني: ضعيف. وقال أبو حاتم: ذهب حديثه. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال أيضا: ليس به بأس، كثير الغلط. وقال الجوزجاني: متروك .. انظر بقية ترجمته في "الميزان" (2/ 517 - 519 رقم الترجمة 4672).

الطريقة الحادية والعشرون: أخرجها أبو نعيم في تاريخ أصبهان (¬1)، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، حدثنا أحمد بن عمرو بن صبيح، حدثنا الحجاج بن يوسف ابن قتيبة (¬2)، حدثنا الصباح بن عاصم الأصبهاني (¬3) عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ .... فذكره بطوله، والصباح مجهول، وسائر رواته ثقات. الطريقة الثانية والعشرون [5]: أخرجها ابن منيع في مسنده (¬4)، قال: حدثنا عباد بن عباد المهلبي؛ حدثنا عبد الواحد بن راشد عن أنس ... فذكره، وهذه الطريقة أوردها ابن الجوزي في الموضوعات (¬5)، معللا للحديث بعباد المذكور، ورد ذلك الحافظ ابن حجر (¬6) فيما علقه على موضوعات ابن الجوزي، وقال: ثقة جليل، من رجال ¬

(¬1) في أخبار أصبهان (1/ 346) وأبو الشيخ في "طبقات الأصبهانيين " (1/ 344) بسند ضعيف. (¬2) ذكره أبو نعيم في "أخبار أصبهان" (1/ 301 - 302) لم يحك فيه جرحا ولا تعديلا. قلت: والراجح أن المسكوت عنه بحكم الضعيف والله أعلم. (¬3) قال الحافظ في "لسان الميزان" (3/ 179): صباح بن عاصم الأصبهاني، لا يعرف وأتى بخبر منكر" ثم ساق هذا الخبر بإسناده من طريق أبي نعيم. وقال: "ورجاله ثقات إلا الصباح" اهـ. (¬4) عزاه إليه الحافظ في "معرفة الخصال المكفرة" (ص 114). وأخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد" (3/ 70 - 71) من طريق ابن منيع. (¬5) (1/ 179 - 180). وقال ابن الجوزي: " فيه عباد بن عباد، قال ابن حبان: غلب عليه التقشف وكان يحدث بالتوهم فيأتي بالمناكير فاستحق الترك " اهـ. قال الشيخ جاسم الفهيد الدوسري تعقيبا على كلام ابن الجوزي في تحقيقه: " معرفة الخصال المكفرة " (ص114) رقم التعليقة (2): " قلت: عباد المذكور في الإسناد هو ابن عباد المهلبي، وقد وثقه ابن معين، ويعقوب بن شيبة، والعجلي، وأبو داود، والنسائي وغيرهم، واحتج به الجماعة "التهذيب (5/ 95 - 96) وهم ابن الجوزي فظنه الرملي الأرسوفي، فذكر فيه جرح ابن حبان .. وقد وثقه ابن معين والعجلي والفسوي " التهذيب" (5/ 97) " اهـ. (¬6) في "القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد" (ص 64).

الصحيح. وأما شيخه عبد الواحد بن راشد فقال ابن حجر (¬1): لم أر للمتقدمين فيه جرحا ولا تعديلا. وقد ذكره الذهبي في الميزان (¬2) بهذا الحديث. وأخرجه العراقي (¬3) في مشيخة ابن البخاري (¬4) بإسناده المتصل بأحمد بن منيع المذكور، وقال: إن هذا الحديث روي من طرق؛ هذا أمثلها (¬5). ومنها حديث شداد بن أوس، أخرجه ابن حبان في كتاب الضعفاء (¬6) له من طريق زيد بن الحباب عن عيسى، عن لاحق بن النعمان، عن علي بن الجهم، عن عبد الله بن شداد بن أوس، عن أبيه ... فذكر نحو حديث عثمان المتقدم. قال ابن حبان: " لا أعرف علي بن الجهم هذا من هو". وليس هو علي بن الجهم (¬7) الشاعر المشهور؛ فهو متأخر عن المذكور في أيام المتوكل العباسي، وقد جزم ابن حجر بأن المذكور في الإسناد مجهول. ¬

(¬1) في "معرفة الخصال المكفرة" (ص115): وأما شيخه: عبد الواحد بن راشد فهو شيخ مجهول، لم أر للمتقدمين فيه جرحا ولا تعديلا ... (¬2) (2/ 672) وقال عنه "ليس بعمدة". (¬3) في أماليه كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص 115). (¬4) في أماليه كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص 115). (¬5) وتعقب الحافظ ابن حجر شيخه العراقي قائلا: " والذي يظهر لي أن أمثلها الطريقة الثانية - وهي التي أخرجها البيهقي في "الزهد" (رقم 641) - وكلام شيخنا مقبول بالنسبة إلى الطرق التي ذكرها هو، فإنه لم يذكر الطريقة الثانية التي ذكرتها، إما سهوا وإما إغفالا، والله أعلم " اهـ. (¬6) لم أجد ترجمة علي بن الجهم في النسخة المطبوعة من كتاب المجروحين. وقد عزاه لابن حبان السيوطي في "اللآلئ" (1/ 142) والحافظ في "معرفة الخصال المكفرة" (ص 96). والإسناد مجهول كما قال الحافظ. (¬7) انظر ترجمته في "لسان الميزان" (4/ 210 - 211) فهو ناصبي كثير الحط على "علي بن أبي طالب" رضي الله عنه، وأهل البيت.

ومنها حديث عبد الله بن أبي بكر الصديق، وله طرق. الأولى: أخرجها البغوي في " معجم الصحابة" (¬1)، قال: حدثنا أحمد بن محمد القاضي، قال: حدثنا عثمان بن الهيثم، حدثنا الهيثم بن الأشعث عن الهيثم أبي محمد السلمي، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن عبد الله بن أبي بكر الصديق، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " إذا بلغ المرء المسلم أربعين سنة صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء: الجنون، والجذام، والبرص، فإذا بلغ خمسين خفف الله عنه ذنوبه، فإذا بلغ ستين رزقه الله الإنابة إليه، فإذا بلغ سبعين أحبته ملائكة السماء، فإذا بلغ ثمانين سنة أثبتت حسناته، ومحيت سيئاته، فإذا بلغ تسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وسمي أسير الله في الأرض، وشفع لأهل بيته " (¬2). الطريقة الثانية: أخرجها ابن قانع في "معجم الصحابة" (¬3) له، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله، حدثنا عثمان بن الهيثم المؤذن، حدثنا الهيثم بن الأشعث، حدثنا محمد بن الهيثم السلمي عن محمد بن عمار البصري، عن الجهم بن أبي الجهم جهيمة السلمي، عن ¬

(¬1) عزاه إليه السيوطي في "اللآلئ" (1/ 140) والحافظ في "معرفة الخصال المكفرة" (ص 89). (¬2) أخرجه البزار رقم (3589 - كشف) والعقيلي في "الضعفاء" (4/ 351). قال البزار: لا نعلم، روى عبد الله بن أبي بكر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا هذا الحديث، وفي إسناده مجاهيل. وقال العقيلي عن الهيثم بن الأشعث: " يخالف في حديثه ولا يصح إسناده". وقال أيضا: وفيه اختلاف واضطراب، وليس يرجع منه إلى شيء يعتمد عليه". وأورده الهيثمي في "المجمع" (10/ 206) وقال: رواه الطبراني من رواية عبد الله بن عمرو بن عثمان عن عبد الله بن أبي بكر الصديق ولم يدركه، ولكن رجاله ثقات إن كان محمد بن عمار الأنصاري هو سبط بن سعد القرظ، والظاهر أنه هو والله أعلم، ورواه البزار باختصار كثير وفي إسناده مجاهيل كما قال " اهـ. والخلاصة أن الحديث ضعيف والله أعلم. (¬3) (2/ 99 - 100 رقم الترجمة 549) بسند ضعيف.

ابن عمرو بن عثمان، عن عبد الله بن أبي بكر ... فذكره. وقد وافق البغوي في إسناده ابن مردوية في تفسيره (¬1)، فقال: حدثنا عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس؛ حدثنا أحمد بن يونس الصبي، حدثنا عثمان بن الهيثم ... فذكر إسناد البغوي، وهذه هي الطريق الرابعة. وأخرجه أيضًا الحافظ أبو محمد الأخضر [6] في كتاب "نهج الإصابة" (¬2) من طريق أبي بكر الشافعي: حدثنا محمد بن غالب، حدثني عثمان بن الهيثم ... فذكره مثل سياق البغوي، وهذه هي الطريقة الخامسة. وفي هؤلاء الرواة لحديث عبد الله بن أبي بكر من لا يعرف حالة، وفيه أيضًا انقطاع، لأن عبد الله بن عمرو بن عثمان لم يدرك عبد الله بن أبي بكر الصديق؛ فإنه مات الثاني قبل مولد الأول. الطريقة السادسة: أخرجها أبو شجاع سعدون بن محمد بن عبد الله في جزء (¬3) له، قال: حدثنا أحمد بن خلاد، حدثنا الهيثم بن عثمان الواسطي، حدثني تميم بن الهيثم عن رجل، عن ابن أبي جحيفة، عن أبي ميمونة السلمي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن عبد الله بن أبي بكر الصديق ... فذكره، وفي إسناده مجاهيل. قال الدارقطني (¬4): فأما عبد الله بن أبي بكر الصديق فأسند عنه حديث في إسناده نظر، يرويه عثمان بن الهيثم عن رجال ضعفاء. ومنها حديث ابن عباس أخرجه الحاكم في "تاريخ نيسابور" (¬5). قال: حدثنا أبو ¬

(¬1) كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص 91). (¬2) كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص94). (¬3) كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص 91 - 92). وقال الحافظ عقبه: " وهو إسناد مجهول، وأظن سعدون أو شيخ سعدون قلب اسم (عثمان بن الهيثم) فقال: (الهيثم بن عفان)، ثم خبط في باقي الإسناد. (¬4) ذكره الحافظ في "معرفة الخصال المكفرة" (ص92). (¬5) كما في "معرفة الخصال المكفرة" (ص 99 - 100) بسند ضعيف.

بكر محمد بن أحمد بن عبدوس، حدثنا أبو بكر محمد بن حمدون بن خالد، حدثنا أبو حنيفة محمد بن عمرو، حدثنا أبي عن الحكم بن عبده، عن خالد الحذاء، وعن أبي قلابة، عن ابن عباس، قال، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " إذا بلغ العبد أربعين سنة عافاه الله تعالى من أنواع البلاء: من الجنون، والجذام، والبرص، فإذا بلغ خمسين رزقه الله الإنابة إليه، فإذا بلغ الستين حببه الله إلى أهل سمائه وأهل أرضه، فإذا بلغ السبعين سنة استحى الله منه أن يعذبه، فإذا بلغ تسعين كان أسير الله في أرضه، ولم يخط عليه القلم بحرف". ومنها حديث ابن عمر، فأخرجه [أحمد (¬1) من طريق] (¬2) الفرج بن فضالة قال: حدثني محمد بن عبد الله العزرمي عن محمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب ... فذكر مثل حديث أنس المتقدم. وقد قيل: إنه تخليط من الفرح بن فضالة، وأنه الصواب عن أنس كما تقدم. ومنها عن عائشة أخرجه ابن حبان في"الضعفاء" (¬3) من طريق عائذ بن نسير عن عطاء، عن عائشة، عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قال: " من بلغ الثمانين من هذه الأمة لم يعرض، ولم يحاسب". فحصل من مجموع ما تقدم أن هذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا؛ فتكون من قسم الحسن لغيره (¬4)؛ لأنها مروية من طريق ثمانية من الصحابة، بل لو قيل: إن حديث أنس ¬

(¬1) في "المسند" (2/ 89) بسند تالف. (¬2) زيادة من "اللآلئ" للسيوطي (1/ 143) يقتضيها السياق. (¬3) لم أجده في "المجروحين" في ترجمة عائذ بن نسير. وقد أخرجه ابن عدي في "الكامل" (5/ 1992) وأبو نعيم في "الحلية" (8/ 215) من طريق عائذ، به. وإسناده ضعيف. (¬4) قلت: الراجح ضعف الحديث خلافا للشوكاني رحمه الله. وممن ضعف هذا الحديث: البيهقي حيث قال في كتاب "الزهد" (ص 245): " ... وقد روي هذا من أوجه أخر عن أنس، وروي عن عثمان وكل ذلك ضعيف والله أعلم. وحكم عليه ابن الجوزي بالوضع، حيث أورده في موضوعاته (1/ 179 - 181) وأقره على ذلك الحافظ العراقي، كما في القول المسدد (ص40) - وقال: " ومما يستدل به على وضع الحديث مخالفة الواقع، وقد أخبرني من أثق به أنه رأى رجلا حصل له جذام بعد الستين، فضلا عن الأربعين " اهـ. وأورده ابن طاهر المقدسي في "تذكرة الموضوعات " برقم (685) وقال: " فيه يوسف بن أبي ذره: لا شيء في الحديث " اهـ. وقال ابن كثير في تفسيره (3/ 207) " هذا حديث غريب جدا وفيه نكارة شديدة" اهـ. وضعفه المعلمي في تعليقه على الفوائد المجموعة (ص 482 - 486). - وممن ذهب إلى تقوية الحديث السيوطي في "اللآلئ" (1/ 138 - 147). والشوكاني في "الفوائد المجموعة" (ص 481 - 483) وقال: " وقد أوردت كثيرا من طرق الحديث في رسالتي التي سميتها ": (زهر النسرين الفائح بفضائل المعمرين) - وهي رسالتنا هذه - وقواه المحدث أبو الأشبال في تعليقه على المسند (8/ 23).

بمجرده من غير نظر إلى بقية الأحاديث لا يقصر عن قسم الحسن لغيره، لكثرة طرقه كما سمعت، لم يكن ذلك بعيدا من الصواب، بل يمكن أن يقال: إن في تلك الطرق المختصة بحديث أنس ما هو من قسم الحسن [7] لذاته، كما يعرف ذلك من له معرفة بالفن. وقد تقرر عند أئمة الفن أن الحسن بقسيمه لاحق بالصحيح في قيام الحجة به، ووجوب العمل بمضمونه، ولم يخالف في ذلك إلا البخاري، وابن العربي، على أن خلافهما إنما هو بناء على اصطلاح لهما في معنى الحديث الحسن، يخالف ما قاله الجمهور. وعلى ذلك فالأخذ بالحسن لذاته ولغيره مجمع عليه. وقد اختلف علماء الاصطلاح في تحقيق الحسن، فمنهم من قال ما هو أشهر رجاله، وعرف مخرجه كما قاله الترمذي، وتبعه غيره، وهذا يصلح تعريفا للحسن لغيره. وأما الحسن لذاته فحده حد الصحيح إلا في مقدار الضبط، فإنه يعتبر في الصحيح أن يكون كل واحد من رواته تام الضبط، ولا يشترط في الحسن لذاته ذلك، بل يكفي

كونه متصفا بصفة الضبط من غير اعتبار القيد الزائد، وهو التمام. ولهذا قال جماعة من علماء الاصطلاح في تعريف الصحيح: إنه ما اتصل إسناده بنقل عدل، تام الضبط، من غير شذوذ، ولا علة قادحة. وقالوا: فإن حق الضبط فالحسن لذاته. ومن جملة المصرحين بتمام الضبط في حد الصحيح الحافظ ابن حجر في النخبة (¬1). وأما ابن الصلاح (¬2)، وزين الدين (¬3) فقالا: ما اتصل إسناده بنقل عدل ضابط عن مثله، من غير شذوذ، ولا علة قادحة. اللهم اجعلنا من المعمرين في طاعتك، العامرين بأعمارهم بيوت عباداتك، يا عامر القلوب بتقواك، ومثبتها على هداك، اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين. انتهى من تحرير جامعه، جمع الله له بين خيري الدارين القاضي [المدره] (¬4) عز الدين والمسلمين محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما، وتجاوز عنهما، وسامحهما في الدنيا والآخرة، بحق محمد وآله الأمين، وآله الطاهرين. وكان تاريخ الجمع والتحرير في شطر الليل الأول من ليلة الاثنين المسفرة عن اليوم السادس عشر شهر القعدة الحرام سنة 1212 اثني عشرة ومائتين وألف هـ. ¬

(¬1) (ص 54 - 55). (¬2) في "علوم الحديث" (11 - 12). (¬3) في "ألفية الحديث" (ص8). (¬4) كلمة غير مقروءة في المخطوط.

بحث في جواب سؤال عن الصبر والحلم هل هما متلازمان أم لا؟

بحث في جواب سؤال عن الصبر والحلم هل هما متلازمان أم لا؟ تأليف محمد بن علي الشوكاني حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه محفوظة بنت علي شرف الدين أم الحسن

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في جواب سؤال عن الصبر والحلم هل هما متلازمان أم لا. 2 - موضوع الرسالة: آداب. 3 - أول الرسالة: الحمد لله وبعد: فهذا الجواب من العلامة المحقق محمد بن علي الشوكاني كثر الله إفادته لما سألته هل الصبر والحلم متلازمان؟ 4 - آخر الرسالة: حرره كاتبة محمد بن علي الشوكاني غفر الله له ولوالديهما ووالدينا والمؤمنين أجمعين آمين آمين. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 4 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 28 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات. 9 - الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

الحمد لله وبعد: فهذا الجواب من العلامة المحقق محمد بن علي الشوكاني - كثر الله إفادته - لما سألته: هل الصبر والحلم متلازمان؟ وأيهما أفضل؟ فقال: الجواب - بمعونة الوهاب - أن معنى الصبر لغة نقيض الجزع (¬1)، وقال الشريف في التعريفات (¬2): الصبر هو ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله إلا إلى الله تعالى، لأن الله أثنى على أيوب بالصبر بقوله: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ} (¬3) مع دعائه في دفع الضر عنه بقوله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (¬4) فعلمنا أن العبد إذا دعى الله في كشف الضر عنه لا يقدح في صبره، لئلا يكون كالمقاومة مع الله، ودعوى التحمل لمشاقه، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} (¬5) فإن الرضى بالقضاء لا يقدح فيه الشكوى إلى ............. ¬

(¬1) انظر "لسان العرب" (7/ 276). وقال الراغب الأصبهاني في "مفردات ألفاظ القرآن" (ص 474): الصبر: الإمساك في ضيق يقال: صبرت الدابة حبستها بلا علف. الصبر: حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع، أو عما يقتضيان حبسها عنه. فالصبر لفظ عام، وربما خولف بين أسمائه بحسب اختلاف مواقعه فإن كان حبس النفس لمصيبة سمى صبرا لا غير. ويضاده الجزع. وإن كان في محاربة سمي شجاعة ويضاده الجبن. وإن كان في نائبة مضجرة سمي رحب الصدر. ويضاده الضجر. وإن كان إمساك الكلام سمى كتمانا ويضاده المذل. وقد سمى الله كل ذلك صبرا ونبه عليه بقوله: "وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ" [البقرة:177]. "وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ" [الحج:35]. انظر: "مجاز القرآن" (1/ 64)، "معانى القرآن وإعرابه" للزجاج (1/ 245). (¬2) (ص 136). (¬3) [ص: 44]. (¬4) [الأنبياء:83]. (¬5) [المؤمنون:76]. قال ابن القيم في "عدة الصابرين" (ص33): " والتحقيق أن في الصبر معاني ثلاثة: المنع والشدة والضم، ويقال صبر إذا أتى بالصبر، وتصبر إذا تكلفه واستدعاه، واصطبر إذا اكتسبه وتعلمه وصابر إذا وقف خصمه في مقام الصبر، وصبر نفسه وغيره بالتشديد إذا حملها على الصبر: واسم فاعل صابر وصبار وصبور ومصابر ومصطبر وأما صبار وصبور فمن أوزان المبالغة ... ". حقيقة الصبر: قيل حقيقة الصبر فهو خلق فاضل من أخلاق النفس يمتنع به من فعل ما لا يحسن ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها. قال الجنيد بن محمد: الصبر: تجرع المرارة من غير تعبس. وقال ذو النون: الصبر "التباعد عن المخالفات، والسكوت عند تجرع غصص البلية، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة ". وقيل: الصبر هو الغنى في البلوى بلا ظهور شكوى. انظر: "عدة الصابرين" (ص 34 - 35).

الله (¬1)، ولا إلى غيره، وإنما يقدح في الرضى بالمقتضي ونحو ما خوطبنا بالرضى بالمقضي ¬

(¬1) وأما إظهار البلاء على غير وجه الشكوى فلا ينافي الصبر، قال تعالى في قصة أيوب: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص:44]. مع قوله: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء:83]. فالشكوى نوعان: 1 - الشكوى إلى الله وهذا لا ينافي الصبر كما قال يعقوب: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86]. مع قوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف:83]. 2 - شكوى المبتلى بلسان الحال والمقال فهذا لا تجامع الصبر بل تضاده وتبطله. انظر: "الإحياء" (5/ 67 - 70)، "عدة الصابرين" (ص 36). قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى " (10/ 666 - 667): " وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ في صلاة الفجر: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86]، ويبكي حتى يسمع نشيجه من آخر الصفوف بخلاف الشكوى إلى المخلوق. قرئ على الإمام أحمد في مرض موته أن طاوسا كره أنين المريض، وقال: إنه شكوى، فما أن حتى مات. وذلك أن المشتكي طالب بلسان الحال، إما إزالة ما يضره أو حصول ما ينفعه والعبد مأمور أن يسأل ربه دون خلقه، كما قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8] وقال ابن عباس: " إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله". أخرجه أحمد (1/ 293) والترمذي رقم (2516) وقد تقدم. ولا بد للإنسان من شيئين. طاعته بفعل المأمور، وترك المحظور، وصبره على ما يصيبه من القضاء المقدور، فالأول: هو التقوى، والثاني: هو الصبر.

والصبر هو المقضي به إلى آخر كلامه (¬1). وأما الحلم فهو الأناة والعقل عند أهل اللغة (¬2)، وقال الشريف في التعريفات (¬3) هو الطمأنينة عند سورة الغضب. وقيل: تأخير مكافأة الظالم انتهى. وأما الصبور (¬4) الذي هو من أسماء الله (¬5) - سبحانه وتعالى - فقد قال في ................... ¬

(¬1) أي الجرحاني في التعريفات". (¬2) انظر "لسان العرب" (3/ 304) "مختار الصحاح" (ص 64). قال الراغب الأصبهاني في "مفردات ألفاظ القرآن" (ص 253): الحلم ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب وجمعه أحلام قال تعالى: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا} [الطور:32]، قيل معناه عقولهم وليس الحلم في الحقيقة العقل، لكن فسره بذلك لكونه من مسببات العقل، وقد حلم وحلمه العقل وتحلم، وأحلمت المرأة: ولدت أولادا حلماء قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:75] وقال سبحانه: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101] أي: وجدت فيه قوة الحلم. وقوله عز وجل: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} [النور:59] أي: زمان البلوغ وسمي الحلم لكون صاحبه جديرا بالحلم. (¬3) (ص 98). (¬4) الصبور لم يرد به التنزيل وإنما ورد في الصحيح - أخرجه البخاري رقم (7378) ومسلم رقم (2804) من حديث أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله. يدعون له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم". وفي رواية ما لفظه: " لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله عز وجل إنه يشرك به ويجعل له الولد ثم هو يعافيهم ويرزقهم". قال القرطبي في "الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى " (1/ 138): واختلفوا في تأويله - الصبور - على ثلاثة أقوال: 1 - إنه من صفات الذات ولكن يرجع إلى إرادة تأخير العقوبة والحليم يرجع إلى إسقاطها. 2 - إنه من صفات ذاته، وإنه بمعنى حليم. قاله ابن فورك والقشيري. 3 - إنه من صفات الفعل، ويرجع إلى تأخير العقوبة وإليه ذهب أبو حامد. والصحيح من هذا أن الصبور يرجع إلى الصبر إرادة تأخير العقوبة وهو المختار وذلك معنى قوله: "لا أحد أصبر من الله" فإنه يعافيهم ويرزقهم وهم يدعون له الصاحبة والولد فأشار إلى تأخير العقوبة عن الكبائر في الدنيا. وهذا المعنى موجود في قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل:61]، وقوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم:42]. وقال المازري في "المعلم بفوائد مسلم " (3/ 197): حقيقة الصبر منع النفس من الانتقام أو غيره فالصبر نتيجة الامتناع فأطلق اسم الصبر على الامتناع في حق الله تعالى لذلك قال القاضي عياض في " إكمال المعلم بفوائد مسلم " (8/ 336) والصبور من أسماء الله تعالى وهو الذي لا يعاجل العصاة بالانتقام وهو بمعنى الحليم في أسمائه سبحانه وتعالى إلا أن الفرق بينهما أن الصبور يخشى عاقبة أخذه، والحليم هو العفو الصفوح مع القدرة على الانتقام وهذا الفرق بين الصبر والحلم. (¬5) الصبور لم يرد به التنزيل وإنما ورد في الصحيح - أخرجه البخاري رقم (7378) ومسلم رقم (2804) من حديث أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله. يدعون له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم". وفي رواية ما لفظه: " لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله عز وجل إنه يشرك به ويجعل له الولد ثم هو يعافيهم ويرزقهم". قال القرطبي في "الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى " (1/ 138): واختلفوا في تأويله - الصبور - على ثلاثة أقوال: 1 - إنه من صفات الذات ولكن يرجع إلى إرادة تأخير العقوبة والحليم يرجع إلى إسقاطها. 2 - إنه من صفات ذاته، وإنه بمعنى حليم. قاله ابن فورك والقشيري. 3 - إنه من صفات الفعل، ويرجع إلى تأخير العقوبة وإليه ذهب أبو حامد. والصحيح من هذا أن الصبور يرجع إلى الصبر إرادة تأخير العقوبة وهو المختار وذلك معنى قوله: "لا أحد أصبر من الله" فإنه يعافيهم ويرزقهم وهم يدعون له الصاحبة والولد فأشار إلى تأخير العقوبة عن الكبائر في الدنيا. وهذا المعنى موجود في قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل:61]، وقوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم:42]. وقال المازري في "المعلم بفوائد مسلم " (3/ 197): حقيقة الصبر منع النفس من الانتقام أو غيره فالصبر نتيجة الامتناع فأطلق اسم الصبر على الامتناع في حق الله تعالى لذلك قال القاضي عياض في " إكمال المعلم بفوائد مسلم " (8/ 336) والصبور من أسماء الله تعالى وهو الذي لا يعاجل العصاة بالانتقام وهو بمعنى الحليم في أسمائه سبحانه وتعالى إلا أن الفرق بينهما أن الصبور يخشى عاقبة أخذه، والحليم هو العفو الصفوح مع القدرة على الانتقام وهذا الفرق بين الصبر والحلم.

القاموس (¬1) والنهاية (¬2): هو الذي لا يعاجل العصاة بالانتقام، قال في النهاية (¬3) وهو من أبنية المبالغة، ومعناه قريب من معنى الحليم، والفرق بينهما أن المذنب لا يأمن العقوبة كما لا يأمنها في صفة الحليم. وفيه: " لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله عز وجل (¬4) أي أشد حلما من فاعل ذلك، وترك العقوبة. انتهى. والحاصل أن الصبر والحلم باعتبار المعنى اللغوي يمكن أن يقال أن بينهما عموما وخصوصا من وجه، لأن الصبر الذي هو ترك الجزع قد يكون اختيارا وقد يكون اضطرارا، فإن الصبر الاضطراري (¬5) صبر عند أهل اللغة، لأن صاحبه قد ترك الجزع. ¬

(¬1) (ص 541). (¬2) (3/ 7). (¬3) (3/ 7). (¬4) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح. (¬5) قال ابن القيم في " عدة الصابرين" (ص 43): الصبر ضربان: ضرب بدني وضرب نفساني وكل منهما نوعان: اختياري واضطراري فهذه أربعة أقسام: 1 - البدني الاختياري كتعاطي الأعمال الشاقة على البدن اختيارا وإرادة. 2 - البدني الاضطراري كالصبر على ألم الضرب والمرض والجراحات والبرد والحر وغير ذلك. 3 - النفساني الاختياري: كصبر النفس عن فعل ما لا يحسن فعله شرعا ولا عقلا. 4 - النفساني الاضطراري: كصبر النفس عن محبوبها قهرا إذا حيل بينها وبينه.

وقد شاع ذلك في لسان أهل اللغة وذاع. قال الشاعر: ليس لمن له حيلة ... موجود أولى من الصبر وقال آخر: أرى الصبر محمودا وعنه مذاهب ... فكيف إذا ما لم يكن عنه مذهب هناك بحق الصبر والصبر واجب ... وما كان منه للضرورة أوجب وهكذا يطلق الصبر على من صبر عند سورة الغضب (¬1)، وعلى من صبر لنزول ما ¬

(¬1) قيل: إذا كان الصبر عند إجابة داعي الغضب سمي (حلما) وضده تسرعا. - وإن كان صبرا عن شهوة الفرج المحرمة سمي (عفة) وضدها الفجور والزنا. - وإن كان عن شهوة البطن وعدم التسرع إلى الطعام سمي (شرف النفس وشبع النفس). وضده الشراهة. ووضاعة النفس. - وإن كان صبر عن إظهار ما لا يحسن إظهاره من الكلام سمي (كتمان السر) وضده إفشاء السر. - وإن كان صبر عن فضول العيش سمي (زهدا) وضده حرصا. - وإن كان على قدر يكفي من الدنيا سمي (قناعة) وضدها الحرص. - وإن كان عن إجابة داعي العجلة سمي (وقاربا وثباتا) وضده طيشا وخفة. - وإن كان عن إجابة داعي الفرار والهرب سمي (شجاعة) وضده جبنا وخورا. - وإن كان عن إجابة داعي الانتقام سمي (عفوا) وصفحا وضده انتقاما وعقوبة. - وإن كان عن إجابة الداعي الإمساك والبخل سمي (جودا) وضده بخلا. - وإن كان عن إجابة داعي الطعام والشراب في وقت مخصوص سمي (صوما). وإن كان عن إجابة داعي العجز والكسل سمي (كيسا). وإن كان عن إجابة داعي إلقاء الكل على الناس وعدم حملهم كلهم سمي (مروءة).

يوجب الحزن والجزع، ويطلق الصبر أيضًا على من صبر أناة وسكوتا، وعلى من صبر وهو على غير هذه الصفة. والحلم يقال على من سكن عند سورة، وتلقاها بالسكون والطمأنينة والأناة [1أ]، ويطلق أيضًا على من كان متأنيا في أموره غير مستعجل، وإن لم يكن هناك ما يقتضي الجزع والغضب، ولهذا قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - للرجل الذي وفد مع قومه على رسول الله، فلما رأوا رسول الله أقبلوا إليه مسرعين، وتأخر الرجل حتى لبس حلته ثم أقبل في سكون وتؤده، فقال رسول الله: " إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة" (¬1) أو كما قال: والقصة مشهورة (¬2). ¬

(¬1) وهو حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه رقم (26/ 18) والبيهقي في "السنن الكبرى " (10/ 104، 194) وفي "دلائل النبوة " (5/ 325 - 326) من حديث أبي سعيد الخدري. وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (25/ 17) والبخاري في "الأدب" رقم (586) والترمذي رقم (2011) والطبراني في "الكبير" رقم (12969) والبيهقي في "السنن الكبرى " (10/ 104) من حديث ابن عباس. (¬2) أخرجها ابن حبان في صحيحه رقم (7203) وأبو يعلى (12/ 243 - 244) رقم (2/ 6849) عن الأشج العصري أنه أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رفقة من عبد القيس ليزوره فأقبلوا، فلما قدموا. رفع لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأناخوا ركابهم، فابتدر القوم ولم يلبسوا إلا ثياب سفرهم، وأقام العصري فعقل ركائب أصحابه وبعيره ثم أخرج ثيابه من عيبته وذلك بعين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم أقبل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسلم عليه فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله. قال: ما هما؟ قال: الأناة والحلم" قال: شيء جبلت عليه أو شيء أتخلقه؟ قال: " لا بل جبلت عليه " قال: الحمد لله. ثم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " معشر عبد القيس، ما لي أرى وجوهكم قد تغيرت" قالوا: يا نبي الله نحن بأرض وحمة، كنا نتخذ من هذه الأنبذة ما يقطع اللحمان في بطوننا، فلما نهينا عن الظروف، فذلك الذي ترى في وجوهنا، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الظروف لا تحل ولا تحرم، ولكن كل مسكر حرام، وليس أن تحبسوا فتشربوا، حتى إذا إمتلأت العروق تناحرتم، فوثب الرجل على ابن عمه فضربه بالسيف فتركه أعرج". قال: وهو يومئذ في القوم الأعرج الذي أصابه ذلك. قلت: فيه المثنى بن ماوي العبدي أبو المنال أحد بني غنيم ذكره ابن حبان في "الثقات" (5/ 444) وأورده البخاري في صحيحه - في "التاريخ الكبير" - (7/ 420) وابن أبي حاتم - في "الجرح والتعديل " - (8/ 326) فلم يذكرا فيه جرحا ولا تعديلا. وباقي رجاله ثقات. وأورده في "المجمع" (5/ 63 - 64) وقال: " رواه أبو يعلى وفيه المثنى بن ماوي أبو المنازل ذكره ابن أبي حاتم، ولم يضعفه ولم يوثقه، وبقية رجالة ثقات".

ويطلق الحلم أيضًا على ترك الطيش، وتجنب أسباب الحمق على اختلاف أنواعها، وإن لم يكن هناك سبب من الأسباب المقتضية للجزع، فمادة اجتماع الصبر والحلم هي حيث يكون سبب من أسباب الجزع، فيتلقاه الإنسان بالصبر اختيارا، ويكون ذلك على هيئة فيها سكون وأناة وطمأنينة، فإنه يقال لهذا صابر حليم (¬1). ¬

(¬1) قال الخطابي: الحليم: هو ذو الصفح والأناة الذي لا يستفزه غضب، ولا جهل جاهل، ولا عصيان عاص، ولا يستحق الصافح مع العجز اسم الحليم إنما الحليم هو الصفوح مع القدرة، المتأني الذي لا يعجل بالعقوبة ... فإن قيل: فكيف يتضمن الحلم الأناة، وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأشج عبد القيس: " إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله الحلم والأناة" فعددهما، فاعلم أن الأناة قد تكون مع عدم الحلم، ولا يصح الحلم أبدا إلا مع الأناة، والأناة ترك العجلة، فقد تكون لعارض يعرض، ولا يكون الحلم أبدا إلا مشتملا على الأناة متأملة، وكذلك لا يكون الحليم إلا حكيما واضعا للأمور مواضعها، عالما قادرا فإن لم يكن قادرا كان حلمه ملتبسا بالعجز والوهن والضعيف، وإن لم يكن عالما كان تركه الانتقام للجهل، وإن لم يكن حكيما فربما كان حلمه من السفه وتتبع أمثال هذا، فإذا علمت أن هذا الاسم يدل على صفات وأحوال وأفعال وترك وتوقيت فقد يظهر من ذلك على المسمى به وصف جملي وقال أصحاب النقل: اختلف الناس في وجه وصف الباري بالحلم على ثلاثة أقوال: الأول: أنه عبارة عن نفي الطيش والسفه وكل ما يضاد الخلق المحمود الذي هو الصبر والثبات في الأمور، وعلى هذا يكون وصفا للذات، سلبيا لتقدس ذاته عن النقائض واستبدادها بالكمال الخالص. الثاني: أنه من صفات الأفعال يجري مجرى الإحسان والإفضال. الثالث: أنه إرادة تأخير العقوبة، قال تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس:11]. وانظر: " الأسني في شرح أسماء الله الحسنى" (1/ 95 - 96).

ومادة افتراق الصبر هي فيما عدا هذه الصورة من صور الصبر التي قدمنا بها، ومادة افتراق الحلم هي أيضًا فيما عدا هذه الصورة من صور الحلم التي قدمنا بها، ولا ينافى هذا التقرير ما قدمنا عن أهل اللغة في تفسير صبور الذي هو من أسماء الله - سبحانه -، فإن الموجب لتخصيصه بذلك المعنى الخاص هو عدم جواز إطلاقه على الله - سبحانه - بمعنى يخالف هذا المعنى. فإن قلت: إذا كانت النسبة بين الصبر والحلم هي العموم والخصوص من وجه، فهل تصح هذه النسبة بينهما على ما نقله صاحب التعريفات في كلامه السابق من أن الصبر ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله، والحلم الطمأنينة عند سورة الغضب (¬1)؟ قلت: النسبة التي ذكرناها هي باعتبار المفهوم اللغوي المنقول في كتب اللغة، وكلام التعريفات لا يبعد أن يمكن فيه مثل هذه النسبة، فإن ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله قد يكون الترك مع وجود سبب في البلوى يوجب الغضب، فيكون حلما، وقد يكون مع وجود سبب للشكوى لا يوجب الغضب كالمرض ونحوه فلا يكون حلما، وقد يكون الحلم عند الغضب بترك الشكوى إلى الغير مع وجود سبب يقتضي الجزع، فيكون ذلك صبرا. وقد يكون الحلم بحصول الطمأنينة عند سورة الغضب مع حصول الشكوى على الغير فلا يكون ذلك صبرا، فكان بينهما من هذه الحيثية عموم وخصوص من وجه، فقد كانت هذه النسبة [1ب] بين المعنيين الاصطلاحيين كما كانت بين المعنيين اللغويين (¬2). فإن قلت: فما النسبة بين معنى الصبر عند أهل اللغة، وبين معناه على كلام صاحب التعريفات؟ قلت: العموم والخصوص المطلق، فإن الصبر عند أهل اللغة بترك الجزع، سواء كان ¬

(¬1) انظر بداية الرسالة. (¬2) قال القرطبي في "الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى " (1/ 94): " والصبر داخل تحت الحلم، إذ كل حليم صابر".

ذلك بترك الشكوى عند ألم البلوى لغير الله أو بترك نوع من أنواع الجزع غير ذلك. فإن قلت: فما النسبة بين معنى الحلم عند أهل اللغة، وبين معناه على كلام صاحب التعريفات؟ قلت: العموم والخصوص المطلق أيضا، فإن الحلم وهو الأناة والعقل قد يكون عند سورة الغضب، وقد يكون عند غيرها، فإن كان المفهوم الذي ذكره صاحب التعريفات للحلم والصبر هو باعتبار الاصطلاح فلا مشاحة فيه، وإن كان باعتبار اللغة فهو غير صحيح ولا مقبول. إذا تقرر هذا فالصور التي يقال لها صبر (¬1)، ويقال لها حلم لا سؤال عنها، لأنها تتناولها أدلة الثناء على الصبر، وأدلة الثناء على الحلم، كما يصدق عليها أنها حلم، ويصدق عليها أنها صبر. وأما الصور التي هي صبر وليست بحلم، والصور التي هي حلم وليست بصبر فكلها خصال فاضلة قد ورد الثناء عليها وعلى صاحبها في الكتاب (¬2) والسنة (¬3). وورد الترغيب فيها، وكثرة الثواب لفاعلها. لكن الأدلة الواردة في الترغيب في الصبر أكثر، لا سيما في الكتاب العزيز، فإن الآيات في ذلك كثيرة جدا لو لم يكن منها إلا قوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬4) فإنه لم يرد في جزاء الحلم وأجره ما يدل ¬

(¬1) تقدم ذكرها. (¬2) منها: قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]. قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]. وقال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى:43]. (¬3) منها: ما أخرجه البخاري رقم (6024، 6356) ومسلم رقم (10/ 2165) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله". (¬4) [الزمر:10]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران:200]. وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]. وقال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43]. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ... ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر". أخرجه البخاري رقم (1469، 6470) ومسلم رقم (124/ 1053) من حديث أبي سعيد الخدري.

هذه الدلالة، ويفيد هذه الفائدة، بل يرد في غالب القرب التي هي أركان الإسلام، وما هو من الواجبات المؤكدة ما يفيد هذه الفائدة، فإن الله - سبحانه - قد جعل جزاء الطاعة محدودا بحدود سماها وبينها كقوله في أجر الحسنة عشر (¬1) أمثالها إلى سبعمائة ¬

(¬1) يشير إلى قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]. قال القرطبي في "الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى" (1/ 141): فيجب على كل مسلم أن يعلم أن الصبور على الإطلاق إنما هو الله عز وجل. ويجب على العبد أن يصبر ويتصبر ويصابر وقد أمره الله بذلك فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200] فأمر سبحانه بالصبر على ما يخصه وعلى مصابرة الأعداء والمداومة على الصبر حتى يتخذه إلفا وصاحبا وخلا ومؤانسا وقد أخبر أنه يحب الصابرين وأنه معهم. والصابرون جمع صابر. والصابر أعلى مقاما من المتصبر. مر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بامرأة تبكي عند قبر فقال لها: " اتقي الله واصبري" الحديث وفيه فقال: " إنما الصبر عند الصدمة الأولى" - أخرجه البخاري رقم (1283 و7154) ومسلم رقم (15/ 926) من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا - وقل ما يكون الصبر عند الصدمة الأولى من المتصبر، وإنما يكون من الصابر أو الصبار أو الصبور، هي مقامات بعضها فوق بعض، فالمتصبر المتكلف ليكتسب الصبر المرة بعد المرة وذلك بحسب مغالبة الهوى، والصابر هو الدائم على قهر هواه وملكه وشهواته. فقل ما يتكلف الصبر لأنه قهر سلطان الهوى، وملك النفس بزمام التقى، والصبار هو المتمرن في الصبر لتكرره مع الاختيار منه، حتى لا يفكر فيما يترقبه من ذلك، وفيهم قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 156 - 157]. قال الأقليشي: واتصاف العبد بالصبر عن الميل إلى دواعي الهوى ليس من صفات الملائكة. إذ هو حبس النفس على الهوى الداعي إلى العصيان، وبهذا فضل العلماء الإنسان على الملك. إذ الملك خلق مبرأ عن الهوى والشهوة فثبت على الطاعة والإنسان سلطت عليه دواعي الهوى، فلما قمعها الصبر وثبت على طاعة الله كان أشرف من الملك، وأعلى. الحديث. قال بعض العلماء: ذكر الله الصبر في القرآن في خمسة وسبعين موضعا فلا بد من الصبر عاجلا أو آجلا فمن لم يصبر كما أمره الله عز وجل في الدنيا حيث ينفعه صبره صبر لا محالة في الآخرة حيث لا يجدي عليه الصبر شيئا. قال تعالى: {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} [الطور:16]. ويقولون: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21]. إن قوما صبروا في الدنيا فلم ينفعهم بل ضرهم ذلك قال الكافرون: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا} [الفرقان: 42]. إنما الصبر الحق ما وافق الحق وخالف الهوى، ووافق طاعة المولى. ونقول ألهمنا الله الصبر ورزقناه بمنه قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله، ولن تعطوا عطاء خيرا وأوسع من الصبر". تقدم خريجه.

ضعف كما تفيد ذلك نصوص الكتاب (¬1) والسنة (¬2)، وأما كون الأجر بغير حساب فهذا جزء لا يقادر قدره، وتفخيم لا يساويه غيره. فإنا لو فرضنا أنه قد ورد النص بان أجر الطاعة الفلانية ألف ألف ألف ضعف، أو أكثر من ذلك لكان قوله: بغير حساب أكثر من ذلك، وأوسع وأفخم. ¬

(¬1) قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]. (¬2) قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أنفق نفقة في سبيل الله كتبت بسبعمائة ضعف" أخرجه الترمذي رقم (1625) والنسائي (6/ 49) وابن حبان رقم (4628) والحاكم (2/ 87) وصححه ووافقه الذهبي. من حديث خريم بن فاتك رضي الله عنه. وهو حديث صحيح.

فالحاصل أن خصلتي الصبر والحلم يجتمعان في كون كل واحدة منها خصلة فاضلة موجبة للأجر، محبوبة إلى الله وإلى رسوله، وأما مقدار الأجر والثواب فالصبر أكثر أجرا وأوسع جزاء، وأعظم مثوبة. والله أعلم. فإن قلت: المفهوم [2أ] الثاني الذي ذكره صاحب التعريفات للحلم وهو قوله: وقيل: تأخير مكافأة الظالم، ما النسبة بينه وبين المعنى الأول من معنيي الحلم الذي ذكره؟ قلت: الظاهر أن هذا المفهوم هو بالنسبة إلى الله تعالى (¬1)، كما أن المعنى الأول هو بالنسبة إلى البشر، كما يفيد ذلك ما تقدم ذكره. وعلى فرض أنهما بالنسبة إلى البشر فلعل النسبة بينهما العموم والخصوص من وجه، لأن الطمأنينة عند سورة الغضب قد تكون مع مكافأة متأخرة، وقد يكون لا تقع مكافأة أصلا، وتأخير المكافأة قد تكون مع حضور غضب عند الابتداء، وقد لا يكون مع ذلك، فكان بينهما عموم وخصوص من وجه. فإن قلت: ما النسبة بين هذا المعنى الأخير الذي ذكره صاحب التعريفات للحلم، وبين المعنى اللغوي؟ قلت: العموم والخصوص المطلق، فإن الأناة والعقل قد تتأخر معهما المكافأة، وقد لا تقع مكافأة بخلاف تأخير المكافأة، فإنه نوع من الأناة ولا يصح أن يوجد بدونها، ¬

(¬1) أما اتصاف الله سبحانه بالحلم بمعنى البراءة عن الطيش فمعلوم بالبرهان المؤدي إلى معرفة كمال الله تعالى، وأما اتصافه بالحلم بمعنى تأخير العقوبة أو رفعها، فأحدهما معلوم بالمشاهدة، والثاني بالموارد النقلية وإجماع أهل الملة الحنيفية، أما تأخير العقوبة في الدنيا عن الكفرة والفجرة من أهل العصيان فمشاهد بالعيان، لأنا نراهم يكفرون ويعصون، وهم معافون في نعم الله يتقلبون، وأما رفع العقوبة في الأخرى فلا يكون مرفوعًا إلا عن بعض من استوجبها من عصاة الموحدين، وأما الكفار فلا مدخل لهم في هذا القسم ولا لهم في الآخرة حظ من هذا الاسم. "الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى" (ص97).

فكان معنى الحلم لغة أعم مطلقا من هذا المعنى الذي ذكره صاحب التعريفات. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. والله ولي التوفيق. انتهى. قال في المنقول منها: هذه بخط سيدي العلامة إبراهيم بن محمد بن إسحاق، حرره كاتبه محمد بن علي الشوكاني - غفر الله له ولوالديهما ووالدينا والمؤمنين أجمعين - آمين آمين.

بحث في الإضرار بالجار

بحث في الإضرار بالجار تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في الإضرار بالجار. 2 - موضوع الرسالة: آداب. 3 - أول الرسالة: الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه لفظ سؤال ورد على القاضي العلامة عز الإسلام محمد بن علي الشوكاني حماه الله 4 - آخر الرسالة: وهو الذي به أدين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الطاهرين. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: صفحتان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: الأولى: 29 سطرا. الثانية: 4 أسطر. 8 - عدد الكلمات في السطر: 11 - 12 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه: لفظ سؤال ورد على القاضي العلامة عز الإسلام محمد بن علي الشوكاني - حماه الله -، من بعض تلاميذه في شهر محرم الحرام سنة 1251. وهو: الله يحفظكم، ويبارك في عمركم، ويكتب نواياكم، وأفضل السلام عليكم ورحمة الله. المراد من أفضالكم إيضاح حكم من يفعل في ملكه شيئا يضر بجاره من تعلية يحصل بها اطلاع على دار جاره، أو إحراما، أو إثارة دخان، أو دق نجارة أو حدادة، أو غير ذلك مما يفعل في الملك ويضر بالجار. فهل يمنع من ذلك أم لا؟ لأن في المسألة قولين: المختار عدم المنع، وإذا قلنا: إن له ذلك في ظاهر الشرع فهل يأثم في الباطن؟ وأي الدليلين أقوى: هل دليل من قال يمنع أو عدمه؟ وما هو اختياركم في هذه المسألة؟ هذا وجه الإشكال في هذه المسألة - جزاكم الله خيرا، بحق محمد وآله (¬1) -. ¬

(¬1) قال أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم من العلماء: إنه لا يجوز أن يسأل الله تعالى بمخلوق - لا بحق الأنبياء ولا غير ذلك - يتضمن شيئين: 1 - الإقسام على الله سبحانه وتعالى به، وهذا منهي عنه عند جماهير العلماء. 2 - السؤال به، فهذا يجوز وطائفة من الناس، ونقل في ذلك آثار عن بعض السلف وهو موجود في دعاء كثير من الناس، ولكن ما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك كله ضعيف بل موضوع، وليس عنه حديث ثابت قد يظن أنه لهم فيه حجة، إلا حديث الأعمى الذي علمه أن يقول: " أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة ". وحديث الأعمى لا حجة لهم فيه، فإنه صريح في أنه إنما توسل بدعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشفاعته .. تقدمت مناقشته. وقال ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (1/ 220) فيحمل قول القائل: أسألك بنبيك محمد على أنه إذا أراد أني أسألك بإيماني به وبمحبته، وأتوسل إليك بإيماني به ومحبته ونحو ذلك ... هذا جائز بلا نزاع. قيل: من أراد هذا المعنى فهو مصيب في ذلك بلا نزاع. وإذا حمل على كلام من توسل بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد مماته من السلف، كما نقل عن بعض الصحابة والتابعين وعن الإمام أحمد وغيره كان هذا حسنا، وحينئذ فلا يكون في المسألة نزاع. ولكن كثير من العوام يطلقون هذا اللفظ ولا يريدون هذا المعنى فهؤلاء الذين أنكر عليهم من أنكر.

[الجواب] وعليكم السلام، ورحمة الله وبركاته: الذي جاءت به الأدلة المتواترة معنى هو النهي عن الإضرار بالجار، بأي وجه من الوجوه، ولو لم يكن من ذلك إلا التوصية منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بالجار (¬1)، والأمر بالإحسان إليه (¬2)، والنهي عن إضراره (¬3). وقد ثبت وصح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يأمن جاره بوائقه " (¬4). فانظر كيف علق ثبوت الإيمان بذلك الوصف، فلا يأمن لمن لم يأمن جاره بوائقه. ¬

(¬1) منها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6014)، ورقم (6015)، ومسلم رقم (2624، 2625) والترمذي رقم (1942، 1943) وأبو داود رقم (5151، 5152) وابن ماجه رقم (3673) وابن حبان في صحيحه رقم (512، 513) عن ابن عمر، وعائشة: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما زال جبريل عليه السلام يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ". (¬2) منها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6018) ومسلم رقم (48) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ". (¬3) أخرج مسلم في صحيحه رقم (45) عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره أو لأخيه ما يحب لنفسه ". (¬4) أخرجه البخاري رقم (6016) ومسلم رقم (46) من حديث أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه ". * وأخرج مسلم في صحيحه رقم (46) وأحمد في " المسند " (2/ 373): " لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ".

وما أعظم هذا التهديد، وأشد موقع هذا الوعيد، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد!. ومع هذا فالضرر ممنوع على العموم، لا يجوز لمسلم الإضرار بمسلم كائنا من كان، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " المؤمن أخو المؤمن، لا يظلمه، ولا يسلمه " ثبت ذلك في الصحيح (¬1). ¬

(¬1) وهو حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6951) من حديث ابن عمر قال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ". * وأخرج البخاري في صحيحه رقم (2442) ومسلم رقم (2580) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة ".

وثبت أيضًا في الصحيح (¬1) عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " فمن ضارر مسلما فقد ظلمه، وأحب له ما يكره لنفسه. ومن ذلك حديث: " لا ضرر ولا ضرار في الإسلام " (¬2)، والجار أخص من ذلك كله بأدلته الخاصة، وقد ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه قطع نخل رجل كان يضارر جاره وقال له: " إنما أنت مضار " (¬3). فإذا كان مجرد حصول المضاررة مسوغا ¬

(¬1) أخرجه أحمد (3/ 176، 272، 278) والبخاري رقم (13) ومسلم رقم (45) والنسائي (8/ 115) والترمذي رقم (2517) وابن ماجه رقم (66) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬2) أخرجه أحمد (1/ 313) وابن ماجه رقم (2341) والطبراني في " الكبير " (1/ 302 رقم 11806) من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا ضرر ولا ضرار ... ". وهو حديث صحيح لغيره. وأخرجه ابن ماجه رقم (2340) من حديث عبادة بن الصامت وهو حديث صحيح. وأخرجه الدارقطني في " السنن " (4/ 228 رقم 86) والحاكم (2/ 57) والبيهقي في " السنن الكبرى " (6/ 69) من حديث أبي سعيد الخدري. وأخرجه الطبراني في " الكبير " (2/ 86 رقم 387) وأبو نعيم في " أخبار أصفهان " (1/ 344) من حديث ثعلبة بن مالك. قلت: حديث: " لا ضرر ولا ضرار " حديث صحيح. انظر: " الصحيحة " رقم (250). (¬3) عن سمرة بن جندب أنه كانت له عضد من نخل في حائط رجل من الأنصار، قال: ومع الرجل أهله، قال: وكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذى به الرجل ويشق عليه فطلب إليه أن يناقله فأبى فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر ذلك له فطلب إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبيعه فأبى فطلب إليه أن يناقله فأبى قال: " فهبه لي ولك كذا وكذا " أمرا رغبه فيه فأبى فقال: " أنت مضار " فقال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأنصاري: " اذهب فاقلع نخله ". أخرجه أبو داود في " المراسيل " رقم (407) وفيه محمد بن عبد الله: هو ابن أبي حماد الطرسوسي القطان، روى عنه جمع، وباقي السند رجاله ثقات إلا أن ابن إسحاق مدلس وقد عنعن. وأخرجه البيهقي (6/ 158) من طريق أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري عن سعيد بن المسيب ..

لإتلاف مال الجار الذي وقع منه الضرار، فكيف لا يجوز منعه عن الضرار والأخذ على يده (¬1)؟. ¬

(¬1) قال ابن قدامة في " المغني " (7/ 52): وليس للرجل التصرف في ملكه تصرفا يضر بجاره، نحو أن يبني فيه حماما بين الدور، أو يفتح خبازا بين العطارين، أو بجعله دكان قصارة يهز الحيطان ويخربها، أو يحفر بئرا إلى جانب بئر جاره يجتذب ماءها، وبهذا قال بعض أصحاب أبي حنيفة وعن أحمد رواية أخرى، لا يمنع. وبه قال الشافعي، وبعض أصحاب أبي حنيفة لأنه تصرف في ملكه المختص به. ولم يتعلق به حق غيره فلم يمنع منه، كما لو طبخ في داره أو خبز فيها. وسلموا أنه يمنع من الدق الذي يهدم الحيطان وينثرها. قال ابن قدامة: ولنا قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا ضرر ولا ضرار " ولأن هذا إضرار بجيرانه، فمنع منه، كالدق الذي يهز الحيطان وينثرها، وكسقي الأرض الذي يتعدى إلى هدم حيطان جاره، أو إشعال نار تتعدى إلى إحراقها قالوا: هاهنا تعدت النار التي أضرمها، والماء الذي أرسله، فكان مرسلا لذلك في ملك غيره، فأشبه ما لو أرسله إليها قصدا. قلنا: - ابن قدامة -: والدخان هو أجزاء الحريق الذي أحرقه، فكان مرسلا في ملك جاره فهو كأجزاء النار والماء، وأما دخان الخبز والطبخ فإن ضرره يسير ولا يمكن التحرز منه، وتدخله المسامحة. ثم قال: وإن كان سطح أحدهما أعلى من سطح الآخر، فليس لصاحب الأعلى الصعود على سطحه على وجه يشرف على سطح جاره، إلا أن يبني سترة تستره. قال الشافعي: لا يلزمه عمل سترة لأن هذا حاجز بين ملكيهما فلا يجبر أحدهما عليه كالأسفل. قال ابن قدامة: ولنا أنه إضرار بجاره ... وذلك لأنه يكشف جاره، ويطلع على حرمه، فأشبه ما لو اطلع عليه من صير بابه أو خصاصه، وقد دل على المنع من ذلك قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لو اطلع في بيتك أحد ولم تأذن له فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح ". وهو حديث صحيح. أخرجه البخاري رقم (6902) ومسلم رقم (2158). انظر: " المجموع " للنووي (13/ 86، 91، 100، 104).

وقد استدل المجوزون لذلك بدليل: هو أن للإنسان أن يتصرف بملكه كيف شاء، لورود الأدلة الدالة على أن الإنسان مفوض في ملكه (¬1). وهذا الاستدلال بمحل من الاختلال، لأنه لا معارضة بين مثل هذا الدليل العام والأدلة الخاصة الواردة بمنع الضرار، بل الجمع ممكن بين العام على الخاص، فيجوز للمالك أن يتصرف في ملكه كيف شاء، إلا أن يكون في ذلك التصرف ضرار على جاره أو على مسلم من المسلمين، فلا يجوز له ذلك، وهذا من الوضوح بمكان مكين عند جميع العلماء المصنفين (¬2)، وهو الذي به أدين. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين. ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة. (¬2) وهو الرأي الراجح لما تقدم. وانظر كلام ابن قدامة في " المغني " (7/ 52 - 53)، " الحاوي الكبير " (8/ 85 - 70).

نثر الجوهر على حديث أبي ذر

نثر الجوهر على حديث أبي ذر تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: نثر الجوهر على حديث أبي ذر. 2 - موضوع الرسالة: آداب. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الأكرمين، ورضي الله عن الصحابة الراشدين. وبعد: فإن الحديث القدسي المروي من طريق أبي ذر وغيره .. 4 - آخر الرسالة: وإلى هنا انتهى الشرح لحديث أبي ذر في شهر محرم سنة 1240 هـ بقلم مؤلفه: محمد بن علي الشوكاني. غفر الله لهما. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 54 صفحة. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 25 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 9 - 12 كلمة. 9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني. 10 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الأكرمين، ورضي الله عن الصحابة الراشدين، وبعد: فإن الحديث القدسي (¬1) المروي من طريق أبي ذر وغيره لما اشتمل على قواعد جليلة، وفوائد جميلة، يرغب إليها كل ذي فهم ويحرص عليها كل ذي علم، أحببت أن أفرده بشرح مختصر منبها على بعض ما تضمنه من الفوائد الفرائد، والعوائد التي هي لشوارد المسائل كقيد الأوابد، ولم أقف على كلام عليه لأحد من أهل العلم (¬2) إلا ما ذكره النووي في شرحه لمسلم (¬3)، وجملة ما شرحه به نصف ورقة، قد نقلنا ذلك عنه كما تقف عليه وسميت هذا الشرح: " نثر الجوهر على حديث أبي ذر " ولفظه في صحيح مسلم (¬4) هكذا: عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ¬

(¬1) تقدم تعريفه. (¬2) بل شرح هذا الحديث شيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة العاشرة من الجزء الثالث، من الرسائل المنيرية (ص205 - 246) وفي " مجموع فتاوى شيخ الإسلام " (18/ 136 - 210) وقد قمت بتحقيقها في رسالة مستقلة بعنوان " شرح حديث: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي " بـ (ص96) ط. مؤسسة الريان - بيروت. (¬3) (16/ 132 - 133). (¬4) رقم (2577). قلت: وأخرجه البخاري في " الأدب المفرد " رقم (490)، وأبو نعيم في " الحلية " (5/ 125،126) والحاكم في " المستدرك " (4/ 241) والطيالسي في " المسند " (ص62 رقم 463) وأحمد في " المسند " (5/ 160) وعبد الرزاق في " المصنف " (11/ 182 رقم 20272) والترمذي رقم (2495) وابن ماجه رقم (4257) والبيهقي في " الأدب " رقم (1027) وابن حبان في " صحيحه " رقم (618) من طرق.

فيما يروي عن ربه عز وجل أنه قال: " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا. يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم. يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم. يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي إنكم لم تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان منهم مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله عز وجل، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ". قال سعيد: كان أبو أدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه. وأخرجه الترمذي (¬1) وابن ماجه (¬2) من طريق: شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنيم عنه. ¬

(¬1) في " السنن " رقم (2495). (¬2) في " السنن " رقم (4257).

ولفظ ابن ماجه (¬1): قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " إن الله تبارك وتعالى يقول: يا عبادي! كلكم مذنب إلا من عافيته فاسألوني المغفرة فأغفر لكم، ومن علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة فاستغفرني بقدرتي غفرت له، وكلكم ضال إلا من هديته فاسألوني الهدى أهدكم، وكلكم فقير إلا من أغنيته فسلوني أرزقكم، ولو أن حيكم وميتكم، وأولكم وآخركم، ورطبكم ويابسكم اجتمعوا فكانوا على قلب أتقى عبد من عبادي، لم يزد في ملكي جناح بعوضة، ولو اجتمعوا فكانوا على قلب أشقى عبد من عبادي لم ينقص من ملكي جناح بعوضة، ولو أن حيكم وميتكم وأولكم وآخركم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا، فسأل كل سائل منهم ما بلغت أمنيته ما نقص من ملكي إلا كما لو أن أحدكم مر بشفة البحر فغمس فيها إبرة ثم نزعها، ذلك بأني جواد ماجد، عطائي كلام، إذا أردت شيئا، فإنما أقول له: كن فيكون ". وأخرجه البيهقي (¬2) من طريق شهر بن حوشب وإبراهيم بن طهمان عنه، ولفظه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " يقول الله عز وجل: يا ابن آدم كلكم مذنب إلا من عافيت، فاستغفروني أغفر لكم، وكلكم فقير إلا من أغنيت، فسلوني أعطكم، وكلكم ضال إلا من هديت، فسلوني الهدى أهدكم ومن استغفرني وهو يعلم أني ذو قدرة على أن أغفر له غفرت له ولا أبالي، ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على قلب أشقى رجل منكم ما نقص ذلك من سلطاني مثل جناح بعوضة، ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في سلطاني مثل جناح بعوضة، ولو أن أولكم وآخركم وحيكم ¬

(¬1) في " السنن " رقم (4257). (¬2) في " الآداب " رقم " 1027 " و" الأسماء والصفات " (1/ 263).

وميتكم ورطبكم ويابسكم سألوني حتى تنتهي مسألة كل واحد منهم فأعطيتهم ما سألوني ما نقص ذلك مما عندي كمغرز إبرة لو غمسها أحدكم في البحر، وذلك أني جواد ماجد، عطائي كلام وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له: كن فيكون ". وأخرجه الترمذي (¬1) وحسنه (¬2) نحوه، إلا أنه قال: " يا عبادي ". انتهى متن الحديث الذي سنشرحه إن شاء الله، ونبتدئ أولا بالكلام على من تكلم عليه من رجاله ثم نعود إلى شرح ألفاظه فنقول: 1 - شهر بن حوشب، هو مولى أسماء بنت يزيد بن السكن، أبو سعيد الشامي (¬3). قال ابن عون (¬4) فيه: شهر نزكوه، بنون، وزاي معجمة، أي طعنوا فيه. وقال شبابة (¬5) عن شعبة: لقيت شهرا فلم أعتد به. وقال ابن عدي (¬6) شهر ممن لا يعتد بحديثه. وقال أبو حاتم (¬7) ليس بدون أبي الزبير، ولا يحتج به، وقال النسائي (¬8) ليس بالقوي. وقال أبو زرعة (¬9) لا بأس به، ووثقه ابن معين، وأحمد بن حنبل (¬10)، والعجلي (¬11)، ¬

(¬1) في السنن " رقم (2495). (¬2) في " السنن " (4/ 657). (¬3) انظر: " تهذيب التهذيب " (2/ 182). (¬4) ذكره ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (2/ 182). (¬5) ذكره ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (2/ 182). (¬6) في " الكامل " (4/ 1355). (¬7) في " الجرح والتعديل " (4/ 358). (¬8) في " الضعفاء والمتروكين " رقم (310). (¬9) ذكره ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (2/ 183). (¬10) كما في " بحر الدم " رقم (447). (¬11) في " الثقات " رقم (741).

والفسوي (¬1)، ويعقوب ابن شيبة (¬2)، وأخرج له مسلم مقرونا بآخر، وأهل السنن الأربعة والبخاري في التاريخ، وقد أرسل عن تميم الداري وسلمان. وعنه قتادة ومطر الوراق، عبد الحميد بن بهرام، وثابت، والحكم، وعاصم بن بهدلة، واحتج به غير واحد، وقال الذهبي في كتاب الضعفاء (¬3) إن حديثه حسن. وروى أيضًا عن مولاته أسماء بنت يزيد، وابن عباس، وأبي هريرة. 2 - وأما عبد الرحمن بن غنم (¬4)، الذي روى عنه شهر فهو الأشعري، اختلف في صحبته فزعم يحيى بن بكير أن له صحبة، وقال ابن يونس: قدم في السفينة، وذكره العجلي (¬5) في كبار التابعين روى عن عمر، وعثمان، وعنه مكحول، وعمير بن هانئ وخلق، قال ابن عبد البر (¬6): كان أفقه أهل الشام، وقال العجلي (¬7) وابن سعد (¬8) شامي تابعي ثقة، وقد أخرج حديثه أهل السنن الأربعة وعلق له البخاري (¬9)، قال خليفة: مات سنة ثمانون وسبعين. 3 - وأما إبراهيم بن طهمان (¬10) فهو الإمام الثقة، وقد أخرج له الجماعة كلهم ومن تكلم فيه لم يذكر جرحا يعتد به وغاية ما قيل فيه: أنه كان مرجئا شديد الرد على ¬

(¬1) في " المعرفة والتاريخ " (2/ 97 - 98). (¬2) ذكره ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (2/ 183). (¬3) رقم (2803). (¬4) انظر " تهذيب التهذيب " (2/ 543 - 544)، " التقريب " رقم (3978). (¬5) في " الثقات " (2/ 85). (¬6) في " الاستيعاب " (2/ 424). (¬7) في " الثقات " (2/ 85). (¬8) في " الطبقات " (7/ 441). (¬9) في " صحيحه " (10/ 53 رقم5590). (¬10) انظر: " تهذيب التهذيب " (1/ 69 - 70). قال أبو حاتم وأبو داود: ثقة. وقال ابن المبارك: صحيح الحديث. وقال ابن معين والعجلي: لا بأس به.

الجهمية، وتلك شكاة ظاهر عنه عارها. وقد روي رجوعه عن الإرجاء، وليس الجرح باختلاف المذاهب والاعتقادات بمعتد به قط، ولا يلتفت إليه من له بصيرة (¬1). قوله: عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فيما يروى عن ربه. فيه التصريح بأن هذا الحديث من جملة الأحاديث القدسية التي رواها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عن الله عز وجل بواسطة الملك، ويمكن أن يكون ذلك بلا واسطة، وأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ سمعه من ربه سبحانه، ولا مانع من ذلك. قوله: إنه قال: " يا عبادي ". العباد جمع عبد، ويجمع أيضًا على أعبد، وعبدان بالضم مثل: تمر وتمران، وعبدان بالكسر، مثل جحش وجحشان، وعبدان بالكسر وتشديد الدال، وعبداء ممدودا ومقصورا، وعبدون، وعبيد مثل كلب وكليب (¬2). قال في الصحاح (¬3) وهو جمع عزيز، وحكى الأخفش: عبد مثل سقف، وسقف، أنشد: أنسب العبد إلى آبائه ... أسود الجلدة من قوم عبد وأصل العبودية الخضوع والذل والتعبد التذلل، كذا في الصحاح (¬4). قال في القاموس (¬5) العبد: الإنسان حرا كان أو رقيقا والمملوك. وقال في الصحاح (¬6) إن العبد خلاف الحر. والظاهر من كلام أهل اللغة وكلام أهل الشرع أنه لا يطلق العبد على الحر إلا إذا أضيف إلى الرب عز وجل، لا على الإطلاق كما أشعر به كلام صاحب القاموس. ¬

(¬1) تقدم التعليق على ذلك. (¬2) انظر: " لسان العرب " (9/ 10 - 11). (¬3) (2/ 503). (¬4) (2/ 503). (¬5) (ص378). (¬6) (2/ 503).

وهكذا العباد يختص بما يضاف إلى الله عز وجل بخلاف العبيد فإنه يعم مع أنه قد صح النهي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " أن يقول الرجل عبدي أو أمتي، ولكن يقول: فتاي أو فتاتي " (¬1). ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (2552). انظر الرسالة رقم (184).

[معنى الظلم] قوله: " إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ". قال في الصحاح (¬1) في - ظلمة يظلمه ظلما ومظلمة -: وأصله وضع الشيء في غير موضعه. قال: والظلامة والظليمة والمظلمة: ما تطلبه عند الظالم، وهو اسم ما أخذ منك، وتظلمني فلان أي: ظلمني مالي، وتظلم منه: أي اشتكى ظلمه، وظلمت فلانا تظليما إذا نسبته إلى الظلم فانظلم. قال زهير (¬2) هو الجواد الذي يعطيك نائله ... عفوا ويظلم أحيانا فينظلم (¬3). أي: يسأل فوق طاقته فيتكلفه. وفي ذلك دليل على أن الظلم حرم الله سبحانه على نفسه كما حرمه على عباده. قال النووي في شرح مسلم (¬4) قال العلماء: معنى حرمت الظلم على نفسي تقدست عنه وتعاليت، والظلم مستحيل منه سبحانه وتعالى لأنه التصرف في غير ملك، أو مجاوزة حد، وكلاهما مستحيل في حق الله سبحانه، وكيف يجاوز سبحانه حدا وليس فوقه من يطيعه وكيف يتصرف في غير ملك والعالم كله ملكه وسلطانه، وأصل التحريم في اللغة (¬5) المنع، فسمى تقدسه عن الظلم تحريما لمشابهته الممنوع في أصل عدم الشيء، انتهى. ¬

(¬1) (5/ 1977). (¬2) البيت الثالث عشر من قصيدة يمدح هرم بن سنان المري. انظر شرح ديوان "زهير بن أبي سلمى" (ص119). (¬3) كذا في المخطوط: والذي في الديوان (ص115) فيظلم. (¬4) (16/ 132). (¬5) انظر " قاموس المحيط " (1411).

واعلم أن الكلام في هذا يطول، وموضعه علم الكلام، وفيه للأمة مذاهب محررة: مذهب المعتزلة (¬1)، ومذهب الأشعرية (¬2)، والتفصيل: وهو الحق، فهو عز وجل يمتنع عليه أن ينقص عاملا أجر عمله أو يعذبه بعد توبته (¬3). ¬

(¬1) تقدم التعريف بها. (¬2) تقدم التعريف بها. (¬3) قال ابن تيمية في الرسالة العاشرة من الرسائل المنيرية (ص207) ورسالة محققة بعنوان " شرح حديث يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي " (ص36) بتحقيقي بعد أن ذكر آراء، وأقوال الفرق: ثم يقال لهم الظلم فيه نسبة وإضافة فهو ظلم من الظالم، بمعنى: أنه عدوان وبغي منه، وهو ظلم للمظلوم. بمعنى: أنه بغي واعتدي عليه، وأما من لم يكن متعدى عليه وبه ولا هو منه عدوان على غيره فهو في حقه ليس بظلم، لا منه ولا له، والله سبحانه خلق أفعال العباد فذلك من جنس خلقه لصفاتهم فهم الموصوفون بذلك، فهو سبحانه إذا جعل بعض الأشياء أسود وبعضها أبيض، أو طويلا أو قصيرا أو متحركا أو ساكنا أو عالما أو جاهلا أو قادرا أو عاجزا أو حيا أو ميتا أو مؤمنا أو كافرا أو سعيدا أو شقيا أو ظالما أو مظلوما، كان ذلك المخلوق هو الموصوف بأنه الأبيض والأسود والطويل والقصير والحي والميت والظالم والمظلوم ونحو ذلك. والله سبحانه لا يوصف بشيء من ذلك، وإنما إحداثه للفعل الذي هو ظلم من شخص وأكل لآخر، وليس هو بذلك آكلا ولا مأكولا، ونظائر هذا كثيرة، وإن كان في خلق أفعال العباد لازمها أو متعديها حكم بالغة، كما له حكمة بالغة في خلق صفاتهم وسائر المخلوقات. لكن ليس هذا موضع تفصيل ذلك. وقد ظهر بهذين الوجهين تدليس القدرية. وأما تلك الحدود التي عورضوا بها فهي دعاو ومخالفة أيضًا للمعلوم من الشرع واللغة والعقل، أو مشتملة على نوع من الإجمال، فإن قول القائل: الظالم من قام به الظلم يقتضي أنه لا بد أن يقوم به لكن يقال له: وإن لم يكن فاعلا له آمرا له لا بد أن يكون فاعلا له مع ذلك، فإذا أراد الأول كان اقتصاره على تفسير الظالم بمن قام به الظلم كاقتصار أولئك على تفسير الظالم في فعل الظلم. والذي يعرفه الناس عامهم وخاصهم أن الظالم فاعل للظلم، وظلمه فعل قائم به، وكل من الفريقين جحد الحق. وأما قولهم من فعل محرما عليه أو منهيا عنه ونحو ذلك، فالإطلاق صحيح لكن يقال: قد دل الكتاب والسنة على أن الله تعالى كتب على نفسه الرحمة، وكان حقا عليه نصر المؤمنين، وكان حقا عليه أن يجزي المطيعين، وأنه حرم الظلم على نفسه، فهو سبحانه الذي حرم بنفسه على نفسه الظلم، كما أنه هو الذي كتب بنفسه على نفسه الرحمة، لا يمكن أن يكون غيره محرما عليه أو موجبا عليه. فضلا عن أن يعلم ذلك بعقل أو غيره، وإذا كان كذلك فهذا الظلم الذي حرمه على نفسه هو ظلم بلا ريب، وهو أمر ممكن مقدور عليه وهو سبحانه يتركه مع قدرته عليه بمشيئته واختياره، لأنه عادل ليس بظالم كما يترك عقوبة الأنبياء والمؤمنين وكما يترك أن يحمل البريء ذنوب المعتدين.

وفي الحديث أبلغ تشديد وأعظم تأكيد وأشد وعيد على مرتكبي الظلم من العباد فإنه سبحانه حرم على عباده المحرمات ونهاهم عن المنهيات، ولم يذكر في شيء منها ما ذكره في تحريم الظلم من إخبارهم أولاً: بأنه حرم الظلم على نفسه، ثم إخبارهم ثانيًا: بأنه بينهم محرما. فإن في هذا من تقريع الظلمة وتوبيخهم ما لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه، وذلك لما علمه عز وجل في سابق علمه من كثرة الظلمة في عباده، وندور العادلين منهم، وهذا يعلمه كل من له اطلاع على أخبار العالم، ومعرفة بأحوالهم، وأحوال ملوكهم، وجميع أرباب المناصب الدينية، والرياسات الدنيوية، لا يشك في ذلك شاك، ولا يرتاب فيه مرتاب.

[الظلم محرما بكل أنواعه] وقد أكثر الله سبحانه في كتابه العزيز من تنزيه جنابه المقدس عن الظلم كقوله سبحانه: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (¬1) وقوله: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (¬2) وقوله: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (¬3):، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} (¬4)، وغير ذلك من الآيات القرآنية. ونعى على الظلمة ما هم فيه من الظلم من آيات كثيرة. وقد أجمع المسلمون على تحريم الظلم ولم يخالف في ذلك مخالف، وأجمع العقلاء على أنه من أشد ما تستقبحه العقول، ومن الآيات القرآنية قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} (¬5)، {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} (¬6)، {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (¬7)، {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (¬8)، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} (¬9)، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} (¬10)، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} (¬11) وغير ذلك. ¬

(¬1) [النحل: 118]. (¬2) [فصلت: 46]. (¬3) [الكهف: 49]. (¬4) [يونس: 44]. (¬5) [النساء: 40]. (¬6) [غافر: 31]. (¬7) [الكهف: 49]. (¬8) [ق: 29]. (¬9) [يونس: 44]. (¬10) [هود: 101]. (¬11) [الزخرف: 76].

وقد ثبت في السنة المطهرة من تقبيح الظلم وأهله الكثير الطيب فمن ذلك ما في الصحيحين (¬1) وغيرهما (¬2) من حديث أبي موسى قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " إن الله يملي للظالم فإذا أخذه لم يفتله " ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِي ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (¬3). وفي الصحيحين (¬4) وغيرهما (¬5) من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " الظلم ظلمات يوم القيامة ". وأخرج مسلم (¬6) وغيره (¬7) من حديث جابر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم ". وأخرج ابن حبان في صحيحه (¬8)، والحاكم (¬9) من حديث أبي هريرة عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " إياكم والظلم، فإن الظلم هو الظلمات يوم القيامة ". وأخرجه الطبراني في الكبير (¬10) والأوسط (¬11) من حديث الهرماس بن زياد. ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (4686) ومسلم في صحيحه رقم (2583). (¬2) كابن ماجه رقم (4018). (¬3) [هود:102] (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2447) ومسلم رقم (2579). (¬5) كالترمذي رقم (2030). (¬6) في صحيحه رقم (2578). (¬7) كأحمد في " المسند " (3/ 323). (¬8) في " صحيحه " رقم (6248). (¬9) في " المستدرك " (1/ 11). (¬10) (22/ 204 رقم 538). (¬11) رقم (629). وأورده الهيثمي في " المجمع " (5/ 235) وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير وفيه عبد الله بن عبد الرحمن بن مليحة وهو ضعيف.

وأخرج أيضًا (¬1) من حديث ابن مسعود أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " لا تظلموا فتدعوا فلا يستجاب لكم، وتستسقوا فلا تسقوا، وتستنصروا فلا تنصروا ". وأخرج أيضًا في الكبير (¬2) بإسناد رجاله ثقات من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " صنفان من أمتي لن تنالهما شفاعتي: إمام ظلوم غشوم، وكل غال مارق ". وأخرج أحمد (¬3) بإسناد حسن من حديث ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله، ويقول: والذي نفسي بيده ما تواد اثنان فيمزق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما ". وأخرج أحمد (¬4) والطبراني بإسناد حسن، وأبو يعلى من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " اتقوا الظلم ما استطعتم فإن العبد يجيء بالحسنات يوم القيامة يرى أنها ستنجيه فما يزال عبد يقوم يقول: يا رب ظلمني عبدك مظلمة، فيقول: أتموا من حسناته، ما يزال كذلك حتى ما يبقى له حسنة من الذنوب ". ¬

(¬1) الطبراني في " الأوسط " كما في " مجمع الزوائد " (5/ 235) وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط وفيه من لم أعرفه. (¬2) رقم (8079). وأورده الهيثمي في " المجمع " (5/ 235) وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط رقم (1625) ورجال الكبير ثقات. (¬3) في " المسند " (2/ 68) وأورده الهيثمي في " المجمع " (8/ 184) وقال: رواه أحمد وإسناده حسن. (¬4) انظر تخريجه في " تخريج أحاديث إحياء علوم الدين " للعراقي، وابن السبكي، والزبيدي. استخراج أبي عبد الله محمود الحداد (6/ 2687 - 2689) رقم (4101).

وأخرج البخاري (¬1) والترمذي (¬2) من حديث أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " من كانت عنده مظلمة لأخيه أو شيء فليتحلله منه اليوم من قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه ". وأخرج مسلم (¬3) والترمذي (¬4) من حديث أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " أتدرون ما المفلس "؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: " إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار ". وأخرج البيهقي في " البعث (¬5) بإسناد جيد، عن أبي عثمان، عن سلمان الفارسي، وسعد بن مالك وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن مسعود، حتى عد ستة أو سبعة من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قالوا: " إن الرجل لترفع له يوم القيامة صحيفته حتى يرى أنه ناج فما تزال مظالم بني آدم تتبعه حتى ما يبقى له حسنة، ويحمل عليه من سيئاتهم ". وأخرج مسلم (¬6) من حديث أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: ¬

(¬1) في صحيحه رقم (2449). (¬2) في " السنن " رقم (2419). (¬3) في صحيحه رقم (2581). (¬4) في السنن رقم (2418). (¬5) في " البعث والنشور " رقم (152). وأخرجه الحاكم (4/ 574) وصححه ووافقه الذهبي. (¬6) في صحيحه رقم (2564).

" المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا التقوى هاهنا [و] يشير إلى صدره [ثلاث مرات] بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وعرضه وماله ". وأخرج الطبراني في الصغير (¬1) والأوسط عن علي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " يقول الله عز وجل: اشتد غضبي على من ظلم من لا يجد له ناصرا غيري ". ومن شؤم الظلم وسوء مغبته وقبح عاقبته أن دعوة المظلوم على ظالمه مقبولة لا ترد فيحيق به جزاء ظلمه عن قريب، كما في الصحيحين (¬2) وغيرهما (¬3) من حديث ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بعث معاذا إلى اليمن فقال: " اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ". وأخرج أحمد (¬4)، والترمذي (¬5) وحسنه، وابن ماجه (¬6)، وابن خزيمة (¬7)، وابن ¬

(¬1) (1/ 31). (¬2) أخرجه البخاري رقم (1496) ومسلم رقم (19). (¬3) كأبي داود رقم (1584). (¬4) في " المسند " (2/ 305، 348،445، 478، 517، 523). (¬5) في " السنن " رقم (2526). (¬6) في " السنن " رقم (1752). (¬7) في " صحيحه " رقم (1901).

حبان (¬1) في صحيحهما، من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السماوات ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين ". وفي رواية للترمذي (¬2) " ثلاث دعوات لا شك في إجابتهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على الولد ". وأخرج الحاكم (¬3) وقال: رواته متفق عليهم إلا عاصم بن كليب فاحتج به مسلم وحده، من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة ". وأخرج الطبراني (¬4) بإسناد صحيح من حديث عقبة بن عامر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " ثلاثة تستجاب دعوتهم: الوالد، والمسافر، والمظلوم ". وأخرج أحمد (¬5) بإسناد حسن من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجرا ففجوره على نفسه ". وأخرج الطبراني (¬6) عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " دعوتان ليس بينها وبين الله حجاب: دعوة المظلوم، ودعوة المرء لأخيه بظهر ¬

(¬1) في صحيحه رقم (3428). (¬2) في " السنن " رقم (3598). (¬3) في " المستدرك " (1/ 29). (¬4) أورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 151) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن يزيد الأزرق وهو ثقة. (¬5) في " المسند " (2/ 367) بإسناد حسن. (¬6) أورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 151، 152) وقال: رواه الطبراني وفيه عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي وهو ضعيف.

الغيب ". وأخرج الطبراني (¬1) بإسناد لا بأس به من حديث خزيمة بن ثابت قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام. يقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين ". وأخرج أحمد (¬2) برجال الصحيح من حديث أبي عبد الله الأسدي قال: سمعت أنس بن مالك يقول: " دعوة المظلوم وإن كان كافرا ليس دونها حجاب ". وأخرج ابن حبان في صحيحه (¬3) والحاكم (¬4) وصححه من حديث أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله ما كانت صحف إبراهيم؟ قال: " كانت أمثالا كلها، أيها الملك المسلط المبتلى المغرور! إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فإني لا أردها وإن كانت من كافر ... " إلى آخر الحديث. ¬

(¬1) أورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 152) وقال: رواه الطبراني وفيه من لم أعرفه. (¬2) (3/ 153) بسند ضعيف لجهالة أبي عبد الله الأسدي. قلت: ويقال فيه: أبو عبد الغفار، فقد روى الدولابي - في الكنى (2/ 73) - حديثه من طريق ابن معين، قال: ثنا ابن عفير، قال: أنبا يحيى بن أيوب عن أبي عبد الغفار، عبد الرحمن بن عيسى، قال: سمعت أنسا .. فذكره مرفوعًا وترجم له ابن حجر في تعجيل المنفعة - (2/ 488) - اهـ. " الفرائد على مجمع الزوائد " تأليف: خليل بن محمد العربي (ص 427). (¬3) رقم (361) بإسناد ضعيف جدا. (¬4) لم أجده في " المستدرك ".

[نصرة المظلوم واجبة] وورد أيضًا ما يدل على وجوب نصرة المظلوم. فأخرج البخاري (¬1) والترمذي (¬2) من حديث أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " انصر أخاك ظالما أو مظلوما "، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوما، أفرأيت إن كان ظالما كيف أنصره؟ قال: " تحجزه عن ظلمه أو تمنعه عن الظلم فإن ذلك نصره ". وأخرج مسلم (¬3) من حديث جابر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " ولينصرن الرجل أخاه ظالما أو مظلوما، إن كان ظالما فلينهه فإنه نصره، وإن كان مظلوما فلينصره ". وكما ورد الوعيد على الظلمة، ورد الوعد للعادلين. فأخرج مسلم (¬4) والنسائي (¬5)، من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا ". وفي الصحيحين (¬6) وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ¬

(¬1) في صحيحه رقم (2443، 2444، 6952). (¬2) في " السنن " رقم (2255). (¬3) في صحيحه رقم (2584). قلت: وأخرجه الدارمي (2/ 311) وأحمد (3/ 324). وهو حديث صحيح. (¬4) في صحيحه رقم (18/ 1827). (¬5) في سننه (8/ 221). قلت: وأخرجه أيضًا أحمد في " المسند " (2/ 160). (¬6) البخاري رقم (660) ومسلم رقم (1031).

قال: " سبعة يظلمهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل .. " الحديث. وأخرج مسلم (¬1) من حديث عياض بن حمار قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقصد موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف يستعفف ذو عيال ". وأخرج الطبراني في الكبير (¬2) والأوسط (¬3) بإسناد حسن من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة، وحد يقام في الأرض بحقه أزكى فيها من مطر أربعين صباحا ". وأخرج الترمذي (¬4) وحسنه والطبراني في الأوسط (¬5) من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلسا إمام عادل، وأبغض الناس إلى الله وأبعدهم منه مجلسا إمام جائر ". ¬

(¬1) في صحيحه رقم (2865). قلت: وأخرجه أحمد (4/ 162) والطبراني في الكبير (17/ 994، 995) وفي الأوسط (2954) والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " رقم (3878). (¬2) رقم (11932). (¬3) رقم (4765). وأورده الهيثمي في " مجمع الزوائد " (5/ 197) وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه سعد: أبو غيلان الشيباني، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. قال الألباني في الصحيحة (1/ 411): لا بأس به في الشواهد. (¬4) في " السنن " رقم (1329) وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. (¬5) كما في " المجمع " (5/ 197) وقال: رواه الطبراني وفيه عطية وهو ضعيف. وأخرجه القضاعي في مسند الشهاب رقم (1305) والبغوي في شرح السنة رقم (2472). وأبو يعلى في مسنده رقم (11025). وهو حديث ضعيف.

وأخرج نحوه الطبراني في الأوسط (¬1) بإسناد حسن من حديث عمر بن الخطاب. وأخرج الطبراني (¬2) بإسناد رجاله ثقات - إلا ليث بن أبي سليم - والبزار (¬3) بإسناد جيد من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " إن أشد الناس عذابا يوم القيامة من قتل نبيا أو قتله نبي، وإمام جائر ". وأخرج النسائي (¬4) وابن حبان في صحيحه (¬5) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " أربعة يبغضهم الله: البياع الحلاف، والفقير المختال، والشيخ الزاني، والإمام الجائر ". وأخرج الحاكم (¬6) وصححه من حديث طلحة بن عبيد الله أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " ألا أيها الناس لا يقبل الله صلاة إمام جائر ". وأخرج ابن ماجه (¬7) والحاكم (¬8) وصححه والبزار (¬9) واللفظ له من حديث ابن عمر عن ¬

(¬1) رقم (348) وأورده الهيثمي في " المجمع " (5/ 197) وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف. وأورده المنذري في " الترغيب والترهيب " رقم (3230) وقال: حديثه حسن في المتابعات. (¬2) أورده الهيثمي في " المجمع " (5/ 236). (¬3) في " المسند " رقم (1603 - كشف). (¬4) في " السنن " رقم (5/ 86). (¬5) رقم (5532). وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (107) بنحوه وهو حديث صحيح. (¬6) في " المستدرك " (4/ 89) وصححه وتعقبه الذهبي بقوله: سنده مظلم وفيه عبد الله بن محمد العدوي، متهم. وهو حديث ضعيف. (¬7) في " السنن " رقم (4019) وهو حديث حسن. (¬8) في " المستدرك " (4/ 540) وصححه ووافقه الذهبي. (¬9) في مسنده رقم (1590 - كشف). وأورده الهيثمي في " المجمع " (5/ 196) وقال: رواه البزار وفيه سعد بن سنان أبو مهدي، وهو متروك.

النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " السلطان ظل الله في الأرض، يأوي إليه كل مظلوم من عباده فإن عدل كان له الأجر وكان على الرعية الشكر، وإن جار أو حاف أو ظلم كان عليه الوزر وعلى الرعية الصبر ". وأخرج أحمد (¬1) بإسناد جيد واللفظ له، وأبو يعلى (¬2) والطبراني (¬3) من حديث أنس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " الأئمة من قريش، إن لي عليكم حقا، ولهم عليكم حقا مثل ذلك، فإن استرحموا رحموا، وإن عاهدوا وفوا، وإن حكموا عدلوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ". وأخرج أحمد (¬4) بإسناد رجاله ثقات، والبزار (¬5)، وأبو يعلى (¬6) من حديث سيار بن سلامة (¬7) عن أبي برزة يرفعه نحو الحديث الذي قبله. ¬

(¬1) في " المسند " (3/ 129، 183). (¬2) في مسنده رقم (3644). (¬3) في الدعاء " (2122). وأخرجه النسائي في " السنن الكبرى " (5942) والبخاري في " التاريخ الكبير " (2/ 12) معلقا والطيالسي رقم (2133) والحاكم (4/ 501) والبيهقي (8/ 144). وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده. (¬4) في " المسند " (4/ 421، 424). (¬5) في " مسنده " رقم (3857 - كشف). (¬6) في " مسنده " رقم (3645). وأورده الهيثمي في " المجمع " (5/ 193) وقال: رواه أحمد، وأبو يعلى أتم منه وفيه قصة والبزار ورجال أحمد رجال الصحيح، خلا سكين بن عبد العزيز وهو ثقة. (¬7) سيار بن سلامة الرياحي، أبو المنهال البصري، ثقة من الرابعة، روى له الجماعة، مات سنة 129 هـ. " التقريب " رقم (2715). وهو حديث صحيح لغيره.

وأخرج أحمد (¬1) أيضًا بإسناد رجاله ثقات والبزار (¬2) والطبراني (¬3) من حديث أبي موسى نحوه أيضا، وزاد - بعد اللعن من الله وملائكته والناس أجمعين -: " إنه لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ". وأخرج الطبراني بإسناد رجاله ثقات من حديث معاوية قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " لا يقدس الله أمة لا يقضى فيها بالحق ويأخذ الضعيف حقه من القوي غير متعتع ". وأخرجه أيضًا البزار (¬4) من حديث عائشة. وأخرجه أيضًا الطبراني (¬5) من حديث ابن مسعود، بإسناد جيد. وأخرجه أيضًا ابن ماجه (¬6) من حديث أبي سعيد. وأخرج الطبراني في الأوسط (¬7)، ....................................... ¬

(¬1) في " المسند " (4/ 396). (¬2) في " مسنده " رقم (1582 - كشف). (¬3) أورد الهيثمي في " المجمع " (5/ 193) وقال: رواه أحمد والبزار والطبراني ورجال أحمد ثقات. وهو حديث صحيح لغيره. (¬4) في " مسنده " رقم (1352 كشف) وقال البزار: لا نعلمه عن عائشة إلا من هذا الوجه. وأورده الهيثمي في " المجمع " (4/ 196) وقال: رواه البزار، وفيه المثنى بن الصباح وهو ضعيف، ووثقه ابن معين في رواية. وقال في رواية: ضعيف يكتب ولا يترك وقد تركه غيره. (¬5) كما في " مجمع الزوائد " (4/ 197) وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجاله ثقات. (¬6) في " السنن " رقم (2426). وقال البوصيري في " مصباح الزجاجة " (2/ 248 - 249 رقم 852): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات رواه أبو يعلى ورواته رواة الصحيح. وهو حديث صحيح، والله أعلم. (¬7) رقم (6629).

والحاكم (¬1) وقال: صحيح الإسناد من حديث معقل بن يسار، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " من ولي أمة من أمتي قلت أو كثرت فلم يعدل فيهم كبه الله على وجهه في النار ". وأخرج الطبراني (¬2) بإسناد حسن، وأبو يعلى (¬3)، والحاكم (¬4) وصححه، من حديث أبي موسى أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " إن في جهنم واديا، في الوادي بئر يقال لها: هبهب (¬5) حقا على الله أن يسكنه كل جبار عنيد ". وأخرج أحمد (¬6) بإسناد جيد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولا لا يفكه إلا العدل ". وأخرجه أحمد (¬7) أيضًا بإسناد رجاله رجال الصحيح، والبزار (¬8) من حديث سعد بن ¬

(¬1) في " المستدرك " (4/ 90) وصححه ووافقه الذهبي. وأورده الهيثمي في " المجمع " (5/ 213) وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه عبد العزيز بن الحصين. وهو ضعيف. وهو حديث حسن بشواهده. (¬2) في " الأوسط " رقم (3548)، وقال الهيثمي في " المجمع " (5/ 197): رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن. (¬3) في " المسند " رقم (7249) وفيه أزهر بن سنان، ضعيف. (¬4) في " المستدرك " (4/ 597) وقال: هذا حديث تفرد به أزهر بن سنان عن محمد بن واسع، لم نكتبه عاليا إلا من هذا الوجه ووافقه الذهبي. (¬5) الهبهب السريع، وهبهب السراب إذا ترقرق. [النهاية (5/ 241)]. (¬6) في " المسند " (2/ 431) بإسناده قوي. وأخرجه البزار في مسنده رقم (1640 - كشف) وأبو يعلى في مسنده رقم (6614) و (6629) وابن أبي شيبة (12/ 219) من طرق من حديث أبي هريرة. وهو حديث حسن. (¬7) (5/ 284) بإسناد ضعيف. (¬8) في مسنده رقم (3739 - كشف). وأورده الهيثمي في " المجمع " (5/ 205) وقال: رواه أحمد والبزار والطبراني وفيه رجل لم يسم، وبقية أحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح.

عبادة وفي إسناده رجل لم يسم. وأخرجه البزار (¬1) والطبراني في الأوسط (¬2) ورجال البزار رجال الصحيح من حديث أبي هريرة. وأخرجه أيضًا الطبراني في الكبير (¬3) والأوسط (¬4) رجاله ثقات من حديث ابن عباس. وأخرج ابن حبان في صحيحه (¬5) من حديث أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ما من والي للأمة إلا لقي الله مغلولة يمينه، فكه عدله، أو غله جوره ". وأخرج مسلم (¬6) والنسائي (¬7) من حديث عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله ¬

(¬1) في: المسند " رقم (1640 - كشف). (¬2) رقم (6221) وأورده الهيثمي في " المجمع " (5/ 205) وقال: رواه البزار والطبراني في الأوسط ... ورجال البزار رجال الصحيح. وهو حديث حسن. (¬3) رقم (12689). (¬4) رقم (286، 9367). وأورده الهيثمي في " المجمع " (5/ 206) وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير ورجاله ثقات. وهو حديث حسن. (¬5) في صحيحه رقم (4525) بإسناد ضعيف جدا. فيه إبراهيم بن هشام الغساني، لم يوثقه غير ابن حبان، وكذبه أبو حاتم وأبو زرعة. انظر: " الجرح والتعديل " (2/ 142 - 143). (¬6) في صحيحه رقم (1828). (¬7) في " السنن الكبرى " رقم (8873) ولفظه: " اللهم من ولي من أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به ". وأخرجه أحمد (6/ 62، 93، 260). وهو حديث صحيح.

عليه وآله وسلم يقول في بيتي هذا: " اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به ". وأخرج الطبراني (¬1) بإسناد رجاله رجال الصحيح من حديث ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " من ولي شيئا من أمر المسلمين لم ينظر الله في حاجته حتى ينظر في حوائجهم ". وأخرج الطبراني في الصغير (¬2) والأوسط (¬3) من حديث ابن عباس أيضًا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " ما من أمتي أحد ولي من أمر الناس شيئا لم يحفظهم بما حفظ به نفسه إلا لم يجد رائحة الجنة ". وأخرج مسلم (¬4) من حديث معقل بن يسار قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه آله وسلم يقول: " ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش رعيته إلا حرم الله عليه الجنة ". وفي رواية (¬5) " فلم يحطها بنصحه لم يرح رائحة الجنة ". وأخرجه أيضًا البخاري (¬6) من حديثه. وفي لفظ لمسلم من حديثه أيضًا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة ". ¬

(¬1) كما في " مجمع الزوائد " (5/ 211) وقال: رواه الطبراني وفيه حسين بن قيس، وهو متروك، وزعم أبو محصن أنه شيخ صدق. وبقية رجاله رجال الصحيح. (¬2) (2/ 54). (¬3) رقم (7594). وأورده الهيثمي في " المجمع " (5/ 211) وقال: رواه الطبراني في الصغير والأوسط وفيه إسماعيل بن شبيب وهو ضعيف. (¬4) في صحيحه رقم (142). (¬5) في صحيحه رقم (7150). (¬6) في صحيحه رقم (22/ 142).

وأخرج الطبراني في الأوسط (¬1) والصغير (¬2) بإسناد رجاله ثقات - إلا عبد الله بن ميسرة أبا ليلى - من حديث أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " من ولي من أمر المسلمين شيئا فغشهم فهو في النار ". وأخرج الطبراني (¬3) بإسناد حسن من حديث عبد الله بن مغفل قال: أشهد سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " ما من إمام، ولا وال بات ليلة سوداء غاشا لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة ". وأخرج أبو داود (¬4) واللفظ له والترمذي (¬5) والحاكم (¬6) وصححه من حديث عمرو بن مرة الجهني قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " من ولاه الله شيئا من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم، احتجب دون حاجته ¬

(¬1) عزاه إليه الهيثمي في " المجمع " (5/ 213). (¬2) (1/ 240 رقم 392 - الروض الداني). وأورده الهيثمي في " المجمع " (5/ 213) وقال: رواه الطبراني في الصغير والأوسط، وفيه عبد الله بن ميسرة أبو ليلى، وهو ضعيف عند الجمهور ووثقه ابن حبان وبقية رجاله ثقات. انظر: " التقريب " رقم (3652). وهو حديث ضعيف. (¬3) عزاه إليه الهيثمي في " المجمع " (5/ 212 - 213). قال الهيثمي: رواه الطبراني عن شيخه ثابت بن نعيم الهوجي ولم أعرفه، وبقية رجال الطريق الأول ثقات، وفي الثانية محمد بن محمد بن عبد الله بن مغفل ولم أعرفه. قال ابن حجر في " اللسان " (2/ 79): ثابت بن نعيم أبو معن، ذكره مسلمة بن قاسم في الصلة وقال: " مجهول، حدثنا عنه يعقوب بن إسحاق بن حجر ". وهو حديث ضعيف. (¬4) في " السنن " رقم (2948). (¬5) في " السنن " رقم (1333) (¬6) في " المستدرك " (4/ 93) وصححه ووافقه الذهبي. وهو حديث حسن.

وخلته وفقره يوم القيامة ". وأخرج نحوه أحمد (¬1) بإسناد جيد من حديث معاذ. وأخرج نحوه أحمد (¬2) أيضًا بإسناد جيد من حديث أبي الشماخ الأزدي (¬3) عن ابن عم (¬4) له من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. واعلم أن من أقبح أنواع الظلم ما يرجع إلى الأعراض من غيبة، أو نميمة، أو شتم أو قذف. وقد ثبت جعل العرض مقترنا بالدم والمال في التحريم، وما أكثر الظلمة في الأعراض فإن الظلمة في الدماء والأموال قليلون بالنسبة إلى من يظلم الناس في دمائهم وأموالهم بخلاف الظلم في الأعراض فإنه كان مقدورا لكل أحد، تتابع فيه كثير من الناس ووقع فيه كثير من أهل العلم والفضل، زين ذلك لهم الشيطان حتى صاروا في عداد الظلمة للدماء والأعراض بل أشر منهم مع عدم النفع لهم، فإن الظلمة في الدماء قد شفوا أنفسهم بالوقوع في هذه المعصية، وكذلك الظلمة في الأموال قد انتفعوا بما أخذوه من الأموال، وأما الظلمة في الأعراض فليس لهم إلا مجرد المعصية المحضة، والذنب العظيم، والظلم الخالي عن النفع، ¬

(¬1) في " المسند " (5/ 239). وأورده الهيثمي في " المجمع " (5/ 210) وقال: رواه أحمد والطبراني. ورجال أحمد ثقات. (¬2) في " المسند " (3/ 441) بإسناد ضعيف. وأورده الهيثمي في " المجمع " (5/ 201) وقال: رواه أحمد وأبو يعلى - رقم (7378) - وأبو السماح - كذا في المطبوع بالسين المهملة ثم آخره مهملة - لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. وهو حديث صحيح لغيره. (¬3) قال الحافظ في " تعجيل المنفعة " (2/ 481 رقم 1307): لم يذكره الحاكم أبو أحمد ولا ابن أبي حاتم، وقال الحسيني في التذكرة: مجهول. (¬4) هو عمرو بن مرة الجهني. انظر " التاريخ الكبير " (6/ 308) فقد سماه البخاري هناك.

مع أنه أشد على الهمم الشريفة والأنفس الكريمة من ظلم الدم والمال، كما قال الشاعر: يهون علينا أن تصاب جسومنا ... وتسلم أعراض لنا وعقول وقد ثبت في الصحيحين (¬1) وغيرهما من حديث أبي بكرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال في خطبته في حجة الوداع: " إن دماءكم وأموالكم، وأعراضكم، حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ ". وأخرج مسلم (¬2) وغيره (¬3) من حديث أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وعرضه، وماله ". وأخرج أبو يعلى (¬4) بإسناد رجاله رجال الصحيح من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: " أتدرون أربا الربا عند الله "؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: " فإن أربا الربا عند الله تعالى استحلال عرض امرئ مسلم " ثم قرأ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} (¬5). وأخرجه أيضًا البزار (¬6) بإسناد قوي من حديث أبي هريرة. وأخرجه أيضًا أبو ............................................ ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (67) ومسلم رقم (1679) وقد تقدم. (¬2) في صحيحه رقم (2564). (¬3) كالترمذي رقم (1927) وأبو داود رقم (4882) وابن ماجه رقم (3933). (¬4) في مسنده رقم (4689). وأورده الهيثمي في " المجمع " (8/ 92) وقال: رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح. وهو حديث حسن. (¬5) [الأحزاب: 58]. (¬6) عزاه إليه الهيثمي في " المجمع " (8/ 92) وقال: رواه البزار بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح غير محمد بن أبي نعيم وهو ثقة وفيه ضعف.

داود (¬1) من حديث سعيد بن زيد. وأخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب " ذم الغيبة " (¬2) من حديث أنس بن مالك قال: خطبنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فذكر أمر الربا وعظم شأنه وقال: " إن الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله في الخطيئة من ست وثلاثين زنية يزنيها الرجل، وإن أربا الربا عرض الرجل المسلم ". وأخرج الطبراني في الأوسط (¬3) بإسناد فيه عمر بن راشد - وهو ضعيف - قال العجلي (¬4) لا بأس به، من حديث البراء بن عازب أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " الربا اثنان وسبعون بابا أدناهما مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربا الربا استطالة الرجل في عوض أخيه ". وأخرج ابن أبي الدنيا (¬5)، والبيهقي (¬6)، والطبراني (¬7)، من حديث ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الربا نيف وسبعون بابا أهونهن بابا من الربا مثل من أتى أمه في الإسلام، ودرهم ربا أشد من خمس وثلاثين زنية، وأشد الربا وأربا الربا وأخبث الربا انتهاك عرض المسلم، وانتهاك حرمته ". ¬

(¬1) في " السنن " رقم (4876) وهو حديث صحيح. (¬2) في " ذم الغيبة والنميمة " لابن أبي الدنيا (ص 115 رقم 36). (¬3) رقم (7151) وأورده الهيثمي في " المجمع " (4/ 117) وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه عمر بن راشد، وثقه العجلي وضعفه جمهور الأئمة. (¬4) في " معرفة الثقات " (2/ 166 رقم 1340). وانظر: " التقريب " (2/ 55). (¬5) لم أجده. (¬6) في " الشعب " رقم (6715) وهو حديث ضعيف. (¬7) أخرجه في " الصغير " رقم (224) والأوسط رقم (2968) وأورده الهيثمي في " المجمع " (4/ 117) وقال: رواه الطبراني في الصغير والأوسط، وفيه سعيد بن رحمه وهو: ضعيف.

وأخرج أبو داود (¬1)، والترمذي (¬2) وصححه، من حديث عائشة قالت: قلت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: حسبك من صفية كذا وكذا، قال - بعض الرواة -: يعني قصيرة. فقال: " لقد قلت كلمة لو مزجت بها البحر لمزجته ". وأخرج أحمد (¬3) بإسناد رجاله ثقات من حديث جابر قال: كنا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فارتفعت ريح منتنه فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين "!. وأخرج مسلم (¬4)، وأبو داود (¬5)، والترمذي (¬6)، والنسائي (¬7)، من حيدث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " أتدرون ما الغيبة "؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: " ذكرك أخاك بما يكره " قال: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " (¬8). والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وقد ثبت النهي القرآني عن الغيبة، وتمثيل ذلك ¬

(¬1) في " السنن " رقم (4875). (¬2) في " السنن " (2503). وهو حديث صحيح. (¬3) في " المسند " (3/ 351) بإسناد حسن. وأخرجه البخاري في الأدب المفرد رقم (732، 733) والبيهقي في " الشعب " رقم (6732) من طرق. وهو حديث حسن قاله الألباني في صحيح الأدب المفرد. (¬4) في صحيحه رقم (2589). (¬5) في " السنن " رقم (4874). (¬6) في " السنن " رقم (1934). (¬7) في " السنن الكبرى " (6/ 467 رقم 11518). وهو حديث صحيح. (¬8) انظر الرسالة رقم (181).

بأكل الميتة! قال الله عز وجل: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} (¬1). فلم يكتف سبحانه بأكل لحم الأخ حتى ذكر أنه ميت، وفي ذلك من التكريه والتنفير ما يزجر كل ذي عقل. وقد أخرجه ابن حبان في صحيحه (¬2) من حديث أبي هريرة قال: جاء الأسلمي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فشهد على نفسه بالزنا أربع شهادات فرجمه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وسمع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ رجلين من الأنصار يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم يدع نفسه حتى رجم رجم الكلب! قال: فسكت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، ثم سار ساعة فمر بجيفة حمار شائل برجله، فقال: " أين فلان، وفلان "؟ فقالا: نحن ذا يا رسول الله، فقال لهما: " كلا من جيفة هذا الحمار "، فقالا: يا رسول الله غفر الله لك من يأكل من هذا؟! فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " ما نلتما من عرض هذا الرجل آنفا أشد من أكل هذه الجيفة، فوالذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة ". ومن الظلم في الأعراض الشتم واللعن، ففي الصحيحين (¬3) وغيرهما (¬4) من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر ". وأخرج مسلم (¬5)، وأبو داود (¬6)، ..................................... ¬

(¬1) [الحجرات: 12]. انظر الرسالة رقم (181). (¬2) رقم (4439). (¬3) أخرجه البخاري رقم (6044) ومسلم رقم (64). (¬4) كالترمذي رقم (1983)، والنسائي (7/ 121، 122) وابن ماجه رقم (69). (¬5) في صحيحه رقم (2587). (¬6) في " السنن " رقم (4894).

والترمذي (¬1) من حديث أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " المستبان ما قالا فعلى البادي منهما ما لم يعتد المظلوم ". وفي الصحيحين (¬2) أيضًا من حديث أبي هريرة أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " لعن المسلم كقتله ". وفي البخاري (¬3) وغيره (¬4) من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه " قيل: يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: " يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه ". وأخرج مسلم (¬5) وغيره (¬6) من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه ¬

(¬1) في " السنن " رقم (1981). وهو حديث صحيح. (¬2) البخاري في صحيحه رقم (1363) ومسلم رقم (110). وأخرجه أبو داود رقم (3257) والنسائي (7/ 5) والترمذي رقم (1543) من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه: " من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبا متعمدا فهو كما قال، ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة، وليس على رجل نذر فيما لا يملك، ولعن المؤمن كقتله ". (¬3) في صحيحه رقم (5973). (¬4) كمسلم رقم (90) وأبو داود رقم (5141) والترمذي رقم (1902). (¬5) في صحيحه رقم (2598). (¬6) كأبي داود رقم (4907). وهو حديث صحيح. قال القرطبي في " المفهم " (6/ 579 - 580): اللعن في الشرع: البعد عن رحمة الله تعالى وثوابه إلى نار الله وعقابه، وأن لعن المؤمن كبيرة من الكبائر، إذ قد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لعن المؤمن كقتله " - تقدم تخريجه. وقوله: " لا ينبغي لصديق أن يكون لعانا ". صديق: فقيل: وهو الكثير الصدق والتصديق، كما قد تقرر في صفة أبي بكر - رضي الله عنه - واللعان: الكثير اللعن. ومعنى هذا الحديث: أن من كان صادقا في أقواله وأفعاله مصدقا بمعنى اللعنة الشرعية، لم تكن كثرة اللعن من خلقه، لأنه إذا لعن من لا يستحق اللعنة الشرعية. فقد دعا عليه بأن يبعد من رحمة الله وجنته، ويدخل في ناره وسخطه، والإكثار من هذا يناقض أوصاف الصديقين، فإن من أعظم صفاتهم الشفقة، والرحمة للحيوان مطلقا، وخصوصا بني آدم، وخصوصا المؤمن، فإن التي معناها الهلاك والخلود في نار الآخرة، فمن كثر منه اللعن فقد سلب منصب الصديقية، ومن سلبه فقد سلب منصب الشفاعة والشهادة الأخروية كما قال: " لا يكون اللعانون شفعاء، ولا شهداء يوم القيامة " وإنما خص اللعان بالذكر ولم يقل: اللاعن، لأن الصديق قد يلعن من أمره الشرع بلعنه، وقد يقع منه اللعن فلتة وندرة، ثم يراجع، وذلك لا يخرجه عن الصديقية، ولا يفهم من نسبتنا الصديقية لغير أبي بكر مساواة غير أبي بكر، لأبي بكر - رضي الله عنه - في صديقيته، فإن ذلك باطل بما قد علم: أن أبا بكر - رضي الله عنه - أفضل الناس بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ما تقدم، لكن: المؤمنون الذين ليسوا بلعانين لهم حظ من تلك الصديقية. ثم هم متفاوتون فيها على حسب ما قسم لهم منها.

وآله وسلم: " لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة ". وأخرج نحوه الترمذي (¬1) وحسنه من حديث ابن مسعود. وأخرج أحمد (¬2)، والطبراني (¬3)، وابن أبي حاتم وصححه من حديث جرموز الجهني (¬4) قال: قلت: يا رسول الله أوصني، قال: " أوصيك لا تكن لعانا ". وأخرج أبو داود (¬5)، والترمذي (¬6) وصححه، والحاكم (¬7) وصححه أيضا، من ¬

(¬1) في " السنن " رقم (1977) وقال: هذا حديث حسن غريب. وصححه المحدث الألباني. (¬2) في " المسند " (5/ 70) بإسناد صحيح. (¬3) في " الكبير " رقم (2181). (¬4) كذا في المخطوط وصوابه الهجيمي: من بني الهجيم بن عمرو بن تميم، وقيل القريعي، وهو بطن من تميم أيضًا له صحبة، روى هذا الحديث الواحد، ومخرجه عن أهل البصرة. " الاستيعاب " (1/ 262)، " الإصابة " (1/ 471). (¬5) في " السنن " رقم (4906). (¬6) في " السنن " رقم (1976). (¬7) في " المستدرك " (1/ 48) وصححه ووافقه الذهبي. وهو حديث حسن.

من حديث سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " لا تلاعنوا بلعنة الله، ولا بغضبه، ولا بالنار ". وأخرج الطبراني (¬1) بإسناد جيد عن سلمة بن الأكوع قال: كنا إذا رينا الرجل يلعن أخاه رأينا أن قد أتى بابا من الكبائر. وأخرج أبو داود (¬2) من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها [ثم تأخذ يمينا وشمالا] (¬3) فإن لم تجد مساغا رجعت إلى الذي لعن فإن كان أهلا وإلا رجعت إلى قائلها ". وأخرج نحوه أحمد (¬4) بإسناد جيد من حديث عبد الله بن مسعود. وأخرج مسلم (¬5)، ........................................... ¬

(¬1) في " الأوسط " رقم (6674) بإسناد جيد. وأورده الهيثمي في " المجمع " (8/ 73) وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير بنحوه، وإسناد الأوسط جيد، وفي إسناد الكبير ابن لهيعة وهو لين الحديث. (¬2) في " السنن " رقم (4905) وهو حديث حسن. (¬3) زيادة من سنن أبي داود. (¬4) في " المسند " (1/ 408، 425). وأورد الهيثمي في " المجمع " (1/ 408) وقال: رواه أحمد. وأبو عمير لم أعرفه وبقية رجاله ثقات. ولكن الظاهر أن صديق ابن مسعود الذي يزوره هو ثقة، والله أعلم. وصديق ابن مسعود: أبو عمير الحضرمي قال الحافظ في " تعجيل المنفعة ": " مجهول، ويمكن أن يخرجه من حيز الجهالة كونه صديقا لابن مسعود، وأن ابن مسعود كان يزوره كما ذكر في الحديث - أنه كان صديقا لعبد الله بن مسعود، وأن عبد الله بن مسعود كان زاره في أهله .. " وبقية رجاله ثقات رجال الصحيح غير العيزار بن جرؤل الحضرمي، فليس من رجال الكتب الستة، هو ثقة وثقه ابن معين كما ذكره الحافظ في " التعجيل ". (¬5) في صحيحه رقم (2595).

وغيره (¬1)، من حديث عمران بن حصين قال: بينما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة فضجرت فلعنتها، فسمع ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فقال: " خذوا ما عليها فإنها ملعونة ". قال عمران: فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد. وأخرج أبو يعلى (¬2)، وابن أبي الدنيا (¬3) بإسناد جيد من حديث أنس قال: سار رجل مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فلعن بعيره فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " يا عبد الله، لا تسر معنا على بعير ملعون ". وأخرج .......................................... ¬

(¬1) كأحمد (4/ 429) وأبو داود رقم (2561). قال القرطبي في " المفهم " (6/ 580): قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الناقة المدعو عليها باللعنة: " خذوا ما عليها فإنها ملعونة " حمله بعض الناس على ظاهره، فقال: أطلع الله تعالى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أن هذه الناقة قد لعنها الله تعالى. وقد استجيب لصاحبتها فيها. فإذا أراد هذا القائل: أن الله تعالى لعن هذه الناقة كما يلعن من استحق اللعنة من المكلفين كان ذلك باطلا. إذا الناقة ليست بمكلفة. وأيضا فإن الناقة لم يصدر منها ما يوجب لعنها. وإن أراد أن هذه اللعنة: إنما هي عبارة عن إبعاد هذه الناقة عن مالكتها، وعن استخدامها إياها فتلك اللعنة إنما ترجع لصاحبتها، إذ قد حيل بينها وبين مالها، ومنعت الانتفاع به، لا للناقة؛ لأنها قد استراحت من ثقل الحمل وكد السير، فإن قيل: فلعل معنى لعنة الله الناقة أن تترك ألا يتعرض لها أحد، فالجواب: أن معنى ترك الناس لها إنما هو أنهم لم يؤوها إلى رحالهم، ولا استعملوها في حمل أثقالهم، فأما أن يتركوها في غير مرعى، ومن غير علف حتى تهلك فليس في الحديث ما يدل عليه، ثم هو مخالف لقاعدة الشرع في الأمر بالرفق بالبهائم، والنهي عن تعذيبها، وإنما كان هذا منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تأديبا لصاحبتها، وعقوبة لها فيما دعت عليها بما دعت به. ويستفاد منه: جواز العقوبة في المال لمن جنى فيه بما يناسب ذلك، والله تعالى أعلم. (¬2) في " مسنده " رقم (3622). (¬3) في " الصمت " رقم (390). قال الهيثمي في " المجمع " (8/ 77): ورجال أبي يعلى رجال الصحيح. وهو حديث حسن.

أحمد (¬1) بإسناد جيد من حديث أبي هريرة قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ في سفر يسير فلعن رجل ناقته فقال: " أين صاحب الناقة "؟ فقال الرجل: أنا، فقال: " أخرها فقد أجبت فيها ". وأخرج أبو داود (¬2)، وابن حبان في صحيحه (¬3)، من حديث زيد بن خالد الجهني قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة ". وأخرج البزار (¬4) بإسناد لا بأس به، والطبراني، من حديث ابن مسعود: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ " نهى عن سب الديك ". وأخرج البزار (¬5) بإسناد رجاله رجال الصحيح - إلا عباد بن منصور (¬6) - من حديث ¬

(¬1) في " المسند " (2/ 428). وأورده الهيثمي في " المجمع " (8/ 77) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وهو حديث حسن. (¬2) في " السنن " رقم (5101). (¬3) في صحيحه رقم (5731). قلت: وأخرجه الطيالسي رقم (957) والنسائي في " عمل اليوم والليلة " رقم (945) والطبراني في " الكبير " رقم (5209) والبغوي في " شرح السنة " رقم (3270). وهو حديث صحيح. (¬4) في مسنده رقم (2040 - كشف). وأورده الهيثمي في " المجمع " (8/ 77) وقال: رواه البزار والطبراني في " الكبير " رقم (9796) وفي إسناد البزار مسلم بن خالد الزنجي وثقه ابن حبان وغيره وفيه ضعف. وبقية رجاله ثقات. (¬5) في مسنده رقم (2041 - كشف). وأورده الهيثمي في " المجمع " (8/ 77) وقال: رواه البزار وفيه عباد بن منصور، وثقه يحيى القطان وغيره، وضعفه ابن معين وغيره، وبقية رجاله رجال الصحيح. (¬6) عباد بن منصور الناجي، أبو سلمة البصري قاضيها، صدوق، رمي بالقدر وكان يدلس، وتغير بآخره، من السادسة (ت سنة 152 هـ) أخرج له البخاري تعليقا والأربعة. انظر: " التقريب " رقم (3142).

ابن عباس: أن ديكا صرخ قريبا من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فقال رجل: اللهم العنه، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " كلا إنه يدعو إلى الصلاة ". وأخرج أبو يعلى (¬1)، والبزار (¬2) بإسناد رجاله الصحيح - إلا سويد بن إبراهيم (¬3) - والطبراني بإسناد رجاله ثقات - إلا سعيد بن بشير (¬4) - من حديث أنس قال: كنا عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فلذعت رجلا برغوث فلعنها، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " لا تلعنها فإنها نبهت نبيا من الأنبياء للصلاة ". وفي لفظ: " فإنها توقظ للصلاة ". وأخرج نحوه الطبراني في الأوسط (¬5) من حديث علي. فهذه الأحاديث قد اشتملت على أن السب والغيبة واللعن من أشد المحرمات وأنه ¬

(¬1) في " مسنده " رقم (2959). (¬2) في " مسنده " رقم (2042 - كشف). وأورده الهيثمي في " المجمع " (8/ 77) وقال: رواه أبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط - رقم (5732) - ورجال الطبراني ثقات. وفي سعيد بن بشير ضعف وهو ثقة، وفي إسناد البزار سويد بن إبراهيم، وثقه ابن عدي وغيره، وفيه ضعف، وبقية رجالهما رجال الصحيح. وهو حديث ضعيف جدا. (¬3) سويد بن إبراهيم الجحدري، أبو حاتم الحناط، البصري صدوق سيئ الحفظ، له أغلاط. وقد أفحش ابن حبان فيه القول من السابعة (ت سنة 167) أخرج له البخاري في " الأدب المفرد ". انظر: " التقريب " رقم (2687). (¬4) سعيد بن بشير الأزدي مولاهم، أبو عبد الرحمن، ضعيف من الثامنة (ت سنة 168 هـ) أخرج له الأربعة. " التقريب " (2276). (¬5) رقم (9318) وهو حديث ضعيف جدا. وأورده الهيثمي في " المجمع " (8/ 78) وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه سعد بن طريف، وهو متروك.

حرام على فاعله ولو كان الذي وقع اللعن عليه من غير بني آدم، بل ولو كان من أصغر الحيوانات جرما كالبرغوث مع ما يحصل منه من الأذى والضرر، فانظر - أرشدك الله - ما حال من يسب أو يغتاب أو يلعن مسلما من المسلمين وماذا يكون عليه من العقوبة، فكيف بمن يفعل ذلك بخيار عباد الله من المؤمنين. بل كيف من يسب أو يغتاب أو يلعن خيرة الخيرة من العالم الإنساني وهم الصحابة رضي الله عنهم مع كونهم خير القرون (¬1) كما وردت بذلك السنة المتواترة، فأبعد الله الروافض عمدوا إلى من يعدل مد أحدهم أو نصيفه أكثر من جبل أحد من إنفاق غيرهم كما في الحديث الصحيح من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " فإنه لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " (¬2). وورد في الكتاب والسنة من مناقبهم وفضائلهم التي امتازوا بها ولم يشاركهم فيها غيرهم ما لا يفي به إلا مؤلف بسيط! مع ورود الأحاديث الصحيحة في النهي عن سبهم على الخصوص، بل ثبت في الصحيح (¬3) النهي عن سب الأموات على العموم، وهم خير الأموات كما كانوا خير الأحياء لا جرم، فإنه لم يعادهم ويتعرض لأعراضهم المصونة إلا أخبث الطوائف المنتسبة إلى الإسلام وشر من على وجه الأرض من أهل هذه الملة وأقل أهلها عقولا، وأحقر أهل الإسلام علوما، وأضعفهم حلوما بل أصل دعوتهم لكياد الدين ومخالفة شريعة المسلمين، يعرف ذلك من يعرفه ويجهله من يجهله، والعجب كل العجب من علماء الإسلام وسلاطين هذا الدين كيف تركوهم على هذا المنكر البالغ في القبح إلى غايته ............................... ¬

(¬1) تقدم تخريجه مرارا. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3673) ومسلم في صحيحه رقم (2540) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه - تقدم. (¬3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1393) وطرفه (6516) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله: " لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا ... ".

ونهايته (¬1). فإن هؤلاء المخذولين لما أرادوا رد الشريعة المطهرة ومخالفتها طعنوا في أعراض الحاملين لها الذين لا طريق لنا إليها إلا من طرقهم، واستذلوا أهل العقول الضعيفة والإدراكات الركيكة بهذه الذيعة (¬2) الملعونة والوسيلة الشيطانية، فهم يظهرون السب واللعن لخير الخليقة ويضمرون العناد للشريعة ورفع أحكامها عن العباد، وليس في الكبائر ولا في معاصي العباد أشنع ولا أخنع ولا أبشع من هذه الوسيلة إلا ما توسلوا بها إليه فإنه أقبح منها؛ لأنه عناد لله عز وجل ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ولشريعته. فكان حاصل ما هم فيه من ذلك أربع كبائر كل واحدة منها كفر بواح: الأولى: العناد لله عز وجل. والثانية: العناد لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. والثالثة: العناد للشريعة المطهرة وكيادها، ومحاولة إبطالها. والرابعة: تكفير الصحابة رضي الله عنهم، الموصوفين في كتاب الله سبحانه بأنهم {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} (¬3)، وأن الله سبحانه يغيظ بهم الكفار، وأنه قد رضي عنهم (¬4). مع أنه قد ثبت في هذه الشريعة المطهرة أن من كفر مسلما كفر. كما في الصحيحين (¬5) وغيرهما (¬6) من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله ¬

(¬1) تقدم بيان حكم سب الصحابة. انظر: " المفهم " (6/ 492). وانظر الرسالة رقم (44). (¬2) كذا في المخطوط ولعلها (الذريعة) تقدم تعريفها. (¬3) [الفتح:29] (¬4) انظر الرسالة رقم (44). (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6104) ومسلم رقم (60). (¬6) كأبي داود رقم (4687) والترمذي رقم (2637) ومالك في الموطأ (2/ 984).

عليه وآله وسلم: " إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما، فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه ". وفي الصحيحين (¬1) وغيرهما (¬2) من حديث أبي ذر أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " ومن دعا رجلا بالكفر أو قال: عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه ". وفي البخاري (¬3) وغيره من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما ". وأخرج ابن حبان في صحيحه (¬4) من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " ما أكفر رجل رجلا إلا باء أحدها بها إن كان كافرا وإلا كفر بتكفيره ". فعرفت بهذا أن كل رافضي (¬5) خبيث على وجه الأرض يصير كافرا بتكفيرهم لصحابي واحد، لأن كل واحد منهم قد كفر ذلك الصحابي، فكيف بمن كفر كل الصحابة واستثنى أفرادا يسيرة تنفيقا لما هو فيه من الضلال على الطغام الذين لا يعقلون الحجج ولا يفهمون البراهين ولا يفطنون لما يضمره أعداء الإسلام من العناد لدين الله والكياد لشريعته، فمن كان من الرافضة كما ذكرنا فقد تضاعف كفره من جهات أربع كما سلف، وهم طوائف منهم الباطنية (¬6) ..................................................... ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6045) ومسلم رقم (61). (¬2) كأحمد (5/ 166). (¬3) في صحيحه رقم (6103). (¬4) رقم (248). (¬5) تقدم تعريف الرافضة (ص 148). (¬6) نشأ مذهبهم في منتصف القرن الثالث، وضعه قوم أشرب في قلوبهم بغض الدين وكراهية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الفلاسفة والملاحدة والمجوس واليهود ليصرفوا الناس عن دين الله، وكانوا يبعثون دعاتهم إلى الآفاق لدعوة الناس إلى مذهبهم، ومن دعاتهم ميمون بن ديصان القداح التنوي، فظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر ولهم ألقاب كثيرة منها الباطنية وإنما لزمهم هذا اللقب لحكمهم بأن لكل ظاهر باطنا، ولكل تنزيل تأويلا. وبالعراق يسمون الباطنية والقرامطة المزدكية، وبخراسان: التعليمة، الملحدة. " التبصير في الدين " (ص 86)، " الملل والنحل " (1/ 228 - 230).

والقرامطة (¬1) وأمثالهم من طوائف العجم ومن قال بقولهم، فإنهم غلوا في الكفر حتى أثبتوا الإلهية لمن يزعمون أنه المهدي المنتظر، وأنه دخل السرداب، وسيخرج منه في آخر الزمان!. وبلغ من تلاعبهم بالدين أنهم يجعلون في كل مكان نائبا عن الإمام المذكور الموصوف بأنه إلههم! ويسمون أولئك النواب حجابات للإمام المنتظر ويثبتون لهم الإلهية! وهذا مصرح به في كتبهم، وقد وقفنا منها على غير كتاب، فانظر إلى هذا الأمر العظيم وإلى أي مبلغ بلغ الملاحدة من كياد الدين والتلاعب بضعاف العقول من الداخلين في الدعوة الإسلامية حتى أخرجوهم منها إلى أكفر الكفر واتخاذ إله غير الله عز وجل وتعالى وتقدس، وخدعوهم [ .... ] (¬2) بما يظهرونه من المحبة الكاذبة لأهل البيت رضي الله عنهم وهم أشد الأعداء لهم، قد جنوا على ربهم فلم يجعلوا إلها بل جعلوا الإله فردا من أفراد البشر الذين قد صاروا تحت أطباق الثرى زيادة على ألف سنة، ثم جنوا على رسول الله فأخرجوه من الرسالة وكذبوه فيما يدعيه من النبوة؛ وهو الذي لم يشرف أهل البيت إلا بشرفه، ولا عظموا إلا بكونهم أهل بيته، وقد ثبت في كتب اللغة (¬3) وشروح .................................................. ¬

(¬1) تقدم التعريف بها. (¬2) هنا كلمة غير واضحة في المخطوط. (¬3) انظر " القاموس " (ص 730).

الحديث (¬1) وكتب التاريخ (¬2)، أن الرافضة إنما ثبت لهم هذا اللقب لما طلبوا من الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي - رحمه الله - أن يتبرأ من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقال: " هما وزيرا جدي " فرفضوه، وفارقوه فسموا حينئذ الرافضة. فانظر كيف كان ثبوت هذا اللقب الخبيث لهم بسبب خذلهم لنصرة ذلك الإمام العظيم، وما أحسن ما رواه الإمام الهادي يحيى بن الحسين إمام اليمن في كتابه الأحكام (¬3) [ .... .. ] (¬4) مسلسلا بآبائه من عنده إلى عند الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: " إنه سيكون في آخر الزمان قوم لهم نبز يعرفون به يقال لهم الرافضة فاقتلهم قتلهم الله إنهم مشركون " (¬5). هذا ذكره في كتاب الطلاق من الأحكام ولم يذكر في كتابه هذا حديثا مسلسلا بآبائه غير هذا الحديث، وهو الإمام الذي صار علما يقتدى بمذهبه في غالب الديار اليمنية (¬6). ¬

(¬1) قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (1/ 103): وسموا رافضة من الرفض وهو الترك، قال الأصمعي وغيره: سموا رافضة لأنهم رفضوا زيدا بن علي فتركوه. (¬2) انظر " سير أعلام النبلاء " (5/ 389 - 390). (¬3) لعله: الأحكام الجامع لقواعد دين الإسلام. انظر: " مؤلفات الزيدية " (1/ 80). (¬4) كلمة غير واضحة في المخطوط. (¬5) أخرجه ابن أبي عاصم في " السنة " رقم (979) بإسناد ضعيف ورجاله كلهم ثقات غير محمد بن أسعد التغلبي، قال أبو زرعة والعقيلي: منكر الحديث. قاله الألباني في " ظلال الجنة في تخريج السنة " (2/ 474). وانظر الرسالة رقم (19) من الفتح الرباني. النبز: اللقب والجمع الأنباز. قيل: التنابز هو التداعي بالألقاب وهو يكثر فيما كان ذما. " تاج العروس " (8/ 154). (¬6) انظر الرسالة رقم (19) من الفتح الرباني.

فالحاصل أن من صدق عليه هذا اللقب أقل أحواله أن يكون معاديا للصحابة، لاعنا لهم، مكفرا لغالبهم، هذا على تقدير عدم تفطنه لما هو العلة الغائبة للرافضة من: العناد لله سبحانه، ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وللشريعة المطهرة. فتقرر لك بهذا أن من قدر على إنكار صنيع الرافضة ولم يفعل فقد رضي بأن تنتهك حرمة الإسلام وأهله، وسكت على ما هو كفر متضاعف كما سلف، وأقل أحواله أن يكون كفرا بتكفير الأكثر من الصحابة، ومن سكت عن إنكار الكفر مع القدرة عليه فقد أهمل ما أمر الله سبحانه في كتابه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك الإنكار على ما هو كفر بواح وأهمل ما هو أعظم أعمدة الدين وأكبر أساطينه وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (¬1)، فلا بكتاب الله سبحانه ولا بسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ اقتدى، وقد ثبت في الصحيحين (¬2) وغيرهما (¬3) من حديث عبادة بن الصامت قال: " بايعنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم ". وأخرج مسلم (¬4) والترمذي (¬5) والنسائي (¬6) وابن ماجه (¬7) من حديث أبي سعيد الخدري ¬

(¬1) تقدم توضيحه مرارا. (¬2) أخرجه البخاري رقم (7055، 7056) ومسلم في صحيحه رقم (42/ 1709). (¬3) كالنسائي (7/ 137)، وابن ماجه رقم (2866) وأحمد (2/ 314، 318، 319) ومالك في الموطأ (2/ 957). (¬4) في صحيحه رقم (49). (¬5) في " السنن " رقم (2172) وقال: حديث حسن صحيح. (¬6) في " السنن " (8/ 111، 112). (¬7) في " السنن " رقم (1275،4013). وهو حديث صحيح.

قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ". ولفظ النسائي (¬1) أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " من رأى منكم منكرا فغيره بيده فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بيده فغيره بلسانه فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بلسانه فغيره بقلبه فقد برئ وذلك أضعف الإيمان ". وأخرج أبو داود (¬2)، والترمذي (¬3) وابن ماجه (¬4) من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، أو أمير جائر ". وفي إسناده عطية بن سعد العوفي (¬5)، وقد ضعفه أحمد وغيره، ووثقه ابن معين وغيره وحسن حديثه الترمذي، وهذا الحديث مما حسنه له، وأخرج حديثه ابن خزيمة في صحيحه (¬6). وأخرج النسائي (¬7) بإسناد صحيح عن طارق بن شهاب البجلي الأحمسي: أن رجلا سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وقد وضع رجله في الغرز - أي الجهاد أفضل؟ قال: " كلمة حق عند سلطان جائر ". وأخرج ابن ماجه (¬8) بإسناد صحيح من حديث أبي أمامة عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ¬

(¬1) في " السنن " (8/ 112). (¬2) في " السنن " رقم (4344). (¬3) في " السنن " رقم (2174). وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه. (¬4) في " السنن " رقم (4011). وهو حديث حسن، والله أعلم. (¬5) انظر " الميزان " (3/ 80). (¬6) في صحيحه رقم (2368). (¬7) في " السنن " (7/ 161). (¬8) في " السنن " رقم (4012).

أنه قال: " أفضل الجهاد كلمة حق تقال عند ذي سلطان جائر ". وأخرج الحاكم (¬1) وصححه من حديث جابر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله ". وأخرج البخاري (¬2) وغيره (¬3) من حديث النعمان بن بشير عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا؟! فلو تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ". وأخرج مسلم (¬4) وغيره من حديث ابن مسعود: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون (¬5). وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ". وفي الصحيحين (¬6) من حديث زينب بنت جحش قالت: يا رسول الله، أنهلك وفينا ¬

(¬1) في " المستدرك " (3/ 195). وصححه وتعقبه الذهبي بقوله: حفيد الصغار لا يدرى من هو. وهو حديث ضعيف. (¬2) في صحيحه رقم (2493). (¬3) كالترمذي في " السنن " رقم (2173). (¬4) في صحيحه رقم (50). (¬5) في هامش المخطوط، الحواري الناصر. (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3346) ومسلم رقم (2880).

الصالحون؟ قال: " نعم إذا كثر الخبث ". وأخرج الترمذي (¬1) وحسنه من حديث حذيفة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله [أن] (¬2) يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم ". وأخرج ابن ماجه (¬3) بإسناد رجاله ثقات من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " لا يحقرن أحدكم نفسه "، قالوا: يا رسول الله، وكيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: " يرى أمرا لله عليه فيه مقال ثم لا يقول فيه! فيقول الله عز وجل [له] (¬4) يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ فيقول: خشيت الناس! قال: فأنا كنت أحق أن تخشى ". وأخرج أبو داود (¬5) واللفظ له، والترمذي (¬6) وحسنه، من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده! فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: ¬

(¬1) في " السنن " رقم (2169). وهو حديث حسن بشواهده. (¬2) زيادة من سنن الترمذي. (¬3) في " السنن " رقم (4008). وهو حديث حسن. (¬4) زيادة من سنن ابن ماجه. (¬5) في " السنن " رقم (4336). (¬6) في " السنن " رقم (3047). وأخرجه ابن ماجه رقم (4006) مرسلا عن أبي عبيدة. وهو حديث حسن بشواهده.

{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ} إلى قوله: {فَاسِقُونَ} (¬1) ". ثم قال: " كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا ". وهو من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، ولم يسمع منه. وأخرجه ابن ماجه (¬2) عن أبي عبيدة مرسلا. وأخرج أبو داود (¬3) وابن ماجه (¬4)، وابن حبان في صحيحه (¬5) من حديث: جرير بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه ولا يغيرون إلا أصابهم الله منه بعقاب قبل أن يموتوا ". وأخرج أبو داود (¬6) وابن ماجه (¬7) والترمذي (¬8) وصححه، والنسائي (¬9) وابن حبان في ¬

(¬1) [المائدة:78 - 81]. (¬2) في " السنن " رقم (4006). (¬3) في " السنن " رقم (4339). (¬4) في " السنن " رقم (4009). (¬5) رقم (302). (¬6) في " السنن " رقم (4338). (¬7) في " السنن " رقم (4005). (¬8) في " السنن " رقم (3057). (¬9) في " السنن الكبرى " (6/ 338 رقم 11157).

صحيحه (¬1) عن أبي بكر الصديق قال: يا أيها الناس، إنكم تقرأون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده ". ولفظ النسائي (¬2) إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن القوم إذا رأوا المنكر فلم يغيروا عمهم الله بعقاب ". وفي رواية لأبي داود (¬3) " ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيرون إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب ". وأخرج الحاكم (¬4) وصححه من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منهم ". وأخرج ابن حبان في صحيحه (¬5) عن أبي ذر قال: أوصاني خليلي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بخصال من الخير: " أوصاني أن لا أخاف في الله لومة لائم، وأوصاني أن لا أقول إلا الحق وإن كان مرا ". وأخرج أبو داود (¬6) من حديث عرس بن عميرة ................................... ¬

(¬1) في رقم (304). وهو حديث صحيح. (¬2) في " السنن الكبرى " رقم (6/ 338 رقم 11157). (¬3) في " السنن " رقم (4338). (¬4) في " المستدرك " (4/ 96) وصححه ووافقه الذهبي. وهو حديث حسن. (¬5) رقم (449) وأخرجه أحمد (5/ 159). وهو حديث صحيح. (¬6) في " السنن " رقم (4345). وهو حديث حسن.

الكندي (¬1) أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها وكرهها - وفي رواية - فأنكرها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها ". وفي إسناده مغيرة بن زياد الموصلي (¬2)، ضعفه أحمد، ووثقه أبو حاتم وغيره، وصحح له الترمذي. وأخرج ابن ماجه (¬3)، وابن حبان في صحيحه (¬4) من حديث عائشة: أنها سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول على المنبر: " يا أيها الناس، إن الله يقول لكم: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا أجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم ". وأخرج أحمد (¬5) والترمذي (¬6) واللفظ له، وابن حبان في صحيحه (¬7) من حديث ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا، ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر ". والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا. ¬

(¬1) هو: العرس بن عميرة الكندي، صحابي مقل، قيل: عميرة أمه، واسم أبيه قيس بن سعيد بن الأرقم. وقال أبو حاتم: هما اثنان. من رجال أبي داود والنسائي. " التقريب " رقم (4552). (¬2) انظر: " التقريب " رقم (6834). (¬3) في " السنن " (4004). (¬4) في صحيحه رقم (290). وهو حديث ضعيف. (¬5) في " المسند " (1/ 257). (¬6) في " السنن " رقم (1921) وقال: هذا حديث حسن غريب. (¬7) رقم (459). وهو حديث ضعيف.

قوله: " فلا تظالموا ". بفتح المثناة الفوقية، وأصله: تتظالموا، فحذفت إحدى التاءين كما في نظائره، وفيه زيادة تأكيد لقوله: وجعلته بينكم محرما، وإشعار بالتغليظ، والمراد لا يظلم بعضكم بعضا [ .... ] (¬1). قوله: " يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ". أقول: هذه العبارة الربانية قد أفادت العموم، وأن ذلك شأن كل عبد من عباد الله سبحانه كما تفيده إضافة العباد إلى الضمير، فإن ذلك من صيغ العموم، ثم زاد ذلك شمولا وإحاطة التأكيد بلفظ كل ثم الاستثناء فإنه لا يكون إلا من عموم شامل، فالكلام متضمن للحكم على كل عبد من العباد بالضلال إلا من هداه الله، وأن ذلك أصلهم الذي جبلوا عليه. قال النووي في شرح مسلم (¬2) قال المازري (¬3) ظاهر هذا أنهم خلقوا على الضلالة إلا من هداه الله تعالى، وفي الحديث المشهور: " كل مولود يولد على الفطرة " (¬4). قال: فقد يكون المراد بالأول وصفهم بما كانوا عليه قبل مبعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أو أنهم لو تركوا وما في طباعهم من إيثار الشهوات والراحة وإهمال الفطر لضلوا [إلا من هداه الله] (¬5)، وهذا الثاني أظهر. انتهى. أقول: المجمع (¬6) بين الحديثين ممكن، فإن أصل كونهم مولدين على الفطرة، لا بد معه من القيام بما شرعه الله لعباده في كتبه المنزلة على لسان رسله المرسلة، فالعباد قبل ¬

(¬1) عبارة غير واضحة في هامش المخطوط وهي من الأصل كما أشار إليها المؤلف. (¬2) (16/ 132). (¬3) في " المعلم بفوائد مسلم " (3/ 165). (¬4) أخرجه البخاري رقم (1385) ومسلم رقم (2658) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقد تقدم مرارا. (¬5) زيادة من " المعلم بفوائد مسلم " (3/ 165) للمازري. (¬6) لعلها " الجمع ".

التمسك بشرائع الله في ضلال حتى يتمسكوا بها، فيخرجون من الضلالة إلى الهداية ومن الظلمة إلى النور، فكلهم قبل التمسك بشرائع الله ضال إلا من هداه سبحانه بالشريعة. ومع تمسكهم بالشرائع المشروعة لهم، لا ينتفعون بذلك كلية الانتفاع إلا بمصاحبة رحمة الله سبحانه لهم، وذلك هو الفضل الذي يتفضل الله عز وجل به عليهم، كما في الصحيحين (¬1) وغيرهما (¬2) من حديث عائشة أنها كانت تقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لن يدخل أحدا الجنة عمله " قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ". وأخرجه أحمد (¬3) بإسناد حسن من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " لن يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله " قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته، وقال بيده فوق رأسه ". وأخرجه البزار (¬4) والطبراني (¬5) من حديث أبي موسى. وأخرجه أيضًا الطبراني (¬6) من حديث أسامة بن شريك. وأخرجه ..................................................................................... ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (6467) ومسلم رقم (2818). (¬2) سيأتي ذكره. (¬3) في " المسند " (3/ 52). وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 356) وقال: رواه أحمد وإسناده حسن. (¬4) عزاه إليه الهيثمي في " المجمع " (10/ 357). (¬5) في " الأوسط " رقم (6553). وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 357) وقال: رواه البزار والطبراني في الأوسط والكبير إلا أنه قال في الكبير: ما منكم من أحد يدخله عمله الجنة، فقال بعض القوم: ولا أنت، فذكره. وفي أسانيدهم أشعث بن سوار وقد وثق على ضعفه، وبقية رجالهم ثقات. (¬6) أورده الهيثمي في " المجمع " (6/ 357) وقال: رواه الطبراني وفيه المفضل بن صالح الأسدي، وهو ضعيف.

أيضا (¬1) من حديث شريك بن طارق بإسناد جيد. وكذلك لا بد من جري ألطاف الله على عباده بتخفيف الحساب، كما ثبت في الصحيحين (¬2) وغيرهما (¬3) من حديث عائشة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " من نوقش الحساب عذب " فقلت: أليس يقول الله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِي كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} (¬4)؟ فقال: " إنما ذلك العرض، وليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك ". وكذلك التثبيت للعباد من الله عز وجل عند الموت، وعند سؤال الملكين، وعند الحساب، وعند المرور على السراط. فعرفت أنه إذا لم يهد الله عبده إلى التمسك بشرائعه ويلاحظه بألطافه وتفضلاته، لم ينفعه كونه مولودا على الفطرة، لأن معنى كونه مولودا على الفطرة: أنه قابل بفطرته لما يريه الله من الحق ويهديه إليه، وليس مجرد هذا القبول مستلزما لكونه مهديا غير ضال، ولهذا أثر فيه ما عليه أبواه كما في هذا الحديث: " ولكن أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه " (¬5). قال النووي (¬6): وفي هذا دليل لمذهب أصحابنا وسائر أهل السنة أن المهتدي هو من هدى الله، ويهدي الله الذين اهتدوا بإرادة الله سبحانه ذلك، وأنه سبحانه وتعالى ما أراد هداية الآخرين، ولو أرادها لاهتدوا خلافا ...................................... ¬

(¬1) في " الكبير " رقم (7218) وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 357) وقال: رواه الطبراني بأسانيد ورجال أحدها رجال الصحيح. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (103) ومسلم رقم (1001). (¬3) كأبي داود رقم (3093)، وأحمد (6/ 47، 48، 91). (¬4) [الانشقاق: 7 - 9]. (¬5) تقدم تخريجه (¬6) في شرحه لصحيح مسلم (16/ 132).

للمعتزلة (¬1) في قولهم الفاسد: إنه سبحانه وتعالى أراد هداية الجميع، جل الله أن يريد ما لا يقع، أو يقع ما لا يريد. انتهى. أقول: هذه المسألة قد طال فيها النزاع بين الأشعرية (¬2) والمعتزلة وتمسك كل منهم بظواهر قرآنية، وكلامهم يعود إلى مسألة خلق الأفعال (¬3)، وفيها من الكلام واختلاف الأقوال ما هو معروف، والمذهب الحق الذي لا يتمذهب به إلا أهل التوفيق: هو ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين من الإيمان بما جاء به الكتاب العزيز والسنة المطهرة وإمرار الصفات على ظاهرها من دون تعرض لتأويل ولا اشتغال بتطويل. وقد أوضحت ذلك في الجواب الذي أجبت به على السؤال الوارد من علماء مكة المشرفة وسميته: " التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف " (¬4)، فمن وقف عليه وفهمه حق فهمه وضع عن ظهره عباء (¬5) ثقيلا وأماط عن قلبه كربا طويلا، والمهدي من هداه الله، بيده الخير كله دقه وجله. وفي قوله: " فاستهدوني أهدكم " دليل على أنه ينبغي لكل عبد من عباد الله سبحانه أن يسأله الهداية له إلى ما يرضيه منه، فمن هداه الله فاز لأنها إن كانت الهداية: 1 - بمعنى إرادة الطريق، كما في قوله سبحانه: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} فكل عاقل لا يختار لنفسه بعد أن يرى طريق الحق وسبيل الرشد إلا سلوكه والمرور فيه، فإن اختار طريق الضلالة فهو معاند واقع في الشر على علم به واختيار له، وليس بعد هذا في عمى البصير وفساد العقل شيء، وعلى نفسها تجني براقش (¬6). ¬

(¬1) تقدم التعريف بها. (¬2) تقدم التعريف بها. (¬3) انظر الرسالة رقم (1). (¬4) انظر الرسالة رقم (19) من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني. (¬5) كذا في المخطوط وصوابه (عبئا). " القاموس " (ص 59). (¬6) تقدم شرح المثل.

2 - وإن كانت بمعنى الإيصال إلى المطلوب، فتلك السعادة التي لا يساويها سعادة، والكرامة التي تقصر عندها كل كرامة، وهي التي سألها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بقوله: " اللهم اهدني فيمن هديت " (¬1). ¬

(¬1) أخرجه أبو داود رقم (1425) والنسائي (3/ 133) وابن ماجه رقم (1178) وأحمد (1/ 99 - 200) والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 209). وهو حديث صحيح.

[وجوب التوكل على الله سبحانه وتعالى مع الأخذ بالأسباب] قوله: " يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم ". أقول: هذا الكلام الإلهي قد أفاد شمول كل عبد من عباد الله كما بيناه قريبا، فلا يوجد عبد من عباده سبحانه إلا والمطعم له هو الله عز وجل، ولو فرض - فرضا لا حقيقة - أن عبدا من عباده لم يطعمه فهو جائع، ولكنه عز وجل قد أطعم الكل من غير فرق بين مسلم وكافر، وذكر وأنثى، وصغير وكبير، وحر وعبد، وكل ما توصل به العباد من الأسباب التي يتحصل بها الرزق في الصورة فهي من الله عز وجل؛ لأنه خالق العبد وموجده، فلولا أنه خلقه وأوجده لم يكن لشيء من تلك الأسباب وجود. ثم بعد إيجاده للعبد جعل له ما يباشر به تلك الأسباب، من صحة الجوارح والحواس، وسلامتها من الآفة التي تبطل عملها، فلو كان غير قادر على تحريك جوارحه كالمصاب بإقعاد أو شلل لم يتمكن من تلك الأسباب، وهكذا لو كان مسلوب الحواس الظاهرة أو الباطنة، أو مسلوب العقل لم يتمكن من شيء من تلك الأسباب، وهذا لو كان سليم الروح والحواس والعقل ولكنه معتلا بمرض لا يتمكن معه من تلك الأسباب لم يحصل له شيء منها فهو سبحانه المعطي والرازق والمطعم، فمن لم يطعمه الله فهو جائع، ومن لم يستطعم الله فهو غير طاعم. وفي قوله: " فاستطعموني أطعمكم " إرشاد للعباد أن يسألوا ربهم عز وجل ويطلبوا الرزق منه. وقد أخرج أبو داود (¬1)، والترمذي (¬2) وصححه من حديث ابن مسعود قال: قال ¬

(¬1) في " السنن " رقم (1645). (¬2) في " السنن " رقم (2326). وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وهو حديث حسن.

رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق أو آجل ". وأخرج نحوه الحاكم (¬1) من حديث وصححه. وأخرج الطبراني في الصغير (¬2) والأوسط (¬3) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " من جاع أو احتاج فكتمه الناس، وأفضى به إلى الله، كان حقا على الله أن يفتح له قوت سنة من حلال ". واعلم أن رازق العباد هو الله عز وجل، وما وصل إليهم على يد بعضهم من بعض فهو من رزق الله عز وجل؛ لأنه المعطي لمن أجرى ذلك على يده والملهم له، فمن رزق ربه أعطى وبإلهامه له فعل ما فعل، لكنه ينبغي للعباد أن يشكروا بعضهم البعض على ما وصل إليهم على يد بعضهم. فقد أخرج أبو داود (¬4)، والنسائي (¬5) واللفظ له، وابن حبان في صحيحه (¬6)، والحاكم (¬7) وصححه، من حديث عبد الله .............. ¬

(¬1) في " المستدرك " (1/ 408). وصححه ووافقه الذهبي. (¬2) (1/ 141 رقم 214 - الروض الداني). (¬3) رقم (2379). وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 256) وقال: رواه الطبراني في " الصغير " و" الأوسط " وفيه إسماعيل بن رجاء الحصني ضعفه الدارقطني. انظر: " الضعفاء والمتروكين " (ص81) رقم 85. (¬4) في " السنن " رقم (1672). (¬5) في " السنن " (5/ 82). (¬6) رقم (3408). (¬7) في " المستدرك " (1/ 412). وهو حديث صحيح.

بن عمر (¬1)، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن استجار بالله فأجيروه، ومن أتى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه ". وأخرجه الطبراني في الأوسط (¬2) مختصرا من حديثه بلفظ: " من اصطنع إليكم معروفا فجازوه، فإن عجزتم عن مجازاته فادعوا له حتى يعلم أنكم قد شكرتم، فإن الله شاكر يحب الشاكرين ". وأخرج أبو داود (¬3) والترمذي (¬4) وحسنه، وابن حبان في صحيحه (¬5) من حديث جابر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " من أعطي عطاء فوجد فليجز به، فإن لم يجد فليثن، فإن من أثنى فقد شكر، ومن كتم فقد كفر، ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور ". وأخرج الترمذي (¬6) وحسنه من حديث أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " من صنع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيرا، فقد أبلغ في الثناء ". وهذا الحديث قد أسقط من بعض نسخ الترمذي!. ¬

(¬1) في المخطوط (عمرو) والصواب ما أثبتناه من مصادر الحديث. (¬2) رقم (29). وأورده الهيثمي في " المجمع " (8/ 181) وقال: رواه الطبراني في " الأوسط " وفيه عبد الوهاب بن الضحاك وهو متروك. وهو حديث ضعيف جدا. (¬3) في " السنن " رقم (4813). (¬4) في " السنن " رقم (2034). وقال: هذا حديث حسن غريب. (¬5) في صحيحه رقم (3415). وهو حديث حسن. (¬6) في " السنن " رقم (2035) وقال: هذا حديث حسن جيد غريب لا نعرفه من حديث أسامة إلا من هذا الوجه. وهو حديث صحيح، والله أعلم.

وأخرجه أيضًا من حديثه الطبراني في الصغير (¬1) مختصرا بلفظ: " إذا قال الرجل: جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء ". وأخرج أحمد (¬2). بإسناد رجاله ثقات من حديث الأشعث بن قيس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " إن أشكر الناس لله تبارك وتعالى أشكرهم للناس ". وفي رواية لأحمد (¬3) أيضا: " لا يشكر الله من لا يشكر الناس ". وأخرج أحمد (¬4) أيضًا بإسناد رجاله ثقات - إلا صالح بن أبي الأخضر، وهو مع ¬

(¬1) (2/ 291 رقم 1184 الروض الداني) من حديث أبي هريرة. وأورده الهيثمي في " المجمع " (8/ 182) وقال: رواه الطبراني في الصغير وفيه موسى بن عبيدة الزيدي، وهو ضعيف. وأخرج الطبراني في " الصغير " (2/ 291 رقم 1183) عن أسامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من صنع إليه معروف، فقال لفاعله: جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء ". وفي إسناده عبد المنعم بن نعيم وهو متروك. ومن طريقه البيهقي في " الشعب " (6/ 516 رقم 9118). وهو حديث ضعيف جدا. قاله الألباني في " ضعيف الترغيب " (1/ 288 رقم 571/ 3). (¬2) في " المسند " (5/ 212). وأورده الهيثمي في " المجمع " (8/ 180) وقال: رواه أحمد والطبراني. ورجال أحمد ثقات. قلت: وفي سنده عبد الرحمن بن عدي الكندي تفرد بالرواية عنه عبد الله بن شريك العامري، وقال الحافظ في " التقريب " رقم (3949): مجهول. والخلاصة أن الحديث صحيح لغيره. (¬3) في " المسند " (5/ 211) في سنده انقطاع. وهو حديث صحيح لغيره. (¬4) في " المسند " (6/ 90). وأورده الهيثمي في " المجمع " (8/ 181) وقال: رواه أحمد والطبراني في " الأوسط " رقم (2484) وفيه صالح بن أبي الأخضر، وقد وثق على ضعفه، وبقية رجال أحمد ثقات. وهو حديث حسن لغيره.

ضعفه ممن يعتبر به - من حديث عائشة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " من أتي إليه معروف فليكافئ به، ومن لم يستطع فليذكره فإن من ذكره فقد شكره، ومن تشبع بما لم يعط فهو كلابس ثوبي زور ". وأخرج أبو داود (¬1)، والترمذي (¬2) وصححه من حديث أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " لا يشكر الله من لا يشكر الناس ". وقد روي هذا الحديث برفع (الله) ورفع (الناس)، وبنصبهما، وبرفع الأول وبنصب الثاني، وبالعكس (¬3). وأخرج الطبراني (¬4) من حديث طلحة بن عبيد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " من أولي معروفا فليذكره، فمن ذكره فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره ". وأخرجه ابن أبي الدنيا (¬5) من حديث عائشة. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (¬6) بإسناد لا بأس به، وابن أبي ..................... ¬

(¬1) في " السنن " رقم (4811). (¬2) في " السنن " رقم (1954) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وهو حديث صحيح. (¬3) قاله الحافظ المنذري في " الترغيب والترهيب " (1/ 733). (¬4) في " الكبير " رقم (211). وأورده الهيثمي في " المجمع " (8/ 181) وقال: رواه الطبراني وفيه من لم أعرفه. وهو حديث حسن لغيره. (¬5) في " قضاء الحوائج " رقم (79). وهو حديث حسن لغيره. (¬6) (4/ 375). وأورده الهيثمي في " المجمع " (8/ 182) وقال: رواه عبد الله، وأبو عبد الرحمن راويه عن الشعبي لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات قلت: أبو عبد الرحمن هو القاسم بن الوليد وهو ثقة.

الدنيا (¬1) من حديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكر، ومن تركها كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب ". وأخرج أبو داود (¬2) والنسائي (¬3) واللفظ له من حديث أنس قال: قالت المهاجرون: يا رسول الله، ذهب الأنصار بالأجر كله، ما رأينا قوما أحسن بذلا لكثير، ولا أحسن مواساة في قليل منهم، ولقد كفونا المؤنة! قال: " أليس تثنون عليهم به، وتدعون لهم؟ " قالوا: بلى. قال: " فذاك بذاك ". وقد ورد ما يدل على قبول العطية من بعض العباد لبعض. فأخرج أحمد (¬4) بإسناد رجاله ثقات، والبيهقي (¬5)، من حديث المطلب بن عبد الله بن ¬

(¬1) في " قضاء الحوائج " رقم (78). قال الألباني في " صحيح الترغيب " (1/ 573): هذا يشعر بأن الإمام أحمد نفسه لم يروه، وليس كذلك، فقد أخرجه في موضعين من مسنده (4/ 278، 375) وفي الموضعين رواه ابنه أيضا. ثم قال: ومن عجائب الهيثمي أنه عزا الحديث لعبد الله بن أحمد دون أبيه، وبزيادة منكرة وقد تكلمت عليها في " الضعيفة " رقم (4854). (¬2) في " السنن " رقم (4812). (¬3) في " عمل اليوم والليلة " رقم (181). وأخرجه أحمد (3/ 200 - 204) والترمذي في " السنن " رقم (2487). وقال: حديث صحيح حسن غريب. وهو حديث صحيح. (¬4) في " المسند " (6/ 77، 259). (¬5) في " السنن الكبرى " (6/ 184). وأورده الهيثمي في " المجمع " (3/ 100) وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات إلا أن المطلب بن عبد الله مدلس، واختلف في سماعه من عائشة. * المطلب بن عبد الله بن المطلب بن حنطب بن الحارث المخزومي، صدوق، كثير التدليس والإرسال، روى له الأربعة، والبخاري في جزء القراءة خلف الإمام. " التقريب " رقم (6710).

حنطب: أن عبد الله بن عامر بعث إلى عائشة بنفقة وكسوة، فقالت للرسول: أي بني لا أقبل من أحد شيئا! فلما خرج الرسول قالت: ردوه علي، قالت: إني ذكرت شيئا، قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " يا عائشة، من أعطاك عطاء بغير مسألة فاقبليه، فإنما هو رزق عرضه الله إليك ". وأخرج أبو يعلى (¬1) بإسناد لا بأس به من حديث عمر بن الخطاب قال: قلت: يا رسول الله، قد قلت لي أن خيرا لك أن لا تسأل أحدا من الناس شيئا! قال: " إنما ذاك أن تسأل، وما آتاك الله من غير مسألة، فإنما هو رزق رزقكه الله عز وجل ". وأخرج أحمد (¬2) بإسناد صحيح، وأبو يعلى (¬3)، والطبراني (¬4)، وابن حبان (¬5) في صحيحه والحاكم (¬6) وصححه من حديث خالد بن عدي الجهني قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " من بلغه عن أخيه معروف من غير مسألة ولا إشراف نفس فليقبله ولا يرده، فإنما هو رزق ساقه الله إليه ". وأخرج أحمد (¬7) بإسناد رجاله رجال الصحيح من حديث أبي هريرة قال: [قال ¬

(¬1) في المسند رقم (28/ 167) بسند صحيح. وأورده الهيثمي في " المجمع " (3/ 100) وقال: هو في الصحيح باختصار، ورواه أبو يعلى، ورجاله موثقون. وهو حديث صحيح لغيره. (¬2) في " المسند " (4/ 221). (¬3) في " مسنده رقم (925). (¬4) في " الكبير " رقم (4124). (¬5) رقم (3404، 5108). (¬6) في " المستدرك " (2/ 162) وهو حديث صحيح. (¬7) في " المسند " (2/ 292). وهو حديث صحيح.

رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ] (¬1): " من آتاه الله شيئا من هذا المال من غير أن يسأله فليقبله فإنما هو رزق ساقه الله إليه ". وأخرج الطبراني في الكبير (¬2) من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " ما المعطي من سعة بأفضل من الآخذ إذا كان محتاجا ". وأخرجه (¬3) أيضًا من حديث أنس. وهذا باعتبار العطايا من بعض العباد لبعض. وأما العطايا من أموال الله من سلطان أو غيره، ففي الصحيحين (¬4) وغيرهما (¬5) من حديث ابن عمر أن عمر قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يعطيني العطاء فأقول: أعطه من هو أفقر مني إليه فقال: " خذه إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه فتموله، فإن شئت فكله، وإن شئت تصدق به، وما لا فلا تتبعه نفسك ". وأخرج أحمد (¬6) بإسناد جيد، والطبراني (¬7) والبيهقي (¬8)، عن عائذ ابن ............................ ¬

(¬1) زيادة من مسند أحمد. (¬2) في " الكبير " رقم (13560) وأورده الهيثمي في " المجمع " (3/ 101) وقال: رواه الطبراني في " الكبير " وفيه مصعب بن سعيد وهو ضعيف. وهو حديث ضعيف. (¬3) الطبراني في " الأوسط " رقم (8235). وأورده الهيثمي في " المجمع " (3/ 101) وقال: رواه الطبراني في " الأوسط " وفيه عائذ بن سريج وهو ضعيف. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7164) ومسلم في صحيحه رقم (1045). (¬5) كالنسائي (5/ 105)، وأبو داود رقم (1671). (¬6) في " المسند " (5/ 65). (¬7) في " المعجم الكبير " (18/ 19 رقم 30). (¬8) في " الشعب " رقم (3554). وأورده الهيثمي في " المجمع " (3/ 101) وقال: رواه أحمد والطبراني في " الكبير "، ورجال أحمد رجال الصحيح. وهو حديث صحيح.

عمر (¬1)! عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " من عرض له من هذا الرزق شيء من غير مسألة ولا إشراف فليتوسع به في رزقه، فإن كان غنيا فليوجهه إلى من هو أحوج إليه منه ". قوله: " يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم ". هذه العبارة الرحمانية، والكلام الصمداني، تشمل كل فرد من أفراد العباد، لما قدمنا من أن إضافة العباد إلى ضمير الرب سبحانه يفيد العموم، ويزداد ذلك تأكيدا بقوله: " كلكم " ثم بالاستثناء المشعر بعموم المستثنى منه، فالمعنى كل فرد من أفرادكم عار عن اللباس إلا من كسوته. ثم طلب عز وجل منهم أن يطلبوا منه أن يكسوهم فقال: " استكسوني "، ثم أخبرهم بأنه يجيب هذا الطلب الواقع منهم فقال: " أكسكم ". ومن أمعن النظر في هذه الفواصل المذكورة في هذا الحديث علم ما عند الرب سبحانه من الرحمة لعباده ومزيد اللطف بهم، فإنه بين لهم ما بهم من مزيد الحاجة إلى عطائه الجم وتفضله العم في أعظم ما تدعوهم الحاجة إليه وهو الطعام الذي لا يعيشون بدونه، وأمرهم أن يطلبوه منه، وتكفل لهم بالإجابة وإعطائهم ما يطلبونه، ثم ذكر لهم ما لا بد لهم منه من ستر أبدانهم بالكسوة التي لولا وجودها لهم لانكشفت عوراتهم وأضر بهم البرد، وأنه الكاسي لهم والمتفضل بذلك عليهم، ثم أمرهم تفضلا منه لهم ولطفا بهم أن يطلبوا ذلك منه، ووعدهم بالإجابة لدعوتهم والتفضل منه لهم لحاجتهم، وهذا بعد أن نهاهم عن التظالم في ذات بينهم، بعد أن أخبرهم أنه حرم الظلم على نفسه؛ ليقتدوا به عز وجل في تجنب هذه الخصلة القبيحة التي تفسد معايشهم؛ وتبطل بها أحوالهم ¬

(¬1) كذا في المخطوط، والصواب (عمرو) كما في مصادر الحديث.

وأموالهم التي لا قوم لهم إلا بها، وبعد أن أخبرهم أنهم كلهم على الضلال إلا من هداه منهم، ثم أمرهم بأن يسألوه الهداية لأنها عماد الدين ومعيار الفلاح فسبحان الله وبحمده ما أبلغ هذا الكلام وأعلى طبقته وأرفع منزلته، انظر كيف قدم لهم أن يتجنبوا ما يفسد به أمور معاشهم وحال حياتهم، ثم أرشدهم في أمور دينهم إلى أن يطلبوا منه الهداية، ثم ذكر لهم ما هو أهم أمور الحياة وأعظم مهمات المعاش، ثم أرشدهم إلى أن يطلبوا ذلك منه ليتفضل به عليهم ويوصله إليهم، فهل بعد هذه الرحمة البالغة والتفضل العظيم؟ وأن يلبسوا من الثياب ما أحله لهم ورغبهم في لبسه. كما أخرجه الترمذي (¬1) وصححه، والنسائي (¬2)، وابن ماجه (¬3)، والحاكم (¬4) وصححه من حديث سمرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " البسوا البياض فإنها أطيب وأطهر، وكفنوا فيها موتاكم ". وأخرج أبو داود (¬5)، والترمذي (¬6) وصححه، وابن حبان في صحيحه (¬7) من حديث ابن عباس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم ". وأن يتجنبوا منها ما حرمه الله عليهم، ففي الصحيحين (¬8) ................................ ¬

(¬1) في " السنن " رقم (2810). (¬2) في " السنن " (4/ 34). (¬3) في " السنن " رقم (3567). (¬4) في " المستدرك " (4/ 185) وصححه ووافقه الذهبي. وهو حديث صحيح. (¬5) في " السنن " رقم (3878). (¬6) في " السنن " رقم (994). (¬7) في صحيحه رقم (5399). وهو حديث صحيح. (¬8) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5833) ومسلم رقم (11/ 2069).

وغيرهما (¬1) من حديث عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " لا تلبسوا الحرير، فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ". وفي الصحيحين (¬2) أيضًا من حديثه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " إنما يلبس الحرير من لا خلاق له ". وفي الصحيحين (¬3) أيضًا من حديث أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ". وفي الصحيحين (¬4) أيضًا من حديث عقبة بن عامر قال: أهدي لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فروج حرير فلبسه ثم صلى فيه ثم انصرف فنزعه نزعا شديدا كالكاره له ثم قال: " لا ينبغي هذا للمتقين ". وأخرج البخاري (¬5) من حديث عقبة بن عامر (¬6) أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " نهى عن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه ". والأحاديث في المنع من لبس الحرير كثيرة (¬7). وفي الصحيحين (¬8)، وغيرهما (¬9) من حديث ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " من جر ثوبه خيلاء لم ينظر إليه يوم القيامة "، فقال أبو بكر الصديق: يا ¬

(¬1) كالترمذي رقم (2817) والنسائي (8/ 200). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6081) ومسلم رقم (3591) وقد تقدم. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5832) ومسلم رقم (2073) وقد تقدم. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5801) ومسلم رقم (2075). (¬5) في صحيحه رقم (5837). (¬6) كذا في المخطوط. والصواب عن حذيفة رضي الله عنه. (¬7) انظر الرسالة رقم (136، 138). (¬8) أخرجه البخاري رقم (5784) ومسلم رقم (2085). (¬9) كأبي داود رقم (4085) والنسائي (8/ 208).

رسول الله إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده! فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " إنك لست ممن يفعل خيلاء ". وفي الصحيحين (¬1) وغيرهما (¬2) من حديثه أيضًا قال: " لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثوبه خيلاء ". وفي الصحيحين (¬3) وغيرهما (¬4) من حديث أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا ". وأخرج أبو داود (¬5)، والنسائي (¬6)، وابن ماجه (¬7)، عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " الإسبال في الإزار، والقميص، والعمامة، من جر شيئا خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ". وأخرج البخاري (¬8) وغيره (¬9) من حديث أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار ". وأخرج أبو داود (¬10) والنسائي (¬11)، ..................................... ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5783) ومسلم رقم (2085). (¬2) كابن ماجه رقم (3569) ومالك في " الموطأ " (2/ 914) والترمذي رقم (1730). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5788) ومسلم رقم (2087). (¬4) كمالك (2/ 914) وابن ماجه رقم (3571). (¬5) في " السنن " رقم (4094). (¬6) في " السنن " (8/ 208). (¬7) في " السنن " رقم (3576). وهو حديث صحيح. (¬8) في صحيحه رقم (5887). (¬9) كالنسائي (8/ 207). (¬10) في " السنن " رقم (4098). (¬11) في " عشرة النساء " رقم (371).

وابن ماجه (¬1)، وابن حبان في صحيحه (¬2)، والحاكم (¬3) وصححه من حديث أبي هريرة قال: " لعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل ". وأخرج البخاري (¬4)، وأهل السنن الأربع (¬5) من حديث ابن عباس قال: " لعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال ". وفي الباب أحاديث. قوله: " يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم ". قال النووي (¬6) الرواية المشهورة: " تخطئون " بضم التاء، وروي بفتحها وفتح الطاء، خطأ يخطأ إذا فعل ما يأثم به فهو خاطئ، ومنه قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} (¬7)، ويقال في الإثم أيضا: أخطأ. فهما صحيحان. انتهى. ويؤيد هذا ما حكاه ابن القطاع في كتاب الأفعال (¬8) عن أبي عبيد القاسم بن سلام قال: يقال خطئ وأخطأ بمعنى واحد. ¬

(¬1) في " السنن " (1903). (¬2) في صحيحه رقم (5722). (¬3) في " المستدرك " (4/ 194). وهو حديث صحيح. (¬4) في صحيحه رقم (5885). (¬5) أبو داود رقم (4097)، والترمذي رقم (2784) والنسائي في عشرة النساء رقم (369) وابن ماجه رقم (1904). (¬6) في شرحه لصحيح مسلم (16/ 133 - 134). (¬7) [يوسف:97]. (¬8) (1/ 317).

وقال غيره: خطئ في الدين، وأخطأ في كل شيء عامدا [أو غير عامد] (¬1). وقيل: خطئ خطأ: تعمد الذنب، وأخطأ أصاب الذنب على غير عمد [هذا الأعم] (¬2)، وفي لغة أخرى: بمعنى واحد [في غيره العمد] (¬3). وقد قدمنا أن هذه العبارة الربانية تفيد العموم من جهات. لما أرشد سبحانه عباده إلى ما فيه نظام معاشهم مما يحتاجون إليه من الطعام والثياب وأخبرهم أنه الكاسي لهم، وأمرهم بأن يطلبوا منه أن يطعمهم ويكسوهم، ووعدهم بالإجابة. أرشدهم عز وجل إلى ما فيه نظام دينهم وآخرتهم، فأخبرهم بأنهم يخطئون بالليل والنهار لما في طباعهم من الميل إلى الشهوات، وبشرهم بأنه يغفر لهم الذنوب جميعا، ويا لها من بشارة لا يعادل قدرها ولا يسر بمثلها، فإنه إذا غفر لهم جميع الذنوب نجوا من النار ودخلوا الجنة، وهذا هو الإفضال، هذا العطاء الفياض، هذا الجود، هذا الكرم. وقد بشر سبحانه وتعالى في كتابه العزيز بمثل هذه البشارة الواردة إلينا على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فقال: {يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (¬4). وقال سبحانه: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} (¬5). وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} (¬6). ¬

(¬1) زيادة من المصدر السابق (كتاب الأفعال). (¬2) زيادة من المصدر السابق (كتاب الأفعال). (¬3) زيادة من المصدر السابق (كتاب الأفعال). (¬4) [الزمر:53]. (¬5) [النساء:110]. (¬6) [آل عمران:135].

وقال عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (¬1). وقد ثبت في السنة المطهرة من الإرشاد إلى الاستغفار وأنه يمحو الذنوب الكثير الطيب فمن ذلك ما أخرجه مسلم (¬2) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله تعالى فيغفر لهم " (¬3). فانظر ما يفيد هذا الحديث من التخصيص على الاستغفار المتسبب عن الذنوب، وذلك لأن بني آدم من شأنهم أن تكثر منهم الذنوب، لما جبلوا عليه من الميل إلى الشهوات، وأن من حاول منهم أن لا يقع منه ذنب البتة فقد حاول ما لا يكون، لأن العصمة لا تكون إلا للأنبياء، فلو راموا أنهم لا يذنبون أصلا راموا ما ليس لهم!. وأخرج أحمد (¬4) وأبو يعلى (¬5) بإسناد رجاله ثقات من حديث أنس قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " والذي نفسي بيده لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض ثم استغفرتم الله لغفر لكم، والذي نفس محمد بيده لو لم تخطئوا لجاء الله بقوم يخطئون ثم يستغفرون فيغفر لهم ". وأخرج أحمد (¬6) والطبراني (¬7) عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله ¬

(¬1) [الأنفال: 33]. (¬2) في صحيحه رقم (2749). (¬3) انظر الرسالة رقم (194، 195) من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني. (¬4) في " المسند " (3/ 238). (¬5) في مسنده رقم (4226). وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 215) وقال: رواه أحمد وأبو يعلى ورجاله ثقات. وهو حديث صحيح لغيره. (¬6) في " المسند " (1/ 289). (¬7) في " الكبير " رقم (12795) وفي " الأوسط " (5072). وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 215) وقال: رواه أحمد والطبراني باختصار قوله: " كفارة الذنب في " الكبير " و" الأوسط "، والبزار، وفيه يحيى بن عمرو بن مالك النكري، وهو ضعيف، وقد وثق، وبقية رجاله ثقات ". انظر: " الميزان " (3/ 286) و" الثقات " (8/ 487). وهو حديث صحيح لغيره، والله أعلم.

وسلم: " كفارة الذنب الندامة، لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيغفر لهم ". وأخرج الطبراني في الكبير (¬1) والوسط (¬2) من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " لو لم تذنبوا لخلق الله خلقا يذنبون ثم يغفر لهم ". وأخرجه أيضًا البزار (¬3)، ورجالهم ثقات. وأخرجه أيضًا البزار (¬4) من حديث أبي سعيد نحو حديث أبي هريرة المتقدم، وفي إسناده: يحيى بن كثير وهو ضعيف (¬5)!. وأخرج الطبراني في الأوسط (¬6) بإسناد رجاله ثقات من حديث الزبير أن رسول الله ¬

(¬1) عزاه إليه الهيثمي في " المجمع " (10/ 215). (¬2) رقم (2376) و (5073) وقال الهيثمي في " المجمع " (10/ 215): " ... رواه الطبراني في " الكبير " و" الأوسط "، وقال في " الأوسط ": لخلق الله خلقا يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم وهو الغفور الرحيم " رواه البزار بنحو " الأوسط " محالا على موقوف عبد الله بن عمرو، ورجالهم ثقات وفي بعضهم خلاف. (¬3) في " المسند " (4/ 82 رقم 3247 - كشف). (¬4) في مسنده (4/ 82 رقم 3251 - كشف). وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 215) وقال: رواه البزار وفيه يحيى بن كثير البصري. وهو ضعيف. (¬5) انظر " التقريب " (رقم الترجمة 595). (¬6) رقم (839) وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 208) وقال: رواه الطبراني في " الأوسط " ورجاله ثقات.

صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " من أحب أن تسره صحيفته فليكثر فيها من الاستغفار ". وأخرجه أيضًا البيهقي (¬1) بإسناد لا بأس به. وأخرج البزار (¬2) من حديث أنس بإسناد رجاله رجال الصحيح - إلا تمام بن نجيح وقد وثقه ابن معين، وضعفه البخاري، وغيره - قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " ما من حافظين يرفعان إلى الله في يوم فيرى تبارك وتعالى في أول الصحيفة [وفي آخرها] (¬3) استغفارا إلا قال تبارك وتعالى: قد غفرت لعبدي [ما بين طرفي الصحيفة] (¬4) ". وأخرج الترمذي (¬5) وحسنه، والنسائي (¬6)، من حديث ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " من استغفر الله غفر له ". وأخرج الترمذي (¬7)، والنسائي (¬8)، وابن ماجه (¬9)، وابن حبان في صحيحه (¬10)، ¬

(¬1) في " الشعب " رقم (648). (¬2) في " مسنده " (4/ 83 رقم 3252 - كشف). قال البزار: لا نعلم رواه عن الحسن عن أنس إلا تمام، وهو صالح، ولم يرو هذا الحديث غيره، ولم يتابع عليه، تفرد به أنس. وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 208) وقال: رواه البزار. وفيه تمام بن نجيح وثقه ابن معين وغيره، وضعفه البخاري وغيره، وبقية رجاله رجال الصحيح. انظر: " الميزان " (1/ 359) و" الضعفاء والمتروكين " للنسائي رقم (94). (¬3) زيادة من مصدر الحديث. (¬4) زيادة من مصدر الحديث. (¬5) في " السنن " رقم (3470) وقال: هذا حديث حسن غريب. (¬6) لم أجده في " المجتبى، ولا الكبرى، ولا عمل اليوم والليلة " وهو حديث ضعيف جدا. (¬7) في " السنن " رقم (3334). (¬8) في " عمل اليوم والليلة " رقم (418). (¬9) في " السنن " رقم (4244). (¬10) في صحيحه رقم (926).

والحاكم (¬1) وصححه من حديث أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة، فإن هو نزع واستغفر صقلت، فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكره الله سبحانه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬2) ". وأخرج الحاكم (¬3) وصححه من حديث أم عصمة العوصية (¬4) قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " ما من مسلم يعمل ذنبا إلا وقف الملك ثلاث ساعات فإن استغفر من ذنبه لم يوقفه عليه ولم يعذبه به يوم القيامة ". وأخرجه من حديثها أيضًا الطبراني في الكبير (¬5)، وفي إسناده أبو مهدي: سعيد بن سنان، وهو متروك!. وأخرج الطبراني (¬6) من حديث أبي أمامة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " إن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ أو ¬

(¬1) في " المستدرك " (2/ 517) وصححه ووافقه الذهبي. (¬2) [المطففين:14]. وهو حديث حسن. (¬3) في " المستدرك " (4/ 262) وصححه ووافقه الذهبي. قلت: فيه سعيد بن سنان أبو مهدي الحمصي: متروك. وهو حديث ضعيف جدا. (¬4) العوصية: بمهملتين، نسبة إلى بني عوص، بفتح أوله وسكون ثانيه، ابن عوف بن عذرة، وهي صحابية. " الإصابة " رقم (12169)، " أسد الغابة " رقم (7539). (¬5) في " الأوسط " رقم (17). وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 208) وقال: رواه الطبراني وفيه أبو مهدي سعيد بن سنان وهو متروك. (¬6) في " الكبير " رقم (7765).

المسيء فإن ندم واستغفر منها ألقاها، وإلا كتبت واحدة ". قال في مجمع الزوائد (¬1) رواه الطبراني (¬2) بأسانيد، ورجال أحدها وثقوا. وأخرج الطبراني (¬3) أيضًا من حديثه من وجه آخر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " صاحب اليمين أمين على صاحب الشمال، فإذا عمل حسنة أثبتها وإذا عمل سيئة قال له صاحب اليمين: امكث ست ساعات، فإن استغفر لم تكتب وإلا ثبتت عليه ". قال في مجمع الزوائد (¬4) رجاله وثقوا. وأخرجه (¬5) أيضًا من وجه ثالث من حديثه بنحوه وفي إسناده: جعفر بن الزبير (¬6) وهو كذاب. وأخرج أحمد (¬7)، وأبو يعلى (¬8)، والطبراني (¬9) من حديث أبي سعيد قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن إبليس قال لربه عز وجل: وعزتك وجلالك لا أبرح أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم، فقال الله عز وجل: فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني ". قال في مجمع الزوائد (¬10) وأحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح، وكذلك أحد إسنادي أبي يعلى، وأخرجه أيضا ......... ¬

(¬1) في (10/ 208). (¬2) في " الكبير " رقم (7765). (¬3) في " الكبير " رقم (7787). (¬4) في " المجمع " (10/ 208). (¬5) انظر " المجمع " (10/ 208). (¬6) جعفر بن الزبير الحنفي أبو الباهلي، الدمشقي، نزيل البصرة، متروك الحديث. " التقريب " رقم (939). (¬7) في " المسند " (3/ 29، 41، 76). (¬8) في " المسند " (1399). (¬9) في " الأوسط " رقم (8783). (¬10) في " المجمع " (10/ 207).

الحاكم (¬1) وقال: صحيح الإسناد. وأخرج أبو داود (¬2)، والنسائي (¬3)، وابن ماجه (¬4)، والحاكم (¬5) والبيهقي (¬6) من حديث عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب ". وأخرج ابن ماجه (¬7) بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن بسر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا ". وأخرج الطبراني في الأوسط (¬8) والكبير (¬9) من حديث عقبة بن عامر: أن رجلا جاء إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله أحدنا يذنب؟ قال: " تكتب عليه " قال: ثم يستغفر؟ قال: " يغفر له ويتاب عليه، ولا يمل الله حتى تملوا ". قال في مجمع الزوائد (¬10) وإسناده حسن. ¬

(¬1) في " المستدرك " (4/ 261) وصححه ووافقه الذهبي. وهو حديث حسن. (¬2) في " السنن " رقم (1518). (¬3) في " عمل اليوم والليلة " رقم (456). (¬4) في " السنن " رقم (3819). (¬5) في " المستدرك " (4/ 262) وصححه وتعقبه الذهبي بقوله: الحكم فيه جهالة أي الحكم بن مصعب. قال الحافظ في " التقريب " رقم (502): مجهول. (¬6) في " الشعب " رقم (645). وهو حديث ضعيف. (¬7) في " السنن " رقم (3818). وهو حديث صحيح. (¬8) رقم (791). (¬9) رقم (8689). (¬10) (10/ 200). وقال: رواه الطبراني في " الكبير " و" الأوسط " وإسناده حسن.

وأخرج الترمذي (¬1) وحسنه من حديث أنس قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " قال الله عز وجل: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة ". وأخرج أبو داود (¬2)، والترمذي (¬3) وابن أبي شيبة (¬4) وابن حبان (¬5) من حديث بلال بن يسار بن زيد قال: حدثني أبي عن جدي أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غفر له وإن كان قد فر من الزحف ". قال الترمذي (¬6) غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، قال المنذري (¬7) إسناد جيد متصل، فقد ذكر البخاري في تاريخه (¬8) أن بلالا سمع من أبيه يسارا وأن يسارا سمع من أبيه زيد مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. وأخرجه الترمذي (¬9) من حديث أبي سعيد، وقال فيه: " ثلاث مرات ". ¬

(¬1) في " السنن " رقم (3540) وقال: هذا حديث حسن غريب. وهو حديث حسن لغيره. (¬2) في " السنن " رقم (1517). (¬3) في " السنن " رقم (3577). وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. (¬4) في " المصنف " (7/ 71). (¬5) لم أجده. (¬6) في " السنن " (5/ 569). (¬7) في " الترغيب والترهيب " (2/ 468). (¬8) (2/ 108). (¬9) في " السنن " رقم (3575) من حديث أبي سعيد البراد، عن معاذ بن عبد الله بن حبيب، عن أبيه، به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وأبو سعيد البراد: هو أسيد بن أبي أسيد. قلت: وأخرجه أبو داود رقم (5082) والنسائي رقم (5428، 5429) وهو حديث حسن.

وأخرجه الحاكم (¬1) من حديث ابن مسعود بهذه الزيادة (¬2)، قال: صحيح. وأخرجه الطبراني (¬3) من حديث ابن مسعود بإسناد رجاله ثقات. وأخرجه أبو داود (¬4) والترمذي (¬5) وحسنه والنسائي (¬6) وابن ماجه (¬7) وابن حبان في صحيحه (¬8) من حديث أبي بكر الصديق قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: " ما من عبد يذنب فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر له "، ثم قرأ هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} (¬9) إلخ. وأخرج البخاري (¬10) وغيره من حديث ..................................... ¬

(¬1) في " المستدرك " (1/ 511) وقال: صحيح على شرطهما. (¬2) أي " يقولها ثلاثا ". وهو حديث صحيح، والله أعلم. (¬3) في " الكبير " رقم (8541). وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 210) وقال: رواه الطبراني موقوفا ورجاله وثقوا. (¬4) في " السنن " رقم (1521). (¬5) في " السنن " رقم (406) وقال: هذا حديث حسن غريب. (¬6) في " عمل اليوم والليلة " رقم (417). (¬7) في " السنن " رقم (1395). (¬8) في صحيحه رقم (623). (¬9) [آل عمران:135]. وهو حديث صحيح. (¬10) في صحيحه رقم (6323) عن شداد بن أوس قال: " سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك، ووعدك ما استطعت، أبوء لك بنعمتك وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، أعوذ بك من شر ما صنعت ".

[شداد بن أوس] (¬1) عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " سيد الاستغفار اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، أعوذ بك من شر ما صنعت ". ولفظ أبي داود (¬2) والنسائي (¬3) وابن السني (¬4) من حديثه بلفظ: " سيد الاستغفار أن يقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ". وأخرجه بهذا اللفظ البخاري (¬5) في موضع آخر، وأحمد في المسند (¬6). وإنما سمي سيد الاستغفار: 1 - لجمعه لمعاني التوبة كلها، استعير له اسم السيد، وهو في الأصل للرئيس الذي يقصد في الحوائج ويرجع إليه في المهمات (¬7). 2 - وأيضا فيه الإقرار لله سبحانه بالألوهية والعبودية. 3 - والاعتراف بأنه الخالق. 4 - والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه. ¬

(¬1) في المخطوط أوس بن أوس. والصواب ما أثبتناه من مصدر الحديث. (¬2) في " السنن " رقم (5070). (¬3) في " السنن الكبرى " (8/ 279). (¬4) في " عمل اليوم والليلة " رقم (372). (¬5) في صحيحه رقم (6306). (¬6) في " المسند " (4/ 122، 125). (¬7) قاله الطيبي كما في " فتح الباري " (11/ 99).

5 - والرجاء بما وعد. 6 - والاستعاذة مما جنى على نفسه. 7 - وإضافة النعم إلى موجدها. 8 - وإضافة الذنب إلى نفسه. 9 - ورغبته في المغفرة. 10 - واعترافه بأنه لا يقدر على ذلك إلا هو (¬1). ¬

(¬1) قاله ابن أبي حمزة كما في " فتح الباري " (11/ 100).

[تنزيه الله سبحانه وتعالى] قوله: " يا عبادي إنكم لم تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ". لما ذكر سبحانه وتعالى ما أنعم به على عباده من أمور الدنيا والآخرة وأرشدهم إليه من مصالح الدين والدنيا، أبان لهم هاهنا أنه لم يفعل ذلك لمصلحة ترجع إليه منهم، ولا لفائدة يوصلونها إليه، لأنهم أحقر وأقل من أن يستطيعوا ذلك، أو يبلغوا إليه بوجه من الوجوه. ولهذا قال: " إنكم لن تبلغوا ضري "، أي: ليس لكم من القدرة ما تطيقون أن تبلغوا به ذلك، فإني الخالق لما فيكم من القوة والقدرة، والموجد لها فيكم، والمتفضل بها عليكم، فكيف تبلغون إلي ذلك المبلغ الذي أنتم أعجز من أن تصلوا إلى شيء منه، وأقل من أن تبلغوا ما هو دونه. وصدق الله عز وجل فإن العبد غاية ما يتمكن منه ويصل إليه أن يعصي الله تعالى وتقدس، وهو إنما يضر بذلك نفسه، ويوردها في موارد الخسران، ويقودها إلى العذاب الأليم، والبلاء المقيم، ويتعرض لانتقام منه وحلول سخطه عليه، فيجمع له بين عذاب الدنيا والآخرة، فلا دنياه أبقى، ولا آخرته رجا، فكان كما قلت: إن أشقى الناس في الناس فتى ... بين ترك الدين والدنيا جمع صار كالمنبت في الأسفار لا ... ظهره أبقى ولا أرضا قطع وعلى فرض أن الله سبحانه يمهله ويستدرجه من حيث لا يعلم، ويخلي بينه وبين عصيانه وطغيانه، فمن ورائه نار جهنم، فقد باع الحياة الدنيا الأبدية والنعيم المقيم بعاجل لذة زائلة ونعمة ذاهبة، واستبدل بها عذاب الأبد وشقاء الدهر الذي لا ينفد ولا ينقطع. وهكذا من كان من العباد مطيعا لله عز وجل، قائما بما أوجبه عليه من الواجبات البدنية والمالية، متصدقا بماله متقربا إلى الله بما خوله من النعم وأعطاه من البر، فهو لم

ينفع بذلك إلا نفسه، وربح الفوز بالنعيم الأبدي والسلامة من العذاب الأخروي، ومع ذلك قد يكون ما فعله من الخير سببا لحراسة ما تفضل الله به عليه في الدنيا عن الزوال، فإن إعمال الخير لا سيما بذل المال للمحاويج؛ من أعظم أنواع الشكر الذي وعد الله عباده إن فعلوه بالمزيد فقال: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (¬1) فهذا قد نفع نفسه في دنياه وأخراه، كما ضر الأول نفسه في عاجلته وآجلته وكلاهما لم يجاوز ضر نفسه ولا نفع نفسه، وذلك غاية قدرته ونهاية استطاعته فسبحان الله العظيم، ما ألطفه وأرأفه بعباده، حتى بلغ معهم في التعليم والإرشاد إلى هذه الغاية، لدفع ما لعله يقع في خواطر الصم البكم الذين هم أشبه بالدواب وإن كانوا في مسلاخ إنسان وجسم بني آدم كما وقع من اللعين حيث قال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} (¬2). فسبحان الصبور على مثل هذه الحماقات من هؤلاء الذين هم كالأنعام؛ بل هم أضل سبيلا. قوله: " يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئا ". لما ذكر الله سبحانه أن عباده لا يبلغون ضره ولا يبلغون نفعه، وكانت عقولهم القاصرة محتاجة إلى مزيد تصريح وتأكيد وطرف من الإيضاح والمبالغة، أخبرهم سبحانه بأن انتفاء ذلك الضر والنفع الذي نفى عوده إلى حضرته المقدسة وجنابه الأعز الأجل، ليس هو باعتبار نوع من أنواع العالم، أو باعتبار أهل عصر من العصور، بل لو اجتمع أول الثقلين وآخرهم، وكانوا على غاية من الصلاح والانقياد والطاعة والتقوى، بل لو ¬

(¬1) [إبراهيم:7]. (¬2) [غافر:36].

كانوا على حالة أعلى من هذه الغاية، ومنزلة أرفع من هذه المنزلة، وهي أن يكونوا كالفرد الكامل منهم والرجل كل الرجل في جماعتهم، وهو من ملئ قلبه من التقوى حتى صار أتقى الثقلين الإنس والجن بعد اجتماع أولهم وآخرهم، ولا يخفاك أن أتقى الثقلين عن اجتماعهم المعروض الشامل لأولهم وآخرهم هم الأنبياء عليهم السلام، وأتقى الأنبياء هو سيد ولد آدم الأنبياء وغيرهم، وهو نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فانظر هذه المبالغة البليغة والكلام الفائق. وقوله: " واحد " للتأكيد كما يقتضيه مقام المبالغة مثل قوله سبحانه: {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} ومثل قوله: {دَكَّةً وَاحِدَةً} (¬1) ومثل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " لأولى رجل ذكر " (¬2). ثم لما فرغ سبحانه من المبالغة في جانب دفع النفع، ذكر المبالغة في جانب دفع الضرر فقال: " يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا ". وفيه مثل ما تقدم من المبالغة البليغة والكلام الجاري على أكمل نظام وأتم أسلوب. وهذا القلب الذي هو أفجر قلوب الثقلين عند الاجتماع المفروض، قد يكون قلب إبليس أو أحد مردة الجن، وقد يكون قلب بعض جبابرة الإنس كفرعون والنمرود ولا يعلم ذلك إلا علام الغيوب. والمقصود من هذا أن عبادة العابدين، وتقوى المتقين، وزهد الزاهدين، إنما ينتفع بها فاعلها فقط، ومعصية العاصين، وتهتك المتهتكين، وكفر الكافرين، ونفاق المنافقين، إنما تضر فاعلها، وليس إلى الله عز وجل ولا عليه تبارك وتعالى من ذلك شيء. فإن قلت: قد ثبت في .................................... ¬

(¬1) [الحاقة:14]. (¬2) أخرجه البخاري رقم (6732) ومسلم رقم (1615) وقد تقدم.

الصحيحين (¬1) وغيرهما (¬2) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، والصوم جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم!، والذي نفس محمد بيده؛ لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه ". قلت: قد أجاب أهل العلم عن معنى قوله عز وجل: " الصوم لي وأنا أجزي به " بأجوبة كثيرة منها ما أجاب سفيان بن عيينة فقال (¬3) ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1904) ومسلم رقم (3) وقد تقدم. (¬2) كأبي داود رقم (2363) والنسائي (4/ 163) وابن ماجه رقم (1638). (¬3) ذكره الحافظ في " الفتح " (4/ 107). قال القرطبي في " المفهم " (3/ 212 - 213) قوله: " كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي " اختلف في معنى هذا على أقوال: 1 - أن أعمال بني آدم يمكن الرياء فيها، فيكون لهم، إلا الصيام فإنه لا يمكن فيه إلا الإخلاص، لأن حال الممسك شبعا كحال الممسك تقربا، وارتضاه المازري. 2 - أن أعمال بني آدم كلها لهم فيها حظ إلا الصيام فإنهم لا حظ لهم فيه. قاله الخطابي. 3 - أن أعمالهم هي أوصافهم، ومناسبة لأحوالهم إلا الصيام، فإنه استغناء عن الطعام، وذلك من خواص أوصاف الحق سبحانه وتعالى. 4 - أن أعمالهم مضافة إليهم إلا الصيام فإن الله تعالى أضافه إلى نفسه تشريفا كما قال: " بيتي وعبادي ". 5 - أن أعمالهم يقتص منها يوم القيامة فيما عليهم إلا الصيام فإنه لله تعالى ليس لأحد من أصحاب الحقوق أن يأخذ منه شيئا. قال ابن العربي. وقد كنت استحسنته إلى أن فكرت في حديث المقاصة فوجدت فيه ذكر الصوم في جملة الأعمال المذكورة للأخذ منها. فإنه قال فيه: " هل تدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: المفلس هو الذي يأتي يوم القيامة بصلاة وصدقة وصيام، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من سيئاتهم فطرح عليه، ثم طرح في النار ". - أخرجه مسلم رقم (2581) وأحمد (2/ 303) - وهذا يدل على أن الصوم يؤخذ كسائر الأعمال. 6 - أن الأعمال كلها ظاهرة للملائكة، فتكتبها إلا الصوم، وإنما هو نية وإمساك فالله تعالى يعلمه، ويتولى جزاءه. قاله أبو عبيد. 7 - أن الأعمال قد كشفت لبني آدم مقادير ثوابها وتضعيفها إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير، ويشهد لهذا مساق الرواية الأخرى التي فيها: " كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به " يعني: - والله تعالى أعلم - أنه يجازي عليه جزاء كثيرا من غير أن يعين مقداره، ولا تضعيفه، وهذا كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] وهم الصائمون في أكثر أقوال المفسرين. وهذا ظاهر قول الحسن، غير أنه قد تقدم ويأتي في غير ما حديث أن صوم اليوم بعشرة، وأن صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصيام رمضان صيام الدهر. وهذه النصوص في إظهار التضعيف، فبعد هذا الوجه بل بطل. والأولى حمل الحديث على أحد الأوجه الخمسة المتقدمة. انظر: " فتح الباري " (4/ 108 - 109).

1 - معناه إذا كان يوم القيامة، يحاسب الله عز وجل عبده، ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله حتى لا يبقى إلا الصوم، فيتحمل الله ما بقي عليه من المظالم ويدخله بالصوم الجنة. 2 - وقيل: إن الصيام لما كان هو الإمساك عن الطعام، وهذا الإمساك ليس من الأفعال التي تظهر للناس، فكان الصيام مما لا يدخله الرياء، لأن الرياء لا يكون إلا بأفعال تظهر للناس مثل الصلاة والصدقة ونحوهما، ومثل غير ذلك. والظاهر أنه لا حاجة إلى جميع ما ذكروه فقد صرح في هذا الحديث نفسه بما يرشد إلى ما هو المراد. ففي ............................................................

البخاري (¬1) وغيره (¬2) ما لفظه: " يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصوم لي وأنا أجزي به " فهذا قد أفاد أنه لما ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل ربه عز وجل، كان الصوم له أي: لأجله من غير نفع له في ذلك، بل كان النفع للصائم لما ترك طعامه وشرابه وشهوته لأجل ربه، لأن ذلك هو الإخلاص الذي أمر الله به عباده بقوله: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬3). فليس بين هذا الحديث القدسي الذي نحن بصدد شرحه، وبين الحديث القدسي الذي في الصيام تعارض، فافهم هذا. فإن قلت: قد ثبت في صحيح مسلم (¬4) من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " ليس أحد أحب إليه المدح من الله تعالى، من أجل ذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من الله تعالى، من أجل ذلك حرم الفواحش، وليس أحد أحب إليه العذر من الله تعالى، من أجل ذلك أنزل الكتاب وبعث الرسل ". قلت: لا تلازم بين كون الشيء محبوبا وكون لمن حصلت له محبة له نفع فيه! فقد يحب الإنسان صفات الخير، وإن كان لا نفع له فيها، ولا ضرر عليه في تركها، كما يجده كل عاقل عند ظهور الخصال المحمودة المطابقة لمنهج الشرع كالعدل، وظهور السنن وارتفاع البدع، وإنما أحب ذلك سبحانه لأن مدحه من عباده هو الشكر له على ما أفاضه عليهم من النعم، وذلك من أعظم ما يتقربون به إليه، ويتوسلون به إلى مرضاته، فيحصل لهم بذلك الفوز بالنعيم الأبدي، والخير الأخروي، ولهذا طلب سبحانه منهم ¬

(¬1) في صحيحه رقم (1894). (¬2) كمسلم رقم (1151). (¬3) [البينة:5]. (¬4) في صحيحه رقم (32/ 2760). وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (4634) وأحمد (1/ 381).

القيام بما شرعه لهم، والكف عما نهاهم عنه، وليس ذلك إلا لفائدة عائدة عليهم، ونعمة حاصلة لهم، فالمدح منهم لربهم هو من أعظم أسباب خيرهم الآجل والعاجل، ولهذا يقول الله عز وجل: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (¬1). وصح في أدعية الصباح والمساء أن العبد إذا قال في صباح يومه:" اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك، فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر ومن قال ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليلته".أخرجه أبو داود (¬2) والنسائي (¬3) وابن حبان وصححه (¬4)، من حديث عبد الله بن غنام البياضي وجود النووي (¬5) إسناده، وأخرجه أيضًا ابن حبان (¬6) من حديث ابن عباس. وبالجملة فندب الله عز وجل لعباده إلى مدحه، هو مثل ندبه لهم إلى شكره وحمده، والنفع في ذلك كله للعباد، وتعالى وتقدس ربهم عز وجل أن يكون له في ذلك نفع أو في تركه ضر. وانظر إلى ما اقترنت به محبته عز وجل للمدح من عباده في هذا الحديث، من ذكر الغيرة التي من أجلها حرم الفواحش، والمحبة للعذر التي من أجلها أنزل الكتاب وأرسل الرسل، فإنه لا يقع في ذهن عاقل أن في ذلك شيئا من النفع أو الضر، بل كل ذلك لرعاية الرب الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء لمصالح عباده. والحاصل أن تسبيحه عز وجل مدح له، وحمده مدح له، وشكره مدح له، وتكبيره ¬

(¬1) [إبراهيم:7] (¬2) في "السنن" رقم (5073) (¬3) في "السنن الكبرى" (6/ 5 رقم 9835) (¬4) لم يخرجه من حديث عبد الله بن غنام البياضي. وهو حديث ضعيف. (¬5) في "الأذكار" (ص 66) (¬6) في صحيحه رقم (861)

مدح له، بل توحيده من أعظم المدح له سبحانه، وقد رغب رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إلى الاستكثار من هذه الأمور، وبين ما فيها من الأجر العظيم للعباد، فعرفت بهذا معنى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:" ما أحد أحب إليه المدح من الله "، فلا تعارض بينه وبين حديث الباب. فإن قلت: قد ثبت في الصحيحين (¬1) وغيرهما (¬2) من حديث أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:" لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله بأرض فلاة". وفي رواية لمسلم (¬3):" لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت عنه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح". وفي الصحيحين (¬4) وغيرهما (¬5) من حديث الحارث بن سويد عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول:" لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض دوية (¬6) مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6309) ومسلم رقم (2747) (¬2) كأحمد (3/ 213) وابن حبان في صحيحه رقم (617). (¬3) في صحيحه رقم (7/ 2747) (¬4) أخرجه البخاري رقم (6308) ومسلم رقم (2744) (¬5) كأحمد (1/ 383) وابن حبان في صحيحه رقم (618) (¬6) في حاشية المخطوط: فلاة مهلكة. قال ابن الأثير في "النهاية" (2/ 143):الدو: الصحراء التي لا نبات بها. والدوية منسوبة إليها وقد تبدل من إحدى الواوين ألف، فيقال: داوية على غير قياس. * في هذا الحديث: إثبات الفرح لله عز وجل، فنقول في هذا الفرح: إنه فرح حقيقي، وأشد فرح ولكنه ليس كفرح المخلوقين. الفرح بالنسبة للإنسان هو نشوة وخفه يجدها الإنسان من نفسه عند حصول ما يسره، ولهذا تشعر بأنك إذا فرحت بالشيء كأنك تمشي على الهواء ولكن بالنسبة لله عز وجل، لا نفسر الفرح بمثل ما نعرفه من أنفسنا فنقول هو فرح يليق به عز وجل مثل بقية الصفات، كما أننا نقول: لله ذات، ولكن لا تماثل ذواتنا، فله صفات لا تماثل صفاتنا، لأن الكلام عن الصفات فرع عن الكلام في الذات. فنؤمن بأن الله تعالى له فرح كما أثبت ذلك أعلم الخلق به، محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنصح الخلق للخلق، وأفصح الخلق فيما ينطق به عليه الصلاة والسلام. ونحن على خطر إذا قلنا: المراد بالفرح الثواب، لأن أهل التحريف يقولون: إن الله لا يفرح، والمراد بفرحه: إثابته التائب. أو: إرادة الثواب لأنهم هم يثبتون أن لله تعالى مخلوقا بائنا منه هو الثواب ويثبتون الإرادة، فيقولون في الفرح: إنه الثواب المخلوق أو: إرادة الثواب. ونحن نقول: المراد بالفرح: الفرح حقيقة، مثلما أن المراد بالله عز وجل نفسه حقيقة ولكننا لا نمثل صفاتنا بصفات الله أبداً. ويستفاد من هذا الحديث: مع إثبات الفرح لله عز وجل وكمال رحمته جل وعلا ورأفته بعباده، حيث يحب رجوع العاصي إليه هذه المحبة العظيمة .... هارب من الله، ثم وقف ورجع إلى الله . يفرح الله به هذا الفرح العظيم. ومن الناحية المسلكية: يفيدنا أن نحرص على التوبة غاية الحرص، كلما فعلنا ذنبا، تبنا إلى الله. قال تعالى في وصف المتقين: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً) أي فاحشة: مثل الزنى، اللواط، نكاح ذوات المحارم قال تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا) [النساء:22]. (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) [الإسراء:32]. وقال لوط لقومه: (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ) [الأعراف:80]. إذا: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ) ذكروا الله تعالى في نفوسهم، ذكروا عظمته، وذكروا عقابه وذكروا ثوابه للتائبين. (فَاسْتَغْفَرُوا لذُنُوبِهِمْ) فعلوا ما فعلوا ولكنهم ذكروا الله في نفوسهم واستغفروا لذنوبهم. قال تعالى (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ) [آل عمران: 135]. فأنت إذا علمت أن الله يفرح بتوبتك هذا الفرح الذي لا نظير له. لا شك أنك سوف تحرص غاية الحرص على التوبة. "شرح العقيدة الواسطية" (2/ 19 - 21)

نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله، قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها زاده وشرابه، فالله تعالى أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته". قلت: الفرح منه عز وجل بتوبة عبده، هو لعظيم لطفه به ومزيد رأفته عليه لسلامته - بتوبته- من العذاب الأليم، وهذا هو من رحمته عز وجل لعباده، ولهذا صح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ حاكيا عن الرب عز وجل أنه قال:" سبقت رحمتي غضبي" (¬1) ومعلوم أن نفع هذه التوبة هو للعبد، كما أن ضر تركها هو عليه، وليس للرب تعالى وتقدس في ذلك نفع، ولا عليه سبحانه في خلافه ضرر، فليس بين هذا الحديث وبين حديث الباب تعارض. والمراد بالفرح المنسوب إلى الرب عز وجل هو: الرضا بما وقع من ذلك العبد! البالغ إلى أشد من الرضا الحاصل لواجد تلك الضالة عند وجودها (¬2) ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (7553) ومسلم رقم (2751). (¬2) نجد أن الشوكاني لم يلتزم بالمنهج الذي ذكره في "التحف في مذاهب السلف" وهي الرسالة رقم (3) من "الفتح الرباني" (ص 259 - 260). فقد قال: ونعرف أن مذهب السلف من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وتابعيهم هو إيراد أدلة الصفات على ظاهرها، من دون تحريف لها، ولا تأويل متعسف لشيء منها، ولا جبر ولا تشبيه ولا تعطيل يفضي إليه كثير من التأويل. وقال الدكتور محمد حسين الغماري في " الشوكاني مفسراً" أن الشوكاني رجع عن بعض هذه التأويلات في رسالته التحف لأنها من آخر ما ألف ولم يؤيد ما ذهب إليه بأي دليل إلا حسن الظن به. * ونقف معا على أسس سليمة وقواعد مستقيمة: 1 - أن أسماء الله وصفاته توقيفية، بمعنى أنهم لا يثبتون لله إلا ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو أثبته له رسوله في سنته من الأسماء والصفات ولا يثبتون شيئا بمقتضى عقولهم وتفكيرهم، ولا ينفون عن الله إلا ما نفاه عن نفسه في كتابه أو نفاه عنه رسوله في سنته. لا ينفون عنه بموجب عقولهم وأفكارهم، فهم لا يتجاوزون الكتاب والسنة، وما لم يصرح الكتاب والسنة بنفيه وإلا إثباته، كالعرض والجسم والجوهر، فهم يتوقفون فيه بناء على هذا الأصل العظيم. 2 - أن ما وصفه الله به نفسه أو وصفه به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو حق على ظاهره، ليس فيه أحاج ولا ألغاز بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه، فأهل السنة يثبتون ألفاظ الصفات ومعانيها، فليس ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المتشابه الذي يفوض معناه، لأن اعتبار نصوص الصفات مما يفهم معناه يجعلها من الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، والله تعالى قد أمرنا بتدبر القرآن كله، وحضنا على تعقله وتفهمه، وإذا كانت نصوص الصفات مما لا يفهم معناه، فيكون الله قد أمرنا بتدبر وتفهم ما لا يمكن تدبره وتفهمه وأمرنا باعتقاد ما لم يمكن تدبره وتفهمه وأمرنا باعتقاد ما لم يوضحه لنا تعالى الله عن ذلك. إذا، فمعاني صفات الله تعالى معلومة يجب اعتقادها، وأما كيفيتها فهي مجهولة لنا، لا يعلمها إلا الله تعالى، ولهذا يقول الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه لما سئل عن قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 5]. كيف استوى؟ قال: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة". وما قال الإمام مالك في الاستواء هو قاعدة في جميع الصفات، وهو قول أهل السنة والجماعة قاطبة، فمن نسب إلى السلف أنهم يفوضون معاني الأسماء والصفات، ويجعلون نصوصها من المتشابه الذي استأثر الله بعلم معناه فقد كذب عليهم، لأن كلامهم يخالف كلام هذا المفتري. 3 - السلف يثبتون الصفات إثباتا بلا تمثيل، فلا يمثلونها بصفات المخلوقين لأن الله ليس كمثله شيء، ولا كفء له، ولا ند له، ولا سمي له، ولأن تمثيل الصفات وتشبيهها بصفات المخلوقين ادعاء لمعرفة الموصوف والله تعالى لا يعلم كيفية ذاته إلا هو والكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما أن لله ذاتا لا تشبه الذوات، فكذلك له صفات لا تشبه الصفات:) لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11]، أي لا يشبهه أحد لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فيجب الإيمان بما وصف الله به نفسه، لأنه لا أحد أعلم من الله بالله: (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) [البقرة: 140]، فهو أعلم بنفسه وبغيره. كما يجب الإيمان بما وصفه به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه لا أحد بعد الله أعلم بالله من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي قال الله في حقه: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 3 - 4]. فيلزم كل مكلف أن يؤمن بما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وينزه ربه جل وعلا من أن تشبه صفته بصفة الخلق. 4 - وكما أن أهل السنة والجماعة يثبتون لله الصفات التي وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله على وجه يليق بجلاله ولا يشبهونه بخلقه، فهم ينزهونه عن النقائص والعيوب تنزيها لا يفضي بهم إلى التعطيل بتأويل معانيها أو تحريف ألفاظها عن مدلولها بحجة التنزيه، فمذهبهم في ذلك وسط بين طرفي التشبيه والتعطيل، تجنبوا التعطيل في مقام التنزيه وتجنبوا التشبيه في مقام الإثبات. 5 - طريقة أهل السنة والجماعة فيما يثبتون لله من الصفات وما ينفون عنه من النقص هي طريقة الكتاب والسنة، وهي الإجمال في النفي والتفصيل في الإثبات كما في قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11]. فأجمل في النفي وهو قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وفصل في الإثبات وهو قوله تعالى: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) وكل نفي في صفات الله فإنه يتضمن إثبات الكمال، وليس هو نفيا محضا، لأن النفي المحض ليس فيه مدح لأنه عدم محض والعدم ليس بشيء. ومن أمثلة النفي المتضمن لإثبات الكمال: قوله تعالى: (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49] أي: لكمال عدله سبحانه. وقوله: (وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا) [البقرة: 255] أي: لكمال قدرته وقوته. وقوله: (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) [البقرة: 255] أي: لكمال حياته وقيوميته. "الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد والرد على أهل الشرك والإلحاد" (ص149 - 152). وانظر: "الرسالة في اعتقاد أهل السنة" (ص 403)، "مجموع الفتاوى" (6/ 518).

فالتعبير عن الرضا بالفرح لقصد تأكيد معنى الرضا في نفس السامع، والمبالغة في

تقريره، وقد حكي النووي في شرح مسلم (¬1) عند شرحه لهذا الحديث عن المازري (¬2) أن الفرح ينقسم إلى وجوه منها: السرور والسرور يقارنه الرضا بالمسرور به ثم ذكر نحو ما ذكرناه. قال في الصحاح (¬3) فرح به سر. قوله: "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر". قوله: المخيط، هو بكسر الميم، وفتح التحتية، وهو: الإبرة (¬4). قال النووي (¬5) قال العلماء: هذا تقريب إلى الأفهام، ومعناه لا ينقص شيئا، كما قال في الحديث الآخر: " ... لا يغيضها نفقة" (¬6) أي لا ينقصها، لأن ما عند الله لا يدخله نقص، وإنما يدخل النقص المحدود [الفاني] (¬7)، وعطاء الله تعالى من رحمته وكرمه وهما صفتان لا يتطرق إليهما نقص، فضرب المثل بالمخيط في البحر لأنه غاية ما يضرب به المثل في القلة، والمقصود التقريب إلى الأفهام بما [شاهدوه] (¬8)، فإن ¬

(¬1) (17/ 60، 61). (¬2) في "المعلم بفوائد مسلم" (3/ 187 - 188). (¬3) (1/ 390) (¬4) انظر: "القاموس المحيط" (ص 860) (¬5) في شرحه لصحيح مسلم (16/ 133) (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4684) وأطرافه (5352، 7411، 7419، 7496) ومسلم في صحيحه رقم (993) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "قال الله عز وجل: أنفق أنفق عليك، وقال: يد الله ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، وقال: أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماء والأرض فإنه لم يغض ما في يده، وكان عرشه على الماء وبيده الميزان يخفض ويرفع". (¬7) في المخطوط [في المعاني] وما أثبتناه من "صحيح مسلم" (16/ 133 - النووي). (¬8) في المخطوط [يشاهدونه] وما أثبتناه من "صحيح مسلم" (16/ 133 - النووي)

البحر من أعظم المرئيات عيانا وأكبرها! والإبرة من أصغر الموجودات! مع أنها صقيلة لا يتعلق بها ماء والله أعلم. انتهى. أقول: انظر إلى هذا الكلام الفياض والعطاء الجم! فإن اجتماع جميع الإنس والجن، أولهم وآخرهم في مكان واحد، ثم تفضله عز وجل بإعطاء كل سائل مسألته على أي صفة كانت، وفي أي مطلب من المطالب اتفقت، كرم لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه. ولعل المراد من هذا الإخبار الرباني لعبيده الضعفاء -الذين خلقهم وأحياهم ورزقهم ثم يميتهم ثم يحييهم الحياة الأبدية إنما لنعيم مقيم أو لعذاب أليم- هو تأكيد استغناءه عز وجل عنهم، وعدم حاجته إليهم، وأن من كان هذا شأنه يعطي جميع العالم من الإنس والجن -عند اجتماعهم المفروض أولهم وآخرهم- كل سائل مسألته، ولك مستعطٍ عطيته، هو ذا الغنى المطلق الذي لا يتعاظمه شيء، ثم ترغيبهم في سؤاله واستعطائه، وأنه عز وجل لا تفني خزائن ملكه، ولا تنقص بالعطاء بحار كرمه، ولا يؤثر فيها سؤال السائلين، وإن كانوا في الكثرة على هذه الصفة التي تقصر العقول عن الإحاطة ببعض البعض من أهل عصر من العصور، فكيف بجميع الناس من عند آدم إلى ما لا نهاية له معلومة لنا، فكيف إذا انضم إليهم الجن أولهم وآخرهم. فسبحانه ما أعظم شأنه، لا أحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، لا جرم إذا ضاقت أذهان العباد عن تصور كرمه وتفضله، فهو خالق الكل، ورب العالم، وليس عالم الإنس والجن بالنسبة إلى كل العالم من المخلوقات إلا القدر اليسير، وهو يعطي الكل الخير، لأنه إذا كان شأنه هذا الشأن العظيم من إعطاء السائلين، فهو قد تكفل لهم بأن يخلف عليهم ما أنفقوا كما قال في كتابه العزيز: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (¬1). ¬

(¬1) [سبأ: 39]

انظر إلى هذه الآية الكريمة، فإنه سبحانه أخبرهم بأنه يخلف لهم كل ما أنفقوه وجاء بهذه الكلية الشاملة، فإن قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ} يفيد بعمومه المستفاد من الشرطية الكلية أن يخلف كل حقير وجليل من أنواع ما أنفقوه، ثم أكد ذلك بقوله: {مِنْ شَيْءٍ} فإنه يتناول ما يصدق عليه لفظ الشيء، وهو يصدق على الخردلة إذ لا خلاف أنها شيء بل يصدق على أقل جزء من أجزائها، ثم ذيل هذه الجملة الشرطية بقوله: {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (¬1). فانظر إلى ما في هذه الجملة التذييلية من تطمين خواطر المنفقين وتشويقهم إلى ما يخلفه عليهم من هو خير الرازقين، فإن في ذلك ما يجذب خواطر المتقين إلى أن يكونوا من المنفقين المنتظرين لما وعدهم به خير الرازقين، فإنه كونه خير الرازقين لا يكون ما يخلفه عليهم إلا أضعاف أضعاف ما ينفقون، كما تراه في أحوال بني آدم فإن من كان منهم موصوفا بالكرم لا يكافئ إلا بالكثير الذي يكون بالنسبة إلى ما كافأ به عليه فوقه بكثير. فكيف إذا كان ملكا من ملوك الدنيا الذي ينزعه إلى الكرم عرق، فكيف إذا كان ملك الملوك وربهم وخالقهم ورازقهم، ومع هذا الخلف الذي يخلعه على المنفقين، فلهم الجزاء الأخروي بما أنفقوا الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، كما وعد به الرب سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬2). وقد ورد في السنة المطهرة الترغيب في الإنفاق بالأحاديث الكثيرة الصحيحة منها ما في ....................................... ¬

(¬1) [سبأ: 39]. قال صاحب "الدر المصون" (9/ 196): قوله: (الرَّازِقِينَ) إنما جمع من حيث الصورة لأن الإنسان يرزق عياله من رزق الله، والرازق في الحقيقة للجميع إنما هو الله تعالى. (¬2) [الزلزلة: 7 - 8].

الصحيحين (¬1) وغيرهم (¬2) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ - وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ - فإِنَّ اللَّهَ يَقبلها بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِها كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ ". وأخرج مسلم (¬3) والترمذي (¬4) من حديث أبي هريرة أيضًا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال:" مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ عز وجل ". وأخرج مسلم (¬5) من حديثه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " يَقُولُ الْعَبْدُ: مَالِي، مَالِي! وإِنَّمَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثٌ: مَا أَكَلَ فَأَفْنَى، أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى، أَوْ أَعْطَى فَأبقى (¬6) وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ ذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ ". ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1410) ومسلم رقم (1014) (¬2) كالنسائي (5/ 57) والترمذي رقم (661) وابن ماجه رقم (1842). (¬3) في صحيحه رقم (2588). (¬4) في "السنن" رقم (2029). وهو حديث صحيح. (¬5) في صحيحه رقم (2959). وهو حديث صحيح. (¬6) قال النووي في "شرحه لصحيح مسلم" (18/ 94) هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ وَلِمُعْظَمِ الرُّوَاة: (فَاقْتَنَى) بِالتَّاءِ وَمَعْنَاهَا: اِدَّخَرَهُ لِآخِرَتِهِ أَي ادَّخَرَ ثَوَابه وَفِي بَعْضهَا " فَأَقْنَى " بِحَذْفِ التَّاء، أَيْ أَرْضَى. وقال القرطبي في "المفهم" (7/ 111 - 112): قوله: "يقول ابن آدم مالي مالي" أي يغتر بنسبة المال إليه وكونه في يديه، حتى ربما يعجب به ويفخر، ولعله ممن تعب هو في جمعه، ويصل غيره إلى نفعه، ثم أخبر بالأوجه التي ينتفع بالمال فيها وافتتح الكلام بـ (إنما) التي هي للتحقيق والحصر فقال: "إنما له من ماله ثلاث" وذكر الحديث. وقوله: "أو أعطى فأقنى" هكذا وقع هذا اللفظ عند جمهورهم، ووجهه أعطى الصدقة فاقتنى الثواب لنفسه، كما قال في الرواية الأخرى: "تصدقت فأمضيت" - عند مسلم رقم (3/ 2958) وقد رواه ابن هامان:"فأقنى" بمعنى: أكسب غيره، كما قال تعالى (أغنى وأقنى) [النجم: 48].

وأخرج البخاري (¬1) والنسائي (¬2) من حديث ابن مسعود: قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ " قالوا: يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه. قال: "فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر". وفي الصحيحين (¬3) من حديث عدي بن حاتم قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة". وأخرج أحمد (¬4) بإسناد صحيح من حديث ابن مسعود بلفظ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "ليتق (¬5) أحدكم وجهه من النار ولو بشق تمرة". وأخرجه أحمد (¬6) أيضًا بإسناد حسن من حديث عائشة بلفظ: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "استتري من النار ولو بشق تمرة، فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبع". وقد أخرج نحوه أبو يعلى (¬7)، والبزار (¬8) من حديث أبي بكر الصديق. ¬

(¬1) في صحيحه رقم (6442) (¬2) في "السنن" (6/ 237) (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6539) ومسلم رقم (1016). (¬4) في "المسند" (1/ 446). وأورده الهيثمي في "المجمع" (3/ 105) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وهو حديث صحيح لغيره. (¬5) في المخطوط [ليق] وما أثبتناه من مصدر الحديث. (¬6) في "المسند" (6/ 79) وأورده الهيثمي في "المجمع" (3/ 105) وهو حديث حسن لغيره (¬7) في مسنده (1/ 85) (¬8) في مسنده رقم (933 - كشف). وأورده الهيثمي في "المجمع" (3/ 105) وقال: رواه أبو يعلى والبزار وفيه محمد بن إسماعيل الوساوسي وهو ضعيف جدا. وهو حديث ضعيف جدا.

وروي نحوه أيضًا من حديث أنس (¬1)، وأبي هريرة (¬2)، وأبي أمامة (¬3)، والنعمان بن بشير (¬4). وأخرج الترمذي (¬5) وصححه من حديث معاذ بن جبل أنه قال له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "ألا أدلك على أبواب الخير؟ " قلت: بلى يا رسول الله. قال: "الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار". وأخرج ابن حبان (¬6) نحوه من حديث كعب بن عجرة. وأخرج الترمذي (¬7) وحسنه، وابن حبان وصححه (¬8) من حديث أنس قال: قال ¬

(¬1) أورده الهيثمي في "المجمع" (3/ 106) وقال: البزار والطبراني في "الأوسط" ورجال البزار رجال الصحيح. (¬2) قال الهيثمي في "المجمع" (3/ 106) وقال: رواه البزار - في مسنده رقم (937 - كشف) وفيه عثمان بن عبد الرحمن الجمحي قال أبو حاتم يكتب حديثه ولا يحتج به وحسن البزار حديثه. وقال البزار في مسنده (1/ 444 - كشف) قد روي عن أبي هريرة من غير هذا الوجه وهذا الإسناد عن أبي هريرة أحسن إسناد يروى في ذلك وأصحه. (¬3) قال الهيثمي في "المجمع" (3/ 106): رواه الطبراني في "الكبير" -رقم (8017) - والأوسط وفيه فضال بن جبير وهو ضعيف. (¬4) قال الهيثمي في "المجمع" (3/ 106): رواه البزار -في مسنده رقم (935 - كشف) والطبراني في "الكبير"، وفيه أيوب بن جابر وفيه كلام كثير وقد وثقه ابن عدي. (¬5) في "السنن" (2616) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وهو حديث صحيح لغيره. (¬6) في صحيحه رقم (5567). وهو حديث صحيح لغيره. (¬7) في "السنن" رقم (664) قال الترمذي: حديث حسن غريب. (¬8) في صحيحه رقم (3309). وهو حديث حسن.

رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "إن الصدقة لتطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء". وأخرج الترمذي (¬1) وصححه، وابن ماجه (¬2) من حديث أبي كبشة الأنماري عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وفيه: " ... ما نقص مال عبد من صدقة". وفي الصحيحين (¬3) وغيرهما (¬4) من حديث أبي هريرة قال: "ضرب لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مثل البخيل والمتصدق: كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد قد اضطرب أيديهما وثديهما إلى تراقيهما، فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه حتى تغشى أنامله وتعفوا أثره، وجعل البخيل كلما هم بالصدقة قلصت وأخذت كل حلقة بمكانها". وأخرج أحمد (¬5) وابن خزيمة (¬6) والحاكم (¬7) وصححه من حديث عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يقول: "كل امرئ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس". قال يزيد بن أبي حبيب: فكان (أبو مرثد) لا يخطئه يوم إلا تصدق فيه بشيء ولو كعكة أو بصلة. وأخرج أحمد (¬8) .................. ¬

(¬1) في "السنن" رقم (2325). (¬2) في "السنن" رقم (4228). وهو حديث صحيح لغيره. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5797) ومسلم رقم (1021). (¬4) كالنسائي (5/ 70 - 72). (¬5) في "المسند" (4/ 147). (¬6) في صحيحه رقم (2431). (¬7) في "المستدرك" (1/ 416) وصححه ووافقه الذهبي. وهو حديث صحيح. (¬8) في "المسند" (5/ 350).

والبزار (¬1) والطبراني (¬2) وابن خزيمة في صحيحه (¬3) والحاكم (¬4) وصححه البيهقي (¬5) عن بريدة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "لا يخرج رجل شيئا من الصدقة حتى يفك عنها لحيي سبعين شيطانا". وفي الصحيحين (¬6) وغيرهما (¬7) من حديث أنس قال: لما نزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (¬8) قام أبو طلحة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله إن أحب أموالي بيرحاء، وإنها صدقة أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها حيث أراك الله يا رسول الله، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "بخ ذاك مال رابح، ذاك مال رابح". وأخرج البيهقي (¬9) عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطى الصدقة". وأخرج الترمذي (¬10) وصححه وابن .................................................... ¬

(¬1) في مسنده رقم (934 - كشف). (¬2) في "الأوسط" رقم (1038) (¬3) رقم (2457) (¬4) في "المستدرك" (1/ 417) وصححه ووافقه الذهبي. (¬5) في "الشعب" رقم (3774) وفي "السنن الكبرى" (4/ 187) وهو حديث ضعيف. (¬6) أخرجه البخاري رقم (1461) ومسلم رقم (998) (¬7) كالترمذي في "السنن" رقم (1997) والنسائي (6/ 231 - 232). (¬8) [آل عمران: 92]. (¬9) في "السنن الكبرى" (4/ 189). رواه البيهقي مرفوعًا وموقوفا على أنس ولعله أشبه، وهو حديث ضعيف جدا. قاله الألباني في "ضعيف الترغيب" رقم (522). (¬10) في "السنن" رقم (2863). وقال: حديث حسن صحيح.

خزيمة (¬1) وابن حبان في صحيحه (¬2) والحاكم (¬3) وصححه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "إن الله أوحى إلى يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن"، فذكر الحديث ... إلى أن قال فيه: "وآمركم بالصدقة، ومثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فأوثقوا يده إلى عنقه، وقربوه ليضربوا عنقه جعل يقول: هل لكم أن أفدي نفسي منكم؟ وجعل يعطي القليل والكثير حتى فدى نفسه" الحديث. وأخرج البيهقي (¬4) من حديث عمرو بن عوف قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "إن صدقة المسلم تزيد من العمر وتمنع ميتة السوء، ويذهب الله بها الكبر والفخر". وأخرج ابن خزيمة (¬5) وابن حبان (¬6) في صحيحيهما والحاكم (¬7) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "من جمع مالا حراما ثم تصدق به لم يكن له فيه أجر، وكان إصره عليه". وفي إسناده دراج أبو السمح وهو ضعيف (¬8). ¬

(¬1) في صحيحه (2/ 64 رقم 930) (¬2) في صحيحه رقم (6233) (¬3) في "المستدرك" (1/ 236) وقال: صحيح على شرطهما. كلهم من حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه. وهو حديث صحيح. (¬4) في "الكبير" رقم (31). وأورده الهيثمي في "المجمع" (3/ 110) وقال رواه الطبراني و"الكبير"، وفيه كثير بن عبد الله المزني، وهو ضعيف. (¬5) في صحيحه رقم (2471). (¬6) في صحيحه رقم (797 - موارد). (¬7) في "المستدرك" (1/ 390) (¬8) دراج بن سمعان، أبو السمح، قيل اسمه عبد الرحمن، ودراج لقب السهمي مولاهم المصري القاص صدوق، في حديثه عن أبي الهيثم ضعف، من الرابعة، مات سنة 126هـ أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن الأربعة. انظر: "التقريب" رقم (2436).

وأخرج ابن خزيمة في صحيحه (¬1) من حديث أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "خير الصدقة ما أبقت غني، واليد العليا خير من السفلى، وابدأ بمن تعول، ... ". وأخرج أبو داود (¬2) وابن خزيمة في صحيحه (¬3) والحاكم (¬4) وقال: صحيح، من حديث أبي هريرة أيضًا أنه قال: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ قال: "جهد المقل وابدأ بمن تعول". وأخرج الترمذي (¬5) وصححه وابن حبان في صحيحه (¬6) عن أم بجيد أنها قالت: يا رسول الله، إن المسكين ليقوم على بابي فما أجد له شيئا أعطيه إياه؟ فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "إن لم تجدي إلا ظلفا محرقا فادفعيه إليه في يده". وفي الصحيحين (¬7) وغيرهما (¬8) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان من السماء فيقول ¬

(¬1) في صحيحه رقم (2436). (¬2) في "السنن" رقم (1677) (¬3) رقم (2451) (¬4) في "المستدرك" (1/ 414). وصححه ووافقه الذهبي. وهو حديث صحيح (¬5) في "السنن" رقم (665) (¬6) في صحيحه رقم (2473). وهو حديث صحيح. (¬7) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4684) ومسلم رقم (1010) (¬8) كابن حبان رقم (3323) وأحمد (2/ 305، 306، 347)

أحدهما: "اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا". وفي الصحيحين (¬1) وغيرهما (¬2) من حديثه أيضًا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "قال الله تعالى: يا عبدي، أنفق أنفق عليك، وقال: يد الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يغض ما بيده وكان عرشه على الماء وبيده الميزان يخفض ويرفع". وأخرج مسلم (¬3) والترمذي (¬4) من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "يا ابن آدم، إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى". وأخرج أحمد (¬5)، وابن حبان في صحيحه (¬6) والحاكم (¬7) وصححه والبيهقي (¬8)، عن أبي الدرداء، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "ما طلعت شمس قط إلا وبجنبتيها ملكان يناديان: اللهم من أنفق فأعقبه خلفا ومن أمسك فأعقبه تلفا". وفي الصحيحين (¬9) وغيرهما (¬10) من حديث أسماء بنت أبي بكر قالت: قال لي رسول ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4684) ومسلم رقم (993) (¬2) كأحمد (2/ 242، 313، 500) وابن ماجه رقم (197) وقد تقدم. (¬3) في صحيحه رقم (1036) (¬4) في "السنن" رقم (1093). (¬5) في "المسند" (5/ 197). (¬6) في صحيحه رقم (3319) (¬7) في "المستدرك" (2/ 444، 445) (¬8) في "شعب الإيمان" رقم (3412). وهو حديث صحيح. (¬9) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1433) ومسلم رقم (1029) (¬10) كأبي داود رقم (1699) والترمذي رقم (1960)

الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "لا توكي فيوكى عليك". وفي رواية (¬1) "أنفقي، أو انفحي، أو انضحي، ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي فيوعي الله عليك". وفي الصحيحين (¬2) وغيرهما (¬3) من حديث ابن مسعود عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها". وفي رواية: (¬4) "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجلا آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار". وأخرج الطبراني في الكبير (¬5)، وأبو الشيخ، ابن حبان (¬6)، والحاكم (¬7) وصححه، من حديث بلال قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "يا بلال، مت فقيرا ولا تمت غنيا". قلت: وكيف لي بذلك يا رسول الله؟ قال: "ما رزقت فلا تخبأ، وما سئلت فلا تمنع". فقلت: يا رسول الله، وكيف لي بذلك؟ فقال: "هو ذاك أو النار". وأخرج الطبراني في الكبير (¬8) بإسناد رجاله ثقات محتج بهم في الصحيح من حديث ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2591) ومسلم رقم (2331) (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (73) ومسلم رقم (815، 816) (¬3) كأبي داود في "السنن" رقم (4208) (¬4) أخرجه البخاري رقم (5025) ومسلم رقم (267/ 815) (¬5) رقم (1021) (¬6) في كتاب "الثواب" كما في "الترغيب" (1/ 700) (¬7) في "المستدرك" (4/ 316) وصححه وتعقبه الذهبي فقال: واه. وهو حديث ضعيف (¬8) رقم (5990). وأورده الهيثمي في "المجمع" (3/ 124) وقال: رواه الطبراني في "الكبير" ورجاله رجال الصحيح وهو حديث صحيح والله أعلم.

سهل بن سعد الساعدي قال: كانت عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ سبعة دنانير وضعها عند عائشة فلما كان عند مرضه قال: "يا عائشة، ابعثي بالذهب إلى علي"، ثم أغمي عليه، وشغل عائشة ما به حتى قال ذلك مرارا، كل ذلك يغمى على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ويشغل عائشة ما به، فبعث إلى علي فتصدق بها، وأمسى رسول الله (في جديد الموت) (¬1) ليلة الاثنين، فأرسلت عائشة بمصباح لها إلى امرأة من نسائه فقالت: "أهدي لنا في مصباحنا من عكتك السمن، فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أمسى في جديد الموت". وأخرج ابن حبان في صحيحه (¬2) معناه من حديث عائشة. وأخرج أحمد (¬3) بإسناد رجاله رجال الصحيح عن عبد الله بن الصامت الغفاري البصري -وهو ثقة- قال: كنت مع أبي ذر فخرج عطاؤه ومعه جارية له، فجعلت تقضي حوائجه، ففضل معها سبعة فأمرها تشتري بها فلوسا، قال: قلت: لو أخرته للحاجة تنوبك أو للضيف ينزل بك؟ قال: إن خليلي عهد إلى أن: "أيما ذهب أو فضة أوكي عليه جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله عز وجل". ¬

(¬1) في المخطوط حديد وما أثبتناه من "صحيح الترغيب" (1/ 552). وانظر: "الصحيحة" رقم (2653) (¬2) في صحيحه رقم (3212، 3213) ولكن ليست فيه قصة الموت والمصباح. * عكتك: العكة من "السمن أو العسل" هي وعاء من جلود مستدير تختص بهما، وهو بالسمن أخص. "النهاية" (3/ 284) (¬3) في "المسند" (5/ 165، 176). وأورده الهيثمي في "المجمع" (3/ 125) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وهو حديث صحيح.

وأخرجه أيضًا الطبراني (¬1) بإسناد رجاله رجال الصحيح. وأخرج أبو يعلى (¬2) بإسناد رجاله ثقات، والبيهقي (¬3) من حديث أنس قال: أهديت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ثلاث طوائر، فأطعم خادمه طائرا، فلما كان من الغد أتيته بها، فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "ألم أنهك أن ترفعي شيئا لغد فإن الله يأتي برزق غد". وأخرج ابن حبان في صحيحه (¬4) والبيهقي (¬5) من حديث أنس قال:" كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لا يدخر شيئا لغد". وأخرج مسلم (¬6) وغيره (¬7)! من حديث أنس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كان يقول: " اللهم إني أعوذ بك من البخل والكسل، وأرذل العمر، وعذاب القبر، ¬

(¬1) في "الكبير" رقم (1641) وأورده الهيثمي في "المجمع (3/ 125) وقال: رواه الطبراني في "الكبير" وأحمد بنحوه، ورجاله ثقات، وله طريق رجالها رجال الصحيح. (¬2) في مسنده رقم (4223). (¬3) في "الشعب" رقم (1348، 1349). وأورده الهيثمي في "المجمع" (10/ 241) وقال: رواه أبو يعلى ورجاله ثقات. قال الألباني وفيه من لم يوثقه أحد إلا ابن حبان، وضعفه البخاري والعقيلي -هو هلال بن سويد. انظر: "الضعيفة" رقم (6743). وهو حديث ضعيف. (¬4) رقم (6322، 6344). (¬5) في "الشعب" رقم (1464، 1478). وأخرجه الترمذي في "السنن" رقم (2362) وفي "الشمائل" رقم (347). وهو حديث صحيح. (¬6) بل أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2823) وأطرافه (4707، 6367)، 6371). (¬7) كأبي داود رقم (1540) والنسائي في "السنن" (8/ 257)، وأحمد (3/ 113، 117، 179، 231، 235)

وفتنة المحيا والممات". وأخرج الترمذي (¬1) من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:" خصلتان لا تجتمعان في قلب مؤمن: البخل، وسوء الخلق". وأخرج أبو داود (¬2)، والترمذي (¬3) بإسناد رجاله ثقات من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:" المؤمن غر كريم، والفاجر خب لئيم" (¬4). ¬

(¬1) في "السنن" رقم (1962) وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث صدقة بن موسى وهو حديث صحيح لغيره. (¬2) في "السنن" رقم (4760). (¬3) في "السنن" رقم (1964) وقال: حديث غريب. وهو حديث صحيح لغيره. (¬4) قال ابن الأثير في "النهاية" (3/ 354 - 355):" المؤمن غر كريم، أي ليس بذي نكر، فهو ينخدع لانقياده ولينه، وهو ضد الخب، يقال فتى غر وفتاة غر، وقد غررت تغر غرارة. يريد أن المؤمن المحمود من طبعه الغرارة، وقلة الفطنة للشر، وترك البحث عنه، وليس ذلك منه جهلا، ولكنه كرم وحسن خلق. الخب: بالفتح الخداع، وهو الجربز الذي يسعى بين الناس بالفساد رجل خب وامرأة خبة. وقد تكسر خاؤه. فأما المصدر فبالكسر لا غير. "النهاية" (2/ 4).

[عدل الله في خلقه]. قوله: " يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله عز وجل، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" (¬1). ¬

(¬1) قال ابن تيمية في شرحه للحديث (ص89 - 95): في رسالة يا عبادي ... بتحقيقنا. ثم ختمه بتحقيق ما بينه فيه من عدله وإحسانه فقال:" يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" فبين أنه محسن إلى عباده في الجزاء على أعمالهم الصالحة إحسانا يستحق به الحمد؛ لأنه هو المنعم بالأمر بها، والإرشاد إليها، والإعانة عليها ثم إحصائها ثم توفية جزائها. فكل ذلك فضل منه وإحسان، إذ كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل، وهو وإن كان قد كتب على نفسه الرحمة وكان حقا عليه نصر المؤمنين كما تقدم بيانه، فليس وجوب ذلك كوجوب حقوق الناس بعضهم على بعض الذي يكون عدلا لا فضلا؛ لأن ذلك إنما يكون لكون بعض الناس أحسن إلى البعض فاستحق المعاوضة، وكان إحسانه إليه بقدرة المحسن دون المحسن إليه، ولهذا لم يكن المتعاوضان ليخص أحدهما بالتفضل على الآخر لتكافئها، وهو قد بين في الحديث أن العباد لم يبلغوا ضره فيضروه ولن يبلغوا نفعه فينفعوه فامتنع حينئذ أن يكون لأحد من جهة نفسه عليه حق، بل هو الذي أحق الحق على نفسه بكلماته فهو المحسن بالإحسان وبإحقاقه وكتابته على نفسه فهو في كتابة الرحمة على نفسه وإحقاقه نصر عباده المؤمنين ونحو ذلك محسن إحسانا مع إحسان فليتدبر اللبيب هذه التفاصيل التي يتبين بها فصل الخطاب في هذه المواضع التي عظم فيها الاضطراب فمن بين موجب على ربه بالمنع أن يكون محسنا متفضلا، ومن بين مسوي بين عدله وإحسانه وما تنزه عنه من الظلم والعدوان، وجاعل الجميع نوعا واحدا، وكل ذلك حيد عن سنن الصراط المستقيم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. وكما بين أنه محسن في الحسنات متم إحسانه بإحصائها والجزاء عليها بين أنه عادل في الجزاء على السيئات فقال:" ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" كما تقدم بيانه في مثل قوله: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [هود:101] وعلى هذا الأصل استقرت الشريعة الموافقة لفطرة الله التي فطر الناس عليها، كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري - (رقم 5947 - البغا) - عن شداد بن أوس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:" سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت " ففي قوله:" أبوء لك بنعمتك علي " اعتراف بنعمته عليه في الحسنات وغيرها وقوله:" وأبوء بذنبي " اعتراف منه بأنه مذنب ظالم لنفسه، وبهذا يصير العبد شكورا لربه مستغفرا لذنبه، فيستوجب مزيد الخير وغفران الشر من الشكور الغفور، الذي يشكر اليسير من العمل ويغفر الكثير من الزلل. وهنا انقسم الناس ثلاثة أقسام في إضافة الحسنات والسيئات التي هي: الطاعات والمعاصي إلى ربهم وإلى نفوسهم، فشرهم الذي إذا ساء أضاف ذلك القدر، واعتذر بأن القدر سبق بذلك، وأنه لا خروج له عن القدر فركب الحجة على ربه في ظلمه لنفسه، وإن أحسن أضاف ذلك إلى نفسه ونسي نعمة الله عليه في تيسيره لليسرى، وهذا ليس مذهب طائفة من بني آدم ولكنه حال شرار الجاهلين الظالمين الذين لا حفظوا حدود الأمر والنهي، ولا شهدوا حقيقة القضاء والقدر. كما قال فيه الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي: أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به. وخير الأقسام وهو القسم المشروع وهو الحق الذي جاءت به الشريعة أنه إذا أحسن شكر نعمة الله عليه، وحمده إذ أنعم عليه بأن جعله محسنا ولم يجعله مسيئا، فإنه فقير محتاج في ذاته وصفاته وجميع حركاته وسكناته إلى ربه، ولا حول ولا قوة إلا به. فلو لم يهده لم يهتد، كما قال أهل الجنة: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) [الأعراف:43]. وإذا أساء اعترف بذنبه واستغفر ربه وتاب منه وكان كأبيه آدم الذي: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف:23]. ولم يكن كإبليس الذي قال: (بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [الحجر: 39 - 40] ولم يحتج بالقدر على ترك مأمور ولا فعل محظور مع إيمانه بالقدر خيره وشره، وأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء ونحو ذلك. وهؤلاء هم الذين أطاعوا الله في قوله في هذا الحديث:" فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه "- تقدم تخريجه-. ولكن بسط ذلك وتحقيق نسبة الذنب إلى النفس مع العلم بأن الله خالق أفعال العباد فيه أسرار ليس هذا موضعها. ومع هذا فقوله تعالى: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء:78 - 79]، ليس المراد بالحسنات والسيئات في هذه الآية الطاعة والمعاصي، كما يظنه كثير من الناس حتى يحرف بعضهم القرآن ويقرأ: (فَمِنْ نَفْسِكَ) ومعلوم أن معنى هذه القراءة يناقض القراءة المتواترة، وحتى يضمر بعضهم القول على وجه الإنكار له وهو قول الله الحق فيجل قول الله الصدق الذي يحمد ويرضى قولا للكفار يكذب به ويذم ويسخط بالإضمار الباطل الذي يدعيه من غير أن يكون في السياق ما يدل عليه. ثم إن من جهل هؤلاء ظنهم أن في هذه الآية حجة للقدرية - تقدم التعريف بهم - واحتجاج بعض القدرية بها، وذلك أنه لا خلاف بين الناس في أن الطاعات والمعاصي سواء من جهة القدر. فمن قال: إن العبد هو الموجد لفعله دون الله أو هو الخالق لفعله وأن الله لم يخلق أفعال العباد. فلا فرق عنده بين الطاعة والمعصية. ومن أثبت خلق الأفعال وأثبت الجبر أو نفاه، أو أمسك عن نفيه وإثباته مطلقا وفصل المعنى أو لم يفصله فلا فرق عنده بين الطاعة والمعصية. فتبين أن إدخال هذه الآية في القدر في غاية الجهالة. وذلك أن الحسنات والسيئات في الآية المراد به المسار والمضار دون الطاعات والمعاصي، كما في قوله تعالى: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأعراف:168] وهو الشر والخير في قوله: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء:35]. وكذلك قوله: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا) [آل عمران:120] وقوله تعالى (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي) [هود:10].وقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [الأعراف:94 - 95]. وقوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ) [الأعراف:131]. فهذه حال فرعون وملئه مع موسى ومن معه كحال الكفار والمنافقين والظالمين مع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، إذا أصابهم نعمة وخير قالوا: لنا هذه أو قالوا: هذه من عند الله، وإن أصابهم عذاب وشر تطيروا بالنبي والمؤمنين وقالوا: هذه بذنوبهم. وإنما هو بذنوب أنفسهم لا بذنوب المؤمنين. وهو سبحانه ذكر هذا في بيان حال الناكلين عن الجهاد الذين يلومون المؤمنين على الجهاد فإذا أصابهم نصر ونحوه قالوا: هذا من عند الله. وإن أصابتهم محنة قالوا: هذه من عند هذا الذي جاءنا بالأمر والنهي والجهاد، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) إلى قوله: (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) إلى قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ) إلى قوله: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا) أي: هؤلاء المذمومين يقولون: (هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) أي: بسبب أمرك ونهيك قال الله تعالى: (فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ) من نعمة (فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء: 71 - 72] أي: فبذنبك. كما قال (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى:30]، وقال (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) [الروم:36]. وأما القسم الثالث: في هذا الباب: فهم قوم لبسوا الحق بالباطل وهم بين أهل الخير وبين شرار الناس وهم الخائضون في القدر بالباطل. فقوم يرون أنهم هم الذين يهدون أنفسهم ويضلونها ويوجبون لها فعل الطاعة وفعل المعصية بغير إعانة منه وتوفيق للطاعة ولا خذلان منه في المعصية. وقوم لا يثبتون لأنفسهم فعلا ولا قدرة ولا أمرا، ثم من هؤلاء من يبخل عنه الأمر والنهي فيكون أكفر الخلق وهم في احتجاجهم بالقدر متناقضون، إذ لا بد من فعل يحبونه وفعل يبغضونه، ولا بد لهم ولكل أحد من دفع الضرر الحاصل بأفعال المعتدين. فإذا جعلوا الحسنات والسيئات سواء لم يمكنهم أن يذموا أحدا ولا يدفعوا ظالما ولا يقابلوا مسيئا وأن يبيحوا للناس من أنفسهم كل ما يشتهيه مشته ونحو ذلك من الأمور التي لا يعيش عليها بنو آدم، إذ هم مضطرون إلى شرع فيه أمر ونهي أعظم من اضطرارهم إلى الأكل واللباس".

لما ذكر لهم سبحانه وتعالى ما هو رأس مصالح المعاش والمعاد: وهو تحريم الظلم، وأنه حرمه على نفسه وجعله محرما بينهم، ثم نهاهم عن التظالم ليتم لهم فيما بينهم سيرة العدل ومسلك الخير. ثم ذكر لهم ثانيًا: أنهم على ضلال إلا من هداه الله عز وجل وأخرجه من ظلمات

الضلال إلى أنوار الهداية، وأمر بأن يطلبوا منه الهداية ليظفروا بها بخير الآخرة، ويفوزوا بالنعيم المقيم. ثم ذكر لهما ثالثًا: أن ما يحتاجون إليه في هذه الدار مما تدعو الضرورة إليه ولا يتم المعاش إلا به، وهو قوام الأنفس من الطعام ووقاية الأبدان من ضرر ما لا بد منه البر وستر العورات، وهو من فضله العميم وجوده الواسع، وأمرهم أن يطلبوا ذلك منه ليتفضل به عليهم ويعطيهم طلبتهم، ويسعفهم بقضاء حاجتهم. ثم ذكر لهم: ما جلبوا عليه من كثرة الخطايا في غالب أوقاتهم، وندبهم إلى ما يمحو ذلك عنهم، ويزيل أثره، وهو الاستغفار، ووعدهم أنه سيغفر لهم ويتجاوز عنهم، ثم ذكر لهم: أنه فعل ما فعل لهم وتفضل بما تفضل به عليهم من غير أن يكون له منهم فائدة أو عليه مضرة، وأنه إنما أعطاهم ما أعطى ومنحهم ما منح لمجرد الفضل العميم والكرم الجسيم. ثم أخبرهم: بأن عطاه الجم وتفضله العم لا ينقص بكثرة العطايا، وإن يلعب أبلغ المبالغ ووصلت إلى حد يقصر عنه الوصف، ويضيق الذهن عن تصوره، وتقصر العقول عن إدراكه. ثم بعد هذا كله: أخبرهم بأن ما وجدوه من الخير فهو من إنعامه عليهم لا من كسبهم ولا من سعيهم، ثم أمرهم: بالحمد له سبحانه عليهم، وما وجدوه من غير الخير فهو عقوبة أعمالهم وجزاء ضلالهم، فليعودوا باللوم على أنفسهم في الجالبة لذلك عليهم (وعلى نفسها براقش تجني) (¬1)، ولولا رحمته التي وسعت كل شيء، ومغفرته للمستغفرين، وتوبته على التائبين، لكانوا أحقاء بما كان لأعمالهم جزاء وفاقا، ولكسب أيديهم مثلا طباقا، وسبحان من كتب على نفسه الرحمة، ومن سبقت رحمته غضبه، وما في هذا الحديث القدسي هو مثل ما في الكتاب العزيز من قوله عز وجل: {مَا ¬

(¬1) تقدم شرح المثل.

أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (¬1). وقوله سبحانه: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} (¬2). وقوله سبحانه: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (¬3). ولا ينافي ما في هذه الآيات قوله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ ... } (¬4) إلى آخر الآية. لأن غاية ما في هذه الآية: أن ذلك سابق في الكتاب وهو اللوح المحفوظ، وكل أسباب الخير والشر سواء كانت من العبد أو من غيره هي في الكتاب، قد سبق العلم بها وجف القلم بما هو كائن، ومثل هذا قوله عز وجل: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} (¬5). والكلام في هذا البحث يطول، وقد أوضحناه في كثير من مؤلفاتنا. والحاصل أنه لا تعارض بين سبق العلم وكون ما وقع من العبد هو بقضاء الله وقدره وبين عقوبة العاصي بمعصيته، وهذا لا يفهمه إلا من فهم الفرق بين الحقائق الكونية والحقائق الدينية. قوله: قال سعيد، كان أبو إدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جثى على ركبتيه. أقول: سبب هذا عند رواية هذا الحديث العظيم ما اشتمل عليه من المواعظ، والزواجر، والترغيبات، والترهيبات، والبشارات، والإنذارات. ¬

(¬1) [النساء: 79]. (¬2) [طه: 15] (¬3) [البقرة: 286]. (¬4) [الحديد: 22] (¬5) [التوبة: 51]

وحق لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد أنه يحصل معه عند رواية هذا الحديث أو سماعه ما يرجف قلبه، ويقشعر له جلده، خوفا من الله عز وجل وتعظيما لشأنه العظيم. قوله: "إن الله تبارك وتعالى يقول: يا عبادي كلكم مذنب إلا من عافيته، فاسألوا المغفرة أغفر لكم، ومن علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة واستغفرني بقدرتي غفرت له". ذكر في هذه الرواية أن كل العباد لا يخلو أحد منهم من الذنب إلا من عافاه الله، وفي الرواية الأولى أنهم جميعا يخطئون بالليل والنهار إلا من غفر له، ولا مخالفة بين الروايتين؛ لأن العافية منه عز وجل إذا تفضل بها على عبده عصمه عن مواقعة الذنب، ومن أذنب فقد أمره بأن يسأله المغفرة، وأيضا العافية هي الشاملة لعافية الدنيا والآخرة، ومغفرة الذنوب هي الفرد الكامل من أفرادها، وعليها تدور مصالح المعاد، وبها النجاة من النار والفوز بالجنة، ولهذا قال بعد ذكر العافية في هذه الرواية: "فاسألوني المغفرة أغفر لكم". وقد ورد في طلب العافية من الرب عز وجل أحاديث متواترة ومنها: ما أخرجه أحمد (¬1) والترمذي (¬2) وحسنه، والنسائي (¬3)، وابن ماجه (¬4)، وابن حبان (¬5) والحاكم (¬6) وصححاه من حديث أبي بكر الصديق أنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه ¬

(¬1) في " المسند" (1/ 3، 4، 5، 7، 8، 9، 11) بإسناد حسن. (¬2) في "السنن" رقم (3558) وقال: حديث حسن غريب. (¬3) في "السنن"، وفي "عمل اليوم والليلة" رقم (879، 888) وفي "السنن الكبرى" (6/ 220 رقم 10715) من طرق عن جماعة من الصحابة وأحد أسانيده صحيح. (¬4) في "السنن" رقم (3849) (¬5) في صحيحه رقم (952) (¬6) في "المستدرك" (1/ 529) وصححه ووافقه الذهبي

وآله وسلم عام أول على المنبر -ثم بكى- فقال: "سلوا الله العفو والعافية، فإن أحدا لم يعط بعد اليقين خيرا من العافية". وإنما لم يصححه الترمذي لأن في إسناده: عبد الله بن محمد بن عقيل، وفيه مقال (¬1). وقد حكى البخاري (¬2) أن أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه والحميدي كانوا يحتجون بحديثه. وأخرج البزار (¬3) بإسناد رجاله رجال الصحيح -غير موسى بن السائب وهو ثقة- من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "ما سأل العباد شيئا أفضل من أن يغفر لهم ويعافيهم". وأخرج البزار (¬4) أيضًا بإسناد رجاله ثقات من حديث أنس قال: مر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بقوم مبتلين فقال: "أما كان هؤلاء يسألون الله العافية". ¬

(¬1) قال ابن معين: ضعيف، وقال الترمذي: صدوق، وقال ابن حبان: رديء الحفظ. قال الذهبي: حديثه في مرتبة الحسن. "الميزان" (2/ 484 رقم 4536). وفي "الثقات" (2/ 58 رقم 963): قال العجلي: عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب مدني تابعي ثقة، جائز الحديث. (¬2) انظر "الميزان" (2/ 485 رقم 4536) (¬3) في مسنده (4/ 51 - 52 رقم 3176 - كشف). وقال البزار: لا نعلمه يروى بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه، وسالم لم يسمع من أبي الدرداء. وأورده الهيثمي في "المجمع" (10/ 174) وقال: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير موسى بن السائب وهو ثقة. (¬4) في مسنده (4/ 36 رقم 3134 - كشف). وقال البزار: لا نعلمه رواه عن حميد إلا ابن عياش. وأورده الهيثمي في "المجمع" (10/ 147) وقال: "رواه البزار وإسناده حسن، ورواه أبو يعلى بنحوه كذلك".

وأخرج الطبراني (¬1) بأسانيد ورجال بعضها رجال الصحيح -غير يزيد بن أبي زياد وهو حسن الحديث- من حديث العباس بن عبد المطلب قال: قلت: يا رسول الله علمني شيئا أدعو الله تعالى به؟ فقال: "سل ربك العافية". قال: فمكث أياما ثم جئت فقلت: يا رسول الله علمني شيئا أسأله ربي؟ فقال: "يا عم، سل الله العافية في الدنيا والآخرة". وقد أخرج هذا الحديث الترمذي في سننه (¬2) قال: "حدثنا بن منيع، حدثنا عبيد بن أحمد عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن العباس بن عبد المطلب، فذكره ... ". قال الترمذي (¬3) بعد إخراجه: هذا حديث صحيح، وعبد الله هو ابن الحارث بن نوفل، وقد سمع من العباس بن عبد المطلب. انتهى. وأخرج الطبراني في الكبير (¬4) من حديث ابن عباس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال لعمه العباس: "يا عم، أكثر الدعاء بالعافية". وفي إسناده هلال بن خباب (¬5) وقد ضعفه جماعة، وهو ثقة كما قال في مجمع الزوائد (¬6)، وبقية رجاله ثقات. وأخرج ................................................................... ¬

(¬1) أورده الهيثمي في "المجمع" (10/ 175). وقال رواه الطبراني بأسانيد ورجال بعضها رجال الصحيح غير يزيد بن أبي زياد وهو حسن الحديث. قلت: الحديث إسناده حسن. (¬2) في "السنن" رقم (3514) (¬3) في "السنن" (5/ 535). وهو حديث صحيح. (¬4) رقم (11908) وأورده الهيثمي في "المجمع" (10/ 175) وقال: رواه الطبراني وفيه هلال بن خباب وهو ثقة وقد ضعفه جماعة وبقية رجاله ثقات. (¬5) انظر "التقريب" رقم (7334)، "والميزان" (4/ 312) (¬6) (10/ 175).

الترمذي (¬1) وحسنه من حديث أنس: أن رجلا جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، أي الدعاء أفضل؟ قال: "سل ربك العافية والمعافاة في الدنيا والآخرة". ثم أتاه في اليوم الثاني فقال: يا رسول الله أي الدعاء أفضل؟ فقال له مثل ذلك. ثم أتاه في اليوم الثالث فقال له مثل ذلك، قال: "فإذا أعطيت العافية في الدنيا وأعطيتها في الآخرة فقد أفلحت". وأخرج الطبراني أيضًا في الكبير (¬2) من حديث معاذ بإسناد رجاله رجال الصحيح قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "ما من دعوة أحب إلى الله أن يدعو بها عبد من أن يقول: اللهم إني أسألك المعافاة أو (العافية) (¬3) في الدنيا والآخرة". وأخرج الطبراني في الكبير (¬4) أيضًا من حديث محمد بن عبد الله بن جعفر قال: كنت مع عبد الله بن جعفر إذ جاءه رجل فقال: مرني بدعوات ينفعني الله بهن، قال: نعم سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وسأله رجل عما سألتني عنه فقال: " سل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة". وفي إسناده [سليمان بن داود] (¬5) الشاذكوني، وفيه ضعف. وأخرج البزار (¬6) من حديث ابن عباس قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ¬

(¬1) في "السنن" رقم (3558) وقال: حسن غريب. وهو حديث ضعيف. (¬2) رقم (346) وأورده الهيثمي في "المجمع" (10/ 175) وقال رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير العلاء بن زياد وهو ثقة، ولكنه لم يسمع من معاذ. (¬3) في "مجمع الزوائد" (والعافية) (¬4) أورده الهيثمي في "المجمع" (10/ 175) وقال رواه الطبراني، وفيه سليمان بن داود الشاذكوني وهو ضعيف. (¬5) في المخطوط (سليمان بن موسى) وما أثبتناه من "الميزان" (2/ 205 رقم 3451). (¬6) في مسنده (4/ 60 رقم 3196 كشف). وأورده الهيثمي في "المجمع" (10/ 175) وقال رواه البزار، وفيه يونس بن خباب وهو ضعيف.

يقول: "اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي ... " الحديث. ومن ذلك ما أخرجه الترمذي (¬1) وحسنه، والنسائي (¬2)، وابن خزيمة (¬3) وابن حبان (¬4) وصححاه، من حديث أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة"، قيل: ماذا نقول يا رسول الله؟ قال: "سلوا الله العافية في الدنيا والآخرة". وأخرج النسائي (¬5) وغيره (¬6) من حديث أبي هريرة عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "سلوا الله العفو والعافية". والأحاديث في الباب واسعة جدا. ولما طلب منهم سبحانه سؤاله المغفرة، أخبرهم بأنه يغفر لهم لمجرد هذا الطلب، ثم ضم إلى ذلك أنه يغفر لمن علم من عباده أنه ذو قدرة على المغفرة واستغفره بقدرته غفر له وكل عبد من العباد وإن كان له من الإسلام أقل حظ يعلم أنه عز وجل يقدر على مغفرة الذنوب، وكيف يشك في ذلك شاك أو يتخالج عبد من عباده ريب، وهو خالق العالم بأسره ورب الكل، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو المتفضل الكريم المطلق، ¬

(¬1) في "السنن" رقم (3594) وقال: هذا الحديث حسن. (¬2) في "السنن الكبرى" (6/ 22 رقم 9895). (¬3) في صحيحه رقم (425، 426، 427). (¬4) في صحيحه رقم (1696). قال الألباني: منكر الحديث بهذا التمام. انظر: "الإرواء" (1/ 362) (¬5) في "السنن الكبرى" (6/ 221 رقم 10722). (¬6) " كابن حبان رقم (950). وأحمد في "المسند" (1/ 4). وهو حديث صحيح لغيره.

المتجاوز العفو الغفور. وفي هذه المفاصلة الفاضلة بشارات: 1 - منها أن عافيته سبحانه تعصم من عافاه من عباده عن الذنوب. 2 - ومنها أنه يغفر للمستغفرين. 3 - ومنها أنه يغفر لمن علم أنه ذو قدرة على مغفرة الذنوب. فانظر هذه الرحمة الواسعة والفضل الجم والكرم الفياض، وتصوره في الأحوال -ولله المثل الأعلى- لو رأيت بعض ملوك الدنيا وقد أشرف على عبيد له، يقول لهم هذه المقالة، لما وجدت عبارة تفي بوصف ما جبل عليه من الرأفة والرحمة والعلم، مع أنه مخلوق مثلهم، ومحتاج لما يحتاجون إليه من خالقه ورازقه وخالقهم ورازقهم، فكيف إذا كان القائل لهذه المقالة هو خالق السموات والأرض وما فيها، وخالق كل المخلوقات، ورازق جميع من يحتاج إلى الرزق من جميع خلقه، فإنك تجد ذهنك قد ضاف عن تصور بعض البعض من هذه الرحمة الواسعة والحلم العظيم والكرم العميم. سبحانك ما أعظم شأنك، سبحانك ما أعز سلطانك، سبحانك ما أجل إحسانك، سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأقول (¬1) لو كأن لي كل لسان لما ... وفيت بالشكر لبعض النعم فكيف لا أعجز عن شكرها ... وليس لي غير لسان وفم (¬2) قوله:" وكلكم ضال إلا من هديته، فاسألوني الهدى أهدكم". في هذه الرواية زيادة تصريح على ما في الرواية الأولى لأنه قال هنا:" فاسألوني الهدى أهدكم"، وفيما سبق قال:" فاستهدوني أهدكم"، ومعنى استهدوني: اطلبوا مني ¬

(¬1) أي الشوكاني رحمه الله (¬2) انظر "ديوان الشوكاني" (ص 328). ثم قال: هذا هو الإفضال هذا العطا الـ ... فياض هذا الجود هذا الكرم

الهداية (¬1)،والمعنى أنه سبحانه سجل على جميع عباده بالضلال فكان لهذا من الموقع في ¬

(¬1) قال ابن تيمية في شرحه للحديث: فلما ذكر في أول الحديث ما أوجبه من العدل وحرمه من الظلم على نفسه وعلى عباده ذكر بعد ذلك إحسانه إلى عباده مع غناه عنهم وفقرهم إليه، وأنهم لا يقدرون على جلب منفعة لأنفسهم ولا دفع مضرة إلا أن يكون هو الميسر لذلك، وأمر العباد أن يسألوه ذلك وأخبر أنهم لا يقدرون على نفعه ولا ضره مع عظم ما يوصل إليهم من النعماء ويدفع عنهم من البلاء، وجلب المنفعة ودفع المضرة إما أن يكون في الدين أو الدنيا. فصارت أربعة أقسام: الهداية والمغفرة: وهما جلب المنفعة ودفع المضرة في الدين والطعام والكسوة، وهما جلب المنفعة ودفع المضرة في الدنيا. وإن شئت قلت: الهداية والمغفرة يتعلقان بالقلب الذي هو ملك البدن وهو الأصل في الأعمال الإرادية، والطعام والكسوة يتعلقان بالبدن الطعام لجلب المنفعة واللباس لدفع المضرة، وفتح الأمر بالهداية فإنها وإن كانت الهداية النافعة هي المتعلقة بالدين فكل أعمال الناس تابعة لهدي الله إياهم، كما قال سبحانه: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) [الأعلى: 1 - 3]. وقال موسى: (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) [طه:50]. وقال تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد:10]. وقال تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [الإنسان:3]. ولهذا قيل الهدى أربعة أقسام: 1 - الهداية إلى مصالح الدنيا فهذا مشترك بين الحيوان الناطق والأعجم وبين المؤمن والكافر. 2 - الهدى بمعنى دعاء الخلق إلى ما ينفعهم وأمرهم بذلك، وهو نصب الأدلة وإرسال الرسل. وإنزال الكتب، فهذا أيضًا يشترك فيه جميع المكلفين سواء آمنوا أو كفروا، كما قال تعالى: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) [فصلت:17]. وقال تعالى: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) [الرعد:7]. وقال تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى:52]. فهذا مع قوله: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) [القصص:56]، يبين أن الهدى الذي أثبته هو البيان والدعاء والأمر والنهي والتعليم وما يتبع ذلك ليس هو الهدى الذي نفاه وهو القسم الثالث الذي لا يقدر عليه إلا الله. 3 - الهدى الذي هو جعل الهدى في القلوب وهو الذي يسميه بعضهم بالإلهام، والإرشاد وبعضهم يقول: هو خلق القدرة على الإيمان كالتوفيق عندهم ونحو ذلك وهو بناء على أن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل فمن قال ذلك من أهل الإثبات جعل التوفيق والهدى ونحو ذلك خلق القدرة على الطاعة، وأما من قال إنهما استطاعتان: إحداهما: قبل العقل وهي الاستطاعة المشروطة في التكليف كما في قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) [آل عمران:97] .. والثانية: المقارنة للعقل وهي الموجبة له وهي المنفية عمن لم يفعل في مثل قوله: (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ) [هود:20]. 4 - الهدى في الآخرة، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) [الحج:23 - 24].

قلوب العباد ما تضيق له الصدور وتقشعر له الجلود، ثم فتح [لهم] (¬1) باب الهداية، وعرفهم أنهم يخرجون من هذه الظلمة إلى النور بمجرد سؤاله عز وجل الهداية لهم، وأنه سيهديهم لا محالة إذا طلبوا ذلك منه، وهو صادق الوعد لا يخلف الميعاد، وقد تقدم بيان سبب كونهم مجبولين على الضلال. قوله:"وكلكم فقير إلا من أغنيته فسلوني أرزقكم". هذه الرواية أعم من الرواية الأولى، وأكثر فائدة، فإنه سبحانه هنالك قال:" يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم". فلقد خص في هذه الرواية: الطعام والكسوة لكونهما أهم ما يحتاجه العباد وأعظم ما تدعو حاجتهم إليه. ¬

(¬1) في المخطوط (لكم) والصواب ما أثبتناه

وأما قوله:" كلكم فقير إلا من أغنيته"، فالافتقار كما يكون إلى الطعام والكسوة يكون أيضًا إلى غيرهما من الشراب والمسكن وما يقوم به المعاش في هذه الدار، ثم قال: "إلا من أغنيته": أي " كفيته جميع ما تدعوا حاجته إليه من كل ما لا بد منه، ثم قال:" فسلوني أرزقكم" فأمرهم بالسؤال مطلقا، وقد تقرر في علم البيان: أن حذف المتعلق مشعر بالعموم (¬1). فالمعنى: سلوني ما شئتم حتى أرزقكم إياه وأعطيكم ما تطلبون من كل حاجة تحتاجونها كائنة ما كانت. ¬

(¬1) قال الزركشي في "البحر المحيط" (3/ 162) حذف المعمول نحو زيد يعطي ويمنع، يشعر بالتعميم، وقوله: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ) [يونس:25] أي كل أحد وهذا لم يتعرض له الأصوليون، وإنما ذكره أهل البيان، وفيه بحث، فإن ذلك إنما أخذ من القرائن وحينئذ فإن دلت القرينة على أن المقدر يجب أن يكون عاما فالتعميم من عموم المقدر سواء ذكر أو حذف، وإلا فلا دلالة على التعميم فالظاهر أن العموم فيما ذكر إنما هو دلالة القرينة على أن المقدر عام، والحذف إنما هو لمجرد الاقتضاء لا التعميم. وانظر:" معترك الأقران في إعجاز القرآن" (228 - 230).

[ملك الله لا ينقص بالعطاء]. قوله:" ولو أن حيكم وميتكم، وأولكم وآخركم، ورطبكم ويابسكم، اجتمعوا فكانوا على قلب أتقى عبد من عبادي، لم ينقص من ملكي جناح بعوضة". هذه الرواية أشمل من الرواية الأولى لأنه سبحانه قال هناك:" لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم ... إلخ" وقال هنا:" لو أن (جميع) (¬1) حيكم وميتكم"، فصرح بالأموات فكان أوضح من ذكر مجرد ذكر الأولية والآخرية، وقد دخل في قوله:" يا عبادي " الجن كما دخل الإنس. ثم صرح بما يشمل الأولين والآخرين بقوله:" وأولكم وآخركم" ثم جاء بما يشمل الجمادات كلها ناميها وغيره، فقال:" ورطبكم ويابسكم"، وبهذا تعرف أن في هذه الرواية زيادة فائدتين: الأولى: التنصيص على الأموات بعد الأحياء. الثاني (¬2) ذكر أعم العام وهو كل رطب ويابس. وأما التعبير بجناح البعوضة فهو لقصد المبالغة في التعميم، ولا نقص أصلا كما تقدم. قوله:" ولو أن حيكم وميتكم، وأولكم وآخركم، ورطبكم ويابسكم، [اجتمعوا] (¬3) فسأل كل سائل منهم ما بلغت أمنيته، ما نقص من ملكي إلا كما لو أن أحدكم مر بشفة البحر فغمس فيها إبرة ثم نزعها، ذلك بأني جواد ماجد، عطاي كلام، إذا أردت شيئا فإنما أقول له: كن فيكون". ذكر سبحانه في هذه الرواية أن كل سائل ما بلغت أمنيته، وذكر فيما تقدم أنه أعطى ¬

(¬1) ليست كلمة (جميع) من متن الحديث. انظر نص الحديث. (¬2) صوابه (الثانية) (¬3) زيادة من نص الحديث: انظره فقد تقدم آنفا

كل إنسان منهم مسألته، والظاهر أن هذه الرواية أشمل مما تقدم لأنه جعل مدى المسألة ما بلغت إليه أمنيته، وما يتمناه الإنسان من الفوائد العاجلة والآجلة في غاية الكثرة، بخلاف إعطاء السائل مسألته، فإن المسألة قد تكون بالكثير من الفوائد وقد تكون بالواحدة منها، وأما قوله:" فغمس فيها إبرة ثم نزعها"، فهو كقوله في الرواية المتقدمة:" ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط ... "، لأن الإبرة هي المخيط وإن اختلفت في الصغر والكبر. وأما قوله:" ذلك بأني جواد ماجد عطاي كلام إذا أردت شيئا إنما أقول له: كن فيكون". فهو يفيد أن قوله في الرواية الأولى:" ما نقص مما عندي"، وأن قوله هنا:" ما نقص من ملكي" (¬1)، ومعناها: من مقدوري، وأما قوله:" إذا أردت شيئا إنما ¬

(¬1) قال ابن تيمية في شرحه للحديث (ص 82 - 88): فبين أن جميع الخلائق إذا سألوا وهم في مكان واحد وزمان واحد فأعطى كل إنسان منهم مسألته لم ينقصه ذلك مما عنده، إلا كما ينقص الخياط: (وهي الإبرة) إذا غمس في البحر. وقوله:" لم ينقص مما عندي "فيه قولان: (أحدهما): أنه يدل على أن عنده أمورا موجودة يعطيهم منها ما سألوه إياه وعلى هذا فيقال: لفظ النقص على حاله، لأن الإعطاء من الكثير. وإن كان قليلا فلا بد أن ينقصه شيئا ما، ومن رواه:" لم ينقص من ملكي" يحمل على ما عنده، كما في هذا اللفظ فإن قوله:" مما عندي" فيه تخصيص ليس هو في قوله:" من ملكي" وقد يقال: المعطى إما أن يكون أعيانا قائمة بنفسها، أو صفات قائمة بغيرها. فأما الأعيان: فقد تنقل من محل آخر، كما يوجد نظير علم المعلم في قلب المتعلم من غير زوال علم المعلم، وكما يتكلم المتكلم بكلام المتكلم قبله من غير انتقال كلام المتكلم الأول إلى الثاني، وعلى هذا فالصفات لا تنقص مما عنده شيئا وهي من المسؤول الهادي، وقد يجاب عن هذا بأنه هو من الممكن في بعض الصفات أن لا يثبت مثلها في المحل الثاني حتى تزول عن الأول، كاللون الذي ينقص وكالروائح التي تعبق بمكان وتزول. كما دعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حمى المدينة أن تنقل إلى مهيعة وهي الجحفة (أ). (أ) أخرجه البخاري رقم (1889، 3926) ومسلم رقم (480/ 1376). (والقول الثاني): أن لفظ النقص هنا كلفظ النقص في حديث موسى والخضر الذي في الصحيحين (أ) من حديث ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفيه:" أن الخضر قال لموسى لما وقع عصفور على قارب السفينة فنقر في البحر فقال يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر " ومن المعلوم أن نفس علم الله القائم بنفسه لا يزول منه شيء بتعلم العباد وغنما المقصود أن نسبة علمي وعلمك إلى علم الله كنسبة ما علق بمنقار العصفور إلى البحر ومن هذا الباب كون العلم يورث كقوله:" العلماء ورثة الأنبياء" (ب) ومنه قوله: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ) (جـ) ومنه توريث الكتاب أيضًا كقوله: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) (د) ومثل هذه العبارة من النقص ونحوه تستعمل في هذا وإن كان العلم الأول ثابتا، كما قال سعيد بن المسيب لقتادة، وقد أقام عنده أسبوعا سأله فيه مسائل عظيمة حتى عجب من حفظه وقال: "نزفتني يا أعمى". وإنزاف القليب ونحوه هو رفع ما فيه بحيث لا يبقى فيه شيء، ومعلوم أن قتادة لو تعلم جميع علم سعيد لم يزل علمه من قلبه كما يزول الماء من القليب. لكن قد يقال التعليم إنما يكون بالكلام والكلام يحتاج إلى حركة وغيرها مما يكون بالمحل ويزول عنه، ولهذا يوصف بأنه يخرج من المتكلم كما قال تعالى: (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا) (هـ). (أ): تقدم تخريجه مرارا. (ب): وهو جزء من حديث حسن وقد تقدم. (جـ) [النمل:16]. (د): [فاطر:32]. (هـ): [الكهف:50]. ويقال قد أخرج العالم هذا الحديث ولم يخرج هذا. فإذا كان تعليم العلم بالكلام المستلزم زوال بعض ما يقوم بالمحل وهذا نزيف وخروج. كان كلام سعيد بن المسيب على حقيقته ومضمونه أنه في تلك السبع الليالي من كثرة ما أجابه وكلمه ففارقه أمور قامت به من حركات وأصوات بل ومن صفات قائمة بالنفس كان ذلك نزيفا. ومما يقوي هذا المعنى أن الإنسان وإن كان علمه في نفسه فليس هو أمرا لازما للنفس لزوم الألوان للمتلونات، بل قد يذهل الإنسان عنه ويغفل، وقد ينساه ثم يذكره فهو شيء يحضر تارة ويغيب أخرى وإذا تكلم به الإنسان وعلمه فقد تكل النفس وتعيا حتى لا يقوى على استحضاره إلا بعد (مدة) فتكون في تلك الحال خالية عن كمال تحققه واستحضاره الذي يكون به العالم عالما بالفعل، وإن لم يكن نفس ما زال هو بعينه القائم في نفس السائل والمستمع. ومن قال: هذا يقول كون التعليم يرسخ العلم من وجه لا ينافي ما ذكرناه، وإذا كان مثل هذا النقص والنزيف معقولا في علم العباد كان استعمال لفظ النقص في علم الله بناء على اللغة المعتادة في مثل ذلك، وإن كان هو سبحانه منزها عن اتصافه بضد العلم بوجه من الوجوه أو عن زوال علمه عنه لكن في قيام أفعال به وحركات نزاع بين الناس من المسلمين وغيرهم وتحقيق الأمر أن المراد: ما أخذ علمي وعلمك من علم الله وما نال علمي وعلمك من علم الله وما أحاط علمي وعلمك من علم الله كما قال: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) [البقرة: 255]. إلا كما نقص أو أخذ أو نال هذا العصفور من هذا البحر أي: نسبة هذا إلى هذا كنسبة هذا إلى هذا، وإن كان المشبه به جسما ينتقل من محل إلى محل ويزول عن المحل الأول، وليس المشبه كذلك، فإن هذا الفرق هو فرق ظاهر يعلمه المستمع من غير التباس كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر" (متفق عليه). فشبه الرؤية بالرؤية وهي وإن كانت متعلقة بالمرئي في الرؤية المشبهة والرؤية المشبه بها، لكن قد علم المستمعون أن المرئي ليس مثل المرئي فكذلك هنا شبه النقص بالنقص وإن كان كل من الناقص والمنقوص، والمنقوص منه المشبه ليس مثل الناقص والمنقوص والمنقوص منه المشبه به. ولهذا كل أحد يعلم أن المعلم لا يزول علمه بالتعليم، بل يشبهونه بضوء السراج الذي يحدث يقتبس منه كل أحد ويأخذون ما شاءوا من الشهب وهو باق بحاله. وهذا تمثيل مطابق، فإن المستوقد من السراج يحدث الله في فتيلته أو وقوده نارا من جنس تلك النار، وإن كان قد يقال أنها تستحيل عن ذلك الهواء مع أن النار الأولى باقية. كذلك المتعلم يجعل في قلبه مثل علم المعلم مع بقاء علم المعلم، ولهذا قال علي رضي الله عنه: العلم يزكو على العمل أو قال: على التعليم والمال ينقصه النفقة، وعلى هذا فيقال في حديث أبي ذر أن قوله: " مما عندي" وقوله:" من ملكي" هو من هذا الباب وحينئذ فله وجهان: (أحدهما): أن يكون ما أعطاهم خارجا عن مسمى ملكه ومسمى ما عنده، كما أن علم الله لا يدخل فيه نفس علم موسى والخضر. (والثاني): أن يقال بل لفظ الملك وما عنده يتناول كل شيء وما أعطاهم فهو جزء من ملكه ومما عنده، ولكن نسبت إلى الجملة هذه النسبة الحقيرة ومما يحقق هذا القول الثاني أن الترمذي روى هذا الحديث من طريق عبد الرحمن بن غنم عن أبي ذر مرفوعًا فيه:" لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم ورطبكم ويابسكم سألوني حتى تنتهي مسألة كل واحد منهم فأعطيتهم ما سألوني ما نقص ذلك مما عندي كمغرز إبرة غمسها أحدكم في البحر وذلك أني جواد ماجد واجد عطائي كلام وعذابي كلام إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون". فذكر سبحانه أن عطاءه كلام وعذابه كلام يدل على أنه هو أراد بقوله:" من ملكي " "ومما عندي" أي: من مقدوري فيكون هذا في القدرة كحديث الخضر في العلم والله أعلم. ويؤيد ذلك أن في اللفظ الآخر الذي في نسخة أبي مسهر:" لم ينقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص البحر" وهذا قد يقال فيه: إنه استثناء منقطع أي: لم ينقص من ملكي شيئا لكن يكون حاله حال هذه النسبة وقد يقال: بل هو تام والمعنى على ما سبق.

أقول له كن فيكون "، فالمراد بالشيء: هو المعلوم له عز وجل قبل إبداعه، وقبل توجيه هذا الخطاب إليه، وليس المراد بالشيء هو الموجود في الخارج، فإن ذلك يستلزم تحصيل الحاصل، وهو محال. فالحاصل أن هذا من خطاب التكوين: وهو الذي يكون به عز وجل المخاطب ويخلقه به بدون طلب فعل من المخاطب ولا قدرة للمخاطب ولا إرادة ولا وجود، بخلاف خطاب التكليف (¬1) فإنه: الذي يطلب به من المأمور فعلا أو تركا يفعله بقدرته وإرادته، وإن كان ذلك جميعه بحول الله وقوته، وقد اختلف الناس في:" خطاب التكليف هل يصح أن يخاطب به المعدوم أم لا؟ " والبحث مستوفى في الأصول (¬2). ¬

(¬1) قال ابن تيمية: إن الإرادة نوعان إرادة الخلق وإرادة الأمر، فإرداة الأمر أن يريد من المأثور فعل ما أمر به، وإرادة الخلق أن يريد هو خلق ما يحدثه من أفعال العباد وغيرها. والأمر مستلزم للإرادة الأولى دون الثانية. والله تعالى أمر الكافر بما أراده منه بهذا الاعتبار. فإنه لا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد وإرادة الخلق هي المشيئة المستلزمة لوقوع المراد، فهذه الإرادة لا تتعلق إلا بالموجود، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ... ". "منهاج السنة النبوية" (1/ 388)، (2/ 296)، "إرشاد الفحول" (ص74). (¬2) قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" (ص 77): وقع الخلاف بين الأشعرية والمعتزلة هل المعدوم مكلف أم لا؟. فذهب الأولون إلى الأول، والآخرون، إلى الآخر، وليس مراد بتكليف المعدوم أن الفعل أو الفهم مطلوبان منه حال عدمه فإن بطلان هذا معلوم بالضرورة فلا يرد عليهم ما أورده الآخرون من أنه إذا امتنع تكليف النائم والغافل امتنع تكليف المعدوم بطريق الأول، بل مرادهم التعلق العقلي أي توجه الحكم في الأزل إلى من علم الله وجوده مستجمعا شرائط التكليف واحتجوا بأنه لو لم يتعلق التكليف بالمعدوم لم يكن التكليف أزليا لأن توقفه على الوجود الحادث يستلزم كونه حادثا واللازم باطل؛ فالملزوم مثله لأنه أزلي لحصوله بالأمر والنهي وهما كلام الله وهو أزلي، وهذا البحث يتوقف على مسألة الخلاف في كلام الله سبحانه، وهي مقررة في علم الكلام. واحتج الآخرون بأنه لو كان المعدوم يتعلق به الخطاب لزم أن يكون الأمر والنهي والخبر والنداء والاستخبار من غير متعلق موجود وهو محال، ورد بعدم تسليم كونه محالا بل هو محل النزاع. قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" بعد ذلك (ص78): وتطويل الكلام في هذا البحث قليل الجدوى بل مسألة الخلاف في كلام الله سبحانه وإن طالت ذيولها وتفرق الناس فيها فرقا وامتحن بها من امتحن من أهل العلم وظن من ظن أنها من أعظم مسائل أصول الدين ليس لها كثير فائدة، بل هي من فضول العلم. ولهذا صان الله سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم عن التكلم فيها.

ومن التكوين: ما أخرجه مسلم (¬1) وغيره (¬2) عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "إن الله خلق مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة". وما أخرجه البخاري (¬3) وغيره (¬4) من حديث عمران بن حصين عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السموات والأرض". ومن ذلك حديث (¬5) "إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، قال: ما ¬

(¬1) في صحيحه رقم (16/ 1653). (¬2) كالترمذي رقم (2156). (¬3) في صحيحه رقم (3190). (¬4) كالنسائي في "الكبرى" رقم (11240) (¬5) أخرجه الترمذي في "السنن" رقم (2155) وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه وهذا الشطر المذكور من الحديث حسن والله أعلم. قال القرطبي في "المفهم" (6/ 668 - 669) قوله: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة". أي: أثبتها في اللوح المحفوظ، أو فيما شاء، فهو توقيت للكتب، لا للمقادير، لأنها راجعة إلى علم الله تعالى وإرادته، وذلك قديم لا أول له، ويستحيل عليه تقديره بالزمان، إذ الحق سبحانه وتعالى بصفاته موجود، ولا زمان ولا مكان، وهذه الخمسون آلأف سنة سنون تقديرية، إذ قبل خلق السموات لا يتحقق وجود الزمان، فإن الزمان الذي يعبر عنه بالسنين والأيام والليالي إنما هو راجع إلى أعداد حركات الأفلاك، وسير الشمس، والقمر في مدة في علم الله تعالى لو كانت السموات موجودة فيها لعددت بذلك العدد، وهذا نحو مما قاله المفسرون في قوله: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) [الأعراف: 54] أي: في مقدار ستة أيام، ثم هذه الأيام كل يوم منها مقدار ألف سنة من سني الدنيا. كما قال تعالى: (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج: 47]. وكقوله تعالى: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) [السجدة: 5]. هذا قول ابن عباس وغيره من سلف المفسرين على ما رواه الطبري في "تاريخه" عنهم ويحتمل أن يكون ذكر الخمسين ألف جاء مجيء الإغياء في التكثير، ولم يرد عين ذلك العدد، فكأنه قال: كتب الله مقادير الخلائق قبل خلق هذا العالم بآحاد كثيرة وأزمان عديدة وهذا نحو مما قلناه في قوله تعالى: (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) [التوبة: 80]، والأول: أظهر وأولى. وقال القاضي عياض في "الإيمان من إكمال المعلم بفوائد صحيح مسلم" (2/ 696 - 697) وفيه -الحديث- حجة لمذهب أهل السنة في الإيمان بصحة كتاب الوحي المقادير في كتب الله تعالى من اللوح المحفوظ وما شاء بالأقلام التي هو تعالى يعلم كيفيتها على ما جاءت به الآيات من كتاب الله، والأحاديث الصحيحة -انظر ما تقدم منها- وأن ما جاء في ذلك على ظاهره، لكن كيفية ذلك وجنسه وصورته مما لا يعلمه إلا الله أو من أطلعه على غيبه من ذلك من ملائكته ورسله ومما لا يتأوله ويحيله عن ظاهره إلا ضعيف النظر والإيمان". إذا جاءت به الشريعة ودلائل العقول لا تحيله. والله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، حكمة من الله، وإظهارا لما شاء من غيبة لمن شاء من ملائكته وخلقه وإلا فهو الغني عن الكتب والاستذكار لا إله غيره. انظر: "مجموع الفتاوى" (3/ 148) (7/ 381 - 386). انظر: "فتح الباري" (3/ 245 - 247) (6/ 477 - 515)، "شفاء العليل" لابن القيم (1/ 91).

أكتب؟ قال: ما هو كائن إلى يوم القيامة". فالمراد (في الآية) (¬1) أنه سبحانه يقول للشيء الثابت في علمه كن فيكون، وليس المراد أنه يقول للشيء الموجود في الخارج في كن فيكون حتى يلزم المحال، فالذي يقال له كن هو الذي يراد قبل أن يخلق لأنه متميز في علم الله سبحانه وسابق قدره. قوله في الرواية الثالثة: "يا ابن آدم كلكم مذنب إلا من عافيت، فاستغفروني أغفر لكم". أخبر سبحانه عباده بأنهم متلوثون بالذنوب مقارفون للمعاصي للعلة التي ذكرناها فيما تقدم إلا من عافاه الله منهم من الوقوع في موجبات الذنوب وأسبابها، وهؤلاء المذنبون قد فتح لهم عز وجل باب الرحمة، وندبهم إلى الاستغفار، وسد باب الإياس وأغلقه، لأنه سبحانه لا يتعاظمه ذنب كائنا ما كان حتى الشرك بالله! والكفر به!، فإنه لا خلاف أن الكافر إذا أسلم غفر الله له ذنوبه وجب الإسلام ما قبله، ولهذا يقول سبحانه: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ ... } إلى قوله: {فَإِنْ تَابُوا} (¬2) وفي الآية الأخرى: {فَإِنْ تَابُوا} إلى قوله: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (¬3). وقال سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} إلى قوله: {أَفَلَا يَتُوبُونَ .... } (¬4). فالتوبة من هذا الذنب الذي هو أشد الذنوب تمحوه! ويصير التائب من الذنب كمن لا ذنب له! وما عدا ذلك من الذنوب فالاستغفار يرفعه لأن مجرد الاستغفار مشعر بالتوبة إلا أن يكون الذنب من حقوق بني آدم المالية، فلا توبة منه إلا برده أو استطابة نفس ¬

(¬1) يشير إلى قوله تعالى: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل: 40]. (¬2) [التوبة: 5] (¬3) [التوبة: 11] (¬4) [المائدة: 73 - 74].

مالكه، وكذلك ما كان من حقوق بني آدم من الدماء فلا توبة إلا ببذل النفس للقصاص، أو الأرش فيما لا قصاص فيه، أو الإبراء، وما كان منها في الأعراض فلا بد من التحلل الكائن عن رضا وطيبة نفس، وإذا لم يحصل شيء من ذلك فالموعد القيامة بين يدي الحاكم العدل. وقد أخرج مسلم (¬1)! وغيره (¬2) من حديث أبي سعيد عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "أن أهل الجنة إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض من مظالم كانت بينهم في الدنيا، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة ... ". وصح (¬3) عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "من كانت عنده مظلمة لأخيه في دم أو مال فيتحللها منه قبل أن يأتي يوم ليس فيه درهم ولا دينار إلا الحسنات والسيئات، فإن كان له حسنات أخذ من حسناته بقدر مظلمته، وإلا أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه ثم طرح في النار". وأخرج البخاري في كتاب الأدب (¬4)، واستشهد به في صحيحه (¬5)، وأحمد (¬6)، وغيره (¬7) من حديث جابر قال: "إذا كان يوم القيامة فإن الله يجمع الخلائق في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه ¬

(¬1) بل أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2440) وطرفه (6535) (¬2) كأحمد في "المسند" (3/ 13، 57، 63، 74). (¬3) أخرج البخاري في صحيحه رقم (449) وطرفه (6534) في كتاب "المظالم والغصب" باب رقم (10/ 10) وفي كتاب الرقاق باب (48/ 48) القصاص يوم القيامة. (¬4) في "الأدب المفرد" رقم (973) (¬5) أي البخاري في صحيحه (1/ 173 - 174 رقم 78) تعليقا بصيغة الجزم. (¬6) في مسنده (3/ 495). (¬7) انظر "فتح الباري" (1/ 174)

من قرب: أنا الملك الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار ولأحد من أهل الجنة قبله مظلمة حتى أقضيه منه". قوله: "وكلكم فقير إلا من أغنيت فسلوني أعطكم". في هذا إرشاد للعباد إلى التوكل (¬1) على ربهم في أرزاقهم، وأن جميعهم فقراء إلا من ¬

(¬1) قال ابن تيمية في "شرح حديث:" يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي" ص62، وأما قوله: "يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته ... " يقتضي أصلين عظيمين: أحدهما: وجوب التوكل على الله في الرزق المتضمن جلب المنفعة كالطعام ودفع المضرة كاللباس، وأنه لا يقدر غير الله على الإطعام والكسوة قدرة مطلقة، وإنما القدرة التي تحصل لبعض العباد تكون على بعض أسباب ذلك ولهذا قال سبحانه: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة: 233]. وقال: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ) [النساء: 5]. فالمأمور به هو المقدور للعباد وكذلك قوله: (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، َتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) [البلد: 14، 15، 16]. وقوله: (وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) [الحج: 36] ... فذم من يترك المأمور به اكتفاء بما يجري به القدر، ومن هنا يعرف أن السبب المأمور به أو المباح لا ينافي وجوب التوكل على الله في وجود السبب بل الحاجة والفقر إلى الله ثابتة مع فعل السبب إذ ليس في المخلوقات ما هو وحده سبب تام لحصول المطلوب، ولهذا لا يجب أن تقترن الحوادث بما قد يجعل سببا إلا بمشيئة الله تعالى فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فمن ظن الاستغناء بالسبب عن التوكل فقد ترك ما أوجب الله عليه من التوكل، وأخل بواجب التوحيد، ولهذا يخذل أمثال هؤلاء إذا اعتمدوا على الأسباب فمن رجا نصرا أو رزقا من غير الله خذله الله كما قال علي رضي الله عنه: لا يرجون عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه وقد قال تعالى: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [فاطر: 2]. وهذا كما أن من أخذ في التوكل تاركا لما أمر به من الأسباب فهو أيضًا جاهل ظالم، عاص لله يترك ما أمره، فإن المأمور به عبادة لله وقد قال تعالى: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) [هود: 123]. وقال تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5].

أغناه الله، فدفع الفقر لا يغني فيه سعي ولا كسب، ولا حيلة للعبد في شيء من ذلك، بل الغنى بيد الله عز وجل، من أفاض عليه من خزائن ملكه صار غنيا، ولا ينافي ذلك السعي في أسباب الرزق، كما في قوله عز وجل: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ .... } (¬1). فإن الله عز وجل هو مسبب الأسباب، وهو الفاتح لأبواب الخير، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} (¬2) الآية. وقال سبحانه: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} (¬3). قوله: "وكلكم ضال إلا من هديت فسلوني الهدى أهدكم، ومن استغفرني وهو يعلم أني ذو قدرة على أن أغفر له، غفرت له ولا أبالي". لما كان أصل هذا النوع الإنساني الضلال والجهل، لأن الهدى والعدل لا بد أن يتقدمه علم، إذ من لا يعلم لا يدري ما العدل ولا ما الهدى حتى يعلم بذلك، فأخبر الله سبحانه عباده أن كلهم ضال إلا من هداه عز وجل، فهو الهادي، لا هادي سواه، ثم أرشدهم إلى أن يسألوه الهداية لهم، وكفل لهم إذا سألوه ذلك أن يجيبهم ويمنحهم ما سألوه، ويعطيهم ما طلبوه، ثم أرشدهم إلى أن يطلبوا منه المغفرة لذنوبهم بعد أن يعلموا أنه ذو قدرة على ذلك، وكل مسلم يعلم ذلك، فالتقييد بهذه الزيادة فيه الإشعار لهم بأنه ¬

(¬1) [الملك: 15] (¬2) [فاطر: 2] (¬3) [يونس: 107]

سيغفر لهم لا محالة، لأنه لا يوجد مسلم يخالف في هذه القدرة الربانية على مغفرة الذنوب، ثم زيادة قوله سبحانه: "ولا أبالي" تفيد مزيد التأكيد أنه فاعل لذلك، وأنه لا يتعاطفه شيء، ولا يبالي من شيء، ومن ذاك الذي يبالي به رب العالم وخالق الكل، والجميع عبيده وخلقه وتحت قدرته وتصرفه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وقد قدمنا شرح هذه الكلمات المذكورة في هذه الرواية الثالثة فيما قبلها، ولكنا نتعرض لمزيد فائدة وتقييد شاردة. قوله: "ولو أن أولكم وآخركم، وحيكم وميتكم، ورطبكم ويابسكم، اجتمعوا على قلب أشقى رجل منكم، ما نقص ذلك من سلطاني مثل جناح بعوضة، ولو أن أولكم وآخركم، وحيكم وميتكم، ورطبكم ويابسكم، اجتمعوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زادوا في سلطاني مثل جناح بعوضة". قد قدمنا الكلام على [هذا] (¬1) الفصل مستوفى، والمراد من هذا أنه سبحانه بين لهم أنه يحسن إليهم بما سبق ذكره وغيره، ولا يزيد إحسان المحسنين في سلطانه شيئا، فإن ذلك إنما هو عادة المخلوقين، فإن غالب أعطياتهم لبعضهم البعض لجلب النفع أو دفع الضر، وأما رب العالم وخالقهم ومحييهم ومميتهم فهو الغني المطلق، الذي لا يبلغ عابده نفعه ولا يستطيعون ضره، وكيف يستطيع ذلك من هو في الضعف والعجز بمكان، بحيث لا يجلب لنفسه نفعا ولا يدفع عنها ضرا، فكيف يقدر على أن يجلب لغيره من المخلوقات نفعا أو يدفع عنهم ضرا، فتعالى الله الملك الحق وتقدس عن أن يقع في خلد أحد من عباده، مسلمهم وكافرهم، ومطيعهم وعاصيهم، أنه يعود إلى ربه الخالق له، والرازق والمحيي له والمميت، زيادة في سلطانه من طاعته أو نقص فيه من عصيانه. قوله:" ولو أن أولكم وآخركم، وحيكم وميتكم، ورطبكم ويابسكم، سألوني ¬

(¬1) في المخطوط (هذه) والصواب ما أثبتناه.

حتى تنتهي مسألة كل واحد منهم، فأعطيتهم ما سألوني ما نقص ذلك مما عندي كمغرز إبرة لو غمسها أحدكم في البحر، وذلك أني جواد ماجد، عطاي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردت أن أقول له: كن فيكون". هذا الفصل قد تقدم شرحه مستوفى فلا نطيل الكلام عليه. وإلى هنا انتهى الشرح لحديث أبي ذر في شهر محرم سنة: (1240 هـ) بقلم مؤلفه محمد بن علي الشوكاني، غفر الله لهما.

سؤال وجواب في فقراء الغرباء الواصلين إلى مكة من سائر الجهات ومكثهم في المسجد الحرام

(181) 9/ 5 سؤال وجواب في فقراء الغرباء الواصلين إلى مكة من سائر الجهات ومكثهم في المسجد الحرام تأليف: محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: سؤال وجواب في فقراء الغرباء الواصلين إلى مكة من سائر الجهات ومكثهم في المسجد الحرام. 2 - موضوع الرسالة: آداب. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، وبعد فإنه وصل هذا السؤال من مكة المشرفة وهذا لفظه: 4 - آخر الرسالة: ...... ربما يقول به قائل ممن لا يعقل حجج الله، ولا يفهم براهينه وفي هذا المقدار كفاية والله ولي التوفيق. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 5 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 30 سطرا. ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها خمسة أسطر. 8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم وبعد: فإنه وصل السؤال من مكة المشرفة، وهذا لفظه: ما قولكم - رضي الله عنكم- في فقراء الغرباء الواصلين إلى مكة - شرفها الله - الواردين إليها من سائر الجهات، ومكثهم في المسجد الحرام بما معهم من الأمتعة، واتخاذهم إياه مسكنا، ونومهم فيه من صحيح ومريض وجريح، مع كشف عورات أغلبهم، وكثرة صياحهم وتشويشهم على المصلين في آخر المسجد مع الإمام اشتباه الإمام عليهم، ولو كان مبلغ بسبب رفع أصواتهم وترك بعضهم الصلاة مع الجماعة، ومنهم لغالب بقاع المسجد على المصلين بما معهم من الأمتعة المسترذلة، وتلويثهم المسجد بالأوساخ، والبزاق، والمخاط، والقيح والدم، والبول، والغائط المشاهد كل ذلك حسا وعيانا، المؤدي ذلك إلى هتك حرمة البيت الشريف الواجب تعظيمه وتوقيره، والمكث فيه مع الجنابة. وعلى ذلك مما هو مستقبح شرعا هل يباح مكثهم فيه على ما ذكر قياسا على فقراء المهاجرين من أهل الصفة (¬1) من الصحابة الكرام الذين أشرقت عليهم أنواره - عليه الصلاة والسلام - أم لا يباح ذلك؟ وعلى ولاة الأمر من القضاة والحكام منعهم وإخراجهم عنه، ولو منعوا من سكنى ما كان لهم من أربطة ودور ونحوها واستيلاء الغير عليها؟ أفيدوا بالجواب، ولكم من الله الوهاب جزيل الثواب آمين. ¬

(¬1) أهل الصفة: كانوا أضياف الإسلام، كانوا يبيتون في صفة مسجده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو موضع مظلل من المسجد. ولمزيد تفصيل عن أهل الصفة انظر كتاب "رجحان الكفة في بيان نبذة من أخبار أهل الصفة "للعلامة الحافظ: محمد بن عبد الرحمن السخاوي. تحقيق أبي عبيدة وأبي حذيفة ط. دار السلف

أجاب مولانا العلامة البدر محمد بن علي الشوكاني - كثر الله فوائده -. أقول: حامدا لله - سبحانه -، ومصليا على رسوله وآله - قد ثبت في هذه الشريعة المطهرة تنزيه المساجد على العموم بما هو دون هذه الأمور المذكورة في السؤال بكثير، فكيف بالمسجد الحرام الذي له من الفضائل الجزيلة، والمناقب الجميلة ما يصعب حصره، وتعسر الإحاطة به! وهو بيت الله - سبحانه - في أرضه، وقبلة العالم، ومكان حجهم! فمن جملة ما ورد في تنزيه المساجد على العموم ما أخرجه الشيخان (¬1) وغيرهما (¬2) عن ابن عمر قال:" بينما رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يخطب يوما إذ رأى نخامة في قبلة المسجد، فتغيظ على الناس ثم حكها قال: وأحسبه قال: فدعا بزعفران فلطخه به، وقال:" إن الله قبل وجه أحدكم إذا صلى فلا يبصق بين يديه". وأخرج ابن ماجه (¬3) من حديث أبي هريرة، وفي إسناده القاسم بن مهران، وهو مجهول (¬4)، وأخرج نحوه ابن خزيمة في صحيحه (¬5) من حديث أبي سعيد، وأخرج أيضا ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (406) ومسلم رقم (547) عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى بصاقا في جدار القبلة، فحكه، ثم أقبل على الناس فقال:" إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه، فإن الله قبل وجهه إذا صلى". (¬2) كأبي داود رقم (479) واللفظ له. (¬3) في:"السنن" رقم (1022). قلت: وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (550) وأحمد (2/ 250)، وهو حديث صحيح (¬4) بل هو القاسم بن مهران القيسي [مسلم، النسائي، ابن ماجه] خال هشيم فثقة. له عن أبي رافع الصائع، وعنه شعبة وعبد الوارث. وثقه ابن معين. حديثه في الزجر في القبلة. "ميزان الاعتدال" (3/ 380 رقم 6849). (¬5) (2/ 46، 63 رقم 880،926) وأخرجه أبو داود رقم (480) واحمد (3/ 24) والحاكم (1/ 257) بإسناد حسن. عن أبي سعيد الخدري قال: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعجبه العرجين أن يمسكها بيده، فدخل المسجد ذات يوم، وفي يده واحد منها، فرأى نخامات في قبلة المسجد فحتهن حتى أنقاهن، ثم أقبل على الناس مغضبا فقال:" أيحب أحدكم أن يستقبله رجل فيبصق في وجهه، إن أحدكم إذا قام إلى الصلاة، فإنما يستقبل ربه، والملك عن يمينه فلا يبصق بين يديه ولا عن يمينه".

نحوه أبو داود وغيره (¬1) من حديث ابن عمر أيضا. وأخرج أبو داود (¬2)، وابن خزيمة (¬3)، وابن حبان (¬4) في صحيحيهما عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -:" من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفله بين عينيه". وأخرجه الطبراني في الكبير (¬5) عن أبي أمامة بنحوه. وأخرجها ابن حبان (¬6)، وابن خزيمة (¬7) في صحيحيهما، والبزار (¬8) عن ابن عمر بنحوه. وأخرج الشيخان (¬9) وغيرهما (¬10) من حديث أنس عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ¬

(¬1) أخرجه ابن خزيمة رقم (1312 و1313) وابن أبي شيبه (2/ 365). (¬2) في "السنن" رقم (3824) (¬3) في صحيحه (2/ 63 رقم 925) (¬4) في صحيحه رقم (1637) من حديث حذيفة. وهو حديث صحيح (¬5) (8/ 293 رقم 7960) عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من بزق في قبلته ولم بوارها جاءت يوم القيامة أحماما تكون حتى تقع بين عينيه". وأورده الهيثمي في "المجمع" (2/ 19) وقال: وفيه جعفر بن الزبير وهو ضعيف جدا. قلت وهو حديث ضعيف جدا (¬6) في صحيحه رقم (1636). (¬7) في صحيحه رقم (2/ 278 رقم 1313) (¬8) في مسنده (رقم 413 - كشف). وأورده الهيثمي في "المجمع" (2/ 19) وقال رواه البزار وفيه عاصم بن عمر، ضعفه البخاري وجماعة وذكره ابن حبان في الثقات. وهو حديث صحيح. عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يبعث صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة وهي في وجهه". (¬9) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (415) ومسلم رقم (552) (¬10) كأبي داود رقم (475) والنسائي (2/ 51)

قال:" البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها" وأخرجه أحمد (¬1) من حديث أبي أمامة بإسناد لا بأس به. وأخرج [1أ] أبو داود (¬2) وابن حبان في صحيحه (¬3) عن أبي سهلة السائب بن خلاد من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: (أن رجلا أم قوما فبصق في القبلة، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ينظر، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: لا يصلي بكم هذا ". فأراد بعد ذلك أن يصلى بهم فمنعوه، وأخبروه بقول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فذكر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقال:" نعم" قال: وأحسبه قال:" إنك آذيت الله ورسوله"). وأخرجه الطبراني في الكبير (¬4) بنحوه من حديث ابن عمرو، وذكر أن الصلاة هي الظهر. وأخرج الطبراني (¬5) بإسناد فيه نظر عن أبي أمامة رفعه قال:" إن العبد إذا قام في الصلاة فتحت له الجنان، وكشف له الحجب بينه وبين ربه، واستقبلته الحور العين ما لم يتمخط أو يتنخع". والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا. وقد ثبت النهي عن إنشاد الضالة في المسجد، وهو في الصحيح (¬6). ¬

(¬1) في "المسند" (5/ 260). وأخرجه ابن أبي شيبة (2/ 365) والطبراني رقم (8091، 8092، 8093، 8094). وهو حديث حسن لغيره. (¬2) في "السنن" رقم (481) (¬3) رقم (1634). وهو حديث حسن (¬4) كما في "المجمع" (2/ 20) وقال رواه الطبراني في "الكبير" ورجاله ثقات وهو حديث حسن. (¬5) كما في "المجمع" (2/ 19 - 20) وقال: رواه الطبراني في "الكبير" من طريق طريف بن الصلت عن الحجاج بن عبد بن هرم، ولم أجد من ترجمها. وهو حديث ضعيف (¬6) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (568) وأبو داود رقم (473) وابن ماجه رقم (767) وابن حبان في صحيحه رقم (1649) عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا ". وهو حديث صحيح.

وثبت أيضًا النهي عن البيع والشراء (¬1) والخصومة، ورفع الأصوات، ومن ذلك ما أخرجه ابن ماجه (¬2) من حديث واثلة بن الأسقع أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال:" جنبوا مساجدكم صبيانكم، ومجانينكم، وشراءكم وبيعكم، وخصوماتكم، ورفع أصواتكم، وإقامة حدودكم، وسل سيوفكم، واتخذوا على أبوابها المطاهر، وجمروها في الجمع". وأخرجه الطبراني في الكبير (¬3) من حديث أبي الدرداء، وأبي أمامة، وواثلة، ورواه في الكبير (¬4) أيضًا بتقديم وتأخير من رواية مكحول عن معاذ، ولم يسمع منه. ¬

(¬1) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا رأيتم من كان يبيع، أو يبتاع في المسجد، فقولوا لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد ضالة، فقولوا: لا رد الله عليك". أخرجه الترمذي رقم (1321) والنسائي في "عمل اليوم والليلة " رقم (176) وابن خزيمة (2/ 274) وابن حبان رقم (1650) والحاكم (2/ 56). وهو حديث صحيح. (¬2) في "السنن" رقم (750). وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/ 265 رقم 282): هذا إسناد ضعيف أبو سعيد هو محمد بن سعيد الصواب، قال أحمد عمدا كان يضع الحديث. وقال البخاري: تركوه وقال النسائي: كذاب. قلت: والحارث بن نبهان ضعيف ... وهو حديث ضعيف جدا (¬3) عزاه إليه الهيثمي في "المجمع" (2/ 19 - 20) وقال رواه الطبراني في "الكبير" من طريق طريف بن الصلت عن الحجاج بن عبد الله بن هرم، ولم أجد من ترجمهما. (¬4) في "المعجم الكبير" (20،173 رقم 369). وأورده الهيثمي في "المجمع" (2/ 26) وقال: رواه الطبراني في "الكبير" ومكحول لم يسمع من معاذ". قلت: وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف " (1/ 441 - 442 - 1726) عن عبد ربه بن عبد الله عن مكحول ليس بينهما يحيى بن العلاء. وخلاصة القول أن الحديث ضعيف والله أعلم.

وأخرج الترمذي (¬1)، وقال حديث حسن صحيح، والنسائي، وابن خزيمة، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم من حديث أبي هريرة عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال:" إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد ضالة فقولوا: لا ردها الله عليك ". وأخرج ابن حبان في صحيحه (¬2) الشطر الأول منه. إذا عرفت هذا فاعلم أنه قد ثبت في إنزال الغرباء في المساجد أحاديث منها أحاديث إنزال أهل الصفة بمسجده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وهي ثابتة في كتب الحديث والسير، والصفة موضع مظلل في مؤخرة المسجد يأوي إليه المساكين من المهاجرين، وأنزل فيها أيضًا رهطا من عكل لما قدموا على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كما في البخاري (¬3) وغيره (¬4) من حديث أنس، وأنزل وفد ثقيف المسجد. كما أخرجه أبو داود (¬5) من حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي، وأخرجه الطبراني في الكبير (¬6) من حديث عطية بن عبد الله بن سفيان، وفي إسناده محمد بن إسحاق، وقد عنعنه، ومنها ما أخرجه أحمد (¬7) والطبراني (¬8) من حديث أسماء بنت يزيد:" أن أبا ذر كان يخدم رسول ¬

(¬1) تقدم تخريجه آنفا. وهو حديث صحيح (¬2) رقم (1650) (¬3) في صحيحه رقم (233) ومن أطرافه [1501، 3018، 4192، 4193 ... ] (¬4) كمسلم في صحيحه رقم (1671). عكل: بضم المهملة وإسكان الكاف قبيلة من تميم الرباب، من عدنان. (¬5) في "المراسيل" (ص 80 رقم 17) بسند رجاله ثقات (¬6) لم أعثر عليه في المعجم الكبير (¬7) في "المسند" (6/ 457) بإسناد ضعيف. (¬8) في "الكبير" رقم (1623). ¬ وأورده الهيثمي في "المجمع" (2/ 222 - 223) وقال: رواه أحمد والطبراني بعضه في "الكبير" وفيه شهر بن حوشب وفيه كلام وقد وثق.

الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فإذا فرغ من خدمته أوى إلى المسجد، وقد كان بيته فيضطجع فيه". وأخرجه الطبراني في الأوسط (¬1) من حديث أبي ذر نفسه. وثبت في الصحيحين (¬2) وغيرهما:" أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربط ثمامة بن أثال بسارية من سواري المسجد " وثبت أيضًا في الصحيحين (¬3) وغيرهما:" أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنزل سعد بن معاذ في المسجد ليعوده من قريب، فلم يرعهم، وفي المسجد خيمة من بني غفار إلا الدم يسيل إليهم "الحديث. وثبت عند البخاري (¬4) وغيره من حديث عائشة في شأن المرأة السوداء في قصة ¬

(¬1) رقم (4456). وأورده الهيثمي في "المجمع" (5/ 223) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح إلا أن أبا سلسل ابن نفير لم يدرك أبا ذر. وأخرجه أحمد في "المسند" (5/ 144) بسند ضعيف. وأورده الهيثمي في "المجمع" (5/ 223) وقال: رواه أحمد وفيه شهر بن حوشب وهو ضعيف وقد وثق. (¬2) أخرجه البخاري رقم (469) ومسلم رقم (541) (¬3) أخرجه البخاري رقم (4122) ومسلم رقم (1769) (¬4) في صحيحه رقم (439) عن عائشة رضي الله عنها قالت أن وليدة كانت سوداء لحي من العرب فأعتقوها فكانت معهم. قالت: فخرجت صبية لهم عليها وشاح أحمر من سيور قالت فوضعته أو وقع منها. فمرت به حدياة وهو ملقى فحسبته لحما فخطفته، قالت فالتمسوه فلم يجدوه قالت. فاتهموني به قالت: فطفقوا يفتشون، حتى فتشوا قبلها، قالت: والله إني لقائمة معهم إذ مرت الحدياة فألقته، قالت: فوقع بينهم. قالت: فقلت هذا الذي اتهمتموني به زعمتم وأنا منه بريئة. وهو ذا هو، قالت: فجاءت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلمت. قالت عائشة: فكان لها خباء في المسجد أو حفش قالت: فكانت تأتيني فتحدث عندي، قالت: فلا تجلس عندي مجلسا إلا قالت: ويوم الوشاح من أعاجيب ربنا ... ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني قالت عائشة: فقالت لها: ما شأنك لا تقعدين معي مقعدا إلا قلت هذا فحدثتني بهذا الحديث.

الوشاح، وكان لها خباء في المسجد أو حفش. وثبت في الصحيح (¬1) "إنزال وفد الحبشة في المسجد، ولعبهم بجرابهم فيه، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ينظر ". وثبت [1ب] في الصحيح (¬2) أيضاً: " أن ابن عمر كان ينام في المسجد، وهو شاب أعزب لا أهل له " ونحو هذه الأحاديث الثابتة في نزول الغرباء المسجد، وانزل كل غريب من الوفد لا يجد له منزلا، وليس فيها ما ذكره السائل من صنيع هؤلاء النازلين به الآن من تلويثه بالنجاسات، واحتجازه بأمتعتهم، وتشويش المصلين برفع أصواتهم؛ فإن مثل هذه الأمور تصان المساجد عما هو دونها بكثير فضلا عن المسجد الحرام، فتركهم والحالة هذه منكر، وتفويت لما بنيت المساجد له كما في حديث:" أن المساجد لم تبن لهذا، إنما بنيت لذكر الله والصلاة " (¬3) فهؤلاء قد فوتوا بهذا العمل منهم ما بنيت له المساجد. وقد ورد النهي عن أن يشغل القارئ من كان مصليا مع أن تلاوة القرآن من أفضل الذكر التي بنيت له المساجد، ولكنه لما صاحب هذه التلاوة التي هي عبادة محضة ما هو مفسدة، وهو التشويش على المصلين خرج ذلك من باب المعصية، فكيف بما هو لغو بحت، وضوضاة محض، وجلبة لا يراد بها شيء من طاعات الله - سبحانه -، ولا يحل لعالم أن يحتج لفعل مثل هؤلاء المسؤول عنهم بمثل ما وقع لسعد بن معاذ من انفجار ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (454) وأطرافه (455، 950، 988، 3529، 3931، 5190، 5136) ومسلم في صحيحه رقم (892) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (440) وأطرافه [1121، 1156، 3738، 3740، 7015، 7030] من حديث ابن عمر (¬3) أخرجه مسلم رقم (569) من حديث بريدة رضي الله عنها وفيه:" لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له وهو حديث صحيح وقد تقدم.

جرحه وسيلانه في المسجد، فإن ذلك وقع اتفاقا عن غير قصد. وقد صرح الحديث المتقدم في إنزاله بالعلة التي لأجلها أنزل بالمسجد، وهو أن يعوده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من قريب، ولا يحل أيضًا الاحتجاج بفعل الحبشة ولعبهم بالحراب، فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بالغ في إكرامهم مكافأة للنجاشي بما صنعه من المعروف مع الصحابة المهاجرين إليه، حتى كان في بعض الحالات قد يتولى خدمتهم بنفسه الشريفة تكميلا لتلك المكافأة. ومع هذا فهم إنما فعلوا ما هو صناعة من صنائع الحرب ودقيقة من دقائقه. وعلى كل حال فأين هذا من صنيع هؤلاء الذين لوثوه بالنجاسات، وقذروه بالوساخات، وكشف العورات، ورفع الأصوات، وتشويش أهل العبادات. وانظر إلى ما أخرجه عبد الرزاق (¬1) من حديث جابر قال:" أتانا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ونحن مضطجعون في مسجده فضربنا بعسيب في يده وقال: قوموا لا ترقدوا في المسجد". وفي إسناده حرام (¬2) بمهملتين، وهو ضعيف، ولكنه يقويه ما أخرجه الطبراني (¬3) بإسناد رجاله ثقات عن أبي عمرو الشيباني قال: كان ابن مسعود يعس بالمسجد فلا يدع سوادا إلا أخرجه " ولا يحل أيضًا الاحتجاج لهؤلاء المنجسين لبيت الله المقذرين له بما روي من ¬

(¬1) في مصنفه (1/ 422 - 423 رقم 1655). (¬2) وهو حرام بن عثمان الأنصاري. قال مالك ويحيى ليس بثقة، قال أحمد: ترك الناس حديثه. قال إبراهيم بن يزيد الحافظ سألت يحيي بن معين عن حرام. فقال: الحديث عن حرام حرام. وقال الذهبي بعد ذكره الحديث. هذا حديث منكر جداً. "الميزان" (1/ 468 - 469) رقم (1766). (¬3) في "الكبير" (9/ 293 رقم 9266). وأورده الهيثمي في "المجمع" (2/ 24) وقال: رواه الطبراني في "الكبير" ورجاله موثقون. وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه رقم (1654)

أكله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في نادر الحالات في المسجد كما أخرجه الطبراني في الكبير (¬1) من حديث ابن الزبير بإسناد فيه ابن لهيعة قال:" أكلنا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يوما شواء، ونحن في المسجد ". وكما أخرجه أحمد (¬2) من حديث بلال برجال ثقات مع انقطاع فيه:" أنه جاء إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يؤذنه بالصلاة فوجده يتحسر في مسجد بيته". وكما أخرجه أحمد (¬3)، وأبو يعلى (¬4) من حديث: [ابن عمر] (¬5) أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - شرب فضيخا في مسجد يقال له مسجد الفضيخ " وفيه عبد الله بن نافع ضعفه البخاري، وأبو حاتم والنسائي. وقال ابن معين: يكتب حديثه. وكما في حديث عبد الله [2أ] بن الحارث قال:" كنا نأكل على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في المسجد الخبز واللحم". أخرجه ابن ماجه (¬6). فليس في هذا وأمثاله من التقذير والتنجيس شيء، فالواجب على أولي الأمر أن ¬

(¬1) كما في "مجمع الزوائد" (2/ 21) وقال الهيثمي رواه الطبراني في الكبير وفيه ابن لهيعة وفيه كلام. (¬2) في "المسند" (6/ 13) وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 21) وقال رواه أحمد ورجاله ثقات إلا أن أبا داود قال: لم يسمع شداد مولى عياض من بلال والله أعلم. قلت: شداد مجهول، ولم يدرك بلالا فالسند ضعيف منقطع. (¬3) في "المسند" (2/ 106). (¬4) في مسنده رقم (5733). وأورده الهيثمي في "المجمع" (2/ 21) وقال: رواه أحمد وأبو يعلى إلا أنه قال: أتي بجر فضيخ بسر وهو في مسجد الفضيح. فشربه فلذلك سمي مسجد الفضيخ. وفيه عبد الله بن نافع. ضعفه البخاري وأبو حاتم والنسائي وقال ابن معين يكتب حديثه. انظر:"الميزان" (3/ 512 - 513). * الفضيخ: شراب يتخذ من البسر المفضوخ أي المشدوخ. أي غير مسكر. (¬5) زيادة يقتضيها السياق (¬6) في "السنن" رقم (3300) وهو حديث صحيح

ينزهوا بيت الله - عز وجل - عن هذه الأمور التي لا يحلها الشرع في شيء من مساج المسلمين، فكيف ببيت رب العالمين الذي شرفه الله على كل مسجد من مساجد الدنيا بمضاعفة الصلاة فيه إلى تلك الأضعاف المذكورة في حديث:" صلاة في مسجدي هذا " (¬1) الحديث. وأخرج أحمد (¬2)، وابن ماجه (¬3) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -:" من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيرا، أو ليعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله، ومن دخل لغير ذلك كان كالناظر إلى ما ليس له"، وفي لفظ:" بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع لدى غيره". وإذا ثبت هذا في مسجده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فهو في المسجد الحرام ثابت بفحوى الخطاب فما ينبغي اعتماده في مثل هؤلاء هو أن يقال لهم بالمعروف إذا نزلتم في هذا المسجد الشريف الذي يقصده العالم من أطراف الأرض فلا تقذروه بشيء من الأقذار، ولا تلوثوه بشيء من النجاسات، ولا تحجزوه على من يقصده لعبادة الله، ولا ترفعوا فيه صوتا، ولا تكشفوا فيه عورة، ولا تهتكوا فيه حرمة، وأحيوه بالعبادة والذكر، وارفعوا من أمتعتكم ما يمنع الوافدين إليه من الصلاة فيه، والعمل الصالح، فإن ¬

(¬1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (1190) ومسلم رقم (1394) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام". (¬2) في "المسند" (2/ 350 - 527). (¬3) في "السنن" رقم (227). قلت: وأخرجه ابن حبان رقم (97) والحاكم (1/ 91) وابن أبي شيبة (12/ 209) من طرق. وهو حديث صحيح. وأخرج الطبراني في "الكبير" (5911) من حديث سهل بن سعد قال قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من دخل مسجدي هذا لبتعلم خيرا، أو ليعلمه كان بمنزلة المجاهد في سبيل الله، ومن دخله لغير ذلك من أحاديث الناس كان بمنزلة من يرى ما يعجبه وهو شيء غيره".

أطاعوا فذاك، وإن أبوا خرجوا كرها شاءوا أم أبوا. فحرمة هذا البيت العظيم فوق كل حرمة، وشرفه الله فوق كل شرف، وهؤلاء المسؤول عنهم إن كانوا على الصفات المذكورة فليسوا من القوم الذي ينزلون بهذا البيت العظيم، ولا هم من الوفد الذين يقفون فيه بل هم من الهاتكين لحرمته التي عظمها الله، المانعين لمن وفد إليه من عباده، وهل يعد التقذير بالنجاسات، وكشف العورات من عمل يخالف تلك الحرمة، وينافي تلك العظمة، ويضاد ذلك الشرف، وينافي تلك الجلالة ولو لم يكن من أفعال هؤلاء إلا تصغير حرمة البيت الحرام عند القاصدين له من أقطار المعمورة، فإنها داره عند وفوده إليه، ووقوفه بأبوابه، وهو على تلك الصفات قد احتجز أكثر أمكنته هؤلاء المقذرة ثيابهم، البادية سوآتهم، ورأى فيه النجاسات والقاذورات، وسمع صراخهم وعويلهم حتى كأنهم في سوق من الأسواق، أو حمام من الحمامات، وكان هذا الوافد من أطراف الأرض من عوام أهلها، فمعلوم لكل عاقل أنه يقع في خاطره، ويثبت في تصوره غير ما كان يعتقده، ودون ما كان يسمعه. وهذه مفسدة عظيمة تقتضي وحدها تنزيه البيت عنهم إذا لم يتركوا ما صاروا فيه من التلاعب [2ب] بهذه الحرمة العظيمة، والتهاون بهذه المزية الشريفة. فإن قال قائل: لهم حرمة. قلنا: أي حرمة إن كان فعله هذا الفعل في أشرف بقاع الأرض، ولو سلمنا الحرمة لكانت حرمة البيت أعظم من حرمتهم، وما حصل فيه من هتك حرمته، وتصغير عظمته، ومنع الوافدين - إلى بيت الله الكريم - من الطاعات، تارة بالحجز لأمكنته، وتارة برفع الأصوات المشوشة لكل مصل فيه أعظم وأطم مما حصل فيهم من الإخراج منه إذا لم يمتثلوا للوقوف فيه على ما يسوغه الشرع، ويجوزه الدين. ومعلوم أن التسوية التي أثبتها الله للحرم الشريف، والمسجد المعظم بقوله: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) (¬1) لم يرد بها التسوية بين الطاعة والمعصية في الحق والباطل، ¬

(¬1) [الحج:25]

وفي الخير والشر. ومثل هذا مما لا ينبغي بأن يقع فيه خلاف. ومعلوم لكل من له فهم ونصيب من علم أن هذا البيت الشريف لم يكن لغير الطاعات، ولم يوضع لمثل هذه المنكرات، ومن قال من أهل العلم بأنه يخير من فر إليه من الخائفين. قيد ذلك بأن لا يكون ارتكابه للمعصية فيه، ولهذا وإن كان أجنبيا عما سأل عنه السائل لكنه ربما يقول به قائل ممن لا يعقل حجج الله، ولا يفهم براهينه. وفي هذا المقدار كفاية. والله ولي التوفيق.

رفع الريبة فيما يجوز وما لا يجوز من الغيبة

(182) 10/ 4 رفع الريبة فيما يجوز وما لا يجوز من الغيبة تأليف محمد بن علي الشوكاني حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه محفوظة بنت علي شرف الدين أم الحسن

وصف المخطوط: (أ) 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: رفع الريبة في بيان ما يجوز وما لا يجوز من الغيبة. 2 - موضوع الرسالة: آداب. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم وبعد حمد الله والصلاة والسلام على رسوله وآله فإنه قد اتفق أهل العلم على تحريم الغيبة. 4 - آخر الرسالة: وفي هذا المقدار كفاية والله ولي التوفيق، كتبه المجيب محمد الشوكاني غفر الله له. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 14 صفحة عدا صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 28 سطرا ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها 9 أسطر. 8 - عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة. 9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني. 10 - الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

وصف المخطوط: (ب) 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: رفع الريبة في بيان ما يجوز وما لا يجوز من الغيبة. 2 - موضوع الرسالة: آداب. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم وبعد حمد الله والصلاة والسلام على رسوله وآله فإنه قد اتفق أهل العلم على تحريم الغيبة. 4 - آخر الرسالة: وفي هذا المقدار كفاية والله ولي التوفيق، كتبه المجيب محمد الشوكاني غفر الله له، انتهى نقل هذه الرسالة العظيمة في يوم الثلاثاء سابع شهر شوال سنة أربع وثلاث عشر مائة بعد الألف سنة 1304 ختمت وما بعدها بخير آمين، صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم آمين. 5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول. 6 - عدد الصفحات: 9 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة:29 سطرا. 8 - عد الكلمات في السطر:15 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم وبعد حمد الله، والصلاة والسلام على رسوله وآله. فإنه اتفق أهل العلم أجمع على تحريم الغيبة للمسلم، وذلك لنص الكتاب العزيز، والسنة المطهرة. أما الكتاب [قوله] (¬1) {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} (¬2) فهذا نهي قرآني عن الغيبة مع إيراد مثل لذلك يزيده شدة وتغليظا، ويوقع ¬

(¬1) في (ب) فقوله تعالى. (¬2) [الحجرات:12]. قال الألوسي في "روح المعاني" (26/ 158) تمثيل لما يصدر عن المغتاب من حيث صدوره عنه ومن حيث تعلقه بصاحبه على أفحش وجه وأشنعه طبعا وعقلا وشرعا مع مبالغات من فنون شتى، الاستفهام التقريري من حيث أنه لا يقع إلا في كلام هو مسلم عن كل سامع حقيقة أو ادعاء، وإسناد الفعل إلى أحد - إيذانا بأن أحدا من الأحدين لا يفعل ذلك وتعليق المحبة بما هو في غاية الكراهة، وتمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان، وجعل المأكول أخا للآكل وميتا، وتعقيب ذلك بقوله: (فَكَرِهْتُمُوهُ) حملا على الإقرار وتحقيقا لعدم محبة ذلك أو لمحبته التي لا ينبغي مثلها. وكنى عن الغيبة بأكل الإنسان للحم مثله؛ لأنها ذكرت المثالب وتمزيق الأعراض المماثل لأكل اللحم بعد تمزيقه في استكراه العقل والشرع له. وجعله ميتا؛ لأن المغتاب لا يشعر بغيبته. ووصله بالمحبة لما جبلت عليه النفوس من الميل إليها مع العلم بقبحها. قال أبو زيد السهيلي: ضرب المثل لأخذ العرض بأكل اللحم؛ لأن اللحم ستر على العظم، والشاتم لأخيه كأنه يقشر ويكشف ما عليه انظر:" الجامع لأحكام القرآن" (16/ 337 - 339). قال محيي الدين الدرويش في "إعراب القرآن الكريم" (9/ 275): الاستعارة التمثيلية الرائعة في قوله تعالى: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ). فقد شبه من يغتاب غيره بمن يأكل لحم أخيه ميتا وفيها من المبالغات: 1 - الاستفهام الذي معناه التقرير كأنه أمر مفروغ منه مبتوت فيه. 2 - جعل ما هو الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة. 3 - إسناد الفعل إلى كل أحد للإشعار بأن أحدا من الأحدين لا يحب ذلك. 4 - أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان وهو أكره اللحوم وأبعثها على التقزز حتى جعل الإنسان أخا. 5 - أنه لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعله ميتا. إن الغيبة على ثلاث أضرب: 1 - ):أن تغتاب وتقول لست أغتاب؛ لأني أذكر ما فيه فهذا كفر، ذكره الفقيه أبو الليث في "التنبيه" لأنه استحلال للحرام القطعي. 2 - ): أن تغتاب وتبلغ غيبة المغتاب فهذه معصية لا تتم التوبة عنها إلا بالاستحلال؛ لأنه أذاه فكان فيه حق العبد أيضا، وهذا محمل قوله عليه الصلاة والسلام:" الغيبة أشد من الزنا" قيل: وكيف؟ قال: "الرجل يزني ثم يتوب فيتوب الله عليه، وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه". 3 - ): إن لم يبلغ الغيبة فيكفيه التوبة والاستغفار له ولمن اغتابه.

في النفوس من الكراهة له والاستقذار لما فيه ما لا يقادر قدره؛ فإن أكل لحم الإنسان من أعظم ما يستقذره بنو آدم جبلة وطبعا، ولو كان كافرا أو عدوا مكافحا، فكيف إذا كان أخا في النسب أو في الدين؟! فإن الكراهة تتضاعف بذلك، ويزداد الاستقذار، فكيف إذا كان ميتا؟! فإن لحم ما يستطاب ويحل أكله يصير مستقذرا بالموت، لا يشتهيه الطبع، ولا تقبله النفس. وبهذا [يعرف] (¬1) ما في هذه الآية من المبالغة في تحريم الغيبة، بعد النهي الصريح [عن ذلك] (¬2). وأما السنة فلأحاديث النهي عن الغيبة، وهي ثابتة في الصحيحين وفي غيرهما من دواوين الإسلام، وما يلتحق بها، مع اشتمالها على بيان ماهية الغيبة، وإيضاح معناها؛ فإنه لما سأله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - سائل عن الغيبة فقال:" ذكرك أخاك بما يكره " قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال:" إن كان فيه ما تقول فقد ¬

(¬1) زيادة من (أ). (¬2) في (ب) تعرف.

اغتبته، وإن لم يكن فقد بهته " وهذا ثابت في الصحيح (¬1). فعرفت تحريم الغيبة (¬2) كتابا وسنة وإجماعا، ولكنه قد وقع في كلام جماعة من العلماء الاستثناء لصور صرحوا بأنه يجوز فيها الغيبة، وكلماتهم في ذلك متفاوتة، وما ذكروه من الأعداد المستثناة مختلف. فلنقتصر هاهنا على ذكر ما أورده النووي في شرح ............................................. ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2589) وأبو داود رقم (4874) والترمذي رقم (1934) وقال: حديث حسن صحيح. وأحمد (2/ 384، 386) والدارمي (2/ 297) والبغوي في "شرح السنة" رقم (3560) والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 247) من طرق. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وهو حديث صحيح. (¬2) الغيبة: قال ابن الأثير في "النهاية" (3/ 399) هو أن يذكر الإنسان في غيبته بسوء وإن كان فيه، فإذا ذكرته بما ليس فيه فهو البهت والبهتان، وقال صاحب "تاج العروس" (2/ 297): الغيبة من الغيبوبة، والغيبة من الاغتياب. يقال: اغتاب الرجل صاحبه اغتيابا إذا وقع فيه: وهو أن يتكلم خلف إنسان مستور بسوء أو بما يغمه [لو سمعه] وإن كان فيه، فإن كان فيه صدقا فهو غيبة، وإن كان كذبا فهو البهت. وقال ابن فارس في "مقاييس اللغة" (4/ 403). غيب الغين والياء والباء أصل صحيح يدل على تستر الشيء عن العيون، ثم يقاس. من ذلك الغيب: ما غاب مما لا يعلمه إلا الله. ويقال غابت الشمس تغيب غيبة وغيوبا وغيبا، وغاب الرجل عن بلده. وأغابت المرأة فهي مغيبة إذا غاب بعلها، ووقعنا في غيبة وغيابة، أي هبطة من الأرض يغاب فيها، قال تعالى في قصة يوسف عليه السلام: (وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ). والغيبة: الوقيعة في الناس من هذا؛ لأنها لا تقال إلا في غيبة. * البهت: الباء والهاء والتاء أصل واحد، وهو كالدهش والحيرة، يقول: بهت الرجل يبهت بهتا، والبهتة الحيرة. فأما البهتان فالكذب، يقول العرب: يا للبهيتة. أي الكذب. "مقاييس اللغة" (1/ 307). وقيل: البهتان: الباطل الذي يتحير من بطلانه والكذب. "لسان العرب" (1/ 513). وانظر:" تاج العروس" (3/ 19).

مسلم (¬1) له، ثم نذكر بعد ذلك تصحيح ما هو صحيح من كلامه، ونتعقب ما هو محل للتعقب، ونستدل على ما لم يذكر الدليل عليه، حتى يكون هذا البحث تاما وافيا شاملا كاملا، فإنه من المهمات الدينية [1أ]؛ لعظم خطر الوقوع فيه، مع تساهل كثير من الناس في شأنه، ووقوعهم في خطره، إلا من عصمه الله من عباده. [بيان ما يباح من الغيبة]. قال النووي في شرح مسلم (¬2) [له] (¬3) عند ذكر ما ورد في تحريم الغيبة ما لفظه:" لكن تباح الغيبة لغرض شرعي، وذلك لستة أسباب: أحدها: التظلم؛ فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية أو قدرة على إنصافه من ظالمه، ويقول: ظلمني فلان، أو فعل بي فلان كذا (¬4). الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر، ورد العاصي إلى الصواب. فيقول لمن يرجو قدرته: فلان يعمل كذا، فازجره. أو نحو ذلك. الثالث: الاستفتاء بأن يقول للمفتي: ظلمني فلان، أو أبي، أو أخي، أو زوجي بكذا، فهل له ذلك؟ وما طريقي في الخلاص [منه] (¬5)، ودفع ظلمه عني؟ ونحو ذلك؛ فهذا جائز للحاجة، والأحوط أن يقول: ما تقول في رجل، أو زوج، [أو والد، أو ولد] (¬6) كان من أمره كذا؟ ولا يعين ذلك، والتعيين جائز؛ لحديث هند وقولها: إن أبا سفيان رجل شحيح (¬7). ¬

(¬1) (16/ 142) (¬2) (16/ 142) (¬3) زيادة من (أ) (¬4) انظر"مجموع الفتاوى" لابن تيمية (28/ 225)." الجامع لأحكام القرآن" (16/ 339) (¬5) في (ب) معه (¬6) في (ب) أو ولد أو والد. (¬7) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5364) ومسلم رقم (1714) وقد تقدم.

الرابع: تحذير المسلمين من الشر، وذلك من وجوه: منها: جرح المجروحين من الرواة [1] والشهود والمصنفين، وذلك جائز بالإجماع بل واجب، صونا للشريعة. ومنها: الإخبار بغيبة عند المشاورة في مواصلته. ومنها: إذا رأيت من يشتري شيئا معيبا، أو عبدا سارقا، أو شاربا، أو زانيا، أو نحو ذلك؛ [تذكرة] (¬1) للمشتري إذا لم يعلمه، نصيحة لا لقصد الإيذاء والإفساد. ومنها: إذا رأيت متفقها يتردد إلى فاسق، أو مبتدع يأخذ عنه علما، وخفت عليه ضرره؛ فعليك نصيحته ببيان حاله، قاصدا للنصيحة. ومنها: أن يكون له ولاية؛ ليستبدل أو يعرف حاله، ولا يغتر به، أو يلزمه الاستقامة. الخامس: أن يكون مجاهرا بفسقه أو بدعته؛ كالخمر والمصادرة للناس، وجباية المكوس، وتولي الأمور الباطلة، فيجوز ذكره بما يجاهر به، ولا يجوز بغيره إلا بسبب آخر. السادس: التعريف؛ فإن كان معروفا بلقب، كالأعمش، والأعرج، والأزرق، والقصير، والأعمى، والأقطع، ونحوها، جاز تعريفه، ويحرم ذكره بها تنقصا، ولو أمكن التعريف بغيره كان أولى ". انتهى كلامه بحروفه (¬2). وأقول - مستعينا بالله ومتكلا عليه -: قبل التكلم على هذه الصور: اعلم أنا قد قدمنا أن تحريم الغيبة (¬3) ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، والصيغة الواردة في الكتاب والثابتة [1ب] في السنة عامة عموما شموليا يقتضي تحريم الغيبة من كل فرد من أفراد ¬

(¬1) في (ب) تذكر. (¬2) النووي في " شرحه لصحيح مسلم " (16/ 142). (¬3) قال القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (16/ 377). لا خلاف أن الغيبة من الكبائر.

المسلمين لكل فرد من أفرادهم، فلا يجوز القول بتحليل ذلك في موضع من المواضع لفرد أو أفراد إلا بدليل يخصص هذا العموم، فإن قام الدليل على ذلك فبها ونعمت، وإن لم يقم فهو من التقول على الله بما لم يقل، ومن تحليل ما حرمه الله بغير برهان من الله - عز وجل -. [الصورة الأولى: التظلم]. إذا عرفت هذا فاعلم أن الصورة الأولى - من الصور التي ذكرها، وهي جواز اغتياب المظلوم لظالمه - قد دل على جوازها قول الله - عز وجل -: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} (¬1) فهذا الاستثناء قد أفاد جواز ذكر المظلوم للظالم بما يبين للناس وقوع الظلم له من ذلك الظالم، ورفع صوته بذلك، والجهر به في المواطن التي يجتمع الناس بها. أما إذا كان يرجو منهم نصرته، ودفع ظلامته، ودفع ما نزل به من ذلك الظالم، كمن له منهم قدرة على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من الولاة والقضاة وغيرهم؛ فالأمر ظاهر، وأما إذا كان لا يرجو منهم ذلك، وإنما أراد كشف مظلمته وإشهارها في الناس فظاهر الآية الكريمة يدل على جوازه؛ لأنه لم يقيدها بقيد يدل على أنه لا يجوز الجهر بالسوء من القول إلا لمن يرجو منه النصرة، ودفع المظلمة. وإن كان ما قدمنا من كلام النووي يفيد قصر الجواز على من يقدر على دفع الظلم لكن الآية لا تدل على ذلك [فقط] (¬2) ولا تمنع مما عداه. [جواز الجهر بالسوء لمن ظلم]. وهاهنا بحثان: البحث الأول: لا يخفاك أن الأدلة الدالة على تحريم الغيبة تشمل المظلوم وغيره، ¬

(¬1) [النساء: 148] (¬2) زيادة من (أ).

والآية الدالة على جواز الجهر بالسوء لمن ظلم تفيد جواز ذلك في وجه الظالم وفي غيبته. فأدلة تحريم الغيبة أعم من وجه وهو شمولها لغير المظلوم، وأخص من وجه، وهو أعم من تناولها لما يقال في وجه من يراد ذكره بشيء من قبيح فعله. وآية جواز ذكر المظلوم للظالم أعم من وجه وهو جواز ذكر ذلك في وجه الظالم وفي غيبته، وأخص من وجه وهو عدم تناولها لغير المظلوم وظالمه. ولا تعارض في مادتين: وهما دلالة أدلة تحريم الغيبة على عدم جوازها لغائب غير ظالم، ودلالة آية جواز الجهر بالسوء على أنه يجوز للمظلوم في وجه الظالم، وإنما التعارض في مادة واحدة، [وهي] (¬1) ذكر المظلوم للظالم بظلمه له في غيبته. فأدلة تحريم الغيبة قاضية بالمنع من ذلك، والآية قاضية بالجواز، ولا يخفاك أن أدلة [2أ] تحريم الغيبة أقوى؛ لصراحة دلالة الآية على تحريمها، مع اعتضادها بالأدلة من قطيعة السنة، واشتداد عضدها بوقوع الإجماع عليها. وآية جواز ذكر المظلوم للظالم وإن كانت قطعية المتن فهي ظنية الدلالة، وقد عارضها ما هو مثلها من الكتاب العزيز في قطعية متنه وظنية دلالته، وانضم إلى ذلك المعارض ما شد [من] (¬2) عضده، وشال بضبعه من السنة والإجماع، [فتقصر] (¬3) دلالة آية جواز ذكر المظلوم للظالم على ذكره بالسوء الذي فعله من الظلم الذي أوقعه على المظلوم في وجهه، ولا يجوز له [2] ذكره في غيبته، ترجيحا للدليل القوي، ومشيا على الطريق السوي، فلا تكون هذه الصورة - التي جعلها النووي عنوانا للصور المستثناة - صحيحة؛ لعدم قيام مخصص صحيح صالح للتخصيص يخرجها من ذلك العموم. البحث الثاني: هل جهر المظلوم بالسوء الذي أصابه من ظالمه جائز فقط، أم له رتبة ¬

(¬1) في (ب) وهو. (¬2) زيادة من (ب). (¬3) في (ب) فتصير.

أرفع من رتبة الجواز؟ لأن الاستثناء من قوله: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ} (¬1) يدل على أن جهر المظلوم بالسوء الذي وقع عليه محبوب لله، وإذا كان محبوبا لله كان فعله من فاعله يختص بمزية زائدة على الجواز، ورتبة أرفع منه، وهذا على تقدير أن الاستثناء متصل، حتى يثبت للمستثنى ما نفي عن المستثنى منه (¬2). وأما إذا كان منقطعا فلا دلالة في الآية على أنه مما يحبه الله، بل لا يدل على [سوء] (¬3) جوازه، لكن على تقرير الاتصال؛ هاهنا مانع من أن يكون لذكر المظلوم لظالمه بالسوء رتبة زائدة على رتبة الجواز، وهو أن الله - سبحانه - قد رغب عباده في ¬

(¬1) [النساء: 148]. (¬2) قال الطبري في "جامع البيان" (4\جـ6/ 4) فالصواب في تأويل ذلك:" لا يحب الله أيها الناس أن يجهر أحد لأحد بالسوء من القول (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) بمعنى: إلا من ظلم فلا حرج عليه أن يخبر بما أسيء إليه ... وإذا كان ذلك معناه: دخل فيه إخبار من لم يقر أو أسيء قراه، أو نيل بظلم في نفسه أو ماله عنوة من سائر الناس، وكذلك دعاءه على من ناله بظلم أن ينصره الله عليه. لأن في دعائه عليه إعلاما منه لمن سمع دعاءه بالسوء له، وإذا كان ذلك كذلك، "فمن" في موضع نصب، لأنه منقطع عما قبله. وأنه لا أسماء قبله يستثنى منها فهو نظير قوله: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ). وقال الرازي في تفسيره (11/ 90 - 91): أن هذا الاستثناء منقطع والمعنى لا يحب الله الجهر بالسوء من القول. لكن المظلوم له أن يجهر بظلامته. وللمظلوم أمور منها: 1 - قال قتادة وابن عباس: لا يحب الله رفع الصوت بما يسوء غيره إلا المظلوم فإن له أن يرفع صوته بالدعاء على من ظلمه. 2 - قال مجاهد: إلا أن يخبر بظلم ظالمه له. 3 - لا يجوز إظهار الأحوال المستورة المكتومة، لأن ذلك يصير سببا لوقوع الناس في الغيبة ووقوع ذلك الإنسان في الريبة لكن من ظلم فيجوز إظهار ظلمه بأن يذكر أنه سرق أو غصب وهذا قول الأصم. 4 - قال الحسن: إلا أن ينتصر من ظالمه. (¬3) في (ب) سواء

العفو (¬1)، وندبهم إلى ترك الانتصاف، والتجاوز عن المسيء، حتى ورد الإرشاد للمظلوم إلى ترك الدعاء على ظالمه، وأنه إذا فعل ذلك انحط عليه من أجر ظلامته ما هو مذكور في الأحاديث، وقد صرح الكتاب العزيز في غير موضع بالأمر بالعفو، والترغيب فيه، وعظم أجر العافين عن الناس (¬2)، وهكذا وقع في السنة المطهرة ما هو الكثير الطيب من ذلك (¬3). ومجموع هذا لا يفيد أن الانتصاف وترك العفو غايته أن يكون جائزا، وهكذا ما في هذه الآية من جواز ذكر المظلوم للظالم بالسوء الذي ناله .......................................... ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (31). (¬2) منها قوله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 133 - 134]. ومنها: قوله تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 22]. ومنها: قوله تعالى: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشورى: 43]. (¬3) منها: ما أخرجه مسلم رقم (2588) والترمذي (2029) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" ما نقصت صدقة من مال ". وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه عز وجل ". وهو حديث صحيح. ومنها: ما أخرجه أحمد (4/ 231) والترمذي رقم (235) وابن ماجه رقم (4228) من حديث أبي كبيشة الأنماري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه. قال: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزا ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر ... " واللفظ للترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. وهو حديث صحيح. ومنها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3477) ومسلم رقم (1792) عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: كأني أنظر إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول:" اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".

منه (¬1)، للقطع بأن الله يحب العفو عن الناس، وذلك معلوم بالكتاب والسنة والإجماع، والأدلة عليه من كليات الشريعة وجزئياتها تحتاج إلى طول بسط [2ب] (¬2). [الصورة الثانية: الاستعانة على تغيير المنكر]. وأما الصورة الثانية: التي ذكرها النووي (¬3) فيما قدمنا - وهي الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب - فاعلم أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر هما من أعظم عمد الدين (¬4)؛ لأن بهما حصول مصالح الأولى والأخرى، فإن كانا قائمين قام بقيامها سائر الأعمدة الدينية، والمصالح الدنيوية، وإن كانا غير قائمين لم يكثر الانتفاع بقيام غيرهما من الأمور الدينية والدنيوية، وبيان ذلك، أن أهل الإسلام إذا كان الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فيهم ثابت الأساس، والقيام به هو شأن الكل أو الأكثر من الناس، فالمعروف بينهم معروف، وهم يد واحدة على إقامة من زاغ عنه، ورد غواية ¬

(¬1) قال الشوكاني في "فتح القدير" (1/ 623 - 624): اختلف أهل العلم في كيفية الجهر بالسوء الذي يجوز لمن ظلم، فقيل هو أن يدعوا على من ظلمه وقيل: لا بأس أن يجهر بالسوء من القول على من ظلمه بأن يقول: فلان ظلمني أو هو ظالم أو نحو ذلك. وقيل: معناه: إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول من كفر أو نحوه فهو مباح له. والظاهر من الآية أنه يجوز لمن ظلم أن يتكلم بالكلام الذي هو من السوء في جانب من ظلمه ويؤيده الحديث الثابت في الصحيح "لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته ". تقدم تخريجه. وأما على القراءة - إلا من على البناء للمعلوم - فالاستثناء متقطع أي إلا من ظلم في فعل أو قول فاجهروا له بالسوء من القول في معنى النهي عن فعله والتوبيخ له. وقال الألوسي في "روح المعاني (26/ 161): وقد تجب الغيبة لغرض صحيح شرعي لا يتوصل إليه إلا بها وتنحصر في ستة أسباب. الأول التظلم فلمن ظلم أن يشكو لمن يظن له قدرة على إزالة ظلمه أو تخفيفه ... (¬2) تقدم ذكره. (¬3) في شرحه لصحيح مسلم (16/ 142) (¬4) تقدم مرارا

من فارقه، والمنكر لديهم منكر، وجماعتهم متعاضدة عليه، متداعية إليه - متناصرة على الأخذ بيد فاعله وإرجاعه إلى الحق، والحيلولة بينه وبين ما قارفه من الأمر المنكر. فعند ذلك لا يبقى أحد من العباد في ظاهر الأمر تاركا لما هو معروف، ولا فاعلا لما هو منكر، لا في عبادة، ولا في معاملة؛ فتظهر أنوار الشرع، وتسطع شموس العدل، وتهب رياح الدين، وتستعلن كلمة الله في عباده وترتفع أوامره ونواهيه، وتقوم دواعي الحق، وتسقط دواعي الباطل، وتكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو المرجوع إليه [والمعمول] (¬1) به، وكتابه الكريم، وسنة رسوله المصطفى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - هما المعيار الذي توزن به أعمال العباد، ونرجع إليهما في دقيق الأمور وجليلها؛ وبذلك تنجلي ظلمات البدع، وتنقصم ظهور أهل الظلم، وتنكسر نفوس أهل معاصي الله، وتخفق رايات الشرع في أقطار الأرض، وتضمحل جولات الباطل في جميع بلاد الله عز وجل. [أضرار ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]. وأما إذا كان هذان الركنان العظيمان غير قائمين، أو كانا قائمين قياما صوريا لا حقيقيا فيالك من بدع تظهر، ومن منكرات تستعلن، ومن معروفات تستخفي، ومن جولات للعصاة وأهل البدع تقوى وترتفع، ومن ظلمات بعضها فوق بعض تظهر في الناس، ومن هرج و [مرج] (¬2) في العباد يبرز للعيان، وتقر به عين الشيطان؛ وعند ذلك يكون المؤمن كالشاة العائرة، والعاصي كالذئب المفترس، وهذا بلا شك ولا ريب [3أ] هو [المحيي] (¬3) رسوم الدين، وذهاب نور الهدى، وانطماس معالم الحق. وعلى تقدير وجود أفراد من العباد يقومون بفرائض الله، ويدعون مناهيه، ولا يقدرون على أمر ¬

(¬1) في (ب) والمعول (¬2) في (ب) ترج (¬3) في (ب) المحمي

بمعروف، ولا نهي عن المنكر؛ فما أقل النفع بهم! وأحقر الفائدة على الدين منهم!؛ فإنهم وإن كانوا ناجين بأعمالهم، فائزين بتمسكهم بعروة الحق الوثقى، لكنهم في زمان غربة الدين، وانطماس معالمه، وظهور المنكر، وذهاب المنكر بين أهل السواد [3] الأعظم، وفيما يتظاهر به الناس؛ وحينئذ يصير المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، ويعود الدين غريبا كما بدأ. وإذا تقرر لك هذا، وعرفت ما في قيام الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر في الناس من مصالح المعاش والمعاد، وفوائد الدنيا والدين (¬1) - فاعلم أن هذا الذي رأي منكراً، إن كان قادرا على تغييره بنفسه (¬2)، أو بالاستنصار بمن يمكن ............................. ¬

(¬1) قال تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]. وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]. وقال سبحانه وتعالى: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165]. وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79]. قال ابن كثير في تفسيره (2/ 396) فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في المدح كما قال قتادة: بلغنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حجة حجها رأي من الناس دعة فقرأ هذه الآية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ثم قال من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم بقوله: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}. (¬2) قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من رأي منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان". من حديث أبي سعيد الخدري. أخرجه مسلم رقم (49) وأبو داود رقم (1140و 4340) والترمذي رقم (2173) والنسائي (8/ 111) وابن ماجه رقم (4013). قال القرطبي في "المفهم" (1/ 233): هذا الأمر على الوجوب لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من واجبات الإيمان ودعائم الإسلام، بالكتاب والسنة وإجماع الأمة ولوجوبه شرطان: 1 - العلم بكون ذلك منكرا أو معروفا. 2 - القدرة على التغيير.

الاستنصار به (¬1)، بأن يقول لجماعة من المسلمين: في المكان الفلاني من يرتكب المنكر، فهلموا إلي، وقوموا معي حتى ننكره ونغيره، فليس به إلى الغيبة- التي هي جهد من لا ¬

(¬1) قال القرطبي في " المفهم" (1/ 334): إذا كان المنكر مما يحتاج في تغييره إلى اليد. مثل كسر أواني الخمر، وآلات اللهو كالمزامير والأوتاد والكبر-الطبل- وكمنع الظالم من الضرب والقتل وغير ذلك. فإن لم يقدر بنفسه استعان بغيره، فإن خاف من ذلك ثوران فتنة، وإشهار سلاح، تعين رفع ذلك. فإن لم يقدر بنفسه على ذلك غير بالقول المرتجى نفعه من لين أو إغلاظ حسب ما يكون أنفع، وقد يبلغ بالرفق والسياسة ما لم يبلغ بالسيف والرياسة، فإن خاف من القول القتل أو الأذى، غير بقلبه، ومعناه أن يكره ذلك الفعل بقلبه، ويعزم أن لو قدر على التغيير لغيره ... ". وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان أو أمير جائر". من حديث أبي سعيد الخدري. أخرجه أبو داود رقم (4344) والترمذي رقم (2174) وابن ماجه رقم (4011). وهو حديث حسن. وقد ورد الخطاب- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- للأمة عامة ولكن المسؤولية تتأثر على صنفين من الناس وهما العلماء والأمراء أما العلماء فلأنهم يعرفون من شرع الله تعالى ما لا يعرفه غيرهم من الأمة ولما لهم من هيبة في النفوس واحترام في القلوب مما يجعل أمرهم ونهيهم أقرب إلى الامتثال وأدعى إلى القبول. وأما الأمراء والحكام فإن مسئوليتهم أعظم وخطرهم إن قصروا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أكبر لأن الحكام لهم ولاية وسلطان ولديهم قدرة على تنفيذ ما يأمرون به وينهون وحمل الناس على الامتثال ولا يخشى من إنكارهم مفسدة لأن القوة والسلاح في أيديهم والناس ما زالوا يحسبون حسابا لأمر الحاكم ونهيه فإن قصر الحاكم في الأمر والنهي طمع أهل المعاصي والفجور ونشطوا لنشر الشر والفساد دون أن يراعوا حرمة أو يقدسوا شرعا ولذا كان من الصفات الأساسية للحاكم الذي يتولى الله تأييده، ونصرته، ويثبت ملكه ويسدد خطئه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. " الوافي في شرح الأربعين النووية" (ص 263).

له جهد- حاجة، لأن وازع الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر إذا كان موجودا في عباد الله، فلا يحتاجون إلى تعيين فاعل المنكر، وبيان أنه فلان ابن فلان، وإن لم يكن فيهم ذلك الوازع الديني، والغيرة الإسلامية؛ فهم لا ينشطون إلى إجابته بمجرد التسمية والتعيين، إذ لا فرق في مثل هذا بين الإجمال والتعيين، اللهم إلا أن يكون سيف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كليلا. وعضده ضعيفا عليلا ضئيلا، فإنهم قد ينظرون مع التسمية والتعيين في فاعل المنكر؛ فإن كان قويا جليلا [تركوه] (¬1)، وإن كان ضعيفا حقيرا قاموا إليه وغيروا ما هو عليه. وهذا هو غربة الدين العظيمة، ولكن في الشر خيار وبعضه أهون من بعض. فإذا كانوا بمنزلة من ضعف العزيمة، بحيث لا يقدرون إلا على الإنكار على المستضعفين المستذلين؛ فذلك فرضهم، وليس عليهم سواه [3ب]. وحينئذ لا بأس بالتعيين، والغيبة التي هي غاية ما يقدر عليه المستضعفون، ونهاية ما يتمكن منه العاجزون والله ناصر دينه، ولو بعد حين. وجواز هذه الغيبة في مثل هذا المقام، هو بأدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الثابتة بالضرورة الدينية، التي لا يقوم بجنبها دليل لا صحيح ولا عليل. [الجمع بين أدلة المسألة]: فإن قلت: هاهنا دليلان بينهما عموم وخصوص من وجه، هما أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأدلة تحريم الغيبة، فكيف لم تعمل هاهنا كما عملت في الصورة الأولى؟. قلت: قد عملت هاهنا كما عملت في الصورة الأولى، فرجحت العمل بالراجح، كما رجحت في الصورة الأولى العلم الراجح، وإن اختلف موضعا الترجيح، ففي ¬

(¬1) زيادة من (ب)

الصورة الأولى رجحت أدلة الغيبة؛ لما تقرر من أن العمومين الواردين على هذه الصورة إن رجح أحدهما على الآخر باعتبار ذاته، وجب المصير إليه، وإن لم يرجح باعتبار ذاته وأمكن الترجيح باعتبار أمر خارج؛ وجب الرجوع إليه. وقد وجد المرجح هنالك باعتبار الأمر الخارجي، وهو أدلة السنة والإجماع؛ فإنها أوجبت ترجيح أدلة تحريم الغيبة في تلك الصورة التي وقع فيها التعارض، على جواز الجهر بالسوء للمظلوم على طريقة [الاغتياب] (¬1)، وهاهنا كان الترجيح في صورة التعارض بكون أحد الدليلين ثابتا بالضرورة الدينية دون الآخر، ولهذا قدمنا لك [ما قدمنا] (¬2) في فوائد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعرفناك أنه لا شيء من الأمور الدينية يقوم مقامهما، ولا يغني غناهما. [الصورة الثالثة: جواز الغيبة للمستفتي]. وأما الصورة الثالثة: وهي جواز الغيبة للمستفتي: فأقول: لا يخفاك أن أدلة تحريم الغيبة ثابتة بالكتاب، والسنة، والإجماع كما قدمنا، فصار تحريمهما من هذه الحيثية من قطعيات الشريعة، وليس في تسويغها للمستفتي إلا سكوته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عن الإنكار على هند لما قالت له:" إن أبا سفيان رجح شحيح" (¬3)، وهذا السكوت الواقع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عند سماع الغيبة من امرأة [حديثة] (¬4) عهد بجاهلية لرجل حديث عهد بجاهلية، مع كونه في ¬

(¬1) في (ب) الاعتبار (¬2) زيادة من (أ). (¬3) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح. قال الحافظ في "الفتح" (9/ 509) واستدل بهذا الحديث على جواز ذكر الإنسان بما لا يعجبه إذا كان على وجه الاستفتاء والاشتكاء ونحو ذلك وهو أحد المواضع التي تباح فيها الغيبة. (¬4) في (ب) حديث.

تلك الحال لم يكن قد ظهر منه يدل على خلوص إسلامه، واستقامة طريقه، وإنما ظهر منه ذلك بعد موته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فهذا التقرير بالسكوت الكائن على هذه الصفة في مثل هذه الحالة بعد ثبوت تحريم الغيبة في القرآن الكريم [4أ]، وفي السنة المطهرة، وعلم الصحابة به وإجماعهم عليه- لا ينبغي التمسك بمثله، ولا يحل القول بصلاحيته للتخصيص؛ لأن السامعين من المسلمين في تلك الحالة قد علموا تحريم الغيبة، وتقرر عندهم حكمها، فلو لم يكن السكوت إلا لكون حكم الغيبة قد صار معلوما واضحا مشتهرا عندهم، لكان ذلك بمجرده قادحا في الاستدلال به، وتخصيص الأدلة القطعية بمثله، وهذا على تقدير أن أبا سفيان لم يكن حاضرا في ذلك الموقف، فإن كان حاضرا- كما قيل- اندفع التعلق بسكوته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من الأصل، ومع هذا فلا ضرورة ملجئة للمستفتي إلى التعيين، حتى يقال: إنه لا يتم مطلوبة من الاستفتاء إلا بالتعين؛ فإنه يحصل مطلوبة بالإجمال؛ لأن المقصود استفادة الحكم الشرعي، و [هي] (¬1) حاصلة بمعرفة ما يقوله المفتي مع الإجمال كما يحصل معرفته [4] بما يقوله مع التفصيل والتعيين، وهذا مما لا شك فيه ولا شبهة. وبهذا تعرف أن هذه الصورة ليست من صور تخصيص تحريم الغيبة (¬2)؛ لعدم انتهاض دليلها، يعرف ذلك كل عارف بكيفية الاستدلال. [الصورة الرابعة: جواز الغيبة لتحذير المسلمين من الشر]. وأما الصورة الرابعة: وقد جعلها النووي (¬3) -رحمه الله- في كلامه السابق على أقسام خمسة: القسم الأول: الجرح والتعديل للرواة والمصنفين والشهود: واستدل على جواز ذلك ¬

(¬1) في (ب) وهو. (¬2) انظر "روح المعاني" للألوسي (26/ 161)،"فتح الباري" (9/ 509). (¬3) في شرحه لصحيح مسلم (16/ 143).

- بل على وجوبه - بالإجماع، وكلامه صحيح، واستدلاله بالإجماع واضح؛ فإنه ما زال سلف هذه الأمة وخلفها يجرحون من يستحق الجرح من رواة الشريعة، ومن الشهود على دماء العباد وأموالهم وأعراضهم، ويعدلون من يستحق التعديل. ولولا هذا لتلاعب بالسنة المطهرة الكذابون، واختلط المعروف بالمنكر، ولم يتبين ما هو صحيح مما هو باطل وما هو ثابت مما هو موضوع، وما هو قوي مما هو ضعيف؛ للقطع بأنه ما زال الكذابون يكذبون على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. وقد حذر من ذلك رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقال: " إنه سيكون في هذه الأمة دجالون كذابون، فإياكم وإياهم ". وهذا ثابت في الصحيح (¬1)، وثبت في الصحيح (¬2) أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " إنه سيكذب علي، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " وثبت عنه في الصحيح (¬3) أيضًا أنه قال: " إن كذبا علي ليس ككذب على أحدكم ". الحديث. وثبت عنه في الصحيح (¬4) أيضًا أنه قال [4ب]: " خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم ¬

(¬1) أخرج مسلم في صحيحه رقم (7/ 7) وأحمد في " المسند " (2/ 349) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يكون في آخر الزمان دجالون كذابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم، ولا يضلونكم ولا يفتنونكم ". (¬2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (110، 6197) ومسلم رقم (3) في المقدمة، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ". وأخرج البخاري في صحيحه رقم (107) وأبو داود رقم (3651) وابن ماجه رقم (36) وابن أبي شيبة في " المصنف " (8/ 360) وأحمد (1/ 165، 167) من حديث الزبير بن العوام، ولفظه: " من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار ". (¬3) أخرج البخاري في صحيحه رقم (1291) ومسلم رقم (4) في المقدمة من حديث المغيرة بن شعبة بلفظ: " إن كذبا علي ليس ككذب على أحد ". (¬4) تقدم تخريجه مرارا من حديث عمران بن الحصين، وابن مسعود، والنعمان بن بشير. انظر " الصحيحة " رقم (700).

ثم الذين يلونهم، ثم يفشوا الكذب ". ففيه دليل على أن الكذب قد كان قبل انقراض القرن الثالث، ولكن من غير فشو، ثم فشا بعده. وبهذا [يعرف] (¬1) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قد [أخبر] (¬2) بأنه سيكذب عليه خصوصا، ويفشوا الكذب عموما، ثم وقع في الخارج ما أخبر به الصادق المصدوق، فإنه لم يزل في كل قرن من القرون كذابون يكذبون على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ويضعون الأكاذيب المروية عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويحدثون بها. فلولا تعرض جماعة من حملة الحجة لجرح المجروحين، وتعديل العدول، وذبهم عن السنة المطهرة، وتبيينهم لكذب الكذابين، لبقيت تلك الأحاديث المكذوبة من جملة الشريعة، وعمت بها البلوى. فكان قيام الأئمة - في كل عصر - بهذه العهدة من أعظم ما أوجبه الله على العباد، ومن أهم واجبات الدين، ومن الحماية للسنة المطهرة، فجزاهم الله خيرا وضاعف لهم المثوبة؛ فلقد قاموا قياما مرضيا، وخلصوا عباد الله من التكاليف بالكذب، وصفوا الشريعة المطهرة، وأماطوا عنها الكدر والقذر، وأخرسوا الكذابين، وقطعوا ألسنتهم وغلغلوا رقابهم، والحمد لله على ذلك (¬3). وهكذا جرح الشهود وتعديلهم، فإنه لو لم يقع ذلك لأريقت الدماء وهتكت الحرم، واستبيحت الأموال بشهادات الزور، التي جعلها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من أكبر الكبائر، وحذر منها. والحاصل: أن كليات الشريعة وجزئياتها وقواعدها وإجماع أهلها، تدل أوضح دلالة ¬

(¬1) في (ب) تعرف. (¬2) في (ب) أخبرنا. (¬3) قال الإمام الحافظ ابن الصلاح في " علوم الحديث " (ص389 - 390): " الكلام في الرجال جرحا وتعديلا جوز؛ صونا للشريعة ونفيا للخطأ والكذب عنها، وكما جاز الجرح في الشهود جاز في الرواة ". ثم إن على الآخذ في ذلك أن يتقي الله تبارك وتعالى، ويتثبت ويتوقى التساهل؛ كيلا يجرح سليما أو يسم بريئا بسمة سوء يبقى عليه الدهر عارها، ويلحق المتساهل من تساهله العقاب والمؤاخذة.

على أن هذا القسم لا شك ولا ريب في جوازه، بل في وجوب بعض صورة؛ صونا للشريعة، وذبا عنها، ودفعا لما ليس منها، وحفظا [لدماء العباد وأموالهم] (¬1) وأعراضهم. وهذا كله هو داخل في [الضرورات] (¬2) الخمس المذكورة في علم الأصول (¬3)، ومما يدل على ذلك دلالة بينة ما ورد في النصيحة لله، ولكتابة، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم وخاصتهم (¬4)؛ فإن بيان كذب الكذابين من أعظم النصيحة الواجبة لله ولرسوله، ولجميع المسلمين. وأدلة وجوب النصيحة متواترة، وكذلك جرح (¬5) من شهد في مال أو دم أو عرض بشهادة زور (¬6)؛ فإنه من النصيحة التي أوجبها الله على عباده، وأخذهم بتأديتها، وأوجب عليهم القيام بها. القسم الثاني: الإخبار بالعيب عند المشاورة: أقول: الوجه في تجويز الغيبة في هذه [5أ] الصورة، أنه قد ثبت مشروعية المشاورة، ثم مشروعية المناصحة الثابتة بالتواتر، وهي من جملة حقوق المسلم على المسلم، كما ثبت في الصحيح (¬7) ................................................. ¬

(¬1) في (ب) لأموال العباد ودمائهم. (¬2) في (أ) الضروريات. (¬3) انظر " إرشاد الفحول " (ص 790 - 791) تقدم ذكرها مفصلة. [حفظ الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال]. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) انظر " المغني " (14/ 123، 178). (¬6) والتي هي من أكبر الكبائر، قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: " الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس، فقال: ألا وقول الزور! " فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. (¬7) أخرج مسلم في صحيحه رقم (5/ 2162) والبخاري في " الأدب المفرد " رقم (925) والبيهقي في " السنن الكبرى " (5/ 347) (10/ 108) والبغوي في " شرح السنة " رقم (1405) وأحمد (2/ 32) عن حديث أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " حق المسلم على المسلم ست " قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال: " إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه ".

[وفيه] (¬1) " وإذا استنصحك فانصحه "، ولكن [ليس] (¬2) في هذا القسم من الضرورة الملجئة إلى التعيين ما في القسم الأول، فإنه يمكن القيام بواجب النصيحة بأن يقول الناصح: لا أشير عليك بهذا، أو: لا تفعل كذا، أو نحو ذلك، وليس عليه من النصيحة زيادة على هذا، فالتعيين والدخول فيما هو من الغيبة فضول من الناصح، لم يوجبه الله عليه، ولا تعبده به، ولا ضرورة تلجئه إليه كما في القسم الأول. فليس هذا القسم من الأقسام المستثناة من أدلة تحريم الغيبة، وبهذا تستريح عن الكلام في تعارض الدليلين اللذين بينهما عموم وخصوص من وجه. القسم الثالث: قوله: ومنها إذا رأيت من يشتري شيئا معيبا أو عبدا سارقا. . . إلخ. أقول: وهذا القسم أيضًا كالقسم الذي قبله، لا يصح جعله من الصور المستثناة من تحريم الغيبة؛ لأن القيام بواجب النصيحة يحصل بمجرد قوله: لا أشير عليك بشراء هذا، أو نحو هذه العبارة، فله عن الدخول في خطر الغيبة [5] مندوحة، وعن الوقوع في مضيقها سعة. القسم الرابع: قوله: ومنها إذا رأيت متفقها يتردد إلى فاسق. . . إلخ. أقول: وهذا القسم أيضًا كالذي قبله، لا يصح جعله من الصور المستثناة من تحريم الغيبة؛ لأن القيام بواجب النصيحة يحصل بالإجمال، ولم يتعبده الله بالتفصيل، وذكر المعائب والمثالب، بل يكفيه أن يقول: لا أشير عليك بمواصلة هذا، أو: لا أرى الأخذ عنه، أو نحو هذه العبارة، فالتصريح بما هو غيبة فضول، لم يوجبه الله عليه ولا طلبه منه. القسم الخامس: قوله: ومنها أن يكون له ولاية. . . إلخ. ¬

(¬1) في (ب) ففيه. (¬2) زيادة من (أ).

أقول: وهذا القسم أيضًا كالأقسام التي قبله، لا يصح جعله من الصور المستثناة من تحريم الغيبة؛ لأنه إذا قال له: لا تستعمل هذا، أو لا أرى لك الركون عليه، فقد فعل ما أوجبه الله عليه من النصيحة، والزيادة على هذا المقدار فضول، ليس لله فيه حاجة، ولا للمنصوح، ولا للناصح [5ب]. [الصورة الخامسة: ذكر المجاهر بالفسق]: وأما الصورة الخامسة: وهي ذكر المجاهر بالفسق بما جاهر به. فأقول: إن كان المقصود بجواز ذكره بما جاهر به هو التحذير للناس، فقد دخل ذلك في الصورة الرابعة، وقد أوضحنا ما فيها فلا نعيده، ومع هذا فحصول المطلوب من التحذير يمكن بدون ذكر ما جاهر به، بأن يقول لمن ينصحه: لا تعاشر فلانا، أو: لا تداخله، أو: لا تذهب إليه؛ فإن هذا الناصح المشير يقوم بواجب النصيحة بهذا المقدار، من دون أن يذكر نفس المعصية التي صار العاصي يجاهر بها، وما أقل فائدة التعرض لذلك وأخطره! فإنه لم يأت دليل يدل على جواز ذكره بما جاهر به، بل ذلك غيبة محضة. وأما ما يروى من حديث: " اذكروا الفاسق بما فيه؛ كيما يحذره الناس " (¬1) فلم ¬

(¬1) وهو حديث موضوع. أخرجه العقيلي في " الضعفاء " (1/ 202) وابن عدي في " الكامل " (2/ 595) و (3/ 1137) (5/ 1784) و (5/ 1863) والبيهقي في " السنن الكبرى " (10/ 214 - 215) والخطيب في " تاريخ بغداد " (1/ 382) و (3/ 188) و (7/ 262) وغيرهم من طريق الجارود بن يزيد، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده مرفوعا. قال العقيلي: ليس له من حديث بهز أصل، ولا من حديث غيره، ولا يتابع عليه من طريق يثبت. وقال البيهقي: هذا يعرف بالجارود بن يزيد النيسابوري وأنكره عليه أهل العلم بالحديث، سمعت أبا عبد الله الحافظ الحاكم يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ غير مرة يقول: كان أبو بكر الجارودي إذا مر بقبر جده يقول: يا أبت لو لم تحدث بحديث بهز بن حكيم لزرتك. قال ابن عدي والبيهقي: وقد سرق عنه جماعة من الضعفاء فرووه عن بهز بن حكيم، ولم يصح فيه شيء. والخلاصة أن الحديث موضوع، والله أعلم.

يصح ذلك بوجه من الوجوه، على أنه إنما [سمي] (¬1) مجاهرا بمجاهرته بتلك المعصية والاستظهار بها بين الناس، وإيقاعها علانية، وعند ذلك يعلم الناس منه ذلك ويعرفونه بمشاهدته، فلا يبقى لذكره به كثير فائدة، وإن كان المقصود بجواز ذكره بما جاهر به استعانة الذاكر على الإنكار عليه لمن يذكر له ذلك الذنب، فهذه الصورة داخلة في الصورة الثانية التي قدم النووي ذكرها، وقدمنا الكلام عليها، فلا فائدة لجعلها صورة مستقلة. فإن استدل مستدل على جواز مثل هذا بما وقع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من قوله: " بئس أخو العشيرة " (¬2). فيقال له: أولاً: إن هذا القول الواقع منه - صلى ¬

(¬1) في (ب) سمى. (¬2) أخرجه البخاري رقم (6054) ومسلم رقم (73/ 2591) عن عائشة قالت: أن رجلا استأذن على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " ائذنوا له، فلبئس ابن العشيرة، أو بئس رجل العشيرة ". فلما دخل عليه ألان له القول، قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله قلت له الذي قلت، ثم ألنت له القول؟ فقال: " يا عائشة إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه أو تركه الناس اتقاء فحشه ". قال الخطابي: " جمع هذا الحديث علما ودبا، وليس في قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أمته بالأمور التي يسميهم بها ويضيفها إليهم من المكروه غيبة، وإنما يكون ذلك من بعضهم في بعض، بل الواجب عليه أن يبين ذلك ويفصح به ويعرف الناس أمره، فإن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة، ولكنه لما جبل عليه من الكرم وأعطيه من حسن الخلق، أظهر له البشاشة ولم يجبه بالمكروه؛ لتقتدي به أمته في اتقاء شر من هذا سبيله وفي مداراته؛ ليسلموا من شره وغائلته. قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " (10/ 454) تعليقا على كلام الخطابي: وظاهر كلامه - الخطابي - أن يكون هذا من جملة الخصائص، وليس كذلك، بل كل من اطلع من حال شخص على شيء وخشي أن غيره يغتر بجميل ظاهره فيقع في محذور ما، فعليه أن يطلعه على ما يحذر من ذلك قاصدا نصيحته، وإنما الذي يختص النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يكشف له عن حال من يغتر بشخص من غير أن يطلعه المغتر على حاله، فيذم الشخص بحضرته ليتجنبه المغتر ليكون نصيحة، بخلاف غير النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن جواز ذمه للشخص يتوقف على تحقق الأمر بالقول أو الفعل ممن يريد نصحه. قال القرطبي في " المفهم " (6/ 573): جواز الغيبة: المعلن بفسقه ونفاقه، والأمير الجائر والكافر، وصاحب بدعة، وجواز مداراتهم اتقاء شرهم، ولكن يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله تعالى. وقال القاضي عياض في " إكمال المعلم بفوائد مسلم " (8/ 63 - 63): هذا من المداراة وهو بذل الدنيا لصلاح الدنيا والدين، وهي مباحة مستحسنة في بعض الأحوال، خلاف المداهنة المذمومة المحرمة، وهو بذل الدين لصلاح الدنيا، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هنا بذل له من دنياه حسن عشرته، ولا سيما كلمته وطلاقة وجهه، ولم يمدحه بقول ولا روي ذلك في حديث، فيكون خلاف قوله فيه لعائشة. وانظر: " فتح الباري " (10/ 453). وقال القاضي عياض في " إكمال المعلم " (8/ 62): وهذا الرجل هو عيينة بن حصن، وكان حينئذ لم يسلم - والله أعلم - فلم يكن القول فيه غيبة، أو أراد - عليه الصلاة والسلام - إن كان قد أظهر الإسلام أن يبين حاله؛ لئلا يغتر به من لم يعرف باطنه، وقد كان منه في حياة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبعده من هذه الأمور ما دلت على ضعف إيمانه. قال الحافظ في " الفتح " (10/ 471 - 472) وقد نوزع في كون ما وقع من ذلك غيبة، وإنما هو نصيحة ليحذر السامع، وإنما لم يواجهه المقول فيه بذلك لحسن خلقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو واجه المقول فيه بذلك لكان حسنا، ولكن حصل القصد بدون مواجهة. والجواب: أن المراد أن صورة الغيبة موجودة فيه وإن لم يتناول الغيبة المذمومة شرعا، وغايته أن تعريف الغيبة المذكور أولا هو اللغوي، إذا استثني منه ذكر كان ذلك تعريفها الشرعي. وقوله في الحديث: " إن شر الناس " استئناف كلام كالتعليل لتركه مواجهته بما ذكره في غيبته. ويستنبط منه - الحديث - أن المجاهر بالفسق والشر لا يكون ما يذكر عنه في ذلك من ورائه من الغيبة المذمومة. قال العلماء: تباح الغيبة في كل غرض صحيح شرعا حيث يتعين طريقا إلى الوصول إليه بها: كالتظلم، والاستعانة على تغيير المنكر، والاستفتاء، والمحاكمة، والتحذير من الشر، ويدخل فيه تجريح الرواة والشهود، وإعلام من له ولاية عامة بسيرة من هو تحت يده، وجواب الاستشارة في نكاح أو عقد من العقود، وكذا من رأى متفقها يتردد إلى مبتدع أو فاسق ويخاف عليه الاقتداء به، وممن تجوز غيبتهم من يتجاهر بالفسق أو الظلم أو البدعة. . . ".

الله عليه آله وسلم - لا يجوز لنا الاقتداء به فيه؛ لأن الله - سبحانه - قد حرم علينا الغيبة في كتابه العزيز، وحرمها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - علينا بما تقدم ذكره من قوله الصحيح، وبإجماع المسلمين.

فعلى تقدير أن هذا القول مما يصدق عليه اسم الغيبة، يكون وقوعه منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في حكم المخصص له من ذلك العموم (¬1)، لكن على هذه الصورة الإجمالية وبهذه الصفة الصادرة منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وأيضا فالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يعلم ما لم نعلم، ويأتيه الوحي بما لم يأتنا، ويبين الله له ما لم يبين لنا، فلا يجوز لنا أن نقتدي به في قول صادر منه على هذه الصفة؛ لجهلنا بالحقائق، وعدم اطلاعنا على ما في باطن الأمر؛ ولهذا رد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - على من وصف رجلا في مقامه بأنه مؤمن، فقال: " أو مسلم هو " (¬2). ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة. (¬2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (27) ومسلم رقم (237/ 150) عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن سعد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى رهطا - وسعد جالس - فترك رسول الله رجلا هو أعجبهم إلي، فقلت: يا رسول الله مالك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمنا. فقال: " أو مسلما " فسكت قليلا، ثم غلبني ما أعلم منه، فعدت لمقالتي فقلت: مالك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمنا، فقال: " أو مسلما " ثم غلبني ما أعلم منه، فعدت لمقالتي، وعاد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قال: " يا سعد إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكبه الله في النار ". قال الحافظ في " الفتح " (1/ 80 - 81): أرشده النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أمرين: 1 - إعلامه بالحكمة في إعطاء أولئك وحرمان (جعيل) مع كونه أحب إليه ممن أعطى؛ لأنه لو ترك إعطاء المؤلف لم يؤمن إرتداده فيكون من أهل النار. 2 - إرشاده إلى التوقف عن الثناء بالأمر الباطن دون الثناء بالأمر الظاهر، فوضع بهذا رد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على سعد، وأنه لا يستلزم محض الإنكار عليه، بل كان الجوابين على طريق المشورة بالأولى والآخر عن طريق الاعتذار. وفي الحديث فوائد منها: (أ): التفرقة بين حقيقتي الإيمان والإسلام وترك القطع بالإيمان الكامل عن ما لم ينص عليه. (ب): جواز تصرف الإمام في مال المصالح وتقديم الأهم فالأهم، وإن خفي ذلك وجهه على بعض الرعية. (جـ): مراجعة المشفوع إليه في الأمر إذ لم يؤد إلى مفسدة. (د): الإسرار بالنصيحة أولى من الإعلان، فقد جاء في رواية: " فقمت إليه فساررته ". (هـ): الاعتذار إلى الشافع إذا كانت المصلحة في ترك إجابته. (و): أن لا عيب على الشافع إذا ردت شفاعته. (ز): استحباب ترك الإلحاح في السؤال. (ي): أنه لا يقطع لأحد بالجنة على التعيين إلا من ثبت فيه نص كالعشرة وأشباههم، وهذا مجمع عليه عند أهل السنة. وانظر: " شرح صحيح مسلم " للنووي (2/ 181).

ورد على آخرين بما وصفوا رجلا بالنفاق فقال: " أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ " وهذا كله ثابت في الصحيح (¬1)، وأيضا فذلك الرجل الذي قال فيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " بئس أخو العشيرة " (¬2)، لم يكن إذ ذاك قد صلح إسلامه (¬3)، بل هو من جملة من كان يتبع الإسلام ظاهرا مع اضطراب حاله. وبقي أثر الجاهلية عليه [6أ]. وقد كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يتألف أمثال هذا، ويعاملهم معاملة المسلمين الخالصي الإسلام، مع علمه وعلم أصحابه بما هم عليه، وكان يقول لمن يأتيه منهم: " هذا سيد بني فلان، هذا سيد قومه، هذا سيد الوبر " (¬4) ونحو ذلك، بل كان يتآلفهم ¬

(¬1) أخرجه مسلم رقم (54/ 33) عن أنس بن مالك، قال: حدثني محمود بن الربيع عن عتبان بن مالك قال: قدمت المدينة، فلقيت عتبان، فقلت: حديث بلغني عنك، قال: أصابني في بصري بعض الشيء، فبعث إلي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أني أحب أن تأتيني فتصلي في منزلي فأتخذ مصلى. قال: فأتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن شاء الله من أصحابه، فدخل وهو يصلي في منزلي، وأصحابه يتحدثون بينهم، ثم أسندوا عظم ذلك وكبره إلى مالك بن دخشم، قالوا: ودوا أنه دعا عليه فهلك، وودوا أنه أصابه شر، فقضى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة. وقال: " أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ " قالوا: إنه يقول ذلك، وما هو في قلبه. قال: " لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فيدخل النار أو تطعمه ". قال النووي في " شرحه لصحيح مسلم " (1/ 244): وفي هذا دليل على جواز تمني هلاك أهل النفاق والشقاق ووقوع المكروه بهم. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) أخرج الطبراني في " الكبير " (18/ 239) رقم (870) والحاكم في " المستدرك " (3/ 612) والبخاري في " الأدب المفرد " رقم (953) عن قيس بن عاصم المنقري، وفيه أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: " هذا سيد الوبر ". وأخرج الحاكم في " المستدرك " (3/ 611) عن قيس بن عاصم المنقري، وفيه أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: " هذا سيد الوبر ". وهو حديث حسن لغيره.

بالكثير من المال والنصيب الوافر من المغانم، ويكل خلص المؤمنين من المهاجرين والأنصار إلى إيمانهم ويقينهم، هذا معلوم لا يشك فيه عارف، ولا يخالف فيه مخالف، فلا يحل لأحدنا أن يعمد إلى من يعلم أنه خالص الإسلام، صحيح النية فيه، مؤمن بالله وبرسوله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فيغتابه بمعصية فعلها أو خطيئة جاهر بها، مستدلا على ذلك بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " بئس أخو العشيرة " (¬1)؛ لما أوضحنا لك، وليس الخطر هاهنا بيسير، ولا الخطب بقليل؛ فإن الإقدام على الغيبة المحرمة بالكتاب والسنة والإجماع إذا لم يكن فيه برهان من الله - سبحانه - كان الوقوع فيه وقوعا فيما حرمه الله ونهى عنه، والقول بجوازه بدون برهان من التقول على الله بما لم يقل، وهو أشد من ذلك وأعظم وأخطر، والهداية بيد الله - عز وجل -. [الصورة السادسة: التعريف بالألقاب] وأما الصورة السادسة: وهي التعريف بالألقاب. فأقول: قد نهى عن ذلك القرآن الكريم، قال الله - عز وجل -: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} (¬2). وهذا النهي [6] يدل على تحريم التلقيب، ولا يجوز شيء منه إلا بدليل يخصص هذا العموم، فقد اجتمع على المنع من هذا دليلان قويان سويان: أحدهما: أدلة تحريم الغيبة. ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) [الحجرات: 11].

والثاني: دليل تحريم التلقيب. فإن كان ذكر ذي اللقب بلقبه في غيبته، كان الذاكر جامعا بين تحريم الغيبة، وتحريم التلقيب، وإن كان ذكر ذي اللقب في وجهه كان الذاكر واقعا في التلقيب [المحرم] (¬1). فإن قلت: إذا علمنا أن المذكور بلقبه لا يكره ذكره به. قلت: إذا علمنا ذلك لم يكن غيبة محرمة؛ لأن الغيبة هي ذكرك أخاك بما يكره، ولكن الذاكر له بذلك اللقب واقع في مخالفة النهي القرآني المصرح بالنهي عن التنابز بالألقاب كما لا يخفى. فإن قلت: إذا كان [6ب] ذكره باللقب أقرب إلى تعريفه، كمن يشتهر بالأعرج والأعمش والأعور، ونحو ذلك. قلت: هذه الأقربية لا تحلل ما حرمه الله، فينبغي ذكره [بالأوصاف] (¬2) التي لا تلقيب فيها، وإن طالت المسافة وبعدت، وانظر ما في مثل هذا من الخطر العظيم، وهو الوقوع في النهي القرآني، ومما يزيدك [عن] (¬3) هذا وأمثاله بعدا قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لمن سمعها تذكر امرأة أخرى بأنها قصيرة فقال: " لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته " (¬4) والحديث صحيح. ¬

(¬1) زيادة من (أ). (¬2) في (ب): بأوصافه. (¬3) في (ب): على. (¬4) أخرجه أبو داود رقم (4875) والترمذي رقم (2503) وأحمد (6/ 189) من طريق أبي حذيفة عن عائشة. قال الترمذي حديث حسن صحيح. وهو حديث صحيح. قال الحافظ في " الفتح " (10/ 468 - 469) أن اللقب إن كان مما يعحب الملقب ولا إطراء فيه مما يدخل في نهي الشرع، فهو جائز أو مستحب، وإن كان مما لا يعجبه فهو حرام أو مكروه، إلا إن تعين طريقا إلى التعريف به حيث يشتهر به ولا يتميز عن غيره إلا بذكره. ومن ثم أكثر الرواة من ذكر الأعمش والأعرج ونحوهما، وعارم وغندر وغيرهم، والأصل فيه قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ركعتين من صلاة الظهر فقال: أكما يقول ذو اليدين. . . وساق بعض ألفاظ الرواية. ثم قال ابن حجر: وكأن البخاري لمح بذلك حيث ذكر قصة ذي اليدين وفيها: " وفي القوم رجل في يديه طول. قال ابن المنير: أشار البخاري إلى أن ذكر مثل هذا إن كان للبيان والتمييز فهو جائز، وإن كان للتنقيص لم يجز. قال: وجاء في بعض الحديث عن عائشة في المرأة التي دخلت عليها فأشارت بيدها أنها قصيرة. فقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اغتبتها " وذلك أنها لم تفعل هذا بيانا، وإنما قصدت الإخبار عن صفتها، فكان كالاغتياب ".

فإن قلت: هذه دواوين الإسلام، ومسانيدها، ومعاجمها، وسائر المصنفات في السنة مشحونة بذكر الألقاب؛ كالأعمش، والأعرج، والأعور، ونحوها. قلت: [لا يصلح] (¬1) إيراد مثل هذا في مقابلة النهي القرآني المصرح بتحريم التنابز بالألقاب، وإنما يقتدي الناس بأهل العلم في الخير، فإذا جاءوا بما يخالف الكتاب والسنة فالقدوة الكتاب والسنة، مع إحسان الظن بهم، وحملهم على محامل حسنة مقبولة. فإن قلت: فإن كان صاحب اللقب لا يعرف إلا به، ولا يعرف بغيره أصلا؟ قلت: إذا بلغ الأمر إلى هذه النهاية، ووصل البحث إلى هذه الغاية، لم يكن ذلك اللقب لقبا، بل هو الاسم الذي يعرف به صاحبه؛ إذ لا يعرف باسم سواه قط. والتسمية للإنسان باسم يعرف به، لا سيما من كان رواة العلم الحاملين له المبلغين ما عندهم منه إلى الناس، أمر تدعو [الحاجة إليه] (¬2) وإلا بطل ما يرويه من العلم، خصوصا ما كان قد تفرد به ولم يشاركه فيه غيره، وعلى هذا يحمل ما وقع في المصنفات من ذكر الألقاب؛ فإنها أهلها وإن كانت لهم أسماء، ولآبائهم ولأجدادهم، فغيرهم يشاركهم فيها، فقد يتفق اسم الرجل مع الرجل، واسم أبيه مع أبيه، واسم جده، فلا يمتاز أحدهما عن الآخر [7أ] في كثير من الحالات إلا بذكر الألقاب ونحوها. ¬

(¬1) في (ب): لا يصح. (¬2) في (ب): إليه الحاجة.

وحينئذ لم يبق لتلك الأسماء فائدة؛ لأن المقصود منها أن يتميز بها صاحبها عن غيره، ولم يحصل هذا الذي هو المقصود بها. بل إنما حصل من اللقب، فكان هو الاسم المميز في الحقيقة، فلم يكن ذلك من التنابز بالألقاب. [خاتمة الرسالة] فاعرف هذا وتدبره، فإنه نفيس، وبه يندفع ما تقدم من إيراد ما جرى عليه [عمل] (¬1) أئمة الرواية. وهكذا يرتفع الإشكال عن القارئ لتلك الكتب، ولا يقال له: إنه يروي [الألقاب] (¬2)، ويغتاب أهلها بقراءتها في كتب السنة. ¬

(¬1) زيادة من (أ). (¬2) في (ب): بالألقاب. قال الغزالي في " الإحياء " (3/ 144): اعلم أن الذكر باللسان إنما حرم؛ لأن فيه تفهيم نقصان أخيك وتعريفه بما يكره، فالتعريض به كالتصريح، والفعل فيه كالقول، والإشارة والإيماء والغمز والهمز والكتابة والحركة ما يفهم المقصود فهو داخل في الغيبة وهو حرام. اعرف الأسباب الباعثة على الغيبة تصفو نفسك وتطهر: 1 - أن يشفي الغيظ، وذلك إذا جرى سبب غضب به عليه، فإنه إذا هاج غضبه يشتفي بذكر مساويه، فيسبق إليه بالطبع إن لم يكن دين وازع، وقد يمتنع من تشفي الغيظ عند الغضب، فيحتقن الغضب في الباطن فيصير حقدا ثابتا، فيكون سببا دائما لذكر المساوي، فالحقد والغضب من البواعث العظيمة على الغيبة. 2 - موافقة الأقران ومجاملة الرفقاء ومساعدتهم على الكلام، فإنهم إذا كانوا يتفكهون بذكر الأعراض غير أنه لو أنكر عليهم أو قطع المجلس استثقلوه ونفروا عنه، فيساعدهم ويرى في ذلك المعاشرة، ويظن أنه مجاملة في الصحبة. 3 - أن يستشعر من إنسان أنه سيقصده ويطول لسانه عليه، أو يقبح حاله عند محتشم أو يشهد عليه بشهادة، فيبادر قبل أن يقبح هو حاله ويطعن فيه ليسقط أثر شهادته، أو يبتدئ بذكر ما فيه صادقا ليكذب عليه بعده، فيروج كذبه بالصدق الأول، ويستشهد ويقول: ما من عادتي الكذب، فإني أخبرتكم بكذا وكذا من أحواله، فكان كما قلت. 4 - أن ينسب إلى شيء فيريد أن يتبرأ منه فبذكر الذي فعله، وكان من حقه أن يبرئ نفسه ولا يذكر الذي فعل، فلا ينسب غيره إليه، أو يذكر غيره بأنه كان مشاركا له في الفعل ليمهد بذلك عذر نفسه في فعله. 5 - إرادة التصنع والمباهاة، وهو أن يرفع نفسه بتنقيص غيره. 6 - الحسد، وهو أنه ربما يحسد من يثني الناس عليه ويحبونه ويكرمونه، فيريد زوال تلك النعمة عنه، فلا يجد سبيلا إليه إلا بالقدح فيه. 7 - اللعب والهزل والمطايبة وتزجية الوقت بالضحك، فيذكر عيوب غيره بما يضحك الناس على سبيل المحاكاة، ومنشؤه النكير والعجب. 8 - السخرية والاستهزاء استحقارا له، فإن ذلك قد يجري في الحضور، ويجري أيضًا في الغيبة، ومنشؤه التكبر واستصغار المستهزئ به، وهناك أسباب خاصة فهي أغمض وأدق تلك الأسباب؛ لأنها شرور خبأها الشيطان في معرض الخيرات وفيها خير، ولكن شاب الشيطان بها الشر. 1 - ): أن تنبعث من الدين داعية التعجب في إنكار المنكر والخطأ في الدين، فيقول: ما أعجب ما رأيت من فلان، فإنه قد يكون صادقا ويكون تعجبه من المنكر، ولكن كان في حقه أن يتعجب ولا يذكر اسمه، فيسهل عمل الشيطان عليه ذكر اسمه في إظهار تعجبه، فصار به مغتابا وآثما من حيث لا يدري. 2 - ): الرحمة، وهو أن يغتم بسبب ما يبتلى به فيقول: مسكين فلان قد غمني أمره وما ابتلي به، فيكون صادقا في دعوى الاغتمام، ويلهيه الغم عن الحذر من ذكر اسمه فيذكره، فيصير به مغتابا، فيكون غمه ورحمته خيرا، وكذا تعجبه، ولكن ساقه الشيطان إلى شر من حيث لا يدري، والترحم والاغتمام ممكن دون ذكر اسمه فيهيجه الشيطان على ذكر اسمه ليبطل ثواب الاغتمام وترحمه. 3 - ): الغضب لله تعالى، فإنه قد يغضب على منكر قارفه إنسان إذا رآه أو سمعه، فيظهر غضبه أو يذكر اسمه، وكان الواجب أن يظهر غضبه عليه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يظهر على غيره أو يستر اسمه ولا يذكره بالسوء. انظر مزيد تفصيل: " إحياء علوم الدين " (3/ 108 - 161) كتاب آفات اللسان. واعلم أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله ". أخرجه مسلم رقم (2564) من حديث أبي هريرة. وأخرج البخاري في صحيحه رقم (67) ومسلم رقم (1679) عن أبي بكرة أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في خطبته في حجة الوداع: " إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت ". وأخرج البخاري في صحيحه رقم (11) ومسلم رقم (42) عن أبي موسى الأشعري قال: قلت: يا رسول الله أي المسلمين أفضل؟ قال: " من سلم المسلمون من لسانه ويده ". وأخرج البخاري في صحيحه رقم (6474) عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه، أضمن له الجنة ". وقد ذكر قوله - عز وجل -: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].

وفي هذا المقدار كفاية. والله ولي التوفيق [كتبه المجيب محمد الشوكاني - غفر الله له -] (¬1). [انتهى نقل هذه الرسالة العظيمة في يوم الثلاثاء سابع شهر شوال سنة أربع وثلاث عشر مائة بعد الألف سنة 1304 ختمت وما بعدها بخير آمين - وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم آمين] [7] (¬2). ¬

(¬1) زيادة من (أ). (¬2) زيادة من (ب).

رسالة في حكم القيام لمجرد التعظيم

(183) 20/ 1 رسالة في حكم القيام لمجرد التعظيم تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: رسالة في حكم القيام لمجرد التعظيم. 2 - موضوع الرسالة: آداب. 3 - أول الرسالة: هذا البحث لشيخنا القاسم بن يحيى الخولاني رحمه الله، وأجيب عنه بما بعده. بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الراشدين، وبعد، فإنه لما بلغ السماع في جامع الأصول على مولانا وشيخنا العلامة وحيد الدين عبد القادر بن أحمد. 4 - آخر الرسالة: انتهى من خط المجيب حفظه الله وبارك لنا في أيامه ولياليه بحق محمد وآله وسلم. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 14 صفحة. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرا ما عدا الصفحة الأولى فعدد أسطرها 20 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

هذا البحث لشيخنا العلامة القاسم بن يحيى الخولاني (¬1) رحمه الله، وأجيب عنهما بعده. [بسم الله الرحمن الرحيم] وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الراشدين وبعد: فإنه لما بلغ السماع في جامع الأصول (¬2) على مولانا وشيخنا العلامة وحيد الدين عبد القادر بن أحمد (¬3) - فسح الله في مدته - إلى حديث كعب بن مالك (¬4)، ومجيئه إلى النبي - ¬

(¬1) القاسم بن يحيى الخولاني ثم الصنعاني، ولد سنة 1162، ونشأ بصنعاء فأخذ عن جماعة من أكابر علمائهم منهم: العلامة أحمد بن صالح بن أبي الرجال. برع في جميع العلوم. قال الشوكاني في " البدر الطالع " في ترجمته رقم (385): ولازمته وانتفعت به، فقرأت عليه الكافية في النحو وشرحها للسيد المفتي جميعا وشرحها للخبيصي جميعا، وحواشيه وشرح الرضي شيئا يسيرا من أواخره، والشافية في الصرف وشرحها للشيخ لطف الله جميعا، والتهذيب للسعد في المنطق وشرحه للشيرازي جميعا وشرحه للبزدي. . . وغيرها الكثير. . . وكان - رحمه الله - يطارحني في البحث مطارحة المستفيد تواضعا منه، وجرت بيني وبينه مباحثات في مسائل يشتمل عليها رسائل. توفي سنة 1209هـ. " البدر الطالع " رقم (385)، و" نيل الوطر " (2/ 184 رقم 387). (¬2) (2/ 179). (¬3) هو عبد القادر بن أحمد بن عبد القادر بن الناصر بن عبد الرب بن علي بن شمس الدين، ابن الإمام شرف الدين بن شمس الدين بن الإمام المهدي أحمد بن يحيى، ولد سنة 1135، نشأ بكوكبان، فقرأ على من به من العلماء، ثم ارتحل إلى صنعاء، فأخذ عن أكابر علمائها كالسيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير، والسيد العلامة هاشم بن يحيى وغيرهم. قال الشوكاني في " البدر الطالع " رقم الترجمة (243): أخذت عنه في علوم عدة فقرات. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4418) ومسلم في صحيحه رقم (2769) وأخرجه أبو داود رقم (2202) والترمذي رقم (3101) والنسائي (6/ 152) وأحمد (3/ 459، 460) من حديث كعب بن مالك. قال الحافظ في " الفتح " (11/ 52): واحتج النووي بقيام طلحة لكعب بن مالك. وأجاب ابن الحاج بأن طلحة إنما قام لتهنئته ومصافحته؛ ولذلك لم يحتج به البخاري للقيام، وإنما أورده في المصافحة. ولو كان قيامه محل النزاع لما انفرد به. فلم ينقل أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام له ولا أمر به ولا فعله أحد ممن حضر، وإنما انفرد طلحة لقوة المودة بينهما على ما جرت به العادة أن التهنئة والبشارة ونحو ذلك تكون على قدر المودة والخلطة، بخلاف السلام فإنه مشروع على من عرفت ومن لم تعرف، والتفاوت في المودة يقع بسبب التفاوت في الحقوق، وهو أمر معهود. قلت - ابن حجر -: ويحتمل أن يكون من كان لكعب عنده من المودة مثل ما عند طلحة لم يطلع على وقوع الرضا عن كعب واطلع عليه طلحة؛ لأن ذلك عقب منع الناس من كلامه مطلقا، وفي قول كعب: " لم يقم إلي من المهاجرين غيره " إشارة إلى أنه قام إليه غيره من الأنصار. قال ابن الحاج: وإذا حمل فعل طلحة على محل النزاع لزم أن يكون من حضر من المهاجرين قد ترك المندوب، ولا يظن بهم ذلك. " شرح صحيح مسلم " للنووي (17/ 96)، " كتاب الترخيص في الإكرام بالقيام " للنووي (ص 29 - 34).

صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لما أنزل الله توبته، وقيام طلحة بن عبد الله يهرول حتى صافحه وهناه، واستفيد من جواز القيام للداخل كما وقع من طلحة لكعب، لتقرير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فأورد بعض الحاضرين من العلماء الأعلام حديثا رواه أبو داود (¬1) يقضي بالمنع من القيام للداخل، ثم جمع بين الحديثين بحمل ما وقع من طلحة على القيام مع المصافحة كما هو كذلك، وإطلاق المنع من ما عداه؛ لما في حديث أبي داود، ولم يبتئس في تلك الحال استيفاء البحث، فبقي في النفس منه شيء، ولما يسر الله البحث عن ذلك، رأيت رقم ما وقفت عليه، وعرضه على شيخنا حفظه الله. فأقول: لفظ الحديث في أبي داود: عن أبي أمامة قال: خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - متوكيا على عصا، فقمنا إليه فقال: " لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضا ". قال الحافظ المنذري في مختصر السنن (¬2) وأخرجه ابن ماجه (¬3)، ¬

(¬1) في " السنن " رقم (5230) وهو حديث ضعيف. (¬2) (8/ 93). (¬3) في " السنن " رقم (3836).

وفي إسناده أبو غالب حزوره، ويقال: نافع. ويقال: سعيد بن الحزور. قال يحيى بن معين: صالح الحديث. وقال مرة: ليس به بأس، وقال مرة: ترك شعبة أبا غالب، وضعفه شعبة على أنه تغير عقله، وقال موسى بن هارون: ثقة (¬1)، وقال أبو حاتم الرازي (¬2) ليس بالقوي، وقال ابن حبان (¬3) لا يجوز الاحتجاج به، إلا فيما يوافق الثقات، وقال ابن سعد في الطبقات (¬4) سمعت من يقول: اسمه نافع، وكان ضعيفا منكر الحديث، وقال النسائي (¬5) ضعيف. وقال الدارقطني (¬6) لا يعتبر به، وقال مرة ثقة. انتهى كلام المنذري (¬7). ثم قال بعد هذا: وقد أخرج مسلم في صحيحه (¬8) من حديث أبي الزبير عن جابر أنهم لما صلوا خلفه قعودا، قال: " إن كدتم آنفا تفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود؛ فلا تفعلوا " انتهى. فكيف يقال لمعارضة هذا الحديث الذي في إسناده من سمعت ما قيل فيه [1]؛ لما وقع في حديث كعب بن مالك المتفق عليه (¬9)، ولو فرضت صحته إسنادا إلى توثيق من وثق أبا غالب من الأئمة، فهو محمول على القيام في حال قعود من كان القيام لأجله كما في حديث مسلم المذكور آنفا. ويدل على حمله على ذلك إيراد الحافظ المنذري لحديث مسلم (¬10) عقيب كلامه على إسناد ذلك الحديث. ¬

(¬1) انظر " تهذيب التهذيب " (4/ 570)، " ميزان الاعتدال " (1/ 476 رقم 1799). (¬2) انظر " تهذيب التهذيب " (4/ 570). (¬3) في " المجروحين " (1/ 267) (¬4) ذكره ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (4/ 570). (¬5) في " الضعفاء والمتروكين " (ص 262) رقم (696). (¬6) ذكره ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (4/ 570). (¬7) في " مختصر السنن " (8/ 93) وهو حديث ضعيف. انظر: " الضعيفة " رقم (346). (¬8) رقم (413). (¬9) تقدم تخريجه. (¬10) رقم (413).

هذا لو لم يكن الدليل على جواز القيام إلا تقرير النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لما فعله طلحة، فكيف وقد أخرج البخاري (¬1)، ومسلم (¬2)، وأبو داود (¬3)، والنسائي (¬4) حديث سعد بن معاذ لما أرسل إليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فجاء، فقال لمن عنده: " قوموا إلى سيدكم، أو خيركم ". وأخرج أبو داود (¬5)، والترمذي (¬6)، والنسائي (¬7) من حديث عائشة أنها قالت: " ما رأيت أحدا كان أشبه سمتا، ودلال، وهديا " وفي رواية (¬8) حديثا وكلاما برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من فاطمة - كرم الله وجهها (¬9) - كانت إذا دخلت عليه قام إليها، فأخذ بيدها فقبلها واجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فقبلته، وأجلسته في مجلسها (¬10). انتهى. واللفظ لأبي داود (¬11)، قال العامري في البهجة: في حديث كعب هذا فوائد، ثم ساقها حتى قال: ومنها استحباب القيام للوارد إكراما له، إذا كان من أهل الفضل، بأي نوع كان، وجواز سرور المقول له بذلك، كما سر كعب بقيام طلحة - رضي الله عنه - وليس بمعارض لحديث: " من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار " (¬12)؛ لأن هذا الوعيد للمتكبرين ومن يغضب إن لم يقم له. ¬

(¬1) في صحيحه رقم (3043) وأطرافه (3804، 4121، 6262). (¬2) في صحيحه رقم (1768). (¬3) في " السنن " رقم (5215). (¬4) في " فضائل الإمام علي " رقم (118). (¬5) في " السنن " رقم (5217). (¬6) في " السنن " رقم (3872). (¬7) لم أجده. قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (1621) وهو حديث صحيح. (¬8) قال الحسن حديثا وكلاما ولم يذكر السمت والهدي والدل برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من فاطمة. (¬9) تقدم التعليق على هذه الجملة، والأولى رضي الله عنها. (¬10) سيأتي تخريجه. (¬11) في " السنن " رقم (5217) وهو حديث صحيح. (¬12) سيأتي تخريجه.

وقد كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقوم لفاطمة - رضي الله عنها - سرورا بها، وتقوم له كرامة له، وكذلك قيام أثمره الحب في الله، والسرور لأخيك بنعمة الله، والبر لمن يتوجه بره، والأعمال بالنيات، والله أعلم. انتهى. قال الإمام الرافعي (¬1) ويكره للداخل أن يطمع في قيام القوم، ويستحب لهم أن يكرموه. انتهى. قال الحافظ ابن حجر في التلخيص (¬2) كأنه أراد أن يجمع بين الأخبار الواردة في الجواز والكراهة. فأما الأول: ففيه حديث معاوية: " من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار " (¬3). وأما الثاني: ففيه حديث أبي سعيد: " قوموا إلى سيدكم " رواه البخاري (¬4) وحديث جرير: " إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه " رواه البيهقي (¬5)، والطبراني (¬6)، والبزار (¬7)، وإسناده (¬8) أقوى من إسنادهما. انتهى. ¬

(¬1) ذكره ابن حجر في " التلخيص " (4/ 180). (¬2) في " التلخيص " (4/ 180). (¬3) أخرجه أبو داود رقم (5229) والترمذي رقم (2756) وقال: هذا حديث حسن. (¬4) في صحيحه رقم (3043) وقد تقدم. (¬5) في " السنن الكبرى " (8/ 168). (¬6) في " الكبير " (2/ 304، 325 رقم 2266، 2358). وأورده الهيثمي في " المجمع " (8/ 15) وقال: رواه الطبراني في " الأوسط " وفيه حصين بن عمر وهو متروك. (¬7) في مسنده (2/ 402 رقم 1959 - كشف). وأورده الهيثمي في " المجمع " (8/ 15 - 16) وقال: رواه الطبراني في " الأوسط " والبزار باختصار، وفيه من لم أعرفهم. (¬8) أي البيهقي.

فظهر مما سبق نقله أن القيام للوارد بمدلول عليه بالسنة قولا، وفعلا، وتقريرا أن حديث أبي أمامة في أبي داود لا يقوى على معارضة ما في الصحيحين لو صح سنده، وأن القول بحمله على ما لم تصحبه المصافحة، وحمل حديث كعب على القيام مع المصافحة تكلف لا حاجة إليه، لكن يبقى الكلام هل هذا القيام جائز مع الكراهة كما يستفاد من كلام الحافظ ابن حجر (¬1) المنقول آنفا؟ وهو مشروع، أعني مستحبا، كما صرح به العامري في البهجة، فلا كراهة. والظاهر أنه مستحب [2] إذ لا يأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بالمكروه كما وقع في حديث سعد بن معاذ. وجعل الحافظ ابن حجر (¬2) لحديث معاوية دليلا على الكراهة - أعني كراهة القيام - لا يتم؛ إذ مقتضى حديث معاوية المنع من السرور بالقيام، وهو إنما يقع للوارد المعني بقوله: من سره أن يتمثل له الرجال. . إلخ (¬3)، والمأمور بالقيام من وقع الورود عليه، فلم يتوارد ما يدل على القيام، وما يدل على منع السرور منه على محل واحد، حتى يحمل المثبت منهما على الجواز مع الكراهة، نعم المكروه حصول السرور من الوارد؛ لحديث معاوية المذكور، وإنما قيل بالكراهة بدون التحريم لما عرفت من سرور كعب بن مالك بقيام طلحة، وتقرير النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لذلك السرور كما أفاده العامري. هذا ما ظهر للراقم، وفوق كل ذي علم عليم. ¬

(¬1) في " التلخيص " (4/ 180 - 181). (¬2) في " التلخيص " (4/ 180 - 181). (¬3) قال ابن تيمية في " مجموع فتاوى " (1/ 375): " وليس هذا القيام المذكور في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار " فإن ذلك أن يقام له وهو قاعد، ليس هو أن يقوموا لمجيئه إذا جاء؛ ولهذا فرقوا بين أن يقام إليه وقمت له، والقائم للقادم ساواه في القيام بخلاف القائم للقاعد ".

هذا الجواب مني (¬1) على بحث شيخنا العلم رحمه الله، وكانت هذه المباحث بيني وبينه، وأنا في أيام الصغر، قبل الإمعان في الطلب كما ينبغي، فليعلم ذلك. بسم الله الرحمن الرحيم وبعد، فإنه وقف الحقير على هذا البحث النفيس الذي حرره شيخنا العلامة (¬2) - نفع الله بعلومه - في شأن تلك المذاكرة، التي جرت بيننا حال السماع على شيخنا الإمام الوجيه، كشف الله بأنوار علومه دياجير الظلم، وبدد بهديه القويم شمل الابتداع. وقد أفاد وأجاد، وأحسن ما شاء - أحسن الله إليه - ولا غرو أن نثر علينا من هذه الدرر الثمينة فهو البحر التيار، أو جلى في هذه الحلبة فصلينا وسلمنا فهو السابق في ذلك المضمار، إلا إنه علق بالذهن العليل عند أسامة شرح اللحظ في هذه الحديقة الأنيقة ما جرى به القلم في هذا القرطاس، لا لقصد المعارضة، بل رجاء العثور ببركة شيخي على الحقيقة. فأقول: ليعلم أولا أن محل النزاع القيام المقيد بالتعظيم لا المطلق، وقد دل على تحريم الأول حديث أبي أمامة عند أبي داود (¬3) بلفظ: " خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - متوكيا على عصا، فقمنا إليه، فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم، يعظم بعضهم بعضا ". ولا يخفى عليك أن مناط النهي ههنا هو التعظيم المصرح به، وقد شهد لهذا الحديث حديث مسلم (¬4) الذي ساقه شيخنا؛ ولهذا أورده المنذري (¬5) في ¬

(¬1) أي الشوكاني رحمه الله. (¬2) أي العلامة القاسم بن يحيى الخولاني رحمه الله. (¬3) تقدم تخريجه وهو حديث ضعيف. (¬4) في صحيحه رقم (413) من حديث جابر. وفيه: ". . . إن كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم. . . ". (¬5) في " المختصر " (8/ 93).

هذا البحث، لا لما ذكره العلم - حفظه الله - من أن الغرض من إيراده بيان أن القيام محمول على القيام في حال القعود؛ فإنه يأباه لفظ " خرج " المقيد بـ " متوكيا "، المعلق عليه، فقال: بالفاء التي هي غالبة في الفوز [3]، ويشهد له أيضًا حديث: " من سره أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار " (¬1) فإنه محمول على التعظيم حمل المطلق ¬

(¬1) تقدم وهو حديث صحيح. قال الخطابي: ". . . وفيه قيام المرءوس للرئيس الفاضل والإمام العادل والمتعلم للعالم مستحب، وإنما يكره لمن كان بغير هذه الصفات، ومعنى حديث: " من أحب أن يقام له " أي: بأن يلزمهم بالقيام له صفوفا على طريق الكبر والنخوة. ورجح المنذري الجمع عن ابن قتيبة والبخاري وأن القيام المنهي عنه أن يقام عليه وهو جالس. وقد رد ابن القيم في (8/ 85 - حاشية مختصر السنن) على هذا القول بأن سياق حديث معاوية يدل على خلاف ذلك، وإنما يدل على أنه كره القيام له لما خرج تعظيما؛ ولأن هذا لا يقال له القيام للرجل، وإنما هو القيام على رأس الرجل أو عند الرجل. قال ابن القيم: والقيام ينقسم على ثلاث مراتب: 1 - قيام على رأس الرجل وهو فعل الجبابرة. 2 - قيام إليه عند قدومه ولا بأس به. 3 - قيام له عند رؤيته وهو المتنازع فيه. قال البخاري: وورد في خصوص القيام على رأس الكبير الجالس ما أخرجه الطبراني في " الأوسط " رقم (6680) عن أنس قال: " إنما هلك من كان قبلكم بأنهم عظموا ملوكهم بأن قاموا وهو قعود ". - وما أخرجه مسلم رقم (413) من حديث جابر وفيه: " إن كنتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهو قعود ". وحكى المنذري قول الطبري: وأنه قصد النهي عن من سره القيام له لما في ذلك من حمية التعاظم ورؤية منزلة نفسه، ورجح ذلك النووي. وقال النووي في الجواب عن حديث معاوية: أن الأصح والأولى بل الذي لا حاجه إلى ما سواه أن معناه زجر المكلف أن يحب قيام الناس له. وقال: وليس فيه تعرض للقيام بمنهي ولا غيره، وهذا متفق عليه. قال: والمنهي عنه حمية القيام، فلو لم يخطر بباله فقاموا له أو لم يقوموا فلا لوم عليه، فإن أحب ارتكب التحريم، سواء قاموا أو لم يقوموا. قال: فلا يصح الاحتجاج به لترك القيام. واعتراض ابن الحاج بأن الصحابي الذي تلقى ذلك من صاحب الشرع قد فهم منه النهي عن القيام للذي يقام له في المحذور. فصوب فعل من امتنع من القيام دون من قام، وأقروه على ذلك. وكذا قال ابن القيم في " حواشي السنن ": في سياق حديث معاوية رد على من زعم أن النهي إنما هو في حق من يقوم الرجال بحضرته؛ لأن معاوية إنما روى الحديث حين خرج فقاموا له. ثم ذكر ابن الحاج من المفاسد التي تترتب على استعمال القيام أن الشخص صار لا يتمكن فيه من التفصيل بين من يستحب إكرامه وبره، كأهل الدين والخير والعلم، أو يجوز كالمستورين، وبين من لا يجوز كالظالم المعلن بالظلم، أو يكره كمن لا يتصف بالعدالة وله جاه. فلولا اعتبار القيام ما احتاج أحد أن يقوم لمن يحرم إكرامه أو يكره، بل جر ذلك إلى ارتكاب النهي لما صار يترتب على الترك من الشر، وفي الجملة متى صار ترك القيام يشعر بالاستهانة أو يترتب عليه مفسدة امتنع، وإلى ذلك أشار ابن عبد السلام. قال ابن كثير في تفسيره عن بعض المحققين التفصيل فيه فقال: المحذور أن يتخذ ديدنا كعادة الأعاجم كما دل عليه حديث أنس -: " إنما أهلك من كان قبلكم بأنهم عظموا ملوكهم بأن قاموا وهم قعود ". وأما إن كان لقادم من سفر أو لحاكم في محل ولايته فلا بأس به. قال الحافظ ابن حجر: ويلتحق بذلك ما تقدم، كالتهنئة لمن حدثت له نعمة، أو لإعانة العاجز، أو لتوسيع المجلس أو غير ذلك. وقال الغزالي: القيام على سبيل الإعظام مكروه، وعلى سبيل الإكرام لا يكره. " فتح الباري " (11/ 53 - 54).

على المقيد، لا يقال: الوعيد ههنا للمقوم له لا للقايم، وليس مما يخفى فيه لا أنا نقول: الوعيد على المرة بالفعل قاض بعدم جوازه؛ إذ المرة بالجايز جائزة بلا نزاع. فإن قلت: هذا الحديث وارد في القيام على القاعد، لا في القيام إلى الوارد. قلت: التقييد بحال القعود خلاف ما دل عليه الحديث؛ للقطع باندراج القيام للقائم تحته. فإن قلت: التقييد بحديث مسلم بلفظ: " يقومون على ملوكهم وهم قعود ". قلت: قد عرفت حديث أبي أمامة ودلالته على المنع من القيام تعظيما، وحكاية أن

ذلك من فعل الأعاجم، فليس أحد الحديثين بالتقييد أولى من الآخر، فالحق منع القيام بمجرد التعظيم مطلقا (¬1). وقد شدت هذه الشواهد من عضد حديث أبي أمامة، فصلح للاحتجاج على تحريم ذلك القيام المقيد بالتعظيم، ونحن نقول بموجب ما احتج به شيخنا على الجواز من تقرير النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لفعل طلحة، وأمر قوم سعد بالقيام إليه، وقيامه إلى فاطمة، وقيامها إليه؛ لأن هذه الأدلة خالية عن ذلك القيد الذي جعلناه مناط النهي، وهي أدلتنا على جواز القيام الخالي عن التعظيم، سواء كان الباعث عليه المحبة أو الإكرام، أو الوفاء بحق القاصد كالقيام للمصافحة أو غير ذلك، على أنه قد قيل في حديث سعد أن أمر أصحابه بالقيام إليه لإعانته على النزول عن ظهر مركوبه؛ لضعفه عن النزول بسبب الجراحة التي أصابته (¬2)، وهذا وإن كان خلاف الظاهر، إلا أنه يعين على قبوله ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة. (¬2) قال الحافظ في " الفتح " (11/ 51): ثم نقل المنذري عن بعض من منع ذلك مطلقا أنه رد الحجة بقصة سعد بأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أمرهم بالقيام لسعد لينزلوه عن الحمار؛ لكونه كان مريضا. قال: وفي ذلك نظر. قلت: كأنه لم يقف على مستند هذا القائل، وقد وقع في مسند عائشة عن أحمد في " المسند " (6/ 143) من طريق علقمة بن وقاص عنها في قصة غزوة بني قريظة وقصة سعد بن معاذ ومجيئة مطولا، وفيه: " قال أبو سعيد: فلما طلع قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قوموا إلى سيدكم فأنزلوه ". وسنده حسن، وهذه الزيادة تخدش في الاستدلال بقصة سعد في مشروعية القيام المتنازع فيه، وقد احتج به النووي في كتاب " القيام " (ص 33 - 36) ونقل عن البخاري ومسلم وأبي داود أنهم احتجوا به، ولفظ مسلم: لا أعلم في قيام الرجل للرجل حديثا أصح من هذا. وقد اعترض عليه الشيخ أبو عبد الله الحاج " في كتاب المدخل " فقال ما ملخصه: لو كان القيام المأمور به لسعد هو المتنازع فيه لما خص به الأنصار، فإن الأصل في أفعال العرب التعميم، ولو كان القيام لسعد على سبيل البر والإكرام لكان هو - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أول من فعله وأمر به من حضر من أكابر الصحابة، فلما لم يأمر به ولا فعله ولا فعلوه دل ذلك على أن الأمر بالقيام لغير ما وقع فيه النزاع، وإنما هو لينزلوه عن دابته لما كان فيه من المرض كما جاء في بعض الروايات؛ ولأن عادة العرب أن القبيلة تخدم كبيرها؛ لذلك خص الأنصار بذلك دون المهاجرين، مع أن المراد بعض الأنصار لا كلهم وهم الأوس منهم؛ لأن سعد بن معاذ كان سيدهم دون الخزرج، وعلى تقدير تسليم أن القيام المأمور به حينئذ لم يكن للإعانة، فليس هو المتنازع فيه، بل لأنه غائب قدم والقيام للغائب إذا قدم مشروع، قال: ويحتمل أن يكون القيام المذكور إنما هو لتهنئته بما حصل له من تلك المنزلة الرفيعة من تحكيمه والرضا بما يحكم به، والقيام لأجل التهنئة مشروع أيضا، ثم نقل عن أبي الوليد بن رشد أن القيام يقع على أربعة أوجه: 1 - محظور: وهو أن يقع لمن يريد أن يقام إليه تكبرا وتعاظما على القائمين إليه. 2 - مكروه: وهو أن يقع لمن لا يتكبر ولا يتعاظم على القائمين، ولكن يخشى أن يدخل نفسه بسبب ذلك ما يحذر، ولما فيه من التشبه بالجبابرة. 3 - جائز: وهو أن يقع على سبيل البر والإكرام لمن لا يريد ذلك ويؤمن معه التشبه بالجبابرة. 4 - مندوب: وهو أن يقوم لمن قدم من سفر فرحا بقدومه ليسلم عليه، أو إلى من تجددت له نعمة فيهنئه بحصولها، أو مصيبة فيعزيه بسببها. وقال التوربشتي في " شرح المصابيح ": معنى قوله: " قوموا إلى سيدكم " أي: إلى إعانته وإنزاله من دابته، ولو كان المراد التعظيم لقال: قوموا لسيدكم. وتعقبه الطيبي بأنه لا يلزم من كونه ليس للتعظيم أن لا يكون للإكرام، وما اعتل به من الفرق بين إلى واللام ضعيف؛ لأن (إلى) في هذا المقام أفخم من اللام، كأنه قيل: قوموا وامشوا إليه تلقيا وإكراما. وهذا مأخوذ من ترتب الحكم على الوصف المناسب المشعر بالعلية، فإن قوله: " سيدكم " علة للقيام له، وذلك لكونه شريف القدر.

تخصيص هذه الحالة التي صار فيها جريحا بأمر أصحابه بالقيام إليه دون غيرها وغيره، سلمنا أن القيام ليس لهذا الباعث، فقضى الغرض منه على التعظيم الذي هو محل النزاع ممنوع، والسند تعدد المقتضيات، وانتفى المقتضى للتعيين، والنهي عنه بخصوصه، وكلام العامري مسلم؛ لأن القيام للكراهة والسرور والمحبة والبر من الجائز، إنما النزاع في قيام التعظيم الذي هو سنة الأعاجم، وقد أفاد العامري في كلامه هذا الذي نقله شيخنا فائدة قد أشرنا إليها فيما سبق، وهي تعميم القيام في قوله: " من سره أن يتمثل " سواء كان الذي قيم له قائما أو قاعدا؛ ولهذا حمل ذلك القيام الذي ورد الوعيد عليه على القيام للمتكبرين ومن يغضب إن لم يقم له، لا قيام المحبة ونحوها، كما كان من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة ومنها له.

ولا شك أن قيام كل واحد منهما ليس في حال قعود الآخر، فتدبر. وبهذا يعرف أن قول شيخنا - حفظه الله - أن [4] حديث أبي أمامة لا يقوى على معارضة ما في الصحيحين. . إلخ غير مناسب؛ إذ لا تعارض بين مطلق ومقيد؛ إذ هو يحمل أحدهما على الآخر عند استلزام حكم المطلق أمرا منافيا لحكم المقيد بأن يقيد المطلق بقيد، قيل: المقيد كما تقرر في الصول، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإن الأمر بالقيام المطلق ينافي المنهي عنه مقيدا بالتعظيم إلا عند تقييده بضد، قيل: المقيد وهو عدم التعظيم. قال المحقق ابن الإمام في شرح الغاية (¬1) في بحث الإطلاق: والتقييد ما لفظه: إلا إذا استلزم حكم المطلق بالاقتضاء أمرا ينافيه حكم المقيد، إلا عند تقييده بضد قيده، نحو أعتق عني رقبة - مع لا [. . . . .] (¬2) - كافرة، فإنه يجب تقييد المطلق حينئذ ضد قيد المقيد، وهو الإيمان. انتهى. ووزن هذا أوزان ما يخفى فيه، وخلاصة البحث أن القيام جائز مطلقا إلا لقصد التعظيم، سواء كان للوارد أو للقاعد، فما ورد من الأدلة قاضيا بالجواز خاليا عن ذلك القيد كحديث طلحة وسعد، فهو دليل الجواز فيما عداه تقييد للمطلق بضد قيد المقيد كما سبق، وما ورد منها قاضيا بالمنع خاليا عن ذلك القيد كحديث: " من أحب أن يتمثل له الناس. . . " (¬3) الحديث، فهو محمول على ذلك المقيد بقيد التعظيم، حمل المطلق على المقيد تقييدا له بمثل قيده؛ لاتفاقهما سببا وحكما، وما ورد فيها دالا على الجواز كحديث قيام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة وقيامها له مقيدا بقيد الإكرام ونحوه، فهو كذلك لذلك، وما ورد منها دالا على المنع مقيدا بقيد التعظيم كحديث أبي أمامة فهو أيضًا كذلك لذلك، هذا ما ظهر، ولا أقول: ما ثبت وتقرر. والعلم عند ¬

(¬1) تقدم التعريف به. (¬2) كلمة غير واضحة في المخطوط. (¬3) تقدم تخريجه.

الله. انتهى من تحرير القاضي محمد بن علي الشوكاني، حفظه الله، وفسح لنا في مدته، آمين آمين إنه جواد كريم [5].

هذا البحث لشيخنا العلم رحمه الله، وقد تقدم الجواب عليه قبل بورقتين. بسم الله الرحمن الرحيم وبعد، فإني لما وقفت على ما حرره الصنو العلامة النحرير، والبدر الفهامة المنير، واسطة عقد نظام المحققين، وإمام ذوي الإنظار، المتعين على تلك المذاكرة التي جرت في موقف شيخنا وحيد الإسلام، وفي جواز ما جرت به العادة لمن ورد على جماعة من تعظيمهم وإكرامهم له بالقيام، توهمت في مواضع من كلامه أنها صادرة مع عجلة، أو في حالة اشتغال، فعرفته بذلك شفاها على جهة الإجمال، فطلب مني رقم ذلك، ملاحظا للعثور على ما هو الحق في المسألة كما هي طريقة أهل الكمال، لا توسلا إلى فتح باب الجدال، فقوله - حفظه الله تعالى -: دل على تحريم الأول حديث أبي أمامة (¬1). أقول: ما المراد بهذه الدلالة؟ إن أردتم أنه دل على تحريم القيام المقرون لقصد التعظيم من حيث إن العلة - وهي التعظيم - منصوص، فغير مسلم؛ إذ التصريح بالعلة في اللفظ لا يستلزم نصوصيتها كما هو مقرر في القواعد الأصولية (¬2)، وإن أردتم أنها ظاهرة في العلية من حيث ترتيب الراوي لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا تقوموا " على قيامهم بـ " الفاء "، وأنها وإن كانت في المرتبة الثالثة (¬3) من مراتب ما هو ظاهر ........................................................... ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر " إرشاد الفحول " (ص703). (¬3) واعلم أن التعليل قد يكون مستفادا من حرف من حروفه وهي " كي " نحو قوله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]. (اللام): قال تعالى: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]. (إذن): قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أينقص الرطب إذا جف؟ قالوا: نعم، قال: " فلا إذا ". (من): قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]. (الباء): قال تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40]. (الفاء): قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38]. انظر: " البحر المحيط " (5/ 187).

في التعليل (¬1)، فقد شملها اسم الظهور فهو مسلم، لكنه قد تقرر جواز مخالفة ما هو في أول مرتبة من مراتب الظهور في دليل صحيح معتبر لدليل مساو له في الصحية، فكيف لا تجوز مخالفة ما هو في المرتبة الثالثة منه في دليل لا تقوم به الحجة لما في أعلى درجات الصحة؟! وكيفية مخالفة الظاهر فيه حمل القيام المنهي عنه على القيام حال القعود، بجعل القيام الصادر منهم المرتب على خروجه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عليهم مستمرا بعد قعوده، فنهاهم بقوله: " لا تقوموا كما يقوم الأعاجم " فتكون العلة في النهي قعود من كان القيام لأجله لا التعظيم، ومما يرشد إلى صحة هذا الحمل وتعين المصير إليه مع العمل لهذا الحديث تشبيه هذا القيام المنهي عنه بقيام الأعاجم. وقد فسر قيام الأعاجم بقوله في رواية مسلم: " يقومون على ملوكهم وهو قعود ". ولولا هذا الحمل لم يبق للتشبيه فائدة، ولكان يكفي أن يقول [6]: لا تقصدوا التعظيم بهذا القيام، واقصدوا المحبة ¬

(¬1) قد قسموا النص على العلة إلي صريح وظاهر. فالصريح: الذي لا يحتاج فيه إلى نظر واستدلال، بل يكون اللفظ موضوعا في اللغة له. قاله الآمدي في " الإحكام " (3/ 278). وقال ابن الأنباري: ليس المراد بالصريح المعنى الذي لا يقبل التأويل، بل المنطوق بالتعليل فيه على حسب دلالة اللفظ الظاهر على المعنى. " البحر المحيط " (5/ 187). وأما الظاهر فينقسم إلى أقسام، أعلاها (اللام)، ثم (أن) المفتوحة المخففة، ثم (إن) المكسورة الساكنة، بناء على أن الشروط اللغوية أسباب، ثم (إن) المشدودة، ثم الباء، ثم الفاء إذا علق بها الحكم على الوصف وذلك نوعان: 1 - أن يدخل على السبب والعلة ويكون الحكم متقدما، كقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تخمروا رأسه؛ فإنه يبعث ملبيا ". 2 - أن يدخل على الحكم وتكون العلة متقدمة، كقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}، لأن التقدير: من زنى فاجلدوه. " انظر تفصيل ذلك: " إرشاد الفحول " (ص704 - 705)، " البحر المحيط " (5/ 192).

والإكرام؛ فإن المحرم على ما يدعونه إنما هو قصد التعظيم لا القيام (¬1). قوله: وقد شهد بهذا الحديث حديث مسلم (¬2). أقول: هاهنا صورتان: القيام على رأس القاعد كما هو فعل الأعاجم، والثانية قيام الرجل عند وصول أخيه تعظيما له وإكراما، أو محبة أو فرحا، أو لغير ذلك من الأسباب، وحديث مسلم إنما دل على منع الصورة الأولى، مقتضى تفسيره القيام الذي وقع النهي عن مثله بالجملة الحالية أعني: " وهم قعود "، والصورتان متباينتان قبل الحمل الذي ذكرناه آنفا، فكيف يكون دليل الصورة الأولى شاهدا لحديث أبي أمامة؟! وإنما يكون الشاهد مجبورا به ضعف الحديث حدثا كان الشاهد نصا أو ظاهرا فيما دل عليه ذلك الضعيف، وبهذا يعرف أن الاستشهاد بحديث مسلم على حديث أبي أمامة بعيد، وأبعد منه الاستشهاد عليه بحديث: " من سره أن يتمثل الناس. . " إلخ (¬3). قوله: الوعيد على المسرة بالفعل قاض بعدم جوازه. هذا أكبر دليل على تحرير مولاي العزي - حفظه الله تعالى - لهذا البحث مع عجله أو شغله، مصدية للذهن؛ فإن المسرة فعل قلبي، والقيام فعل آخر مغاير لها، وأي مانع من تحريم أحدهما وجواز الآخر ولو كان من فاعل واحد، يزيده وضوحا أن فعل الطاعة مطلوب للشارع، والعجب بها محرم منهي عنه، وهو مرة بحصول أمر بصحتها تطاول على من لم تحصل له، فهل ورود الوعيد عليه يقضي بعدم جواز فعل الطاعة، مع كون الفاعل واحدا! فكيف مع تعدده كما نحن فيه! إذا عرفت هذا عرفت أن إطلاق قوله: إذ المسرة بالجائز جائزة، ليس على ما ينبغي؛ إذ لا يجوز من المسرة إلا ما لم يمنعه الشارع، وأما ما منعه منها فلا يجوز ولو كانت مباحا أو مشروعا. ¬

(¬1) انظر " المفهم " للقرطبي (3/ 593). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر: فتح الباري " (11/ 51 - 52) وقد تقدم توضيحه.

قوله: فإن قلت: هذا الحديث وارد في القيام على القاعد، الإشارة في هذا السؤال إن كانت عائدة إلى حديث أبي أمامة (¬1) الذي وقع منه الاستدلال به، لم يناسبه الجواب بقوله: قلت: التقييد. . إلخ؛ إذ لا تفسد فيه وإن كانت عائدة إلى حديث " من سره أن يتمثل. . . " إلخ كما هو الظاهر، فلا حاجة إلى إيراد هذا السؤال والجواب، كما أنه لا حاجة إلى إيراد السؤال الذي بعده، فإن السرور بالقيام محرم أو مكروه مطلقا، سواء كان ذلك القيام جائزا كالقيام للوارد، أو محرما كالقيام على رأس القاعد. قوله: فالحق منع القيام بمجرد التعظيم. كان الأظهر على ما تزعمونه أن يقال: فالحق منع قصد التعظيم؛ إذ لا يقال لمن يصدق رياء: الحق ترك الصدق رياء، بل يقال له: الحق ترك الرياء بمجاهدة النفس بإخلاص العمل. قوله: وقد شدت هذه الشواهد من عضد حديث أبي أمامه الذي سبق، إنما هما [7] شاهدان (¬2). وقد عرفت بطلان شهادتهما، فبقي دعوى منع التعظيم بالقيام مستندة إلى حديث ضعيف لا تقوم به الحجة، ولا شاهد يعضده. قوله: ونحن نقول بموجب ما احتجت به. أقول: من موجب ما وقع به الاحتجاج القيام للتعظيم، عملا بإطلاق القيام في تلك الأدلة، وأنتم لا تقولون به، والمقيد لذلك الإطلاق على زعمكم لا يصلح للتقييد لو كان نصا في محل النزاع، فكيف وهو ظاهر فيه! فكان قولكم: لأن هذه الأدلة خالية عن ذلك التقيد دعوى بلا برهان. وخلاصة المقال في هذا المقام أن هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة الشاملة لأقسام السنة قد دلت على جواز مطلق القيام للوارد، سواء كان لتعظيم أو غيره، فلا ينتقل عن هذا الإطلاق تخصيصه لغير التعظيم إلا بدليل صحيح مساو لتلك الأدلة أو دونها، بحيث تصلح للاحتجاج، ومن ادعى تحريم قصد التعظيم ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر أول الرسالة.

بالقيام مستدلا بحديث أبي أمامة لزمه العمل بالحديث الضعيف في غير فضائل الأعمال أيضا، فإن قال: قد أسلفت في أول هذا الكلام تأويله وحمله على القيام على القاعد، وهذا الصنيع فرع التزام صحته. قلنا له: إنما ذلك مشي معك على التنزل، وإلا فهو ليس بحجة مع ما قد سبق نقله عن الحافظ المنذري (¬1) من تضعيف من ذكر في إسناده، فإن قال: لم يقع الإجماع من أئمة هذا الشأن على تضعيفه، حتى نسوغ مقالتك هذه، بل قد نقل المنذري عن جماعة توثيقه. قلنا: إذا تعارض الجرح والتعديل فالجرح مقدم مطلقا، ولو كان عدد المعدلين أكثر. قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في علوم الحديث (¬2) ما لفظه: إذا اجتمع في شخص جرح وتعديل فالجرح مقدم؛ لأن المعدل يخبر عما ظهر، والجارح يخبر عن باطن ¬

(¬1) في " المختصر " (8/ 93). قال: وفي إسناده أبو غالب خزورة. انظر: " تهذيب التهذيب " (1/ 476 رقم 1799). واعلم أن الحديث ضعيف - حديث أبي أمامة - والله أعلم. (¬2) كتابه " علوم الحديث " (ص109). انظر " مقدمة ابن الصلاح " (ص140 - 141) في تعارض الجرح والتعديل وعدم إمكان الجمع بينهما، وفيه أقوال: 1 - أن الجرح مقدم على التعديل وإن كان المعدلون أكثر من الجارحين، وبه قال الجمهور، وقال ابن الصلاح: إنه الصحيح؛ لأن مع الجارح زيادة علم لم يطلع عليها المعدل. انظر: " إرشاد الفحول " (ص256). 2 - القول الثاني: أنه يقدم التعديل على الجرح؛ لأن الجارح قد يجرح بما ليس في نفس الأمر جارحا، والمعدل إذا كان عدلا لا يعدل إلا بعد تحصيل الموجب لقبوله جرحا. " البحر المحيط " (4/ 297). 3 - أنه يقدم الأكثر من الجارحين أو المعدلين. وقد ضعف الرازي هذا القول. انظر: " المحصول " (4/ 41). 4 - أنهما يتعارضان فلا يقدم أحدهما على الآخر إلا بمرجح. انظر: " الكوكب المنير " (2/ 429).

خفي على المعدل، وإن كان عدد المعدلين أكثر فقد قيل: التعديل أولى، والصحيح (¬1) الذي عليه الجمهور أن الجرح أولى؛ لما ذكرناه، والله أعلم. انتهى. وليقتصر على هذا القدر فيما أوردناه، وبه تعرف ما يرد على بقية تلك الأبحاث مما أوردناه، إلا ما ذكره مولاي العزي - حفظه الله - في آخر كلامه من قوله: ولهذا تعرف أن قولك: إن حديث أبي أمامة لا يقوى على معارضة ما في الصحيحين - غير مناسب، فلا يكفي فيه الإجمال، فبيان هذه القاعدة وإيضاحها من المهمات؛ لكثرة دورانها. فأقول: المطلق والمقيد، ومثلهما العام والخاص قبل حمل أحدهما على الآخر متصف كل واحد منهما بأنه معارض للآخر؛ إذ قد دل بإطلاقه، والعام بعمومه على خلاف ما دل عليه المقيد والخاص، وهذا معنى التعارض. قال العلامة ابن الإمام: أما التعارض الواقع بين الظاهر من الكتاب والسنة؛ فإن كانت السنة متواترة [8] فهي كالكتاب، وإن كانت آحادا فإن تساويا في المتن وفيما يرجع إلى أمر خارج، فالكتاب أولى؛ لتواتره، وإن كان متنها قطعيا دون متنه فالسنة أولى من ظاهر الكتاب، كأن يكون خاصه وهو عام، أو مقيده وهو مطلق (¬2) انتهى. فهذا تصريح باتصاف المطلق والمقيد، والعام والخاص بالتعارض، ثم يقول: إذا كان كل من المتعارضين أحاديا، وكل منهما أيضًا صالح للاحتجاج، فالعمل بمقتضى ما دل عليه أحدهما إهدارا للدليل الآخر، أو نقضه، والمفروض أنه مساو له في صلاحية الاحتجاج به، فلم يبق إلا الجمع بينهما بحمل أحدهما على الآخر، بأن يعمل بالعام والمطلق في ما عدا الخاص والمقيد، ملاحظة لإعمال الدليلين ما أمكن، وهذا معنى قولهم ¬

(¬1) انظر " إرشاد الفحول " (ص 256)، " علوم الحديث " (ص109). (¬2) انظر " إرشاد الفحول " (ص 890 - 896)، " المستصفى " (4/ 162)، " البحر المحيط " (6/ 115).

بني أو حمل العام على الخاص، والمطلق على المقيد (¬1). وقولهم: جمع بينهما، فإذا قيل مثلا: هذا الدليل لا يقوى على معارضة هذا الدليل، فالمراد أنهما غير مستويين في صلاحية الاحتجاج حتى تجمع بينهما بحمل أحدهما على الآخر، وحينئذ يتوجه العمل بكل ما دل عليه الصالح للاحتجاج، ويترك الآخر وإن اتصف بالمعارضة. ويقول فيه: لا يقوى على معارضة ذلك الصالح. أصلح الله لي ولكم القول والعمل، وجنبنا الزيغ والزلل، وسلك بنا فيما يرضيه الطريق الأمثل، آمين، وصلى الله على سيدنا محمد الأمين، وآله الكرمين، وصحبه الراشدين. ¬

(¬1) تقدم ذكر شروط حمل المطلق على المقيد. انظرها في: " إرشاد الفحول " (ص 546 - 550)، " الإحكام " للآمدي (3/ 6 - 7).

هذا البحث جواب مني على البحث المحرر بعده لشيخنا العلم. بسم الله الرحمن الرحيم أحمدك لا أحصي ثناء عليك، وأصلي وأسلم على رسولك وآله وصحبه وبعد: فإنه لما أحث شيخنا العلامة النحرير المجتهد المطلق التواضع بالبحث مع تلميذه في مسألة القيام لورود الوارد، وحرر وحررت ما ظن كل واحد منا أنه الصواب، ثم طلبت منه، - حفظه الله - أن يكتب علي بما كتبته في ذلك، فكتب ما لا يقدر عليه إلا هو، ثم أحببت الاستفادة منه بسؤاله عن أشياء فيما كتبه، وأوردتها على صورة الانتقاد والعرض ذلك، فليعلم. قوله: ما المراد بهذه الدلالة إلى قوله: فهو مسلم. أقول: في هذا أبحاث: الأول: أن الذي وقع في كلامي أن العلة مصرح بها من غير تعرض للنصوصية، وشأن الترديد الاحتمال، فلم يقع هنا موقعه. الثاني: أن قوله: إذ التصريح بالعلة في اللفظ لا يستلزم نصوصيتها، أقول: ليس النصوصية على العلة إلا التصريح بها، أي: بلفظها في سياق الكلام، كقول الشارع: لعله كذا (¬1)، فكيف قال شيخنا: إذ التصريح بالعلة. . إلخ، ولعله أراد بالتصريح بالعلة لا بلفظها، وإن كانت عبارته قاضية بالأول. الثالث: أن العلة واقعة ههنا في لفظه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وهي قوله: " ليعظم ¬

(¬1) الصريح ينقسم إلى أقسام، أعلاها أن يقول: لعله كذا أو السبب كذا، أو نحو ذلك. وبعده أن يقول: لأجل كذا أو من أجل كذا. قال ابن السمعاني: وهو دون ما قبله؛ لأن لفظ العلة تعلم به العامة من غير واسطة، بخلاف قوله: " لأجل " فإنه يفيد معرفة العلة بواسطة أن العلة ما لأجلها كي يكون كذا. " إرشاد الفحول " (ص704)، " البحر المحيط " (5/ 187).

بعضها بعضا "، بهذه العلة في المرتبة الثانية من مراتب الصريح، لا كما ذكره شيخنا. الرابع: أن قوله من حيث ترتيب الراوي إلى قوله في المرتبة الثالثة من مراتب غير الصحيح (¬1) في التعليل خلاف ما في الغاية، فإنه جعل ما دخلت فيه الفاء في لفظ الراوي في المرتبة الرابعة من مراتب الصريح في التعليل، فإن كان استناد شيخنا إلى ما فيها، فهذا الذي رأيناه فيها، وإن كان إلى غيرها فلا مانع من ذلك. قوله: لكن قد تقرر جواز مخالفة ما هو في أول مرتبة من مراتب الظهور إلى قوله: وكيفية مخالفة الظاهر فيه أبحاث أيضا: الأول: أن شيخنا - حفظه الله - قد نقل البحث إلى ما ذكره أهل الأصول في أقسام المنطوق من النص، والظاهر هو مغالطة، وأظنها غير مقصودة لتفاوت حقيقة النص، والظاهر في التباين، وبيانه أن مرادهم بالنص في بحث العلة التصريح بلفظها بأن يقال: لعله كذا، والظهور فيها عدم التصريح بلفظها، كأن يقال لكذا، أو بكذا، أو من كذا أو نحو ذلك (¬2). والنص في بحث المنطوق ما أفاد معنى لا يحتمل غيره (¬3)، والظاهر ما احتمله اللفظ احتمالا راجحا. إذا عرفت هذا عرفت صدق حد النص في باب المنطوق على كثير من الظاهر في باب العلة، فإن قول القائل: أكرمتك لقرابتك من باب الظهور في العلة، مع أنه صدق عليه حد النص [9] المذكور في باب المنطوق؛ لأن القرابة تفيد معنى لا يحتمل غيره، وما نحن ¬

(¬1) تقدم توضيحه. (¬2) تقدم ذكره. (¬3) المنطوق ما دل عليه اللفظ في محل النص، أي: يكون حكما للمذكور وحالا من أحواله. والمنطوق ينقسم إلى قسمين: 1 - ما لا يحتمل التأويل، وهو النص. 2 - ما يحتمله وهو الظاهر. والأول ينقسم إلى: صريح إن دل عليه اللفظ بالمطابقة أو التضمن، وغير صريح إن دل عليه بالالتزام. " تيسير التحرير " (1/ 91)، " جمع الجوامع " (1/ 235)، " إرشاد الفحول " (ص587).

فيه من هذا القبيل؛ لأن اللفظ: تعظم بعضها بعضا يفيد معنى لا يحتمل غيره، مع أنه من قبيل الظهور في اللغة؛ لأنه باللام المقدرة. البحث الثاني: إن مخالفة الظاهر لدليل راجح عليه، أو مساو له في الصحة مسلمة، لكنها إنما تكون عند التعارض والترجيح، لا عند الإطلاق والتقييد كما هو المدعى. وسيأتي لهذا مزيد فائدة إن شاء الله. الثالث: أنه يصلح للتقييد كل ما يصلح للتخصيص؛ لاستواء أحكامهما كما صرح بذلك أئمة الأصول (¬1)، فإذا جاز التخصيص بالقياس (¬2)، والمفهوم (¬3)، والعادة (¬4) عند بعض جاز التقييد بها، فكيف لا يجوز التقييد بها هو من أقسام المنطوق! قوله: ومما يرشد إلى صحة هذا الحمل - إلى قوله - لم يبق للتشبيه فائدة. أقول: هذا كلام نفيس إلا أنه يقال: دعوى انتفاء فائدة التشبيه ممنوعة؛ فإن المراد تشبيه القيام المصحوب بالتعظيم بالقيام من غير نظر إلى صفة من قيم له، وفي هذا فائدة تامة، ومساواة المشبه للمشبه به في جميع ما يمكن اعتباره لم يشترطها أحد، لا سيما إذا كان ذلك الأمر خارجا عما نحن فيه للقطع بصحة قولنا: ¬

(¬1) انظر: " إرشاد الفحول " (ص500 وما بعدها). (¬2) ذهب الجمهور إلى جوازه، وقال الرازي في " المحصول " (3/ 96) وهو قول أبي حنيفة والشافعي ومالك وأبي الحسن البصري والأشعري وأبي هاشم أخيرا. انظر: " البحرالمحيط " (3/ 369). (¬3) قال الآمدي في " الإحكام " (2/ 353): لا أعرف خلافا في تخصيص العموم بالمفهوم بين القائلين بالعموم والمفهوم. " البحر المحيط " (3/ 381). (¬4) قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص 531): ذهب الجمهور إلى عدم جواز التخصيص بها - العادة - وذهبت الحنفية إلى جواز التخصيص بها. انظر: " الإحكام " للآمدي (3/ 358). فهناك تفصيل.

ضربت عمرا كضرب زيد له، عند استواء الضربين، وإن كان المضروب قائما عند ضرب أحدهما، قاعدا عند ضرب الآخر، أو الضارب كذلك. قوله: أقول: ههنا صورتان - إلى قوله - من سره أن يتمثل له الناس. أقول: إنما جعلناه شاهدا باعتبار أن في كل واحد منهما قيام تعظيم، لا باعتبار صفة من قيم له، فإن أراد شيخنا بالتباين المذكور بالنسبة إلى من قيم له فمسلم، وهو غير المدعي، وإن أراد بالنسبة إلى القائم فممنوع، وإن أراد بالنسبة إلى المجموع فهو غير المدعى أيضا. قوله: هذا أكثر دليل على تحرير - إلى آخر هذا البحث -. أقول: قد جعل شيخنا هذا البحث برهانا له على ما ادعاه من وقوع ذلك الجواب عن غير تثبت، وهو جعل عجيب، فإني لا أعلم أحدا منع من مجرد المسرة على ما يجوز من الأفعال والأقوال، وقد حكى الله سبحانه هذا في كتابه عن عباده المؤمنين، لم يمنعهم، وقد وقع من رسول الله في مواطن يضيق المقام عن حصر بعضها، فكان في بعضها يضحك حتى تبدو نواجذه (¬1)، وفي بعضها يبتسم (¬2)، وفي بعضها يظهر أثر ذلك ¬

(¬1) قد بوب البخاري في صحيحه (10/ 502 باب رقم 68) التبسم والضحك وأورد أحاديث منها: الحديث رقم (6087) وفيه: ". . . أين السائل؟ تصدق بها. قال: على أفقر مني؟ والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منا ". فضحك النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بدت نواجذه، قال: فأنتم إذا " من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (6085) وفيه: ". . . فلما استأذن عمر تبادرن الحجاب، فأذن له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدخل والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضحك، فقال: أضحك الله سنك يا رسول الله بأبي أنت وأمي، فقال: عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي، لما سمعن صوتك تبادرن الحجاب " من حديث عمر بن الخطاب. وأخرج البخاري في صحيحه رقم (6089) عن جرير - رضي الله عنه - قال: عنه ما حجبني النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي ".

في وجهه بظهور أساريره، وهكذا الصحابة أجمع ومن بعدهم، فكيف يخفى هذا على من هو في العلم والتأييد بتحريم العجب على إبطال ما ادعيناه مما لا يفيد شيئا [10]!؟ فإن العجب ليس مجرد المسرة، بل مع التطاول المحرم كما ذكره شيخنا، والذي أوجب تحريمه هو ذلك التطاول لا غير. ودعوى التغاير بين الفعلين وتجويز تحريم أحدهما دون الآخر مسلمة، لكنا نرى أن ذلك التجويز غير واقع، ولو فتحنا باب التجويزات لانسدت علينا طرق الشريعة الفسيحة وصرنا في حيرة، وشيخنا - متع الله به - لا ينكر تحريم مسرة الرجل بقتل أخيه المؤمن، وكفره، وتورطه في المعاصي، وذهاب ماله، وموته، وموت أقاربه، ونحو ذلك مما لا يحصى، ولا ينكر أيضًا جواز مسرة المؤمن بما حصل له من الطاعات، وبما عصم عنه من المعاصي، وبحدوث ولد له، وحصول مال، وإيمان أخيه المؤمن وإسلامه، وانتصاره على أعدائه من الكفار، ونحو ذلك من الصور التي لا تدخل تحت الحصر أيضا. وهذا هو ما ادعيناه، فأي تساهل في تلك القاعدة التي أوردناها في ذلك الجواب!؟ وإن ورد النقض عليها بجزئيات يسيرة، فلا يوجب ذلك انتفاضها، كما هو شأن كثير من القواعد الكلية، على أني لا أعلم الآن واحدا من تلك الجزئيات. قوله: إذ لا يجوز من المسرة إلا ما لم يمنعه الشارع. . إلخ. أقول: مسلم على فرض وقوع المنع، وقد أقر شيخنا - حفظه الله - بأن جنس المسرة جائز إلا ما منعه الشارع، ونحن ننكر الوقوع، فليأت - حفظه الله - بذلك المنع لمجرد المسرة بالفعل الجائز. قوله: الإشارة في هذا السؤال - إلى آخر هذا البحث -. أقول: ليعلم أولا أنه لا نزاع في دلالة هذا الحديث - أعني: من سرة. . إلخ - على تحريم المسرة بالقيام ممن قيم له، والغرض الذي سقته له دلالته على تحريم القيام من القائم إذا

اقترن بالتعظيم؛ لأن الوعيد على المسرة قرينة قاضية بأنه مقترن به، بناء على تلك القاعدة التي أسلفتها؛ ولهذا أظهر الاحتياج إلى السؤال الثاني الذي ذكرته. وأما السؤال الأول فهو لدفع توهم الاختصاص بحال القعود كما سمعناه من شيخنا - متع الله به - حال تلك المذكرة، وبهذا يعلم أنه لم يسبق لغرض الاستدلال على تحريم السرور حتى يلزم استدراك ذينك السؤالين كما ذكره شيخنا. قوله: كان الأظهر على ما تزعمونه. . إلخ. أقوله: معرفة صحة هذا الانتقاد متوقفة على معرفة حكم العمل المقترن بالزنا ونحوه، فإن جعل ذلك العمل معصية باعتبار انضمامه إلى ذلك المقصد، فالحق منعه حال ذلك الانضمام، وإن لم يجعل معصية بأن يمنع تأثير القصد في العمل فالحق ما ذكره شيخنا، والتعظيم الذي هو علة التحريم في مسألتنا لا يحرم مجردا عن القيام للقطع بجوازه، بل وجوبه للأبوين، والمعلم، وذوي الفضل، والإمام، ونحو ذلك، فلو [11] قلنا: الحق منع قصد التعظيم كما ذكره شيخنا يعم كل تعظيم مجرد؛ لأنه مصدر مضاف، وهو لا يتم، فكان صواب العبارة في الانتقاد أن يقال: فما لحق منع التعظيم في القيام. قوله: الذي سبق إنما هو شاهدان، كأن شيخنا يشير بهذا إلى الاعتراض على جمع الشواهد، وشواهد الجمع كثيرة، وهو مذهب العلامة جار الله وغيره. قوله: وقد عرفت بطلان شهادتهما. أقول: قد عرفت بطلانه. قوله: أقول: من موجب به الاحتجاج - إلى آخر البحث -. أقول: قد عرفت تقييد ذلك الإطلاق، وبطلان دعوى عدم صلاحية ذلك القيد بما سلف، فلا يقيده. قوله: وخلاصة المقال - إلى آخر البحث -. أقول: قد عرفت مما سبق أن مساواة الدليل شرط في التعارض لا في التقييد؛ فإنه

يصلح له القياس والمفهوم، بل العادة عند بعض كما سبق، فهذا البحث من شيخنا أعاده لما سبق، وإن كان لا يخلو عن فائدة، ودعوى ضعف ما وقع به التقييد مبنية على انتفاء شهادة تلك الشواهد، وقد عرفت ما فيه. قوله: فبيان هذه القاعدة - إلى آخر البحث -. أقول: جزى الله شيخنا عنا خيرا؛ فلقد أفادنا بهذا البحث إفادة تامة، إلا أنه بقي ههنا أبحاث: الأول: أن كلامه - حفظه الله - قد أشعر بأن العام لا يبنى على الخاص، والمطلق لا يحمل على المقيد (¬1)، إلا بعد النظر فيهما، فإن تساويا صح البناء والحمل، وإن كان أحدهما أرجح فلا بناء ولا حمل، وهذا هو الترجيح بعينه. وقد تقرر أنه لا يصار إليه مع إمكان الجمع. الثاني: أنه قد جاز تخصيص النص وتقييده بالقياس، والمفهوم، وبما دونهما، وهما غير مساويين له، فلم لا يرجح النص، ويطرح ذلك المخصص لنقصانه على مقتضى هذا التقرير؟ الثالث: أن قول العلامة ابن الإمام وإن كان متنها قطعيا دون متنه، فالسند أولى من ظاهر الكتاب، كأن يكون خاصه وهو عام، أو مقيده وهو مطلق، لا كلام أنه مشعر بما ذكره شيخنا من اتصاف المطلق والمقيد والعام والخاص بالتعارض، وهو يقدح في كلام ابن الإمام ههنا في الشرح ما سبق له قوله بقليل في المتن من أنه لا تعارض بين قطعي وظني (¬2)، وقد حكم ههنا - أي في الشرح - بأن أحدهما قطعي والآخر ظني، وأدخلهما في حيز التعارض، فكلامة مشكل، ومثل عبارة المتن عبارة المعيار للمهدي، جعلنا الله وإياكم من المهتدين، ولا برحتم في حفظ الله، والسلام عليكم ورحمة الله ¬

(¬1) تقدم ذكر شروط بناء العام على الخاص وحمل المطلق على المقيد. (¬2) انظر " إرشاد الفحول " (ص882).

وبركاته. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. انتهى من خط المجيب - حفظه الله - وبارك لنا في أيامه ولياليه بحق محمد وآله وسلم [12].

العرف الندي في جواز إطلاق لفظ سيدي

(184) 17/ 3 العرف الندي في جواز إطلاق لفظ سيدي تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: (أ) 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: العرف الندي في جواز إطلاق لفظ سيدي. 2 - موضوع الرسالة: آداب. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. أحمدك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآل رسولك. وبعد، فإنه وفد إلي كتاب من بعض الأعلام الأفاضل المشهورين بالزهد والورع. . . . 4 - آخر الرسالة: فإن هذا غلط على الشريعة، والحمد لله أولى وأخرى، حرر ضحوة يوم الأربعاء لعله ثامن شهر جمادى الأولى سنة 1219 هـ. 5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 - عدد الصفحات: 6 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 22 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

وصف المخطوط: (ب) 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: العرف الندي في جواز إطلاق لفظ سيدي. 2 - موضوع الرسالة: آداب. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. أحمدك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآل رسولك. وبعد، فإنه وفد إلى كتاب من بعض الأعلام الأفاضل المشهورين بالزهد. . . 4 - آخر الرسالة: بقلم المؤلف عافاه الله، ونقلته من خطه ثاني يوم تحريره دامت إفادته، والله حسبي. بلغ قصاصه (ويرد من الحجج قوله تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} تمت). 5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول. 6 - عدد الصفحات: 6 صفحات ما عدا صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 28 سطرا. ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها 12 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 11 - 12 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم أحمدك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآل رسولك. وبعد: فإنه وفد إلي كتاب من بعض الأعلام الأفاضل المشهورين بالزهد والورع والوقوف عند حدود الشرع، وفي عنوانه من فلان بن فلان، ولا شك ولا ريب أن هذا العنوان هو الذي كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم في جميع مكاتباتهم، بل هو العنوان الذي كان الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعنون به كتبه الشريفة إلى الأقطار، فهو من هذه الحيثية سنة حسنة، وخصلة مستحسنة، ولكنه نشأ قوم يعتقدون أن من عنون كتابه بما جرت عليه عادات المتأخرين من لفظ سيدي فلان، ونحو ذلك فقد ارتكب عظيما، وفعل جسيما، وتلبس بغير شعار الإسلام، وارتطم في أعظم مهاوي الآثام، وليس الأمر كذلك، فالخطب يسير، والخطر في مثل هذا حقير. وها أنا أذكر ما تمسك به هؤلاء المتشددون، وما يرد به عليهم لقصد الإفادة لذلك الذي كاتبني من نبلاء السادة القادة، فليجعل هذا البحث عنوانا يقيس عليه سائر المسائل التي حدث التشديد فيها، وعظم النكير على من خالفها على أنحاء يتعذر تلافيها. فأقول: استدلوا على المنع من إطلاق لفظ السيد وسيدي ونحو ذلك بما أخرجه النسائي (¬1) بإسناد جيد عن عبد الله بن الشخير قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقلنا له: أنت سيدنا، فقال: " السيد الله تبارك وتعالى " قلنا: وأفضلنا وأعظمنا طولا، قال: " قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرنكم الشيطان "، وفي رواية (¬2) " ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله ورسوله، ¬

(¬1) في " عمل اليوم والليلة " رقم (246). قلت: وأخرجه أبو داود رقم (4806)، وهو حديث صحيح. (¬2) أخرجها النسائي في " عمل اليوم والليلة " رقم (248) وأحمد (3/ 241، 249) من حديث أنس، وهو حديث صحيح.

ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل ". فهذا هو حجتهم على تشديد النكير على من كاتب أو خاطب بلفظ سيدي، ونحو ذلك، فاسمع ما نملي عليك مما خطر على البال من الحجج الشرعية، وحضر عند تحرير هذه الأحرف من البراهين المرضية، وذلك [أربع] (¬1) عشرة حجة: الحجة الأولى [1أ]: ما صح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في دواوين الإسلام المعتبرة أنه قال: " أنا سيد ولد آدم " فهذا الحديث صحيح (¬2) يفيد أنه سيد الأحياء والأموات من بني آدم [1]، ¬

(¬1) في (ب): ثلاث. (¬2) أخرج مسلم في صحيحه رقم (3/ 2278) وأبو داود رقم (4763) والترمذي رقم (3615) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع ". وأخرج مسلم في صحيحه رقم (1/ 2176) والترمذي رقم (3605) و (3606) وأحمد (4/ 107) والطبراني في " الكبير " (22/ 161) وابن حبان رقم (6242) من حديث واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم، فأنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع وأول مشفع ". قال القرطبي في " المفهم " (6/ 48): السيد: اسم فاعل من ساد قومه، إذا تقدمهم بما فيه من خصال الكمال وبما يوليهم من الإحسان والإفضال. وأصله: سَيْوِد؛ لأن ألف ساد منقلبة عن واو، بدليل أن مضارعه يسود، فقلبوا الواو ياء وأدغموها في الياء فقالوا: سيد، وهكذا كما فعلوا في ميت. وقد تبين للعقل والعيان ما به كان محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سيد نوع الإنسان، وقد ثبت بصحيح الأخبار ماله من السؤدد في تلك الدار، فمنها أنه قال: " أنا سيد ولد آدم " قال: " وتدرون بما ذاك؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: " إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد " أخرجه مسلم (194) حديث الشفاعة، تقدم. ومضمونه: أن الناس كلهم إذا جمعهم موقف القيامة وطال عليهم وعظم كربهم، طلبوا من يشفع لهم إلى الله تعالى في إراحتهم من موقفهم، فيبدؤون بآدم عليه السلام، فيسألونه الشفاعة فيقول: نفسي، نفسي، لست لها، وهكذا يقول من سألها من الأنبياء، حتى ينتهي الأمر إلى سيدنا محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيقول: " أنا لها "، فيقوم أرفع مقام ويخص بما لا يحصى من المعارف والإلهام، وينادي بألطف خطاب وأعظم إكرام: " يا محمد، قل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع " وهذا مقام لم ينله أحد من الأنام ولا سمع بمثله لأحد من الملائكة الكرام ".

فمن قال منهم مخاطبا له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنت سيدنا أو سيد بني آدم، فما قال إلا ما أثبته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنفسه، فقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لوفد بني عامر: " السيد الله " يريد أن الفرد المطلق في السيادة هو الله - تعالى - كما تدل على ذلك آلة التعريف في السيد، فإنها في مثل هذا المقام تفيد الحصر (¬1) كما صرح بذلك علماء المعاني والبيان والأصول، كما يقول القائل: أنت الرجل علما أو شجاعة أو نحو ذلك، أي: الفرد الكامل في العلم [أو] (¬2) الشجاعة، فالحصر في مثل هذا هو باعتبار الكمال [لا] (¬3) أنه حصر حقيقي، بل حصر ادعائي لقصد المبالغة في وصفه بالكمال. وأهل علم المعاني والبيان هم القائمون ببيان دقائق العربية وأسرارها، وأهل الأصول هم المبينون لقواعد لغة العرب الكلية، ولا شك ولا ريب أن هذه الشريعة المطهرة هي كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهما على لسان العرب، فالفهم لهما إنما يكون [بفهم] (¬4) لغة العرب، وقد تغيرت لغة العرب من قديم الزمن، بل من عصر الصحابة؛ ولهذا كان وضع علم النحو في أيامهم لما سمعوا التخليط من أهل ذلك العصر، وكان أول من أرشد إلى علم النحو هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولغة العرب الآن أشد تغيرا، بل قد التحقت في كثير من المساكن التي كان تسكنها العرب بلغة العجم، فمن أراد الآن أن ¬

(¬1) انظر " معترك الأقران في إعجاز القرآن " (1/ 136). (¬2) في (ب): و. (¬3) في (ب): إلا وما أثبتناه من (أ). (¬4) في (ب): لفهم.

يفهم كتاب الله وسنة رسوله [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (¬1) على مقتضى لغة العرب فلا يتم له معرفة أصل معنى اللفظ إلا بمعرفة علم اللغة، ولا يتم له معرفة أصل أبنية الألفاظ العربية إلا بمعرفة علم الصرف، ولا يمكنه معرفة الحركات الإعرابية إلا بعلم النحو، ولا يمكنه معرفة دقائق العربية وأسرارها إلا بعلم المعاني والبيان، ولا معرفة قواعد اللغة الكلية إلا بعلم الأصول. ولهذا كانت هذه العموم هي المقدمة في العلوم الاجتهادية، وإن خالف في [اعتبار] (¬2) البعض منها في الاجتهاد بعض أهل العلم، فالحق اعتبار الجميع (¬3)؛ لأن فهم لغة العرب على الوجه المطابق لما كانت عليه اللغة لا يتم [1ب] إلا بذلك، ولا ريب أن دقائق اللغة يستفاد من العلم بها العلم بدقائق الكتاب والسنة، والدقائق [2] تستخرج منها الأحكام الشرعية كما تستخرج من الظواهر. إذا تقرر لك هذا فاعلم أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[إنما] (¬4) قال لوفد بني عامر لما قالوا: أنت ¬

(¬1) زيادة من (ب). (¬2) في (ب) اختيار. (¬3) تقدم ذكر ذلك مرارا. انظر الرسالة رقم (60)، (64). (¬4) في (ب): أنه. قال الخطابي في " معالم السنن " (5/ 155): قوله: " السيد الله " يريد أن السؤدد حقيقة الله عز وجل، وأن الخلق كلهم عبيد له. وإنما منعهم - فيما ترى - أن يدعوه سيدا مع قوله: " أنا سيد ولد آدم "، وقوله لبني قريظة: " قوموا إلى سيدكم " - يريد سعد بن معاذ، تقدم - من أجل أنهم قوم حديثو عهد بالإسلام، وكانوا يحسبون أن السيادة بالنبوة كما هي بأسباب الدنيا، وكان لهم رؤساء يعظمونهم، وينقادون لأمرهم ويسمونهم السادات، فعلمهم الثناء عليه وأرشدهم إلى أدب ذلك، فقال: " قولوا بقولكم " يريد: قولوا بقول أهل دينكم وملتكم، وادعوني نبيا ورسولا كما سماني الله - عز وجل - في كتابه فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ}، ولا تسموني سيدا كما تسمون رؤساءكم وعظماءكم، ولا تجعلوني مثلهم، فإني لست كأحدهم، إذ كانوا يسودونكم بأسباب الدنيا، وأنا أسودكم بالنبوة والرسالة، فسموني نبيا ورسولا.

سيدنا [قال] (¬1) " السيد الله "؛ لأنه قد فهم من مقصدهم أنهم أرادوا بالسيد المعنى الذي لا يصح إطلاقه على البشر، ولم يريدوا به المعنى الذي يطلقه البشر على الأنبياء وغيرهم، ويويد هذا ما قاله لهم من بعد: " ولا يستجرنكم الشيطان " " ولا يستهوينكم الشيطان " فإن مخاطبته لهم بهذا الخطاب تدل أبلغ دلالة على أنه قد فهم منهم الغلو (¬2)، فكان ذلك سببا لقوله لهم: " السيد الله "، وهذا في غاية الوضوح والجلاء، فعرفت بهذا أن ذلك الحديث لا يدل على مطلوب المستدل. وذكر في النهاية (¬3) ما يفيد أن في هذا الحدث زيادة لفظ يدل على جواز إطلاق لفظ السيد على بني آدم، فقال ما لفظه: ومنه الحديث لما قالوا له: أنت سيدنا فقال: " قولوا بقولكم، ادعوني نبيا أو رسولا كما سماني الله، ولا تسموني سيدا كما تسمون رؤساءكم؛ فإني لست كأحدكم ممن يسودكم في أسباب الدنيا ... " انتهى. فهذا يدل على جواز إطلاقه على البشر لا على منعه، فالدليل حجة عليهم لا لهم. الحجة الثانية: ما ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصحيحين (¬4) وغيرهما (¬5) أنه قال في الحسن بن ¬

(¬1) زيادة من (ب). (¬2) تقدم الكلام على الغلو. (¬3) لابن الأثير (2/ 417). قال الحافظ في " الفتح " (5/ 179): ويمكن الجمع بأن يحمل النهي عن ذلك على إطلاقه على غير المالك والإذن بإطلاقه على المالك، وقد كان بعض أكابر العلماء يأخذ بهذا ويكره أن يخاطب أحدا أو كنايته بالسيد، ويتأكد هذا إذا كان المخاطب غير تقي، فعند أبي داود والمصنف في " الأدب " من حديث بريدة مرفوعا: " لا تقولوا للمنافق سيدا ". (¬4) بل أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2704) وأطرافه (3629، 3746، 7109). (¬5) كأحمد في " المسند " (5/ 37 - 38) والنسائي في " المجتبى " (3/ 107) و" عمل اليوم والليلة " رقم (252)، وقد تقدم.

علي - رضي الله عنه -: " إن هذا ابني سيد، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين " فإن في هذا الحديث أبلغ دلالة وأكمل تصريح على جواز إطلاق لفظ سيد على أفراد بني آدم. الحجة الثالثة: ما ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في دواوين الإسلام أنه قال: " الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة " (¬1)، " أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة " (¬2). الحجة الرابعة: ما ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله للأنصار يوم بني قريظة لما وصل سعد بن معاذ بعد التحكيم له من بني قريظة، وكان مريضا شديد المرض من ذلك السهم الذي ¬

(¬1) أخرجه الترمذي رقم (3768) وأحمد (3/ 3) وفي " الفضائل " رقم (1384) والطبراني في " الكبير " رقم (2611، 2612) وأبو يعلى رقم (1169) وابن أبي شيبة (12/ 96)، وابن حبان رقم (6959) من حديث أبي سعيد الخدري، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وهو حديث صحيح. وأخرج النسائي في " الفضائل (260) وزاد في آخره: " وأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة " من حديث حذيفة. وأخرجه أحمد (5/ 391 - 392) والنسائي في " الفضائل " (194) والترمذي رقم (3781) وابن حبان رقم (6960) والحاكم (3/ 381) من حديث حذيفة من طرق وفيه: ". . . إن هذا ملك لم ينزل الأرض قط قبل هذه الليلة، استأذن ربه أن يسلم علي، ويبشرني بأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، وأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ". وهو حديث صحيح، انظر: " الصحيحة " رقم (2785). (¬2) أخرجه ابن ماجه رقم (100) عن أبي جحيفة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين، إلا النبيين والمرسلين ". وهو حديث صحيح. وأخرجه الترمذي في " السنن " رقم (3665) و (3666) وابن ماجه رقم (95)، من حديث علي رضي الله عنه، وهو حديث صحيح. وأخرجه الترمذي في " السنن " رقم (3664) من حديث أنس، وهو حديث صحيح.

أصابه يوم الخندق، فقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قوموا إلى سيدكم يا معشر الأنصار " (¬1). الحجة الخامسة: ما قاله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقيس بن عاصم المنقري سيد بني تميم لما وفد [2أ] إليه فقال: " هذا سيد أهل الوبر " (¬2) وهو إذ ذاك مشرك. الحجة السادسة: أنه سأل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[3]- بعض قبائل العرب فقال: " من سيدكم؟ " [قالوا] (¬3) فلان على بخل فيه فقال: " وأي داء أدوأ من البخل! " (¬4) وهذه الأحاديث كلها مذكورة في كتب الحديث المعتبرة، والسير المشتهرة، لا يشك أحد من أهل العلم في شيء منها. الحجة السابعة: أنه كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأل الوفود الذين يفدون عليه من الجهات عن سيدهم من هو؟ فيدلون عليه بعبارة أو إشارة. الحجة الثامنة: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كل بني آدم سيد، فالرجل سيد أهل بيته، والمرأة سيدة أهل بيتها " (¬5). الحجة التاسعة: حديث أنه سئل هل في أمته سيد؟ فقال: " من آتاه الله مالا، ورزق ¬

(¬1) تقدم، انظر الرسالة رقم (181). (¬2) أخرجه الحاكم في " المستدرك " (3/ 611) من حديث قيس بن عاصم، والبخاري في " الأدب المفرد " (730) والطبراني في " الكبير " (18/ 870) والبزار في مسنده رقم (2744 - كشف) وأحمد (5/ 61) والنسائي (1/ 262) مختصرا. وهو حديث صحيح لغيره. (¬3) في (ب): فقالوا. (¬4) أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " رقم (227) عن جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من سيدكم يا بني سلمة؟ " قلنا: جد بن قيس، على أنا نبخله، قال: " وأي داء أدوى من البخل؟ بل سيدكم عمرو بن الجموح ". وكان عمرو على أصنامهم في الجاهلية، وكان يولم عن رسول الله إذا تزوج. وهو حديث صحيح. (¬5) ذكره السبكي في " طبقات الشافعية الكبرى " (2/ 26). وقال: هذا حديث صحيح غريب.

سماحة، فأدى شكره، وقلت شكايته في الناس [يعني] (¬1) فهو سيد (¬2). الحجة العاشرة: ما ثبت في الصحيح (¬3) أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للأوس: " انظروا إلى سيدكم ما يقول " وذلك في قصة اللعان. الحجة الحادية عشرة: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث قيس بن عاصم: " اتقوا الله، وسودوا أكبركم " (¬4). الحجة الثانية عشرة: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تقولوا للمنافق سيد " (¬5). الحجة الثالثة عشرة: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قيل له: من السيد؟ فقال: " يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم " (¬6)، وهذه الأحاديث المتأخرة ذكرها صاحب ................................. ¬

(¬1) زيادة من (أ). (¬2) أخرجه الطبراني في " الأوسط " كما في " مجمع الزوائد " (8/ 202) وقال الهيثمي: رواه الطبراني في " الأوسط " وفيه نافع أبو هرمز وهو متروك، وهو حديث ضعيف. عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قيل: يا رسول الله، من السيد؟ قال: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم " قالوا: فما من أمتك سيد؟ قال: " بلى رجل أعطي مالا، ورزق سماحة، وأدنى الفقير، وقلت شكايته في الناس ". (¬3) أخرج مسلم في صحيحه رقم (16/ 1498) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وفيه: " اسمعوا إلى ما يقول سيدكم، إنه لغيور، وأنا أغير منه، والله أغير مني ". (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) أخرجه أحمد في " مسنده " (5/ 347) وأبو داود رقم (4977) والبخاري في " الأدب المفرد " (760) والنسائي في " عمل اليوم والليلة " رقم (244) والبيهقي في " الشعب " رقم (4883) وابن أبي الدنيا في " الصمت " رقم (364) والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " رقم (5987) وابن السني في " عمل اليوم والليلة " (391). من حديث بريدة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تقولوا للمنافق سيد، فإنه إن يك سيدا، فقد أسخطتم ربكم عز وجل ". اللفظ لأبي داود، وهو حديث صحيح. (¬6) تقدم تخريجه وهو حديث ضعيف.

النهاية (¬1). [الحجة الرابعة عشرة: ذكر السبكي في طبقاته (¬2) في ترجمة أحمد بن عمرو بن السرح (¬3) شيخ مسلم وغيره ما لفظه: وتفرد عن ابن وهب بحديث فقال: حدثنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث، عن أبي يونس، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كل بني آدم سيد، الرجل سيد أهله، والمرأة سيدة بيتها " قال السبكي (¬4) هذا حديث صحيح غريب. انتهى] (¬5). فهذا ما خطر من الحجج عند جري القلم بهذه الأحرف، والمجال [واسع جدا] (¬6) ومن تتبع وجد أضعاف أضعاف ذلك، بل قد صرح بذلك الكتاب العزيز، قال الله تعالى: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} (¬7)، فهذا [فيه] (¬8) إطلاق لفظ السيد على البشر، وهذه الآية الكريمة ينبغي أن تجعل من الحجج المتقدمة، فتكون الحجة الرابعة عشرة. وقد جرى على ألسن الصحابة والتابعين وتابعيهم من إطلاق ذلك على البشر نظما ونثرا ما لا يأتي عليه الحصر، ومن ذلك قول عائشة [رضي الله عنها] (¬9) لما سألتها امرأة عن الخضاب فقالت: " كان سيدي رسول الله [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (¬10) يكره ريحه " (¬11). ¬

(¬1) (2/ 417). (¬2) في " طبقات الشافعية الكبرى " (2/ 26). (¬3) (2/ 26). (¬4) في " طبقات الشافعية الكبرى " (2/ 26). (¬5) زيادة من (أ). (¬6) في (أ) واسعا جدا. وما أثبتناه من (ب). (¬7) [آل عمران: 39]. (¬8) زيادة من (ب). (¬9) زيادة من (ب). (¬10) زيادة من (ب). (¬11) أخرجه أبو داود رقم (4164) والنسائي رقم (5093). أن امرأة أتت عائشة - رضي الله عنها - فسألتها عن خضاب الحناء فقالت: لا بأس به، ولكني أكرهه، كان حبيبي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكره ريحه "، وهو حديث ضعيف.

وقول أم الدرداء: " حدثني سيدي أبو الدرداء "، وقول عمر: " تفقهوا قبل أن تسودوا " (¬1)، وقول ابن عمر: " ما رأيت بعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسود من فلان " (¬2). فقد ثبت مما قدمنا عدم دلالة ذلك الدليل على المطلوب؛ لاقترانه بما يدل على أنهم أرادوا بالسيد معنى يتضمن بعض الغلو الذي لا تريده العرب وأهل الإسلام [2ب] عند إطلاقه على البشر؛ ولهذا جعله [4] صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من استجرار [الشيطان] (¬3) واستهوائه. وثبت أيضًا بما ذكرناه من الحجج أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أثبت لنفسه أن سيد بني آدم على العموم (¬4) {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (¬5). وأثبت لبعض أفراد البشر أنه سيد مطلق من غير تقييد (¬6)، وأثبت لبعض آخر أنه سيد شباب الجنة، ولبعض آخر أنه سيد كهول أهل الجنة [ولبعض أنه سيد قبيلة من القبائل] (¬7) ولبعض ¬

(¬1) أخرجه الدارمي في سننه (1/ 79) بسند صحيح، قلت: وأخرجه ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " رقم (508، 509) وأبو خيثمة في " العلم " رقم (9) ووكيع في " الزهد " رقم (102) والخطيب في " الفقيه والمتفقه " (2/ 78) وغيرهم من طرق. (¬2) أخرجه الطبراني في " الأوسط " رقم (6759) وفي " الكبير " (12/ 387 رقم 13432). وقال الهيثمي في " المجمع " (9/ 357) رواه الطبراني في " الأوسط " و" الكبير " وفي رجاله خلاف. وأورده ابن الأثير في " النهاية " (2/ 418) ولفظه: " ما رأيت بعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسود من معاوية قيل: ولا عمر! قال: كان عمر خيرا منه، وكان هو أسود من عمر " قيل: أراد أسخى وأعطى للمال، وقيل: أحلم منه. (¬3) زيادة من (أ). (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) [النجم: 3 - 4]. (¬6) انظر " فتح الباري " (5/ 177) باب رقم 17، كراهية التطاول على الرقيق وقوله: عبدي أو أمتي. وقوله تعالى: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وإمائكم}، وقال: {عَبْدًا مَمْلُوكًا}، {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ}، وقال: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}، وقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قوموا إلى سيدكم "، {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} سيدك، و" من سيدكم ". (¬7) " زيادة من (ب).

أنه سيد قبائل متعددة. فدل مجموع ذلك إلى أنه يجوز أن يقال لفرد من أفراد بني آدم أنه سيد ذلك [القائل] (¬1)، أو سيد قوم معينين كأن يقول: يا سيدي أو يا سيد القبيلة الفلانية، أو سيد أهل القرية الفلانية، أو نحو ذلك من التخصيص والتعميم الجائزين الخاليين عن الغلو الممنوع. ولا فرق بين أن يكون ذلك في مخاطبة أو مكاتبة، فالكل جائز، والأمر واسع، فإن السيد في لغة العرب يرد [لمعان] (¬2) منها [من ثبتت] (¬3) له رئاسة عامة أو خاصة، وأهل الشرع إلى عصرنا هذا إذا أطلقوه على فرد من الأفراد لا يريدون إلا هذا المعنى، أما حقيقة، أو ادعاء [وتأدبا] (¬4). وما في إطلاق مثل هذا من ضير، فقد أذن به الشرع، ولم يرد فيه ما يمنعه لا بتصريح ولا بتلويح، بل كما يجوز أن يقال: الرئيس أو رئيس بني فلان، أو رئيسي، كذلك يجوز أن يقال: السيد أو سيد بني فلان أو سيدي (¬5). قال في النهاية (¬6) والسيد يطلق على الرب والمالك والشريف والفاضل والكريم والحليم، [ومتحمل أذى قومه] (¬7) والزوج والرئيس والمقدم، وأصله من ساد يسود فهو سؤدد، فقلبت الواو ياء لأجل الياء الساكنة قبلها، ثم أدغمت. . . انتهى بلفظه. ومن علم أن هذه المعاني ثابتة للفظ السيد في لغة العرب (¬8)، ولسان أهل الشرع، ¬

(¬1) في (ب): القبائل. (¬2) في (ب): لغتان. (¬3) في (ب): ما ثبت. (¬4) زيادة من (أ). (¬5) تقدم في تعليقة سابقة. (¬6) (2/ 418). (¬7) زيادة في (ب). (¬8) قال الراغب الأصفهاني في " مفردات ألفاظ القرآن " (ص 432): السيد المتولي للسواد: أي الجماعة الكثيرة، وينسب إلى ذلك فيقال: سيد القوم، ولا يقال: سيد الثوب، وسيد الفرس، ويقال: ساد القوم يسودهم، ولما كان من شرط المتولي للجماعة أن يكون مهذب النفس، قيل: لكل من كان فاضلا في نفسه: سيد. وعلى ذلك قوله: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} [آل عمران: 39]، وقوله: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا} [يوسف: 25] فسمي الزوج سيدا لسياسة زوجته. وقوله: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا} [الأحزاب: 64]، أي: ولاتنا وسائسينا.

فكيف ينكر إطلاق لفظ السيد أو سيدي على واحد منها! فمن قال للرئيس أو الشريف أو الفاضل أو الكريم أو الحليم السيد أو سيدي، فقط أطلق ذلك اللفظ العربي على المعنى الذي وضعته [له] (¬1) العرب، ولم يرد المنع منه في الشرع. والحاصل أن لفظ السيد مشترك في لسان العرب بين تلك المعاني، موضوع لكل واحد منها [5]، ومن جملتها أنه موضوع للرب سبحانه فيجوز إطلاقه عليه - عز وجل (¬2) - ويجوز إطلاقه على سائر تلك المسميات، وليس بمختص بالرب سبحانه [3أ] حتى لا يجوز إطلاقه على غيره (¬3). ومن زعم هذا فقد ادعى على لغة العرب، بل ¬

(¬1) في (ب): لها. (¬2) قال القرطبي: إنما فرق بين الرب والسيد؛ لأن الرب من أسماء الله تعالى اتفاقا، واختلف في السيد، ولم يرد في القرآن أنه من أسماء الله تعالى. فإن قلنا: إنه ليس من أسماء الله تعالى فالفرق واضح؛ إذ لا التباس، وإن قلنا: إنه من أسمائه فليس في الشهرة والاستعمال كلفظ الرب، فيحصل الفرق بذلك. " فتح الباري " (5/ 180). وقال الأصبهاني في " الحجة في بيان المحجة " (1/ 155 - 156): ومن أسمائه " السيد "، وهذا اسم لم يأت به الكتاب، وإنما ورد في الخبر عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم ذكر الخبر. قال ابن القيم في " النونية " (2/ 231 - 232): وهو الإله السيد الصمد الذي ... صمدت إليه الخلق بالإذعان الكامل الأوصاف من كل الوجو ... ه كماله ما فيه من نقصان وقال: السيد إذا أطلق عليه - تعالى - فهو بمعنى: المالك والمولى والرب، لا بالمعنى الذي يطلق على المخلوق، والله سبحانه وتعالى أعلم. " الفوائد " (3/ 213). (¬3) قال القرطبي: إنما فرق بين الرب والسيد؛ لأن الرب من أسماء الله تعالى اتفاقا، واختلف في السيد، ولم يرد في القرآن أنه من أسماء الله تعالى. فإن قلنا: إنه ليس من أسماء الله تعالى فالفرق واضح؛ إذ لا التباس، وإن قلنا: إنه من أسمائه فليس في الشهرة والاستعمال كلفظ الرب، فيحصل الفرق بذلك. " فتح الباري " (5/ 180). وقال الأصبهاني في " الحجة في بيان المحجة " (1/ 155 - 156): ومن أسمائه " السيد "، وهذا اسم لم يأت به الكتاب، وإنما ورد في الخبر عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم ذكر الخبر. قال ابن القيم في " النونية " (2/ 231 - 232): وهو الإله السيد الصمد الذي ... صمدت إليه الخلق بالإذعان الكامل الأوصاف من كل الوجو ... ه كماله ما فيه من نقصان وقال: السيد إذا أطلق عليه - تعالى - فهو بمعنى: المالك والمولى والرب، لا بالمعنى الذي يطلق على المخلوق، والله سبحانه وتعالى أعلم. " الفوائد " (3/ 213).

على الشرع ما ليس فيهما، وهذه كتب اللغة، وكتب الشريعة المطهرة إلى ظهر البسيطة، وقد نقلنا في هذا ما فيه كفاية لمن كانت له هداية، والله ولي التوفيق (¬1). وظهر [بهذا [(¬2) النقل الذي نقلناه عن صاحب النهاية صحة ما قدمنا من تأويل قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " السيد الله " كما تقدم بيانه وإيضاحه، وحسبي الله ونعم الوكيل. . . ولنقتصر على هذا القدر وإن كان المقام [محتملا] (¬3) للتطويل والبسط، فليس المراد إلا التنبيه على دفع ما يظن أن من قال لفرد من أفراد البشر السيد أو سيدي [قد] (¬4) خالف الشريعة، وفعل محرما من محرماتها، فإن هذا غلط على الشريعة، والحمد لله أولى وأخرى. . . [حرر] (¬5) ضحوة يوم الأربعاء لعله ثامن شهر جمادى الأولى سنة 1219. [بقلم المؤلف - عافاه الله - ونقلته من خطة ثاني يوم تحريره - دامت إفادته - والله حسبي بلغ قصاصه، ويرد من الحجج قوله تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} تمت] (¬6). ¬

(¬1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2546) وطرفه (2550) ومسلم رقم (1664) من حديث ابن عمر قال: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " العبد إذا نصح سيده وأحسن عبادة ربه كان له أجره مرتين ". وأخرج البخاري في صحيحه رقم (2549) ومسلم رقم (1667) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " نعم ما لأحدهما، يحسن عبادة ربه وينصح سيده ". وأخرج البخاري في صحيحه رقم (3754) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: كان عمر يقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا، يعني بلالا ". وانظر: " فتح الباري " (7/ 99). (¬2) في (ب): هذا. (¬3) في (ب): متحمل. (¬4) في (ب): فقد. (¬5) زيادة من (أ). (¬6) زيادة من (ب).

هذه مناقشة للبحث السابق لبعض الهنود الساكنين في تهامة تحقيق الرباني للعالم الصمداني على رسالة الشوكاني [العرف الندي في جواز لفظ سيدي]

(185) 17/ 3 هذه مناقشة للبحث السابق لبعض الهنود الساكنين في تهامة تحقيق الرباني للعالم الصمداني على رسالة الشوكاني [العرف الندي في جواز لفظ سيدي] تأليف السيد عبد الغفار بن محمد الحسني عفا الله عنه وعن أسلافه وعن المسلمين آمين حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: هذه مناقشة للبحث السابق لبعض الهنود الساكنين في تهامة على رسالة الشوكاني. [العرف الندي في جواز لفظ سيدي] 2 - موضوع الرسالة: آداب. 3 - أول الرسالة: " رب يسر، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى. . . 4 - آخر الرسالة: تمت الرسالة المسماة بتحقيق الرباني العالم الصمداني على رسالة الشوكاني تأليف العالم العلامة السيد عبد الغفار بن محمد الحسني، غفر الله له ولكاتبه وللمسلمين أجمعين، آمين. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 5 صفحات + صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 28 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 1 - 25 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

رب يسر. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، لا سيما المصطفى وآله المجتبى. أما بعد: فيقول الفقير إلى لطف ربه الستار الصمد أبو التائب عبد الغفار بن محمد الحسني - بصره الله بعيوب نفسه، وجعل يومه خيرا من أمسه - أنه وصلت إليه من بعض خيار الأعلام، علم الإسلام، نبذة تامة وأرجوزة ضامة في رد على من لا يرى إطلاق لفظ سيدي أو سيدنا في المكاتبات والمخاطبات، تأليف العالم النحرير، والعلامة البحر الغزير، سلالة المحققين على ظهر الدحية، خصوصا ما بين صنعاء واللحية، (¬1) القاضي الرباني محمد بن علي الشوكاني، متع الله المسلمين بطول بقائه، ورفع بين الأولوية لواءه. ولقد أفاد وأجاد، ونصح في ظنه للعباد، وإنما لكل امرئ ما نوى، ولما كانت الأنظار قليلة القرار بالإضافة إلى الأغيار؛ لاختلاف الأوضاع الدالة على تعدد الأوطار، خلج في خلدي أن أرشد لمنشد الضالة حسبة مني أنه من حكماء الديار، فهو أحق للوقاية عن البوار، لكن قلة بضاعتي تأخذ كشحي عن مهالك البحث، ولندرة الإنصاف والاعتبار، ولم يزل يخط ذلك عدة ليالي والأنهار، حتى اقتحمت معتصما بحبل التوفيق لمن أقر الفلك الدوار، ولعا على إظهار الحق حبك الشيء، يصم ويعمي من غير إنكار، ¬

(¬1) اللحية: بلدة تهامية على ساحل البحر الأحمر شمالي الحديدة، وهي من الموانئ الصغيرة، وبها مغاصات اللؤلؤ والمرجان، ويرجع تاريخ عمارة اللحية إلى أوائل القرن الثامن الهجري، وإلى أراضيها يصب وادي مور أكبر أودية تهامة. " معجم البلدان والقبائل اليمنية " (ص 548)، " هجر العلم ومعاقله " (4/ 1929).

ورمت الإيجاز جدا لعدم الفرصة لمدة الأطوار، وجعلت كالحاشية على هامشها لحصول البغية بذلك بأدنى اعتبار، وخير الكلام ما قل ودل، مع أنه ليس الغرض إلا إخراج الأسرار من كلام المؤلف، وأما المقدمات فأكثرها لصاحب النهاية رئيس الأحرار، اللهم كن لي في دار الفناء ودار القرار. قوله: ولا شك ولا ريب - تنبه أيها النائم بسنة الغفلة - قد أفاد العلامة أنه قد خلت عن نحو تلك الاستعمالات القرون الثلاثة المحمودة المزكاة بتزكية المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو كان فيها حسن لأتوا بها؛ لوفور الوله لهم لاكتساب أنواع الحسنات، فإنهم أحدثوا أمورا جمة لما عرفوا الحسن فيها فلما يقدموا عليه مع جد طلب وجوه الحسنات، علم أنه لا حسن فيها، وحدوثها في القرون التالية التي أخبر الرسول بقلة الديانة والأمانة حيث قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ثم فشى الكذب، فيسبق حلفهم شهادتهم وشهادتهم حلفهم " (¬1) مع عدم شهدة (¬2) ذلك في القرن الرابع والخامس أيضًا المبني على زيادة القبح المستفاد من قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما من عام إلا الذي بعده شر منه (¬3) دال على أنها من البدعة القبيحة المعضودة قباحتها بإنكاره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنفسه الكريمة، الآتي ذكره. وقد صح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (¬4)، وفي لفظ آخر: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (¬5)، وأيضا: " كل بدعة ضلالة، ¬

(¬1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (2652) ومسلم رقم (2533) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته ". وقد تقدم بألفاظ. (¬2) كذا في المخطوط، ولعلها شهادة. (¬3) أخرجه الترمذي في " السنن " رقم (2206) من حديث أنس بن مالك، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وهو حديث صحيح. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2697) ومسلم رقم (1718) وأبو داود رقم (4606) وابن ماجه رقم (14) من حديث عائشة، وقد تقدم. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2697) ومسلم رقم (1718) وأبو داود رقم (4606) وابن ماجه رقم (14) من حديث عائشة، وقد تقدم.

وكل ضلالة في النار " (¬1). قوله: وتلبس بغير شعار الإسلام، أنت خبير بأنه تقرر سابقا أنها بدعة قبيحة، وكل بدعة قبيحة فهي غير شعار الإسلام، فكيف يصح إنكار العلامة على قائله! كيف ولا يبعد أن يقال هذا في شعائر الجاهلية وأمورها [1]! ولذا لم يوجد ذلك في إسلام السلف رأسا، فلا هذا الوفد الذين هم قريب عهد من الإسلام يؤيد إنكاره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهم، وعدم حدوثه إلا حين ضَعْفِ الإسلام وشبوب الشرك في الناس، إما باستدعاء الخلف إلى عبادتهم كبعض المتعلمين وبعض المتصوفين، أو بإغرائهم إلى عبادة أربابهم كبعض التلامذة وبعض المريدين، حتى شاع الشرك في أكثر البلاد مع وقوع الخلق في الغلط، فصار ذلك عندهم من شعائر الإسلام ومستحسناته؛ فلذا ترى مشركي زماننا يذكرون عند ذكر آلهتهم سيدي فلان، أو سيدنا. فوضح أن ذلك من أمور الجاهلية، ما وجدت إلا عند عود الجاهلية. قوله: فالخطب يسير، والخطر في ذلك حقير، فيها إيهام استصغار المعصية، وقد صرح أهل الدين أن استصغار المعصية ولو كانت صغيرة تصير كبيرة (¬2)، فلا يتصور صدور مثل ذلك عن العلامة إلا ذهولا عن تلك المقدمة، أو قصدا لأمر آخر في باله الشريف، ثم إنك قد عرفت مما سردنا أنه من البدعة القبيحة ومن أمور الجاهلية، وقد صح إنكاره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على مرتكبيه، فلا يلام من قال بأنه حرام أو مكروه تحريما. قوله: يتعذر تلافيها. قد أدركت إنحاء دفعنا لإنحاء رده ابتداءً، وسترى أحسن من ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) منها ما أخرجه أبو داود رقم (4990) والترمذي رقم (2315) والنسائي في " السنن الكبرى " رقم (11655) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن العبد إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن زاد زادت، فذلك قول الله تعالى: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين: 14].

ذلك انتهاء - بحول الله تعالى وحسن توفيقه - فصح أن يقال ذلك من طرفنا. قوله: فهذا حجتهم. فيه تلويح بأنه لا مستند لهم غير هذا الحديث، ولعمري أن العلامة خلط الحديثين (¬1)، ولعل وجهة ادعائه على اتحاد القصة بالتاريخ فهو مؤاخذ بتصحيح ذلك، أو وصلت إليه الرواية بتلك الطريق على نحو ما ذكره، أو غير ذلك من البواعث، وإلا فقد أخرج أبو داود (¬2) بإسناد جيد عن عبد الله بن الشخير قال: انطلقت في وفد [بني] عامر إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلنا: أنت سيدنا، فقال: " السيد الله تبارك وتعالى " قلنا: وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا، قال: " قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرنكم الشيطان ". وأخرج النسائي (¬3) عن أنس بسند حسن أن أناسا قالوا: يا رسول الله، يا خيرنا وابن خيرنا، يا سيدنا وابن سيدنا، فقال: " يا أيها الناس قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله - عز وجل - " ثم اعلم أنه يفهم من سياق كلام العلامة وسياقه أن الإنكار على ذلك إنما حدث بين قوم معين لا غير، وليس الأمر كذلك، بل الإنكار لم يبرح من لدن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يومنا هذا على مباشرة من العلماء الراسخين الأبرار المتقدمين الأحرار، فإن طائفة من أمته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا تزال على الحق ظاهرين ومنصورين كما ورد حتى تقوم الساعة (¬4)، وذلك واضح لمن له أدنى إلمام بالسير في ¬

(¬1) انظر التعليقة الآتية. (¬2) في " السنن " رقم (4806)، وهو حديث صحيح. (¬3) في " عمل اليوم والليلة " رقم (248) وأخرجه أحمد (3/ 241، 249). (¬4) أخرج البخاري رقم (7311) ومسلم رقم (1921) من حديث المغيرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون ". وأخرج مسلم في صحيحه رقم (1924) من حديث عقبة مرفوعا: " لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون عن أمر الله قاهرين لعدوهم، ولا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك ".

أحوال المشائخ الكمل القائمين الذين لم يخافوا لومة لائم، لكن السيف المفرق للمفارق لم يكن وضع على أعداء الدين إلا باستقامة تلك القوم المنصورة، فلا يرفع عنهم - إن شاء الله تعالى - إلى قيام القيامة كما ورد، وأظن أن [2] هذه القوم هي المبشرة بها. قوله: فما قال غير خاف على ذي الفطنة القويم، وصاحب الطبع المستقيم أن مدار القياس هو مماثلة المقيس والمقيس عليه، فيبطل القياس بدونه، فإذا قياس العلامة قول الرجل: أنت سيدنا على قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قياس مع الفارق، وذلك باطل كما في محله، فإن السيد في موضع التخاطب والتكاتب يراد به المالك (¬1)، فلا يصح إطلاقه على هذه الحيثية إلا على المالك حقيقة كالواحد القهار، أو مجازا كملاك العبيد؛ ولذا أباح - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للعبيد ذلك دون غيرهم، ونهاهم عن إطلاق لفظ الرب (¬2). ¬

(¬1) انظر " فتح الباري " (5/ 179 - 180). (¬2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2552) ومسلم في صحيحه رقم (2249) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا يقل أحدكم: أطعم ربك وضئ ربك، وليقل: سيدي مولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي، أمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي ". قال الحافظ في " الفتح " (5/ 179): وفيه نهي العبد أن يقول لسيده: ربي، وكذلك نهي غيره، فلا يقول له أحد: ربك، ويدخل في ذلك أن يقول السيد ذلك عن نفسه، فإنه قد يقول لعبده: اسق ربك، فيضع الظاهر موضع الضمير على سبيل التعظيم لنفسه، والسبب في النهي أن حقيقة الربوبية لله تعالى؛ لأن الرب هو المالك والقائم بالشيء، فلا توجد حقيقة ذلك إلا لله تعالى. قال الخطابي: سبب المنع أن الإنسان مربوب متعبد بإخلاص التوحيد لله وترك الإشراك معه، فكره له المضاهاة في الاسم؛ لئلا يدخل في معنى الشرك، ولا فرق في ذلك بين الحر والعبد، فأما ما لا تعبد عليه من سائر الحيوانات والجمادات فلا يكره إطلاق ذلك عليه عند الإضافة كقوله: رب الدار ورب الثوب. قال ابن بطال: لا يجوز أن يقال لأحد غير الله رب، كما لا يجوز أن يقال له إله. قال الحافظ ابن حجر: والذي يختص بالله تعالى إطلاق الرب بلا إضافة، أما مع الإضافة فيجوز إطلاقه في قوله تعالى حكاية عن يوسف - عليه السلام -: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} وقوله: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ}، وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أشراط الساعة: " أن تلد الأمة ربها " فدل على أن النهي في ذلك محمول على الإطلاق، ويحتمل أن يكون النهي للتنزيه.

وأما قول القائل: أنا سيد بني فلان، وأنت سيد أهل الوبر، أو فلان سيد القبيلة، فمعناه على هذا الاستعمال هو المتقدم عليهم، فمعنى قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أنا سيد ولد آدم " (¬1) أي: المتقدم عليهم، فكيف يصح القول: " أنت سيدنا " حملا على قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعدم الجامع. ولو كان الجامع بينهما لما نهى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه الوفد الوافد، فأين الحديث حجة لكم؟ واعلم أنا لا نمنع إطلاق لفظ السيد على الله وعلى غيره، حيث ثبت أنه يستعمل لمعان متعددة، لكنا نمنع إطلاقه عليه تعالى إذا أريد به معنى الزوج والخادم ونحوهما مما يجب تنزيهه تعالى عن مثله؛ ولذا ذهبت طائفة من المتكلمين إلى منع ذلك مطلقا حيث كان مشتركا ولم تقم قرينة مطردة دالة على معنى مناسب له تعالى. ونحن لم نتبع تلك الطائفة، وقلنا بالجواز مع شرط إرادة معنى لائق به؛ لإطلاقه على لسان نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونمنع إطلاقه في المكاتبات والمخاطبات قطعا؛ لأنه لا يراد في هذه المواضع إلا المالك، والمؤيد نهي الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للوفد وإباحته للعبيد، فكان ذلك مخصوصا عن العام، فإنا مجوزون في غير ذلك المقام بالكتاب والسنة، فالمخصص له حديث عبد الله بن الشخير، وحديث أنس، وإجماع القرون الثلاثة، وأنه من أمور الجاهلية كما سبق، وأنه بدعة قبيحة، ولقوله تعالى: {لَا تَغْلُوا في دِينِكُمْ} (¬2). وهذا أبلغ غلو؛ لأنه يجعل المخلوق مثله مالكا له، وهو شأن الباري تعالى فإنه مالك الرقاب من غير شراء، ولقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إياكم والغلو؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو " (¬3)، ولقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هلك المتنطعون. . . ثلاثا " (¬4) وغيرها من الأحاديث. فهذه تسعة حجج مخصصة للعموم المستفاد مما ذكر العلامة وغيره ونحوه، ولا يمكن أن يراد ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) [النساء: 171، المائدة 77]. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (7/ 2670) من حديث عبد الله بن مسعود.

عند الإطلاق في تلك المواضع معنى صالحا كالرئيس ونحو؛ لأنه مهجور شرعا فلا يسع إلا تركه فيها، وأما إذا قال: من فلان إلى السيد الشريف، أو: يا سيد بني فلان، أو: يا سيد أئت - من غير إضافة - فلا بأس به. . . قوله: كما يقول القائل: أنت الرجل علما. قد أسلفنا أن القياس مع الفارق باطل (¬1) وهنا كذلك، بل هنا أبطل؛ لعدم تعين ما شرحه العلامة من قصد القوم الوافد، مع قيام القرينة بأنهم أرادوا المالك الذي كانوا يقصدون ذلك عند الإطلاق لآلهتهم، ونهي الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لذلك، وأباح للعبيد لوجود الملك مجازا، ولعدم صدور مثل ذلك عن الرسول [3]، فإنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما قال: الله سيادة، وما قال القوم أيضا: " أنت نبي أو رسول سيادة " حتى يقال: أرادوا هذا المعنى، أو أراد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا المعنى، بل (للأمة) في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحصة المشخصة في الخارج التي هي في الأصل في وضعها، كما حقق ذلك صدر الشريعة بيانه أنهم لما قالوا: " أنت سيدنا " وأرادوا المعنى الذي عهد عندهم وهو المالك، قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " السيد " أي: الذي قلتم لي هو الله - سبحانه وتعالى - لا غير، فاعتبر الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيضًا هذا المعنى في مثل هذا المقام؛ ولذا لم يبح إلا للعبيد، فكان ذلك معناه في مثل هذا الموضع لغة وشرعا، وعرف بقرينة الإنكار وعدم الإباحة، وعدم الاستعمال في القرون المحمودة، وحدوث ذلك في الأزمنة التي عادت فيها الجاهلية أنه لا يجوز الإطلاق في مثل هذا المقام ولو بإرداة معنى آخر، ولله الحمد، وقد كشفنا الغطاء في التبيان، فأين أرباب الجنان المشتاقون للقاء الرحمن (¬2)؟ قوله: ولهذا كانت هذه العلوم. وقد ذهل العلامة عن خصلة أخرى هي أحرى بكونها ملاك الاجتهاد، وترى أصحاب الفن قاطبة ضموها مع الشرائط، وهي ملكة الاستنباط، ¬

(¬1) انظر " إرشاد الفحول " (ص 656)، " البحر المحيط " (5/ 6) و" شروط القياس " (ص 678) وما بعدها، " اللمع " (ص 57)، " تيسير التحرير " (3/ 276). (¬2) سيأتي رد الشوكاني على ذلك.

وهي البصيرة في القلب كالبصر للعين، فإنه لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب. قال تعالى: {ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (¬1)، وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " استفت قلبك. . . ثلاثا " (¬2)، ثم قال: " وإن أفتاك المفتون " فما لم تكن في قلبه بصيرة يضيء له الحق بها لم يعرف الحق أصلا، فيخبط في البحث خبط عشواء، ويصير كمن ركب متن عمياء ... قوله: لأنه قد فهم من مقصدهم. قد أنصف العلامة هنا، لكنه لم يصرح بأن ذلك المعنى هو المعهود في مثل هذا المقام حتى يتضح عنده الحق كما اتضح مبدؤه، فإن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء (¬3). قوله: ولم يريدوا به المعنى الذي يطلقه البشر على الأنبياء وغيرهم. أي: في غير هذه المواضع كالتوصيف بأنه عالم سيد، أو الإعلام بأن فلان سيد بني فلان وأشباهه. قوله: فعرفت بهذا أن ذلك الحديث لا يدل على مطلوب المستدل. أي: الذي تمسك به لعدم جواز إطلاقه على البشر مطلقا، فإن ذلك باطل بالكتاب والسنة دلالة وصراحة. وأما الذي تثبت به للتخصيص به مقام الخطاب مع الإضافة فهو أدل دليل لا بطريق المغالطة التي ارتكبها العلامة، بل بوجه الإنصاف والاعتبار، وقد سلف. . . قوله: فالدليل حجة عليهم لا لهم يعني الذين منعوا مطلقا. قوله: فإن في هذا الحديث وذلك ما ننكره أصلا. . . قوله: وهذه الأحاديث كلها، ومع ذلك كلها دالة على جواز إطلاقه على البشر في غير المقام المتنازع فيه بخصوصه، حتى يتصور التعارض، وتعارض العموم مع كونه غير ¬

(¬1) [ق: 37]. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم توضيحه. انظر " فتح الباري " (5/ 175)، " المفهم " (6/ 48 - 49).

صالح له؛ لكونه ظني الدلالة مرفوعًا بالتخصيص، ثم إطلاقه في تلك الأحاديث بمعنى الرئيس والمتقدم ونحوه، وهو ظاهر [4]. قوله: فالرجل السيد هنا بمعنى الخادم المدبر لما ساد عليه. قوله: فهو سيد، أي كريم حليم شريف، وهذه كلها من معانيه. قوله: وسودوا أي قدموا. قوله: لا تقولوا للمنافق سيد أي: شريفا كريما وما يساويه. قوله: من السيد، أي: من الكريم. وقد ورد في رواية أخرى. قوله: فهذا حضر لا يخفى على ذهنك الثاقب وقلبك الراقب أنه لم يأت بحديث يدل على خصوص محل التنازع، بل وليس في شيء منها مستعملا بمعنى المالك البتة، فعلم أنه لا يطلق على البشر إلا بمعنى يليق [غير] (¬1) الرب والمالك، وإذا وجد الملك ولو مجازا يطلق عليه أيضًا كما جيز للعبيد (¬2). قوله: والمجال واسع، أي: في جميع أمثاله مما يجديه نفعا. قوله: وقد جرى. واعلم أنه لم يجر على لسان أحد من الصحابة، ولا من التابعين، وتابعيهم في المقام المتنازع لفظ سيدي. وأما الذي بصدده العلامة من إطلاقه على البشر مطلقا فذلك لا ننكره، فلا ينبغي لنا الاشتغال لجواب كلامه؛ لأنه مما لا يعني، وهو أثر حسن الإسلام كما ورد على أن أقوال هؤلاء ليست بحجج فضلا عن الأعمال، وقول عائشة وإن كان فيه الإضافة فليس في مقام الخطاب، على أنه يمكن أن يقال: إنه مجاز من الحب الذي ورد في رواية مشهورة عنها (¬3). وقول أم .......................................... ¬

(¬1) كذا في المخطوط، ولعلها (بغير). (¬2) انظر هذه المعاني في " النهاية " (1/ 417 - 418). " اللسان " (6/ 424). (¬3) تقدم تخريجه.

الدرداء (¬1) ليس في مقام الخطاب، مع أنه ليس بحجة، وفيه احتمال المجاز أيضا. قوله: قبل أن تسودوا في الرياسة، أي: تقدموا عليهم. قوله: أسود، أي: أكرم وأشرف أو نحوهما. قوله: على المطلوب أي: عدم الجواز مطلقا. قوله: لأن يقول: يا سيدي أو سيد القبيلة الفلانية، والقياس المذكور مع فارق وقد أبطلناه، ومبنى قياسه أنه ليس في قوله: " يا سيدي " غلو، وليس كذلك كما قدمنا. قوله: ولا فرق. وقد سقنا الفرق سابقا، فتذكر. قوله: وأهل الشرع إلى عصرنا هذا إذا أطلقوه على فرد من أفراد لا يريدون إلا هذا المعنى، أي في غير المقام المتنازع، وأما فيه فلم يطلق الشارع - عليه أفضل الصلاة والسلام - بل أنكره، وكذا ما بعده، ما دام لم يختل أمر التوحيد، وأما بعد الاختلال فقد صار في ذلك من أعظم الحسنات وأوفر للكرامات: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا} (¬2)، {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (¬3)، {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} (¬4)، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (¬5)، {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (¬6) فيجب على كل ورع أن يستقصي في الأمور المشتبهة، فإنه قد صح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن كثيرا من الناس لا يعلمونها، فإن لم يكن معه قلب سليم يلتمس من أرباب الإيقان وأهل العرفان: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬7)، ولا ¬

(¬1) ذكره ابن الأثير في " النهاية " (1/ 418). (¬2) [محمد: 14]. (¬3) [الجاثية: 45]. (¬4) [النمل: 24]. (¬5) [الكهف: 104]. (¬6) [الروم: 59]. (¬7) [النحل: 43، الأنبياء: 7].

يجتري على الفتوى؛ فإنه: " أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار " (¬1). قوله: فقد أذن به الشرع، هذا موضع اقشعرار جلود العارفين، فإنه جرأة عظيمة، وإنما الأعمال بالنيات و {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬2) فإن ذات العلامة في نظري في غاية القصوى من الكمال، وما فوق الطاقة معفو عنه .. قوله: فمن قال للرئيس. ترى غلطات العبارات، فإنه إنما يجوز إطلاق سيدي بالمعاني المذكورة في الفاضل والكريم ونحوه؛ ولذا سوى بين قوله: " سيدي " وقوله: " فلان سيد "، وإرادة هذا المعنى في قوله: " سيدي " مهجورة لغة وشرعا، وقد أوفينا الكلام فيه سابقا. قوله: ومن زعم هذا. أي: لا يجوز إطلاقه على غيره تعالى، ونحن نجوز كما سلف. قوله: وظهر بهذا. وقد أبطلناه، بناء الكلام عليه، وبناء الفاسد على الفاسد فاسد. قوله: فإن هذا غلط على الشريعة. الله يعلم بأن إحدى الفريقين مخالفون، وكل يعمل على شاكلته، وربك أعلم بمن هو أهدى سبيلا .. وهذا آخر ما أوردت إيضاح مخدورات عبارات العلامة، مع حسن الإيجاز، مع إحاطة المطالب والاحتياز، وإنما استهدفت نفسي نصحا للخلق مع إنسداد طريق البحث في هذه الأيام، والقلق ومخافة اندراج النفس في وعيد كتمان الحق، وهو العالم بأسرار القلوب، فهو المسئول - إن زلت القدم أو ضل القلم - أن يستر العيوب، ويعصم لكافة أهل التوحيد من الذنوب؛ فهو غفار الذنوب وستار العيوب .. تمت الرسالة المسماة بتحقيق الرباني للعالم الصمداني على رسالة الشوكاني .. تأليف العالم العلامة السيد عبد الغفار بن محمد الحسني، غفر الله له ولكاتبه وللمسلمين أجمعين، آمين [5]. ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) [البقرة: 286].

ذيل العرف الندي في جواز إطلاق لفظ سيدي جوابا على المناقشة السابقة

(186) 18/ 3 ذيل العرف الندي في جواز إطلاق لفظ سيدي جوابا على المناقشة السابقة تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: ذيل العرف الندي في جواز إطلاق لفظ سيدي جوابا على المناقشة السابقة. 2 - موضوع الرسالة: آداب. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم إياك نعبد، وإياك نستعين، يا من لك الحمد كله، دقه وجله. 4 - آخر الرسالة: المؤثرين لهما على تقليد الرجال وزايفات الأقوال. . . والحمد لله أولا وآخرا. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية إن شاء الله. 5 - نوع الخط: خط نسخي مقبول. 6 - عدد الصفحات: 15 صفحة. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 10 - 12 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم إياك نعبد، وإياك نستعين، يا من لك الحمد كله، دقه وجله، نسألك أن تصلي وتسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه. وبعد: فإني لما حررت بحثا في أيام قد تصرمت، وسنين قد تقدمت، حاصله: أنه يجوز في المكاتبات ونحوها إطلاق لفظ سيدي ونحوه. وقفت بعد أيام طويلة على مناقشات لبعض ما اشتمل عليه ذلك البحث من بعض أهل العلم والفهم - كثر الله في عباده الحاملين للعلم من أمثاله - ورأيت بعض ما اشتملت عليه تلك المناقشات، قد اشتمل على أمور من حق ما يجب على المسلم للمسلم من النصيحة والمحبة التنبيه عليها. وها أنا قبل الشروع في تعقب تلك المناقشات أوضح لك محل النزاع الذي حررت لأجله ذلك البحث. فأقول - وبالله الثقة -: إن محل النزاع هو: هل من كتب في رسالة إلى أحد من إخوانه: يا سيدي، أو أيها السيد، أو نحو ذلك قد فعل بهذا محرما عظيما، وارتكب محظورا جسيما أم لا؟ بل لم يحصل منه إلا مجرد المخالفة لما كان الغالب في مكاتبات السلف الصالح من قولهم: من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان. وقد أوضحت هذا في ذلك البحث الذي ناقشه المناقش - عافاه الله - إيضاحا بليغا فقلت: ولا شك ولا ريب أن هذا العنوان أعني من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان هو الذي كان عليه السلف الصالح. ثم قلت: فهو من هذه الحيثية سنة حسنة، وخصلة مستحسنة. ثم قلت بعد هذا أن من عنون كتابه بما جرت عليه عادات المتأخرين من لفظ سيدي فلان، ونحو ذلك هل ارتكب عظيما، وفعل جسيما، وتلبس بغير شعار الإسلام، وارتطم في أعظم مهاوي الآثام؟ إلى آخر كلامي في عنوان ذلك البحث، فهذا تصريح بأن محل النزاع ليس هو في كون هذا سنة، فإن الاعتراف بذلك كائن قد أوضحته في عنوان البحث، ولكن محل

النزاع هل يكون المخالف لما كان عليه السلف من قولهم من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان فاعلا لمحرم، ومرتكبا لأمر معظم [1] بل هو يكون متلبسا بغير شعار الإسلام، ومرتطما في أعظم مهاوي الآثام كما صرحت بذلك تصريحا لا يبقى بعده ريب لمرتاب؟. وإذا قد تقرر أن هذا هو محل النزاع عرفت أنه لا نزاع في كون ذلك هو عمل السلف الصالح، أعني: قولهم من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان، فأني قد اعترفت بهذا وصرحت به في عنوان البحث، وصرحت بأنه العنوان الذي كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعله في مكاتباته، وهذا الاعتراف لا يستلزم أن تكون المخالفة لذلك محرمة فضلا عن كونها موجبة للخروج من الإسلام، والوقوع في أعظم الآثام. وقد تقرر عند جميع أهل الملة الإسلامية سابقهم ولاحقهم أن ترك السنن التي ليست بواجبة لا توجب كفرا ولا فسقا، ولا يقال لذلك التارك أنه بتركه قد فعل محرما، وارتكب معظما، بل غاية ما يلزم من ذاك أن التارك حرم نفسه الثواب الذي كان سيحصل له بفعل تلك السنة، لا أنه قد صار بذلك مستحقا للعقاب؛ فإن الشيء الذي يمدح فاعله، ويذم تاركه إنما هو الواجب المفترض على العباد من الله - سبحانه - كما قرر ذلك علماء الأصول على اختلاف مذاهبهم، ولم يقل أحد منهم أن تارك ما ليس بواجب يأثم أو يذم (¬1). هذا على فرض أنه لم يرد ما يجوز ترك ذلك الفعل الذي فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أما لو ورد ما يجوز تركه من أقواله أو تقريراته فلا نزاع ولا خلاف في جواز الترك لما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن ذلك الترك كان بدليل هو القول أو التقرير كما كان فعل ذلك الفاعل الموافق لما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدليل هو الفعل، وإلا لزم أن تكون هذه الشريعة المطهرة منحصرة في أفعاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ¬

(¬1) انظر الرسالة رقم (67). "الكوكب المنير" (1/ 333)، و"المستصفى" (1/ 137)، "الإبهاج" (1/ 43)

دون أقواله وتقريراته، بل ودون القرآن الكريم، وهذا خرق لإجماع أهل الملة الإسلامية، وإهدار لأكثرها، فإن الأحكام الثابتة بالقرآن وبأقوال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقريراته أضعاف [2] أضعاف الأحكام الثابتة بمجرد الأفعال، بل غالب هذه الشريعة المطهرة، بل كلها إلا النادر الشاذ ثابت بالكتاب العزيز، وبأقواله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقريراته. وأما مجرد الأفعال فغالبها بيان لما في القرآن، أو موافق للأقوال (¬1). فمن زعم أن ما خلف أفعاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كتاب الله - سبحانه -، أو من أقوال رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقريراته ليس بشرع فقد ارتكب أمرا عظيما، وقال قولا وخيما وأبطل الشريعة بأسرها إلا القليل النادر، وخالف كل أهل الملة الإسلامية سابقهم ولاحقهم وأولهم وآخرهم. وإذا عرفت هذا وفهمته كما ينبغي فاعلم أني لم أقل في ذلك البحث أن من قال في عنوان كتابه: من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان مخالف للسنة، ولا قلت أن من قال في عنوان كتابه: يا سيدي أو نحوه فقد فعل ما هو أفضل، بل قلت ما حاصله أن من قال يا سيدي أو نحوه فهو لم يفعل محرما، ولا خرج من الإسلام، ولا استحق أعظم الآثام مع اعترافي بأن الذي كان عليه السلف الصالح هو ذلك العنوان، وأنه سنة حسنة، وخصلة مستحسنة. ولكني أنكرت على من يقول أن في خلاف ذلك ما يوجب أعظم الآثام، والتلبس بغير شعار الإسلام، والدخول في المحرمات العظام. وقلت: أن هذه المخالفة جائزة، وأوردت أدلة تدل على ذلك حسبما أوضحته في ذلك البحث إيضاحا لا يبقى بعده ريب. وأنت خبير بأن المناقشة لهذا الذي قلته في ذلك البحث إنما تكون بإيراد الأدلة الدالة على أن من عدل في عنوان كتابه من ذلك العنوان الذي كان عليه السلف الصالح إلى عنوان آخر يخالفه فقد فعل محرما عظيما، وخرج من ¬

(¬1) تقدم توضيحه. انظر: "البحر المحيط" (4/ 177)

الإسلام، واستحق أعظم الآثام. وأما المناقشة بأن ذلك العنوان هو السنة [3]، أو أنه الذي كان عليه السلف الصالح، فإن ذلك لا يجدي نفعا، ولا يرد علي، فإني قد اعترفت به اعترافا صريحا في أول بحثي، والمناقشة بما يعترف به الإنسان هي من تحصيل الحاصل، وإيجاد الموجود، بل لو صح للمناقش القدح في جميع ما أوردته من الأدلة التي ذكرتها لم يأت ذلك بفائدة، فإنه لم يتم للمناقش بمجرد ذلك القدح أن مخالفة ذلك العنوان محرمة ومخرجة من الإسلام، وهو الذي نفيته وأنكرته على قائله، وهو يكفيني الوقوف في موقف المنع قائلا: أنا أمنع كون مخالفة ذلك العنوان موجبة للتحريم فضلاَ عن الكفر، فلا ينفع المناقش إلا إيراد الأدلة الصحيحة الموجبة لدفع ذلك المنع، إن كان ناقلا فعليه تصحيح النقل، وإن كان مدعيا فعليه الدليل كما تقرر في علم المناظرة والجدل. وأما مجرد القدح في سند المنع فهو لا يوجب أن يكون الحق بيد ذلك القادح، وهذا معلوم عند المحققين، معروف عند جميع المحصلين لا يختلفون فيه، فكيف والقدح في تلك الأدلة التي أوردتها لم يصح شيء منه كما سيأتيك بيانه إن شاء الله. فهذا يزيد محل النزاع، وقد كررته لقصد الإيضاح وللفرار من الوهم الذي قد وقع للمطلع - عافاه الله -. قوله: دال على أنها من البدعة القبيحة. أقول: اعلم أن الأدلة الدالة على جواز إطلاق لفظ السيد وسيدي على فرد من أفراد البشر، كما وقع منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غير موضع، وكما وقع من جماعة السلف الصالح يرفع ما ذكره من كون ذلك بدعة، بل لقائل أن يقول: إنه لا يخرج عن كونه سنة، فإن القائل لمن له سيادة يا سيد بني فلان، أو يا سيدي قد اقتدى بمثل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قوموا إلى سيدكم " (¬1)، وبمثل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن ابني هذا سيد " (¬2)، وبمثل قوله: " هذا سيد أهل ¬

(¬1) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح (¬2) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح

الوبر " (¬1) ونحو ذلك مما سيأتي بيانه. على أن هاهنا [4] أمرا آخر، وهو أن البدعة القبيحة إنما هي البدعة في الدين، لا في مثل ما يقع به التحاور في المخاطبة والمكاتبة، فإن ذلك ليس من البدعة التي يقول فيها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وكل بدعة ضلالة" (¬2). وبيانه أنه لو كان التخاطب بالقلم أو اللسان المخالف للتخاطب الذي كان يفعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو وأهل عصره بدعة لكان التخاطب والتكاتب بغير اللسان العربي بدعة، ولكان رسم الحروف الكتابية على غير الرسم الذي كان يفعله أهل عصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدعة، ولكان اللبس للثياب التي لم يلبسها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما هو حلال للابسه بدعة، ولكان أكل الطعام الحلال الذي لم يأكله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدعة. ثم يسري الأمر إلى الأزمنة والأمكنة والأحوال، فيقال إنه لا يكون متسننا إلا إذا فعل فعلا موافقا للفعل الذي فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الزمان والمكان والأحوال، وذلك محال، والتكليف به تكليف بما لا يطاق، ومعلوم أن أكثر أهل الملة الإسلامية، بل أكثر أهل الربع المسكون ليست ألسنتهم بعربية، وهم يتخاطبون ويتكاتبون بغير اللسان العربي، وبغير القلم العربي، فإن كانوا بذلك مبتدعين كان ذلك خرقا للإجماع. ولا فرق بين من يخالف وصفا من أوصاف ما كانت عليه مكاتباته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كالعنوان الذي فيه من فلان بن فلان إلى العنوان الذي فيه سيدي ونحوه، وبين من يخالف وصفا آخر مثل كون الألفاظ عربية، أو كونها على رسم كذا، أو مثل هذا اختصاص أهل كل بقعة من بقاع الأرض بلبسة مخصوصة، على هيئة مخصوصة، وثياب مخصوصة، ¬

(¬1) تقدم تخريجه (¬2) أخرجه أحمد (4/ 126 - 127) وأبو داود رقم (4607) والترمذي رقم (2676) وقال: حديث حسن صحيح. وابن ماجه رقم (43) و (44) والدارمي (1/ 44 - 45) وابن حبان في صحيحه رقم (5) من حديث العرباض بن سارية. وهو حديث صحيح

وكذلك ما يأكلونه من الأطعمة، ومثل هذا [5] لا يقال له بدعة قبيحة، ولا يندرج تحت مسمى الابتداع في الدين (¬1)، ولا يدخل تحت قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وكل بدعة ضلالة" (¬2). ¬

(¬1) البدعة: قد اختلف العلماء في تحديد معناها شرعا. فمنهم: من جعلها في مقابل السنة. ومنهم: من جعلها عامة تشمل كل ما أحدث بعد عصر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سواء كان محمودا أو مذموما ولعل أفضلها وأجمعها: " هي طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة، يقصد بها التقرب إلى الله تعالى ولم يقم على صحتها دليل شرعي صحيح أصلا أو وصفا ". "الاعتصام" للشاطبي. قوله بقصد التقرب إلى الله خرجت البدع الدنيوية: كتصنيف الكتب في علم النحو، وأصول الفقه ومفردات اللغة، وسائر العلوم الخادمة للشريعة كالسيارات، والأسلحة والآلات الزراعية والصناعية. فكلها وسائل مشروعة، لأنها تؤدي إلى ما هو مشروع بالنص. وهي التي تقبل التقسيم إلى الأحكام الخمسة. 1 - واجبة 2 - ومندوبة 3 - مباحة 4 - مكروهة 5 - محرمة والبدعة الدينية لا تنقسم إلى الأحكام الخمسة للأدلة الواضحة: 1 - ): قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة، حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره. ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله الله. ولا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف، كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115] أي: صدقا في الإخبار، وعدلا في الأوامر والنواهي، فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة، ولهذا قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}. انظر "عمدة التفسير" (4/ 75). (¬2) الحديث المتقدم: " كل بدعة ضلالة". قال ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" (ص274): ولا يحل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله الكلية، وهي قوله: " كل بدعة ضلالة" بسلب عمومها. وهو أن يقال: ليست كل بدعة ضلالة. فإن هذا إلى مشاقة الرسول أقرب منه إلى التأويل. قال ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم" (ص 252): قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كل بدعة ضلالة" من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء وهو أصل عظيم من أصول الدين وهو شبيه بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أحدث في أمرنا ما ليس فيه فهو رد" فكل من أحدث شيئا ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلاله والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة. وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية. . "

وبهذا يتقرر لك صحة ما ذكره كثير من أهل العلم من تخصيص البدعة القبيحة بما كان من الابتداع في الدين، فحينئذ لا يصح الاستدلال على ما نحن بصدده بمثل حديث: " كل بدعة ضلالة" (¬1)، ولا بمثل حديث: " كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد" (¬2)، لأن هذه الأمور مختصة بما كان من أمر الدين، لا بمثل التحاور والتكاتب ونحو ذلك. ولو سلمنا اندراج المكاتبة تحت الأمور الدينية اندراجا مشتملا على جميع الأوضاع التي كانت في عصر النبوة لكان ما ورد عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من إطلاق لفظ السيد على فرد من أفراد العباد مخصصا للعمومات، والخاص مقدم على العام باتفاق أهل الأصول، بل بإجماع كل من يعتد به من أهل العلم. . قوله: فهي غير شعار الإسلام. أقول: هذا اللفظ يراد به من خلع جلباب الإسلام، وخرج منه إلى غيره، فإن كان المعترض - عافاه الله - يريد هذا المعنى، وأن من لم يكتب في صدر كتابه من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان فقد خرج عن الإسلام إلى الكفر، فهذا أمر لا يقوله مسلم، ولا يستجيزه أحد من أهل هذه الملة؛ فإن التكفير إنما يكون بأمور معروفة، قد ذكرها أهل العلم، ومنها رد ما كان قطعيا من قطعيات الشرع لا مجرد تركه من دون رد ولا إنكار ¬

(¬1) تقدم تخريجه (¬2) تقدم تخريجه

ولا استحقار. وأما مجرد ترك شيء غاية أمره، ومبلغ وصفه أن يكون سنة غير واجبة، بل مندوبا، بل في صدق أحد هذين المفهومين عليه إشكال قد قدمنا تقريره، فكيف يكون من ترك هذا المسنون، أو المندوب، أو الذي لا يصلح لكونه مسنونا أو مندوبا كافرا! وكيف يجري بمثل هذا قلم، أو ينطق به فم وإن لم يرد هذا المعنى، بل أراد أن من لم يكتب [6] في عنوان كتابه من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان، بل كتب سيدي ونحوه قد فعل خصلة من خصال الجاهلية، وتلبس بها، ولم يكفر ولا فسق فهو غير صحيح، فإن هذه الخصلة - أعني قول الناس في مكاتباتهم: سيدي ونحوه - لم يكن من خصال الجاهلية، ولا كانت الجاهلية تفعلها في المكاتبة، فكيف يقال أن هذا من شعائر الجاهلية!. نعم قد كانوا يقولون لفرد من أفرادهم السيد وسيدنا حسبما يوجد في كلامهم المنثور والمنظوم، وهذه بمجردها قد قالها الشارع، واستعملها غير مرة، فهي من هذه الحيثية خصلة إسلامية محمدية، فقد سوغ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إطلاقها فجاز لنا استعمالها في المخاطبة والمكاتبة، ومن ادعى أنه يجوز استعمالها في البعض دون البعض فهو محتاج إلى الدليل. وهكذا من زعم أنه يراد بلفظ السيد وسيدي في اصطلاح المتأخرين غير ما يريده المتقدمون فهو أيضًا محتاج إلى دليل كما سيأتيك بيانه. نعم ظهر من آخر كلام المعترض - عافاه الله - في هذا الاعتراض أنه يريد الجاهلية التي حدثت من عباد القبور المعتقدين في الأموات اعتقادا يخرجون به عن الإسلام، كما كان يقع كثيرا من أهل القطر التهامي، وبعض القطر اليمني، بل ويقع في كثير من البلاد الإسلامية. ولكن إذا قد تقرر أن الشيء مباح في الشريعة المطهرة فلا يصير باستعمال بعض الطوائف الكفرية له حراما أو مكروها. . قوله: فيه إيهام باستصغار المعصية. . أقول: هذا إنما يتم بعد تسليم أن ذلك معصية كبيرة أو صغيرة، وذلك غير مسلم،

بل نحن نقول أن ذلك مباح باعتبارين: الأول: البراءة الأصلية (¬1). الثاني: استعمال الشارع له استعمالا يدل على جوازه كما سيأتي. فقول المعترض بأن ذلك فيه إيهام استصغار المعصية استدلالا بالمقدمة المتنازع فيها، وهو مصادرة على المطلوب في اصطلاح المحققين. . قوله: ولعمري أن العلامة خلط الحديثين. . أقول: حديث عبد الله بن الشخير أخرجه أبو داود في كتاب الأدب (¬2) من سننه (¬3) عن مسدد بن مسرهد، عن بشر بن المفضل، عن أبي سلمة سعيد بن زيد، عن أبي نضرة بن عبد الله بن الشخير، عن أبيه [7]، فذكره. وأخرجه النسائي في اليوم والليلة (¬4) عن حميد بن مسعدة عن بشر بن المفضل، وعن محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة، عن قتادة (¬5)، وعن حرمي بن يونس بن محمد عن أبيه، عن مهدي بن ميمون بن غيلان بن جرير، كلاهما عن مطرف عن أبيه (¬6). فحديث عبد الله الشخير روي من هذه الطرق بألفاظ فيها اختلاف (¬7) أوردنا منها في البحث الذي حررناه بعض الألفاظ، لا ¬

(¬1) تقدم توضيح معناها. (¬2) رقم (35) باب: في كراهية التمادح (¬3) رقم (4806). وهو حديث صحيح (¬4) في "عمل اليوم والليلة" رقم (248، 251) (¬5) رقم (245) (¬6) رقم (246) (¬7) منها: حديث رقم (245) ولفظه: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أنت سيد قريش فقال: " السيد الله " قال: أنت (أفضلنا) قولا، وأعظمنا فيها طولا قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ليقل أحدكم بقوله ولا يستجره الشيطان أو الشياطين". ومنها حديث رقم (246) وفيه: " فقالوا: أنت والدنا، وأنت سيدنا وأنت أفضلنا علينا فضلا، وأنت أطولنا علينا طولا. فقال: " قولوا بقولكم لا تستهوينكم الشياطين".

يقدح في ذلك اتفاق بعض حديث عبد الله بن الشخير وحديث غيره، وليس ذلك من الخلط، وليس المقصود إلا إيراد المتن الذي استدلوا به، سواء كان مرويا من طريق واحد من الصحابة أو أكثر. قوله: بل الإنكار لم يبرح من لدن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى يومنا هذا. . أقول: المطلوب من المعترض - عافاه الله - تصحيح النقل عن هؤلاء الذين أنكروا ذلك من لدن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى يومنا هذا، فهذا أقل ما يجب على الناقل. ثم ليعلم أن الذي نفينا إنما هو قول القائل لآخر في مكاتباته أو مخاطبته: يا سيدي أو يا سيد، أو نحو ذلك يوصف بالتحريم، ويوجب الإثم العظيم، فإن ظفر المعترض بمن يقول بأن ذلك محرم من علماء الإسلام فليهده إلينا، فإنه يقول إنه ما زال الإنكار من لدن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى يومنا هذا، فإن كان الذي وقع منهم إنما هو مجرد الإنكار من دون جزم منهم بالتحريم فذلك لا ينفعه ولا يضرنا، فإنما قصدنا في بحثنا إرشاد من يقول أن ذلك محرم، ومع هذا فإنا نطلب منه أن يصحح النقل عن المنكرين، سواء قالوا بالتحريم أم لا، فتلك فائدة تستفاد، فإنا لم نجد في شروح الحديث المعتبرة للمتكلمين على هذا الحديث إلا ما هو من قبيل التأويل. وقد ذكر بعض علماء القرن الثامن كلاما في هذا الحديث، وهو صحيح، ونحن نوافقه في ذلك. ولكن المطلوب من المعترض - عافاه الله - تصحيح النقل باستمرار الإنكار من عصر النبوة إلى الآن، وإن كان مستنده على استمرار هذا الإنكار هو حديث "لا تزال طائفة من الأمة على الحق ظاهرين" (¬1)، فهذا لا ينفعه ولا يضرنا، فإنا نقول: إن الطائفة التي هي على الحق ظاهرة لا تقول في شيء ورد عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه محرم عظيم، وموجب لخروج فاعله من الإسلام، فإن قال إنهم يقولون بذلك فعليه البيان ¬

(¬1) تقدم تخريجه

فإنا واقفون في موقف المنع، فمن كان ناقلا فعليه تصحيح النقل، ومن كان مدعيا فعليه الاستدلال على دعواه [8] كما هو دأب المتناظرين (¬1)، فإن يكن له على ذلك إلا مجرد الدعوى بأن الفرقة الظاهرة على الحق تنكر ذلك فهذه مصادرة على المطلوب، وهي غير مقبولة عند المحققين. . قوله: فإن السيد في موضع التخاطب والتكاتب يراد به المالك. . أقول: اعلم أن المعترض - عافاه الله - قد ادعى هاهنا على أهل الاصطلاح - أعني المتكاتبين أو المتخاطبين بلفظ سيدي أو السيد - أنهم يريدون به المالك، وهذا مجرد دعوى، فإن المتكاتبين بذلك، والمتخاطبين به لا يريدون إلا المعنى اللغوي، وهو من ثبتت له الرئاسة حقيقة أو ادعاء على فرد أو أفراد. أما الحقيقة فظاهر، وذلك بأن يكون رئيسا على فرد أو أفراد. وأما الادعاء فبأن لا تكون له رئاسة لكنه يدعيها له من كاتبه أو خاطبه تأدبا. ومن خاطب أو كاتب بذلك مقتديا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث يقول لقيس بن عاصم: " هذا سيد أهل الوبر" (¬2)، ويقول في امرئ القيس: " إنه سيد الشعراء "، ويقول في سعد بن معاذ: " إنه سيد الأنصار "، ونحو ذلك، فما عليه من حرج، وماذا يلزمه من إثم. ولا نعرف أحدا يكاتب أو يخاطب بلفظ السيد مريدا به المالك، ولا قد سمعنا هذا من أحد من أهل العلم، ولا من رجل من أهل الاصطلاح، فإن كان المعترض يقول هذا بدليل على أنهم يريدون بالسيد وسيدي المالك فما هو؟ وإن كان ينقله عن أحد من أهل العلم أو الاصطلاح فمن هو؟ وإن كان يقول من جهة نفسه فما بمثل هذا يؤكل الكتف. ولا يحل لرجل مسلم أن يقدم على تأويل كلام إلا بسبب يتعين معه التأويل، وإلا كان ذلك مجازفة، وتعسفا، وخروجا عن دائرة الإنصاف. فيا لله العجب حيث يدعي ¬

(¬1) تقدم ذكرها (¬2) تقدم تخريجه

من هو من أهل العلم، وفي عداد حملته أن لفظا من لغة العرب قرره الشرع يحرم استعماله ويوجب ضلال قائله لمجرد دعوى أن المستعمل يريد به معنى هو في الحقيقة لم يرده، ولا خطر بباله! فعلى المعترض - عافاه الله - أن يرجع إلى الإنصاف، فهو أولى من التمادي في الباطل، فإنه ما تم له دفع ما ذكرناه من الأدلة إلا بزعمه أن المستعملين [9] للفظ السيد يريدون منه في المكاتبة والمخاطبة معنى المالك، ولولا هذا الزعم الفاسد لم يتمكن من دفع شيء من الأدلة. وها نحن نقول له: هؤلاء الذين يتكاتبون ويتخاطبون بهذا اللفظ هم على ظهر البسيطة، فعليك أن تسأل من كان منهم يفهم ما يقول وما يقال له: هل يريدون بلفظ السيد وسيدي هو المالك كما قلته أنت أولا يريدون ذلك؟ فإن أبيت فانظر إلى كتبهم التي يتكاتبون بها في هذه الديار، فإنك تجدهم يجمعون بين لفظ سيدي ومالكي في غالبها، وهذا من أعظم الأدلة، على أنهم لا يريدون بلفظ السيد معنى المالك. وعند هذا تعرف أنه لم يندفع بما قاله شيء من الأدلة التي ذكرناها. . . قوله: فهذه تسع حجج مخصصة للعموم المستفاد مما ذكره. . . أقول: أما حديث عبد الله بن الشخير، وما ورد في معناه فقد عرفت في البحث الذي حررناه أنهم أرادوا بلفظ السيد معنى لا يجوز إطلاقه على البشر، وذلك هو سبب النهي (¬1). وأما كونه من أمور الجاهلية، وكونه بدعة فقد عرفت اندفاعهما مما أسلفنا في هذا الجواب. وأما الاستلال بقوله تعالى: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (¬2) فلا نسلم أن هذا من الغلو في الدين، ولا يندرج تحت معنى الآية، على أنه لو سلمنا تنزلا اندراجه لم يصح استدلال المعترض - عافاه الله - بهذه الآية، لأنها أعم مطلقا من الأدلة الدالة على جواز إطلاق ¬

(¬1) تقدم ذكره (¬2) [النساء: 171، المائدة: 77]

السيد وسيدي على البشر، ولا يسوغ عند علماء المعقول والمنقول تقديم العام على الخاص، بل الخاص مقدم على العام بالاتفاق. فنقول: هذا اللفظ أعني: لفظ السيد ونحوه قد استعمله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان مخصصا لما هو أعم منه مطلقا بلا شك ولا شبهة. والمعترض يسلم هذا العموم والخصوص، فإنه يزعم أن الآية المذكورة تشمل هذا اللفظ وغيره، فكيف جعلها مقدمة على ما هو أخص منها مطلقا! فإن هذه لا يطابق عمل أهل الأصول، ولا صنيع علماء المعقول، ولعله لا يخفى عليه مثل هذا، ومثل هذا قوله: "هلك المتنطعون" (¬1). . قوله: وأما إذا قال: من فلان إلى السيد الشريف، أو يا سيد بني فلان، أو يا سيد ائت من غير إضافة فلا بأس به. أقول: قد قرب لنا - المعترض عافاه الله - المسافة، وقلل الاختلاف، وأشار إلى الوفاق. وبيانه أنه لم يبق منه خلاف إلا في إطلاق السيد مضافًا [10] نحو سيدي أو سيدنا، ولم يمنع من كل مضاف، بل خصص ذلك بالمضاف إلى الضمير فقط، ولهذا جوز سيد بني فلان لكونه مضافًا إلى غير الضمير، وحينئذ فالمنع عنده إنما هو من لفظ سيد إذا كان مضافًا إلى الضمير، معللا ذلك بأنه يراد به المالك كما سلف. وقد عرفناك أن ذلك غلط منه على من يتكاتب أو يتخاطب بذلك، ومعلوم أنه إذا أنصف عرف صحة ما ذكرناه من أنهم لا يريدون ذلك المعنى، وإذا ذهب هذا الوهم جاز عنده وعندنا إطلاق لفظ سيدي وسيدنا، لأنه لا يراد عند التكاتب والتخاطب إلا إثبات الرئاسة حقيقة أو ادعاء، ولم يبق حينئذ بيننا وبينه خلاف إن رجع إلى الإنصاف. ثم اعلم أنه هاهنا قد جوز إطلاق السيد إذا قامت قرينة على أنه يراد به البشر، كما قال بأنه يجوز أن يقال إلى السيد الشريف، وهذا فيه موافقة لنا أيضا؛ فإنا ذكرنا في تأويل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " السيد الله" أنه عرف من مقصدهم أن السيد عندهم هو الله، ¬

(¬1) تقدم تخريجه. وهو حديث صحيح

وذكرنا أنه يجوز إطلاقه على البشر إذا لم يوجد ذلك المقصد. وهكذا المعترض قد جوزه إذا قامت قرينة تدل على أنه لم يرد الرب - سبحانه - بلفظ السيد. ولهذا جوز السيد الشريف، لأن الشريف قرينة دالة على أنه لم يرد بالسيد الله - سبحانه -، فوافقنا من هذه الحيثية، واعترف بصحة التأويل الذي ذكرناه في ذلك البحث. والحمد لله. ثم نقول: ليت شعري أي فرق بين قول القائل يا سيد بني فلان، ويا سيدنا، مع كون الخطاب مع فرد من أفراد بني آدم؟ فإن في قوله سيد بني فلان إثبات الرئاسة له على طائفة هم بنو فلان، وفي قول القائل: سيدنا إثبات الرئاسة له على طائفة هم المتكلمون بهذا اللفظ، المخاطبون به، أو المكاتبون لغيرهم. وفي قول القائل: يا سيدي إثبات الرئاسة له على فرد هو المتكلم. ولا شك ولا ريب أن إثبات الرئاسة لرجل على بطن أو قبيلة أكثر مدحا، وأوسع تعظيما من إثبات الرئاسة له على المتكلم الواحد، أو الاثنين، أو الجماعة. فيا عجبا من تجويز ما هو أمدح وأوسع، ومنع ما هو دون ذلك! فإن كان في الإضافة إلى خصوص الضمير مزيد معنى يوجب المنع فيا ليت شعري ما هو؟! إن قال: هو احتمال كون المتكلم أراد [11] بقوله: يا سيدي أو سيدنا معنى الربوبية فكان قال يا ربي، أو يا ربنا، فهذا الاحتمال كائن في قوله السيد أو سيد بني فلان، فإنه يحتمل أنه أراد الرب أو رب بني فلان. فإن قال المعترض أنه لم يبق هذا الاحتمال في لفظ السيد أو سيد بني فلان، فنقول له: ما وجه ارتفاع هذا الاحتمال؟ إن قال هو كون الخطاب مع فرد أو أفراد من بني آدم فهكذا نقول: إن الخطاب في قول القائل سيدنا أو سيدي مع فرد أو أفراد من بني آدم، وإن قال إن القرينة هي كونه قد أضيف إلى ضمير فرد أو أفراد من بني آدم، فنقول: وكذلك سيدنا وسيدي قد أضيف إلى ضمير فرد أو أفراد من بني آدم، وإن قال إن لفظ سيد بني فلان مسوغ غير ما ذكرناه فما هو؟ ومع هذا فقد تكلم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمضاف إلى الضمير، فقال للأنصار: " قوموا إلى ................

سيدكم " (¬1) وقال للأوس: " انظروا ما يقول سيدكم" (¬2) يعني سعد بن عبادة، وهو في الصحيح. فهل ثم فرق بين ضمير وضمير؟ يا لله العجب!. . وبالجملة. . فالمعترض - عافاه الله - إن كان يرجع إلى صواب الصواب، ويعترف بالحق، ويذعن للإنصاف فهو لا يخفى عليه بعد هذا أن التشديد في هذه المسألة لم يكن عن بصيرة ثاقبة، ولا رأي صائب، ولا أعني بهذا قوما مخصوصين كما وهم المعترض، فإنما عنيت عالما من علماء اليمن، كاتبني مكاتبة ظهر منها أنه يتشدد في ذلك، فكتبت ذلك البحث جوابا عليه، وعلى من يذهب إلى ما يقوله من التشدد، فليعلم هذا المطلع عليه ويتيقنه، ويعرف أنه لا إرب لي إلا الإرشاد إلى الحق، ودعاء الناس إلى العمل بالكتاب والسنة من غير تعصب لمذهب معين، ولا مجادلة عن طائفة مخصوصة. قوله: مع قيام القرينة بأنهم أرادوا المالك الذي كانوا يقصدون ذلك عند الإطلاق لآلهتهم. أقول: قد تقرر بهذا أنه لا منع عند المعترض إلا إذا أراد من أطلق السيد على المالك فقط، وحينئذ فلا فرق بين السيد، وسيد بني فلان، وسيدنا، وسيدي، فإنها ممنوعة إن أراد المتكلم بها المالك، وجائزة إن لم يرد بها المالك. ونحن نقول أن أهل العصور المتأخرة لا يريدون بشيء من تلك الألفاظ المالك كما قدمنا تحقيقه فجاز لهم إطلاق ذلك في المخاطبة والمكاتبة، وحصل الوفاق وارتفع الخلاف. وهذا بناء على صحة ما ذكره من أن مراد أولئك القوم الذين وفدوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقولهم: أنت سيدنا معنى: أنت مالكنا ولكن الظاهر أنهم ما أرادوا [12] إلا معنى: أنت ربنا كما أوضحنا ذلك سابقا. وقد اعترف المعترض بأنهم كانوا يقصدون بلفظ السيد ما يقصدونه عند إطلاقه على آلهتم. ومعلوم أنهم لا يقصدون عند خطاب الآلهة بالسيد وسيدنا إلا الرب، فإنهما أرباب عندهم، كما صرح بذلك القرآن. فالقرينة التي جعلها دالة على أنهم أرادوا المالك ¬

(¬1) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح (¬2) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح

هي دالة على أنهم أرادوا الرب. فهي على المعترض لا له. قوله: بل (اللام) في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للحصة المشخصة في الخارج التي هي الأصل في وضعها. أقول: قد اختلف علماء العربية (¬1) والبيان والأصول (¬2) في المعنى الحقيقي للام التعريف فذهب جمع إلى أن المعنى الحقيقي هو العهد. وإلي هذا ذهب جماعة من محققيهم. وذهب آخرون إلي أن المعنى الحقيقي هو الحقيقية من حيث هي هي. وذهب قوم إلى المعنى الحقيقي هو الجنس. وقد استدلت كل طائفة على قولها بأدلة. والحق عندي أن الأصل هو الحقيقة من حيث هي هي. من غير نظر إلى الأفراد. ثم قد يقصد باللام حصة مشخصة توجد الحقيقة في ضمنها. وقد يقصد بها حصة غير معينة توجد الحقيقة في ضمنها أيضا. وقد يقصد بها كل فرد فرد. والحقيقة موجودة في ضمنها أيضا. فكانت (لام) الحقيقة هي الأصل من هذه الحيثية. وهذه هو أولى مما ذهب إليه صدر الشريعة. وجماعة من أهل الأصول والبيان. ومن أهل العربية (الرضي) (¬3) وغيره. . قوله: وهي ملكة الاستنباط. . أقول: الملكة التي يتمكن بها من عرف علوم الاجتهاد من استنباط المسائل الفرعية عن أدلتها التفصيلية هي الأمر الحاصل لمن جمع تلك العلوم. فلا يصح جعلها معدودة من علوم الاجتهاد. لأنها صادرة عنها. إلا إنها جزء منها. هذا إن أراد بالملكة ما أراده علماء الظن من كونها تحصل لمن جمع تلك العلوم مع سلامة الفطرة. وإن أراد أمرا خلقيا فلا أعرف قائلا من أهل الأصول جعل أمرا من الأمور الخلقية الجبلية جزءا من أجزاء العلوم الاجتهادية. ولا أظن محققا يقول بمثل هذا؛ فإن ذلك مادة من الله - سبحانه- ¬

(¬1) انظر "شرح الكافية" (1/ 331 - 332). (¬2) انظر "اللمع" (ص15). "البحر المحيط" (3 - 87). (¬3) انظر: "شرح الكافية" (1 - 87).

يجعلها فيمن يشاء من عباده. وليست مما يكسبه العبد من العلوم. ولسنا بصدد تعداد ما يخلقه الله في عباده من الاستعداد والفهم. بل بصدد ما يصير به العالم مجتهدا من العلوم المدونة فما معنى قول المعترض أنه ذهل العلامة [13] عن خصلة أخرى هي أحرى؟ ثم إن ما ذكرناه من قولنا: ولهذا كانت هذه العلوم هي المقدمة في العلوم الاجتهادية تصريح واضح بأن تلك العلوم التي ذكرناها هي المقدمة في علوم الاجتهاد (¬1). لا أنها جميع علوم الاجتهاد. ولو كان في كلامنا يفيد أنها جميع علوم الاجتهاد لكان الاستدراك بعلمي الكتاب والسنة واردا ورودا صحيحا. لا ما ليس من العلم في شيء. بل هو أمر خلقي يضعه الله فيمن يشاء من عباده. ويقذفه في قلبه. فما معنى هذا الاستدراك الذي جاء به المعترض في هذا الموضوع؟. قوله: لا بطريق المغالطة التي ارتكبها. بل بوجه الإنصاف. أقول: قد فوضت المعترض - عافاه الله - بأن يعرض هذا البحث على من يوثق بعلمه وتحقيقه. ممن بقي من أهل العلم في تلك المدينة. لينظروا فيما حررته أولا. وفيما حرره من الاعتراض. وفيما حررته في هذه الورقات. حتى يعلموه من هو الذي ارتكب في بحثه الغلاط والغلط. وجاء في تأويله للأدلة بأعظم الشطط. فالمسلم أخو المسلم. والمؤمن مرآه أخيه. ونحن أعوان على الحق. . قوله: هذا موضوع اقشعرار جلود العارفين. فإنه جرأة عظيمة. أقول: هذا ليس موضوع الاقشعرار. فإنه لم ينهدم ركن من أركان الإسلام، ولا هتكت حرمة من محارمه. ولا تعدي حد من حدود الله. بل قال قائل لمن يخاطبه أو يكاتبه: يا سيدي وسيدنا. وهذا لفظ عربي ورد الإذن به عن الشارع، وجرى على لسانه بقوله: "سيد أهل الوبر". "سيد الشعراء". "سيد الأوس". "سيد الخزرج". "إن ابني هذا سيد". "أنا سيد ولد آدم". وقد عرفناك ما في الفرق بين ¬

(¬1) تقدم ذكر علوم الاجتهاد.

غير المضاف من ألفاظ السيد. وبين المضاف. وبين ما كان مضافًا إلى المضمر. وما كان مضافًا إلى المظهر. وأوضحنا لك أن الاغترار بذلك والاحتجاج به والوقوف عنده من ضيق الفطن (¬1). . وإني أظن أن المعترض - ثبته الله - بعد اطلاعه على هذا الجواب يذهب الله عنه تلك القشعريرة. ويفرج روعه. ويتيقن أن ما حصل عنده [14] من استعظام هذا الأمر، وما خالجه من الخوف والوجل لم يكن عن سبب يوجب ذلك. ولا لمقتض يقتضيه. بل لمجرد تقليد بحت. واعتقاد لم يكن عن بصيرة - فتح الله علينا وعليه أبواب معارفه. وألهمنا وإياه رشدنا، وجعلنا من فريق الحق وجماعة الرشد، وكشف عن قلوبنا عمى التقليد وعشى الريب، وعمش الشك. وغشاوة التعصب، وجعلنا من العاملين بكتابه وسنة نبيه، الواقفين على حدودهما، المؤثرين لهما على تقليد الرجال وزايفات الأقوال -. . . والحمد لله أولا وآخرا. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية - إن شاء الله -. . حرره مؤلفه محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما. . . ¬

(¬1) تقدم ذكره. انظر"فتح الباري" (5/ 178 - 179).

جواب سؤالات وصلت من كوكبان

(187) (41/ 4) جواب سؤالات وصلت من كوكبان تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: جواب سؤالات وصلت من كوكبان. 2 - موضوع الرسالة: آداب. 3 - أول الأسئلة: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله المطهرين وبعد: فإن قصير الباع يسيء الاطلاع المتطفل. آخر الأسئلة: التوهمات المخلة وشرعنا بحمد الله لا ضيق فيه. أمتع الله بحياتك المسلمين آمين. 4 - أول الأجوبة: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الطاهرين. وصحبه الأكرمين. وبعد: فإنه ورد هذا السؤال. . . 5 - آخر الأجوبة: والحمد لله أولا وآخرا. وظاهرا وباطنا والصلاة والسلام على خير الأنام وآله الكرام. حرره المجيب غفر الله له في شعبان سنة 1230. 6 - نوع الخط: خط نسخي رديء للأسئلة. وخط نسخي جيد للأجوبة. 7 - عدد الصفحات: 3 صفحات للأسئلة و (7) صفحات للأجوبة. 8 - عدد الأسطر في الصفحة: 23 سطرا ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها 4 أسطر. 9 - عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة. 10 - الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله المطهرين. وبعد: فإن قصير الباع يسيء الاطلاع المتطفل على مشاركة أهل العلم في الأخذ عنهم، لا أنه متجهم لم يزل في نفسه مسألة من منحه الله من علم الشريعة ما يهدي به الضال. ويزيل عنه بتحقيقه عنهم الإشكال. فصيرت في خاطري علماء العصر الذين يحويهم الحصر؛ إذ هم النجوم النيرة في داجي الظلام وملاح سفن النجاة عند اضطراب أمواج البدع في الأنام. منهم العالم الرباني محمد بن علي الشوكاني الصنعاني فهو في عصره الشهير. فاستجديته غرفة من ثم بقلمة النهير. وإن كان هو إلي حري بالإهمال [خلا إن] (¬1) لطلب [نفعه] (¬2) فؤاد سقيم من الداء العضال. أول مسألة عن الأعراف الجارية في إقليم اليمن وتهامة مشى عليها الخلف بعد السلف أحسب ذلك من قرون متعددة. فمن الأعراف ما تفعله العامة عند الأعراس، والختان، وقدوم الآيب من سفر الحج، واجتماع أهل الميت في مسجد أو مسكن لمواجهة من يصل إليهم للعزاء. فالعرف عند العرس أن يدعو صاحب العرس أقاربه، ومن أحب من أهل بلده، ويقري المدعوين وهم يدفعون إليه من الغنم والشمع كل على قدر يساره، ويحضر في هذه المواقف العلماء ومن دونهم، ويقع في ذلك الموقف إنشاد القصائد من أشعار العرب والمولدين والممادح والغزليات، وغير ذلك بأصوات محسنة لسماع الشعر من غير شائبة مذمومة في تلك المواقف. بل قد يقع في ذلك الموقف مباحث علمية، ومراجعات في معرفة معاني ألفاظ القصائد، وعند الختان يقع مثل هذا، ولكل جهة عرف يعملون عليه، فجهتنا المخلاف السليماني (¬3) يميزون الختان عن أعراف الأعراس باجتماع أهل الخيل ¬

(¬1) غير واضحة في المخطوط. (¬2) غير واضحة في المخطوط. (¬3) المخلاف في التاريخ مصطلح كان يطلق على وحدة إدارية، قد تكون مقاطعة أو إقليما أو محافظة بمصطلح اليوم وقد يتألف المخلاف من عدد من المقاطعات إذ كان واسعا. وكان للوحدة الإدارية أو المخلاف مركز يضم الدواوين الرئيسية التي تنظم أمور الإقليم. وتشير المصادر العربية إلى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل اليمن ثلاثة مخاليف: مخلاف الجند ومركزه مدينة الجند، ومخلاف صنعاء ومركزه مدينة صنعاء، ومخلاف حضرموت ومركزه مدينة حضرموت. وقد ذكر ياقوت الحموي وغيره أن أكثر ما يقع في كلام أهل اليمن - مخلاف - والمخلاف السليماني: هو المنطقة الممتدة من (حلي ابن يعقوب) شمال تهامة اليمن إلى (الشرجة) جنوبا. نسب إلى سليمان بن طرف الحكمي الذي كان عاملا (لبني زياد) عليها ثم استقل بحكم هذا المخلاف بتدهور الإمارة الزيادية أواخر حكم أبي الجيش إسحاق بن إبراهيم (ت 371هـ - 981م) واتخذ من (عثر) عاصمة لحكمه الذي استمر عشرين عاما وحد فيه تلك المنطقة كمخلاف نسب فيما بعد إليه. "الموسوعة اليمنية" (2 - 846).

يسرجون عليها ويرتقون في ميادين معدة لذلك. والرماة يرمون بالبندق. هكذا مدة أسبوع أو أقل. ويحصل الختان بعد هذه المدة. ثم من عرف جهتنا أن الجعل الذي يدفعه المدعو لوليمة العرس أو الختان يسمح به صاحب الدعوة للمزين الذي يتولى الخدمة ويعد ويروح للمدعو للضيافة، وأهل القادم من سفر الحج يتلقونه في أطراف البلد، ويحصل من الاجتماع والضيافة والإنشاد ما يقع في الأعراس والختان. وأما أهل الميت فإنهم يجتمعون في مسجد أو مسكن من بيوتهم لمواجهة من يصل إليهم ويتلون من كتاب الله ما قدر لهم، ويختمون التلاوة لموعظة فيها ذكر البرزخ والاستغفار والدعاء للميت وسائر المؤمنين، يفعلون هذا ثلاث أيام، هكذا جرت الأعراف والعمل بها من وجود العلماء ذوي الورع الشحيح، والنسك الصحيح، ولم يقع منهم إنكار مع التمكن من ذلك لو لم يكن إلا على أهل بيته وأقاربه [1أ]. ولما قامت الدعوة النجدية في عصرنا القريب، واقترب يد سلطانها على التهائم والحجاز حصل الإنكار من أمير كل بلد على هجر تلك الأعراف، وبالغ ولاحق أشد ملاحقة، وعاقب فيها عقوبة تلحق بعقوبة مرتكب معظم الذنب، وجعلوا هذه الأعراف

من بدع الضلالة، وحصل الغلو في أمور الحق فيها لله أنه لم يجر في تركها، وشرعنا - ولله الحمد - محفوظ، وما زال الخاطر مشغولا من طريق التأول لغالب الأعصر المتقادمة في عدم النكير منهم، بل كونهم ممن يباشر الدخول في هذه الأعراف، وهي من البدع المحذر منها المنهي عنها في هذه الدعوة بأقرب ما باذلته لهم مع قصوري وجهلي بحقائق الشريعة أنه لم يثبت عندهم بدعية هذه الأعراف، وإن هي لم تؤثر عن أهل القرون الممدوحة بالخيرية على لسان خير البرية، فعلها أقل أن تكون من الفعل المباح لا يعاقب فاعله، ولا يثاب تاركه، وأن البدعة المحذر منها، المنهي عنها هو أن يقع من المبتدع زيادة في الدين، أو نقص منه كنفي ما ذكره الله ورسوله، أو إثبات ما لم يذكره الله ورسوله؛ لأن الشرع قد ورد بحصر الواجبات والمحرمات والبدعة التي هي الضلالة المخالفة لما جاء به الكتاب والسنة في العقائد، وتفاصيل الفرائض، وسائر أركان الإسلام فالزيادة في الدين كتفاسير أهل الغلو، وبدع المشبهة، والنقص كرد النص الظاهر. فهذه البدع ذات الخطر العظيم؛ لأن معرفة البدعة غامض، فما لم يرد في بدعيته الموبقة لفظ مأثور ينبغي التوقف عن الجزم ببدعيته المحذر منها المنهي عنها، وقد يكون من البدع الصلوات التي لم يرد فيها أثر صحيح، ويجعلونها سنة كصلاة النصف من شعبان (¬1) ¬

(¬1) قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله في "لطائف المعارف" (ص144): كان التابعون من أهل الشام كخالد بن معدان ومكحول ولقمان بن عامر وغيرهم يعظمونها ويجتهدون فيها في العبادة، وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها. وقيل: أنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان اختلف الناس في ذلك، فمنهم من قبله منهم ووافقهم على تعظيمها، منهم طائفة من عباد أهل البصرة وغيرهم، وأنكر ذلك أكثر علماء الحجاز، ومنهم عطاء وابن أبي مليكة، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة وهو قول أصحاب مالك وغيرهم وقال: ذلك كله بدعة. واختلف علماء أهل الشام في صفة إحيائها على قولين: 1 - ): أنه يستحب إحياؤها جماعة في المساجد، كان خالد بن معدان ولقمان بن عامر وغيرهما يلبسون فيها أحسن الثياب ويتبخرون ويكتحلون ويقومون في المسجد ليلتهم تلك، ووافقهم إسحاق بن راهويه على ذلك، وقال في قيامها في المساجد جماعة: "ليس ذلك ببدعة" نقله عنه حرب الكرماني في "مسائلة". 2 - ): أنه يكره الاجتماع فيها في المساجد للصلاة والقصص والدعاء ولا يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه، وهذا قول الأوزاعي - إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم - وهذا هو الأقرب إن شاء الله تعالى". وهناك أحاديث ولكنها موضوعة في إحياء ليلة النصف من شعبان. قال الحافظ أبو الخطاب ابن دحية في كتاب " ما جاء في شهر شعبان ". قال أهل التعديل والتجريح: ليس في حديث ليلة النصف من شعبان حديث يصح. انظر "الباعث على إنكار البدع والحوادث " (ص52). وقد ذهب المحدث الألباني إلى تصحيح الحديث الوارد في فضل ليلة النصف من شعبان بمجموع طرقه، ولفظه: " يطلع الله تبارك وتعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه، إلا لمشرك أو مشاحن". انظر: "الصحيحة" رقم (1144).

سموها العامة في أرض الشام ليلة الوقيد؛ لأنهم يكثرون فيها وقيد النيران، ويتوجهون في صلاتهم إليها، فأشبهوا عباد النار، وهي حدثت في زمن البرامكة، وأما الأعراف التي ذكرنا فأحسب لها أصل في الشريعة. أما الأعراس فورد في الأثر ندبية الإشاعة بطبل أو دف، والحكمة في ذلك المعاكسة للنكاح المحرم؛ لأن صاحبه يطلبه في الخفاء، فوقعت الإشاعة للحلال عكسه، وإنشاد القصائد من شعر العرب والمولدين، فقد سمع - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الشعر من كعب (¬1)، والنابغة، والعباس، وأجاز علي ذلك، وكان عمر يروي الشعر ويسترويه، ¬

(¬1) انظر "فتح الباري" (1/ 548). قال كعب بن مالك ردا على ضرار بن الخطاب بن مرداس يوم الخندق: وكان لنا النبي وزير صدق ... به نعلو البرية أجمعينا ثم قال: بباب الخندقين كأن أسدا ... شوابكهن يحمين القرينا فوارسنا إذا بكروا وراحوا ... على الأعداء شوسا معلمينا لننصر أحمدا والله حتى ... نكون عباد صدق مخلصينا ويعلم أهل مكة حين ساروا ... وأحزاب أتوا متحزبينا بأن الله ليس له شريك ... وأن الله مولى المؤمنينا "السيرة النبوية" لابن هشام (3/ 354 - 355).

واستنشد متمم بن نويرة مراثيه في أخيه (¬1)، ويقربه لأجل ذلك، وهو فضيلة لا رذيلة؛ لأن أول من قاله أبونا آدم يوم رثى ولده قابيل (¬2) ويبالغ عليه أشراف ولده وملوكهم من ¬

(¬1) أن عمر بن الخطاب استنشد متمم بن نويرة قوله في أخيه فأنشده: لعمري وما دهري بتأبين مالك ... ولا جزع مما أصاب فأوجعا لقد كفن المنهال تحت ثيابه ... فتى غير مبطان العشيات أروعا حتى بلغ إلى قوله: وكنا كندماني جديمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا فقال عمر: هذا والله التأبين. . . . "الشعر والشعراء" لابن قتيبة (1/ 345)، "الإصابة" (5/ 566 - 567) (¬2) أخرج ابن جرير الطبري في تفسيره (4\ج6/ 190) وابن كثير في تفسيره (3/ 91) قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لما قتل ابن آدم أخاه بكى آدم فقال: تغيرت البلاد ومن عليها ... فلون الأرض مغبر قبيح تغيرت البلاد ومن عليها ... وقل بشاشة الوجه المليح فأجيب آدم عليه السلام: أبا هابيل قد قتلا جميعا ... وصار الحي كالميت الذبيح وجاء بشرة قد كان منها ... على خوف فجاء بها يصيح *وقد طعن في نسبة هذه الأشعار إلى نبي الله آدم الإمام الذهبي في ميزان الاعتدال، وقال الآفة فيه من المحزمي وشيخه، وما الشعر الذي ذكروه إلا منحول مختلق، والأنبياء لا يقولون الشعر. وقال الزمخشري: " روي أن آدم مكث بعد قتل ابنه مائة سنة لا يضحك وأنه رثاه بشعر، وهو كذب بحت، وما الشعر إلا منحول ملحون، وقد صح أن الأنبياء معصومون من الشعر. قال تعالى (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ). انظر: "الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير" (ص183).

بني عدنان، ويعرب بن قحطان إلى الخلفاء الأربعة، وأكثر الصحابة. ولا يعني من ذكرنا بما فيه رد له، ومنعه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن الشعر ليس هو لرد البتة، بل لئلا يتهم إلى أن ما جاء به من القرآن شعر، كما منع من الكتابة، وهي فضلة للعلة التي منع عن الشعر [فعلها] (¬1) قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} (¬2) فإن سلب الشعر والكتابة عن منصب النبوة لنقصهما بل لفضيلتهما، فإنشاؤه في مجامع المسرة والأفراح ما تهش له الأفئدة الصحاح، وليس في المجامع شائبة مذمومة [1ب]، وربما تدور مراجعة علمية عند سماع الإنشاد، والبحث عن معاني بعض ألفاظ الشعر. وأما ركوب الخيل، والسباق عليها، واللهو بها فقد وردت الآثار بذلك (¬3) كما عرفتم ما جاء فيها (الخيل الفر أسيرات أبيكم إسماعيل فاغتنموها واركبوها، فإنها ميامن (¬4). ¬

(¬1) غير واضحة في المخطوط، ولعله ما أثبتناه. (¬2) [العنكبوت: 48]. (¬3) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2849) ومسلم رقم (1871) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله " الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة". وأخرج البخاري في صحيحه رقم (2870) ومسلم رقم (1870) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "سابق رسول الله بين الخيل التي قد ضمرت، فأرسلها من الحفياء كان أمدها ثنية الوداع، فقلت لموسى - بن عقبة بن نافع - فكم كان بين ذلك؟ قال: ستة أميال أو سبعة، وسابق بين الخيل التي لم تضمر، فأرسلها من ثنية الوداع، وكان أمدها مسجد بني زريق، قلت: فكم بين ذلك؟ قال: ميل أو نحوه، وكان ابن عمر ممن سابق فيها". قال القرطبي: " لا خلاف في جواز المسابقة على الخيل وغيرها من الدواب وعلى الأقدام، وكذا الترامي بالسهام، واستعمال الأسلحة لما في ذلك من التدريب على الحرب. . . ". "فتح الباري" (6/ 71 - 72). (¬4) غير واضحة في المخطوط، ولعله ما أثبتناه.

روى الطبراني (¬1) من حديث صالح بن كيسان مرفوعًا (ستفتح لكم الأرض وتملكونها فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه). وأما تلقي الآيب من سفر الحج أو غيره وقدومه إلى أهله فقد كان أهل المدينة يتلقون معلم الشريعة إذا أقبل من بعض مغازيه ويهنونه، لا سيما تلقى الحاج، فإنه زيادة في إكرام المحل الذي أقبل منه، هو من التعظيم، وطلب الدعاء منه، وغبار النسك عليه، وأما اجتماع أهل الميت في بيت من بيوت الله، أو مسكن لهم فسنية التعزية لأهل الميت وردت بها السنة من [. . . . . . . . . .] (¬2) إنما الاجتماع هو ما أحدثه المتأخرون، ولم يكن في الاجتماع غير تلاوة القرآن، والموعظة عند ختم الدرس، والدعاء للميت وعامة المؤمنين، ورأيت نقلا عن ابن الجوزي وهو من أئمة الحديث قال: أصبت بولدي فخرجت إلى المسجد إكراما لمن قصدني من الناس والصدور، فجعل قارئ يقرأ: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} (¬3) فبكى الناس فقلت: يا هذا إن كان قصدك تهييج الأحزان فهذه نياحة بالقرآن، وهذه عن ابن الجوزي في عصره أحسبه في السادس أو قبل، ولو عرف أن الاجتماع للعزاء من البدع المضللة الدافعة لمرتكبها إلى النار لم يقع منه هذا الخروج إلى المسجد، ثم يرويه لمن بعده، والتطويل في هذا البحث محبة لتأول الماضين ¬

(¬1) في الكبير" (17/ 330 رقم 913). * أخرج مسلم في صحيحه رقم (168/ 1918) والترمذي رقم (3083) وأبو يعلى رقم (1742) وسعيد بن منصور في "السنن" (2449) وأبو عوانة (5/ 102) وابن حبان رقم (4697) والبيهقي (10/ 13) والطبراني في "الكبير" (ج 17/ 913) من طرق بإسناد حسن عن عقبة بن عامر أنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال "ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله، فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه". وهو حديث صحيح. (¬2) غير واضحة في المخطوط. (¬3) [يوسف: 78].

من أهل العلم لئلا يقع الاعتقاد فيهم، فإنهم فارقوا الدنيا على بدعة مهلكة. وأما الموجود في عصرنا فهو يستعمل - إن شاء الله - بما يحصل من الإرشاد على هذه المسائل، فمن وجهت إليه البحث فالمطلوب منك أيها العالم النحرير الإمداد بجواب يشفي العلة، ويزيل التوهمات المخلة، وشرعنا - بحمد الله - لا ضيق فيه - أمتع الله بحياتك المسلمين - آمين. [2أ].

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الطاهرين، وصحبه الأكرمين. وبعد: فإنه ورد هذا السؤال من ذلك العلامة المفضال، بقية الأعلام أحمد بن الحسن البهكلي (¬1) - كثر الله فوائده، وغفر لي وله وللمؤمنين من عباده -. وأقول - مستعينا بالله عز وجل، ومتكلا عليه -: إن حديث: " الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات" (¬2) و" المؤمنون وقافون عند الشبهات " وفي لفظ: " فمن تركها - أعني الشبهات - فقد استبرأ لعرضه ودينه " وفي لفظ: " ألا وإن حمى الله محارمه، فمن حام حول الحمى يوشك أن يواقعه (¬3). وهذا الحديث بجميع ألفاظه متفق على صحته، ثابت في دواوين الإسلام ثبوتا لا ينكره عارف بالسنة المطهرة، وكذا حديث: " كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد " (¬4) فإنه حديث متفق على صحته. وبهذين الحديثين، وما ورد في معناهما كالوعيد لمن تعدى حدود الله كما ثبت ذلك في الكتاب العزيز، وفي السنة المطهرة، والذم لمن غلا في الدين، كما ثبت أيضًا في السنة وكذا حديث: " تركتم على الواضحة، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا جاحد" وهو صحيح (¬5)، وإن لم يكن في الصحيحين. ¬

(¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (52) ومسلم رقم (1599) وأبو داود رقم (3329) و (3330) والترمذي رقم (1205) والنسائي (7/ 241) وابن ماجه رقم (3984) من حديث النعمان بن بشير. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (52) ومسلم رقم (1599) وأبو داود رقم (3329) و (3330) والترمذي رقم (1205) والنسائي (7/ 241) وابن ماجه رقم (3984) من حديث النعمان بن بشير. (¬4) تقدم مرارا وهو حديث صحيح. (¬5) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح [حديث العرباض بن سارية].

وكذلك ما أفاد هذا المعنى، وشهد لمضمونه كقوله - عز وجل -: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (¬1)، {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬2)، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (¬3) وما ورد هذا المورد ثم آيات كثيرة، وأحاديث شهيرة، والكل يدل على أنه يجب على كل فرد من أفراد العباد أن يمشي على الطريقة التي مشى عليها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وصحبه - رضي الله عنهم -، وخير الهدي هدي محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة. كما ثبت هذا في حديث حسن معروف مشهور (¬4)، فما وجدناه في كتاب الله - عز وجل -، أو في سنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مما استبان أمره، واتضح حكمه فهو كما هو من كونه حلالا بحتا، أو حراما بحتا. ويدخل في الحلال المباح بجميع أقسامه، ولا يخرج عنه بعض أنواعه بمجرد تقييده بقيد كونه مكروها كراهة تنزيه، أو بكونه خلاف الأولى على اختلاف العبارات في ذلك [2ب]. كما لا يخرج عنه بعض أنواعه بمجرد تقييده بقيد كونه واجبا، أو مسنونا، أو مندوبا أو مرغبا فيه على اختلاف العبارات في ذلك، فالكل حلال، ولا يجري في مثل هذا الخلاف المحرر في الأصول في جنسية المباح لأقسامه؛ إذ المقصود هنا هو الحكم عليه بالحكم الشامل لأقسامه، وهو كونها حلالا، لا كونه جنسا لها، وهي أنواع له، ولا خلاف بين أهل العلم في كون جميع تلك الأقسام حلالا، وإن تقيد بعضها بقيد عدم ¬

(¬1) [آل عمران: 31] (¬2) [الحشر: 7] (¬3) [الأحزاب: 21] (¬4) تقدم وهو حديث صحيح

جواز الترك، وبعضها بأولوية الفعل، وبعضها بأولوية الترك، فإنه قد جمعها كلها أنه لا يعاقب فاعلها، وذلك شأن الحلال. ويقابل ذلك ما يعاقب فاعله وهو الحرام البحت، ومنه المكروه كراهة حظر وكراهة تحريم على اختلاف العبارات في ذلك، فإن حكم الجميع التحريم، لكونه يعاقب فاعله، وبهذا تعرف معنى قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " الحلال بين، والحرام بين"، أن الأمور المشتبهة هي التي لم يتضح الدليل على حرمتها أو حلها مع ورود دليل يدل في الجملة على ذلك لا على وجه الإيضاح والبيان. وأما المسكوت عنه بالمرة فهو عفو كما ثبت ذلك عن الشارع - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فإن اتضح الدليل على اتصافها بأحد الوصفين فقد ذهب الاشتباه، وتبين الأمر واتضح الحكم، ومن قسم المشتبه ما تعارضت أدلته، فدل بعضها على جواز الفعل، وبعضها على المنع منه، ولم يأت دليل يدل على ترجيح أحد المتعارضين على الآخر، كما يفيد ذلك ما ورد في بعض ألفاظ الحديث المذكور بعد ذكر الشبهات، ففي لفظ للبخاري (¬1) "لا يعلمها كثير من الناس"، وفي لفظ للترمذي (¬2) " لا يدري كثير ¬

(¬1) رقم (52) (¬2) في "السنن" رقم (2105). قال النووي في "شرحه لصحيح مسلم" (11/ 27) أجمع العلماء على عظم وقع هذا الحديث وكثرة فوائده أنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، قال جماعة هو ثلث الإسلام، وأن الإسلام يدور عليه وعلى حديث "إنما الأعمال بالنية" وحديث: " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" وقال أبو داود السختياني يدور على أربعة أحاديث هذه الثلاثة وحديث: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وقيل حديث ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد ما في أيدي الناس يحبك الناس. قال العلماء وسبب عظم - حديث النعمان - أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبه فيه على إصلاح المطعم والمشرب والملبس وغيرها وأنه ينبغي ترك المشتبهات فإنه سبب لحماية دينه وعرضه وحذر من موافقة الشبهات وأوضح ذلك بضرب المثل بالحمى. . . وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحلال بين والحرام بين، أن الأشياء ثلاثة أقسام حلال بين واضح لا يخفى حله كالخبز والفواكه والزيت والعسل والسمن. . . وغير ذلك من المطعومات وكذلك الكلام والنظر والمشي وغير ذلك من التصرفات فهي حلال بين واضح لا شك في حله. وأما الحرام البين: كالخمر والخنزير والميتة والبول والدم المسفوح وكذلك الزنا والكذب والغيبة والنميمة. وأما المشتبهات: فمعناه أنها ليست بواضحة الحل ولا الحرمة فلهذا لا يعرفها كثير من الناس لا يعلمون حكمها وأما العلماء فيعرفون حكمها بنص أو قياس أو استصحاب أو غير ذلك فإذا تردد الشيء بين الحل والحرمة ولم يكن فيها نص ولا إجماع اجتهد فيه المجتهد فألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي فإذا ألحقه به صار حلالا وقد يكون دليله غير خال عن الاحتمال البين فيكون الورع تركه ويكون داخلا في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه. . انظر: "فتح الباري" (1/ 127)

من الناس أمن الحلال هي أم من الحرام "، ويستفاد من لفظ كثير أن القليل من الناس يعرف حكمها، وهم المجتهدون، أو البعض منهم. وقد قيل: إن الشبهات هي ما اختلف فيه العلماء، وقيل: هي قسم المكروه، وقيل: هي المباح المطلق، وكل ذلك مدفوع، وقد أوضحت الدفع له وترجيح ما ذكرته من تفسير الشبهات في مؤلف مستقل جمعته في الكلام على هذا الحديث، وسميته: " تنبيه الأعلام على تفسير المشتبهات بين الحلال والحرام" (¬1). وإذا عرفت أن المشتبهات هي ما لم يتضح الدليل على حله، أو حرمته أو تعارض دليل الحل والحرمة، فأعلم أن هذا القسم قد بين الشارع - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ [3أ]- أن شأن المؤمنين التوقف عنده، وعدم مجاوزته، وترك التلبس به كما يفيد ذلك قوله: " والمؤمنين وقافون عند الشبهات" وفي لفظ للبخاري (¬2) ومسلم: " فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم، أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله تعالى، ¬

(¬1) وهي الرسالة رقم (58) من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني" (¬2) رقم (2051)

من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه"، وفي لفظ لابن حبان (¬1) " اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال، من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه" وكما يدل هذا الحديث على اجتناب الشبهات كذلك يدل على الاجتناب حديث: " كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد" (¬2)، فإن أمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - هو الترك للشبهات، والتوقف عندها، وكذلك يدل على اجتنابها حديث: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" (¬3) أخرجه الترمذي والحاكم، وابن حبان وصححوه جميعا، وكذلك حديث "استفت قلبك وإن أفتاك المفتون" أخرجه أحمد (¬4)، وأبو يعلى (¬5)، والطبراني (¬6)، وأبو نعيم (¬7)، وحديث: " الإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس " (¬8) وهو حديث معروف. ¬

(¬1) في صحيحه رقم (5569) (¬2) تقدم تخريجه (¬3) أخرجه الترمذي رقم (2518) والحاكم (2/ 13) و (4/ 99) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وابن حبان رقم (722) وأبو داود رقم (1178) عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: " دع ما يريبك إلا ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة". وأخرجه أحمد (3/ 112) والدارمي (2/ 245) والبيهقي (5/ 335) من حديث أنس. وهو حديث صحيح بشواهده. (¬4) في "المسند" (4/ 227 - 228) (¬5) في مسنده رقم (1586، 1587) (¬6)، في "الكبير" (22\ رقم 403) (¬7) في "الحلية" (2/ 24) و (9/ 44) من حديث وابصة مرفوعًا وقد تقدم وله شواهد. وهو حديث حسن (¬8) أخرجه مسلم رقم (2553) وأحمد (4/ 182) والدارمي (2/ 322) والبخاري في "الأدب المفرد" (1/ 110 - 113) والحاكم (2/ 14) من حديث النواس بن سمعان قال: سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن البر والإثم فقال: " البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس".

وإذا تقرر لك هذا فاعلم أن ما سأل عنه السائل - كثر الله فوائده - مما يقع في بعض الولائم، وعند قدوم من كان غائبا في حج أو نحوه إن كان هو الذي يقع في زمن النبوة على الصفة الثابتة إذ ذاك، فهذا من الحلال البين، وإن كان على صفة غير تلك الصفة، فإن تبين حكم حل ذلك الواقع من دليل آخر كركض الخيل، والرمي بالبنادق، والمذاكرة في المسائل العلمية والأدبية، والاجتماع في مجلس من المجالس، أو مسجد لذكر الله، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وذكر ما لا بأس به من أخبار القرون الأولى، وتناشد أشعارهم، ووصف مجرياتهم فهذا ونحوه [3ب] قد جاءت الأدلة الصحيحة المأخوذة من كليات الشريعة وجزئياتها بأنه حلال، وأنه لا بأس به. وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يجتمعون في مجالسهم، وفي مساجدهم ويتذاكرون العلم، ويتواعظون بمواعظ الأئمة ويذكرون في بعض الأوقات ما كان يجري بين أسلافهم من العرب من الحروب، والتكرمات، والخطب، والمقاولات، وينشدون ما قالوه من الأشعار في ذلك. بل وقع مثل هذا من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كما في حديث أم زرع الثابت في الصحيحين (¬1)، وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لعائشة - رضي الله عنها -: "أنا لك كأبي زرع لأم زرع" وكذلك ثبت اجتماع أمهات المؤمنين، واجتماع كثير من النساء إليهن، وذكرهن للحوادث والوقائع، كما في حديث المرأة التي كانت تدخل عليهن وتكرر هذا البيت: ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ... ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني وتذكر قصتها في ذلك كما في ................................................... ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5189) ومسلم رقم (2448) عن عائشة رضي الله عنها قالت وفيه: " جلست إحدى عشرة امرأة فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا. . . قالت عائشة: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كنت لك كأبي زرع لأم زرع"

الصحيح (¬1)، وكذلك حسان - رضي الله عنه - كان ينشد الصحابة أشعاره في مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وقال لما أنكر عليه عمر رضي الله عنه: " قد كنت أنشده وفيه من هو خير منك" (¬2)، والأمر في مثل هذا كثير يطول تحريره، ويكثر بسطه، وكل عالم يعلمه، فما كان من هذا الجنس مما علم حله بأدلته فهو من الحلال البين، فلا يحل لمسلم إنكاره، ولا يجوز القول بأنه من البدع التي هي ضلالة، وإنما إذا كان ذلك الاجتماع يصحبه فيه شيء من منكرات الشرع، كالتغني بالأشعار بالأصوات المطربة، والتوقيعات المختلفة، وذكر ما لا يحل ذكره من التشوق إلى معاصي الله - عز وجل -، والتنشيط إلى مواقعة محارمه [4أ]، والترغيب إلى تعدي حدوده، وهتك الأعراض بالمقاولات السخيفة، وثلب أعراض المسلمين بالغيبة، والسعي بينهم بالنميمة، وعلى الجملة فإذا اشتملت تلك المجالس والمجامع على شيء مما ورد الشرع بتحريمه فحضورها حرام، والقعود فيها معصية، لأنها من قسم الحرام البين. ويجب على المسلمين الإنكار على من تلبس بشيء منها، وإن كان ما يقع في تلك المجالس والاجتماعات التي يسمونها ولائم وأعراسا وتعزية لميت، وتسلية لمحزون، وملاقاة لقادم من غيبة، وزيارة لمن يحق له عندهم الزيارة مما لم يتبين كونه حلالا، ولا لكونه حراما، فهو من الأمور المشتبهة، والمؤمنون وقافون عند الشبهات، فاجتناب هذه المجالس هو شأن المؤمنين، ودأب المتمسكين بالدين، فمن تركها فقد استبرأ لعرضه ودينه ومن لابسها وجالس أهلها فقد حام حول الحمى، ورتع في جوانبه، فيوشك أن يواقعه، وهو أيضًا لم يدع ما يريبه إلى ما لا يريبه، وهو أيضًا دخل في أمر ليس عليه أمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ففعله رد عليه فإن أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الوقوف عند الشبهات، واجتناب ملابستها وهو أيضًا لم يترك ما يشتبه عليه من الإثم، فيوشك أن ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (439) وقد تقدم ذكر القصة. (¬2) انظر "فتح الباري" (1/ 548).

يواقع ما استبان من الحرام. وإذا عرفت هذه الأقسام، وتقرر لك حكم كل واحد منها ارتفع الإشكال، واتضح الأمر، وتبين لك ما هو الذي يجوز لك ملابسته من تلك المجامع [4ب] والمجالس، وما هو الذي لا يجوز لك ملابسته منها وما هو الذي ينكر على فاعله وما هو الذي لا ينكر على فاعله، وما هو من البدعة التي هي ضلالة، وما هو من البدعة المشتبهة، وذلك يغنيك عن النظر إلى ما وقع من ذلك في البلد الفلاني، أو في الجيل الفلاني، أو في العصر الذي قبل عصرك، أو في العصور التي قبله بكثير، فإن ذلك مما لا يصح الاحتجاج به، ولا إيراده في موارد الاستدلال، فقد وقع من ذلك في كل عصر من العصور الغث والسمين، والجاري على منهج الشرع والجاري على غيره، وصار كثير من الأشياء المنكرة، والبدع التي هي من قسم الضلالة باستعمال كثير من الناس لها غير مستنكر ولا معدود من الأمور المخالفة للشرع، ولا من الشبهة التي يتوقف المؤمنون عندها. ومن اطلع على كتب التاريخ وقف من ذلك على العجب العجيب، والنبأ الغريب، فإن كثيرا من المنكرات المعلوم تحريمها بضرورة الشرع قد صارت عند قوم من الأقوام، وفي جيل من الأجيال من المعروف لا من المنكر، حتى إن من أنكر ذلك عد إنكاره منكرا ولا يقوى على القيام في مثل هذه المقامات الصعبة إلا من كان متصلبا في دين الله، شديد الشكيمة على أعداء الله، نافذ البصيرة في الحق، صحيح التصور لما أخذه الله على الذين أوتوا الكتاب من البيان، قوي الفهم بمعنى قوله - عز وجل -: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (¬1)، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (¬2). ¬

(¬1) [آل عمران: 187] (¬2) [البقرة: 159]

نسأل الله - سبحانه - أن يبصرنا بطرق الهداية [5أ] ويعصمنا عن مزالق الغواية، فلا خير إلا خيره، ولا إله غيره، والحمد أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا، والصلاة والسلام على خير الأنام وآله الكرام. حرره المجيب - غفر الله له - في شهر شعبان سنة 1230.

الدواء العاجل لدفع العدو الصائل

(188) 17/ 4 الدواء العاجل لدفع العدو الصائل تأليف محمد بن علي الشوكاني حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه محفوظة بنت علي شرف الدين أم الحسن

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: الدواء العاجل لدفع العدو الصائل. 2 - موضوع الرسالة: آداب. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، ونصلي ونسلم على رسولك الأمين. 4 - آخر الرسالة: بهذا جاءت الشريعة المطهرة ونطقت كلياتها وجزئياتها، وفي هذا المقدار كفاية، والله ولي التوفيق. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 27 صفحة ما عدا صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 16 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات. 9 - الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، ونصلي ونسلم على رسولك الأمين، وآله الطاهرين، وصحبه الراشدين. وبعد: فإنها قد دلت الأدلة القرآنية، والأحاديث الصحيحة النبوية أن العقوبات العامة لا تكون إلا بأسباب، أعظمها: التهاون بالواجبات، وعدم اجتناب المحرمات، فإن انضم إلى ذلك ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المكلفين به، لا سيما أهل العلم، وأهل الأمر القادرين على إنفاذ الحق، ودفع الباطل كانت العقوبة قريبة الحدوث، ولا حاجة بنا هاهنا إلى إيراد الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، فهي معروفة عند المقصر والكامل. وإذا عرفت هذا فاعلم أنه يجب على كل فرد لا تعلق له بغيره أن ينظر في أحوال نفسه، وما يصدر عنه من أفعال الخير والشر، فإن غلب شره خيره، ومعاصيه على حسناته، ولم يرجع إلى ربه، ويتخلص من ذنبه فليعلم أنه بين مخالب العقوبة، وتحت أنيابها وأنها واردة عليه، وواصلة عن قريب إليه [1أ]. وهكذا من كان له تعلق بأمر غيره من العباد، إما عموما أو خصوصا، فعليه أن يتفقد أحوالهم، ويتأمل ما هم فيه من خير وشر، فإن وجدهم منهمكين في الشر، واقعين في ظلمة المعاصي، غير مستنيرين بنور الحق، فهم واقعون في عقوبة الله لهم، وتسليطه عليهم، ولا سيما إذا كانوا لا يأتمرون لمن يأمرهم بالمعروف، ولا ينتهون لمن ينهاهم عن المنكر. هذا على فرض أن داعي الخير لا يزال يدعوهم إليه، والناهي عن الشر لا يزال ينهاهم عنه، وهم مصممون على غيهم، سادرون في جهلهم، فإن كان من يتأهل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معرضا عن ذلك، غير قائم بحجة الله، ولا مبلغ لها إلى

عباده، فهو شريكهم في جميع ما اقترفوه من معاصي الله - سبحانه -، مستحق للعقوبة المؤجلة والمعجلة قبلهم كما صح في قصته من تعدى في السبت من أتباع موسى - عليه السلام (¬1) -؛ فإن الله - سبحانه وتعالى - ضرب من ترك الأمر بالمعروف ¬

(¬1) اعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الأمم السابقة قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة: 78 - 79]. وقال تعالى: (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [آل عمران: 63]. قال القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (4/ 47) دلت هذه الآية على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجبا في الأمم المتقدمة. * ولقد أثنى سبحانه وتعالى على طائفة من أهل الكتاب فقال: (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران: 114]. * وجاء في وصية لقمان لابنه: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمان: 17]. لذلك يعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات وأجلها وأفضلها، وقد دل على وجوبه الكتاب والسنة، ونقل الإجماع على ذلك النووي في "شرحه لصحيح مسلم " (1/ 22)، وإذا تأملت نصوص الكتاب والسنة وجدت ذلك قد ورد باستفاضة كبيرة وأساليب متنوعة (منها): 1 - ) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران: 104]. 2 - ) جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الصفات اللازمة للمؤمنين. قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [التوبة: 71]. 3 - ) جعله سببا للخيرية في هذه الأمة. قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران: 110]. 4 - ) جعل تركه سببا لوقوع اللعن والإبعاد. قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... ) [المائدة: 78]. 5 - ) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب للنجاة. قال تعالى: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ ... ) [هود: 116]. 6 - ) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب من أسباب النصر. قال تعالى: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ. .) [الحج: 41]. انظر: "الآداب الشرعية" (1/ 171 - 173)، "تنبيه الغافلين" (ص 185)، "إحياء علوم الدين" (2/ 303 - 308)

والنهي عن المنكر بسوط عذابه، ومسخهم قردة وخنازير، مع أنهم لم يفعلوا ما فعله المعتدون من الذنب، بل سكتوا عن إبلاغ حجة الله، والقيام بما أمر به، من الأمر بالمعروف [1ب] والنهي عن المنكر (¬1). والحاصل: أنه لا فرق بين فاعل المعصية، وبين من رضي بها ولم يفعلها، وبين من لم يرض بها لكن ترك النهي عنها مع عدم ¬

(¬1) يشير إلى الآيات من سورة الأعراف (163 - 167). قال تعالى: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)

المسقط (¬1) لذلك عنه، ومن كان أقدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كان ذنبه ¬

(¬1) متى يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الإنكار بالقلب لا يسقط بحال من الأحوال لكن الإنكار باليد واللسان قد يسقط: 1 - ): إذا تكاثرت الفتن والمنكرات، وهذا على نوعين: 1 - ما يكون في آخر الزمان وهذا النوع هو الذي تحمل عليه كثير من الأحاديث الواردة في العزلة والتي منها: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفيه: " يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن". أخرجه البخاري رقم (19و3300 و3600 و6495). وأخرج أحمد (2/ 212) وأبو داود رقم (4343) والحاكم (4/ 282) بإسناد حسن، عن عبد الله بن عمرو قال: بينما نحن حول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ ذكر الفتنة فقال: " إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا - وشبك بين أصابعه - قال: فقمت إليه، فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟! قال: " الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ بما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة". وفي رواية: " تأخذون ما تعرفون، وتذرون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم، وتذرون أمر عامتكم". وهو حديث صحيح، أخرجه أبو داود رقم (4342) والبخاري تعليقا رقم (479) وابن ماجه رقم (3957). وانظر: " الإبانة الكبرى" رقم (725 - 774). النوع الثاني: ما يقع من الفتن في بعض الأوقات دون التي تقع آخر الزمان. قال الحافظ في "الفتح" (13/ 40) والخبر دال على فضيلة العزلة - حديث أبي سعيد الخدري وقد تقدم - لمن خاف على دينه، وقد اختلف السلف في أصل العزلة. فقال الجمهور: الاختلاط أولى لما فيه من اكتساب الفوائد الدينية للقيام بشعائر الإسلام وتكثير سواد المسلمين وإيصال أنواع الخير إليهم من إعانة وإغاثة وعبادة غير ذلك. وقال قوم: العزلة أولى لتحقق السلامة، بشرط معرفة ما يتعين. قال النووي: المختار تفضيل المخالطة لمن لا يغلب على ظنه أنه يقع في معصية، فإذا أشكل الأمر فالعزلة أولى. انظر: "فتح الباري" (11/ 331 - 333)، (باب العزلة راحة من خلاط السوء). * فمن أشكلت عليه الأمور تعينت عليه العزلة وعليه يحمل اعتزال من ذكر من الصحابة: سعد بن أبي وقاص، محمد بن مسلمة، سلمة بن الأكوع، عبد الله بن عمر، أسامة بن زيد وغيرهم. وأما من أمكنه معرفة الحق، ولم يتمكن من العمل به، أو أدت مخالطته للناس إلى تكثير سواد أهل الفتنة، أو حملهم له على المشاركة فيلزمه أن يعتزل، ومن عرف الحق ولم يخش تفويت العمل به ولا حملهم إياه في فتنهم ولا إعانتهم عليها، ولم يكثر لهم سوادا، لكنه لو أمر ونهى لم يكن ذلك مؤثرا في حالهم ولا مغيرا لها فالأفضل في حقه العزلة. أما إذا كان لا يخشى من المخالطة وقوع محظور مما سبق وبقاؤه ينفع الناس فهذا يتعين عليه البقاء وترك العزلة، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " المسلم إذا كان مخالطا الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم". أخرجه أحمد (2/ 43) (5/ 365) وابن ماجه رقم (1338 - 4032) والترمذي رقم (2035، 2507)، وهو حديث صحيح. وأما الفتن التي لا يعرف الحق فيها من الباطل حيث يلتبس فيها الأمور وهذا الالتباس ناتج عن طبيعة الفتنة وتلونها. . . أو ناتج عن عدم قدرة المعاصر لها من تمييز الحق فيها من الباطل، وأكثر هذا في آخر الزمان، وعلى هذا ننزل كثير من الأحاديث التي. . تحث على العزلة. . 2 - ): يسقط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حالة العجز الحسي فإن من عجز عن القيام بعمل (طولب به) عجزا حسيا لم يكلف به كمن عجز عن الجهاد لمرضه أو عرجه أو لذهاب بصره أو غير ذلك. 3 - ): يسقط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما كان في معنى العجز الحسي. أ): إذا كان يلحقه من جرأته مكروه معتبر في إسقاط الوجوب عنه، يشير إلى ذلك حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا: " إن الله ليسأل العبد يوم القيامة، حتى يقول: ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره؟ فإن لقن الله عبدا حجته قال: يا رب! رجوتك وفرقت من الناس". أخرجه ابن ماجه رقم (4017) وهو حديث صحيح. وحديث حذيفة رضي الله عنه مرفوعا: " لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيقه". أخرجه ابن ماجه رقم (4016) وهو حديث حسن.

أشد، وعقوبته أعظم، ومعصيته أفظع، بهذا جاءت حجج الله وقامت براهينه، ونطقت

بها كتبه، وأبلغتها إلى عباده رسله. ولما كان الأمر هكذا بلا شك ولا شبهة عند كل من له تعلق بالعلم وملابسة المطهرة، وكان ذلك من قطعيات الشريعة وضروريات الدين - فكرت في ليلة من الليالي في هذه الفتن، التي قد نزلت بأطراف هذا القطر اليمني، وتأججت نارها، وطار شررها، حتى أصاب كل فرد من ساكنيه منها شواظ، وأقل ما قد نال من هو بعيد عنها ما صار مشاهدا معلوما، من ضيق المعاش، وتقطع كثير من أسباب الرزق، وتحقر المكاسب، حتى ضعفت أحوال الناس، وذهبت تجارتهم ومكاسبهم، وأفضى ذلك إلى كساد كثير من الأملاك، وعدم نفاق نفائس الأموال، وحبائس الذخائر. ومن شك في هذا، فلينظر [2أ] فيه بعين البصيرة، حتى ترتفع عنه ريب الشك بطمأنينة اليقين، هذا حال من هو بعيد عنها لم تطحنه بكلكلها، ولا وطئته بأخفافها. وأما من قد وفدت عليه وقدمت إليه، وخبطته بأسواطها، وضغمته بأنيابها، وأناخت بساحته، كالقطر التهامي وما جاوره، فيالله! كم من بحار دم أراقت، ومن نفوس أزهقت، ومن محارم هتكت، ومن أموال أباحت، ومن قرى ومدائن طاحت بها الطوائح، وصاحت عليها، بعد أن تعطلت الصوائح، وناحت بعرصاتها المقفرة النوائح. فلما تصورت هذه الفتنة أكمل تصور - وإن كان متقررة عند كل أحد أكمل تقرر - ضاق ذهني عن تصورها، فانتقلت إلى النظر في الأسباب الموجبة لنزول المحن، وحلول النقم من ساكني هذا القطر اليمني على العموم من غير نظر إلى مكان خاص أو طائفة معينة، فوجدت أهله - ما بين صعدة وعدن - ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: رعايا يأتمرون بأمر الدولة، وينتهون بنهيها، لا يقدرون على الخروج عن كل ما يرد عليهم من أمر أو نهي، كائنا ما كان. القسم الثاني: طوائف خارجون عن أوامر الدولة متغلبون [2ب] في بلادهم. الطائفة الثالثة: أهل المدن، كصنعاء وذمار، وهم داخلون تحت أوامر الدولة، ومن جملة من يصدق على غالبهم اسم الرعية، ولكنهم يتميزون عن سائر الرعايا بما سيأتي

ذكره. فأما القسم الأول: وهم الرعايا، فأكثرهم - بل كلهم إلا النادر الشاذ - لا يحسنون الصلاة، ولا يعرفون ما لا تصح إلا به ولا تتم بدونه، من أذكارها، وأركانها، وشرائطها، وفرائضها، بل لا يوجد من يتلو منهم سورة الفاتحة تلاوة مجزئة إلا في أندر الأحوال. ومع هذا فالإخلال بها والتساهل فيها قد صار دأبهم وديدنهم، فحصل من هذا أن غالبهم لا يحسن الصلاة ولا يصلي. وطائفة منهم لا تحسن الصلاة، وإنما تصلي صلاة غير مجزئة، فلا فرق بينها وبين من يتركها. وأما من يحسنها ويواظب عليها: فهو أقل قليل، بل هو الغراب الأبقع (¬1)، والكبريت الأحمر (¬2)، وقد صح عن معلم الشرائع: أنه لم يكن: " بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة " (¬3)، فالتارك للصلاة من الرعايا: كافر، وفي حكمه من فعلها وهو لا يحسن ¬

(¬1) الغراب الأبقع. قيل: ما خالط بياضه لون آخر، وغراب أبقع فيه سواد وبياض. وقيل: الغراب الأسود في صدره بياض. "لسان العرب" (1/ 461) (¬2) الكبريت الأحمر هو من الجوهر ومعدنه خلف بلاد التبت، وادي النمل الذي مر به سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام ويقال في كل شيء كبريت وهو يبسه ما خلا الذهب والفضة فإنه لا ينكسر فإذا صعد أي أذيب ذهب كبريته، والكبريت: الياقوت الأحمر، وهو نادر الوجود. "لسان العرب" (12/ 16). قال في "تاج العروس" (3/ 114): عن الليث: الكبريت: عين تجري فإذا جمد ماؤها صار كبريتا أبيض وأصفر وأكدر، وقال شيخنا وقد شاهدته في مواضع، منها هذا الذي قريب من الملاليح ما بين فاس ومكناسة يتداوى بالعوم فيه من الحب الإفرنجي وغيره. . . (¬3) أخرجه مسلم رقم (134) وأبو داود رقم (4678) والترمذي رقم (2618) وابن ماجه رقم (1078) وأحمد في "المسند" (3/ 370، 389) من حديث جابر. قال النووي في "شرحه لصحيح مسلم " (2/ 70): وأما تارك الصلاة فإن كان منكرا لوجوبها فهو كافر بإجماع المسلمين خارج من ملة الإسلام إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام ولم يخالط المسلمين مدة يبلغه فيها وجوب الصلاة عليه. وإن تركها تكاسلا مع اعتقاده وجوبها كما هو حال كثير من الناس فقد اختلف العلماء فيه: فذهب مالك والشافعي رحمهما الله والجماهير من السلف والخلف إلى أنه لا يكفر بل يفسق ويستتاب فإن تاب وإلا قتلناه حدا كالزاني المحصن ولكنه يقتل بالسيف، وذهب جماعة من السلف إلى أنه يكفر وهو مروي عن علي بن أبي طالب وهو أحد الروايتين عن أحمد وبه قال عبد الله وإسحاق بن راهويه وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي. وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة والمزني صاحب الشافعي أنه لا يكفر ولا يقتل بل يعزر ويحبس حتى يصلي. انظر تفصيل ذلك في "نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 291 - 292)

من أذكارها وأركانها ما لا تتم إلا به، لأنه أخل بفرض عليه، من أهم الفروض، وواجب من آكد الواجبات، وهو تعلم ما لا تصح الصلاة إلا به، مع إمكان ذلك، ووجود من يعرفه، فهذه الصلاة هي أهم أركان الإسلام الخمسة (¬1)، وآكدها، وقد صار الأمر فيها عند الرعايا هكذا. ثم يتلوها الصيام، وغالب الرعايا لا يصومون، وإن صاموا في النادر من الأوقات، وفي بعض الأحوال فربما لا يكمل شهر رمضان صوما إلا القليل من ذلك القليل، ولا شك أن تارك الصيام على الوجه الذي يتركونه كافر، وكم يعد العاد من واجبات يخلون بها، وفرائض لا يقيمونها، ومنكرات لا يجتنبونها وكثيرا ما يأتي هؤلاء الرعايا بألفاظ كفرية (¬2) فيقول: هو يهودي ليفعلن كذا، أو لأفعلن كذا، ويرتد تارة بالقول، ¬

(¬1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (8) ومسلم رقم (21) من حديث عمر قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت " (¬2) عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من حلف بملة غير الإسلام كذبا فهو كما قال. . ". أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6652) ومسلم رقم (177/ 110)

وتارة بالفعل، وهو لا يشعر، ويطلق امرأته حتى تبين منه بألفاظ يديم التكلم بها، كقوله: امرأته طالق ما فعل كذا، أو: لقد فعل كذا (¬1) أو كثير منهم يستغيث بغير الله تعالى من نبي، أو رجل من الأموات، أو صحابي، أو نحو ذلك (¬2). ومع هذا البلايا التي تصدر منهم، والرزايا التي هم مصرون عليها لا يجدون من يأمرهم بمعروف، ولا من ينهاهم [3ب] عن منكر، وقد صار الأمر والنهي في كل ولاية منحصرا في ثلاثة أشخاص: عامل، وكاتب، وحاكم. فأما العامل: فلا عمل له، ولا يسعى إلا في استخراج الأموال من يد الرعايا من حلها ومن غير حلها، وبالحق وبالباطل، وقد استعان على ذلك بالمشايخ الذين هم العرفاء المنصوص من معلم الشرائع على أنهم في النار، فيتسلط كل واحد منهم على من تحت يده من المستضعفين، ويصنع به ما أراد وكيف أحب، وهو مفوض في أموالهم من طريق العامل فيأخذ ما شاء، ويدع ما شاء، وليس الأمر والنهي من العامل إلا في هذه الخصلة على الخصوص، ولم نسمع على تطاول الأيام، وتعاقب السنين، أن فردا من أفراد العمال أمر الرعايا بما أوجبه الله من الفرائض التي لا فسحة فيها؛ كالصلاة والصيام، أو نهاهم عن شيء من المنكرات التي يرتكبونها، بل قد جرت عادة كثير من العمال أن يأخذ إلى مقابل ترك الصلاة والصيام شيئا من السحت. ¬

(¬1) أخرج أبو داود رقم (2194) والترمذي رقم (1184) وابن ماجه رقم (2039) والحاكم في "المستدرك" (2/ 197 - 198) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثلاث جدهن جد وهزلن جد: النكاح والطلاق والرجعة". وهو حديث حسن. (¬2) انظر الرسالة رقم (24، 25، 26)

وهكذا في الأشياء التي هي منكرات مجمع على تحريمها كالزنا، والسرقة، وشرب المسكرات، إذا وقع بعض الرعية في شيء منها، كانت العقوبة من العامل على ذلك أن يأخذ شيئا من مال من فعل ذلك، بل وقوع [4أ] الرعايا في هذه المعاصي هو أحب الأشياء إلى العامل؛ لأنه يفتح له عند ذلك باب أخذ الأموال. ويتكاثر عنده السحت، ويتوفر له المقبوض، فانظر أي فاقرة في الدين كانت ولاية مثل هذا العامل! وأي بلاء صب على دين الله، رجل لا يأمر بفعل ما أوجب الله، ولا ينهى عن فعل ما حرم الله، بل يود ذلك ويفرح به لينال حظا من السحت، ويصل إلى شيء من الحرام. فهل أقلت الأرض، أو أظلت السماء أفسد لدين الله، وأجرا على معاصيه منه؟! وهل مشى على رجلين أخسر صفقة منه، وأخبث سعياً؟! وناهيك برجل لو كفر من تحت ولايته من الرعايا كفر فرعون، لكان يرضيه من ذلك نزر حقير من السحت، بل ذلك أحب إليه من صلاح الرعايا وتمسكهم بدين الإسلام، وقبولهم الشريعة، لأنه لا ينفق سوق ظلمه، ويدر عليه ثدي سحته، إلا بوقوع الرعايا في مخالفة الشرع، وخروجهم عن سبيل الرشاد. وقد ينضم إلى هذه المخازي منه والفضائح له، أن يرابي على رؤوس الأشهاد ربا مجمعا على تحريمه [4ب]، ويستصحب معه جماعة من المعاملين بالربا، فيأخذ منهم عند الحاجة بزيادة من الربا ويضعها على الرعية ويسلط هؤلاء العاملين بالربا على الضعفاء. وهل أقبح من هذا الذنب وأشد منه؟! فإنه الذنب الذي توعد الله عليه بالحرب لفاعله منه كما في كتابه العزيز (¬1)، وليس الحرب من الله نزول الحجارة من السماء، بل تسليط ¬

(¬1) يشير إلى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) [البقرة: 278 - 279]

بعض عباده على بعض حتى يسحتهم بعذابه، ونزل بهم غضبه، ويسلط عليهم من يسفك دماءهم، وينهب أموالهم، ويهتك محارمهم. وقد يضم عامل السوء إلى هذه المخازي مخازي أخرى فيظهر بين الرعايا بمحرمات يرتكبها، ومحارم ينتهكها جراءة على الله، فيسن للرعايا سنن الشر، ويفتح لهم أبواب الفجور (¬1). ¬

(¬1) لذلك على الحاكم المسلم أو الملك حسن اختيار أعوانه. وأصل ما يبني عليه قاعدة أمره في اختيار أعوانه وكفاته: أن يختبر أهل مملكته، ويسير لجميع حاشيته، يتصفح عقولهم وآرائهم، ومعرفته همهم وأخلاقهم حتى يعرف باطن سرائرهم وما يلائم كامن شيمهم، فإنه سيجد طباعهم مختلفة، وهمهم متباينة ومنتهم متفاضلة. * فلا يعطي أحدهم منزلة لا يستحقها لنقص أو خلل، ولا يستكفيه أمر ولايته ولا ينهض بها، لعجز أو فشل، فإنهم آلات الملك، فإذا اختلت كان تأثيرها مختلا وفعلها معتلا. وقد قيل: من استعان بأصاغر رجاله على أكابر أعماله فقد ضيع العمل وأوقع الخلل. وقيل: من استوزر غير كفء، خاطر بملكه، ومن استشار غير أمين أعان على هلكه ومن أسر إلى غير ثقة ضيع سره، ومن استعان بغير مستقل أفسد أمره ومن ضيع عاقلا دل على ضعف عقله، ومن اصطنع جاهلا أعرب عن فرط جهله. انظر: " تسهيل النظر وتعجيل الظفر "الماوردي (ص 194 - 195). وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته". أخرجه البخاري رقم (2278، 2416) ومسلم رقم (1829). قال البغوي في "شرح السنة" (10/ 62): معنى الراعي: الحافظ المؤتمن على ما يليه، أمرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنصيحة فيما يلونه، وحذرهم الخيانة فيه بأخباره أنهم مسؤولون عنه. فالرعاية: حفظ الشيء، وحسن التعهد، فقد استوى هؤلاء في الاسم ولكن معانيهم مختلفة، رعاية الإمام، وولاية أمر الرعية والحياطة من ورائهم، وإقامة الحدود والأحكام فيهم، ورعاية الرجل أهله بالقيام عليهم بالحق في النفقة وحسن العشرة ورعاية المرأة في بيت زوجها بحسن التدبير في أمر بيته والتعهد لخدمة أضيافه، ورعاية الخادم حفظ ما في يده من مال سيده والقيام بشغله. وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري: " إن أسعد الرعاة من سعدت به رعيته، وأشقاهم في الدارين من شقوا به " وإنك وإن ترتع عمالك فيكون مثلك مثل البهيمة، رأت أرضا خضرة ونباتا حسنا فرتعت تلتمس السمن، وإنما حتفها في سمنها". انظر: "الخراج" لأبي يوسف (ص17)، "عيون الأخبار" (1/ 11)

وأما الكاتب: فليس له من الأمر إلا جمع ديوان يكتب فيه المظالم التي يأخذها العامل من الرعايا، وليس جمعه لهذا الديوان لقد الإنصاف للرعايا، ولا للتخفيف عليهم، بل المقصود من وضعه أن لا يكتم العامل من تلك الأموال التي اجتاحها [5أ] والمظالم التي احتجنها حتى يشاركه فيها غيره، ويواسيه بدينه من نال منها نصيبا ممن يده فوق يده. وأما ثالث الثلاثة، وهو القاضي: فهو عبارة عن رجل جاهل للشرائع، إما جهلا بسيطا، أو جهلا مركبا، وإن اشتغل بشيء من الفقه، فغاية ما يظفر به منه هو ما يظفر وكيل الخصومة، ومن يمارس الحضور في مواقف الخصومات من مسائل تدور في الدعوى والإجابة، وطلب اليمين والبينة، وليس له من العلم غير هذا لا يعرف حقا ولا باطلا، ولا معقولا ولا منقولا، ولا دليلا ولا مدلولا، ولا يعقل شيئا من علوم الشرع، فضلا عن غيرها من علوم العقل، ولكنه اشتاق إلى أن يدعى قاضيا، ويشتهر اسمه في الناس، ويرتفع بين معارفه وأهله، فعمد إلى الثياب الجيدة فلبسها، وجعل على رأسه عمامة كالبرج، وأطال ذيل كمه حتى صار كالخرج، ولزم السكينة والوقار واستكثر من قوله: " نعم" و"يعني"، وجعل له سبحة طويلة يديرها في يده. ثم جمع له من الحطام قدرا واسعا، وذهب به يدور في الأبواب ويتردد في السكك واستعان بالشفعاء [5ب] بعد أن أرشاهم ببعض من ذلك المال ليشتروا له هذا المنصب الجليل (¬1) الذي هو مقعد النبوة، ومكانا فيه يترجم عن كتاب الله وسنة رسوله، ويفصل ¬

(¬1) وليحذر أمثال هؤلاء قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة، وبئست الفاطمة". أخرجه البخاري رقم (7148) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين" من حديث أبي هريرة. أخرجه أحمد (2/ 230، 365) وأبو داود رقم (3571، 3572) وابن ماجه رقم (2308) والترمذي رقم (1325) وقال \ حديث حسن غريب، وهو حديث صحيح. وأخرج مسلم في صحيحه رقم (1825) من حديث أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: " إنك ضعيف، وإنها أمانة، إنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها ". قال النووي في "شرحه لصحيح مسلم " (12/ 210، 211) هذا أصل عظيم في اجتناب الولاية لا سيما لمن كان فيه ضعف، وهو في حق من دخل فيها بغير أهلية ولم يعدل فإنه يندم على ما فرط فيه إذا جوزي بالجزاء يوم القيامة وأما من كان أهلا لها وعدل فيها فأجره عظيم كما تضافرت به الأخبار، ولكن في الدخول فيها خطر عظيم ولذلك امتنع الأكابر منها، فامتنع الشافعي لما استدعاه المأمون لقضاء الشرق والغرب، وامتنع منه أبو حنيفة لما استدعاه المنصور فحبسه وضربه. . . ". وأخرج البخاري في صحيحه رقم (7149) ومسلم رقم (4/ 1733) من حديث أبي موسى قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " والله لا نولي هذا الأمر أحدا سأله، ولا أحدا حرص عليه ". وانظر شروط القاضي العادل في "تبصرة الحكام" (1/ 24 - 25)، " الأحكام السلطانية" (ص62) "المجموع" للنووي (18/ 363)

الخصومات عن عباد الله بما أنزله في كتابه المبين، وبينه رسوله الأمين (¬1)، ثم يذهب هذا الجاهل البائس إلى قطر من الأقطار الوسيعة، فيأتي إليه وأهل الخصومات أفواجا، فيحكم بينهم بحكم الطاغوت في الحقيقة، وهو في الصورة حكم الشرع، وليس بشرع، لأن هذا القاضي المخذول لا يعرف من الشرع إلا اسمه، ولا يدري من العلم بشيء، بل يجهل حده ورسمه، فينتشر عنه في ذلك القطر الواسع من الطواغيت ما تبكي له عيون الإسلام، وتتصاعد عنده زفرات الأعلام. وكيف يهتدي إلى فصل الخصومات بالحق جاهل اشترى هذا المنصب كما يشتري ما يباع في الأسواق من المتاع؟! فولاية مثل هذا المخذول وتحكمه في الشريعة المطهرة هي جناية على الله، وعلى رسوله، وعلى كتابه، وعلى سنة رسوله، وعلى العلم وأهله، ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة.

وعلى الدين والدنيا [6أ]. ولا فرق بين بعث مثله ليحكم بجهله، وبين بعث رجل من أهل الطاغوت العارفين بالمسالك الطاغوتية كابن فرج، وفصيله، والغزي، ونحوهم من حكام الطاغوت، بل بعث هذا القاضي أعظم عند الله ذنبا، وأشد معصية، لأنه لما كان في الصورة قاضيا من قضاة الشرع الشريف، وحاكما من حكامه مولى ممن إليه الولاية العامة، كان في ذلك تغرير على الناس، ومخادعة لهم، فانجذبوا إليه ليحكم بينهم بشرع الله، فحكم بالطاغوت، فقبلوه بناء منهم على أنه حكم الشرع، بخلاف بعث حاكم من حكام الطاغوت، فإنه وإن كان من المعصية والجراءة على الله بالمكان الذي لا يخفى، ولكنه لا تغرير في بعثة على العباد، ولا مخادعة، فربما يجتنبه من يجتنبه إن لم يجتنبوه جميعا، وينفروا عنه ويأبوا منه، وكفى بهذا موعظة وعبرة يقشعر لها جلد من كان في قلبه مثقال خردلة من إيمان، وترتجف منه قلوب قوم يعقلون: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1). هذا حال هذا القاضي الذي هو من قضاة النار (¬2) ومن عصاة الملك الجبار [6ب] فيما يتولاه من الخصومات. وما سائر ما هو موكول إلى قضاة الشرع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على يد الظالم، وإرشاد الضال، وتعليم الجاهل، والدفع عن الرعية من ظلم من ¬

(¬1) [الذاريات: 55] (¬2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (3573) والترمذي رقم (1322) وابن ماجه رقم (2315) والحاكم (4/ 90). عن ابن بريدة، عن أبيه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "القضاة ثلاثة واحد في الجنة، واثنان في النار فأما الذي في الجنة، فرجل عرف الحق فقضي به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار". وهو حديث صحيح.

يظلمها، والمكاتبة لإمام المسلمين بما يحدث في القطر الذي هو فيه مما يخالف الشريعة المطهرة - فلا يقدر هذا القاضي الشقي على شيء من هذه الأمور، سواء أكان حقيرا أو كثيرا، بل غاية أمره، ونهاية حاله أن يبقى في ذلك القطر يشاهد المظالم بعينه، وقد ينفذها بقلمه، وقد يعين عليها بفمه، وهو تارك لما أوجبه الله عليه، وعلى أمثاله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو في الحقيقة ضال مضل، شيطان مريد، بل أضر على عباد الله من الشيطان، ومن أين للشيطان، وأنى له أن يظهر للناس في صورة قاض ثم يفوض في قطر من الأقطار فيه ألوف مؤلفة من عباد الله، فيحكم بينهم بالطاغوت بصورة الشرع [7أ]، ثم يكون شهيدا على ما يحدث بذلك القطر من المظالم، ومعينا عليها، وموسعا لدائرتها من دون أن يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر، بل لا يجري قلمه قط بما فيه جلب خير للرعية أو دفع شر عنهم. بل هو ما دام في هذا المنصب لا هم له ولا مطلب إلا جمع الحطام من الخصوم، تارة بالرشوة (¬1) وتارة بالهدية (¬2)، وتارة بما هو شبيه بالتلصص، ثم يدافع عن المنصب الذي هو فيه ببعض هذا السحت الذي صار يجمعه، ويتوسع في دنياه بالبعض الآخر، فهو أمر لا يقدر عليه الشيطان، ولا يتمكن منه، ولا يبلغ كيده لبني آدم إليه، وفي هذا ما يكفي من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. ¬

(¬1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الراشي والمرتشي في الحكم". أخرجه أحمد (2/ 387، 388) والترمذي في "السنن" (1337) وقال: حديث حسن صحيح، وهو حديث صحيح. (¬2) أخرج أبو داود رقم (2963) بإسناد صحيح عن بريدة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قال: "من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذه بعد ذلك فهو غلول". وانظر: "فتح الباري" (6/ 624) رقم الباب 24 - باب هدايا العمال)، و"إعلام الموقعين" لابن القيم (4/ 232).

وإذا كان حال الرعية وما هم عليه، هو ما قدمنا الإشارة إليه، وحال عاملهم وقاضيهم هو هذا الحال، وصفتهم هذه الصفة. فانظر بعقلك، وأعمل صافي فكرك، هل مثل هؤلاء متعرضون لسخط الله وعقوبته وحلول نقمته، أم مستحقون للطفه وتوفيقه، وصرف العقوبة عنهم [7ب]، ودفع الفتن الذاهبة بالأنفس والأموال منهم؟! {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (¬1)، {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} (¬2) {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} (¬3). وإذا قد تقرر لك حال هذا القسم الأول من الثلاثة الأقسام التي قدمنا لك ذكرها، فلنبين لك حال القسم الثاني، وهم أهل البلاد الخارجة عن أوامر الدولة ونواهيها، كبلاد القبلة والمشرق ونحو ذلك. ¬

(¬1) [الكهف: 49] (¬2) [الأنعام: 148] (¬3) [يس: 45]

[القسم الثاني] اعلم - أرشدك الله - أن جميع ما ذكرنا لك في القسم الأول - وهم الرعايا - من ترك الصلاة، وسائر الفرائض الشرعية إلا الشاذ النادر على تلك الصفة، فهو أيضًا كائن في البلاد الخارجة عن أوامر الدولة ونواهيها، بل الأمر فيهم أشد وأفظع، فإنهم جميعا لا يحسنون الصلاة، ولا القراءة، ومن كان يقرأ منهم فقراءته غير صحيحة، ولسانه غير صالحة، وبالجملة فالفرائض الشرعية بأسرها من غير فرق بين أركان الإسلام الخمسة وغيرها مهجورة عندهم، متروكة، بل كلمة الشهادة التي هي مفتاح الإسلام لا ينطق بها الناطق منهم إلا على [8أ] عوج. ومع هذا ففيهم من المصائب العظيمة، والقبائح الوخيمة، والبلايا الجسيمة أمور غير موجودة في القسم الأول: (منها): أنهم يحكمون بالطاغوت (¬1)، ويتحاكمون إلى من يعرف الأحكام الطاغوتية منهم، في جميع الأمور التي تنوبهم وتعرض لهم، من غير إنكار ولا حياء من الله ولا من عباده، ولا مخافة من أحد، بل قد يحكمون بذلك بين من يقدرون على الوصول إليه من الرعايا، ومن كان قريبا منهم، وهذا الأمر معلوم لكل أحد من الناس، لا يقدر أحد على إنكاره ودفعه، وهو أشهر من نار على علم. ولا شك ولا ريب أن هذا كفر بالله - سبحانه - وبشريعته التي أنزلها على رسوله، واختارها لعباده في كتابه، وعلى لسان رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل كفروا ¬

(¬1) الطاغوت عبارة عن كل متعبد، وكل معبود من دون الله ويستعمل في الواحد والجمع قال تعالى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) [البقرة: 256] وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) [لزمر: 17] (أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) [البقرة: 257] وقوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) [النساء: 60]. انظر: "مفردات ألفاظ القرآن" (ص 520 - 521) للراغب الأصفهاني.

بجميع الشرائع من عند آدم عليه السلام إلى الآن، وهؤلاء جهادهم واجب، وقتالهم متعين، حتى يقبلوا أحكام الإسلام ويذعنوا لها، ويحكموا بينهم بالشريعة المطهرة. ويخرجوا من جميع ما هم فيه من الطواغيت الشيطانية [8ب] ومع هذا فهم مصرون على أمور غير الحكم بالطاغوت والتحاكم إليه، وكل واحد منهم على انفراده يوجب كفر فاعله، وخروجه من الإسلام وذلك مثل إطباقهم على قطع ميراث النساء، وإصرارهم عليه، وتعاضدهم على فعله. وقد تقرر في القواعد الإسلامية أن منكر القطعي، وجاحده (¬1) والعامل على خلافه، تمردا، أو عنادا، أو استحلالا، أو استخفافا كافر بالله وبالشريعة المطهرة التي اختارها لعباده، ومع هذا فغالبهم يستحل دماء المسلمين وأموالهم، ولا يحترمها، ولا يتورع عن شيء منها، وهذا مشاهد معلوم لكل أحد، لا ينكره عاقل ولا جاهل، ولا مقصر ولا كامل، ومع هذا ففيهم من آثار الجاهلية الجهلاء أشياء كثيرة يعرفها من تتبعها. ومن ذلك إقسامهم بالأوثان كما تسمع كثيرا يقول قائلهم: أي وثن؟، إذا أراد أن يحلف، والمراد بهذا الوثن: هو الوثن الذي كانت الجاهلية تعبده، وقد ثبت عن الشارع [9أ] أن: " من حلف بملة غير ملة الإسلام فهو كافر" (¬2). وبالجملة: فكم يعد العاد من فضائح هؤلاء الطاغوتية وبلاياهم!! وفي هذا المقدار كفاية. ولا شك ولا ريب أن ارتكاب هؤلاء لمثل هذه الأمور الكفرية من أعظم الأسباب الموجبة للكفر، السالبة للإيمان، التي يتعين على كل فرد من أفراد المسلمين إنكارها، ويجب على كل قادر أن يقاتل أهلها حتى يعودوا إلى دين الإسلام. ومعلوم من قواعد الشريعة المطهرة ونصوصها أن من جرد نفسه لجهاد هؤلاء، ¬

(¬1) انظر: "المغني" (12/ 275 وما بعدها). (¬2) تقدم تخريجه.

واستعان بالله، وأخلص له النية فهو منصور، وله العاقبة، فقد وعد الله بهذا في كتابه العزيز: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} (¬1) {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (¬2) {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬3) {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (¬4) و {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} (¬5) {فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} (¬6). فإن ترك من هو قادر على ذلك، جهادهم فهو [9ب] متعرض لنزول العقوبة به وبهم، مستحق لما أصابه، فقد سلط الله - سبحانه - على أهل الإسلام طوائف كفرية لهم، حيث لم يتناهوا عن المنكرات، ولم يحرصوا على العمل بالشريعة المطهرة، كما وقع تسليط الخوارج (¬7)، انظر "المغني" (12/ 275) فيه تفصيل في أول الإسلام، ثم تسليط القرامطة (¬8) والباطنية (¬9) بعدهم، ثم من تسليط التتر (¬10)، حتى ¬

(¬1) [الحج: 40] (¬2) [محمد: 7] (¬3) [الأعراف: 128]، [القصص: 83] (¬4) [المائدة: 56] (¬5) [الصافات: 172] (¬6) [البقرة: 193] (¬7) تقدم التعريف بهم (ص 153) (¬8) تقدم التعريف بهم (ص1025) (¬9) هم الذين جعلوا لكل ظاهر من الكتاب باطنا، ولكل تنزيل تأويلا وظهرت دعوتهم في أيام المأمون من (حمدان قرمط) ومن (عبد الله بن ميمون القداح) وليس الباطنية من فرق ملة الإسلام بل هي من فرق المجوس الخارجة عن حلة الإسلام. "الفرق بين الفرق" لعبد القاهرة البغدادي (ص 22). ولهم ألقاب كثيرة: في العراق يسمون الباطنية والقرامطة والمزدكية بخراسان: يسمون التعليمية والملحدة. وقيل: الباطنية والإمامية والغلاة مختلطة بعضها ببعض، فالكل متشيع غال وخارج عن نهج المسلمين، نشأ مذهبهم في منتصف القرن الثالث، وضعه قوم أشرب في قلوبهم بغض الدين وكراهية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الفلاسفة والملاحدة والمجوس واليهود ليصرفوا الناس عن دين الله وكانوا يبعثون دعاتهم إلى الآفاق لدعوة الناس إلى مذهبهم المشؤوم، ومن دعاتهم ميمون بن ديصان القداح الثنوي فظاهر مذهبهم الرفض وباطنهم الكفر. . . ". "التبصرة " (ص86)، "الملل والنحل" (1/ 228 - 235) (¬10) تقدم التعريف بهم (ص1025)

كادوا يطمسون أمم الإسلام، وكما يقع كثيرا من تسليط الفرنج ونحوهم {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} (¬1) {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (¬2). والحاصل: أنه لا خروج لمن كان قادرا على إصلاح هذا القسم والقسم الأول، وهم الرعايا - إلا ببذل الوسع في قتال هؤلاء، وبذل الوسع في إصلاح الرعايا وتعليمهم فرائض الإسلام، وإلزامهم بها، والأخذ على الولاة في الأقطار أن يكون معظم سعيهم، وغاية همهم هو دعاء من يتولون [10أ] عليه من الرعايا إلى ما أوجبه الله عليهم، ونهيهم عما نهاهم الله عنه، وانتخاب القضاة في كل قطر، فيكونون أولا ممن جمع الله لهم بين العلم والعمل، والزهد والورع، ويكونون ثانيا من الباذلين أنفسهم لإصلاح الرعايا وتعليمهم فرائض الله، ودفع المظالم الواردة عليهم، التي لا سبيل لها في الشريعة المطهرة، ويقبضون منهم ما أوجبه الله عليهم، ويدفعونه إلى إمام المسلمين، فإن في ذلك ما هو أنفع من الأشياء التي تؤخذ على وجه الظلم، وعلى طريقة الجور، والخير كل الخير في موافقة الأمور الشرعية، والشر كل الشر في مخالفتها. ومن جملة ما يأخذون عليهم إصلاح عقائدهم، ويبينون لهم أن الله هو الضار النافع، القابض الباسط، وأنه لا ينفع ولا يضر غيره. ويزجرونهم عن الاعتقادات الباطلة، ويجعلون في كل قرية معلما صالحا، يعلم أهلها ¬

(¬1) [الحشر: 2] (¬2) [ق: 37]

الصلاة على الوجه الشرعي، ويأمرونهم [10بٍ] بالمواظبة على الصلوات في أوقاتها، ويلزمون لك المعلم بأن يعلمهم سائر الفرائض التي أوجبها الله عليهم، ويلزمونهم ويحبسون من لم يأت بما فرض الله عليه، أو لم يجتنب ما نهاه الله عنه، ويكون ذلك عزيمة صحيحة مستمرة، وأمرا ضابطا دائما، ولا يكون هذا مثل ما تقع من الأوامر التي تبطل في أسرع وقت كما وقع في الأيام القريبة من الأمر لأهل صنعاء بالمواظبة على الصلاة، ثم بطل قبل مضي أسبوع، فإن الأمور الشرعية، والفرائض الدينية هي التي شرع الله نصب الأئمة والسلاطين والقضاة لها، ولم يشرع نصب هؤلاء لجمع الأموال من غير وجهها، ومصادرة الرعايا في أموالهم بأضعاف ما أوجبه الله عليهم، وترك إلزامهم بفرائض الله، التي من جملتها الصلاة والصوم والحج والزكاة، وإخلاص التوحيد لله، وترك نهيهم عما نهاهم الله عنه، من المعاصي التي صاروا يفعلونها، ويصرون عليها مما هو معلوم [11أ] لكل أحد. وليس على إمام المسلمين ووزرائه إلا انتخاب العمال والقضاة في الأقطار، وإلزامهم بأن يكون معظم اشتغالهم بتدبير الرعايا بما شرعه الله لعباده في الأموال والأبدان، وفي الدين والدنيا، ثم بعد إلزامهم بذلك ينظرون من قام به من العمال والقضاة، ومن تركه، فيحسنون إلى من قام بهذا الأمر منهم، وبذل فيه وسعه، ويقرونه على ولايته، ويعزلون من لم يقم به، ويبذل فيه وسعه، فبهذا يدفع الله الشرور عن العباد والبلاد، ويحول بينهم وبين من قد صار في أطراف البلاد من الطوائف التي صارت تعامل عباد الله معاملة أهل الشرك المحقق، بل يتجاوزون ذلك إلى ما لا يبيحه الشرع في أهل الشرك، كما بلغ أنهم يقتلون النساء والصبيان، ويشقون بطون الحوامل؛ فإن الشارع نهى عن مثل هذا، وزجر عنه، ولم يحل للمسلمين أن يقتلوا صبيان المشركين ولا نساءهم (¬1). ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (3/ 1731) والترمذي رقم (1408، 1617) وأبو داود رقم (2612، 2613) عن سليمان بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أمر أميرا على جيش أو سرية، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: " اغزوا بسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله واغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا. . . ". وأخرج البخاري في صحيحه (3014، 3015) ومسلم رقم (24، 25/ 1744) من حديث ابن عمر قال: " وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتل النساء والصبيان"

وأما العمال والقضاة الذين صاروا يتولون البلاد في هذه الأعصار، فهم من أعظم الأسباب الموجبة لنزول العقوبة، وتسليط الأعداء، وذهاب البلاد والعباد، وسفك الدماء واستحلال الحرام، وكيف لا يقع هذا التسليط وعامل [11ب] البلاد على الصفة التي قدمنا ذكرها؟! ومن أول مساوئه، ومعاصيه، ومعاندته لله، وتعرضه لغضبه وسخطه أنه يطلب تلك الولاية بأموال، يقدمها من أموال المرابين، فيقع في الربا الذي هو من أعظم المعاصي الموجبة للحرب من الله، قبل أن يخرج من بيته، ويقبض مرسوم ولايته، وقد يكون الذي ولاه عالما بأن ذلك المال هو عين الربا، فيقعان جميعا في غضب الله ولعنته، قبل المباشرة للولاية. وإذا كان هذا أول ما تفتتح به هذه الولاية الملعونة، فما ظنك بما يحدث بعد ذلك من الظلم والجور والعسف، وإهمال ما أخذه الله على الولاة، من إرشاد الضال من الرعايا، وهداية الجاهل؟! وهكذا ولاية القاضي الشيطان في هذه الأزمان، فإنها تفتتح بشيء من السحت يدفعه هذا القاضي الذي هو من قضاة النار (¬1) إلى من ولاه بعد أن يستعين بالشفعاء، فكيف يفلح قاض جاهل للشرائع اشترى هذا المنصب الديني بماله، وقام في حصوله له وقعد، مع أن الشارع نهى عن يتولى القضاء من طلبه فضلا عمن اشتراه [12أ] بماله (¬2)!. ¬

(¬1) تقدم ذكر الحديث (¬2) تقدم توضيحه. قال ابن تيمية في "السياسة الشرعية" (ص 174): متى اهتم الولاة بإصلاح دين الناس، صلح للطائفتين دينهم ودنياهم، وإلا اضطربت الأمور عليهم، وملاك ذلك كله حسن النية للرعية، وإخلاص الدين كله لله، والتوكل عليه، فإن الإخلاص والتوكل جماع صلاح الخاصة والعامة، كما أمرنا أن نقول في صلاتنا: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5] فإن هاتين الكلمتين قد قيل إنهما يجمعان معاني الكتب المنزلة من السماء، وقد روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان مرة في بعض مغازيه، فقال: "يا مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين" فجعلت الرءوس تندر عن كواهلها وقد ذكر ذلك في غير موضع من كتابه كقوله: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) وقوله تعالى: (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا ذبح أضحيته - يقول: "اللهم منك ولك" - وأعظم عون لولي الأمر خاصة، ولغيره عامة ثلاثة أمور أحدها. أحدها: الإخلاص لله، والتوكل عليه بالدعاء وغيره وأصل ذلك المحافظة على الصلوات بالقلب والبدن. الثاني: الإحسان إلى الخلق بالنفع والمال الذي هو الزكاة. الثالث: الصبر على أذى الخلق وغيره من النوائب، ولهذا جمع الله بين الصلاة والصبر، كقوله تعالى في موضعين: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) وكقوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين) [هود: 114 - 115]. فيجب على كل من ولي شيئا من أمر المسلمين من هؤلاء وغيرهم أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع أصلح من يقدر عليه، ولا يقدم الرجل لكونه طلب الولاية أو يسبق في الطلب بل ذلك سبب المنع. كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أن قوما دخلوا عليه فسألوه ولاية فقال: إنا لا نولي أمرنا هذا من طلبه" تقدم وهو حديث صحيح. فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره، لأجل قرابة بينهما، أو ولاء عتاقة أو صداقة، أو موافقة في بلد أو مذهب أو طريقة أو جنس. . . أو لرشوة يأخذها من مال أو منفعة أو غير ذلك من الأسباب، أو لضغن في قلبه على الأحق أو عداوة بينهما فقد خان الله ورسوله قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال: 27]. فمثلا: القوة في كل ولاية بحسبها فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب وإلى الخبرة بالحروب، والمخادعة فيها، فإن الحرب خدعة، وإلى القدرة على أنواع القتال. . . ". القوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة وإلى القدرة تنفيذ الأحكام. والأمانة ترجع إلى خشية الله، وألا يشتري بآياته ثمنا قليلا، وترك خشية الناس وهذه الخصال الثلاث التي أتخذها الله على كل حكم على الناس. قال تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]. وإذا كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشد، قدم الأمين فأما استخراجها وحفظها، فلا بد فيه من قوة وأمانة فيولي عليها شاد قوي يستخرجها بقوته، وكاتب أمين يحفظها وأمانته، وكذلك في إمارة الحرب إذا أمر الأمير بمشاورة أولي العلم والدين جمع بين المصلحتين، وهكذا في سائر الولايات إذا لم تتم المصلحة برجل واحد، جمع بين عدد، فلابد من ترجيح الأصلح أو تعدد المولى إذا لم تقع الكفاية بواحد تام. ويقدم في ولاية القضاء الأعلم الأورع الأكفأ فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع قدم فيما قد يظهر حكمه ويخاف فيه الهوى الأورع، وفيما يدق حكمه ويخاف فيه الاشتباه: الأعلم. وانظر مزيد التفصيل: " السياسة الشرعية " لابن تيمية. "تسهيل النظر وتعجيل الظفر "الماوردي "درر السلوك في سياسة الملوك".

وكيف يفلح من ولى هذا القاضي؟! وكيف يفلح الرعايا؟! كلا والله، بل هو بلاء صبه الله عليهم، ومحنة امتحنهم الله بها، وسبب من أسباب تعجيل العقوبة لهم وله، ولمن ولاه عليهم من أهل الأمر.

[القسم الثالث] وأما القسم الثالث من الأقسام التي ذكرناها، وهم الساكنون في المدن، فهم وإن كانوا أبعد الناس عن الشر، وأقربهم إلى الخير، لكن غالبهم وجمهورهم عامة وجهال يهملون كثيرا مما أوجبه الله عليهم من الفرائض جهلا وتساهلا. فمن ذلك: أنهم يصلون أغلب الصلوات في غير أوقاتها، فيأتون بصلاة الفجر حال طلوع الشمس وبعدها، وبصلاة العصرين قريب غروب الشمس، وبصلاة العشاءين إما جمعا في وقت الأولى، أو في وقت الأخرى. ومع هذا فهم لا يحسنون أركان الصلاة، ولا أذكارها إلا الشاذ النادر منهم، ويتعاملون في بيعهم وشرائهم معاملات تخالف المسلك الشرعي، وكثيرا ما يقع الربا ويتكلمون [12ب] بالألفاظ الكفرية، وينهمك كثير منهم في معاص صغيرة وكبيرة، وهم أقرب الناس إلى الخير، وأسرعهم قبولا للتعليم، إذا وجدوا من يعزم عليهم عزيمة مستمرة دائمة، غير منقوصة في أقرب وقت، كما يقع في ذلك كثير. ومن عدا العامة: فمن لم يكن له اشتغال بالعلم، ولا مجالسة لأهله حكمه حكم العامة في دينه، بل هو واحد منهم، وإن كان له نسب شريف وبيت رفيع. وربما كان هذا الذي يظن في نفسه أنه خارج من العامة، وداخل في الخاصة متعلقا بشيء من الولايات الدينية أو الدنيوية، وهو يخبط خبط عشواء، ويظلم العباد والبلاد، جهلا منه أو تجاهلا وجرأة على الله. والواجب على إمام المسلمين - حفظه الله - وعلى أعوانه، افتقاد هؤلاء، والبحث عن مباشراتهم، وعن كيفية معاملاتهم لمن يتولون عليه، أو يتوسطون [13] له، وقد يكون بعض هؤلاء المتولين للأعمال، أو المتوسطين على شيء من أهل العلم، وليس كونه من أهل العلم موجبا لترك البحث عن أحواله، والتفتيش عن معاملته لمن هو متول عليهم، أو متوسط لهم، فإن كونه عالما أو متعلما لا يوجب له العصمة، ولا يسد عنه

باب الاختيار والبحث، فإن كثيرا من أهل العلم من يكون علمه حجة عليه، ووبالا له، والدنيا مؤثرة، وحبها رأس كل خطيئة. والله المسئول أن يلهم إمام المسلمين - أقام الله به أركان الدين - إلى القيام بما أرشدنا إليه في هذه الرسالة، وإبلاغ الجهد في أحوال هذه الثلاثة الأقسام التي ذكرناها، فإنه إذا فعل ذلك صلحت له أحوال الدين والدنيا، ودفع الله عن رعاياه كل محنة، ولم يسلط عليهم غيرهم قط، كائنا من كان [13 ب]، وليس في هذا مشقة عليه، ولا نقص في دنياه، بل هو الدواء المجرب لتوفر الخير، وتضاعف المدد، وصفو العيش، وراحة القلب، وطول العمر، واتساع البلاد وإذعان العباد. بهذا جاءت الشريعة المطهرة، ونطقت كلياتها وجزئياتها، وفي هذا المقدار كفاية. والله ولي التوفيق [14أ].

القول الحسن في فضائل أهل اليمن

(189) 33/ 4 القول الحسن في فضائل أهل اليمن تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: القول الحسن في فضائل أهل اليمن. 2 - موضوع الرسالة: آداب. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الأكرمين وبعد: فهذا البحث في الأدلة الواردة في فضائل اليمن أردت ذكر بعضها. 4 - آخر الرسالة: وقد ذكر جماعة من أهل العلم أحاديث في فضل اليمن وأهله وهو يفضي، عنها ما ثبت في الصحيحين حسبما قدمنا، فلنقتصر على هذا المقدار، والحمد لله أولا وآخرا، كتبه مؤلفه غفر الله له. 5 - نوع الخط، خط نسخي مقبول. 6 - عدد الصفحات: 5 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 33 سطرا. 8 - عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الأكرمين، وبعد: فهذا البحث في الأدلة الواردة في فضل اليمن، أردت ذكر بعضها هاهنا لينشره بذلك صدر كل يماني، وينثلج بها قلبه، ويطمئن بها خاطره، ويعلم أن كونه من أهل هذا القطر من النعم التي أنعم الله بها عليه، لدخوله في عدادهم، وكونه من بلادهم. لتناول الأدلة التي ستمر بك له على أي صفة كان، ومن أي فريق من أهلها يعد. قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬1). أخرج ابن جرير (¬2) عن شريح بن عبيد قال: لما أنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} الآية، قال عمر: أنا وقومي يا رسول الله، قال: " لا بل هذا وقومه " يعني أبا موسى الأشعري. وأخرج ابن سعد (¬3)، وابن أبي شيبة في مسنده (¬4)، وعبد بن حميد (¬5)، والحكيم الترمذي (¬6)، وابن جرير (¬7)، وابن المنذر (¬8)، وابن أبي حاتم (¬9) ........................................................... ¬

(¬1) [المائدة: 54] (¬2) في "جامع البيان" (4 ج6/ 285) بسند منقطع. لأن شريح بن عبيد لم يسمع من عمر فالسند منقطع. (¬3) في "الطبقات" (4/ 107) (¬4) في "مصنفه" (12/ 123) (¬5) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (3/ 102) (¬6) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (3/ 102) (¬7) في "جامع البيان" (4 ج6/ 285) (¬8) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (3/ 102) (¬9) في تفسيره (4/ 1160 رقم 6535)

والطبراني (¬1)، وأبو الشيخ (¬2)، وابن مردويه (¬3)، والحاكم (¬4)، وصححه، والبيهقي في الدلائل (¬5) عن عياض الأشعري قال: لما نزلت: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "هم قوم هذا" وأشار إلى أبي موس الأشعري. وأخرج أبو الشيخ (¬6)، وابن مردويه (¬7)، والحاكم (¬8) في جمعه لحديث شعبة، والبيهقي (¬9)، وابن عساكر (¬10) عن أبي موسى الأشعري قال: تليت عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} الآية، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "قومك يا أبا موسى أهل اليمن". [1ب]. وأخرج ابن أبي حاتم (¬11) [والحاكم] (¬12) في الكنى، والطبراني في الأوسط (¬13)، وأبو الشيخ (¬14) بسند حسن عن جابر بن عبد الله قال: سئل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} الآية، فقال: "هؤلاء قوم من أهل اليمن [من] (¬15) كندة [من] (¬16) السكون ثم .............................. ¬

(¬1) في "المعجم الكبير" (17/ 371) (¬2) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (3/ 102) (¬3) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (3/ 102) (¬4) في "المستدرك" (2/ 313) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه (¬5) (5/ 351 - 352) (¬6) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (3/ 102) (¬7) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (3/ 102) (¬8) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (3/ 102) (¬9) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (3/ 102) (¬10) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (3/ 102) (¬11) في تفسيره (4/ 1160 رقم 6534) (¬12) زيادة من الدر المنثور (3/ 102) (¬13) (2/ 103 رقم 1392) (¬14) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (3/ 102). قال ابن كثير في تفسيره (3/ 135 - 136) وهذا حديث غريب جدا (¬15) في المخطوط ثم والتصويب من الدر المنثور (3/ 103) (¬16) في المخطوط ثم والتصويب من الدر المنثور (3/ 103)

[من] (¬1) تجيب ". وأخرج البخاري في تاريخه (¬2)، وابن أبي حاتم (¬3)، وأبو الشيخ (¬4) عن ابن عباس - في الآية - قال: هم قوم من أهل البيت، ثم من كندة، ثم من السكون. وأخرج البخاري في تاريخه (¬5) عن القاسم بن مخيمرة قال: أتيت ابن عمر فرحب بي، ثم تلا: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} الآية، ثم ضرب على منكبي وقال: أحلف بالله إنهم لمنكم أهل اليمن. إذا عرفت أن هذه الآية نازلة فيهم بهذه الأحاديث، فاعلم أنها قد اشتملت على مناقب لأهل اليمن. الأولى منها: اختصاص أهل اليمن بهذه المزية العظيمة، وهي أن الله - سبحانه - يأتي بهم عند ارتداد غيرهم من قبائل العرب التي هي ساكنة في هذه الجزيرة على اختلاف أنواعها، وتباين صفاتها، فإن ذلك لا يكون إلا لمزيد شرفهم، وأنهم حزب الله - عز وجل - عند خروج غيرهم من هذا الدين، وتمكن الإسلام في قلوبهم، وعدم تزلزل أقدامهم عند تزلزل أقدام غيرهم، وقد نقل الإخباريون والمفسرون أنه ارتد عن الإسلام إحدى عشرة قبيلة من قبائل العرب، وأهل اليمن باقون على الإسلام كلهم متمسكون بشعائره، مقاتلون من خرج عنه. المنقبة الثانية: قوله - عز وجل - {يُحِبُّهُمْ} فليس بعد هذه الكرامة والتشريف ¬

(¬1) زيادة يستلزمها السياق. (¬2) (3/ 2\ 195 رقم 2151). (¬3) في تفسيره (4/ 1160 رقم 6536). (¬4) عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" (3/ 103). (¬5) (4/ 1/ 160 - 161 رقم 718). قال ابن جرير في "جامع البيان" (4\ج6/ 285): وأولى الأقوال عندنا بالصواب ما روي به الخبر عن رسول الله أنهم أهل اليمن قوم أبي موسى الأشعري.

من الله - سبحانه - شيء؛ فإن من أحبة الله فقد سعد سعدا لا يماثله سعد، وشرف شرفا لا يقاربه شرف، وفاز فوزا لا يعادله فوز، وأكرم كرامة لا تساويها كرامة، فإن أعظم ما يطلبه عباد الله المغفرة للذنوب، والخاصة منهم يطلبون الرضا عليهم منه. وحاصل الرضا هو التغاضي عن المؤاخذة، والتجاوز عن التفريط، ولا يستلزم المحبة؛ فإنها أمر وراء ذلك. ومن حصلت له فقد حصلت المغفرة والرضا مع مزيد خصوصية، وهي المحبة، فإنه ينشأ عنها الإكرام بكل ما يهواه المحبوب، وحصول ما يريده ويطلبه، وهذا والله المثل الأعلى كما هو معلوم بالوجدان أن المحب يتقرب إلى محبوبه بكل ما يعلم أن له فيه رغبة كائنا ما كان، وهذه رتبة تستلزم عدم المؤاخذة، ودخول الجنة، كما قال الله - عز وجل - رادا على اليهود - حيث قال: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} فأفادت هذه الآية أن من يحبه الله لا يعذبه بل يحبوه بأنواع الكرامات، ونفائس التفضلات، وأحاسن العطيات كما يستفاد من معنى المحبة والحب والحبيب والمحبوب. المنقبة الثانية: قوله: {وَيُحِبُّونَهُ} وهذه كرامة جليلة، ومنقبة جميلة، فإن كون العبد الحقير محبا لربه - عز وجل - هي الغاية القصوى في الإيمان الذي هو سبب الفوز بالنعيم الدائم، وسبب النجاة من العذاب الأليم، ومن أعظم محبة الله - عز وجل - ودلائل صحتها اتباع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في أقواله وأفعاله، والاقتداء به، والاهتداء بهدية الشريف، [2أ] قال الله - عز وجل -: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية (¬1) فمن أحب الله، وتتبع رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فاز بحب الله - عز وجل - له، وبمحو ذنوبه، وارتفاع درجته ¬

(¬1) [آل عمران: 31]

بين عباد الله المؤمنين. المنقبة الرابعة: قوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} فإن الذلة لأهل الإيمان من أشرف خصال المؤمنين، وأعظم مناقبهم، وهو التواضع الذي يحمده الله - عز وجل -، ويرفع لصاحبه الدرجات، وفي ذلك الخلوص من معرة كثير من خصال الشر التي من جملتها الكبر والعجب (¬1). المنقبة الخامسة: قوله - عز وجل -: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} فإن ذلك هو أثر الصلابة في الدين، والتشدد في القيام به، والكراهة لأعدائه، والغلظة على الخارجين عنه. المنقبة السادسة: قوله - سبحانه -: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فإن الجهاد هو رأس الواجبات الشرعية، وبه يقوم عماد الدين، ويرتفع شأنه، وتتسع دائرة الإسلام، وتتقاصر جوانب الكفر ويهدم أركانه. المنقبة السابعة: قوله - سبحانه -: {وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} وهذا هو شأن الإخلاص، والقيام لله - عز وجل -، وعدم المبالاة يخالف الحق، ويباين الدين. وجاء بالنكرة في سياق النفي فشمل كل لائمة تصدر من لائم، أي لائم كان، سواء كان جليلا أو حقيرا، قريبا أو بعيدا، وما أدل هذه المنقبة على قيامهم في كل أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، القيام الذي لا تطاوله الجبال، ولا تروعه الأهوال، ولما جمع الله - عز وجل - لهم هذه المناقب في هذه الآية الشريفة نبههم على عظيم العطية، وجليل الإحسان فقال {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬2) ففيه ¬

(¬1) قال القرطبي "الجامع لأحكام القرآن " (6/ 220) قال ابن عباس: هم للمؤمنين كالوالد للولد والسيد للعبد، وهم في الغلظة على الكفار كالسبع على فريسته قال تعالى: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ). (¬2) [المائدة: 54].

تلميح إلى أنه قد جمع لهم من فضله ما لم يتفضل به على غيرهم من عباده، وكأن ذلك كالجواب على من رام أن يحصل له ما حصل لهم من هذه المناقب العظيمة، أو نافسهم فيها، أو حسدهم عليها. وقد ذكر جماعة من المفسرين في مناقب أهل اليمن آيات قرآنية منها ما ورد في فضل مكة والمدينة، وهما من اليمن، ومنها ما ورد في فضل المقدس، والحرم الشريف وهما من اليمن، ومنها قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (¬1) فمدحهم الله - سبحانه - بقوة اليقين، ومنها قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} (¬2)، ومنها قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أنا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} (¬3) فإنها في اليمن. ¬

(¬1) [البقرة: 197]. أخرج البخاري في صحيحه رقم (1523) وأبو داود رقم (1730) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى). وهو حديث صحيح. (¬2) [الحج: 27]. أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره (8/ 2487 رقم 13878) عن ابن عباس قال لما أمر الله إبراهيم أن ينادي في الناس بالحج صعد أبا قبيس فوضع أصبعيه في أذنيه ثم نادى: إن الله كتب عليكم الحج فأجيبوا ربكم، فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال وأرحام النساء وأول من أجابه أهل اليمن". وانظر: "الدر المنثور" (6/ 32) (¬3) [السجدة: 27]. أخرجه ابن جرير الطبري في "جامع البيان" (11\ج21/ 115) وابن أبي حاتم في تفسيره (9/ 3111 رقم 17861). وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/ 556) وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: (إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) قال: أرض اليمن

ومنها قوله: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} (¬1) فإنها في اليمن (¬2). ومنها: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} (¬3) فقد قيل: إن المراد بالناس هنا أهل اليمن (¬4). وأما ما ورد في فضلهم من السنة: فما أخرجه البخاري (¬5) ومسلم (¬6) وغيرهما (¬7) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "أتاكم أهل اليمن، أرق أفئدة، وألين قلوبا، الإيمان يمان، والحكمة يمانية"، وفي لفظ للبخاري (¬8) " أتاكم أهل اليمن، أضعف ¬

(¬1) [سبأ: 15] (¬2) أخرج ابن جرير في "جامع البيان" (12/ 22\ 76) عن عروة المرادي عن رجل منهم يقال له، فروة بن مسيك، قال: " قلت: يا رسول الله أخبرني عن سبأ ما كان؟ رجلا كان أو امرأة أو جبلا، أو دواب؟ فقال: لا، كان رجلا من العرب وله عشرة أولاد، فتيمن منهم ستة، وتشاءم أربعة، فأما الذين تيمنوا، منهم قلندة، وحمير، والأزد والأشعريون، ومذحج، وأنمار الذين منهم خثعم وبجيلة، وأما الذين تشاءموا فعاملة، وجذام، ولخم، وغسان. وانظر "الدر المنثور" (6/ 682) (¬3) [النصر: 1 - 2] (¬4) ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (8/ 664) عن أبي هريرة قال لما نزلت (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " جاء أهل اليمن هم أرق قلوبا الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية". وعزاه لابن مردويه. وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) وجاء أهل اليمن رقيقة أفئدتهم وطباعهم سجية قلوبهم عظيمة حسنتهم دخلوا في دين الله أفواجاً". (¬5) في صحيحه رقم (4388) (¬6) في صحيحه رقم (82/ 52) (¬7) كأحمد في "المسند" (2/ 480، 488) والترمذي رقم (3935) (¬8) في صحيحه رقم (4390)

قلوبا، وأرق أفئدة "، وفي لفظ لمسلم (¬1) " جاء أهل اليمن، هم أضعف قلوبا، وأرق أفئدة، الفقه يمان، والحكمة يمانية ". وأخرج البخاري (¬2) ومسلم (¬3) وغيرهما (¬4) من حديث [2ب] ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " الإيمان هاهنا " وأشار بيده إلى اليمن. . - الحديث -. وهذه الألفاظ الثابتة في الصحيحين وغيرهما قد اشتملت على مناقب عظيمة، وفضائل كريمة. الأولى منها: أنه أثبت لهم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - رقة الأفئدة، ولين القلوب، وهذه منقبة عظيمة، لأن هذا الوصف هو شأن أهل الإيمان، ولهذا جعل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - القسوة، وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل، حيث يطلع قرن الشيطان في ربيعة ومضر، هكذا في الصحيحين (¬5)، ولفظ (¬6) لهما أنه قال بعد قوله: " الإيمان يمان، والحكمة يمانية، ورأس الكفر قبل المشرق"، فرقة الفؤاد، ولين القلب، وصفان ملازمان للإيمان القوي والدين السوي (¬7). ¬

(¬1) في صحيحه رقم (84/ 52) (¬2) في صحيحه رقم (3302) (¬3) في صحيحه رقم (51) (¬4) كأحمد (2/ 541) (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3302) ومسلم رقم (81/ 51) (¬6) البخاري في صحيحه رقم (3301) ومسلم في صحيحه رقم (90/ 52) (¬7) قال الخطابي: قوله " هم أرق أفئدة وألين قلوبا " أي لأن الفؤاد غشاء القلب، فإذا رق نفذ القول وخلص إلى ما وراءه، وإذا غلظ بعد وصوله إلى داخل، وإذا كان القلب لينا علق كل ما يصادفه "فتح الباري" (8/ 100)، قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (2/ 33 - 34): قال الشيخ وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألين قلوبا وأرق أفئدة المشهور أن الفؤاد هو القلب فعلى هذا يكون كرر لفظ القلب وهو أولى من تكريره بلفظ واحد وقيل الفؤاد غير القلب وهو عين القلب وقيل باطن القلب وقيل غشاء، وأما وصفها باللين والرقة والضعف فمعناه أنها ذات خشية واستكانة سريعة الاستجابة والتأثر بقوارع التذكير سالمة من الغلظ والشدة والقسوة التي وصف بها قلوب الآخرين. وقال القاضي عياض في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (1/ 301): وقد يكون الإشارة بلين القلب إلى خفض الجناح، ولين الجانب، والانقياد والاستسلام وترك الغلو، وهذه صفة الظاهر، والإشارة برقة الأفئدة إلى الشفقة على الخلق والعطف عليهم والنصح لهم، وهذه صفة الباطن وكأنه أشار إلى أنهم أحسن أخلاقا ظاهرا وباطنا. * الفدادين: الذين تعلو أصواتهم في حروثهم ومواشيهم، واحدهم: فداد يقال: فد الرجل يفد فديدا إذا اشتد صوته. وقيل: هم المكثرون من الإبل. وقيل: هم الجمالون والبقارون والحمارون والرعيان. "النهاية" (3/ 419)

الثانية منها: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "الإيمان يمان" فإن هذا اللفظ يشعر بقصر الإيمان عليهم، بحيث لا يتجاوزهم إلى غيرهم، لكن لما كان الإيمان قد وجد في غيرهم من القبائل وسكان الأرض كان هذا الحصر محمولا على المبالغة في إثبات الإيمان لهم (¬1)، وأن إيمانهم هو الفرد الكامل من أفراد الإيمان لا يساويه غيره، ولا يدانيه سواه، وهذا هو الحصر الذي يسميه أهل البيان ادعائيا (¬2) ولا شك ولا ريب أن الإيمان ¬

(¬1) قال القاضي عياض في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (1/ 302). قيل معناه: أهل اليمن أكمل الناس إيمانا (¬2) يشير إلى القصر الحقيقي الادعائي ويكون على سبيل المبالغة بفرض أن ما عدا المقصور عليه لا يعتد به. والقصد الحقيقي هو أن يختص المقصور بالمقصور عليه بحسب الحقيقة والواقع بألا يتعداه إلى غيره أصلا. "معترك الأقران " (1/ 1360 - 137)، انظر: " جواهر البلاغة " (ص 149)

يتفاوت، فمن الناس من يكون إيمانه كالجبال الرواسي التي لا يحركها شيء، ولا يتزلزل بالشبه وإن بلغت أي مبلغ، ومن الناس من يكون إيمانه دون ذلك، وقد جاءت الأدلة الصحيحة قاضية بأن الإيمان يزيد وينقص، فلله هذه المنقبة التي تتقاصر الأذهان عن تصور كنهها، وبلوغ غايتها. وبالجملة فالإيمان هو رأس مال كل من يدين بهذا الدين، فإذا فاقوا فيه غيرهم فقد ظفروا بالخير أجمع، ونالوا الغاية التي ليس وراءها غاية، والمنقبة التي تتقاصر عندها كل منقبة. الثالثة منها: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "والحكمة يمانية" ففي هذا إثبات الحكمة (¬1) لهم على طريقة المبالغة، وأن لهم فيها الحظ الذي لا يدانيه حظ، والنصيب الذي لا يساويه نصيب. والحكمة هي: العلم بالله وبشرائعه، والفهم لحججه، وكل ما يتعلق بذلك من العلوم العقلية والنقلية، فقد أثبت لهم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - العلم على وجه لا يلحق بهم غيرهم فيه، ومن جمع الله له بين الإيمان على الوجه الأكمل، والعلم على الوصف الأتم فقد ظفر بالسعادة العاجلة والآجلة، ونال الخير السابق واللاحق على أبلغ ¬

(¬1) الحكمة عند العرب: ما منع من الجهل والجفاء، والحكيم: من منعه عقله وحلمه من الجهل، حكاه ابن عرفة، وهو مأخوذ من حكمة الدابة، وهي الحديدة التي في اللجام، سحبت بذلك لأنها تمنعها، وهذه الأحرف: ح ك م حيثما تصرفت، فيها معنى المنع قال الشاعر - جرير -: أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم ... إني خشيت عليكم أن أغضبا وقيل: في قوله تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ) [البقرة: 269]: أنها الإصابة في القول والفهم، قال مالك: الحكمة: الفقه في الدين. انظر: "المفهم" (1/ 238)

وجه، وأكمل طريقة. الرابعة منها: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " والفقه يمان " (¬1) فإن في هذا إثبات الفقاهة لهم على الوجه الأتم، وأنهم قد ظفروا منها بالفرد الكامل الذي لا يلحق به غيرهم - ومن أعطاه الله - سبحانه - الفهم الكامل لكتاب الله - سبحانه -، ولسنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، ولاستخراج الوجوه منهما التي هي الفقه في الدين فقد ضم إلى علمه صحة فهمه، وقوة إدراكه، وحسن تصرفه في الشرعيات والعقليات فكان الفرد الكامل في طوائف أهل العلم. ومن مناقبهم أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - دعا لهم [3أ] فقال: [اللهم أقبل بقلوبهم] كما أخرجه الترمذي (¬2) من حديث أنس. وفي لفظ أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: " هم مني وإلي " كما أخرجه الطبراني (¬3) من حديث عبد الله بن عمرو. ¬

(¬1) قال النووي في شرحه " لصحيح مسلم " (2/ 33) فالفقه هنا عبارة عن الفهم في الدين واصطلح بعد ذلك الفقهاء وأصحاب الأصول على تخصيص الفقه بإدراك الأحكام الشرعية العملية بالاستدلال على أعيانها، وأما الحكمة ففيها أقوال كثيرة مضطربة قد اقتصر كل من قائليها على بعض صفات الحكمة، وقد صفا لنا منها أن الحكمة عبارة عن العلم المتصف بالأحكام المشتملة على المعرفة بالله تبارك وتعالى المصحوب بنفاذ البصيرة وتهذيب النفس وتحقيق الحق والعمل به، والصد عن اتباع الهوى والباطل، والحكيم من له ذلك. وقال أبو بكر بن دريد كل كلمة وعظتك وزجرتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة. (¬2) في " السنن " رقم (3934) بإسناد حسن. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه من حديث زيد بن ثابت إلا من حديث عمران القطان. عن أنس، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، أن رسول الله نظر قبل اليمن، فقال: " اللهم أقبل بقلوبهم وبارك لنا في صاعنا ومدنا ". (¬3) في " الكبير " (19/ 707) مختصراً. وأخرجه الترمذي في " السنن " رقم (4947) وأحمد في " المسند " (4/ 129) وأبو يعلى رقم (7386) والدولابي في " الكنى " (1/ 41) والحاكم (2/ 138). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث وهيب بن جرير. وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. عن عامر بن أبي عامر الأشعري عن أبيه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: نعم الحي الأسد والأشعريون لا يفرون في القتال، ولا يغلون، هم مني وأنا منهم ". قال عامر: فحدثت به معاوية فقال: ليس هكذا قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولكنه قال: " هم مني وإلي " فقال: ليس هكذا حدثني أبي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولكنه قال: " هم مني وأنا منهم " قال: فأنت إذا أعلم بحديث أبيك قال عبد الله. هذا أجود الحديث ما رواه إلا جرير. وهو حديث ضعيف. انظر: " الضعيفة " (4692). * قيل الأٍسد: الأزد.

وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " إني أجد نفس الرحمن من قبل اليمن " كما أخرجه الإمام أحمد (¬1) من حديث أبي هريرة. ¬

(¬1) لم أجده من حديث أبي هريرة. أخرجه الطبراني في " الكبير " (7/ 52 رقم 6358) من حديث سلمة بن نفيل السكوتي قال: دنوت من رسول اله حتى كادت ركبتاي تمسان فخذه، فقلت: يا رسول الله تركت الخيل وألقي السلاح، وزعم أقوام أن لا قتال. فقال: " كذبوا! الآن جاء القتال، لا تزال من أمتي أمة قائمة على الحق ظاهرة على الناس يزيغ الله قلوب قوم قاتلوهم لينالوا منهم " وقال وقد حول ظهره إلى اليمن: " إني أجد نفس الرحمن من هاهنا، ولقد أوحي إلي مكفوت غير ملبث وتتبعوني أفناداً. والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة وأهلها معانون عليها ". قلت: وأخرجه أحمد (4/ 104) والدارمي (1/ 29) وأبو يعلى رقم (6861) والحاكم (4/ 447 - 448) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي بقوله: لم يخرجاه لأرطأة وهو ثبت، والخبر من غرائب الصحاح. بنحوه: دون قوله: " إني أجد نفس الرحمن من هاهنا ". وأورده الهيثمي في " المجمع " (7/ 306) وقال: رواه أحمد والطبراني والبزار وأبو يعلى ورجاله ثقات.

وقد ذكر جماعة من أهل العلم أحاديث في فضل اليمن وأهله، وهو يغني عنها ما ثبت في الصحيحين حسبما قدمنا، فلنقتصر على هذا المقدار، والحمد لله أولاً وآخراً. كتبه مؤلفه - غفر الله له -.

مجموعة من الحكم لبعض الحكماء المتقدمين

(190) 24 - /3 مجموعة من الحكم لبعض الحكماء المتقدمين تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: مجموعة من الحكم لبعض الحكماء المتقدمين. 2 - موضوع الرسالة: آداب. 3 - أول الرسالة: مما نقله ابن أبي أصيبعة في كتابه المعروف بعيون الأنباء في تراجم الأطباء من الحكم المروية عن الحكيم أسقلينوس. . . 4 - آخر الرسالة: ونقل من كلام الفارابي وابن سينا ونحوهما ما لم أستحسن نقله هاهنا، ثم والحمد لله. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 7 صفحات. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 24 سطراً. 8 - عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات. 9 - الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بين يدي الرسالة: اعلم أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معلم للناس والبشرية جميعاً، على أميته وصحراوية بيئته. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]

مما نقله ابن أبي أصيبعة (¬1) في كتابه المعروف " بعيون الأنباء في تراجم الأطباء " (¬2) من الحكم المروية عن الحكيم إسقلنيوس (¬3) وهو أول الحكماء اليونانيين، قوله: من عرف الأيام لم يغفل الاستعداد. كم من أمر أبغضت أوائله، وبكي عند أواخره عليه، المتعبد بغير معرفة كحمار الطاحون يدور ولا يبرح، ولا يدري ما هو فاعل، فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها. وقال في وصف الدنيا: أمس آجل، واليوم عمل، وغداً أمل. ومما نقله في ترجمة أبقراط (¬4) من الحكم التي قالها منها قوله: إنما نأكل لنعيش، لا نعيش لنأكل. وقال: لا تأكل حتى تأكل. يتداوى كل عليل بعقاقير أرضه؛ فإن الطبيعة تفرغ إلى عادتها. وقال: مثل المني في الظهر (¬5) كمثل الماء في البئر، إن نزفته فات، وإن ¬

(¬1) أحمد بن القاسم بن خليفة بن يونس الخزرجي موفق الدين، أبو العباس بن أبي أصيبعة. الطبيب المؤرخ صاحب " عيون الأنباء في طبقات الأطباء ". ولد سنة 596 بدمشق وفي سنة 668 هـ زار مصر ومن كتبه " التجاريب والفوائد "، " حكايات الأطباء في علاجات الأدواء "، " معالم الأمم "، وله شعر كثير. (¬2) رتبه على خمسة أبواب [خمسة عشر باباً] الأول في كيفية وجود صناعة الطب، الثاني في طبقات الأطباء الذين ظهرت لهم أجزاء من صناعة الطب. الثالث: في طبقات الأطباء اليونانيين من نسل إسقلبيوس الرابع في طبقات الأطباء اليونانيين، الخامس في طبقات الأطباء الذين كانوا منذ زمان جالينوس وقريباً منه. . . ". " كشف الظنون " (2/ 1185)، " الأعلام " للزركلي (1/ 197). (¬3) انظر " الفهرست " لابن النديم (ص 398 - 399). (¬4) هو بقراط بن إيراقليس من تلاميذ إسقلنيوس. طبيب فيلسوف قال يحيى النحوي: بقراط وحيد دهره الكامل الفاضل المبين المعلم لسائر الأشياء. " الفهرست " (ص 400 - 402). (¬5) قال تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) [الطارق: 5 - 7].

تركته غار. وقال: المجامع يقدح من ماء الحياة. وسئل في كم ينبغي للإنسان أن يجامع؟ قال: في كل سنة مرة، قيل له: فإن لم يقدر؟ قال: في كل شهر مرة، قيل له: فإن لم يقدر؟ قال: في كل أسبوع مرة، قيل له: وإن لم يقدر؟ قال: هي روحه متى شاء أخرجها (¬1) وقال: إذا كان الغدر في الناس طباعا؛ كان الثقة بكل أحد عجزا، وإذا كان الرزق مقسوما؛ كان الحرص باطلاً (¬2) وقال: قلة العيال أحد اليسارين (¬3)، وقال العافية ملك خفي لا يعرف قدرها إلا من عدمها (¬4). وقال: الأمن مع الفقر خير من الغنى مع الخوف. وقال: محاربة الشهوة أيسر من معالجة العلة. وقال: التخلص من الأمراض الصعبة صناعة كبيرة. وقال عند موته: خذوا جامع العلم مني: من كثر نومه، ولانت طبيعته [1]، ونديت ¬

(¬1) قال تعالى: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [البقرة: 223]. (¬2) قال تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات: 22 - 23]. (¬3) عن معقل بن يسار - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم ". أخرجه أبو داود رقم (2050) والنسائي (6/ 65) والحاكم (2/ 162) وصححه ووافقه الذهبي. وهو حديث صحيح. (¬4) أخرج أبو داود رقم (5075) والنسائي في " عمل اليوم والليلة " رقم (566) والحاكم في " المستدرك " (1/ 517) وصححه ووافقه الذهبي. عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: لم يكن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدع هؤلاء الكلمات حين يمسي وحين يصبح: " اللهم إني أسألك العافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي. . . ". ونقول: اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة.

جلدته طال عمره. وقال: من صحب السلطان فلا يجزع من قسوته كما لا يجزع الغواص من ملوحة البحر. وقال: من أحب لنفسه الحياة أماتها. وقال: العلم كثير، والعمر قصير، فخذ من العلم ما يبلغك قليله إلى كثيره. وقال: استدامة الصحة تكون بترك التكاسل عن الرياضة، وبترك الامتلاء من الطعام والشراب (¬1). وقال: الإقلال من الضار خير من الإكثار من النافع. وقال: ليس معي من فضيلة العلم إلا علمي بأني لست بعالم (¬2) وقال: إن أحببت أن لا تفوتك شهوتك فاشته ما يمكنك. وقال: لأن أدع الحق جهلا به أحب إلي من أن أدعه زهدا فيه. وقال: العلم روح (¬3)، والعمل بدن، والعلم أصل، والعمل فرع، والعلم والد، ¬

(¬1) قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن، بحسب ابن آدم أكيلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه وثلث لنفسه " من حديث المقدام بن معديكرب - رضي الله عنه -. أخرجه الترمذي رقم (2380) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه رقم (3349) وابن حبان في صحيحه رقم (5236) والحاكم (4/ 121). وهو حديث صحيح. (¬2) قال الماوردي في " أدب الدنيا والدين " (ص81): قلما تجد بالعلم معجبا ربما أدرته مفتخرا، إلا من فيه مقلا ومقصرا، لأنه قد يجهل قدره، ويحسب أنه نال بالدخول أكثره. فأما أكثره من كان فيه متوجها، ومنه مستكثرا، فهو يعلم من بعد غايته، والعجز عن إدراك نهايته. ما يصده عن العجب به وقد قال الشعبي: العلم ثلاثة أشبار، فمن نال منه شبرا شمخ بأنفه، وظن أنه ناله! ومن نال منه الشبر الثاني صغرت إليه نفسه وعلم أنه لم ينله، وأما الشبر الثالث فهيهات! لا يناله أحد أبدا ". (¬3) قال تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) [محمد: 19] فبدأ بالعلم وأن العلماء هم ورثة الأنبياء؛ ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر، ومن سلك طريقا يطلب به علما سهل الله له طريقا إلى الجنة. وقال جل ذكره: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28] وقال: (وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) [العنكبوت: 43]، (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك: 10]. وقال (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [الزمر: 9]. وقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإنما العلم بالتعلم ". انظر: " فتح الباري " (1/ 161).

والعمل مولود. وكان العمل لمكان العلم، ولم يكن العلم لمكان العمل. وقال: العمل خادم للعلم، والعمل غاية، والعلم رائد، والعمل مرسل (¬1). ومما نقله من كلمات فيثاغورس (¬2) الحكمية: الأقوال الكثيرة في الله - سبحانه - علامة تقصير الإنسان عن معرفته. وقال: احذر أن تركب قبيحا من الأمر لا في خلوة، ولا مع غيرك (¬3)، وليكن استحياؤك من نفسك أكثر من استحيائك من كل .................... ¬

(¬1) قال الماوردي في " أدب الدنيا والدين " (ص84): وليكن من شيمته العمل بعلمه، وحث النفس على أن تأمر بما يأمر به ولا يكن ممن قال الله تعالى فيهم: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) قال بعض العلماء: ثمرة العلم أن يعمل به، وثمرة العمل أن يؤجر عليه. (¬2) فيثاغورس ولد في ساموس باليونان، عاش فيما بين 572 - 497 قبل الميلاد وهو فيلسوف يوناني ذاع صيته لمعلوماته العلمية والرياضية. " تاريخ الفلسفة اليونانية " (ص 20 - 21). (¬3) أخرج مسلم في صحيحه رقم (38/ 8) من حديث عمر بن الخطاب وفيه: " فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ". وأخرج الترمذي في " السنن " رقم (2458) عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " استحيوا من الله حق الحياء " قال: قلنا: يا رسول الله! إنا نستحي والحمد لله؟! قال: " ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى. ومن أراد الآخرة، ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك، فقد استحيا من الله الحياء ". وهو حديث حسن. وأخرج البخاري في صحيحه رقم (9) ومسلم رقم (35) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الإيمان بضع وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان ". قال الماوردي في " أدب الدنيا والدين " (ص 242 - 244): الحياء في الإنسان قد يكون ثلاثة أوجه: 1 - الحياء من الله تعالى فيكون بامتثال أوامره والكف عن زواجره. 2 - حياؤه من الناس. فيكون بكف الأذى وترك المجاهرة بالقبيح وهذا من كمال المروءة وحب الثناء. 3 - حياؤه من نفسه: فيكون بالعفة وصيانة الخلوات. قال بعض الحكماء: ليكن استحياؤك من نفسك أكثر من استحيائك من غيرك. قال بعض الأدباء: من عمل في السر عملا يستحي منه في العلانية، فليس لنفسه عنده قدر. وهذا النوع من الحياء يكون من فضيلة النفس، وحسن السريرة فمتى كمل حياء الإنسان من وجوهه الثلاثة، فقد كملت فيه أسباب الخير وانتفت عنه أسباب الشر وصار بالفضل مشهورا، وبالجميل مذكورا، وقال بعض الشعراء: وإني ليثنيني عن الجهل والخنا ... وعن شتم ذي القربى طلائق أربع حياء وإسلام وتقوى وأنني ... كريم، ومثلي من يضر وينفع

أحد (¬1) وقال: إذا سمعت كذبا فهون على نفسك الصبر عليه. وقال: ما لا ينبغي أن تفعله احذر أن تخطره ببالك، وقال: الأشكال المزخرفة، والأمور المموهة في اقتضاء الأزمان تتبهرج. وقال: الإنسان الذي اختبرته بالتجربة، فوجدته لا يصلح أن يكون صديقا وخلا احذر أن تجعله لك عدوا. وقال: ينبغي أن تعرف الوقت الذي يحسن فيه الكلام، والوقت الذي يحسن فيه السكوت (¬2). ¬

(¬1) أخرج مسلم في صحيحه رقم (38/ 8) من حديث عمر بن الخطاب وفيه: " فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ". وأخرج الترمذي في " السنن " رقم (2458) عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " استحيوا من الله حق الحياء " قال: قلنا: يا رسول الله! إنا نستحي والحمد لله؟! قال: " ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى. ومن أراد الآخرة، ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك، فقد استحيا من الله الحياء ". وهو حديث حسن. وأخرج البخاري في صحيحه رقم (9) ومسلم رقم (35) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الإيمان بضع وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان ". قال الماوردي في " أدب الدنيا والدين " (ص 242 - 244): الحياء في الإنسان قد يكون ثلاثة أوجه: 1 - الحياء من الله تعالى فيكون بامتثال أوامره والكف عن زواجره. 2 - حياؤه من الناس. فيكون بكف الأذى وترك المجاهرة بالقبيح وهذا من كمال المروءة وحب الثناء. 3 - حياؤه من نفسه: فيكون بالعفة وصيانة الخلوات. قال بعض الحكماء: ليكن استحياؤك من نفسك أكثر من استحيائك من غيرك. قال بعض الأدباء: من عمل في السر عملا يستحي منه في العلانية، فليس لنفسه عنده قدر. وهذا النوع من الحياء يكون من فضيلة النفس، وحسن السريرة فمتى كمل حياء الإنسان من وجوهه الثلاثة، فقد كملت فيه أسباب الخير وانتفت عنه أسباب الشر وصار بالفضل مشهورا، وبالجميل مذكورا، وقال بعض الشعراء: وإني ليثنيني عن الجهل والخنا ... وعن شتم ذي القربى طلائق أربع حياء وإسلام وتقوى وأنني ... كريم، ومثلي من يضر وينفع (¬2) قال تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) [القصص: 55]. وقال سبحانه وتعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاة فَاعِلُونَ) [المؤمنون: 1 - 4]. واعلم أن شروط الكلام أربعة: 1 - أن يكون الكلام لداع يدعو إليه، إما في اجتلاب نفع، أو دفع ضرر. قال عمر بن عبد العزيز: من لم يعد كلامه من عمله كثرت خطاياه. وقال بعض الحكماء: عقل المرء مخبوء تحت لسانه. 2 - أن يأتي بالكلام في موضعه. 3 - أن يقتصر منه على قدر حاجته، فإن الكلام إن لم ينحصر بالحاجة، ولم يقدر بالكفاية؛ لم يكن لحده غاية. ولا لقدره نهاية. وأنشدت لأبي الفتح البستي: تكلم وسدد ما استطعت فإنما ... كلامك حي والسكوت جماد فإن لم تجد قولا سديدا تقوله ... فصمتك عن غير السداد سداد 4 - أن يختار اللفظ الذي يتكلم به فلأن اللسان عنوان الإنسان يترجم عن مجهوله، ويبرهن عن محصوله؛ فيلزم أن يكون بتهذيب ألفاظه حريا، وبتقويم لسانه مليا. " أدب الدنيا والدين " (ص 266 - 268). * وأخرج البخاري في صحيحه رقم (6478) ومسلم رقم (2988) ومالك (2/ 985) عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إن العبد يتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات في الجنة، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم ".

وقال: بقدر ما تطلب تعلم، وبقدر [2] ما تعلم تطلب. وقال: ليس من شرائط الحكيم أن لا يضجر، ولكن يضجر بوزن. وقال: ليس الحكيم من حمل عليه بقدر ما يطيق فصبر واحتمل، ولكن الحكيم من حمل عليه أكثر ما تحتمل الطبيعة فصبر. وقال: الدنيا مرة لك وأخرى عليك (¬1)، فإن توليت فأحسن (¬2)، وإن تولوك ¬

(¬1) قال تعالى: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران: 140]. قال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (4/ 218): قيل: هذا في الحرب، تكون مرة للمؤمنين لينصر الله عز وجل دينه، ومرة للكافرين إذا عصى المؤمنون ليبتليهم، ويمحص ذنوبهم، فإذا لم يعصوا؛ فإن حزب الله هم الغالبون. وقيل: (نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) من فرح وغم وصحة وسقم وغنى وفقر، والدولة الكرة، قال الشاعر: فيوم لنا ويوم علينا ... ويوم نساء ويوم نسر وقيل: يوم لك، ويوم عليك، ويوم لا لك ولا عليك. يساق في تقلب الأيام وعدم بقائها على وتيرة واحدة. انظر: " الأمثال اليمانية " (2/ 1389). للقاضي إسماعيل بن علي الأكوع. " مجمع الأمثال " (3/ 541) للميداني. (¬2) قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كلكم راع ومسئول عن رعيته، فالإمام راع، وهو مسئول عن رعيته. . . . " من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. أخرجه البخاري في صحيحه رقم (893) وأطرافه (2409، 2554، 2558، 2751، 5188). وأخرج البخاري في صحيحه رقم (7151) ومسلم رقم (142) عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما من وال يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم، إلا حرم الله عليه الجنة ". وأخرج البخاري في صحيحه رقم (1750) ومسلم رقم (142) عن معقل بن يسار قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما من عبد استرعاه الله رعية، فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة ".

فلن (¬1). وقال: من استطاع أن يمنع نفسه من أربعة أشياء فهو خليق أن لا ينزل به المكروه كما ينزل بغيره: العجلة، واللجاجة (¬2)، والعجب (¬3) والتواني، فثمرة العجلة الندامة ¬

(¬1) طاعة الأئمة واجبة إلا في معصية الله. قال تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء: 59]. وأخرج البخاري في صحيحه رقم (7143) من حديث أنس مرفوعا: " اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله ". (¬2) اللجاج: التمادي في العناد في تعاطي الفعل المزجور عنه، وقد لج في الأمر يلج لجاجا. قال تعالى: (وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [المؤمنون: 75]. " مفردات ألفاظ القرآن " (ص736). وقيل: الحق أبلج والباطل لجج أي يردده من غير أن ينفذ. قيل: اللجاج: التمادي في الخصومة. " لسان العرب " (12/ 240). أخرج مسلم في صحيحه رقم (2594) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن الرفق لم يكن في شيء قط إلا زانه، ولا نزع منه إلا شانه ". (¬3) من أسباب الكبر - يكون بالمنزلة وما تظنه من علوها -: 1 - علو اليد ونفوذ الأمر. 2 - قلة مخالطة الأكفاء. أما الإعجاب يكون في النفس وما تظنه من فضائلها. ومن أسبابه. 1 - كثرة مديح المقربين. 2 - إطراء المتملقين الذين استبضعوا الكذب والنفاق، واستصحبوا المكر والخداع. لذلك قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " احثوا في وجوه المداحين التراب " أخرجه مسلم في صحيحه رقم (3002) من حديث المقداد. " أدب الدنيا والدين " (ص288). " تسهيل النظر " (ص51 - 53).

وثمرة اللجاجة الحيرة، وثمرة العجب البغضاء، وثمرة التواني الذلة. وقال: اصبر على النوائب إذا أتتك من غير أن تتذمر، بل اطلب مداواتها بقدر ما تطيق (¬1)، وقال: كثرة العدو تقل الهدو وقال: انكأ لعدوك أن لا تريه أنك تتخذه عدوا وقيل له: ما أحلى الأشياء؟ فقال: الذي يشتهي الإنسان. ومما نقله من كلمات سقراط الحكمية: عجبا لمن عرف فناء الدنيا كيف تلهيه عما ليس له فناء (¬2) ¬

(¬1) " الصبر ضياء. . . ". إذا استحكمت الأزمات وتعقدت حبالها، وترادفت الضوائق وطال ليلها فالصبر وحده هو الذي يشع للمسلم النور العاصم من التخبط، والهداية الواقية من القنوط. والصبر فضيلة يحتاج إليها المسلم في دينه ودنياه. قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [محمد: 31]. وقال سبحانه وتعالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [آل عمران: 186]. وقال سبحانه وتعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَة إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة: 45]. قال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاة وَالْعَشِي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الكهف: 28]. وانظر " عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين " لابن القيم. وانظر الرسالة رقم (178) من " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني ". (¬2) عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يقرأ: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) قال: " يقول ابن آدم، مالي مالي. وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت ". أخرجه مسلم رقم (2958) والترمذي رقم (3351) والنسائي (6/ 238) وهو حديث صحيح. وأخرج أحمد (6/ 71) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الدنيا دار من لا دار له. ولها يجمع من لا عقل له ".

وقال: ما ضاع من عرف نفسه، وما أضيع من جهل نفسه!. وقال: لو سكت من يعلم لسقط الاختلاف. وقال: من ملك سره خفي على الناس أمره (¬1). وقال: خير من الخير من عمل به، وشر من الشر من عمل به. وقال: العقول مواهب، والعلوم مكاسب. وقال: الدنيا سجن لمن زهد فيها، وجنة لمن أحبها (¬2) وقال: لكل شيء ثمرة، وثمرة قلة القنية تعجيل الراحة، وطيب النفس الزكية. وقال طالب الدنيا إن نال ما أمل تركه لغيره، وإن لم ينل ما أمله مات بغصته (¬3). ¬

(¬1) قال الماوردي ليس يصح الصبر في الأمور يترك التسرع إليها دون كتمان السر فيها فهو أقوى أسباب الظفر بالمطالب وأبلغ في كيد العدو الموارب. " قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " سرك أسيرك، فإذا تكلمت به صرت أسيره ". قال الشاعر: إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه ... فصدر الذي يستودع السر أضيق وقال عمرو بن العاص: " ما استودعت رجلا سرا فأفشاه فلمته، لأني كنت أضيق صدرا حين استودعته وتمثل: إذا أنت لم تحفظ لنفسك سرها ... فسرك عند الناس أفشى وأضيع وأخرج الطبراني في " الكبير " (20/ 183) و" الصغير " (2/ 149) والقضاعي في " مسند الشهاب " (1/ 410 - 412 رقم 707 و708) والعقيلي في " الضعفاء " (151). انظر: " الصحيحة " (3/ 436 رقم 1453). عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " استعينوا على الحاجات بالكتمان ". (¬2) أخرج مسلم في صحيحه رقم (2956) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ". (¬3) قال تعالى: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر: 3]. قال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (10/ 2 - 3) أخرج البزار في مسنده عن أنس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أربعة من الشقاء جحود العين وقساوة القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا ". وطول الأمل داء عضال ومرض مزمن ومتى تمكن من القلب فسد مزاجه واشتد علاجه ولم يفارقه داء ولا نجع فيه دواء. . وحقيقة الأمل: الحرص على الدنيا والانكباب عليها، والحب لها والإعراض عن الآخرة، يروى عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قام على درج مسجد دمشق فقال: يا أهل دمشق، ألا تسمعون من أخ لكم ناصح، إن من كان قبلكم كانوا يجمعون كثيرا ويبنون مشيدا ويأملون بعيدا، فأصبح جمعهم بورا وبنيانهم قبورا وأملهم غرورا. هذه عاد قد ملأت البلاد أهلا ومالا وخيلا ورجالا فمن يشتري مني اليوم تركتهم بدرهمين! وأنشد: يا ذا المؤمل آمالا وإن بعدت ... منه ويزعم أن يحظى بأقصاها أنى تفوز بما ترجوه ويك وما ... أصبحت في ثقة من نيل أدناها وقال الحسن: ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل وصدق رضي الله عنه! فالأمل يكسل عن العمل ويورث التراخي والتواني، ويعقب التشاغل والتقاعس ويخلد إلى الأرض، ويميل إلى الهوى، وإن قصر الأمل يبعث على العمل، ويحيل على المبادرة ويحث على المسابقة.

وقال: لا تردن على ذي خطأ خطأه، فإنه يفيد منك علما، ويتخذك عدوا. وقال: إذا وليت [3] أمرا فأبعد عنك الأشرار؛ فإن جميع عيوبهم منسوبة إليك (¬1). ¬

(¬1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (7198) عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان؛ بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصم الله ". وأخرج أبو داود رقم (2932) وابن حبان في صحيحه رقم (4477) والنسائي (7/ 159) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إذا أراد الله بالأمير خيرا جعل له وزير صدق إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإذا أراد الله به غير ذلك، جعل له وزير سوء إن نسي لم يذكره وإن ذكر لم يعنه ". وهو حديث صحيح. قال الماوردي في " درر السلوك في سياسة الملوك " (ص 99): وبالملك أسد الحاجة إلى تفقد أربع طبقات، ولا يستغني عن تفقد أحوالهم بنفسه، لأنهم عماد مملكته وقوام دولته. فالطبقة الأولى: الوزراء لأنهم خلفاؤه، وعلى أيديهم تصدر أفعاله، فإن أحسنوا نسب إليه إحسانهم وإن أساءوا أضيف إليه مساوئهم مع عظم الضرر الداخل عليه في مملكته والقدح الموهن لدولته.

وقال: إنما أهل الدنيا كصور في صحيفة، كلما نشر بعضها طوي بعضها. وقال: الصبر يعين على كل عمل. وقال: طالب الدنيا قصير العمر، كثير الفكر (¬1). وقال: إذا ضاق صدرك بسرك فصدر غيرك به أضيق (¬2). وقال: رأس الحكمة حسن الخلق. (¬3). وقيل له: إن الكلام الذي كلمت به أهل المدينة لا يقبل. فقال: ليس يكربني أن لا يقبل وإنما يكربني أن لا يكون صوابا. وقال: لا يصدنك عن الإحسان جحود جاحد للنعمة. وقال: الجاهل من عثر بحجر مرتين (¬4). وقال: من قل همه على ما فاته استراحت نفسه صفا ذهنه (¬5). ¬

(¬1) تقدم التعليق عليها. (¬2) تقدم التعليق عليها. (¬3) قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4]. وأخرج البخاري في صحيحه رقم (3559) ومسلم رقم (2321) عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن من خياركم أحسنكم أخلاقا ". (¬4) أخرج البخاري في صحيحه رقم (6133) ومسلم رقم (2998) وأبو داود رقم (4862) وابن ماجه رقم (3982). عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين ". قال الخطابي: هذا لفظه خبر ومعناه أمر، أي ليكن المؤمن حازما حذرا لا يؤتى من ناحية الغفلة فيخدع مرة بعد أخرى، وقد يكون ذلك في أمر الدين كما يكون في أمر الدنيا وهو أولاهما بالحذر. " فتح الباري " (10/ 530). (¬5) قال تعالى: (لِكَي لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ) [الحديد: 23]. قال ابن جرير الطبري في " جامع البيان " (13 \ جـ27/ 235): فالفائت من الدنيا من فاته منها شيء، والمدرك منها ما أدراك عن تقدم الله عز وجل وقضائه. وقد بين ذلك جل ثناؤه لمن عقل عنه بقوله: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَة فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا) فأخبر أن الفائت منها بإفاتته إياهم فاتهم، والمدرك منها بإعطائه إياهم أدركوا، وأن ذلك محفوظ لهم في كتاب من قبل أن يخلقهم.

وقال: داووا الغضب بالصمت (¬1). وقال: الذكر الصالح خير من المال؛ فإن المال ينفذ والذكر يبقى، والحكمة غنى لا يعدم ولا يضمحل (¬2) وقال: ما في نفسك فلا تبديه لكل أحد، فما أقبح أن يخفي الناس أمتعتهم في البيوت، ويظهرون ما في قلوبهم. وقال: القنية ينبوع الأحزان فلا تقتنوا الأحزان. وقال: قللوا القنية تقل مصائبكم (¬3). ومما نقله من كلمات أفلاطون (¬4) الحكمية: للعادة على كل شيء سلطان. وقال: الملك هو كالنهر الأعظم تستمد منه الأنهار الصغار، فإن كان عذبا عذبت وإن كان مالحا ملحت (¬5). وقال: إن أردت أن تدوم لك اللذة فلا تستوفي المستلذ أبدا، بل دع فيه فضلة تدوم لك اللذة. ¬

(¬1) أخرج أبو داود في " السنن " (4782) وابن حبان في صحيحه رقم (5688) عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع " وهو حديث صحيح والله أعلم. أخرج البخاري في صحيحه رقم (6048) ومسلم رقم (2610) عن سليمان بن صرد رضي الله عنه قال: استب رجلان عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجعل أحدهما يغضب ويحمر وجهه وتنتفخ أوداجه، فنظر إليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ". (¬2) تقدم ذكره. (¬3) انظر تعليقة قصر الأمل. (¬4) أفلاطون بن أرسطن ومعناه الفسيح، وذكر ثاون أن أباه يقال له أسطون، وأنه كان من أشراف اليونانيين، وكان في قديم أمره يميل إلى الشعر، حضر مجلس سقراط فرآه يثلب الشعر فتركه ثم انتقل إلى قول فيثاغورس في الأشياء المعقولة. وعنه أخذ أرسطاليس وخلفه بعد موته، توفي أفلاطون في السنة التي ولد فيها الإسكندر، وهي السنة الثالثة عشر من ملك لاوخوس. " الفهرست " لابن النديم (ص343). (¬5) تقدم التعليق على ذلك.

وقال: لا تصحبوا الأشرار؛ فإنهم يمنون عليكم بالسلامة منهم (¬1). وقال: لا تطلب سرعة العمل، ولكن اطلب تجويده؛ فإن الناس ليس يسألون في كَمْ فرغ من هذا العمل؟ وإنما يسألون عن جودة صنعته. وقال: إحسانك إلى الحر يحركه على المكافأة، وإحسانك إلى الخسيس يحركه على معاودة المسألة. وقال: ليس يكمل خير الرجل حتى يكون صديقا لمتعاديين [4]. وقال: اطلب في الحياة العلم والمال تحز الرئاسة؛ لأنهم بين خاص وعام، فالخاصة تفضلك بما تحسن، والعامة تفضلك بما تملك (¬2). وقال: من جمع إلى شرف أصله شرف نفسه فقد قضى الحق الذي عليه واستدعى التفضيل بالحجة، ومن أغفل نفسه واعتمد على شرف آبائه فقد عقهم، واستحق أن لا يقدم بهم على غيره. وقال: لا يزال الجائر ممهلا حتى يتخطى إلى أركان العمارة، ومباني الشريعة، فإذا قصد لها تحرك عليه قيم العالم فأباده. وقال: إذا حصل عدوك في قدرتك خرج من جملة أعدائك، ودخل في عدة حشمك. ¬

(¬1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (5534) ومسلم في صحيحه رقم (146/ 2628) عن أبي موسى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحا خبيثة ". وأخرج أبو داود رقم (4832) والترمذي رقم (2395) وأحمد (3/ 38) وابن حبان رقم (554) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي ". وهو حديث حسن. (¬2) تقدم التعليق عليه.

وقال: من مدحك بما ليس فيك من الجميل، وهو راض عنك ذمك بما ليس فيك من القبيح وهو ساخط عليك (¬1) وقال: الأمل خداع النفوس (¬2). وقال: أكثر الفضائل مرة المبادئ حلوة العواقب، وأكثر الرذائل حلوة المبادئ مرة العواقب. وقال: خرجت إلى الدنيا مضطرا، وعشت فيها متحيرا، وهاأنا أخرج منها كارها ولم أعلم فيها إلا أنني لا أعلم. ومما نقله من كلمات أرسطاطاليس (¬3) الحكمية: إذا أردت الغنى فاطلبه بالقناعة، فإنه من لم تكن له قناعة فليس المال مغنيه وإن كثر (¬4). وقال: من نكد الدنيا أنه لا يصلح منها جانب إلا بفساد جانب آخر، ولا سبيل لصاحبها إلى عز إلا بإذلال، ولا باستغناء ¬

(¬1) تقدم التعليق على ذلك. (¬2) تقدم التعليق على ذلك. (¬3) أرسطو أو أرسطوطاليس، فيلسوف يوناني له مؤلفات كثيرة منها: " المقولات "، " باري إرما يناس " الجدل - العبارة أو التفسير. " السماء والعالم " وغيرها. عاش ما بين 384 - 322 ق. م. أرسطوطاليس: معناه محب الحكمة. ويقال الفاضل الكامل. كان اسم أمه أفسيطيا وترجع إلى أسقلبيادس، وكان من مدينة لليونانيين تسمى إسطاغاريا وكان أبوه نيقوماخس متطبب لفيلبس أبي الإسكندر وهو من تلاميذ أفلاطون. " الفهرست " (345 - 350). (¬4) أخرج مسلم في صحيحه رقم (1054) والترمذي رقم (2349). عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنعه الله بما أتاه ". وهو حديث صحيح. الكفاف: من الرزق ما كفى عن السؤال مع القناعة لا يزيد عن قدر الحاجة. وأخرج الترمذي رقم (2350) والحاكم (1/ 35) عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " طوبى لمن هدي للإسلام، وكان عيشه كفافا وقنع ". وأخرج البخاري رقم (6446) ومسلم رقم (1051) عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس ".

إلا بافتقار. وقال: اقتنص من عدوك الفرصة، واعمل على أن الدهر دول (¬1). وقال: الصدق قوام أمر الخلائق، والكذب داء لا ينجو من نزل به (¬2). وقال: من تجبر على الناس أحب الناس ذلته. وقال: من مات محمودا كان أحسن حالا ممن عاش مذموما. وقال: من نازع السلطان مات قبل يومه. وقال: الحكمة شرف من لا قديم له. وقال: رغبتك فيمن يزهد فيك ذل نفس، وزهدك فيمن يرغب فيك قصر همة. وقال: [5] النميمة تهدي إلى القلوب البغضاء (¬3)، ومن واجهك فقد شتمك، ومن نقل إليك نقل عنك (¬4). وقال: الجاهل عدو نفسه، فكيف يكون صديقا لغيره!. وقال: الوفاء نتيجة الكرم (¬5). ¬

(¬1) تقدم التعليق على ذلك. (¬2) أخرج البخاري رقم (6094) ومسلم رقم (2607) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، وما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا ". (¬3) قال تعالى: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا) [الحجرات: 12]. انظر الرسالة: [181]. (¬4) انظر: إحياء علوم الدين " (3/ 108 - 162) آفات اللسان. (¬5) قال تعالى: (اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّاي فَارْهَبُونِ) [البقرة: 40]. وأخرج البخاري في صحيحه رقم (2227) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه العمل، ولم يوفه أجره ".

وقال: الحاجة تفتح باب الحيلة. وقال: بالتواضع تتم النعم (¬1). وقال: باحتمال المؤن تجد السؤدد، وقال، بالسيرة العادلة يقل المناوئ. وقال: بترك ما لا يعنيك يتم لك الفضل (¬2). وقال: خير الأشياء أجدها إلا المودات؛ فإن خيرها أقدمها. وقال: لكل شيء خاصة، وخاصة العقل حسن الاختيار. وقال: دفع الشر بالشر جلد، ودفع الشر بالخير فضيلة (¬3) وقال: ليكن ما تكتب من خير ما تقرأ، وما تحفظ من خير ما تكتب. وقال: إذا أعطاك الله ما تحب من الظفر فافعل ما أحب من العفو (¬4). ومما نقله من كلمات جالينوس (¬5) الحكمية: الهم فناء القلب، والغم مرض القلب، والغم مرض القلب، ¬

(¬1) تقدم التعليق عليه. (¬2) أخرج الترمذي في " السنن " رقم (2317) وابن ماجه رقم (3976). عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من حسن إسلام المرء، تركه ما لا يعنيه ". وهو حديث صحيح. وانظر: " فتح الباري " (13/ 264 - 266). (¬3) قال تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَة وَلَا السَّيِّئَة ادْفَعْ بِالَّتِي هِي أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَة كَأَنَّهُ وَلِي حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت: 34 - 35]. وقال تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِي أَحْسَنُ السَّيِّئَة نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ) [المؤمنون: 96]. (¬4) قال تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 134]. وأخرج مسلم في صحيحه رقم (2588) والترمذي رقم (2029) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل ". (¬5) ظهر جالينوس بعد ستمائة وخمس وستين سنة من وفاة بقراط، انتهت إليه الرياسة في عصره وهو الثامن من الرؤساء أولهم أسقلبيادس مخترع الطب، وكان معلم جالينوس أرمينس الرومي. من كتبه: الفرق، الحمايات، التشريع الكبير، تشريع الحيوان الميت، اختلاف التشريع. " الفهرست " لابن النديم (ص402 - 403).

وثم بين ذلك. فقال: الغم (¬1) مما كان، والهم (¬2) مما يكون. وقال: من رغب عن الحقائر نافس في العظائم. وقال: العليل الذي يشتهي أرجأ من الصحيح الذي لا يشتهي. وقال العادل من قدر أن يجور فلم يفعل. وقيل له: متى ينبغي للإنسان أن يموت؟ قال: إذا جهل ما يضره مما ينفعه. ومما نقله من كلام يعقوب بن إسحاق الكندي (¬3) العاقل يظن أن فوق علمه علماء، فهو أبداً يتواضع لتلك الزيادة، والجاهل يظن أنه قد تناهى فتمقته النفوس لذلك. ومما نقله من كلام ثابت بن قرة الحراني (¬4) راحة الجسم في قلة الطعام، وراحة النفس في قلة الآثام، وراحة القلب في قلة الاهتمام، وراحة اللسان في قلة الكلام. [6] ¬

(¬1) انظر " لسان العرب " (5/ 137). (¬2) انظر " لسان العرب " (10/ 127). (¬3) يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي، أبو يوسف، فيلسوف من العرب والإسلام في عصره وأحد أبناء ملوك من كندة. نشأ في البصرة وانتقل إلى بغداد فتعلم واشتهر بالطب والفلسفة والموسيقى والهندسة والفلك. ألف وترجم وشرح كتباً كثيرة يزيد عددها على ثلاثمائة. منها: الأدوية المركبة، رسم المعمور، خرائط وصور عن الأرض، الترفق، في العطر. " الأعلام للزركلي " (8/ 195)، " مرآة الجنان " (2/ 269). (¬4) ثابت بن قرة بن زهرون الحراني - الصابئ أبو الحسن: طبيب حاسب فيلسوف ولد ونشأ بحران - (221 هـ - 288 هـ). من مؤلفاته: المباني الهندسية، الشكل القطاع، الهيئة، المسائل الطبية. " الأعلام " للزركلي (2/ 98)، " سير أعلام النبلاء " (13/ 485).

ومما نقله من كلام أمين الدولة ابن التلميذ: ينبغي للعاقل أن يختار من اللباس ما لا يحسده عليه العامة، ولا يحتقره فيه الخاصة. ومما نقله من كلام محمد بن زكريا الرازي (¬1) إن استطاع الحكيم أن يعالج بالأغذية فقد وافق السعادة. ونقل فيه من كلام الفارابي (¬2) وابن سينا (¬3) ونحوهما ما لم أستحسن نقله هاهنا. [تم والحمد لله]. ¬

(¬1) محمد بن زكريا الرازي، أبو بكر فيلسوف، من الأئمة في صناعة الطب من أهل الري، ولد وتعلم بها وله كتب: الفاقر في علم الطب، الفصول في الطب، أسئلة من الطب. " الأعلام " للزركلي (6/ 130). (¬2) تقدمت ترجمته. (¬3) تقدمت ترجمته.

بحث مشتمل على الكلام فيما يدور بين كثير من الناس هل الامتثال خير من الأدب أو الأدب خير من الامتثال؟

(191) 28 - /5 بحث مشتمل على الكلام فيما يدور بين كثير من الناس هل الامتثال خير من الأدب أو الأدب خير من الامتثال؟ وكذلك على ما يدور بينهم من قولهم: " لا خير في السرف ولا سرف في الخير " تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 - عنوان الرسالة من المخطوط: بحث: مشتمل على الكلام فيما يدور بين كثير من الناس هل الامتثال خير من الأدب أو الأدب خير من الامتثال؟ وكذلك على ما يدور بينهم من قولهم: " لا خير في السرف ولا سرف في الخير ". 2 - موضوع الرسالة: آداب. 3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم أحمدك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآله وأفضل صلاة وأكمل سلام. 4 - آخر الرسالة: وفي هذا المقدار كفاية، لمن له هداية، وحسبي الله ونعم الوكيل. 5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 - عدد الصفحات: 11 صفحة ما عدا صفحة العنوان. 7 - عدد الأسطر في الصفحة: 25 سطراً. 8 - عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة. 9 - الرسالة من المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم أحمدك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك، وآله أفضل صلاة وأكمل سلام. وبعد: فإنه كثيراً ما يجري على ألسن الناس ويتساءلون عنه قولهم: هل الأدب خير من الامتثال، أو الامتثال خير من الأدب؟ فأردت كشف الكلام عن هذا المرام بمعونة ذي الجلال والإكرام. فأقول: هذا الأدب المذكور في هذا السؤال لا بد أن يحمل على ما لم يدل عليه دليل، لأنه لو دل عليه دليل بخصوصية أو عموم يندرج تحته لم يصح السؤال من أصله، لأن الأدب الذي دل الدليل عموماً أو خصوصاً مطلوب بدليله، ففعله من الامتثال فلا يصح أن يقابل به الامتثال في هذه العبارة، فتقرر لك بهذا أن الأدب المسئول عنه هو الذي لم يدل عليه دليل، ولكن فعله فيه تأدب من الفاعل تستحسنه العقول، وتقبله الطباع. وإذا كان الأمر هكذا فالسؤال طائح من أصله، مندفع بجملته، لأن امتثال أمر الشارع هو الشرع الذي أمرنا الله - سبحانه - باتباعه، ونهانا عن مخالفته كما قال - سبحانه -: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬1)، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (¬2)، {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (¬3) {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} (¬4)، {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬5) ¬

(¬1) [الحشر: 7]. (¬2) [آل عمران: 31]. (¬3) [النساء: 59]. (¬4) [النور: 51]. (¬5) [النساء: 65].

فما ثبت الأمر به في الكتاب والسنة وجوباً أو ندباً فهو الحسن الجميل، والأدب [1أ] الصالح، والعمل المقبول، وما خالف ذلك فهو على العكس من هذا كائناً ما كان، وعلى أي صفة وقع، وبأي صورة وجد. إذا عرفت هذا فما ذكره هذا السائل في سؤاله، وجعله معادلاً للامتثال لا يصلح لذكره في مقابلة الأدلة التي يجب امتثالها إن كانت مفيدة للوجوب، أو يندب فعله إن كانت مفيدة للندب، وذلك الذي ظن الظان أنه أدب ليس بأدب شرعي، إنما هو أدب شيطاني عورض به الدليل الشرعي. ومعلوم أنه لو قال قائل: أيهما أفضل عملي بالدليل أو تركي له، وعدولي إلى ما لا دليل عليه؟ لقال كل سامع يسمعه: ليس هذا السؤال من سؤل من له فهم، فإن كون التمسك بالدليل أولى من مخالفته، وأحسن من فعل غيره لا يخفى على مقصر ولا على كامل، ولكنه لما أورد السائل سؤاله بهذه العبارة المجملة، ثم يتيقظ المسئولون لما هو المراد منهما، وكثيراً ما قد سمعنا إيراده في مجامع أهل العلم فلا يظفر السائل بغير الحيرة وعدم الفائدة، والأمر أظهر من أن يتوقف فيه متوقف، أو يتردد عنده متردد، لأنه لا يشكل على من لديه أدنى علم بأن ما دل عليه الدليل أولى مما لا دليل عليه فضلاً عن فعل ما يخالف ذلك الدليل نفسه، وهذا من الظهور والجلاء بمنزلة لا تخفى إلا على غريق في العامية، مترد بثياب الجهل. ومن أعظم أسباب التحير في جواب هذا السؤال أنهم يمثلونه بأمثلة عند المحاورة يتعاظم المسئول مخالفتها، ولو تأملها المسئول حق التأمل لوجدها مما دل عليه دليل بعمومه أو بخصوصه، وما كان كذلك، فليس مما يدخل تحت هذا السؤال، ولا مما يندرج في جملته، والجواب عنه ظاهر واضح، لأن الدليل [1ب] الذي دل عليه إن كان أعم من مقابله خصص به، وإن كان أخص من مقابله كان هذا الدليل الخاص تخصيصاً

لمقابله، وإن كانا عمومين شمل كل واحد منهما واحد من المتقابلين رجعنا إلى الترجيح، ووجوه الترجيح (¬1) معروفة، وإن كان بينهما عموم وخصوص من وجه فلا تعارض بينهما في مادة الاجتماع، لأنها متناولة لهما، ويتعارضان في مادتي الافتراق فيرجع إلى الترجيح بينهما. أما في نفس ذينك الدليلين أو بدليل خارج عنهما، وإن كانا خاصين يتناول دليل كل واحد منهما ذلك المدلول عليه على الخصوص، ويدفع مقابله، فهذا من تعارض الأدلة الخاصة، والواجب الرجوع إلى وجوه الترجيح، وهي لا تخفى على المحققين، ولكن هذا كله خارج عن مسألة السؤال لا جامع بينه وبينها بوجه من الوجوه، لأنه من تعارض الأدلة، لا من باب تعارض الامتثال والأدب، لأن فعل كل واحد منهما من باب امتثال ما ورد عن الشرع، فإن ترجح في نفسه سقط مخالفه، وإن ترجح مخالفه سقط هو. ولا يصح إن بعد فعل المرجوح من باب الأدب، ولا مدخل للأدب في ذلك، لأن الاعتبار بأدب الشرع، وهو ما دل عليه الكتاب أو السنة قولا، أو فعلا، أو تقريرا، لا بالأدب الذي تقبله العقول، وتستحسنه الأنفس، فإن ذلك خارج عن الشرع. والتجاوز في هذه المسألة والتساؤل عنها إنما هو فيما يدل عليه الشرع، ولو علم المسئول بادئ بدء أن سؤال السائل إنما هو عن أمر ورد الشرع به، وعن أمر يخالفه لما اشتغل بجوابه، ولا تحير عند إيراده؛ لأن هذا السؤال هو في وزان قول لقائل: هل الحق خير من الباطل، أو الباطل خير من الحق؟ أو قول القائل: هل اتباع [2أ] الشرع أولى من اتباع غيره، أو اتباع غير الشرع أولى من اتباعه؟ وأنت تعلم أنه عند أن يقرع الأسماع هذا الكلام الزائف، والسؤال المائل عن سنن الصواب لا يجاب السائل إلا بالسخرية منه، والضحك من قوله، والتعجب من جهله. فإن قلت: قد مثل هؤلاء المتحاورون في هذه المسألة، المتنازعون فيها بمثال معروف ¬

(¬1) انظر وجوه الترجيح في " إرشاد الفحول " (ص 892 - 918)، " البحر المحيط " (4/ 253 - 260) " تيسير التحرير " (3/ 166)

هو أن الأدلة الواردة في تعليمه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كيف يصلون عليه وردت كلها بلفظ: اللهم صل على محمد، فزادوا لفظ سيدنا وقالوا: اللهم صل على سيدنا محمد، وقالوا: هذه الصلاة مشتملة على الأدب الحسن، والأدلة دلت على عدم ثبوت هذه الزيادة، فأيهما أفضل الإتيان بها تأدبا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أو تركها امتثالا لأوامره التي لم تشتمل على هذا اللفظ؟ قلت: وهذا المثال أيضًا ليس مما يصدق عليه معنى ذلك السؤال، ويندرج في معنى ذلك الإشكال، لأنه قد صح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - صحة وقع الإجماع عليها أنه قال: " أنا سيد ولد آدم " (¬1) فدخل في ذلك جميع الأنبياء الصالحين، وكل المؤمنين والمسلمين على اختلاف أنواعهم، وتباين طبقاتهم، فهو - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - سيد كل فرد من أفراد العباد كائنا من كان، وعلى كل إنسان أن يعتقد ذلك، ويدين به، ولكنه لم يرد في الصلوات المنصوصات هذا اللفظ، بل وقع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الاقتصار على ذلك المقدار، ولو كان لذلك مدخل في الصلوات لعلمه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الناس كما علمهم سائر ألفاظ الصلوات. ولا يصح أن يقال: إنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ترك التصريح بهذا اللفظ تواضعا، أو نحو ذلك، فإن ما شرعه الله لعباده لا يترك بمجرد ذلك، ولا يصح نسبته إليه، ولو كان للتواضع ونحوه مدخل في التشريع لم يقل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " أنا سيد ولد آدم " فإن هذا الحديث قد شمل أمته، وشمل غيرهم [2ب] من سائر الملل المختلفة، والطوائف المتباينة، منذ عصر أبينا آدم، - عليه السلام - إلى هذه الغاية، وما وقع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من النهي عن تفضيله على موسى - عليه السلام (¬2) - ذاكرا ¬

(¬1) تقدم تخريجه في الرسالة رقم (183). (¬2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2411) ومسلم في صحيحه رقم (160/ 2373) عن أبي هريرة رضي الله عنه: استب رجلان رجل من المسلمين، ورجل من اليهود، قال المسلم: والذي اصطفى محمدا عن العالمين فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين. فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودي فذهب اليهودي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم فدعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسلم. فسأله عن ذلك فأخبره، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة. فأصعق معهم، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش جانب العرش فلا أدري، أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله ".

لتلك العلة المذكورة في كتب الحديث عند البعثة، وكذلك ما وقع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من النهي عن تفضيله على يونس بن متى (¬1)، فقد اختلف أهل العلم في تأويله، وكيفية الجمع بينه وبين حديث: " أنا سيد ولد آدم " فمنهم من جعل ذلك من باب التواضع (¬2)، وله مدخل في مثل هذا بخلاف ما قدمنا، ومنهم من جزم بأنه قال ذلك قبل أن يعلم أنه سيد الكل، وصاحب الرئاسة الدينية على الجميع (¬3)، ومنهم من ¬

(¬1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3416) ومسلم رقم (2376) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى ". (¬2) قال القرطبي في " المفهم " (6/ 229): قال بعض العلماء: إنما قال ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على جهة التواضع، والأدب مع الأنبياء وهذا فيه بعد، لأن السبب الذي خرج عليه هذا النهي يقتضي خلاف ذلك، فإنه إنما قال ذلك ردعاً وزجراً للذي فضل. ألا ترى أنه قد غضب عليه حتى أحمر وجهه - يشير إلى ما أخرجه البخاري رقم (3414) ومسلم رقم (159/ 2373) - وفيه ". . . فغضب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى عرف الغضب في وجهه. ثم قال: لا تفضلوا بين أنبياء الله. . " - ونهى عن ذلك فدل على أن التفضيل يحرم. ولو كان من باب الأدب والتواضع لما صدر منه ذلك. (¬3) انظر " فتح الباري " (6/ 452). قال القرطبي في " المفهم " (6/ 230): يحمل الحديث على ظاهره من منع إطلاق لفظ التفضيل بين الأنبياء، فلا يجوز في المعين فيهم. ولا غيرهم، ولا يقال: فلان النبي أفضل من الأنبياء كلهم، ولا خير من فلان، ولا خير من فلان كما هو ظاهر هذا النهي. لما ذكر من توهم النقص في المفضول وإن كان غير معين، ولأن النبوة خصلة واحدة لا تفاضل فيها. . . وإنما تفاضلوا فيما بينهم بما خص به بعضهم دون بعض، فإن منهم من اتخذه الله خليلاً، ومنهم من اتخذه حبيباً. ومنهم أولو العزم، ومنهم من كلم الله على ما هو المعروف من أحوالهم، وقد قال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) [البقرة: 243]، فإن قيل: إذا كانوا متفاضلين في أنفسهم فكيف ينهى عن التفضيل؟ وكيف لا يقول من هو في درجة عليا: أنا خير من فلان، لمن هو دونه على جهة الإخبار عن المعنى الصحيح؟ فالجواب: أن مقتضى هذا الحديث المنع من إطلاق ذلك اللفظ لا المنع من اعتقاد معناه أدباً مع يونس، وتحذيراً من أن يفهم في يونس نقص من إطلاق ذلك اللفظ.

يقول إن حديث: " أنا سيد ولد آدم " عام مخصص بموسى ويونس بن متى، وهذا بعيد جداً، لأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إذا كان سيداً لمثل إدريس وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، وسائر أنبياء بني إسرائيل الذين آخرهم عيسى - صلوات الله عليهم جميعاً وسلامه وهم بين الجلالة والفضيلة بمنزلة يتقاصر عنها الوصف، فكيف ينهى عن تفضيله على موسى ويونس! مع أنه قد ثبت عنه أنه لو بعث موسى في زمانه لتمسك بشريعته، وتحقق باتباعه - فبالأولى يونس مع أن يونس بن متى - عليه السلام - هو من أنبياء إسرائيل المقتدين بشريعة موسى - عليه السلام -، المقتدين بالعمل بالتوراة كما يعرف ذلك من له اطلاع على كتاب نبوته، فإنه كتاب مفرد من جملة كتب أنبياء إسرائيل المشتملة على ما أوحاه الله إليهم في أيام نبوتهم، وما وقع بينهم وبين قومهم. ومع هذا فقد ثبت النهي عن المفاضلة بين الأنبياء على العموم (¬1)، وإن كان الله - سبحانه - قد فضل بعضهم على بعض كما نطق به القرآن الكريم، لأن علمه - سبحانه - محيط بكل شيء، فهو يعلم المفاضلة بين عباده فضلاً عن أنبيائه، بل يعلم ما تضمره القلوب، وتنطوي عليه الجوانح، وتوسوس به النفوس (¬2) وقال سبحانه وتعالى: (يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون) [التغابن: 4]. وقال تعالى: (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) [غافر: 19]. وقال تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه) [ق: 16]. ¬

(¬1) قال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) [البقرة: 253] قال القاضي عياض في الشفاء (1/ 309): قال بعض أهل العلم: والتفضيل المراد لهم هنا في الدنيا. وذلك بثلاثة أحوال: 1 - أن تكون آياته ومعجزاته أبهر وأشهر. 2 - أن تكون أمته أزكى وأكثر. 3 - أن يكون في ذاته أفضل وأطهر وفضله راجع إلى ما خصه الله به من كرامته واختصاصه من كلام أو خلة أو رؤية. (¬2) قال تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ) [التوبة: 78].

وأما العباد فهم بمعزل عن ذلك، وأنى لهم العلم بالمفاضلة [3أ] بين أنبياء الله وصفوته من خلقه، وخيرته من عباده!. فإن قلت: فما يقول في مثل هذا النهي العام؟ قلت: إن كان التاريخ معلوماً غير مجهول فقد يقال: إنه إذا كان المتأخر النهي؛ فينبغي التورع عن التفضيل بينهم على العموم (¬1)، وقد يقال: إنه يحمل هذا العموم على النهي عن التفضيل لبعض الأنبياء على بعض، وأما نبينا الصادق المصدوق - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقد أخرج نفسه من ذلك العموم بقوله: " أنا سيد ولد آدم " (¬2). وقد تقرر أنه يبنى العموم على الخصوص إذا شمله العموم على طريقة الظهور كما في هذا المقام، فإنه لما صرح أنه سيد ولد آدم بهذه الصفة الخاصة به، الشاملة لجميع بني آدم، ثم جاء بعدها النهي الشامل له بطريق الظهور لا بطريق الخصوصية كان خارجاً من ذلك العموم بهذا الخصوص، وأما إذا كان إخباره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بأنه سيد ولد آدم متأخراً عن النهي؛ فخروجه من النهي ظاهر واضح، ويحمل ما تقدم من النهي على أنه لم يعلم بهذه السيادة العاملة الشاملة الثابتة له على جميع ولد آدم إلا بعد صدور ذلك النهي (¬3)، وأما إذا كان التاريخ مجهولاً؛ فبناء العام على الخاص متعين، حتى قيل: إنه إجماع كما وقع ¬

(¬1) قال القرطبي في " المفهم " (6/ 228 - 229). ويتضمن هذا الكلام أن الحديث معارض - لا تخيروا بين الأنبياء - لقوله تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) [البقرة: 253]. ولما في معنى ذلك من الأحاديث وأن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل، وهذا لا يصح حتى تتحقق المعارضة حيث لا يمكن الجمع بوجه ومتى يعرف التاريخ، وكل ذلك غير صحيح. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر: " فتح الباري " (6/ 452).

في بعض كتب الأصول (¬1). هذا ما خطر بالبال عند التكلم على هذا السؤال من غير مراجعة لكتب الحديث وشروحها، فمن وجد ما هو أولى مما ذكرناه، وأحق مما قررناه فليرجع إليه، وإن لم يجد فهذا غاية ما يمكن التكلم به في مثل هذه الأحاديث المتعارضة في الظاهر. وقد تقرر أن الجمع أولى من الترجيح بلا خلاف. فإن قلت: لو فرضنا فرضاً، وقدرنا تقديراً أنه يجب في حديث: " أنا سيد ولد آدم " زيادة على مجرد الاعتقاد والإذعان، وأنه ينبغي التلفظ بهذه السيادة المحمدية. قلت: لو فرضنا ذلك فرضاً، وقدرناه تقديراً لم تدخل في ذلك الصلاة عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لأنه قد علمنا كيف نقول، وبين لنا ما نتكلم به (¬2). وغاية ما هناك أنه ينبغي التكلم بذلك في غير تلك الحال، ولو فرضنا أبعد من هذا الفرض، وقدرنا أخفى من هذا التقدير، وقلنا بالتعبد بذلك على حد يشمل الصلاة؛ كانت الأدلة الصحيحة الثابتة من طرق متواترة مخصصة لذلك العموم، ولكن أين هذا من تعارض [3ب] العموم والخصوص! فإنه ليس في حديث: " أنا سيد ولد آدم " ما يدل على غير الاعتقاد لذلك، والإيمان بمعناه، والإذعان لمدلوله، ولم يرد في شيء من الأدلة أنه يجب التلفظ بذلك فضلاً عن كون التلفظ به يعم الأشخاص والأوقات والأحوال؛ فضلاً عن أن مثل ذلك يقال في الصلاة، ويخالف به ما ورد من التعميمات (¬3). ¬

(¬1) انظر: " إرشاد الفحول " (ص 536). وقد تقدم توضيحه. " البحر المحيط " (3/ 405). (¬2) من استقرأ صيغ الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الواردة لم يجد فيها لفظ " السيادة " لا داخل الصلاة ولا خارجها وكذلك أحاديث الأذان لم يجدها في ذكر " الشهادة بأن محمد رسول الله. والمحدثون كافة، في كتب السنة لا يذكرون لفظ السيادة عند ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انظر: " البيان والتحصيل " (18/ 430) " الدرر السنية " (4/ 415 - 416). (¬3) من استقرأ صيغ الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الواردة لم يجد فيها لفظ " السيادة " لا داخل الصلاة ولا خارجها وكذلك أحاديث الأذان لم يجدها في ذكر " الشهادة بأن محمد رسول الله. والمحدثون كافة، في كتب السنة لا يذكرون لفظ السيادة عند ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انظر: " البيان والتحصيل " (18/ 430) " الدرر السنية " (4/ 415 - 416). وانظر الرسالة رقم (183).

فإن قلت: إذا كان الأمر كما ذكرت كان هذا المثال الذي مثلوا به صحيحاً، لأنه لم يدل دليل على أن مثل ذلك يقال في الصلاة، فليس فيه إلا مجرد الأدب الذي زعموه. قلت: إذا قد علمت أن مثل هذا من المعارضة بين الامتثال الذي لا يكون إلا بما دل عليه دليل، وبين مجرد الأدب المخالف لما دل عليه دليل. فقد انقطع الإشكال بعروقه، واجتث من أصله، ولم يبق في المقام ما يقتضي دوران مثل هذا السؤال بين حملة العلم، والتكلم به في مجامعهم كما عرفت، وإنما عرفناك فيما سبق أنه مثال غير صحيح في المقام لما قدمنا من قيام الدليل عليه، وإن كان في غير محل النزاع. فإن قلت: لو قدرنا أنه ثبت في رواية صحيحة، وحديث يصلح للحجية في تعليمه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - للأمة لألفاظ الصلاة عليه لفظ سيدنا (¬1)! ¬

(¬1) قال القاسمي في " الفضل المبين على عقد الجوهر الثمين " (70 - 71): للعلماء اختلاف في زيادة لفظ (سيدنا) في الصلاة على النبي، وقد وقفت على سؤال رفع لأبي الفضل الحافظ ابن حجر في ذلك؛ فأجاب عنه، وأجاد وهاكه بنصه: " سئل الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى عن صفة الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة أو خارج الصلاة سواء قيل بوجوبها أو بندبها: هل يشترط فيها أن يصفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسيادة بأن يقول مثلاً: اللهم صل على سيدنا محمد، وعلى سيد الخلق أو سيد ولد آدم أو يقتصر على قوله: اللهم صل على محمد، وأيهما أفضل: الإتيان بلفظ السيادة لكونها صفة ثابتة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو عدم الإتيان لعدم ورود ذلك في الآثار؟ فأجاب - رضي الله عنه -: نعم اتباع الألفاظ المأثورة أرجح، ولا يقال: لعله ترك ذلك تواضعاً منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما لم يكن يقول عند ذكره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صلى الله على عليه وسلم وأمته مندوبة إلى أن تقول ذلك كلما ذكر لأنا نقول: لو كان ذلك راجحاً لجاء عن الصحابة ثم عن التابعين، ولم نقف في شيء من الآثار عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه قال ذلك مع كثرة ما ورد عنهم من ذلك، وهذا الإمام الشافعي أعلى الله درجته - وهو من أكثر الناس تعظيماً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في خطبة كتابه الذي هو عمدة أهل مذهبه: اللهم صل على محمد إلى آخر ما أداه إليه اجتهاده وهو قوله: كلما ذكره الذاكرون وكلما غفل عن ذكره الغافلون. وكأنه استنبط ذلك من الحديث الصحيح الذي فيه " سبحان الله عدد خلقه " (أ). (أ): أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2426) والترمذي رقم (3555) وابن ماجه رقم (3808) عن ابن عباس عن جويرية، أن النبي خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح، وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة. فقال: " ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟ " قالت: نعم. قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لقد قلت بعدك أربع كلمات، ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته ". وانظر " الشفاء " للقاضي عياض (2/ 640 - 648).

قلت: إن ثبت ذلك فهو زيادة مقبولة، غير معارضة للمزيد، فيؤخذ بها وتزاد في ألفاظ الصلاة عند أن يصلي عليه المصلون، فمن وجد مثل ذلك فليهده إلينا مثاباً مأجوراً، فإنا عند تحرير هذا لم نبحث مطولات كتب السنة، بل اتكلنا على أنه لم يكن فيما نحفظه زيادة هذا اللفظ. واعلم أنه خطر على البال عند التكلم على هذا البحث ببحث آخر يشابهه مشابهة قوية، ويضارعه مضارعة تامة، وهو ما يدور على ألسن أهل العلم من قولهم: لا خير في السرف، ولا سرف في الخير؛ فإنا قد سمعنا كثيراً ممن يتكلم بما يفيد أنه لا خير في السرف قد يتبع ذلك بقوله: ولا سرف في الخير، وقد يتكلم به من يسمعه؛ يقول ذلك فيذعن له، ولا يتعرض للجواب عليه، مع كون هذا القول باطلاً مخالفاً لكليات الشريعة، ولجزئياتها، وللمناهي الثابتة في الكتاب والسنة، وما يفيد التشدد في ذلك، والزجر عنه مثل قوله - سبحانه -: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} (¬1) ومثل ذم المسرفين في غير آية (¬2)، وورد في السنة [4أ] المطهرة النهي عن ذلك في غير موضع، مثل نهي من أراد أن يتصدق بجميع ماله، وقصره النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - على الثلث، وقال: " الثلث والثلث كثير " (¬3) ومعلوم أن الصدقة خير كبير، ولكن لما كانت ¬

(¬1) [الإسراء: 27]. (¬2) منها قوله تعالى: (وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأنعام: 141]. وقوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31]. (¬3) تقدم تخريجه. انظر الرسالة رقم (160).

على صفة منع الشرع منها، وهي السرف بإخراج جميع المال لم يكن خيراً من هذه الحيثية، وهكذا أمر من أراد أن ينخلع عن جميع ماله أن يمسك عليه بعضه، وهكذا ورد النهي عن التصدق بجميع المال، ومن ذلك حديث: " المتصدق بالبيضة الذهب التي لا يملك غيرها " (¬1). وبالجملة فالأدلة على كثرتها تدل على أنه لا خير في السرف على أي صفة كان، ولو قدرنا ورود ما يفيد ثبوت الثواب لمن أسرف في تصرفه فلا ينافي في ذلك ذم السرف، ولكونه غير خير لأنه إذا ثبت له الأجر بالصدقة مثلاً بجميع ماله؛ فقد لزمه الإثم بالسرف الذي ارتكبه، وقد يكون الشيء حسناً من وجه، قبيحاً من وجه آخر، فالسرف لا يكون إلا قبحاً، ولا يكون خيراً قط، وليس من ذلك تأثير الإنسان لمن هو أحوج منه بطعامه، أو بشرابه، أو بثوب من ثيابه التي تدعو حاجته إليها، فإن مثل ذلك لا يصدق عليه معنى السرف لغة ولا شرعاً، أما اللغة فقال في الصحاح (¬2): السرف ضد القصد، ثم قال: والإسراف في النفقة التبذير، فهذا معنى السرف، وهو لا يصدق إلا على من ¬

(¬1) أخرجه أبو داود رقم (1674) وابن خزيمة رقم (2441) وابن حبان في صحيحه رقم (3372) وأبو يعلى في " المسند " رقم (2084) والحاكم (1/ 413) والبيهقي في " السنن الكبرى " (4/ 181) من طرق عن جابر بن عبد الله قال: إني لعند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ جاءه رجل بمثل البيضة من ذهب قد أصابها من بعض المغازي، فقال: يا رسول الله. خذ هذه مني صدقة، فوالله ما أصبح لي مال غيرها، قال: فأعرض عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجاءه من شقه الآخر، فقال له مثل ذلك، فأعرض عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم جاءه من قبل وجهه، فأخذها منه فحذفه بها حذفة لو أصابه عقره، أو أوجعه، ثم قال: " يأتي أحدكم إلى جميع ما يملك، فيتصدق به، ثم يقعد يتكفف الناس! إنما الصدقة عن ظهر غنى، خذ عنا مالك. لا حاجة لنا به ". وهو حديث ضعيف دون جملة " خير الصدقة عن ظهر غنى. . ". فقد أخرج البخاري في صحيحه رقم (5356) وأبو داود رقم (1676) عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول. " (¬2) (4/ 1373).

أخرج ماله إخراجا يعد به مبذرا لا من آثر غيره بأكله أو شربه أو نحو ذلك. فإن قلت: قد قال صاحب القاموس (¬1): إن الإسراف التبذير، أو ما أنفق في غير طاعة. وقال في النهاية (¬2) إن النفقة لغير حاجة، أو في غير طاعة الله. قلت: هذا خلط للمعنى الشرعي بالمعنى اللغوي، لأن ملاحظة الطاعة لله من المعاني الشرعية، لا من المعاني اللغوية، والعرب لا تلاحظ ذلك ولا تراه. ومعنى السرف ثابت معروف عندهم، ولهذا يقول جرير (¬3): أعطوا الهنيدة يجدوها ثمانية ... ما في عطائهم من ولا سرف فانظر كيف أثبت السرف فيما هو خير عندهم محض، وهو التكرم بالعطاء، وإنما لم يكن المائة الناقة [4ب] التي معها ثمانية من العبيد يقومون بما تحتاج إليه سرفا، لأنها عطاء ملك من كبار الملوك، ولو كانت عطاء رجل لا يملك غيرها، ولا يجد سواها؛ لكان ذلك سرفا عند العرب كما يفيده كلامهم، ويدل عليه نظمهم ونثرهم، ولم يصب من حمل السرف في هذا البيت على معنى الإغفال، أو على إخطاء موضع العطاء. فإن قلت: ما ذكره صاحب النهاية (¬4)، وصاحب القاموس (¬5)، وإن كان فيه خلط المعنى اللغوي بالمعنى الشرعي فهل يدل على أنه لا سرف في الخير كما يقوله من يسمعهم يتجاوزون بذلك؟ قلت: لا، بل معناه أن الإنفاق في غير طاعة الله معدود من السرف، وذلك مسلم، وليس فيه أن الإنفاق في طاعة الله لا يكون سرفا أصلا، فإن هذه العبارة على تسليم أنها معنى شرعي، إنما تناولت الإنفاق في غير الطاعة، ولا تعرض فيه للإنفاق في الطاعة، لا ¬

(¬1) (ص 1058). (¬2) (2/ 361 - 362). (¬3) انظر: شرح ديوان ابن جرير (ص389) شرح محمد إسماعيل عبد الله الصاوي. (¬4) ابن الأثير (2/ 361 - 362). (¬5) الفيروزآبادي (ص 1058).

بإثبات، ولا بنفي. ولو قدرنا أن ذكر غير الطاعة يدل بمفهوم اللقب (¬1) على أن الإنفاق في الطاعة لا يكون سرفا، فهذا المفهوم لم يأخذ بمثله أهل العلم، ولا التفتوا إليه، وإنما أخذ به الدقاق (¬2) وخالفه جميع أهل العلم، كما هو معروف في كتب الأصول وغيرها دفع ذلك، فالأدلة التي قدمنا ذكر بعضها تدل على ثبوت السرف بما هو خير. وإن قلت: قد نهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بعض المتصدقين بجميع ماله، أو ببعضه معللا ذلك بأنه من بعد ذلك يتكفف الناس (¬3). قلت: لا تزاحم بين المقتضيات، فقد يكون وجه النهي هذه العلة كما يكون وجه النهي التعليل بالسرف، وقد يجتمعان جميعا، فيسرف بالتصدق بجميع ماله، ثم يتكفف ¬

(¬1) مفهوم اللقب: وهو تعليق الحكم بالاسم العلم نحو قام زيد، أو اسم النوع نحو: في الغنم زكاة، ولم يعمل به أحد إلا أبو بكر الدقاق. وحكى ابن برهان في الوجيز التفصيل عن بعض الشافعية وهو أنه يعمل به في أسماء الأنواع لا في أسماء الأشخاص. وحكى ابن حمدان وأبو يعلى من الحنابلة تفصيلا آخر وهو العمل بما دلت عليه القرينة دون غيره. قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (ص602): والحاصل أن القائل به كلا أو بعضا لم يأت بحجة لغوية ولا شرعية ولا عقلية، ومعلوم من لسان العرب أن من قال: رأيت زيدا لم يقتض أنه لم ير غيره قطعا. وأما إذا دلت القرينة على العمل به فذلك ليس إلا للقرينة فهو خارج عن محل النزاع. وانظر: " البحر المحيط " (4/ 25). (¬2) انظر: " تيسير التحرير " (1/ 101)، " الكوكب المنير " (3/ 509). (¬3) منها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5355) عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " خير الصدقة ما أبقت غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول ". ومنها ما أخرجه أبو داود رقم (1677) وابن خزيمة رقم (2451) والحاكم (1/ 414) عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال: " جهد المقل، وابدأ بمن تعول ". وهو حديث صحيح. ومنها ما أخرجه البخاري رقم (1472) ومسلم رقم (1034) والنسائي (5/ 69) من حديث حكيم بن حزام.

الناس، فيجمع بين الأمرين. فإن قلت: قد ورد تفضيل قليل الصدقة على كثيرها باعتبار الأشخاص كما في حديث: " سبق درهم ألف درهم " (¬1)، وذلك في من يكون له درهم فيتصدق به، ¬

(¬1) أخرجه أحمد (2/ 379) وابن ماجه رقم (3684) والنسائي (5/ 59) وابن خزيمة رقم (2443) وابن حبان رقم (3336) والحاكم (1/ 416) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سبق درهم مائة ألف درهم " فقال رجل، وكيف ذاك يا رسول الله قال: " رجل له مال كثير أخذ من عرضه مائة ألف درهم تصدق بها، ورجل ليس له إلا درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به ". وهو حديث صحيح. قال القرطبي في " المفهم " (3/ 80 - 81) قوله: " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى " أي: ما كان من الصدقة بعد القيام بحقوق النفس وحقوق العيال. وقال الخطابي: أي متبرعا أو عن غنى يعتمده ويستظهر به على النوائب، والتأويل الأول أولى غير أنه يبقى علينا النظر في درجة الإيثار التي أثنى الله بها على الأنصار، إذ قال: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة) [الحشر: 9]. وقد روي: أن هذه الآية نزلت بسبب رجل من الأنصار ضافه ضيف فنوم صبيته وأطفأ السراج. وآثر الضيف بقوتهم، وكذلك قوله تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ) [الإنسان: 8]. أي: على شدة الحاجة إليه والشهوة له، ولا شك أن صدقة من هذه حاله أفضل. وفي حديث أبي ذر: " أفضل الصدقة جهد من مقل " وفي حديث أبي هريرة: " سبق درهم مائة ألف " قالوا: وكيف؟ قال: " رجل له درهمان، فتصدق بأحدهما، ورجل له مال كثير فأخذ من عرض ماله مئة ألف فتصدق بها ". فقد أفاد مجموع ما ذكرنا: أن صدقة المؤثر والمقل أفضل، وحينئذ يثبت التعارض بين هذا المعنى وبين قوله: " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى " على تأويل الخطابي فأما على ما أولنا به الغنى فيرتفع التعارض. وبيان: أن الغنى يعني به في الحديث: حصول ما تدفع به الحاجات الضرورية، كالأكل عند الجوع والمشوش الذي لا صبر عليه، وستر العورة والحاجة إلى ما يدفع به عن نفسه الأذى. وما هذا سبيله، فهذا ونحوه مما لا يجوز الإيثار به، ولا التصدق، بل يحرم. وذلك: أنه إن آثر غيره بذلك أدى إلى هلاك نفسه أو الإضرار بها، أو كشف عورته فمراعاة حقه أولى على كل حال. فإذا سقطت هذه الواجبات صح الإيثار، وكانت صدقته هي الأفضل. لأجل ما يحمله من مضض الحاجة وشدة المشقة. وانظر " فتح الباري " (3/ 296). وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم (7/ 124 - 125): معناه أفضل الصدقة ما بقي صاحبها بعدها مستغنيا بما بقي معه، وتقديره أفضل الصدقة ما أبقت بعدها غنى يعتمده صاحبها ويستظهر به على مصالحه وحوائجه وإنما كانت هذه أفضل الصدقة بالنسبة إلى من تصدق بخلاف من بقي بعدها مستغنيا، فإنه لا يندم عليها بل يسر بها، وقد اختلف العلماء في الصدقة بجميع ماله؛ فمذهبنا أنه مستحب لمن لا دين عليه ولا له عيال لا يصبرون؛ بشرط أن يكون ممن يصبر على الإضاقة والفقر فإن لم تجتمع هذه الشروط؛ فهو مكروه. وقال القاضي: جوز العلماء وأئمة الأمصار الصدقة بجميع ماله، وقيل: يرد جميعها وهو مروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقيل: ينفذ في الثلث هو مذهب أهل الشام، وقيل: إن زاد على النصف ردت الزيادة وهو محكي عن مكحول قال أبو جعفر الطبري: ومع جوازه فالمستحب أن لا يفعله وأن يقتصر على الثلث. وقال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (7/ 110): قال مجاهد: لو كان أبو قبيس ذهبا لرجل فأنفقه في طاعة الله لم يكن مسرفا، ولو أنفق درهما أو مدا في معصية الله كان مسرفا. وفي هذا المعنى قيل لحاتم: لا خير في السرف، فقال: لا سرف في الخير. قلت: - القرطبي - وهذا ضعيف. يرده ما روى ابن عباس أن ثابت بن قيس بن شماس عمد إلى خمسمائة نخلة فجذها ثم قسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئا فنزلت: " ولا تسرفوا " أي لا تعطوا كله. . . قال السدي: " ولا تسرفوا " أي لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء.

ومن يعمد إلى ماله الكثير فيخرج من عرضه مائة ألف درهم. قلت: ليس في هذا أن ذلك الدرهم هو جميع مال ذلك الرجل، وأنه لا يجد غيره، ولا يملك سواه. ثم قد قدمنا أن التأثير بالقليل لا يعد من السرف لا لغة ولا شرعا، ومما يؤيد ما ذكرناه [5أ] في معنى السرف لغة ما ذكروه في معنى التبذير، فإنه يلاقيه. قال في الصحاح (¬1) وتبذير المال تفريقه إسرافا. أبو زيد يقال: رجل تبذارة؛ الذي يبذر ماله ويفسده. انتهى. ¬

(¬1) (2/ 587).

وقال في النهاية (¬1) المبذر المسرف في النفقة. وقال في القاموس (¬2) وبذره تبذيرا أخربه وفرقه إسرافا. انتهى. وقد عرفت أن معنى التبذير كمعنى الإسراف في اللغة والشرع، والعجب أن صاحب النهاية، وصاحب القاموس ذكرا في مادة الإسراف أن منه الإنفاق في غير الطاعة، ولم يقيدا التبذير بمثل، وما ذلك إلا لكون ذكر الإنفاق في غير طاعة في معنى السرف من خلط المعاني اللغوية بالمعاني الشرعية. فإن قلت: تقد كانت العرب تتمادح بإخراج المال دفعة واحدة، والتكرم بما يجده الإنسان، وإن لم يجد بعد ما يسد رمقه فضلا عن أن يجد غيره، كالواقعات من العرب المشهورين بالكرم مثل: حاتم، وكعب بن مامه، وأمثالهم. قلت: لا شك في تمادحهم بذلك، مع أنهم يسمونه سرفا وتبذيرا، وهم إذ ذاك على جاهليتهم لم يعلموا بقبح ذلك في الشرع، والمقصود الذي تقوم به الحجة هنا أنهم يسمونه سرفا، فوجب حمل الأدلة الواردة في النهي عن السرف على هذا المعنى العربي، ولا ينافي ذلك وقوع التمادح به، فإنه لم يكن البحث في كون السرف مما يتمادح به من لم يتقيد بالشرع، بل في صدق اسم السرف عليه، والرجوع إلى بيان حكمه شرعا. ومعلوم أن العرب قد تمدح من جاد بكل ماله على جهة السرف مدحا زائدا على من جاد ببعضه، لأن الكرم محبب إلى النفوس، لا سيما النفوس العربية، بل قد تجد أهل الإسلام يغفلون عن قبح ذلك شرعا، ويبالغون في مدح من أسرف بإخراج ماله، وبذر به لتلك العلة، وبسبب تلك الطبيعة كما قال الشاعر: وكل يرى طرق الشجاعة والندى ... ولكن طبع النفس للنفس قائد بل قد يبالغون في الثناء على من جاد بنفسه، ولو جاد بها في باطل كما في قول ¬

(¬1) (1/ 110). (¬2) (ص444).

الشاعر [5ب] ولو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد بها فليتق الله سائله وقول الآخر: يجود بالنفس إن ضن الجبان بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود ولسنا بصدد ما تستحسنه الطباع العربية، وتتمادح به، فإن كلامنا في حكمه شرعا، لا في حكمه عرفا، فإن ذلك لا يفيد شيئا، ولا يصح الاستدلال به لمن قال: لا سرف في الخير. وهذا ظاهر واضح، على أن في بيت جرير السابق ما يدل على أن عدم السرف مما تتمادح به العرب، وشعره تقوم به الحجة في إثبات المعاني اللغوية بالإجماع. والحاصل: أن من زعم أن نوعا من أنواع السرف محمود شرعا، أو مباح فهو قد أثبت حكما وادعى على الشرع أمرا، وعليه الدليل الصالح لاتباع دعواه، وهذا مما لا خلاف به بين أهل علم المناظرة. . . الجدل، فإن جاء به صحيحا سليما عن شوب ما يبطله، أو يقدح فيه فليأت به، هذا على تقدير أنه لم يرد في ذلك شيء لا من كتاب ولا سنة، فكيف وهو مذموم كتابا وسنة! وأجمع على ذمة المتشرعون، ولم يخالف فيه أحد منهم من السلف ولا من الخلف. وفي هذا المقدار كفاية، لمن له هداية، وحسبي الله ونعم الوكيل. [6أ].

بحث في الصلاة على النبي صلي الله عليه وآله وسلم

(192) 23/ 5 بحث في الصلاة على النبي صلي الله عليه وآله وسلم تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في الصلاة على النبيِّ صلي الله عليه وسلم. 2 ـ موضوع الرسالة: آداب. 3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم أدام الله إفادته إمام العلوم الحائز لمنطوقها والمفهوم. 4 ـ آخر الرسالة: وفاز بأعظم ما يطلبه طلاب الخير وفي هذا المقدار كفاية لمن له هدايةٌ وحسبنا الله ونعم الوكيل. كتبه من خط المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله له. 5 ـ نوع الخط: خط نسخي مقبول. 6 ـ عدد الصفحات: 6 صفحات. 7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 18 سطرًا ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها 6 أسطر. 8 ـ عدد الكلمات في السطر: 14 ـ 18 كلمة. 9 ــ الرسالة من المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم ـ أدام الله إفادته إمام العلوم الحائز لمنطوقها والمفهوم، البدر شيخ الإسلام ـ أمتع الله بحياته، وبارك في أوقاته ـ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. مما لا غِناء عن استمداد إفادتكم ما ورد في حديث كعب بن عُجْرَةَ رضي الله عنه من قول النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ في أثناء الحديث فقال: «عرض لي جبريلُ ـ عليه السلام ـ فقال: مَنْ ذُكرتَ عنده ولم يصلِّ عليك فَلَعَنهُ اللهُ فقلْ: آمين، فقلتُ آمين» (¬1) رواه الحاكم، وابن حبان وغيرهما، وغير ذلك من الأحاديث المتكاثرة في دواوين الإسلام، المشتملةِ على الدعاء على من ذكر عنده النبيُّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ ولم يصلِّ عليه بأنْ يُرْغَمَ أنفُه، وتسميتهُ بخيلاً، وكونه خِطئَ طرائق الجنة، وكونه شقي، وغير ذلك فإفادة هذه الأحاديث أنَّ ذكر عنده النبيُّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ سببٌ للصلاة عليه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ. وكل منهما على انفرادها ذكرٌ، وسببٌ مستقلٌّ يستلزم المسبِّبِ عند وجود سببه، فيلزم ما أن أذاعَه رجلٌ ملازم لذكر النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ من أوَّل النهار إلى آخره. وأنت تسمع أنَّ تلازُمَ الصلاة على النبي صلي الله عليه وآله وسلم ـ ضرورتُها تكرُّرُ المسبِّب عند تكرُّر سببِه، وإلاَّ استوجب التاركُ الوعيدَ الشديدَ في الانقياد والإرغام وغيرهما، وتستلزم السنةُ أن السامع للذكر يتركُ كلِّ شيء من الطاعات وغيرها بل الواجبات ويشتغلُ بالصلاة على النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ حتى يسكتَ الذاكر. وفي ذلك الاشتغال بالطاعة مشقةٌ لا تخفى، ووعيد عظيم. فهل فيه ما يصلُح أن يكون دليلاً مخلَصًا، وهو دليل يرشدُ أنه يكفي مع الذكر الكثير في الزمن الطويل الصلاة على النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ مرةً أو مرتين، أو ثلاثًا؟ فالفائدة ¬

(¬1) سيأتي تخريجه في الجواب.

مطلوبة، والمسألة مما عمَّتْ بها البلوى، جزاكم الله خير الآخرة والأولى. ومما عرض فيما عساها تتعلَّق بهذا البحث فلا بد من عرضه على شريف نظرِكم، وهو أنْ يقول أنَّ الذكر الكثير في الزمن الطويل يُنَزَّل منزلةَ سبب واحد [1أ]، فيكفي الصلاةْ على النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ منها واحدة ولا تلزم التكرارَ، كما أنَّ .... (¬1) إذا اجتمعت نُزِّلَتْ منزلةَ سبب واحد، وصُلِّي عليها صلاة واحدة، كما وردت بذلك السُّنَّةُ مع أنَّ كل حياتها على انفرادها سببٌ مستقل للصلاة عليها، فهل يصلح أن يكون هذا مستندًا أم لا؟ فأفضلوا بالجواب الشافي الشامل بجميع أطرافِ السؤال. والسلام ختام، ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد وآله وسلم عدد ما ذكره الذاكرون وغفلَ عن ذِكْرِهِ الغافلون. ¬

(¬1) هنا كلمة غير واضحة في المخطوط.

جواب مولانا العلامة المحقق البدر شيخ الإسلام: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الأفضلين، وصحبه الأكرمين، أقول مجيبًا عن هذا السؤال النفيس من الولد العلامةِ على بن أحمد الظفري (¬1) ـ كثر الله فوائده ـ أنَّ الدليل الدال على مطلقِ ا لوجوب من غير تفسير هو قوله ـ عز وجل ـ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬2) فهذا أمرٌ قرآني واقتضى وجوبَ مطلق الصلاةِ. واختلفَ أهلُ العلم اختلافًا كثيرًا في تفسير فِعْل هذا الواجب، وهل هو متكرر أم لا؟ والحق أنَّ اللام لا تفيدُ إلاَّ مطلقَ الإيقاعِ لهذا المأمور به من غير تقييد، أهو شأنُ الأوامرِ المقتضيةِ للإيجابِ والتكرارِ في وقت [أوقات] (¬3) تحتاج إلى دليل خارجي يدلُّ عليه، كتكرير ذلك في الصلواتِ ولا يفيد الوجوبَ ما كان تعليمًا للكيفيةِ كقول القائل له ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «قد علمنا كيفَ نسلِّم عليك، فكيف نصلِّي عليك؟ قال: قولوا اللهم ... » (¬4) إلخ لأنَّ الأوامرَ في تعليم الكيفياتِ تابعةٌ للمكيُّف إن كان واجبًا فهي واجبةٌ، ¬

(¬1) السيد علي بن أحمد الظفري الصنعاني، ولد في أول القرن الثالث عشر وأخذ بصنعاء عن عمه السيد محمد بن الحسن بن عبد الله الظفري والسيد الحسن بن يحيى الكبسي والسيد عبد الله بن محمد الأمير وأخذ عن القاضي محمد بن علي الشوكاني في ((الكشاف)) والمطول وغيرهما. برع في جميع العلوم. كان سريع الفهم حسن التصوُّر جيد الذكاء. توفي سنة 1270هـ. ((نيل الوطر)) (2/ 117 رقم 322). (¬2) [الأحزاب: 56]. (¬3) كذا في المخطوط ولعلها (من أوقات). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3370) وطرفاه رقم (4797، 6357) ومسلم رقم (406) من حديث كعب بن عجرة. وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (4798) من حديث أبي سعيد الخدري.

وإن كان غير واجبٍ فهي غير واجبة. وقد قررتُ هذا في مؤلَّفاتي بما لا يحتاج فيه إلى غيره. إذا عرفت هذا فاعلم أنه قد ورد ما يدلُّ على الوجوب [1ب] عند ذكره ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ من ذلك حديث أنسٍ عند النسائي، (¬1) والطبراني في الأوسط (¬2) والكبير، (¬3) وابن السُّني (¬4) قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «من ذُكرتُ عندَه فليصلِّ عليَّ، فإنه من صلَّى عليَّ صلاة واحدةً صلى الله عليه عشرًا» قال النووي (¬5): إسناده جيد. وقال الهيثمي (¬6): رجاله ثقات، فهذا أمر مقيد بوقت الذكرِ، ويمكن أن يقال إنه أمرُ إرشاد، لأنَّه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ ذكر تعدُّدها للمصلِّي من الأجرِ، ولم يذكر أنَّ عليه إثمًا. ومن الأدلة على الوجوب عند الذكرَ حديثُ الحسين بن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهما ـ عند الترمذي، (¬7) وقال (¬8): حسن صحيحٌ، وابنُ حبان (¬9) وصححه: «البخيلُ من ذُكرتُ عنده فلم يصلِّ عليَّ». وأخرجه من حديث أيضًا أحمد في المسند (¬10) ¬

(¬1) في (السنن) (3/ 50)، وفي (عمل اليوم والليلة) رقم (62، 362، 363). (¬2) (3/ 153 ـ 154 رقم 2767). (¬3) قال الهيثمي في (المجمع) (10/ 163) رواه الطبراني في (الصغير) (1/ 209) و (2/ 48) وفي (الأوسط) ولم يعزه للطبراني في (الكبير). (¬4) في (عمل اليوم والليلة) رقم (382). (¬5) في (الأذكار) رقم (2/ 382). (¬6) في (مجمع الزوائد) (10/ 163). وأخرجه ابن حبان في صحيحه رقم (901)، والحاكم (1/ 550)، والبخاري في (الأدب المفرد) رقم (643)، وأحمد (3/ 102، 261). وهو حديث صحيح. (¬7) في (السنن) رقم (3546). (¬8) في (السنن) (5/ 551) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. (¬9) في صحيحه رقم (909). (¬10) (1/ 201).

والنسائي (¬1) والحاكم في المستدرك، (¬2) وقال: صحيح. وأقرَّه الذهبي، وهو من رواية عبد الله بن علي بن الحسين بن علي عن أبيه، عن الحسين. وقد روي من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما في سنن الترمذي، (¬3) وقال: حديث حسن صحيح. وهذه الصيغة تقتضي الحصرَ مبالغةً كما هو شأن تعريف المسندِ فينبغي حمله على أنه الفرد الكاملُ في البخل، لأنه بخل بما لا نقصَ عليه فيه، ولا مؤنة مع توفر الأجر، وعظم الجزاء. ووجه دلالتِه على الوجوب أنَّ البُخْلَ واجب التجنُّب، فإنه أقبح الغرائز، وأشأم الطبائع. ولهذا يقول رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «وأيُّ داء أدوى من البخل!» وهو حديث صحيح، (¬4) وله قصة، (¬5) ويمكن أن يقال فيه ما قيل في الحديث، لأنه بخل على نفسه، ويُحْرَمُ الحظَّ الجزيلَ، والأجرَ الجليلَ. ومن الأدلة الدالة على الوجوب عند الذكر حديث أبي هريرة عند الترمذي، (¬6) وحسَّنه، (¬7) والحاكم، (¬8) وقال: صحيح، وابن حبان (¬9) قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «رَغِمَ أنفُ رجلٍ ذُكِرْتُ عنده فلم يصلِّ عليَّ» قال ابن حجر (¬10): وله شواهدُ. انتهى. ¬

(¬1) في (عمل اليوم والليلة) رقم (55). (¬2) (1/ 549) وصححه ووافقه الذهبي. وهو حديث صحيح. (¬3) في (السنن) رقم (3546). (¬4) انظر: الحديث تخريجه وقصته في الرسالة (183). (¬5) انظر: الحديث تخريجه وقصته في الرسالة (183). (¬6) في (السنن) رقم (3545). (¬7) في (السنن) (5/ 551) قال: وفي الباب عن جابر وأنس وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. (¬8) في (المستدرك) (1/ 549). (¬9) في صحيحه رقم (908). (¬10) في (فتح الباري) (11/ 168).

وقد رواه (¬1) في مجمع الزوائد (¬2) من حديث أبي مسعود، وعمار بن ياسر، وابن عباس، وعبد الله بن الحارث، وأبي هريرة. ومعنى رغم أنفُه الدعاءُ عليه بالذلِّ والهوانِ إذا لم يفعل ذلك، ولا يدعى بالذل والهوان إلاَّ على من تركَ واجبًا، وفي النصِّ [2أ] ألفاظُ هذه الأحاديث التي أشرنا إليها: «بَعُد من ذكرت عنده فلم يصلِّ عليَّ» (¬3) إلى آخر ما في الحديث المذكور. والبعدُ ضدُّ القربِ، وطلب القرب فضيلةٌ مؤكدة إنْ لم يكن واجبًا، ويمكن أن يقال في هذا الحديث من هذه الطرقِ ما قيل في الحديثين الأولينِ، لأنه لم يضرَّ إلاَّ نفسَه بما يحرِمُها من الأجر والدعاء عليه برغامِ الأنفِ كالدعاء بمثل: تَربَتْ يمينُه أو زيادة عليه بما لا يفيدُ ما يفيد به الوجوب، من أنه يأثم على التركِ، ويُعاقَبُ عليه. واقتران ذلك بمن لم يُغفرْ له في رمضانَ، ومن لم يدخله أبواه الجنة (¬4) يفيد أنه أمرٌ مؤكد، ويمكن دلالةُ الاقترانِ لا تفيد الوجوبَ إلاَّ لقرينة فقد قال الله عز وجل ـ: {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)} (¬5) فقرن الحضَّ على طعام المسكين وهو ليس بواجب بنفي الإيمان، وهو رأس الواجبات، ¬

(¬1) أي الهيثمي. (¬2) (10/ 165). وانظر: (فتح الباري) (11/ 168). (¬3) أخرج الحاكم (4/ 153) وصححه ووافقه الذهبي عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «احضروا المنبر، فحضرنا، فلمَّا ارتقى درجةً قال: آمين، فلمّا ارتقى الدرجة الثانية قال: آمين، فلمّا ارتقى الدرجة الثالثة قال: آمين فلما نزل قلنا: يا رسول الله! لقد سمعنا منك اليوم شيئًا ما كنا نسمعه. قال: إنَّ جبريل عليه السلام عرض لي، فقال بَعُدَ من أدرك رمضان فلم يغفر له. فقلت: آمين! فلما رقيت الثانية قال: بَعُدَ من أدرك أبويه الكبر عنده أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قلت: آمين». وهو حديث صحيح. (¬4) انظر التعليقة السابقة. (¬5) [الحاقة: 33، 34].

وأساسُها. على أن طلب المغفرةِ بالأعمال التي يوجبها في رمضان لا يفيد عدمَ طلب المغفرة مطلقًا، فإنه يمكن أن يحصل له بالتسبُّبِ لها في غير رمضان، وكذلك أنه لم يسأل أبواه له الجنةَ في هذا الوقت لا ينافي الطاعةَ الواجبة لهما، ولا يستلزم العقوقَ المحرَّمَ، فقد يدخلانِه الجنةَ بالدخول في مراضيهما والامتثالِ لما يأمرانِه به، وينهيانه عنه في وقت آخرَ، وهكذا لفظ بَعُد فإنه يدلُّ على البعد عن الخير لا على تركهِ الخيرَ. قد يكون من التقرباتِ التي ليست بواجبةٍ، بل هو ظاهر في ذلك، لأنَّ الواجبات يأثَمُ تاركُها ويعاقَبُ عليها. وبالجملة فهذه الصلاةُ في هذا الموطن إن لم تكن واجبةً فهي فضيلةٌ فاضلة، وسنة مؤكَّدةٌ، وعبادةٌ مقرَّبة لا يشك في ذلك شاكٌّ، ولا يتمارى فيها متمارٍ، وناهيك أن هذا المصلِّي يصلِّي عليه بالصلاة الواجبةِ ربُّ العزةِ وخالقُه خالقُ السماواتِ والأرض عَشْرَ مرَّاتِ كما ثبت في الأحاديث الصحيحةِ التي بعضها في صحيح مسلم. (¬1) بل أخرج أحمد في المسند (¬2) من حديث عبد الله بن عمرو عنه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «من صلَّى عليَّ واحدةً صلّي الله عليه بها وملائكته عليه سبعين صلاة» وحسَّنه المنذري (¬3) والهيثمي. (¬4) هذا في مطلق الصلاة، فكيف بالصلاة عليه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ في مواطنِ الذكر الذي خصَّ بهذه الأحاديث [2ب] الصحيحة التي رتب عليها البخلَ، ورغمَ الأنف! ومن فضائل الصلاة عليه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ حديث أبيِّ بن كعب عند الترمذيِّ (¬5) ................................................... ¬

(¬1) في صحيحه رقم (408) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) (2/ 187). وأورده الهيثمي في (المجمع) (10/ 160) وقال: رواه أحمد وإسناده حسن. (¬3) في (الترغيب والترهيب) رقم (2470). (¬4) في (المجمع) (10/ 160). (¬5) في (السنن) رقم (2457).

وقال (¬1): حسن صحيح والحاكم (¬2) وقال صحيح، أنه قال: «كان رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ إذا ذهب ربعُ الليل قام فقال: أيُّها الناسُ اذكروا اذكروا، جاءت الراجفةُ تتبعها الرادفةُ، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه فقال: أبيّ بن كعب يا رسول الله، كم أجعلُ لك من صلاتي قال: «ما شئت». قلت: الربعُ قال: «ما شئت، وإن زدت فهو خير لك» قلت: النصفُ. قال: «ما شئتُ وإن زدتَ فهو خير لك». قلت: أجعل لك صلاتي كلَّها؟ قال: «إذن تكفى همَّكَ، ويُغْفَرُ ذنبُك» وفي لفظ: «ما أهمَّك من أمر دنياك وآخرتك» (¬3) والمراد بالصلاة هنا الدعاءُ الذي من جملته الصلاةُ على رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ، وليس المراد الصلاةَ ذاتَ الأذكار والأركان كما أوضحنا ذلك في غير هذا الموضعِ. (¬4) نعم لو صح حديث جابر بلفظ: «من ذكرتُ عنده فلم يصلِّ عليَّ فقد شقى» أخرجه ابن السّني في عمل اليوم والليلة، (¬5) وحديث: «من ذكرت عنده فلم يصلِّ عليَّ فقد شقى» (¬6) والحديث الذي رواه ابن ماجه (¬7) من حديث ابن عباس قال: قال رسول ¬

(¬1) في (السنن) (4/ 637). (¬2) (2/ 121، 513). وهو حديث حسن. (¬3) أخرجه الطبراني في (الكبير) (4/ 35 ـ 36 رقم 3574) بإسناد حسن. وأورده الهيثمي في (المجمع) (10/ 160) وقال: رواه الطبراني وإسناده حسن. (¬4) تقدم توضيحه. (¬5) رقم (381) بإسناد ضعيف. (¬6) مكرر في المخطوط. (¬7) في (السنن) (908) قال البوصيري في (مصباح الزجاجة) (1/ 313 رقم 331): هذا إسناد ضعيف جبارة بن المغلس، ورواه الطبراني من طريق جبارة به، وله شاهد من حديث أبي هريرة رواه البيهقي في سننه. وقال الألباني في صحيح ابن ماجه رقم (749) إسناده حسن. وانظر: (الصحيحة) رقم (2337).

الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «من نسي الصلاةَ عليَّ خطِئَ طريقَ الجنةِ» كانت هذه الأحاديثُ من أقوى أدلة الوجوب ذلك الأوّّل إسنادها ضعيف منها. والباقي في إسناده بشر بن محمد الكندي ضعَّفه ابن المبارك، وابن معين، والدارقطني وغيرهم. والثالث في إسناده جبارةُ بن المغلس، وهو ضعيف. (¬1) فإنْ قلت بمجموع ما ذكرته من جملة الأحاديث المتقدمة، وهذا الوجوب مستفادٌ منها استفادة ظاهرة واضحة فشهادة بعض معانيها لبعض. قلت: إذا سلمنا ذلك فليس على من حضر مثلاً سماعَ الحديث الذي تكرَّر فيه الصلاةُ عليه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أن يكرِّرها عند كل لفظ يذكر فيه المملي لفظَ الصلاةِ، فإنَّ ذلك قد يشتغِلُ عن تدبُّر معاني الحديث وفهمِها كما ينبغي. وقد صلَّى هذا السامعُ في هذا المجلس عند الذكرِ، وإن استكثر من ذلك فقد استكثرَ من الخيرِ وليس بواجب عليه. وهكذا إذا كان المجلس يُصلَّي فيه على النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ[3أ]ـ فإنه يصلَّى معهم، أو يجتنب مجلِسَهم. وبالجملة فلا يترك تكرار الصلاة عند ذكره ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ إلاَّ من كان مسئولاً يفهم كلامُهُ أو يفهم تفسير كلامِه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أو كان في صلاة فلا يتابَعُ الذاكرُ، فكفى بالصلاة شغلاً كما ثبت في الحديث. (¬2) وهكذا سامع خطبةِ الجمعةِ، فإنه لا يتابع الخطيب إذا صلَّى على رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ لحديث: «من قال لصاحبه أنصتْ والإمامُ يخطبُ فقد لغى، ومن لغى فلا جمعة له» (¬3) والأمر بالإنصات هو طاعةٌ فبيَّن الشارع أن من فعلَ ذلك فلا جمعة له، وكان لغوًا من هذه الحيثية غيرَ جائز، فإنْ كان تكرار الصلاة لا يشغلُه عن ذكر ما ¬

(¬1) انظر: (الميزان) (1/ 387 رقم 2433) قال الذهبي من مناكيره: حدثنا حمَّاد بن زيد عن ابن عباس وأبي جعفر جميعًا قالا ـ وذكر الحديث ـ ثم قال: وهذا بهذا الإسناد باطل. (¬2) تقدم تخريجه. انظر الرسالة رقم (87، 88). (¬3) تقدم تخريجه. انظر الرسالة رقم (81، 88).

ذكرناها فتجتهد في متابعة القارئ، (¬1) فإنه قد جمع له بين أفضل الأذكار، فطلب العلم وفهمُه يأخذ بطرفيّ الكمالِ، وفاز بأعظم ما يطلبه طلاب الخير. (¬2) وفي هذا المقدار كفاية لمن له هدايةٌ وحسبنا الله ونعم الوكيل. كتبه من خط المجيب محمد بن علي الشوكاني ـ غفر الله له [3ب]ـ. ¬

(¬1) انظر: (فتح الباري) (11/ 168). (¬2) قال الحافظ في (الفتح) (11/ 168) قال ابن العربي: فائدة الصلاة عليه ترجع إلى الذي يصلي عليه لدلالة ذلك على نصوع العقيدة وخلوص النية وإظهار المحبة والمداومة على الطاعة والاحترام للواسطة الكريمة صلي الله عليه وسلم: وقد تمسَّك بالأحاديث المذكورة من أوجب الصلاة عليه كلما ذكر. لأن الدعاء بالرغم والإبعاد والشقاء والوصف بالبخل والجفاء يقتضي الوعيد والوعد على الترك من علامات الوجوب. ومن حيث المعنى أن فائدة الأمر بالصلاة عليه مكافأته على إحسانه، وإحسانه مستمر، فيتأكد إذا ذكر وتمسكوا أيضًا بقوله: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} فلو كان إذا ذكر لا يصلي عليه لكان كأحد الناس. ويتأكد ذلك إذا كان المعنى بقوله: {دُعَاءَ الرَّسُولِ} الدعاء المتعلق بالرسول، وأجاب من لو يوجب ذلك بأجوبة: (منها) أنّه قول لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين فهو قول مخترع، ولو كان ذلك على عمومه للزم المؤذن إذا أذن وكذا سامعه ولزم القارئ إذا مر ذكره في القرآن وللزم الداخل في الإسلام إذا تلفظ بالشهادتين ولكان في ذلك من المشقة والحرج ما جاءت الشريعة السمحة بخلافه، ولكان الثناء على الله كلما ذكر أحق بالوجوب ولم يقولوا به. وقد أطلق القدوري وغيره من الحنفية أن القول بوجوب الصلاة عليه كلما ذكر مخالف للإجماع المنعقد قبل قائله، لأنه لا يحفظ عن أحد من الصحابة أنّه خاطب النبي صلي الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله صلي الله عليك، ولأنه لو كان كذلك لم يتفرغ السامع لعبادة أخرى. وأجابوا عن الأحاديث بأنها خرجت مخرج المبالغة في تأكيد ذلك وطلبه وفي حق من اعتاد ترك الصلاة عليه ديدنا. قال الحافظ في (الفتح) (11/ 169) وفي الجملة لا دلالة على وجوب تكرر ذكر بتكرر ذكره صلي الله عليه وسلم في المجلس الواحد. وما نرجحه قول الشوكاني رحمه الله.

سؤال وجواب عن الصلاة المأثورة على رسول الله صلي الله عليه وسلم

(193) 38/ 1 سؤال وجواب عن الصلاة المأثورة على رسول الله صلي الله عليه وسلم تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: سؤال وجواب عن الصلاة المأثورة على رسول الله صلي الله عليه وسلم. 2 ـ موضوع الرسالة: آداب. 3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده وصلى الله على لا نبيَّ بعده وآله وصحبه وبعد. فإنه اشتمل السؤال الوارد منكم كثر الله فوائدكم على أربعة أطراف. 4 ـ آخر الرسالة: كمل من خطَّ المجيب حفظه الله وجعله لكل معضلة ومشكلة محلاً. بحق محمد الأمين وصحبه الأكرمين. 5 ـ نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 ـ عدد الصفحات: 10 صفحات. 7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرًا. 8 ـ عدد الكلمات في السطر: 10 ـ 12 كلمة. 9 ــ الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده وصلَّى اللهُ على من لا نبيَّ بعدَه وآله وصحبِه وبعدُ: فإنه اشتملَ السؤالُ الواردُ منكم ـ كثَّر الله فوائدكم ـ على أربعةِ أطرافِ: الأول: منِ اسْتُؤُجِرَ أنْ يصلي على النبيَّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ عددًا معروفًا بأجرةٍ معلومةٍ، وشرَطَ عليه أن يُصلِّي الصلاة المأثورةَ، (¬1) والأجيرُ لم يكن عندَهُ حقيقةُ لفظةِ الصلاةِ المأثورةِ، فكرَّر الصلاةَ القدْرَ المستأجرَ عليهِ بلفظِ: اللهمَّ صلِّ وسلِّم على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، فهل قد أجزتْ هذهِ الصلاةُ مع شرطِ أنْ تكونَ الصلاةَ المأثورةَ؟ الطرف الثاني: هل قال قائلٌ بأنها الصلاةُ المعروفةُ بالخمسِ، وهي قولُهُ: اللهمَّ صلِّ على محمدٍ، وآل محمدٍ، كما صلِّيتَ على إبراهيمَ، وعلى آلِ إبراهيمَ، إنكَ حميدٌ مجيدٌ. اللهمَّ ترحَّمْ، اللهم تحنَّن، اللهم بارك، اللهم سلِّمْ إلى آخرها باللفظ المذكورِ أولاً، هل يكونُ صلاة واحدةً، أو خمسًا، لأنَّ التحنينَ والتبرُّكَ والتسليمَ والترحُّم لفظُها غيرُ لفظِ الصلاةِ. (¬2) الطرف الرابع: ما هوَ الذي أجمعَ عليه العلماءُ أنَّه هو الصلاةُ المأثورةُ؟ انتهى. ¬

(¬1) سيأتي ذكرها. وانظر الرسالة رقم (191). (¬2) قال السخاوي في (القول البديع) (ص59 ـ 60): قال النميري: وهذا الحديث لا يحفظ عن على إلاَّ من هذا الوجه، وإسناده ذاهب وعمرو راويه عن زيد متروك الحديث، قالوا: يضع على أهل البيت وحرب ويحيى مجهولان، ولم نجده من غير طريقهما عن عمرو، وكذا قال: وقد رواه أبو الربيع الكلاعي فيما أورده ابن مسْدِي من طريق محمد بن المظفر الجوزجاني عن عمرو، قال ابن مسْدِي: وهو غريب من حديث زيد عن آبائه، وهو أبو عمرو، ولا نعلمه بهذا الإسناد إلاَّ من هذا الوجه. راجع (الشفاء) للقاضي عياض (2/ 642).

وأقول: أمَّا الطرفُ الأولُ فالجواب عليه أنَّ المستأجِرَ أرادَ بقولِهِ المأثورةَ نوعًا من الصلاةِ خاصًّا فلا يُجزي الأجيرَ إلاَّ فعلُه دونَ غيره، ولا يستحقُّ الأُجْرَةَ إلاَّ بهِ، ولكن فرَّطَ المستأجرُ بعدمِ البيانِ، والأجيرُ بعدمِ الاستفصالِ؛ فلا يستحقُّ الأجيرُ لما فعلَه أَجْرَهُ، فإذا وقعَ الخلافُ بينَهما بعد أن فعلَ الأجيرَ الصلاةَ التي ذكَرَها السائلُ ـ حفظه الله ـ فقال المستأجرُ: أردتُ نوعًا خاصًّا من الصلاةِِ المأثورةِ، وأنكر الأجيرُ، فإنْ نظَرْنَا إلى الأصلِ، والظاهرُ فهما يقضيانِ بأنَّ قولَ الأجيرِ، لأنَّ المستأجِرَ مدعي إرادة نوع خاصٍّ، فهو كالمعيَّنِ، ومن عيَّن بيَّنَ، ولكن لما كانت الإرادةُ مما لا يمكنُ إقامةُ البيِّنةِ عليهِ لكونِها من الأمورِ القلبيةِ، وهي لا تُعْرَفُ إلا مِنْ جِهَةِ صاحِبها كان القولُ قوله مع يمينه، (¬1) لا يقال مجرَّدُ تَرْكِ البيانِ من المستأجِرِ يوجِبُ عليهِ أُجْرَةَ المِثلِ، لما فعله الأجيرُ [1] من الصلاة لإيقاعِه الأجيرَ بذلكَ التَّركِ في نوعٍ من أنواعِ اللَّبسِ، وهو ينزَّلُ منزلةَ التعزير (¬2): لأنا نقول: الأجير جان على نفسه بترك الاستفصال؛ فلا يبقى لما فعله الغير به تأثير مع فعل نفسه فلا يستحق أجره هذا على فرض إرادة المستأجر نوعًا خاصًّا من الصلاة المأثورة وأما إذا أراد ما يصدق عليه أنه صلاة شرعًا فهذه الصلاة المذكورة في السؤال صلاة شرعية، وسلام شرعي، فيستحق الأجير جميع الأجرة المسماة لأنه قد فعل الصلاة والسلام على النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ، وذلك المفعول فرد من الأفراد التي يصدق عليه مطلق قوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬3) ¬

(¬1) للحديث الذي أخرجه مسلم رقم (223/ 139)، والترمذي رقم (1340)، وأحمد (4/ 317). من حديث وائل بن حجر: «أنَّ النبي صلي الله عليه وسلم قال للكندي: «ألَك بينة؟» قال: لا. قال: «فلك يمينه». (¬2) تقدم تعريفه. (¬3) [الأحزاب: 56].

ومطلق الأحاديث الواردة بالأمر بذلك، والترغيب فيه مطلقًا ومقيدًا. (¬1) وقد تقرر أن المطلق يطابقه كل فرد من الأفراد التي يصدق هو عليها، وإن لم يرد مطلق ما يصدق عليه أنه مشروع، بل أراد المشروع الخاص؛ وهو ما ورد التعليم به من طريقه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ في الأحاديث الصحيحة فهذا اللفظ المذكور في السؤال لم يرد في حديث صحيح على الصفة المذكورة فيما أعلم، فلا يجزئ المستأجر، ولا يستحق به الأجرة، فيما تقدم. وإذا وقع الاختلاف كان الحكم ما سلف، وسبب عدم الإجزاء في صور المخالفة أن النوع الذي أراده المستأجر قد حصله شرط في الإجازة. وقد تقرر في الأصول أن الشروط يؤثر عدمها في عدم المشروط فيكون المشروط إذا عدم واحد منها معدومًا حكمًا؛ فالإجارة المذكورة حينئذ معدومة لا حكم للصورة الموجودة منها. وأما الطرفُ الثاني: فالجوابُ عليه أنَّ السائلَ ـ حفظه الله ـ إنْ أرادَ بقولِهِ: هل قال قائلٌ بأنَّها الصلاةُ المأثورةُ؟ النوعُ الخاصُّ وهو الثابتُ في أحاديثِ التعليم، (¬2) فقد أسلفنا أنَّها لم ترِدْ بذلك اللفظِ في حديثٍ صحيحٍ. (¬3). وإذا لم تردْ كذلكَ فلا قائلَ بأنَّها المأثورةُ، لأنَّ الجزمَ بهِ فرع ورودها في الأحاديث، لأنَّ قولَ القائلِ هذهِ صلاةٌ مأثورةٌ، بذلكَ الاعتبارَ في قوةِ هذهِ، صلاةٍ ثابتةٍ بطريق التعليمِ لنا منه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ، وإنْ أرادَ مطلقَ ما يصدُقُ عليه أنَّهُ صلاةٌ وسلامٌ شرعًا، فلعلَّه لا يحالفُ في ذلكَ أحدٌ من المسلمينَ لما سلفَ مِنْ أنَّ ذلكَ فردٌ من الأفرادِ التي يصدْقُ عليها المطلقُ وتُطابقُهُ. وأما الجوابُ عن الطريق الثالثِ فنقول: ليس هذهِ صلواتٍ متعددةً، إما هذه صلاةٌ مشتملةً على أدعيةٍ للمصلَّى عليه، بدليلٍ أنه لو قال قائلٌ: اللهم تحنَّنْ على محمدٍ، وعلى ¬

(¬1) تقدم تعريفهما. (¬2) تقدم ذكرها. انظر الرسالة رقم (191). (¬3) انظر: (القول البديع) (ص 57 ـ 59).

آل محمدٍ، أو ترحم إلخ لم يكُنْ فاعلاً للصلاةِ لا شرعًا ولا عُرْفًا. نعم يمكنُ أنْ يُقالَ: إنه فاعلٌ للصلاةِ لغةً على فَرَضِ أنها في اللغةِ مطلقُ الدعاء [2] أعمُّ من أنْ يكونَ للنَّفسِ أو للغيرِ. وأما إذا كانتْ في اللغةِ لما هو مختصٌّ بالنَّفسِ، أو لتحريكِ الصَّلويْنِ كما صرَّحَ بهِ الزمخشريُّ في كشَّافِهِ (¬1) فلا، وإذا سلَّمنا صِدْقَ الصلاةِ اللغويةِ على هذهِ فذلكَ أيضًا غيرُ نافعٍ، فلا يصِحُّ الاستدلالُ بهِ على أنَّ تلكَ الألفاظَ الخمسةَ صلواتٌ خمسٌ، لأنَّا الواجبَ تقديمُ الحقيقةِ الشرعيةِ والعُرفيَّةِ على اللغويةِ، كما تقرَّرَ في الأصولِ. (¬2) فإن قلتَ: إذا كان المرادُ الصلاةَ الشرعيةَ فهي عندَ أهلِ الشرعِ حقيقةٌ في ذاتِ الأركانِ، فلا يصدُقُ على الصلاةِ النبيِّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أنها هي الصلاةُ الشرعيةُ حتى يتمَّ لك أنَّ لفظَ الصلاةِ هو المرادُ من المطلقِ، ويترجَّحُ بذلكَ على إرادةِ اللُّغويةِ. قلت: الصلاةُ في لسان أهلِ الشرعِ للمعنى المذكورِ، لكنْ بشرطِ ورودِها مطلقةً، فإنْ وردتْ مقيَّدةً بكونها على النبيِّ كما في قولهِ: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، وكما في الأحاديثِ التي فيها الأمرُ بالصلاةِ عليه، وعلى الآلِ، فلا شكَّ ولا ريبَ أن المرادَ بها اللفظيةَ باللفظِ المخصوصِ، لما تقرَّر من أنَّ المرادَ بهِ ليسَ مجرَّدُ الدعاءِ فقط، بل مع كونٍ فيهِ شعارٌ له ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ وتعظيمٌ، ولفظُ التحنُّنِ والترحيمَ ونحوِهما ـ وإن أفادَ الدعاء ـ فليسَ فيه إفادةُ ذلكَ الشعارِ والتعظيمِ، فثبتَ بما ذكرنا أنه لا يصدُقُ على تلك الألفاظِ أنَّها خمسُ صلواتٍ، بل صلاةٌ واحدةٌ. وقد أخرج الحديثَ المشتملَ على تلكَ الألفاظِ أبو طالبٍ في أماليهِ (¬3) فقال: حدثنا ¬

(¬1) (2/ 92 ـ 93). (¬2) تقدم ذكره. (¬3) في (تيسير المطالب في أمالي السيد أبي طالب) (ص280 ـ 281). انظر: (القول البديع) (ص59 ـ 60). (الشفا) للقاضي عياض (2/ 641 ـ 642).

أبو عبد الله أحمدُ بنُ محمد البغداديُّ قال: أخبرنا أبو القاسمِ عبدُ الله بنُ إسحاقَ بن جعفرٍ الزيدي قال: حدثني عليُّ بن محمدٍ النُّخعي الكوفي وعدَّهُنَّ في يدي قال: حدثني إبراهيمُ المجازني جدي أبو أمي قال: عدَّهُنَّ نصرُ بنُ مُزاحِمٍ في يد إبراهيمَ بنِ الزيرِ، قال التيميُّ، قال إبراهيمُ بنُ الزبرقانِ: عدَّهُنُّ في يدي علىُّ بن الحسينِ، قالَ عدُّهُنَّ في يدي الحسينُ بنُ علي، قال: عدَّهُنَّ في يدي أمير المؤمنينَ عليٌّ ـ عليه السلام ـ قال: عدهنّ في يدي رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ، قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: عدَّهنَّ في يدي جبريلُ ـ عليه السلام. قال جبريلُ: هكذا أُنْزِلْتُ بِهِنَّ من عندِ ربِّ العِزَّّةِ. اللهمَّ صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمد، كما صلَّيتَ على إبراهيمَ وآل إبراهيمَ، إنك حميدٌ مجيدٌ، وترحم على محمد وعلى آل محمد، كما ترحمت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد وتحنَّنْ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما تحنَّنتَ على إبراهيمَ وآل إبراهيمَ، إنك حميدٌ مجيدٌ وسلم على محمد وعلى آل محمد كما سلمت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد. قال أبو طالب (¬1): عدَّهنَّ زيدُ بنُ علىٍّ بأصابعِ الكفِّ مضمونةٌ، واحدةٌ واحدةُ مع الإبهام. [3]. وأما الجوابُ عن السؤال الرابعِ فأقول: الذي أجمعَ عليهِ العلماءُ أنَّه هو الصلاةُ المأثورةُ هو ما ثبتَ في أحاديثِ التعليمِ مطلقًا ومقيَّدًا بالصلاة من طريق صحيحةٍ، لا مطعنَ فيها لأحدٍ من أئمةِ الحديثِ، لأنَّ أهلَ العلمِ باعتبارِ هذا الشأنِ أتباعٌ لأهلِهِ، فما اتفقوا علي تصحيحهِ وافقهم غيرُهم عليهِ من أئمةِ الأصولِ، والفقهِ، والتفسيرِ، والآلاتِ وسائر أنواعِ العلومِ. ¬

(¬1) انظر: التعليقية السابقة.

وقد ثبتَ من صفاتِ الصلاةِ عليهِ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ صفاتٌ كثيرةٌ، قال بِصحَّتِها جميعُ أهلِ الحديثِ، أو بعضُهم، وتابَعهُمُ الباقونَ. منها ما اتفق عليه أهلُ الأمَّهاتِ الستِّ كحديثِ كعبِ بنِ عُجْرَةَ (¬1) قال: قلنا: يا رسول الله، قد علمنا، أو عرفنا كيفَ السلامُ عليكَ، فكيف الصلاةُ؟ قال: قولوا: اللَّهمَّ صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما صليت على إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارك على محمدٍ، وعلى آله محمدٍ، كما باركت على إبراهيمَ إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما باركت على إبراهيمَ إنك حميد مجيدٌ. إلا أنَّ الترمذيَّ (¬2) قال فيه: على إبراهيمَ في الموضعينِ لم يذكر آله، وهكذا في رواية لأبي داود، (¬3) وفي رواية أخرى (¬4) له: على إبراهيمَ وآلِ إبراهيمَ. وبهذه الروايةِ يُرَدُّ على ما زعمهُ بعضُ أهلِ العلم أنه لم يَثْبُتِ الجمعُ محمدٍ وآل محمدٍ، وإبراهيمَ وآل إبراهيمَ في روايةٍ واحدةً في الأمَّهاتِ، مع أنَّ الجمعَ المذكورَ ثابتٌ في صحيح البخاري (¬5) في الأبوابِ (¬6) التي عقدَها لإيرادِ الآياتِ والأحاديثِ الواردةِ في إبراهيمَ ـ عليه السلام ـ، ولفظُهُ (¬7): حدَّثنا قيسُ بنُ حفصٍ، وموسى بن إسماعيلَ، قالا: حدثنا عبدُ الواحد بنُ زياد، قال: حدَّثنا أبو فروةَ مسلمُ بنُ سالمٍ الهمدانيُّ، قال: حدثني عبد الله بن عيسى، سمعَ عبد الرحمن بنَ أبي ليلى قال: لقيني كعبُ بنُ عُجْرَةَ فقال: ألا أُهْدِي لكَ هديَّةً سمعتُها من النبيِّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ؟ فقلتُ: بلى فاهْدِها لي فقال: سأَلْنا رسولَ اللهِ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ فقلنا: يا رسولَ اللهِ ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3370) وطرفاه رقم (4797، 6357)، ومسلم رقم (406) وقد تقدم. (¬2) في (السنن) رقم (463). (¬3) في (السنن) رقم (976). (¬4) أي لأبي داود رقم (978). (¬5) (6/ 407 ـ 413). (¬6) منها الباب رقم (10، 11). (¬7) الحديث رقم (3370).

كيفَ الصلاةُ عليكم أهلَ البيتِ؛ فإن الله قد علَّمنا كيف نسلِّم عليكم، قال: قولوا: «اللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما صليتَ على إبراهيمَ، وعلى آل إبراهيمَ إنكَ حميدٌ مجيدٌ». اللهمَّ باركْ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما باركتَ على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، اللهمَّ. انتهى بحروفِه. ومن الأنواع التي اتَّفق عليها أهلُ الأمَّهاتِ (¬1) إلا الترمذيَّ حديثُ أبي حُميدٍ الساعديِّ أنَّهم قالوا: يا رسول الله، كيف نصلِّي عليك؟ قال: «قولوا: اللهم صلي الله عليه وسلم على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت علي إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد» ومن الأنواع التي لا يختلِفُ أهلُ الحديثِ في صِحَّتِها ما أخرجه أحمد، (¬2) ومسلمٌ، (¬3) والترمذي (¬4) وصححه، وأبو داودَ، (¬5) والنسائي، (¬6) وصحَّحه ابنُ خزيمةَ، (¬7) وابن حبانَ والحاكم والبيهقيُّ [4] عن أبي مسعود البدريِّ قال: أتانا رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ ونحنث في مجلسِ سعدِ بن عبادةَ، فقال له بشيرُ بن سعد: أمرَنَا الله أنْ نصلِّي عليك، فكيفَ نصلِّي عليك؟ قال: فسكت رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ حتى تمنينا أنّه لم يسأله، ثم قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6360) ومسلم في صحيحه رقم (407) وأبو داود رقم (979) والنسائي في (السنن) (3/ 48). (¬2) في (المسند) (4/ 118). (¬3) في صحيحه رقم (65/ 405). (¬4) في (السنن) رقم (3220). (¬5) في (السنن) (980، 981). (¬6) في (السنن) (3/ 45 ـ 46 رقم 1285) وفي (عمل اليوم والليلة) رقم (48). (¬7) في صحيحه رقم (1/ 351 ـ 352). وهو حديث صحيح وقد تقدم.

«اللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما صلِّيتَ على آل إبراهيمَ، وباركْ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما باركت على آل إبراهيمَ في العالمين إنك حميدٌ مجيدٌ، والسلام كما قد علمتم». وزاد أبو داود (¬1) في رواية: «اللهم صلي على محمد النبيِّ الأميِّ، وعلى آله محمدٍ». وفي أخرى له: «كما باركتَ على آل إبراهيمَ في العالمينَ». وأخرج البخاريُّ (¬2) عن أبي سعيد الخُدريِّ قال: قلنا يا رسول الله، هذا السلام، فكيف نصلِّى عليك؟ قال: «قولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ عبدك ورسولِكَ، كما صلَّيتَ على إبراهيمَ، وباركُ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما باركتَ على إبراهيمَ» قال أبو صالح عن الليثِ: وبارْك على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما باركتْ على إبراهيمَ وآلَ إبراهيمَ. وأخرجَهُ أيضًا النسائيُّ، (¬3) وابن ماجهْ. (¬4) وفي الباب أحاديثُ منها ما هو صحيحٌ عند بعض أئمةِ الحديثِ دونَ بعضٍ، كحديث أبي هريرةَ عند أبي داودَ (¬5) عن النبيِّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أنه قال: «مَنْ سرَّهُ أنْ يكتالَ بالمكيالِ الأوْفى إذا صلَّى علينا أهلَ البيتِ فليقلْ: اللهمَّ صلِّ على محمدٍ النبيِّ وأزواجهِ أمهاتِ المؤمنينَ، وذرِّيتِه، وأهلِ بيتهِ، كما صليتَ على آل إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ»، وهذا الحديثُ سكتَ عنه أبو داودَ، وسكتَ عنه المنذريُّ في مختصرِ السُّننِ. (¬6) ¬

(¬1) في (السنن) رقم (981). (¬2) في صحيحه رقم (4798). (¬3) في (السنن) رقم (3/ 49). (¬4) في (السنن) رقم (903). (¬5) في (السنن) رقم (982). وهو حديث ضعيف. (¬6) (1/ 456).

وقدِ اختلفَ فيه على أبي جعفرٍ محمدِ بنِ عليٍّ عن المجمرِ، عن أبي هريرةَ. وأخرجه النسائي في مسند (¬1) عليٍّ ـ عليه السلام ـ من طريقِ عَمْرو بن عاصمٍ، عن حِبَّانَ بنِ يسارٍ الكِلابيِّ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ طلحةِ الخُزاعيِّ، عن أبي جعفر المذكورِ، عن محمدٍ بنِ الحنفيةِ، عن أبيهِ أميرِ المؤمنينَ، عن النبيِّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ بلفظ حديثِ أبي هريرة. وقد اختُلِفَ فيه على أبي جعفرٍ أيضًا، وعلى بن حِبَّانَ بن يسارٍ. وأخرج أحمدُ (¬2) عن بريدةَ مرفوعًا بلفظِ: «اللهمَّ اجعلْ صلواتِكَ، ورحمتَك، وبركاتِكَ على محمدٍ، وآل محمدٍ، كما جعلتَها على إبراهيمَ إنكَ حميدٌ مجيدٌ». في إسنادِهِ أبو داود الأعمى، واسمُه نُفيعٌ وهو ضعيفٌ جدًّا، ومُتَّهَمٌ بالوضع. (¬3) وأخرج أحمدُ نُفيع بن الحارث، أبو داود النخعي الكوفي القاضي الهمداني الأعمى. قال البخاري يتكلمون فيه، وقال يحيى بن معين: ليس بشيء. قال النسائي: متروك. (ميزان الاعتدال) (4/ 272 رقم 9115). (¬4) في (المسند) (1/ 199). عن زيد بن خارجةَ مرفوعًا بلفظِ: «قولوا: اللهمَّ صلِّ على محمدٍ، وعلى آله محمدٍ». وفي الباب أيضًا عن رُوَيْفِعِ بن ثابت، وجابرٍ، وابنِ عباسٍ أخرَجَهَا المستغفريُّ في الدَّعواتِ. وفي الباب غيرُ ذلكَ، ولكنَّ المقصودَ من السؤالِ هو بيانُ الصلاةِ التي أجمعَ العلماءُ على أنَّها مأثورةٌ. وقد قرَّرْنا أنما أجمعَ أئمةُ الحديثِ على صحته فهو مجمعٌ عليه عند غيرِهم من العلماء [5] لما سلفَ. ومن جملةِ ما وقعَ الإجماعُ على صِحَّتِهِ ما في الصحيحينِ من الأحاديثِ المسْنَدَةِ: قال: ¬

(¬1) لم أجده. (¬2) في (المسند) (5/ 353) بإسناد ضعيف جدًّا. (¬3) نُفيع بن الحارث، أبو داود النخعي الكوفي القاضي الهمداني الأعمى. قال البخاري يتكلمون فيه، وقال يحيى بن معين: ليس بشيء. قال النسائي متروك. (ميزان الاعتدال) (4/ 272 رقم 9115). (¬4) والنسائي

ابنُ الصلاح (¬1): إنَّ العلمَ اليقينيَّ النظريَّ واقعٌ بهِ، خلافًا لقول من نفَى ذلكَ، يعين: حصولَ اليقينِ، مُحْتَجًّا بأنَّه لا يفيدُ في أصلِهِ إلا الظنَّ، وإنما تلقَّتْهُ الأمُّةُ بالقَبولِ. قال ابن الصلاحِ (¬2): وكنت أميلُ إلى هذا أو أحْسَبُهُ قويًّا، ثم بانَ لي أنَّ المذهبَ الذي اخْترناهُ أوَّلاً هو الصحيحُ، لأنَّ ظنَّ مَنْ هو معصومٌ من الخطأ لا يخطئ .. إلى آخر كلامه. وقد سبقه إلى ذلكَ محمدُ بنُ طاهرٍ المقدسيُّ، وأبو نصرٍ عبدُ الرحيم بنُ عبدِ الخالقِ بن يوسفَ. واختارَهُ ابنُ كثيرٍ (¬3) وحكَى في علوم الحديثِ لهُ أنَّ ابنَ تيميةَ (¬4) حكَى ذلكَ عن أهلِ الحديثِ، وعن السلفِ، وعن جماعاتٍ كثيرةٍ من الشافعيةِ، والحنابلةِ، والأشاعرةِ، والحنفيةِ، وغيرِهم. قال النوويُّ (¬5): وخالفَ ابنَ الصلاحِ المحققونَ والأكثرونَ فقالوا: يفيدُ الظنَّ ما لم يتواتر، ونحوَ ذلك. حكَى زينُ الدينِ (¬6) عن المحققينَ واختاره، والمقصودُ من نقلِ هذا الكلامِ أنَّ العلماء متفقونَ على صحَّةِ ما في الصحيحينِ، وإنما اختلفوا هلْ هو يفيدُ العلمَ اليقينيَّ أو لا يفيدُ إلاَّ الظنَّ في غيرِ ما لم يتواتَرْ. وقد حكى الاتفاقَ على تلقي الأمَّةِ لما في الصحيحينِ بالقَبولِ السيدِ العلامةُ محمدُ بنُ إبراهيمَ الوزيرُ في تنقيحِ الأنظارِ، (¬7) وقال: هو الظاهرُ. وحكى عن جماعةٍ من أئمةِ أهلِ البيتِ ما يوافقُ ذلكَ، ثم قال بعد ذلكَ: وقد استمرَّ ذلكَ يعني: الاحتجاجَ بأحاديثِ الصحيحينِ، وشاعَ وذاعَ، ولم يُنْقَلْ عن أحدٍ فيهِ نكيرٌ. ¬

(¬1) في (علوم الحديث) (ص200 ـ 201). (¬2) في (علوم الحديث) (ص200 ـ 201). (¬3) في (الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث) (ص127 ـ 128). (¬4) انظر (مجموع الفتاوى) (18/ 22، 23، 41، 48، 49). (¬5) في (التقريب) (ص1/ 70). (¬6) في (ألفية الحديث) (ص24 ـ 25)، (فتح المغيث) (ص25). (¬7) (ص50 ـ 51) بتحقيقنا.

وهذه طريقٌ من طُرُقِ الإجماعِ المحْتَجِّ بهِ بين لعلماء. وهذه في ديارِ الزيديةِ، فأما بلادُ الشافعيةِ وغيرِهم من الفقهاء، فلا شكَّ في ذلكَ ... انتهى. ومعَ اتِّفاقِهم على الصِّحَّةِ يلزمُ الاتفاقُ على كل صفةٍ من صفات الصلاةِ على النبيِّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ المذكورةِ فيهما، وكذلكَ يلزمُ الاتفاقُ على سائر الصِّفاتِ التي يصدُقُ عليها اسمُ الصحيحِ، وإن لم تكنْ مذكورةً فيهما؛ فإنَّ الصحيحَ عندَ المحدِّثينَ مراتبُ. أولها: ما اتفقَ على إخراجهِ البخاريُّ ومسلمٌ. الثانية: ما انفردَ به البخاريُّ. الثالثة: ما انفردَ بهِ مسلمٌ. الرابعة: ما كان على شرْطِهما، ولم يخرجاهُ في كتابيهِمَا. الخامسةُ: ما كان على شرطِ البخاريِّ. السادسة: ما كان على شرطِ مسلمٍ. السابعة: ما كان صحيحًا عندَ غيرِهِما من الأئمة المعتمدينَ، وليس على شرطٍ واحدٍ منْهما. هكذا حكَى هذهِ المراتبَ عن أئمةِ الحديثِ جماعةٌ من المصنِّفينَ من متأخرِّيهم: السيدُ العلامةُ محمدُ بنُ إبراهيمَ الوزير ـ (¬1) ـ رحمه الله ـ؛ فإذا وجدنا صفةً من صفاتِ الصلاةِ الثابتةِ عنه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ وهي من أحدِ هذهِ الطُّرُقِ السَّبْعِ، ولم ينازِعْ في صِحَّتِها منازعٌ من الأئمةِ المعتبرينَ فهيَ صفةٌ متفقٌ عليها لما سلفَ [6]؛ فإنْ قلتَ: هل يمكنُ جمعُ ألفاظِ الصلاةِ الواردةِ في الأحاديثِ الصحيحةِ، حتَّى يكونَ المصلِّي بها مصلِّيًا بجميعِ المأثورة؟ قلت: نعمْ، قد تصدَّى لجمعِ ذلكَ النوويُّ في شرحِ المهذَّبِ (¬2) فقال: ينبغي أنْ يجْمَعَ ما في الأحاديثِ الصحيحةِ فيقولُ: اللهمَّ صلِّ على محمدٍ النبيِّ الأميِّ، وعلى آل ¬

(¬1) في (تنقيح الأنظار) (ص44 ـ 45). (¬2) (3/ 445).

محمدٍ، وأزواجِهِ، وذريَّتِهِ، كما صليتَ على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيمَ، وباركْ على محمدٍ، وأزواجِهِ، وذريَّتِهِ، كما باركتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ في العالمينَ إنك حميدٌ مجيدٌ. قال العراقيُّ: بقيَ عليه مما في الأحاديثِ الصحيحةِ ألفاظٌ أُخَرُ، وهي خمسةٌ بجمع الجميعِ. قولك: اللهمَّ صلِّ على محمدٍ، عبدِكَ ورسولِكَ، النبيِّ الأميِّ، وعلى آلِ محمدٍ وأزواجِه أمَّهاتِ المؤمنينَ، وذريَّتِهِ وأهل بيتهِ، كما صلَّيتَ على إبراهيمَ، وعلى آل إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ. اللهم باركْ على محمدٍ النبيِّ الأميِّ، وعلى آلِ محمدٍ وأزواجِه وذريته، كما باركتَ على إبراهيمَ في العالمينَ، إنكَ حميدٌ مجيدٌ انتهى. فهذا جملةُ ما اشتملتْ عليهِ الأحاديثُ الصحيحةُ من الألفاظِ، فينبغي للمصلِّى إذا أرادَ أن يَجْمَعَ بين جميعَ ألفاظِ الصلاةِ المأثورةِ أنْ يصلي هذه الصلاةَ، فإنِ اقتصرَ على نوعٍ من الأنواعِ الثابتةِ من طريقٍ صحيحةٍ كما أسلفنا من تلكَ الصفاتِ، فلا شكَّ أنَّه قد صلَّى على النبيِّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ صلاةً مُتَّفَقًا على أنَّها مأثورةٌ لما تقدّمَ، ولكنَّ الأكَمََلَ الجَمْعُ ليكونَ متمثِّلاً لجميع ما أرشدَ إليه الشارعُ. وفي هذا المقدارِ كفايةٌ. انتهى من تحرير المجيبِ عزِّ الدينِ محمد بن على الشوكانيِّ حفظه الله تعالى، ومتَّع بحياته. كان تاريخ الجوابِ عَشْرَ شهرِ الحجةِ الحرامِ سنة 1208 ثمانٍ ومائتينِ وألفٍ.

ثم عاود المجيبُ ـ حفظه الله ـ السائل عافاه الله ـ بسؤال لفظُهُ: حَرَسِكُمُ الله تعالى وتولاَّكُم. قد أفدتُم في الجواب بما يُثْلِجُ الصَّدرَ، وينشرحُ بهِ الخاطرُ أدام الله إفادتَكُم، وكافاكم بالحُسنى، وجزاكم اللهُ خيرَ الجزاء. وبقيَ طرفانِ سهَى السائلُ عن إيرادهِهما، وهو أنَّ مَنْ صلَّى على النبيِّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ تلكَ الصلاةَ التي لفظها: اللهم صلِّ وسلِّم على محمدٍ، حيثُ لم يَرِدْ بها حديثٌ صحيحٌ، هل يشمَلُهُ قولُهُ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا» أم لا يشتملُ إلا مَنْ صلَّى الصلاةَ التي أرشدنا إليها المصطفى ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ؟. الطرف الثاني: أنَّ العلماء قد قالوا: إنَّ الصلاةَ من الله الرحمةُ ومن الملائكةِ الاستغفارُ ومن العبدِ الدعاءُ، ما تلكَ الصلاةُ العشْرُ الذي جازى الله بها العبدَ على صلاته، على النبيِّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ، هل هي رحمانةُ عشرٍ يرحمُ اللهُ بها العبدَ، وإن زاد الفرعُ على الأصلِ [7] فهوَ فضلٌ من اللهِ، وهل هي الرحمةُ تعمُّ النبيَّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ والعبدَ، أو تختلفُ الرحمةُ باختلافِ النبيِّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ والعبدِ؟ فأفضلوا بإيضاحِ الفائدةِ. جزيتم الجنةَ ونعيمَها، فارقموا الجوابَ في قفا هذه الورقةِ وسأنقله في تلك النسخةِ، وأنقله لنفسي، وأرسل ذلك إليكم ـ تولى الله إعانتكم، وكتب ثوابَكُم، بحقِّ محمد (¬1) وآله، والسلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ. ¬

(¬1) تقدم التعليق على هذا اللفظ.

ثم ذكر المجيبُ ـ حفظه الله، ومتع بحياته ـ. ولفظه: حفظكم الله، وتولاَّكم، وشريفُ السلام عليكم، ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ، ولا زالتْ فوائِدُكُم وافدةً. قد عرفتم مما سلفَ أنَّ أقوالَ القائلِ: اللهمَّ صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ صلاةٌ يصْدُقُ عليها مُطْلَقِ القرآن (¬1) ومطلقُ الأحاديثِ (¬2) الصحيحةِ، فيستحقُّ فاعلُها ما وردَ من الإثابةِ على مُطلَقِ الصلاةِ، وليس من شرطِ ذلكَ أنْ تكونَ الصلاةُ التي يفعلها العبدُ على صفةٍ ثبتتْ عنه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ بلِ المعتبرُ صدقُ اسمِ الصلاةِ المأمورِ بها عليها، وإن كانتِ الصلاةُ التي وردَ بها التعليمُ أتمَّ وأكملَ وأفضلَ، ولكنَّ ذلك لا يستلزمُ أنْ تكونَ غيرُها من الصَّلواتِ غيرَ داخلةٍ تحتَ ما رسمَهُ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ من الأجورِ للمصلِّي، ورغَّبَ فيه. والحاصلُ أن الترغيباتِ المطلقةِ صادقةٌ على صفاتِ الصلواتِ المطلقةِ، والصلاةُ المسئولُ عنها فردٌ من الأفرادِ، وصفةٌ من الصفاتِ، ولا مانعَ من أنْ يكْتُبَ اللهُ للعبدِ المصلِّي بإحدى تلكَ الصلواتِ الثابتةِ عنه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ بطريقِ التعليمِ زيادة على ما يكتبه لمن صلَّى بغيرِها، ولكنَّ تلك الزيادةَ غيرُ مانعةٍ من استحقاقٍ لأصلِ المزيدِ عليهِ، بمجرَّدِ فِعْلِ ما يصدُقُ عليه أنَّه صلاةٌ، كالصورةِ المسئولِ عنها مثلاً، وردَ في حديثِ أنسٍ عندَ النَّسائي (¬3) قالَ: قالَ رسولُ اللهِ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليهِ بها عَشْرَ صلواتٍ، وحُطَّتْ عنهُ عَشْرُ ¬

(¬1) قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]. (¬2) انظر الرسالة رقم (191). (¬3) في (عمل اليوم والليلة) رقم (62، 63)، وفي (السنن) (3/ 50). قلت: وأخرجه أحمد 03/ 102، 261)، والحاكم (1/ 550)، والبخاري في (الأدب المفرد) رقم (643)، وابن حبان في صحيحه رقم (904). وهو حديث صحيح.

خطيَّاتٍ، ورُفِعَتْ له عشْرُ درجاتٍ». وللنسائيِّ (¬1) أيضًا في طريقٍ أخرى عن أبي طلحةَ أنَّه جاءَ النبيَّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ ذاتَ يومٍ، والبِشْرُ في وجههِ، فقلنا: إنَّا نرى البِشْرَ في وجِهِكَ، فقالَ: «إنه أتاني مَلَكٌ فقال: يا محمدُ، إنَّ ربَّكَ يقولُ: أما يُرْضيكَ أنْ لا يصلِّيَ عليكَ أحدٌ إلا صلَّيتُ عليهِ عشرًا، ولا يسلِّمُ عليكَ أحدق إلا سلَّمتُ عليهِ عشْرَا»، وأخرج الترمذيُّ (¬2) عن ابن مسعود قالك قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «أولى الناس بي يوم القيامةِ اكثرُهُم عليَّ صلاةً». ولا شكَّ أن فاعل الصلاةِ المسئول عنها يصدُقُ عليهِ أنَّه مُصَلٍّ [8]؛ فيستحقُّ ما ذكرَهُ من صلاةِ اللهِ عليه، ومن حطِّ الخطيَّاتِ، ورفعِ الدرجاتِ، ومن أولويَّتِه بالنبيَّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ يومَ القيامةِ، لأنَّ النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أخبرنا بأنَّه يستحقُّ ذلكَ فاعلُ مطلق الصلاةِ، ولم يقيَّد ذلكَ الاستحقاقَ بكونِ الصلاةِ المفعولةِ هي الصلاةُ التي علَّمنا، وليسَ معنى مطلقِ الصلاةِ المذكورة في الآيةِ والأحاديثِ مجملاً حتى يتوقَّفَ على البيانِ، ولا أولويةُ فِعْلِ الصلاةِ المأثورةِِ يستلزمُ نُقْصاَ مُطْلَقِ الصلاةِ عن استحقاقِ ذلكَ المقدارِ، بل غايتُهُ أن يكونَ فاعِلُها مستحقًا لأجْرٍ زائدٍ على الأجر المذكورِ لمزيَّةِ التأسِّى، وخِصَّيْصةِ التبرُّكِ باللفظ المصْطَفَويَّ. ¬

(¬1) في (عمل اليوم والليلة) رقم (60)، وفي (السنن) (3/ 50). قلت: وأخرجه أحمد (4/ 29، 30)، وابن حبان رقم (915)، والحاكم (2/ 420)، وصححه ووافقه الذهبي، والدارمي في (سننه) (2/ 317). وهو حديث حسن. (¬2) في (السنن) رقم (484)، وقال: هذا حديث حسن غريب. قلت: وأخرجه ابن حبان في صحيحه رقم (911) بإسناد ضعيف.

وأما سؤالكم عن ماهيَّةِ الصلواتِ الواقعةِ منه ـ جلَّ وعلا ـ في قولِهِ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «صلَّى اللهُ عليه بها عشرًا». فأقول: قد تقرَّر لكم أنَّ الصلاةَ هي منه تعالى الرحمةُ، كما حقَّقها بتلكَ الحقيقةِ علماءُ الشريعةِ، فيكون المرادُ أنَّ الله تعالى يرحَمُهُ عشرَ رحَمَاتٍ، وليس في تعدُّدِ الرحمةِ أمرٌ مُسْتَبْعدٌ، فإنَّه قد ثبتَ تعدُّدُها في الأحاديثِ الصحيحةِ. فأخرج الشيخانِ، (¬1) والترمذي (¬2) عنه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أنه قال: «جعل الرحمةَ مائة جزء، فأمسكَ عندَه تسعةً وتسعين، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فَمِنْ ذلكَ الجزء يتزاحَمُ الخلائقُ، حتى ترفَعَ الدابةُ حافِرَها عن ولدِهَا خشية أن تصيبه». وأخرجَ مسلمٌ (¬3) عن سلمانَ الفارسيِّ قالَ: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «إنَّ لله تعالى مائةَ رحمةٍ، فمنها رحمةٌ يتراحمُ بها الخلقُ، ومنها تسعٌ وتسعون ليوم القيامةِ». وفي أُخرى له (¬4): «أنَّ الله تعالى خلقَ يومَ السماوات والأرضَ مائةَ رحمةٍ، كلُّ رحمةٍ طِباقُ ما بين السماء والأرضِ، فجعلَ منها في الأرضِ رحمةً، فبها تعطفُ الوالدةُ على ولدِها، والوحشُ والطيرُ بعضُها على بعضٍ، فإذا كان يوم القيامةِ أكملَها الله تعالى لهذهِ الرحمةِ». ¬

(¬1) أخرجه البخاري رقم (6000)، ومسلم رقم (2752). (¬2) في (السنن) (3541). (¬3) في صحيحه رقم (20/ 2753). (¬4) أي لمسلم في صحيحه رقم (21/ 2753). قال الحافظ في (الفتح) (11/ 433): قال الكرماني: الرحمة هنا عبارة عن القدرة المتعلقة بإيصال الخبر، والقدرة في نفسها غير متناهية، والتعلق غير متناه. لكن حصره في مائة على سبيل التمثيل وتسهيلاً للفهم وتقليلاً لما عند الخلق وتكثيرًا لما عند الله سبحانه وتعالى، وأما مناسبة هذا العدد الخاص فحكى القرطبي ـ في (المفهم) (7/ 83) ـ عن بعض الشراح أن هذا العدد الخاص أطلق لإرادة التكثير والمبالغة فيه، وتعقبه ـ القرطبي ـ بأنه لم تجر عادة العرب بذلك في المائة وإنما جرى في السبعين.

وأما سؤالكم ـ حفظكم الله ـ عن كون هذهِ الرحمةِ تعمُّ النبيَّ وسائرَ العبادِ، أو تختلفُ باختلافِ النبيِّ والعبدِ. فأقول: لم يفرِّقِ الجماهيرُ من أهل العلمِ في ذلكَ، بل جعلوا الصلاةَ من الله هي الرحمةَ، سواءٌ كانتْ صلاةً منه تعالى على النبيِّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أو على غيرِه من العبادِ، وهكذا. قال أهل اللغةِ (¬1) وقال القشيريُّ: هي مِنَ اللهِ لنبيِّهِ تشريفٌ وزيادةُ تكرِمَةٍ، ولسائرِ عبادِهِ رحمةٌ. قال في شرح المنهاجِ (¬2): إن معنى قولِنا اللَّهمَّ صلِّ على محمدٍ عظمةٌ في الدنيا بإعلاء ذكُرِهِ، وإظهارِ دعوتِهِ، وإبقاء شرعيَّتِهِ، وفي الآخرةِ تشفيعُهُ في أمَّتِهِ، وتضعيفُ أَجْرِهِ ومثوبتِهِ. انتهى. وهذا المعنى للصلاةِ عليه ـ صلي الله عليه وآله وسلم [9]ـ هوَ الظاهرُ، ولأنَّ جَعْلَهَا للرحمةِ في حقِّهِ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ مع عِلْمِنا بأنَّ الله تعالى قد غفرَ له من ذنبِهِ ما تقدَّمَ وما تأخَّرِ، وأتمَّ نعمتَهُ عليهِ، وألحقَه بالصالحينَ من إخوانهِ من الأنبياء، بل رفعَ درجتَه عليهم، وَجَعْلَهُ سيِّدَهُم يكونُ قليلَ الجدْوَى، لأنَّ الرحمةَ في الأصلِ الرأفةُ والمغفرةُ كما في القاموس (¬3) وغيره (¬4) من كتب اللغةِ، فالصلاةُ على النبيِّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ إذا كانت لمجرَّدِ الرحمةِ التي هي المغفرةُ كانتْ تحصيلاً للحاصلِ، وهو ما قد علمناه بنصِّ القرآنِ قبل موتِهِ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ وما كانَ بهذهِ المثابَةِ لا ينْدُبُ اللهُ تعالى العبادَ إليهِ، ولا يرغِّبُهُم فيه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ ويبالغ في الترغيبِ، حتى يُرشدَهم إلى فعلِهِ في كل صلاةٍ، ويذمُّ تارِكَهُ عندَ ذكرِهِ، كما أخرجه الترمذيُّ من حديثِ أمير المؤمنين قال: قال رسولُ الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «البخيل من ¬

(¬1) انظر (لسان العرب) (7/ 398). (¬2) للشربيني الخطيب (1/ 528 ـ 529). (¬3) (ص1681). (¬4) انظر: (النهاية) (3/ 50)، (لسان العرب) (7/ 398).

ذُكرتُ عنده فلم يصلِّ عليَّ» (¬1) وكما في حديثِ: «رَغِمَ أنفُ من ذُكِرْتُ عندَه فلم يصلِّ عليَّ». (¬2) إذا تقرَّر هذا فلا بُدَّ أنْ يُجْعَلَ معنى الصلاةِ عليهِ لمعنَى يليقُ بهِ كالتعظيمِ، وإظهارِ الدعوةِ، وإبقاء الشريعةِ، والتشفيعِ، وتضعيفِ الأجرِ، والتشريفِ وإلاَّ لزم تحصيلُ الحاصلِ، واللازمُ باطلٌ فالملزومُ مثلُه. وفي هذا المقدارِ كفايةٌ. والله المسْتَعَانُ، وهو حسبي ونِعْمَ الوكيلُ، وصلَّى الله على سيدنا محمدٍ، وآلهِ، ورضيَ اللهُ عن صَحْبِهِ الراشدينَ. آمينَ آمينَ أمينَ. كمل من خطَّ المجيب حفظه الله وجعله لكل معضلة ومشكلة محلاً. بحق محمد الأمين وصحبه الأكرمين. ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. انظر الرسالة رقم (91). وانظر: (فتح الباري) (11/ 155 ـ 156).

طيب الكلام في تحقيق لفظ الصلاة على خير من حملته الأقدام

(194) 4/ 5 طيب الكلام في تحقيق لفظ الصلاة على خير من حملته الأقدام تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: طيب الكلام في تحقيق لفظ الصلاة على خير من حملته الأقدام. 2 ـ موضوع الرسالة: آداب. 3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، وبه الثقةُ، الحمد لله رب العالمين، الذي علا بحوله ودنا بطوله علا فدنا ودنا فعلى ...... 4 ـ آخر الرسالة: نقل هذا من خط يده الكريمة دامت إفادته، وكان نقل هذا بعنايته حفظه الله وأعلاه وحسبي الله وكفى وصلى الله على محمد وآله وسلم. 5 ـ نوع الخط: خط نسخي غير واضح. 6 ـ عدد الصفحات: 5 صفحات، ما عدا صفحة العنوان. 7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 29 سطرًا. 8 ـ عدد الكلمات في السطر: 15 كلمة. 9 ــ الرسالة من المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم وبه الثقةُ، الحمد لله رب العالمين، الذي علا بحوله ودنا بطوله علا فدنا ودنا فعلى، وملك الآخرة والأولى، الذي دل على ذاته بذاته، وتعالى عن شبهِ الخلائقِ بصفةٍ من صفاته، سبحانه عن إلحاد الملحدين، وجلَّ عن تعطيل المعطِّلين. هو هو لا يعلم قدرَه إلاَّ هو، لا أحد بقادرٍ قدَرَهُ، ولا هو الخليقُ بأن يخالف مخالفٌ بهديه وأمرِه. أحمدُهُ على جزيل نعمهِ، وأشكره على سنى آلائه، ووافر قسْمِهِ، والصلاة والسلام على نبي الرحمة، وسراج الظلمة، وكاشف الغمَّة، من زاده الله على خليقته شرفًا وفخرًا، القائلِ «من صلَّى عليَّ مرةً صلَّى الله عليه بها عشرًا» (¬1) وعلى آله الذين لن يُقْبَلَ من عبد صلاةٌ إلاَّ بالصلاة عليهم، ولن يوفي رسول الله أجره، كل من جان بمودته لهم، وعنايته بهم، وميلِه إليهم، ورغبته فيهم، وأخْذِه عنهم. وصلاتُه عليهم كلِّ حينٍ آمينَ، اللهم آمينَ. وبعدُ: فهذا سؤال صدَّره الحقير الفقير إلى البحر الغزير، والخِضمِّ الزِّخار، والغيثِ المدرارِ والعمرِ النوار، أستاذِ البشرِ، والعقل الحادي عشرَ، شمس سماء المعالي، وبدرِها المنير العالي، مجتهد العصرِ على جهة الحصر والقصر، عزِّ الملَّةِ، وخرِّيْتِ الأدلةِ، ركنِ الدين اليماني محمد بن على بن محمد الشوكاني (¬2) ـ حرس الله ذاته عن الغير، وحماه من كل ضيم وشرٍّ ـ وعليه من ولده شريف السلامُ الأتمُّ، ورحمة الله وبركاته باللفظِ الأعمِّ. نعم هذا السؤال لا يزال يخطرُ بالبال ويحك فيه، ولم يزل الأقل يتطلب، أو عسى نجد ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (408)، وأبو داود رقم (1530)، والنسائي في (السنن) (3/ 50)، والترمذي رقم (485) وقال: حديث حسن صحيح وابن حبان في صحيحه رقم (903). وهو حديث صحيح. (¬2) ندعو الله أن يجعل كل ذلك في ميزان حسناته.

لدائِه ما يشفيه، ولفاقت ذهنه منه ما يغنيه، فمع كثرة التطلُّب، ومحبة الوقوف على ما تُسْقَى به الغلَّة، وتبرأُ به العِلَّةُ لم أقف منه على طائل، ولم يزده مع الإشكال إلاَّ وفورًا وتكاملاً، حتى أني وقفت على نقل لبعض المحققين فسررتُ حين الوقوفِ عليه، وتاقت النفس لمطالعته، وصرفِ الهمة إليه، وعضضته، بالناجذِ والنابِ، ونظرتَ فيه نظر الناقد البصيرِ من أولى الألباب، وكان وقوفي عليه وقوفَ شحيحَ ضلَّ في التربِ خاتَمُهُ، فلم أعد فيه بسوى خفَّيْ حنينٍ، (¬1) ووجدت دندنَته وما إليه لمحَ في البينِ، وفهمت أن محطَّ نظره، وغاية مقصده غيرُ ما أريد فهو في وادٍ وأنا في واد، فحينئذٍ قلت: سبحانه الله [أتبلهِتُ] (¬2) من أنت في وقته وأوانه، أو [تطيل] (¬3) الفكر من قرَّبك الله له في حَلَبةِ ميدانه! هذا لعمري هو التغافُل البالغ إلى غاية، والتساهل الواصل أرفَ نهاية، فتراني قد وجَّهته إليك، وعوَّلت في كشف مُدْلهمَّه بعد الله عليك، فأنت ـ حفظك الله ـ وارثُ العلوم عن أربابها بالتعصيب لا بالرَّحامة، وفاتحُ مربحاتِها بفتوح من الله تعالى وكرامة، مع مدة تعب ونصَبٍ فُقْتَ به جميعَ الأقران، وسُدْتَ به كلَّ ما هو في جميع البلدان [1أ] ومحطّ إليه إلى هو أن يقال: قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬4) ¬

(¬1) قال أبو عبيد: أصل المثل أن حنينًا كان إسكافيًا، من أهل الحيرة فساومه أعرابي بخفين، فاختلفا حتى أغضبه، فأراد غيظ الأعرابي، فلما ارتحل الأعرابي أخذ حُنين أحد خفيّه وطرحه في الطريق، ثم ألقى الآخر في موضع آخر، فلمَّا مرَّ الأعرابي بأحدهما قال: ما أشبه هذا الخفَّ بخفّ حنين ولو كان معه الآخر لأخذته! ومضى فلمَّا انتهى إلى الآخر ندم على تركه الأول، وقد كمن له حنينٌ فلمّا مضى الأعرابي في طلب الأوَّل عمد حنين إلى راحلته وما عليها فذهب بها، وأقبل الأعرابي وليس معه إلا الخفَّان، فقال له قومه، ماذا جئت به من سفرك؟ فقال: جئتكم بخفي حنين، فذهبت مثلاً. يُضرب عند اليأس من الحاجة والرجوع بالخيبة. (¬2) غير واضحة في المخطوط. (¬3) غير واضحة في المخطوط. (¬4) [الأحزاب: 56].

وفي الصحيح (¬1) أنها لما نزلت جاء جماعة من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ إليه ـ عليه وآله الصلاة والسلام ـ فقالوا: يا رسول الله قد عرفنا السلامَ عليك، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلَّينا؟ فقال: «قولوا: اللهمَّ صلَّ على محمد وعلى آل محمد». إلخ. الرواية على اختلاف ألفاظها، وفي جميعها التصريحُ بأنَّ الصلاة على الجملة الإنشائية الطلبيةِ. (¬2) وإذا تقرر هذا فلم أكَدْ أسمعُ، بل وكأني به لم يقع من أحد من المحدثين، ولا غرمتم في قراءة ولا كتب سوى أنه إذا ذكر ـ عليه وآله الصلاة والسلام ـ قال الذاكر هكذا: ـ صلي الله عليه وآله وسلم. وهذه جملة خبريةٌ تفيد الإخبارَ بوقوع صلاة وسلامٍ من الله ـ عز وجل ـ لا أنها تفيدُ أحداثَ صلاة في الحال كما هو لفظهُ. فإن قيل هذا من باب تنزيل المطلوبِ وقوعُه بمنزلةِ الواقعِ كما إذا قيل لك: ادع لفلان. فقلت: غفر الله له، فكأنك تريد أن تقولَ: اللهم اغفر له، فنزَّلتَ المطلوبَ وقوعُه بمنزلة كأنه قد طلب ووقع. (¬3) قلت: هاهنا فرق واضح هو أن الصلاة عليه وآله معلومةُ الوقوعِ من الله ـ سبحانه ـ فالإخبار بوقوعها تحصيلُ حاصل، ولا كذلك طلبُ المغفرة لزيد لنحو حديث: «ولا أنا ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4797) و (4798) وقد تقدم. انظر الرسالة (191، 192). (¬2) انظر: (إعراب القرآن الكريم) محيي الدين الدرويش (8/ 42 ـ 43). (¬3) في هامش المخطوط: الجواب على السؤال أن يقول: قول المصلي: صلي الله عليه مكان اللهمَّ صلِّ عليه. مثل قول القائل: غفر الله له مكان اللهم اغفر له، ولا فرق لا واضح ولا خفي. قولك الصلاة عليه وآله معلومةُ الوقوع إن أردت بالمعلومة الوقوع هذه التي أنشأها المصلِّي بقوله: صلي الله عليه مكان اللهم صلِّ عليه فممنوع لأنَّه إنشاء والتنزيل بمنزلة الواقع لا يصيِّره واقعًا فإنَّه تحصيل حاصل وإن أردت بالمعلومة الواقع غيرها فمسلم ولا يضر فافهم. والله أعلم.

إلاَّ أن يتغمَّدني الله برحمته» (¬1) وإذا كان المهمُّ هو إحداثَ صلاةٍ من العبد في الآن عند ـ عليه وآله الصلاة والسلام ـ أو يبدأ فكأن القائل ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ يقول أخبركم أنها قد وقعتْ عليه صلاةٌ من الله ـ سبحانه ـ فلم يمتثلْ، إذْ يقول الله: إن الله، ويقول صلُّوا فالمغايرةُ تدل عليه لا سيما أنَّ الصحابة وهم فصحاءُ الألسنِ ومن صميم العرب احتاجوا أن يفزعوا إلى [ ..... ] (¬2) جبريل للتعليم، كيف تكون هذه الصلاة المطلوبة من العبد فَعَلَّمَهُمُ، فكيف يكون التخلُّص عن العهدة بغير ما أمر الإنسان به! وكأني بهذه النكتة عقلَ عن التنبه لها المخلَّفون، ولم يعلم ما يترتب عليها المصلون، وكأني بإبليسَ الرجيمِ ـ نعوذ بالله منه ـ ألقى هذه الدسيسةَ، ونمقَ هذا الهجّيرا يريد إحرام المصلين آخر الصلاة لما علم عِظَمَ أجرها، وإكثارَ أهل العلم من ذكرها، فإنْ والبرهان، وإن لم يكن إجمالاً للمعاني، وغفلةٌ عن تصحيح المباني فمثلي أهل لذلك، ومحل يكن ما حررته إشكالاً يحتاج إلى تفكيك وإيضاحٍ وبيانٍ فلديكم غايةُ ما يكون من التبين ¬

(¬1) أخرجه أحمد (3/ 52). وأورده الهيثمي في (المجمع) (10/ 356) وقال: رواه أحمد، وإسناده حسن. من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «لن يدخل الجنة أحدً إلا برحمة الله» قلنا: يا رسول الله، ولا أنت؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته». وهو حديث صحيح لغيره. وله شواهد؟. (منها): ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6463)، ومسلم رقم (2816) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «لن ينجِّى أحدًا منكم عمله». قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته سدِّدوا وقاربوا، واغدُوا ورُوحوا، وشيءٌ من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا». (منها): ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6467) ومسلم رقم (2818) عن عائشة عن النبيِّ صلي الله عليه وسلم قال: «سدِّدوا وقاربوا وأبشروا، فإنَّه لا يُدخل أحدًا الجنةَ عملُه» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلاَّ أنْ يتغمَّدني الله بمغفرةٍ ورحمة». (¬2) هنا كلمة غير مقروءة.

لما هنالك. والذي يجهل يعلم فقد جعلكم الله حملة شريعته [1ب] وجِرانَ علمه وتراجمه. دمتُم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وتحياته كلِّ حين آمين والصلاةُ والسلام على محمد الأمين وآله الميامين كلَّ آنٍ آمين. حرره الحقير إسماعيل بن حسين جغمان (¬1) ـ غفر الله لهما ـ حامدًا لله مصليًا ومسلمًا على رسوله وآله الطاهرين بتاريخ شهر القعدة الحرام سنة 1245. ¬

(¬1) القاضي العلامة الشهيد إسماعيل بن حسين بن حسن بن هادي بن صلاح بن يحيي بن صلاح جغمان اليمني الخولاني الصنعاني. مولده بمدينة صنعاء سنة 1212. له مؤلفات منها الصوارم المنتضاة في جوهر من المناقب المرتضاة، بلوغ الوطر والأنموذج في أعمال الحج وله ديوان شعر. (نيل الوطر) (1/ 270 ـ 273 رقم 127).

وهذا جواب شيخ الإسلام حفظه الله منقول من خط يده الكريمة ولفظُهُ: بسم الله الرحمن الرحيم ـ كثر الله فوائدك ـ: اعلم أنَّ الله ـ سبحانه ـ أمر عباده بالصلاة على رسوله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ فكان حقُّ الامتثال أن يقولوا صلَّينا على رسول الله بالذي هو يقتضيه الأمرُ بالصلاة من الله ـ عز وجل ـ لعباده، فكيف وقع منه تعالى الأمر لعباده بالصلاة فوقع امتثالهم بغير ما يقتضيه ذلك الأمر في لغة العرب، فقالوا: اللهم صلّ على محمد إلخ فهو مثل قول الآمر لغيره: قم فقال المأمور له قم. قال لنا ـ عز وجل ـ: صلُّوا فقلنا: صلِّ. فهذا الإشكال يحتاج إلى جواب قبل الجوابِ على سؤال السائلِ. فإن قلت: أبِنْ لنا جوابَ هذا. قلت: هذه الصلاةُ التي أمر بها ربنا ـ سبحانه ـ عبادَه أنْ يقولوها لرسلِه على شعارٍ عظيم، ولهذا كان مختصًا بالأنبياء مع أنَّ أصل الصلاة في اللغة الدعاءُ كما هو منصوصٌ عليه في صحاح الجوهري، (¬1) وفي غيره من كتب اللغة، (¬2) فكان مقتضى هذه المعنى اللغوي جوازَ قول البعض من العباد للآخر: صلَّيت عليك، لأنه بمعنى دعوتُ لك، لكن هذا الشعارَ لا يجوز أن يكون في غير الربَِ ـ سبحانه ـ. فإن قلت: إذا كان المعنى اللغويُّ ما ذكرتَ فما المانع من التكلُّم به على مقتضى لغة العرب، وإرادة المعنى فيكون قولُ القائل صلَّيت عليك بمنزلةِ قوله دعوتُ لك. قلت: قد عُلم من رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أنه لما نزل الأمر القرآني بالصلاة عليه قالوا له: كيف نصلِّي عليك؟ قال: «قولوا: اللهم صلِّ على محمد ¬

(¬1) (6/ 2402). (¬2) انظر: (لسان العرب) (7/ 398 ـ 399). (مفردات ألفاظ القرآن) (ص 490 ـ 491) للراغب الأصفهاني.

وعلى آل محمد» إلى آخره، وبيَّنت في ذلك تعليمات منه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ لأمَّته، وليس في واحد منها أنه قال: «قولوا: صلَّينا عليك»، بل كلُّها واردة بإرجاع الأمر إلى الله ـ سبحانه ـ. وكذلك لم يقل رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ لأحد من الأحد: صلِّيتُ عليك، بل كان يحيل ذلك على الله ـ عز وجل ـ كما في قوله: «اللهمَّ صلِّ على آل أبي أوفي». (¬1) والنكتةُ في ذلك الاعتراف بعظم أمرِ هذا وتقاصُرِ القُوى البشريةِ عن القيام به، فكأنهم قالوا بلسان الحال في هذا [2أ] المقام: نحن يا ربَّنا لا نقدِرُ على ما أمرتنا به، فقِوَانا تتقاصَرُ عن القيام به، فرددنا ذلك إليك. ولا بد من هذا التنكيت، لأنَّ تعليم رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ لنا كيفية الصلاة التي أمرنا الله ـ سبحانه ـ بها اقتضى أنَّ ذلك هو الحقيقة الشرعيةُ للصلاة المأمورِ بها، والحقيقة الشرعية تنقلُ عن الحقيقةِ اللغويةِ ويكون الاعتماد عليها، لأنَّ الشارع ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ بعثه الله تعالى ليبين للناس ما نزل إليهم، فكان اللائق تفسيرَ الكتاب العزيز بهما. وأمَّا ما سأل عنه السائل ـ كثر الله فوائده ـ فاعلم أنه قد كثر مثلُ ذلك من النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ فكان يقول في الدعاء لأصحابه ـ رحمه الله ـ كما قال لآل عامر، فقالوا: يا رسول الله، لو أمتعتنا به (¬2) فقد أراد النبيُّ ـ صلي الله عليه وآله ¬

(¬1) أخرجه أحمد (4/ 353، 355، 381، 388)، والبخاري في صحيحه رقم (1497) و (4166) و (6332) و (6359)، ومسلم رقم (1078)، وأبو داود رقم (1590)، والنسائي (5/ 31) من حديث ابن أبي أوفي قال: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم إذا تصدق إلى أهل بيت بصدقةٍ، صلّى عليهم، قال: فتصدَّق أبي إليه بصدقةٍ فقال: «اللهمَّ صلِّ على آل أبي أوفى». (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4196)، ومسلم رقم (123/ 1802) من حديث سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى خيبر فسِرْنَا ليلاً، فقال رجلٌ من القوم لعامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من هنياتك؟ وكان عامرٌ رجلاً شاعرًا، فنزل يحدو بالقوم يقول: اللهم! لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فاغفرْ، فِداءً لك، ما اقتفينا ... وثبت الأقدام إن لا قينا وألقينْ سَكينةً علينا ... إنَّا إذا صيح بنا أتينا وبالصياحِ عوَّلوا علينا. فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «من هذا السائق؟» قالوا: عامر. قال: «يرحمه الله». فقال رجل من القوم: وجبت يا رسول الله! لولا أمتعتنا به .... وهو حديث طويل. فراجعه في مظانه وقد ذكرت.

وسلم ـ بهذا اللفظ إنشاء الدعاء له فالرحمة كما يختص (¬1) الصحابةَ ولو كان ذلك إخبارًا عن وقوع الرحمةِ له فيما مضي لنزلَ به ما يدلُّ من الشهادة في ذلك الوقت، ومعلوم أنه لم ينزل به إلا بعد هذه الدعوةِ. وهكذا كان يقول لمن يطلب منه الاستغفارَ له: غفر الله لكَ، ونحوُ هذا كثيرٌ. وقد أطلق على ذلك السلف والخَلفُ، فإنهم يقولون عند رواية الحديث عن الصحابي رضي الله عنه، ويقولون عند الرواية عن غير الصحابي: رحمه الله. وقد جعل أهلُ علم البيان هذا اللفظَ أبلغَ مما يدل على الاستقبالِ كالأمر، وجعلوا النكتة في ذلك هي دلالة الماضي المعبر به عن المستقبل على الوقوع، أي أنه قد تحقق وقوعُه فهي وإن كانت بصيغة الماضي فالمراد بها إنشاء الوقوع بخلاف الأمر، فإنه لا يدلُّ إلاَّ على مجرد الإنشاء، ولا يدل على تحقيق الوقوع. ومن ذلك قول القائل: بعتُ شريت، تزوجت، زوَّجْتُ، وهبْتُ، نذرتُ، فهذه جمل إنشائيةٌ لا إخبار به بالاتفاق. ولو كان المراد بها الإخبارَ لم يصحَّ بها شيء من تلك الأمورِ، لعدمِ وقوع مضمونها في الماضى. ومع هذه النكتة التي ذكرها علماء البيان نكتةٌ أخرى هي تأدُّب العبد مع ربه ـ عز وجل ـ حيث جاء بغير صيغة الأمر، فظهر بهذا أن صيغة الماضي تدل هاهنا على معنى الاستقبال مع زيادة هي تلك النكتة اللطيفة البيانيةُ، والنكتة الأخرى التي ذكرنا، وليس في صيغة الأمر شيء من هاتين النكتتين. ومن هذا القبيل تسليمه ـ عز وجل ـ على كثير من أنبيائه كما في القرآن ¬

(¬1) غير واضحة في المخطوط.

الكريم، كما في تسليمه على نوح ـ عليه السلام (¬1) ـ، وعلى مَنْ بعدَه من الأنبياء بلفظ: سلامٌ، (¬2) فإنَّ أصل ذلك الجملة الفعلية، أي سلَّمتُ سلامًا، وهذا إنشاء سلام عليهم من الربَّ ـ عز وجل ـ إخبارٌ، وإنما عدل به إلى الرفع ليفيدَ الدوامَ والثباتَ الذي هو مدلول الجملِ الاسميةِ، كما هو مقرَّر [2ب] في علم البيان بخلاف الجمل الفعلية، فإنها ربما تدل على مجرد الحدوث مع زيادة التجدُّدِ في المضارعية. فعرفت بهذا أنَّ صيغة المضيِّ في مثل ذلك أدلُّ على الوقوع وأبلغ، وفي هذا المقدار كفاية، والله ولي التوفيق. وقد اقتصرنا على بيان تسويغ مثل ذلك اللفظ الذي سأل عنه السائل، ولا يقال أنه لم يوجد في البيانات النبوية كهذه الصلاة، لأنا نقول لم يرد في التعليمات النبوية ما يدل على انحصار الصلاة المشروعة في اللسان النبوي، ولهذا كثُرتِ الأحاديثُ المبيَّنة لألفاظ الصلاةِ، واختلفتْ اختلافًا كثيرًا وهي ما بين صحيح لا شك في صحته، وحسنٍ لذاته أو لغيرهِ، وبعضُها فيه مقالٌ، لكنه لا يخرج عن القسم المعمولِ به لكثرةِ طرقِه، وشهادة بعضِها لبعضِ، مع أنه قد ورد ما يصلُح للاحتجاج به على ذلك. فأخرج النسائي (¬3) بإسناد صحيح، والطبراني، (¬4) والحاكم (¬5) في الدعاء في قنوت الوتر أنه قال النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ في آخره: وصلى الله على النبيِّ، وهو ¬

(¬1) قال تعالى: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات: 79]. (¬2) منها قوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات: 109]، وقوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} [الصافات: 120]. (¬3) في (السنن) (3/ 248). (¬4) في (الكبير) رقم (2712). (¬5) في (المستدرك) (3/ 172). قلت: وأخرجه أحمد (1/ 200)، والطيالسي رقم (1177، 1179)، وعبد الرزاق في مصنفه رقم (4984) من طرق.

من حديث الحسنِ السِّبْطِ رضي الله عنه قال: علمني رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ كلمات أقولهنَّ: «اللهم أهدني فيمن هديت» إلى آخره. وقد اتفق عليه أهلُ السنن الأربع، (¬1) وابن حبان، (¬2) والحاكم، (¬3) وابن أبي شيبة. (¬4) وإلى هنا انتهى الجواب. كتبه محمد بن على الشوكاني ـ غفر الله لهما ـ نقل هذا من خط يده الكريمة دامت إفادته، وكان نقل هذا بعنايته حفظه الله وأعلاه وحسبي الله وكفى وصلى الله على محمد وآله وسلم. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود رقم (1425)، والترمذي رقم (464)، وقال: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه، من حديث أبي الحوراء السّعديِّ، واسمه: ربيعة بن شيبان. والنسائي (3/ 248). (¬2) في صحيحه رقم (945). (¬3) في (المستدرك) (3/ 172). (¬4) في مصنفه (2/ 300). عن الحسن بن على ـ رضي الله عنهما ـ قال: علمني رسول الله صلي الله عليه وسلم كلمات أقولهنَّ في الوتر: «اللهمَّ اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولَّني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت وقني شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت». وهو حديث صحيح.

بحث في الأذكار الواردة في التسبيح

(195) 24/ 4 بحث في الأذكار الواردة في التسبيح تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في الأذكار الواردة في التسبيح. 2 ـ موضوع الرسالة: الأذكار. 3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. سبحانك اللهمَّ وبحمدك، لا أحصى ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، والصلاة والسلام على رسولك وآله وبعد. فإنه ورد في الأذكار من الكتاب والسنة ..... 4 ـ آخر الرسالة: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم. وفي هذا المقدار كفايةٌ لمن له هداية والله ولي التوفيق .. 5 ـ نوع الخط: خط نسخي. 6 ـ عدد الصفحات: 3 صفحات. 7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 30 سطرًا. 8 ـ عدد الكلمات في السطر: 13كلمة. 9 ــ الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم سبحانك اللهمَّ وبحمدك، لا أحصى ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، والصلاة والسلام على رسولك وآله وبعد: فإنه ورد في الأذكار من الكتاب والسنة عمومًا وخصوصًا ما هو معروف، ولكنه ورد في خصوص التسبيحِ من الآيات أكثرُ مما ورد في غيره من الأذكار وكان ذلك مشعرًا بمزيد شرفِهِ، ودالاً علي أنافةِ فضلِه، وعظيم أجْرِه. فمن ذلك قوله ـ سبحانه ـ: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (¬1) {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (¬2) فإن المجيء بالتسبيح من الملائكةِ عند الاعترافِ منهم بعدم العلم إلاَّ العلمَ الذي علَّمهم الله ـ سبحانه ـ يدل على أن التسبيح عظيم الشأن, جليلُ المقدار. وفمن ذلك قوله ـ سبحانه ـ {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} (¬3) , فإنه ـ سبحانه ـ جاء بهذا التسبيح ردًَّا على من قال إنه اتَّخذ تعالى ولدًا. ومن ذلك قوله ـ سبحانه ـ {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} , (¬4) فإنهم جعلوا ذلك وسيلةً إلى الوقاية من عذاب النار. وقال ـ سبحانه ـ ردًا من جعلَ الآلهة ثلاثةً: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ¬

(¬1) [البقرة:30]. (¬2) [البقرة:32]. (¬3) [البقرة:116]. (¬4) [آل عمران:191].

وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} (¬1) ثم قال المسيح ـ عليه السلام ـ ردًا من قال إنه أدَّعى الألهية: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (¬2) وكذلك قال الله ـ سبحانه ـ ردًا على من جعل لله شركاء الجنَّ كما حكاه عنهم بقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} (¬3) وكذلك قال موسى ـ عند توبته من سؤال ما ليس له كما حكاه الله عنه ـ بقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬4) وكذا حكى الله ـ سبحانه ـ عن الذين لا يستكبرون عن عبادته فقال: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} , (¬5) وقال في الآية الأخرى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ ¬

(¬1) [النساء:171]. (¬2) [المائدة:116]. (¬3) [الأنعام:100]. (¬4) [الأعراف:143]. (¬5) [الأعراف:206].

عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬1) وقال في ذكر أهل الجنة: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} (¬2) وقال: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬3) وقال سبحانه: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (¬4) وقال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (¬5) وقال مرشدًا إلى التسبيح: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} (¬6) وقال سبحانه منزِّلهاً لنفسِه عن الشركِ به: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬7) وقال سبحانه عند الإسراء برسوله ـ صلي الله عليه وسلم ـ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (¬8) فعنون هذا الأمرَ العظيم في صدرِ هذه ¬

(¬1) [التوبة:31]. (¬2) [يونس:10]. (¬3) [يونس:18]. (¬4) [يونس:68]. (¬5) [يوسف:108]. (¬6) [الحجر:98]. (¬7) [النحل:1]. (¬8) [الإسراء:1].

السورة بالتسبيح. وقال ـ سبحانه ـ منزِّها لنفسه عما كان يفعلُه المشركون: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} , (¬1) {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)} (¬2) وقال ـ سبحانه ـ حاكيًا عن السماوات والأرض ومن فيهنَّ ـ: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} , (¬3) فانظر هذه الخصيصةَ الجليلةَ للتسبيح حيث صارَ ذكرًا لكل حيوانٍ, وكلِّ جماد, وليس في الأذكار الواردةِ في الكتاب والسنةِ ما له المزيةُ العظيمةُ, والفضيلة الشريفة. وقال ـ سبحانه ـ معلمًا لرسوله ـ صلي الله عليه وسلم ـ بما يجيب به على المشركينَ حيث قالوا: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} (¬4) وقال ـ سبحانه ـ حاكيًا عن أهل العلم وما يصنعونَه عند تلاوة آيات الله عليهم: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)} (¬5). ¬

(¬1) [النحل:57]. (¬2) [الإسراء: 42 - 43]. (¬3) [الإسراء:44]. (¬4) [الإسراء:93]. (¬5) [الإسراء:107 - 108].

وكذلك قال في الإرشاد إلى الاستكثارِ من التسبيح: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ [2أ] أَنْ سَبِّحُوا [بُكْرَةً] (¬1) وَعَشِيًّا} (¬2). ومن ذلك قوله ـ سبحانه ـ: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬3) وقال سبحانه: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)} (¬4) فذكر التسبيحَ بخصوصِه, ثم عمَّمَ الذِّكْرِ فداَّ ذلك على مزيد شرفِهِ. وقال في أمره ـ سبحانه ـ لرسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ أن ستدفع شر المشركين بالتسبيح: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} (¬5). وقال ـ سبحانه ـ حاكيًا عن الملائكة المقرَّبين أنهم يسبِّحون دائمًا: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} (¬6). وقال سبحانه في ردِّ قول من قال بتعدُّد الآلهةِ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (¬7). ¬

(¬1) في المخطوط مكررة (¬2) [مريم:11] (¬3) [مريم:35]. (¬4) [طه:33]. (¬5) [طه: 130]. (¬6) [الأنبياء: 19 - 20]. (¬7) [الأنبياء:22].

وكذلك قال في لردِّ على من قال: إنه اتَّخذ ولدًا: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} (¬1). وكذلك حكى ـ سبحانه ـ عن ذي النون أنه استغاثَ بالتسبيح فقال: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (¬2). وكذا قال سبحانه في الردِّ على من زعم أنه اتَّخذ ولدًا أو كان معه شريكٌ: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} (¬3). وكذلك قال سبحانه في مثل ذلك: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (¬4). وقال سبحانه حاكيًا عن قوم لازَمُوا التسبيح: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (¬5) وقال ـ سبحانه ـ حكايةً عن جميع مخلوقاته أنها مسبِّحةٌ له: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} (¬6) ¬

(¬1) [الأنبياء:26]. (¬2) [الأنبياء:87]. (¬3) [المؤمنون:91]. (¬4) [النور: 16]. (¬5) [النور: 36]. (¬6) [النور: 41].

وقال ـ سبحانه ـ: {قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} (¬1) وقال ـ سبحانه آمرًا لرسوله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ بالتوكُّل عليه، والتسبيحِ له: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} (¬2) وقال ـ سبحانه ـ: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬3) وقال ـ سبحانه ـ: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬4) وقال سبحانه مرشِدًا إلى ملازمة التسبيحِ: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} (¬5) وقال سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}. (¬6) وقال سبحانه في وصف المؤمنين بآياتهِ: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ ................................. ¬

(¬1) [الفرقان: 18]. (¬2) [الفرقان: 58]. (¬3) [النمل: 8]. (¬4) [القصص: 68]. (¬5) [الروم: 17]. (¬6) [الروم: 40].

لَا يَسْتَكْبِرُونَ}. (¬1) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)} (¬2) وقال سبحانه حاكيًا عن صالحي عبادِهِ: {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} (¬3) وقال ـ سبحانه ـ: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} (¬4) وقال ـ سبحانه ـ: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬5) وقال ـ سبحانه ـ حاكيًا عن ذي النون: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)} (¬6) وقال ـ سبحانه ـ دافعًا لما قاله المشركون: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159)} (¬7) وقال ـ سبحانه ـ في مثل ذلك: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) ¬

(¬1) السجدة: 15]. (¬2) [الأحزاب: 42]. (¬3) [سبأ: 41]. (¬4) [يس: 36]. (¬5) [يس: 83]. (¬6) [الصافات: 143 ـ 144]. (¬7) [الصافات: 158 ـ 159].

وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} (¬1) وقال ـ سبحانه ـ في الردّ على المشركين: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (¬2) وقال ـ سبحانه ـ في مثل ذلك: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬3) وقال ـ سبحانه ـ حاكيًا عن الملائكة أنهم يسبِّحونه: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬4) قال ـ سبحانه ـ: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} (¬5). قال ـ سبحانه ـ مخبِرًا عن تسبيحِ ملائكِته: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} (¬6). قال سبحانه مرشدًا عباده إلى التسبيح: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ ¬

(¬1) [الصافات: 180 ـ 182]. (¬2) [الزمر: 4]. (¬3) [الزمر: 67]. (¬4) [الزمر: 75]. (¬5) [غافر:55]. (¬6) [الشورى:5].

مُقْرِنِينَ} (¬1). وقال ـ سبحانه ـ: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (¬2). وقال سبحانه: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)} (¬3). وقال في الرد على المشركين: {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬4). وقال - سبحانه - مرشدًا لرسوله - صلي الله عليه وسلم - إلى التسبيح: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)} (¬5). وقال سبحانه: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (¬6). وقال سبحانه حاكيًا عن مخلوقاته في السماء والأرض: {(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)} (¬7). وقال - سبحانه - في مثل ذلك: {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ ¬

(¬1) [الزخرف:13]. (¬2) [الزخرف:82]. (¬3) [ق: 39 - 40]. (¬4) [الطور:43]. (¬5) [الطور: 48 - 49]. (¬6) [الواقعة:74]. (¬7) [الحديد:1].

الْحَكِيمُ} (¬1). وقال - سبحانه -: {(هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)} (¬2). وقال - سبحانه - في مثل ذلك: {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬3). وقال - سبحانه - في مثل ذلك أيضًا: {(يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)} (¬4). وقال - سبحانه -: {(قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ) (قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ)} (¬5). وقال - سبحانه -: {(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)} (¬6). وقال - سبحانه -: {(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)} (¬7). وقال - سبحانه -: {(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)} (¬8). ¬

(¬1) [الحشر:24]. (¬2) [الحشر: 23 - 24]. (¬3) [الحشر:24]. (¬4) [التغابن:1]. (¬5) [القلم:28, 29]. (¬6) [الواقعة:74]. (¬7) [الأعلى:1]. (¬8) [النصر:3].

فهذه جملةُ ما ورد من الكتاب العزيز, ولم يردْ في غيره من الأذكار في الكتاب العزيز ما ورد فيه, وهذه الآياتُ الكريمات قد دلَّت على أن هذا اللفظَ ليس هو لمجرد التنزيهِ فقط كما يفهم ذلك من له فهمٌ صحيح. وإذا قد عرفتَ ما ورد في شرفهِ وفضلهِ في الكتاب العزيز فلنذكرْ بعضَ ما ورد في ذلك من السنةِ المطهرةِ فمن ذلك حديثُ أبي الدرداء أنه - صلي الله عليه وسلم - قال له: ((ألا أعلِّمك شيئًا هو أفضلُ من ذكركَ لله الليلَ مع النهارِ؟ سبحان الله عدَدَ ما خلَقَ الله, وسبحانَ الله عددَ كلِّ شيءِ, وسبحان الله ملءَ كل شيءٍ, وسبحان الله عددَ ما أحْصَى كتابُه, وسبحانَ الله ملءَ ما أحصَى كتابُه)) الحديثُ أخرجهُ البزار (¬1) والطبرانيُّ. (¬2) قال في مجمع الزوائد: (¬3) رواه الطبرانيُّ والبزَّار, وفيه ليثُ بن أبي سليم, وهو ثقةٌ, ولكنه مُدَلِّسٌ, (¬4) وأبو إسرائيلَ الملائي حسنُ الحديثِ, (¬5) وبقية رجالهما رجالُ الصحيح, وأخرجه النسائي, (¬6) وابن حبان, (¬7) وأحمد, (¬8) والطبراني (¬9) من حديث أبي أمامةَ, وصححه ابن حبان, (¬10) وأخرجه أيضًا الحاكم (¬11) وصحَّحَهُ. ¬

(¬1) في ((مسنده)) (4/ 9 رقم3071 - كشف) (¬2) عزاه إليه الهيثمي في ((المجمع)) (10/ 88) (¬3) (10/ 88) (¬4) انظر: ((ميزان الاعتدال)) (3/ 420 رقم 6997) (¬5) انظر: ((ميزان الاعتدال)) (4/ 490 رقم 9957) (¬6) في ((عمل اليوم والليلة)) رقم (166). (¬7) في صحيحه رقم (830). (¬8) في ((المسند) 9 (5/ 249). (¬9) في ((الكبير)) رقم (7930). (¬10) في صحيحه رقم (830). (¬11) في ((المستدرك)) (1/ 513). عن أبي أمامة الباهلي. أن رسول الله مرّ به وهو يُحرِّك شفتيه فقال: ((ماذا تقول يا أبا أمامة؟)) قال: أذكر ربي, قال: ((ألا أخبرك بأكثر أو أفضلُ من ذكركَ الليلَ مع النهار والنهار مع الليل؟ أن تقول: سبحان الله عدد ما خلق, وسبحان الله ملء ما خلق, وسبحان الله عدد ما ما في الأرض والسماء, وسبحان الله ملء ما في الأرض والسماء, وسبحان الله عدد ما أحصى كتابه, وسبحان الله عدد كل شيءٍ, وسبحان الله ملء كل شيءٍ, وتقول الحمد لله مثل ذلك)). وهو حديث صحيح.

وأخرج الترمذي (¬1) من حديث أبي ذرِّ قال: قال رسول الله - صلي الله عليه وآله وسلم -: ((ألا أخبرك بأحبِّ الكلام إلى الله؟)) قال: قلت: يا رسول الله, أخبرني بأحبِّ الكلام إلى الله, قال: ((إن أحبِّ الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده)). وأخرجه أيضًا مسلمٌ (¬2) من حديثه ولفظُه: إن رسول الله - صلي الله عليه وآله وسلم - سئل أيُّ الكلامِ أفضلُ؟ قال: ((ما اصْطَفى الله لملائكتِه أو لعبادِه سبحانَ الله وبحمدِه)). وأخرجه أيضًا النسائي, (¬3) وقال الترمذيُّ: (¬4) حسن صحيحٌ. والأحاديث في فضل هذه الكلمة على انفرادها, وفضلِها وعظيمِ أجرهِا مع غيرها من التوحيد والتكبيرِ والتحميدِ متواترةٌ معروفةٌ. فلا نطيل البحثَ بذكرها فهي معروفةٌ لكل من يعرف السنةَ. ومنها ما هو في الصحيحين (¬5) أو ............................................... ¬

(¬1) في ((السنن)) رقم (3593). قلت: وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (85/ 2731). (¬2) في صحيحه رقم (84/ 2731). (¬3) في ((عمل اليوم والليلة)) رقم (824). (¬4) في ((السنن)) (5/ 576). وهو حديث صحيح. (¬5) أخرج البخاري رقم (6405) ومسلم في صحيحه رقم (2691) والترمذي رقم (3466) والنسائي في ((عمل اليوم والليلة)) رقم (826) ومالك في الموطأ (1/ 209) وابن ماجه رقم (3812) عن أبي هريرة رضي الله عنه, أنَّ رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: ((ومن قال سبحان الله وبحمده, في يوم مائة مرَّةٍ غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر)).

في أحدهما، (¬1) ومنها ما هو في غيرهما (¬2) وهو صحيح، أو حسن، وناهيك أن الله ـ سبحانه ـ جعل أذكارَ الركوع والسجودِ في الصلاة من التسبيحِ بسبحانَ ربِّيَ العظيم في الركوع، (¬3)، وسبحان ربِّيَ الأعلى في السجود. قد كان رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ يعِّلمها من يَفِدُ [4أ] إلى مكة من طوائفِ العرب وهم مشركونَ كما ورد بذلك الحديثُ. ولم لم يرد في ذلك إلاَّ ما ثبت في صحيح البخاريّ (¬4) وغيره (¬5) عنه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «كلمتانِ ثقيلتانِ ¬

(¬1) أخرج مسلم في صحيحه رقم (2137) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «لأن أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس .... ». (¬2) أخرج الترمذي في (السنن) رقم (3464)، وقال: حديث حسن صحيح غريب والنسائي في (عمل اليوم والليلة) رقم (827)، وابن حبان في صحيحه رقم (824)، والحاكم (1/ 501، 512). عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: «مَن قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة»، وهو حديث حسن. (¬3) أخرج البخاري في صحيحه رقم (817)، ومسلم رقم (484)، وأبو داود رقم (877)، والنسائي (2/ 1122) و (2/ 220 رقم 1123)، وابن ماجه رقم (889)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك الله ربنا وبحمدك، اللهمَّ اغفر لي». (¬4) بل في صحيحه رقم (6406)، ومسلم رقم (2694). (¬5) كالترمذي رقم (3467)، وابن ماجه رقم (424، 825)، والنسائي في (عمل اليوم والليلة) رقم (830) كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. فائدة: قال ابن الأثير في (النهاية) (2/ 331): قد تكرر في الحديث ذكر التسبيح على اختلاف تصرّف اللفظة. وأصل التسبيح: التَّنزيه والتقديس والتبرئة من النقائص، ثم استعمل في مواضع تقرب منه اتساعًا يقال سبَّحته أسبِّحه تسبيحًا وسُبحان. فمعنى سبحان الله: تنزيه الله، وهو نصب على المصدر بفعل مضمر كأنه قال: أُبرِّئُ الله من السوء براءةً. وقيل معناه: التَّسّرع إليه والخفَّة في طاعته، وقيل معناه: السُّرعة إلى هذه اللَّفظة، وقد يطلق التسبيح على غيره من أنواع الذكر مجازًا، كالتَّحميد والتَّمجيد وغيرهما وقد يطلق على صلاة التطوّع والنافلة. ويقال أيضًا للذِّكر ولصلاة النَّافلة: سبْحَه. يقال قضيت سبحتى. والسبَّحة من التَّسبيح، كالسُّخرة من التَّسخير، وإنَّما خصَّت النافلةُ بالسُّبحة وإن شاركتها الفريضة في معنى التسبيح لأن التسبيحات في الفرائض نوافل.

في الميزان، خفيفتانِ على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان اللهِ وبحمدهِ سبحانَ اللهِ العظيم». وفي هذا المقدار كفايةٌ لمن له هدايةٌ والله ولي التوفيق [4ب].

نزهة الأبصار في التفاضل بين الأذكار

(196) 24/ 5 نزهة الأبصار في التفاضل بين الأذكار تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: نزهة الأبصار في التفاضل بين الأذكار. 2 ـ موضوع الرسالة: الأذكار. 3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه الطاهرين، وبعد. فإنه ما زال يتكرر السؤال عن من يسبح أو يهلل أو يكبر أو يحمد .... 4 ـ آخر الرسالة: قوله سبحانه: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} بفحوى الخطاب وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. كتبه مؤلِّفه محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما. 5 ـ نوع الخط: خط نسخي مقبول. 6 ـ عدد الصفحات: 12 صفحة + صفحة العنوان. 7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 36 سطرًا. 8 ـ عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة. 9 ــ الرسالة من المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه الطاهرين. وبعد. فإنه ما زال يتكرر السؤال عن من يسبح أو يهلل أو يكبر أو يحمد أو يشكر أو نحوِ ذلك من الأذكار، أو الأدعية مرَّة بعد مرة، حتى يبلغَ ذلك عددًا كثيرًا، وعن من يقول ذلك مرَّة واحدة مضيفًا له إلى عددٍ كثيرٍ، كأن يقول أحدُهما: سبحان الله مثلاً ثم يكرِّر ذلك حتى يبلغَ ألف مرَّةٍ، ويقول الآخر: سبحان الله ألفَ مرَّة، أو قال: فعدد كذا أو زِنَةَ كذا، أو ملء كذا من غير تكريرِ كما فعل الأول، فهل ثواب الأول فوقَ ثواب الآخر لما وقع منه من التكرارِ الذي فيه كثير تعبٍ، ومزيد عمل باللسان، أم هما في الثواب سواء؟

أقول الجواب فيه أبحاث أربعةٌ، وبها يتضح المراد. البحث الأول: أنه قد ثبت عن النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أنه أحال على الأعداد ونحوِِها من العظم والكبرِ، وعلى الوزنِ ونحوِه، فمن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه، (¬1) وأبو داود، (¬2) والترمذي، (¬3) والنسائي (¬4) من حديث جويرية. وقد خرجَ من عندها ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ حين صلَّى الصبحَ، وهي تسبح، ثم رجعَ إليها وهي جالسةٌ بعد أن أضحى، فقال لها: «ما زلت على الحالِ التِي فارقتك عليها؟» قالت: نعم. قال: «لقد قلتُ بعدَك ثلاثَ مرَّات. أربع كلماتٍ لو وزِنَتْ بما قلتِ منذ اليوم لوزنتهنَّ، سبحان الله وبحمدِه عددَ خلقه، ورضاءَ نفسِه، وزنةَ عرشه ومِدَادَ كلماتِه». وفي لفظ لمسلم (¬5): «سبحانه الله عدد خلقه، سبحان الله زنَة عرشه، سبحان الله مدادَ كلماتِه». وزاد النسائي (¬6) في آخر الحديث: «والحمد لله» كذلك، وفي رواية له «سبحان الله وبحمدِه، ولا إله إلاَّ الله والله أكبر عددَ خلقِه، ورضاءَ نفسِه، وزنةَ عرشِه، ومداد كلماته» فهذا الحديث يدلُّ أعظمَ دلالةِ على أنَّ من أحال على عددٍ ونحوِه يكون له من الثواب بقدرِ ذلك، ولهذا قال ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ لجويرية: «لقد قلتُ بعدَك ثلاثَ مرَّات أربعَ كلماتٍ لو وُزِنَتْ بما قلتِ لوزنتهنَّ» فهذا تصريحٌ منه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ بأنَّ هذه الكلماتِ التي قالها تعدلُ ما قالته جويرية من ¬

(¬1) رقم (2726). (¬2) في (السنن) رقم (1503). (¬3) في (السنن) رقم (3555). (¬4) في (عمل اليوم والليلة) رقم (161) قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (3808). (¬5) في صحيحه رقم (000/ 2426). (¬6) في (عمل اليوم والليلة) رقم (162).

بعد صلاة الصبح إلى الضحى. وأخرج أبو داود، (¬1) والترمذي، (¬2) وحسَّنه، (¬3) والحاكم، (¬4) وابن حبان (¬5) وصحَّحاه من حديث سعد بن أبي وقاص أنَّه دخل فتكلَّم على امرأة وبينَ يديها نوى أو حصًى تسبِّحُ به فقال: «ألا أخبرك بأيسرَ عليك من هذا، أو أفضل؟ فقال: سبحان الله عددَ ما خلق في السماء، وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض، وسبحان الله عدد ما بينَ ذلك، وسبحان الله عدد ما هو خالقٌ، والله أكبر مثلُ ذلك، والحمد لله مثلُ ذلك، ولا إله إلا الله [1أ] مثلُ ذلك، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله مثلُ ذلك» فهذا فيه أنَّ هذا الذي قاله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ يعدلُ عدد ما جعلتْه تلك المرأةُ بيد يديها من النوى أو الحصَى، مع كونه أيسرَ عليها، وأفضل مما قالتْه لاشتمالِه على عدد المخلوقاتِ في السماء، وعددِ المخلوقاتِ في الأرضِ التي تلكَ النوى أو الحصى من جملة ما خلقَه سبحانَه في الأرض، وعدد ما سيخلقه الله إليه من بعد ذلك الوقت فلولا أنَّه حصل للذاكر بهذه الأعدادِ جميعُ ما تضمَّنته لما صحَّ الخبر من الصادق المصدوق الذي لا يقول إلاَّ الحقَّ ولا يخبر إلاَّ بالصدق. وأخرج الترمذي، (¬6) والحاكم في .................................. ¬

(¬1) في (السنن) رقم (1500). (¬2) في (السنن) رقم (3568) وقال: هذا حديث حسن. (¬3) في (السنن) (5/ 562 ـ 563). (¬4) في (المستدرك) (1/ 548). وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. فأخطأ، لأن خزيمة هذا مجهول. قال الذهبي نفسه في (الميزان) (1/ 653) خزيمة: لا يُعرف، تفرد عنه سعيد بن أبي هلال. وانظر الضعيفة (1/ 188 ـ 189). (¬5) في صحيحه رقم (637) وهو حديث ضعيف. (¬6) في (السنن) رقم (3554). وقال الترمذي: هذا حديث غريب.

المستدرك، (¬1) وابن حبان (¬2) وصحَّحاه عن صفيةَ أمِّ المؤمنين أنَّ النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ دخل عليها وبين يديها أربعةُ آلاف نواةٍ تسبِّح بهنَّ فقال: «يا بنتَ حُييِّ ما هذا؟» قالت: أسبِّح بهنَّ. قال: «قد سبحت منذ قمت على رأسكِ أكثر من هذا» قالت: علِّمني يا رسول الله، قال: «قولي: سبحان الله عددَ ما خلقَ من شيء» ففيه أنَّ هذه الكلمةَ منه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ عدلتْ أكثر من تلك النوى بل عددَ المخلوقاتِ التي تلك النوى من جملتها. وأخرج البزار، والطبراني من حديث أبي الدرداء (¬3) أنَّه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ قال له: «ألا أعلِّمكَ شيئًا هو أفضلُ من ذكركَ لله الليلَ مع النهارِ؟ سبحان الله عدد ما خلقَ الله، وسبحان الله ملء ما خلق، وسبحان الله عدد كلِّ شيء، وسبحان الله ملءَ كل شيء، وسبحان الله عددَ ما أحصى كتابُه، وسبحان الله ملءَ ما أحصى كتابه، والحمد لله ملءَ ما خلق، والحمد لله عدد كلِّ شيء والحمد لله ملء كل شيء، والحمد لله عدد ما أحصى كتابُه، والحمد لله ملءَ ما أحصى كتابُه». قال في مجمع الزوائد (¬4): وفيه ليثُ بن أبي سليم وهو ثقةٌ، وأبو إسرائيل الملائي حسنُ الحديث، وبقية رجالهما رجالُ الصحيح. ¬

(¬1) في (المستدرك) (1/ 547). وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي قلت: فيه هاشم بن سعيد ضعيف. انظر: (الميزان) (4/ 289). (¬2) لم أجده. وهو حديث ضعيف. انظر: (الضعيفة) (1/ 189 ـ 190). (¬3) تقدم تخريجه. انظر الرسالة رقم (195). (¬4) (10/ 88).

فدلَّ هذا على وقوع جميع ما اشتمل عليه الحديث من الأعدادِ وغيرِها. ولهذا جعلَه أفضلَ من ذكر أبي الدرداء لله ـ سبحانه ـ الليلَ مع النهار. وظاهره تفضيلُ ذلك على ذكر أبي الدرداء في ليله ونهار مدَّة عمرِه إلى هذا الوقتِ الذي علَّمه رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أن يقول هكذا. ومعلوم ذلك، لأنَّ أبا الدرداء وأفعاله من جملةِ ما خلق الله فضلاً عن سائر ما اشتملَ عليه الحديثُ. والظاهر أنَّ المراد بالكتاب هنا اللوحُ المحفوظ الذي يقولُ فيه ـ عز وجل ـ {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (¬1) وأخرج النسائي، (¬2) وابن حبان، (¬3) والطبراني (¬4) من حديث أبي أمامةَ أنَّه قال له النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «ألا أخبرك بأكثر أو أفضل من ذكرك الليل مع النَّهارِ والنهارِ مع الليلِ؟ يقول: سبحان الله عددَ ما خلقَ، سبحان الله ملءَ ما خلق، سبحان الله عدد ما في الأرض والسماء، سبحان الله ملءَ ما في الأرض والسماء، وسبحان الله عدد ما أحصى كتابُه، وسبحان الله عدد كلِّ شيء، وسبحان الله ملءَ كلِّ شيء، والحمد لله مثلَ ذلك»، وزاد الطبراني (¬5) «وتحمدُ وتسبِّح مثلَ ذلك، وتكبِّرُ مثلَ ذلك» ولم يذكر أحمدُ التكبيرَ، وأخرجه من هذا الوجه ابنُ حبان في صحيحه، والحاكم وقال على شرط الشيخين، وفي إسناده ليثُ بن أبي سليم وهو ثقة وقال في مجمع ..................................... ¬

(¬1) [الأنعام: 38]. (¬2) في (عمل اليوم والليلة) رقم (166). (¬3) في صحيحه رقم (830). (¬4) في (الكبير) رقم (7930). (¬5) في (الكبير) (8122). قال الهيثمي في (المجمع) (10/ 93) رواه الطبراني من طريقين. وإسناد أحدهما حسن.

الزوائد (¬1): رواه الطبراني من طريقين، وإسنادهما حسن. وأخرجه الطبراني (¬2) من وجه ثالث، وفي إسناده محمد بن خالد الواسطي، (¬3) وقد تُكُلِّم فيه، ووثَّقه ابن حبان، وقال: يخطئ ويخالفُ، وبقية رجاله رجال الصحيح. قال في مجمع الزوائد (¬4): ورجال أحمدَ رجال الصحيح [1ب]. والمراد بما وقع في هذه الأحاديث من قوله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «ملء كذا، زنة كذا مداد كذا» الدلالةُ على الكثرة التي لا تحيط بها العقولُ، لأنَّ الكلماتِ الواقعةَ بهذه الألفاظِ هي مجرد أغراض لا تُتَخيَّرُ بنفسها، ويمكن أن يكون المراد أنَّ هذه الكلماتِ لو تجسَّمت وتُخيِّرَتْ كانت ملءَ الأمور وزنتَها ومدادَها. والمراد بالمدادِ المدُّ وهو: ما يكثُر به الشيء ويزيد. ومن هذا ما ورد في حديث ابن عباس عند مسلم (¬5) والنسائي (¬6): أنَّه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: «اللهم ربَّنا لك الحمد ملءَ السماوات، وملءَ الأرض، وملءَ ما شئت من شيء بعدُ» الحديث. وأخرجه أيضًا مسلم، (¬7) وأبو داود، (¬8) والنسائي (¬9) من حديث أبي سعيد الخدري. ¬

(¬1) (10/ 93). (¬2) كما في (مجمع الزوائد) (10/ 93). (¬3) قال يحيى: كان رجل سوء، وقال مرة: لا شيء، قال أبو زرعة: ضعيف. انظر: (ميزان الاعتدال) (3/ 533 رقم 7467). (¬4) بل قال الهيثمي في (المجمع) (10/ 93): رواه الطبراني وفيه محمد بن خالد بن عبد الله الواسطي وقد نسب إلى الكذب ووثقه ابن حبان وقال يخطئ ويخالف، وبقية رجاله رجال الصحيح. (¬5) في صحيحه رقم (206/ 478). (¬6) في (السنن) (2/ 198). (¬7) في صحيحه رقم (205/ 477). (¬8) في (السنن) رقم (847). (¬9) في (السنن) (2/ 198 رقم 1068). وهو حديث صحيح.

وقد يكون المراد بهذه المقاديرِ المذكورة في هذه الأحاديث هو أجرُ هذه الكلمات، وأنه يحصل لمن تكلَّم بها من الأجر زنةَ عرشِ الله ـ سبحانه ـ، ومداد كلماتِه، وملء السماوات، وملءَ الأرض، وملء ما شاء الله ـ عز وجل ـ. ومن ذلك أيضًا ما أخرجه مسلم (¬1) والترمذي، (¬2) والنسائي (¬3) من حديث أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملأ ما بين السماء والأرض» فإنَّه يجري في هذا الحديث ما ذكرناه من تلك الوجوه، ويؤيد الوجهَ الثالثَ ما ورد من أنَّ {(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)}. تعدِلُ ثلثَ القرآن (¬4) وسورةَ إذا زلزلت تعدلُ نصفَ القرآن، (¬5) وسورة الكافرين تعدل ربعَ القرآنِ، (¬6) وسورة إذا جاء نصر الله تعدل ربعَ القرآن. (¬7) ¬

(¬1) في صحيحه رقم (223). (¬2) في (السنن) رقم (3517). (¬3) في (عمل اليوم والليلة) رقم (168). (¬4) أخرج البخاري رقم (5013)، ومالك في (الموطأ) (1/ 208)، وأبو داود رقم (1461)، والنسائي في (عمل اليوم والليلة) رقم (698). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أنَّ رجلاً سمع رجلاً يقرأ: {(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)} يردِّدها فلمَّا أصبح جاء إلى النبي صلي الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، وكان الرّجل يتقالُّها فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن». (¬5) أخرج الترمذي في (السنن) (3333)، والحاكم (1/ 566) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «{إِذَا زُلْزِلَتِ} تعدل نصف القرآن، و {(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)} تعدل ثلث القرآن، و {(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)} تعدل ربع القرآن». وهو حديث صحيح. (¬6) انظر التعليقة السابقة. (¬7) أخرج الترمذي في (السنن) رقم (2895) وهو حديث ضعيف. من حديث أنس وفيه: «قال: أليس معك {(إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)}؟» قال: بلى، قال: «تعدل ربع القرآن».

فإنَّ المراد بالعدلِ هنا الثوابُ، وحصول الأجرِ، وليس المراد المعادلةَ للمقدارِ الذاتي. ومما يفيد أن هذه الكلماتِ تتجسَّم، وتأتي كذلك ما ثبت عند مسلم (¬1) من حديث أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ يقول: «اقرءوا الزَّهراوَيْنِ البقرةَ وآل عمران، فإنهما يأتيان يومَ القيامةِ كأنَّهما غمامتانِ أو كأنَّهما غيايتان، أو كأنهما فرقانِ من طيرٍ صوافَّ تحاجَّانِ عن صاحبهما». وهذا وجه رابعٌ، وهو الظاهر لكونه غيرَ محتاج إلى تأويلٍ كما تقدم في الوجوه السابقةِ. ومنه ما ثبت في الصحيحين (¬2) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان» الحديث. البحث الثاني: اعلم أنَّه ليس للإنسان في العدد الذي ورد عن الشارع تقديرُه بمقدار معيَّن كأنْ يقول الشارع: من قال: كذا مائةَ مرَّة فله من الأجر كذا فيقول: الذاكر مثلاً: أستغفر الله ـ عز وجل [2أ]ـ مائةَ مرَّة، ويكتفي بهذا اللفظ، بل لا بد أنْ يفعلَ ذلك العددَ، ولا يحصلَ له الأجرُ إلاَّ به كما ثبت عند مسلم، (¬3) وأبي داود (¬4) قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «من قال حين يصبح ويمسي: سبحان الله وبحمده مائةَ مرة لم يأت أحدٌ يوم القيامة بأفضلِ مما جاء به إلاَّ أحدٌ قال مثلَ ذلك أو زاد عليه». وفي صحيح ............................................ ¬

(¬1) في صحيحه رقم (804). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6406)، ومسلم رقم (2694). (¬3) في صحيحه رقم (2691). (¬4) في (السنن) رقم (5019) قلت: وأخرجه النسائي في (عمل اليوم والليلة) رقم (568)، والترمذي رقم (3469).

مسلم (¬1) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «من قال: سبحان الله وبحمده مائةَ مرة حُطَّتْ عنه خطاياه، وإن كانت مثل زبَدِ البحرِ». وفي صحيح مسلم (¬2) من حديث سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «أيعجزُ أحدُكم أن يكسبَ كلَّ يوم ألف حسنةٍ؟ يسبِّح مائةَ تسبيحةٍ فيكتب له ألفُ حسنةٍ، أو يُحَطُّ عنه ألفُ خطيئةٍ» وعند الترمذي (¬3) والنسائي، (¬4) وابن حبان (¬5): «وتحطُّ» بدونِ ألفِ التخييرِ. وفي الصحيحين (¬6) من حديث علىٍّ أنَّ فاطمة أتت النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ تسأله خادمًا فقال: «ألا أخبرك بما هو خير لك منه؟ تسبِّحينَ الله عند منامكِ ثلاثًا وثلاثين، وتحمدينَ الله ثلاثًا وثلاثين، وتكبرين الله أربعًا وثلاثين». وأخرج مسلم، (¬7) والترمذي، (¬8) والنسائي (¬9) من حديث كعب بن عجرة قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «معقباتٌ لا يخيبُ قائلُهنَّ أو فاعلُهن دُبُرَ ¬

(¬1) في صحيحه رقم (2691). قلت: وأخرجه البخاري رقم (6405)، ومالك (1/ 209)، والترمذي رقم (3466)، وابن ماجه رقم (3812)، والنسائي في (عمل اليوم والليلة) رقم (826). (¬2) رقم (2698). (¬3) في سننه رقم (3459). (¬4) في (عمل اليوم والليلة) (152). (¬5) في صحيحه رقم (825) وهو حديث صحيح. (¬6) أخرجه البخاري رقم (3705، 5362)، ومسلم رقم (2727) و (2728). قلت: وأخرجه أحمد (1/ 106)، وأبو داود (5063)، والترمذي (3408). (¬7) في صحيحه رقم (596). (¬8) في (السنن) رقم (3412). (¬9) في (عمل اليوم والليلة) رقم (155، 156)، وفي (السنن) (3/ 75).

كلَّ صلاة مكتوبةٍ: ثلاثٌ وثلاثون تسبيحةً، وثلاث وثلاثونَ تحميدةً، وأربع وثلاثون تكبيرةً». وفي الصحيحين (¬1) وغيرهما (¬2) من حديث أبي هريرة قال: جاء الفقراء إلى رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ وقالوا: ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجاتِ العُلا والنعيم المقيم، يصلُّون كما نصلِّي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضلُ أموالهم، يحجُّون بها ويعتمرون، ويجاهدون ويتصدَّقون فقال: «ألا أخبركم بشيء بما إن أخذتم به أدركتم من سبقكم ولم يدركُّم أحدق بعدكم، وكنتم خيرَ من أنتم بظهرانيهِ إلاَّ من عمل مثلَه؟ يسبحونَ ويحمدونَ ويكبرونَ خلف كلَّ صلاة ثلاثًا وثلاثين» الحديث وورد في الصحيح من كل واحدة منهنَّ عشرًا، وورد أيضًا في الصحيح من كل واحدة منهن إحدى عشْرَةَ. وفي الصحيحين (¬3) وغيرهما (¬4) من حديث أبي أيوبَ أنَّ النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ قال: «من قال لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. من قالها عشر مراتٍ كان كمن أعتق رقبة من ولد إسماعيل» ونحوُ هذه الأعداد المنصوصِ عليها من الشارع فلا يتمُّ ما يترتب عليها من الأجرِ إلاَّ بتكريرها حتى يبلغَ العددَ المنصوص عليه. البحث الثالث: اعلم أنَّ مقادير ثواب الأقوال والأفعال التي هي غالب الأعمال ليس للعقل فيها مجال، ولا للرأي فيها مدخل بحال من الأحوال، بل ذلك راجع إلى الشرع. ولا خلاف في هذا بين جميع المتشرعين من المسلمين، وإذا كان الأمر هكذا فمالنا ولهذا السؤال الذي أورده السائل حسبما حكيناه في عنوان هذا البحث! فواجب علينا أن ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6329)، ومسلم رقم (595). (¬2) كأبي داود رقم (1504)، والترمذي رقم (410). (¬3) أخرجه البخاري رقم (6404)، ومسلم رقم (30/ 2693). (¬4) كالترمذي رقم (3584).

نقولَ: سمعْنا وأطعْنا، وليس لنا في ذلك حَلٌّ ولا عقدٌ، ولا قيل ولا قالَ، وهذا الشارعُ الذي بيَّن لأُمَّته ما شرعَهُ الله في كتابه الكريم، وعلى لسانه الطاهرة قال: تلك المقالةَ التي ذكرناها في البحث الأول، ورواها [2ب] من رواها من صحبه الذين هم خيرُ القرون مسألةً أوضحناها، ثم تلقاه من بعدهم قرنًا بعد قرن، يرويها الآخر عن الأول، والخلف عن السلف. وهل بعد قوله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ لجويرية: «لقد قلتُ بعدَك ثلاثَ مرات أربعَ كلماتٍ لو وزنتْ بما قلتِ منذ اليومِ لوزنتهنّ». فهذا تصريح منه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ فإنَّ هذه الكلماتِ التي قالها ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ تعدُل ما قالتْه جويرية من بعد صلاة الصبح إلى الضحى (¬1) وقال للمرأة التي بين يديها نوى أو حصَى تسبَّح بهنَّ: «ألا أخبركِ بأيسرَ عليك من هذا أو أفضلَ» وقال في الرواية الأخرى لصفيةَ أمِّ المؤمنين: «لقد سبَّحتُ منذ قمت على رأسك أكْثَرَ من هذا» (¬2) وقال لأبي أمامةَ: «ألا أخبرك بأكثرَ أو أفضلَ من ذكرك الليل مع النهار، والنهار مع الليل» (¬3) حسبما قدمنا في البحث الأول. فهل بقي بعد هذا إشكال، أو محلُّ سؤال وهل يحتاج إلى زيادة عليها في حل إشكال الإشكال والخلالِ ما زعمه من انعقاد ما أورده من السؤال، وانكشافِ وجهِ ما ظنَّ أنه محجوبٌ عن أبصار أهل الكمال. وإذا أراد الزيادة على هذا المقدارِ فلينظرْ ما ذكرناه في البحث الثاني من ثواب الكلمة أو الكلمات التي يتحرَّك بها لسان الذاكرِ من غير تعبٍ، ولا مشقةٍ، ولا قطعِ وقتٍ يعتد به. وقد عدَلَتْ ما عدلت الأعمال الكثيرة، وتأمل ثواب من قال: «لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير عَشْرَ مرَّاتٍ فكأنما ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه.

أعتق أربعةً من ولد إسماعيل» (¬1) فإنَّ تحصيل أربعَ رقاب بالثمن لا سيَّما وهم ممن له شرف في الأصل يحتاجُ إلى القيمة الكثيرة، ثم إلى البحث عنهم حتى يحصلُوا لديه، ثم نقلهم من ملك من كانوا معه إلى ملكه مع كثره الحركة باللسان وبغيره من الجوارحِ، وقد يكون مجر المساومة للبائع في واحد منهم يحتاج أن يتكلَّم بلسانه كلامًا أكْثَرَ من الذكر بذلك الذكر عَشْرَ مرَّات مع ما لاقاه في تحصيل القيمة المدفوعة، وإن كان حصولُهم له من السببي فالأمر أشدُّ وأعظم، لأنَّ من دالة القتالِ والمخاطرةِ بالنفس هي أشدُّ من كل عمل، ومن ظنَّ ممن يلاقي الحروبَ بأن لا يصابَ فقد ظنَّ عجْزًا. ومما ذكرناه تعلم أنه لا وجه لقول العامَّة من الناس أنَّ الثوابَ على قدر المشقةِ، انظر إلى ما أخرجه أحمدُ، (¬2) ومالك في الموطأ، (¬3) والترمذي، (¬4) والحاكم في المستدرك، (¬5) والطبراني في الكبير، (¬6) والبيهقي في الشعب، (¬7) وابن شاهين في الترغيب (¬8) في الذكر كلُّهم من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليكِكُم، وأرفِعها في درجاتكم، وخيرٌ لكم من إنفاقِ الذهب والفضةِ، وخير لكم من أن تلقوا [3أ] عدوَّكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟» قال: بلى. قال: «ذكر الله عز وجل». ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) في (المسند) (6/ 446). (¬3) (1/ 211). (¬4) في (السنن) (3377). (¬5) (1/ 496). (¬6) لم أجده في (الكبير) بل في الدعاء رقم (1872). (¬7) رقم (519). (¬8) (2/ 390). وهو حديث صحيح والله أعلم.

وقد صححه الحاكم وغيره، وأخرجه أحمد (¬1) أيضًا من حديث معاذ. قال المنذري (¬2) بإسناد حسن. وقال (¬3) في حديث أبي الدرداء أنَّ أحمد أخرجه بإسناد حسن. وقال الهيثمي (¬4): في حديث أبي الدرداء: إسناده حسن. وقال: في حديث معاذ رجاله رجالُ الصحيح. فتأمَّل ما اشتمل عليه الحديث من ارتفاع فضيلةِ الذكر حتى جعلًه خير الأعمالِ وأزكاها وأرفعَها، فجمعَ بين هذه العباراتِ الثلاثِ، (¬5) ولم يقتصر على واحدة منها، وهذا يفيد التأكيد المتبالغَ إلى حد يقصُر عنه الوصفُ، وتعجزُ الأذهانُ عن تصوُّره. ثم ذكر بعد هذا التأكيد العظيم، والمبالغةِ البليغةِ أنَّ الذِّكر خيرٌ من إنفاقِ ما هو أحبُّ إلى القلوب من جميع عروض المال فقال: «وخير لكم من إنفاقِ الذهبِ والفضة» لأنَّ هذين الجنسين هما أثمانُ جميعِ الأموالِ، وأكثرِها نفعًا لبني آدم، والنفوس بها أشحُّ، وعليهما أحرص، يعلم هذا كلُّ عاقل. ثم جاوز هذا إلى ما النفوس به أشحُّ، وإليه أرغب، وعليه أحرصُ، وهي نفوس بني آدمَ فقال: «وخير لكم من أن تَلْقوا عدوَّكم فتضربوا أعناقَهم، ويضربوا أعناقكم»، ولم يكن التفضيلُ على مجرد بذْل النفوس مطلقًا، بل قيده بما يفيد أنه القتلُ في الجهادِ حيث جعلَ القتال مع من هو عدوٌّ لا يقبل الإسلامَ، فيكون المعنى أنَّ ذكر الله أحبُّ وأزكى وأرفعُ من جميع الأموال التي اقتصر على ذكرِ أعلاها وأكملِها وأحبِّها إلى النفوس، وأرفعها عند الله، فكان دخول غيرِ الذهبِ ¬

(¬1) في (المسند) (5/ 239) بسند ضعيف. (¬2) في (الترغيب والترهيب) (2/ 368). قلت: بل قال المنذري: بإسناد جيد إلا أن فيه انقطاعًا. (¬3) أي المنذري في (الترغيب والترهيب) (2/ 368). (¬4) في (مجمع الزوائد). (10/ 73). (¬5) قال العز بن عبد السلام في (قواعده): هذا الحديث مما يدل على أن الثواب لا يترتب على قدر النصب في جميع العبادات بل قد يأجر الله تعالى على قليل الأعمال أكثر مما يأجر على كثيرها، فإذًا الثواب يترتب علي تفاوت الرتب في الشرف. انظر: (مرقاة المفاتيح) (5/ 54).

والفضة بفحوى الخطاب، ومن جميع الأفعال التي أعلاها وأفضَلها وأشدُّها الجهادُ مع من يحقٌّ الجهادُ له، وذلك يفوقُ جميعَ الأعمال كائنةً ما كانت، وبذلها في الحق والجود بها لا يساويه عملٌ. يجودُ بالنفس إنْ ضنَّ الجبان بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود فما عدا القتال من الأعمال داخلٌ بفحوى الخطاب. فانظر إلى هذا الأمر العظيم، فإنَّ ذكر الله ـ سبحانه ـ هو مجرَّد حركة لسانِه ليس فيها من التعب والنَّصبِ ما يساوي اشتغالَ المجاهدِ بإلجام فرسِه، أو وضع السُّّرجِ عليها فضلاً عما وراء ذلك، فسبحانه المتفضِّل على عباده بما تقصُر عقولهم عن إدراك كُنْهِهِ، وأفهامُهم عن تصور حقيقتهِ، بل عن تصور رسْمِهِ! ومما يقوي هذا الحديث ما أخرجه أحمد (¬1) والطبراني (¬2) من حديث معاذ عن رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: أنَّ رجلاً سأله: أيُّ المجاهدين أعظمُ أجرًا؟ قال: «أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكرًا» ثم ذكر الصلاة، والزكاةَ، والحجَّ والصدقةَ كل ذلك ورسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ يقول: «أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكرًا [3ب]». فقال ابو بكر لعمر ـ رضي الله عنهما ـ: يا أبا حفص ذهب الذاكرونَ بكل خير، فقال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «أجل». ويؤيده أيضًا ما أخرجه الترمذي (¬3): أنَّ رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ سُئل: أيُّ العباد أفضلُ درجةً عند الله يوم القيامة؟ قال: «الذاكرون الله كثيرًا». قال: قلتُ: ومن الغازي في سبيل الله؟ قال: «لو ضرب بسيفِهِ في الكفارِ والمشركينَ حتى ينكسِرَ ويختضبَ دمًا لكان الذاكرون الله تعالى أفضلَ منه درجةً» قال ................................... ¬

(¬1) في (المسند) (3/ 438) بإسناد ضعيف. (¬2) في (الكبير) (20/ 407). وأورده الهيثمي في (المجمع) (10/ 74) وقال: رواه أحمد والطبراني وفيه زايد بن فائد، وهو ضعيف، وقد وثق، وكذلك ابن لهيعة، وبقية رجال أحمد ثقات. (¬3) أخرجه في (السنن) رقم (3376).

الترمذي (¬1) بعد إخراجه: حديثٌ غريب، وما أخرجه ابن أبي الدنيا (¬2) والبيهقيُّ (¬3) من حديث ابن عمر مرفوعًا وفيه: «ولا شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله عز وجل» ما أخرجه أحمد، (¬4) والطبراني في الكبير (¬5) والأوسط (¬6)، وابن أبي شيبة في مصنَّفه (¬7) من حديث معاذ أنَّ رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ قال: «ما عمل ابنُ آدم عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله» قالوا: ولا الجهادُ في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله إلاَّ أن يضرب بسيفه حتى ينقطَع، إلاَّ أن يضرب بسيفه حتى ينقطع، إلاَّ أن يَضْرِبُ بسَيفِهِ حتى يَنقَطِعَ». قال المنذري في الترغيب والترهيب (¬8): بعد أنْ عزاه إلى الطبراني في الصغير (1/ 77). (¬9) رقم (2296). (¬10) في (المجمع) (10/ 74). (¬11) في (الصغير) (1/ 77) وفي (الأوسط) (2296). ¬ ¬

(¬1) في (السنن) (5/ 458) هذا حديث غريب. قلت: وهو حديث ضعيف. (¬2) عزاه إليه المنذري في (الترغيب والترهيب) (2/ 368 رقم 2205) وقال: من رواية سعيد بن سنان. (¬3) في (الشعب) رقم (522). (¬4) في (المسند) (5/ 239). (¬5) (ج20) رقم (181) و (208) و (212) و (213) بنحوه. (¬6) كما في (المجمع) (10/ 74). (¬7) في (المصنف) (10/ 300) و (13/ 455). (¬8) (2/ 369 رقم 2208). (¬9) والأوسط (¬10) ورجالهم رجال الصحيح، وجعلَهما عنده من حديث جابر بهذا اللفظ. وقال الهيثمي (¬11) في حديث معاذ: رجاله رجال الصحيح. قال: وقد رواه الطبراني

عن جابر بسند رجاله رجال الصحيح. وأخرج الطبراني في الكبير (¬1) من حديث أبي موسى قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «لو أنَّ رجلاً ي حجرِه دراهمُ يقسِمُها، وآخر يذكر الله لكان الذاكر لله أفضلَ». وأخرجه من حديثه الطبراني في الأوسط، (¬2) وابن شاهين في الترغيب في الذكر، وفي إسناده جابر أو الوزاع (¬3) قال النسائي: منكر الحديث انتهى. قلت: أخرج له مسلم فلا وجْهَ لإعلال الحديثِ به، وقد حسَّنَ إسنادَهُ المنذريُّ في الترغيب والترهيب. (¬4) قال البيهقي: رجاله وُثِّقوا. انتهى. وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (¬5)، وعنه البيهقي وأحمد في زوائد الزهد (¬6) من حديث أبي برزةَ الأسلمي. وأخرج الطبراني في الأوسط (¬7) من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «ما صدقةً أفضل من ذكر الله تعالى» هكذا في الجامع الصغير (¬8) للسيوطي، وذكره المنذري في الترغيب والترهيب (¬9) معزوًّا إلى الطبراني من حديث أبي موسى، وحسَّنه. قال الهيثمي (¬10): في حديث ابن عباس: إنَّ رجاله موثَّقون. وهذه ¬

(¬1) كما في (مجمع الزوائد) (4/ 75). (¬2) رقم (5959). (¬3) ذكره الذهبي في (الميزان) (1/ 378 رقم 1418): وقال: وثقه ابن معين. وقال النسائي: منكر الحديث. (¬4) (2/ 374). (¬5) في (المصنف) (10/ 307 رقم 9521) و (13/ 456 رقم 16901). (¬6) بل عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد. كما في (الدر المنثور) (1/ 151) ط: دار المعرفة. (¬7) رقم (7414). (¬8) رقم (7925) وهو حديث ضعيف. (¬9) (2/ 374). (¬10) في (المجمع) (10/ 74).

النكرة وقعت في سياق النفي فتشملُ الصدقةَ القليلةَ والكثيرةَ من أي نوع كانت، ومن الأدلة الدالة على أنَّ العمل القليلَ قد يكون أفضلَ من العلم الكثير ما أخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2) وغيرُهما (¬3) من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلثَ القرآن في ليلة» فشقَّ ذلك عليهم، وقالوا: أيُّنا يطيقُ ذلك يا رسول الله! قال: «الله الواحدُ الصمدُ ثلثُ القرآن» وأخرجه [4أ] مسلم (¬4) من حديث أبي هريرة، وأخرجه أحمد في المسند، (¬5) والنسائي، (¬6) والضياء المقدسي في المختارة (¬7) من حديث أبيِّ بن كعب، أو من حديث رجل من الأنصار عنه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «من قرأ قل هو الله أحد فكأنما قرأ ثلثَ القرآنِ» قال الهيثمي (¬8): ورجاله رجال الصحيح. وفي الباب أحاديثُ كثيرةٌ استوفيناها في شرحنا لعدة الحصنِ الحصينِ، (¬9) فانظر ـ أصلحك الله ـ كم قابلتْ هذه السورةُ! فإنَّ تلاوة ثلثِ القرآن تستغرقُ تلاوتُه شطرَ اليومِ إن لم تستغرقه كلَّه. وهذه السورة يتلوها التالي عند أن ينهضَ للقيام فلا يستوي قائمًا إلا وقد فرغَ منها. ومن هذا القبيل حديثُ ابن عباس قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله ¬

(¬1) في صحيحه رقم (5019) وقد تقدم. (¬2) لم يخرجه مسلم. (¬3) كمالك (1/ 208)، وأبو داود رقم (1461). (¬4) في صحيحه رقم (812). (¬5) في (السنن) (5/ 141). (¬6) في (عمل اليوم والليلة) رقم (685). (¬7) رقم (1239، 1240). وهو حديث صحيح لغيره. (¬8) لم أعثر عليه. (¬9) وهو (تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين من كلام سيد المرسلين صلي الله عليه وسلم) بتحقيقنا.

وسلم ـ: «إذا زلزلتِ الأرضُ تعدلُ نصفَ القرآن» أخرجه الترمذي (¬1) والحاكم (¬2) وقال: صحيح الإسناد، وفي إسناده يمانُ بن المغيرة، (¬3)، وفيه ضعف. ومن هذا القبيل من حديث أنس قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «{(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)} تعدلُ رُبُعَ القرآن». أخرجه الترمذي (¬4) وحسَّنه، وفي إسناده سلمةُ بن وِرْدَانَ، (¬5) وفيه مقال. وأخرجه أيضًا الترمذي (¬6) والحاكم (¬7) وقال: صحيح الإسناد، وفيه يمان بن المغيرة، وفيه المقال المتقدم. ومن ذلك حديث ابن عباس قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «{(إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} تعدل ربع القرآن» أخرجه الترمذي (¬8) وحسَّنه، وفي إسناده سلمة بن وردان, وفيه مقال كما تقدم. من أول ص5931 إلي آخر ص6122 ¬

(¬1) في (السنن) رقم (2894) وقال: هذا حديث غريب لا نعرف إلا من حديث يمان بن مغيرة. (¬2) في (المستدرك) (1/ 566). (¬3) قال البخاري: منكر الحديث: قال النسائي: ليس بثقة. (ميزان الاعتدال) (4/ 460 ـ 461 ـ رقم 9851). عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «{إِذَا زُلْزِلَتِ} تعدل نصف القرآن و {(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)} تعدل ثلث القرآن و {(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)} تعدل ربع القرآن». وهو حديث صحيح دون: فضل إذا زلزلت. (¬4) في (السنن) رقم (2895) قال: هذا حديث حسن. (¬5) قال أبو حاتم: ليس بقوي. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال أحمد: منكر الحديث. انظر: (ميزان الاعتدال) (2/ 193 رقم 3414). وهو حديث ضعيف والله أعلم. (¬6) في (السنن) (2894) وقد تقدم. (¬7) في (المستدرك) (1/ 566) وقد تقدم. (¬8) في (السنن) رقم (2895) وقال: هذا حديث حسن. من حديث أنس. وهو حديث ضعيف.

البحث الرابع: اعلم أيها السائل ـ أرشدك الله ـ أنا قد أوضحنا لك الجواب, وعددنا الطرق الرافعة للإشكال, بحيث إن طريقة واحدة منها تشرح صدرك, وتميط إشكالك, وترفع إعضالك, لأن الأمر الذي سألت عنه وتحيرت قد قاله وفعله الصادق المصدوق ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ. والعباد مأمورون بقبول ما جاء به, والتسليم له, والإذعان لما دل عليه, فكيف لا ينثلج لذلك خاطرك, وينشرح له قلبك, وأنت واحد من عباد الله ـ عز وجل ـ المخاطبين بقوله سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬1) وقال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (¬2) الآية. وما دار في خلدك من استبعاد قيام العمل القليل مقام العمل الكثير فهذا وإن كان مجرد وسوسة شيطانية, وتشكيكات نفسية فقد أخبرناك في البحث الثالث المصدر قبل هذا البحث بما ورد في الشريعة المطهرة من الأعمال التي قام القليل اليسير منها مقام الكثير الخطير من جنسها, فهل بقي بعد هذا إشكال لذي عقل صحيح وفهم رجيح!. فإن قلت: قد زال عن صدرك الحرج, واتضح لك الأمر, ولم يبقى لديك شيء من هذا الوسواس الذي زينه لك الخناس الذي يوسوس في صدور الناس, فها أنا أزيدك بيانًا, وأورد لك [4ب] بعد هذه البراهين برهانًا يجتث الإشكال من أصله ويقطع الإعضال من عرقه, وهو ما أخرجه البخاري (¬3) ومسلم (¬4) وغيرهما (¬5) من حديث أبي هريرة قال: جاء الفقراء إلى رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ وقالوا: ذهب أهل ¬

(¬1) [الحشر:7] (¬2) [آل عمران:31] (¬3)) في صحيحه رقم (6329). (¬4) في صحيحه رقم (595) (¬5) كأبي داود رقم (3412) وقد تقدم.

الدثور من الأموال بالدرجات العلا والنعيم المقيم, يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم, ولهم فضل أموالهم يحجون بها, ويعتمرون, ويجاهدون, ويتصدقون, فقال: "ألا أحدثكم بشيء بما إذا أخذتم به أدركتم من سبقكم ولم يدركم أحد بعدكم, وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيه إلا من عمل مثله: تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثًا وثلاثين" واختلفنا بيننا فقال بعضنا: يسبح ثلاثًا وثلاثين, ويحمد ثلاثًا وثلاثين, ويكبر أربعًا وثلاثين, فرجعت إليه فقال: "يقول سبحان الله, والحمد لله, والله أكبر حتى يكون فيهن كلهن ثلاثًا وثلاثين" وفي رواية لمسلم من هذا الحديث: "يسبحون, ويحمدون, ويكبرون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين, إحدى عشرة, وإحدى عشر, وإحدى عشرة؛ فذلك كلُّه ثلاثًٌ وثلاثون". وفي رواية للبخاري (¬1) من هذا الحديث "يسبحون في دبر كل صلاة عشرًا, ويحمدون عشرًا, ويكبرون عشرًا". وزاد مسلم (¬2) فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله, فقال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء". فعند هذا النص النبوي الثابت في الصحيح طاحت الوساوس, وذهبت الشكوك وارتفع الإشكال, ولم يبق لسؤال سائل مجال, فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وأخرج البخاري (¬3) وغيره (¬4) من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ: "إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر ¬

(¬1) في صحيحه رقم (6329) (¬2) في صحيحه رقم (142/ 595) (¬3) في صحيحه رقم (577) وأطرافه (2269, 2268, 7533, 7467 , 5021, 3459) (¬4) كأحمد (2/ 6) والترمذي في "السنن" (2871)

إلى غروب الشمس, أوتي أهل التوراة التوراةَ يعملوا بها حتى انتصف النهار, فعجزوا فأعطوا قيراطً قيراطا, ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيلَ, فعملوا به إلى صلاة العصر فأعطوا قيراطًا قيراطا, ثم أوتينا القرآن, فعملنا به إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين, فقال أهل الكتابين: أي ربي لأعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين, وأعطيتنا قيراطًا قيراطا, ونحن أكثر عمل منهم. قال الله عز وجل: هل ظلمتكم من أجركم شيئًا! قالوا: لا. قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء". وأوضح من هذه الرواية رواية أخرى للبخاري (¬1) وغيره (¬2) من حديث أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ: "مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قومًا يعملون له عملاً إلى الليل على أجر معلوم, فعملوا له إلى نصف النهار, فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا وما عملناه باطلٌ فقال لهم لا تفعلوا, لأكملوا بقية يومكم, ثم ذكر عمل النصارى كذلك [5أ] إلى العصر, فاستأجر قومًا يعملون بقية يومهم فعملوا فاستكملوا أجر الفريقين كليهما, فذلك مثلهم ومثل ما قبلُوا من هذا النور". فقوله: "فهو فضلي أوتيه من أشاء", نص بأن مرجع التفضيل بالأجور إلى الرب عز وجل, فليس لأحد أن يقول: لم كان كذا, أو كيف كان كذا؟ وبعد هذا كله فانظر إلى ما صرح به القرآن الكريم من قوله ـ عز وجل ـ: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (¬3) فانظر إلى ما تفيده هذه الأكبريةُ المذكورة بعد الصلاة التي هى أشرف أركان الدين, ¬

(¬1) في صحيحه رقم (2268) (¬2) كالبيهقي (6/ 118) والبغوي في "شرح السنة" رقم (4017) (¬3) [العنكبوت:45]. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" (13/ 349).

مع كونها تنهى عن الفحشاء والمنكر, فإنها تفيد أن الذكر أكبر من هذه الصلاة الناهية عن الفحشاء والمنكر. ثم انظر حذف التعلق ما يفيده من الفوائد الجليلةِ, فإنه إذا قدَّر كان عامًَّا فيكون الذكر أكبرَ من كل شيء من الطاعات, وأكبر العبادات, وما عداها من الطاعات دونها, فتكون جميعها داخلة تحت ما يدل عليه قوله ـ سبحانه ـ: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} بفحوى من الخطاب. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية, كتبه مؤلفه محمد بن علي الشوكاني ـ غفر الله لهما [5ب]ـ.

الاجتماع على الذكر والجهر به

(197) 12/ 5 الاجتماعُ على الذكرِ والجهرِ بهِ تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1ـ عنوان الرسالة من المخطوط: الاجتماع على الذكر والجهر به. 2ـ موضوع الرسالة: الأذكار. 3ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. لا يخفاكم أطال الله بقاءكم, وحرس بكم معالم العلم الشريف, وأقام بكم دعائم الدين. 4ـ آخر الرسالة: وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية والله ولي التوفيق انتهى. ولشيخ الإسلام رضي الله عنه في ذلك رسالة أطول من هذا. 5ـ نوع الخط: خط نسخي مقبول. 6ـ عدد الصفحات: 5 صفحات. 7ـ عدد الأسطر في الصفحة: 23 سطرًا. 8ـ عدد الكلمات في السطر: 8 كلمات. 9ـ الرسالة من المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم لا يخفاكم ـ أطال الله بقاءكم, وحرس بكم معالم العلم الشريف, وأقام بكم دعائم الدين ـ أن شيخ الإسلام, ولي عبد الرحمن بن سليمان (¬1) لما رأى ما عم الناس من البيان لذكر الملكِ الديَّان, واشتغالِ العامة بالمسامِر في محالَّ معروفة بزبيد على نوع من الشعر للعلولي ونحوه, وإلى ما عم البلاد وكلَّ واحدٍ وباد من القهر الرباني, والحكم الصمداني من الوباء العامِّ في مكةَ المشرفةِ, وهذا وسرى الأمرُ بالقدرة النافرة إلى سائر الأقطار كمصرَ, والسودانَ وبغدادَ, ودمشقَ, وشرق مكةَ, والمخافي (¬2) في اليمن, وسائر بلاد ... (¬3) وقرب محلات في زبيد يدبُّ الناس إلى الذكرِ والابتهال والدعاء والاستغفار والإعلان بكلمة التوحيدِ, وذكرِ الملكِ المجيدِ, وحثِّ الناس على الطاعة, ولزوم الجمعةِ والجماعةِ, والخروج إلى الصُّعُداتِ عملاً بقوله: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا} (¬4) فقال: يعدٌ الناس أن ذلك بدعةٌ (¬5) , فإن كان وجهه البدعةِ الخروجُ إلى الله فحديثُ: "فخرجتم تجأرون إلى الله في الصُّعداتِ" (¬6) ¬

(¬1) عبد الرحمن بن سليمان الأهدل الوبيدي ولد سنة 1179 هـ أخذ عن والده في العلوم العقلية والنقلية وله منه إجازة عامة وأخذ عن الشيخ عبد الله بن عمر خليل الزبيدي. مات سنة 1250 هـ بزبيد. "نيل الوطر" (2/ 30 رقم 246). (¬2) لعلها المعافي "معجم البلدان اليمينية" (ص 608). (¬3) كلمة غير واضحة في المخطوط. (¬4) [يونس: 98] قال تعالى: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) (¬5) تقدم توضيح معناها. (¬6) أخرجه الحاكم (4/ 320) وصححه. ووافقه الذهبي. عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: «لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرًا ولضحكتم قليلاً ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله، لا تدرون تنجون أولا تنجون». وهو حديث حسن.

وحديث: ((إنَّ الجبالَ والصعداتِ والطرقَ غيرُ محال لذلك)) (¬1) ومن الحديث: «أن رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ قال: إنَّ الجبال والطرقَ تنادي كلَّ يوم: يا أخيَّاه، يا جاراه، هل من يكرمني بذكر اللهِ؟ وإن كانت غيرَ مسجدٍ فالأرض مسجد وطهور» (¬2) بنصِّ المختار، ودار الأعمال الصالحة والقرآنِ: {(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)} (¬3) {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} (¬4)، وحديثُ: «ما اجتمع قومٌ يذكرون الله إلا حفتهم الملائكةُ، وغشيتهم الرحمةُ، ونزلتْ عليهمُ السكينةُ، وذَكَرَهُمُ الله فيمن عنده» (¬5) وحديث: «إنَّ الملائكةَ تمرُّ بأيديهم أقلامُ وصحفُ [1أ] الذاكرين» ونحوه، مع أنَّ الصلاة المفروضةَ المراد الأعظمُ فيها ذكر الله، ففي بعضها التسبيحُ، وفي بعضها الدعاء، وفي بعضها القرآن وفي بعضها الصلاة على النبيَّ. ولذكر الله أكبر. وقد جاء الإعلان في الأسواق بذكر الله معروفٍ فضيلتُه، والاستغفارُ، فما وجه أنَّ ذلك يكون بدعةً؟ وقد قالوا أنه يندبُ في الإقراعِ الطبول، ومن جلب الإقراع هذا الحادث والغناء الذي طبق الآفاق وشمل أكثر أهل الأقطار لبعضِ بلاد زبيد ..... (¬6) ¬

(¬1) فلينظر من أخرجه. (¬2) فلينظر من أخرجه. (¬3) [الأحزاب: 41، 42] (¬4) [الأحزاب: 35] (¬5) (أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2700)، وابن ماجه رقم (225) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وهو حديث صحيح. (¬6) تقدم التعريف بها.

والمتينة (¬1) والمعرشِ والهيجةِ، (¬2) وغير ذلك. والمراد بسطُ الجواب، ولو في كراسين أو ثلاثة، والاستدلال المفيدُ واستنادُ القائل بما قال. ولاغترار بعض الجهال بما يؤدي إلى الإهمال، فقد قال عمر: دعْهم يعملُوا مع أنه صلح أكثر العامة بانطوائه بسبب الذكر، وملازمة الجماعات. وروي من الميسِّرات ما هو إلاَّ سيِّدَ الوصولِ إلى غفران الله ورحمته. ففي الحديث ما يدلُّ علي ذلك، وأنه سبب كلِّ خير، ودافعُ كلِّ طير والمطلوب الجوابُ، وربط الأدلة من الكتاب والسنةِ بالقواعد الأصوليةِ، والمعانية والبيانية، فالمقام يحتاج إلى بيان, والإطناب لاشتماله على ذكر ربِّ الأرباب, وما يستنبط من القواعد والأحكام, وإن طال المقال مع حصول الإمكان, لئلا يهدمَ بابٌ عظيمٌ من قواعد الإسلام حتى أنَّ في بعض المجلاَّت قيل بذلك, فتركوا الذكر وخرج العامَّةُ بعد ذلك بالسبابةِ والطبولِ والغناء فلم ينكر عليهم, وأنكر عليهم لما أعلنوا بذكر الله, وكانوا قد تركوا ورجعوا بعدَ منْعِهم إلى ما كانوا عليه, فأى الطريقين أحقٌ بالإنكار؟ فهذا إلى حاكم المسلمين وإمام الموحِّدين شيخ الإسلام العالم اليماني, والقطب النوراني محمد بن علي الشوكاني ـ حفظه الله ـ شهر جماد أول سنة 1247 [1ب]. ¬

(¬1) المتينة: بضم الميم وفتح التاء الفوقية، عزلة في وادي زبيد علي ساحل البحر الأحمر. (معجم البلدان والقبائل اليمينة) (ص557). (¬2) بُليدة في جُماعة ناحية قطاير وبيت الهيجا من أهالي صنعاء. المرجع السابق (ص185).

بسم الله الرحمن الرحيم الجواب من شيخ الإسلام ـ حفظه الله ـ: الكلام على هذا الكلام لايحتاج إلى تطويل ذيولِ المقالِ, ففي الكتاب العزيز في الندب إلى ذكر الله ـ عز وجل ـ خصوصًا لبعض الأمكنةِ, وعمومًا لكل مكان ما ينصر من كان يؤمن بالله ـ سبحانه ـ, وباليوم الآخر. قال الله عز وجل ـ: {(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} (¬1) وقال: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬2) وقال: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} (¬3) وقال الله ـ عز وجل ـ: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} (¬4) وقال ـ سبحانه ـ: {(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)} (¬5) وقال الله ـ عز وجل ـ: {(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ)} (¬6) وقال ــ عز وجل ـ: {(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)} (¬7) وقال ـ سبحانه ـ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} (¬8). وقال ¬

(¬1) [الأحزاب:41 - 43] (¬2) [الجمعة: 10] (¬3) [الأحزاب: 35] (¬4) [البقرة:200] (¬5) [الأنفال:45] (¬6) [البقرة:152] (¬7) [الرعد:128] (¬8) [طه: 124]

تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (¬1). وقال تعالى: {(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)}. (¬2) وقال تعالى: {(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} (¬3). هذا ما حُصر من الآيات القرآنية عند الاطلاع عند هذا السؤالِ, وليس فيها تقييدُ الذكر بجهرٍ أو إسرارٍ, أو رفعِ صوتٍ أو خفضٍ, أو في جمع أو في انفرادٍ, فأفاد ذلك مشروعيةِ الكلِّ. وأما ما ورد في السنة المطهرة في فضائل الذكرِ فلو لم يكن فيها إلاَّ حديثُ أبي هريرة الثابت في الصحيحين (¬4) وغيرهما (¬5) قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ قال الله ـ عز وجل ـ: «أنا عند ظن عبدي بي, وأنا معه إذا ذكرني, فإن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسى, وإن ذكرني في ملأ ذكرتُه في ملأ خير منه». وأخرجه أحمد من حديث أنس, وأخرجه ابن شاهينَ (¬6) من حديث ابن عباس, وفي إسناد حديث إسناد حديث ابن عباس هذا معمرُ بن زائدة [2أ] قال العقيلي (¬7) لا يتابع على حديثه. ¬

(¬1) [العنكبوت:45] (¬2) [المنافقون: 9] (¬3) [الأنبياء:87] (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7405) ومسلم رقم (2675) (¬5) كالترمذي رقم (3603) وابن ماجه رقم (3822) وأحمد (2/ 251) (¬6) في"الترغيب في فضائل الأعمال" رقم (166/ 14) (¬7) في "الضعفاء الكبير" (4/ 206)

وأخرجه أيضًا أبو داود الطيالسي (¬1) وأحمد في المسند (¬2) من حديث أنس, وأخرجه البخاري (¬3) أيضًا من حديثه, وأخرجه مسلم (¬4) من حديث أبي ذرِّ. فهذا الحديث القدسيُّ يدلُّ على مشروعية الجهر بالذكرِ والإسرارِ به وفي الجمع والانفراد. وأخرج البخاري (¬5) ومسلم (¬6) من حديث أبي موسى قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ: «مثل الذي يذكر ربَّه, والذي لا يذكر ربَّه مثلُ الحيِّ والميِّت» وفي لفظ لمسلم (¬7): «مثلُ البيتِ الذي يُذكَرُ اللهُ فيه, والذي لا يُذكر الله فيه مثلُ الحيِّ والميت» وهذا الحديث يفيدُ أنه لا فرقَ بين الجهرِ والإسرارِ, لأنَّ تركَ الاستفصالِ ينزل منزلةَ العموم في المقالِ لما تقرَّر في الأصول، (¬8) وأخرج مسلم (¬9) من حديث أبي هريرة وأبي سعيد قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: «لا يقعدُ قومٌ يذكرون الله ـ تعالي ـ إلاَّ حفَّتهم الملائكةُ، وغشيتُهُمُ الرحمةُ، ونَزَلتْ عليهُم السكينةُ وذكَرَهُم الله فيمن عنده». ¬

(¬1) في "مسنده" رقم (1967) (¬2) (3 ,277) بسند صحيح (¬3) في صحيحه رقم (7536) (¬4) لم يخرجه مسلم من حديث أبي ذر (¬5) في صحيحه رقم (6407) (¬6) في صحيحه رقم (779) (¬7) في صحيحه رقم (211, 799) (¬8) انظر: (إرشاد الفحول) (ص452). وقد تقدم توضيحه. (¬9) في صحيحه رقم (2700).

وأخرجه أيضًا من حديثهما ابن أبي شيبةَ. (¬1) وعند أحمدَ، (¬2) وأبي يعلى الموصلِّي (¬3) وابن حبان، (¬4) وابن شاهين في الترغيب (¬5) وقال: حسن صحيح. وأخرجه أحمد (¬6) في المسند، وأبو يعلى الموصلِّي (¬7) والطبراني في الأوسط (¬8) والضياء في المختارة من حديث أنس. وأخرجه أيضًا الطبراني في الكبير (¬9)، والبيهقي في الشُّعب (¬10) والضياء في المختارة من حديث سهل بن الحنظليَّةِ. وأخرجه البيهقي (¬11) من حديث عبد الله بن مغفل وهذا الحديث صريحٌ في مشروعية الاجتماع للذكر تكون بصفة الجهر أو الإسرار، بل الجهر هنا أظهر لما يفيده [ ..... ] (¬12) الاجتماع. ومثله حديث أبي هريرة عند البخاري (¬13) ومسلم (¬14) وغيرِهما قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: «إنَّ لله ¬

(¬1) في مصنفه (10/ 37) (¬2) في (المسند) (3/ 93). (¬3) في (المسند) (3/ 93). (¬4) في صحيحه رقم (590). (¬5) في (الترغيب في فضائل الأعمال) رقم (172/ 20). وهو حديث صحيح. (¬6) في (المسند) (3/ 143). (¬7) في (المسند) (7/ 167 رقم 1386/ 4141). (¬8) رقم (1556)، (¬9) رقم (6039). (¬10) رقم (695). وأورده الهيثمي في (المجمع) (10/ 77). وقال: رواه الطبراني: وفيه المتوكل بن عبد الرحمن والد محمد بن أبي السري ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. (¬11) في (الشعب) رقم (533) وهو حديث حسن بشواهده (¬12) كلمة غير واضحة في المخطوط (¬13) في صحيحه رقم (6408) (¬14) في صحيحه رقم (2689).

ملائكةً يطوفونَ في الطرقِ يلتمسونَ أهل الذكر، فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله تنادَوا هلمُّوا [2ب] إلى حاجتكم، فيحفُّونَهم بأجنحتهم إلى السماء» الحديث بطوله. وأخرج مسلم (¬1)، والترمذي (¬2)، والنسائي (¬3) نحوَه من حديث معاويةَ أنَّ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: «خرج علي حلقةٍ من أصحابه فقال: ما أجلَسَكُم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله على ما هدانا للإسلام، ومنَّ به علينا قال: آللهِ ما أجلسَكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا إلاَّ ذلك. أما إني لم أستحلفْكُم تُهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أنَّ الله ـ عز وجل ـ باهى بكم ملائكتَه». وفي الباب أحاديثُ. وأخرج الترمذي (¬4) وحسَّنه من حديث أنس قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: «إذا مررتُم برياض الجنةِ فارتَعوا»، قالوا: يا رسول الله، وما رياض الجنةِ؟ قال: «حِلَقُ الذكر». وأخرجه من حديثه أحمد في المسند (¬5) والبيهقي في الشعب (¬6) قال المناوي (¬7): وإسناده وشواهده ترتقي إلى الصحةِ. وأخرجه الطبراني في الكبير (¬8) من حديث ابن عباس. والترمذي (¬9) أيضًا من حديث أبي هريرة. ¬

(¬1) في صحيحه رقم (2701). (¬2) في (السنن) رقم (3379) وقال: هذا حديث حسن غريب. (¬3) في (السنن) (8/ 249). وهو حديث صحيح. (¬4) في (السنن) رقم (3510) (¬5) (3/ 150)، (¬6) رقم (528). (¬7) في (فيض القدير) (1/ 442). وهو حديث حسن. (¬8) (11/ 11158). (¬9) في (السنن) رقم (3509)، وقال: هذا حديث حسن غريب. وهو حديث ضعيف، انظر (الضعيفة) رقم (1150)

وأخرجه أبو يعلى (¬1)، والبزار، (¬2) والطبراني، (¬3) والحاكم في المستدرك، (¬4) والبيهقي (¬5) من حديث جابر، وهو يدل على ما دلّ عليه ما قبلَه كما تقدم. وأخرج البزار في مسنده، والطبراني في الكبير والأوسط قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: «ذاكِرُ الله في الغافلين بمنزلةِ الصابر في الفارِّين» ورجال إسنادِه ثقاتٌ. وأخرجه أبو نعيم في الحلية، (¬6) والبيهقي في الشُّعب من حديث ابن عمرَ، وفي إسناده مقالٌ. وهذا يدل أعظمَ دلالة علي مشروعية رفع الصوتِ بالذكر، إذ لا يتنبَّه من كان غافلاً إلاَّ بسماع صوتِ الذاكر. وأخرج ابن حبان في .......................................................... ¬

(¬1) في مسنده (3/ 390 رقم 98/ 1865). (¬2) عزاه إليه الهيثمي في (المجمع) (10/ 77). (¬3) في (الدعاء) (3/ 1644 رقم 1897). (¬4) في (المستدرك) (1/ 494 ـ 495) وقال: صحيح الإسناد، ورده الذهبي بقوله: (قلت: عمر ضعيف). اهـ. (¬5) في (الشعب) (2/ 423 ـ هندية). (¬6) (6/ 354) وقال: غريب من حديث مالك، لم نكتبه إلا من حديث محمد بن عبد الله بن عامر، قلت: إسناده ضعيف جدَّا.

صحيحه (¬1) من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ: «أكْثِروا ذِكْرَ اللهِ حتى يقولوا مجنون»، وأخرجه أيضًا من حديثه أحمد في مسنده، (¬2) والطبراني في الكبير، (¬3) والحاكم في المستدرك، (¬4) وقال: صحيح الإسناد، وحسَّنه الحافظ ابن حجر في أماليه. وتصحيحُ ابن حبانَ والحاكم، وتحسينُ ابن حجر يدفعُ ما قال أبو يعلي أنَّ في إسناده دراجًا، وفيه ضعف، وهو يدل على مشروعيةِ الجهر بالذكرِ دلالةً واضحةً. واعلم أنَّ الأحاديثَ التي يستفاد منها ما أفادتْه الأحاديثُ التي ذكرناها هنا كثير جدًّا لا تفي بها إلاَّ رسالةٌ مطوَّلة. وفي هذا المقدار كفايةٌ لمن له هدايةٌ. والله وليُّ التوفيق. انتهى. ولشيخ الإسلام رضي الله عنه في ذلك رسالةُ أطولُ من هذا [3أ]. ¬

(¬1) في صحيحه رقم (817). (¬2) (3/ 68، 71). (¬3) لم أجده في الكبير. (¬4) (1/ 499)، وقال الحاكم: (هذه صحيفة للمصريين صحيحة الإسناد، .... ). قلت: بل جمهور الحفاظ علي تضعيف هذه الصحيفة.

سؤال وجواب عن أذكار النوم

(198) 36/ 1 سؤال وجواب عن أذكار النوم (¬1) تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب ¬

(¬1) عنوان الرسالة في المخطوط (ب): (سؤال في النفث المذكور في حديث الأذكار عند النوم).

وصف المخطوط: (أ) 1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: سؤال وجواب عن أذكار النوم. 2 ـ موضوع الرسالة: أذكار. 3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وحده، وصلي الله علي سيدنا محمد وآله وصحبه وبعد. فإنه وصل إليّ سؤال من ... 4 ـ آخر الرسالة: من تحرير المجيب القاضي البدر عز الدين محمد بن علي الشوكاني حفظه الله تعالي ومتع بحياته وأدام فائدته. 5 ـ نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 ـ عدد الصفحات: 4 صفحات. 7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: الأولي: 24. الثانية والثالثة: 26 سطرًا. الرابعة: سطرًا. 8 ـ عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة. 9 ـ الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

وصف المخطوط: (ب) 1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: سؤال في النفث المذكور في حديث الأذكار عند النوم. 2 ـ موضوع الرسالة: أذكار. 3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. سؤال في النفث المذكور في حديث الأذكار عند النوم. 4 ـ آخر الرسالة: وجود ما يدل على لزوم المصير إليه وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية والله سبحانه أعلم. وصلي الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه. 5ـ نوع الخط: خط رقعي جيد. 6 ـ عدد الصفحات: 5 صفحات. 7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 21 سطرًا. 8 ـ عدد الكلمات في السطر: 8 ـ 10 كلمات. 9 ـ الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحدَه، وصلي الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وبعدُ: فإنه وصل إليَّ من سيِّدي العلامةِ عليِّ بن إسماعيل بنِِ عليِّ بنِ القاسمِ أحمد بنِ المتوكلِ إسماعيلَ ـ حفظه الله ـ. ولفظُهُ قال ابن الجزريِّ ـ رحمه الله ـ من جملةِ الأذكارِ عندَ النومِ: اللهُ أكبرُ أربعًا وثلاثين، سبحانَ الله ثلاثًا وثلاثين، الحمدُ للهِ ثلاثًا وثلاثينَ، ويَجْمَعُ كفَّيهِ ثم ينْفُثُ فيهما، ويقرأ: قل هو الله أحد، والفلق، والناس، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسدهِ يبدأُ بهما علي رأسِهِ ووجهِه، وما أقبلَ من جسَدهِ ثلاثَ مراتِ. انتهى كلامُ ابنِ الجزري ـ رحمه الله ـ. قوله: ويجمعُ كفَّيْهِ ثم ينفثُ فيهما, فيقرأ: قل هو الله أحد, والفلق, والناس إلخ. قال أبو عبيدةَ: (¬1) النَّفْثُ بالفمِ شبيهٌ بالنَّفخِ, وأما التَّفْلُ فلا يكونُ إلا ومعهُ شيءٌ من الرِّيقِ, وكذا قال الجوهري, ِ (¬2) وهو أقلُّ من التَّفْلِ, وهذا النَّفثُ يكونُ بعد جمْعِ كفَّيهِ, وقبلَ القراءةِ, وفائدتُهُ التبرُّكُ بالهوى والنَّفسِ المباشِرِ للرُّقيةِ والذِّكرِ الحسنِ, كما يُتبرَّكُ بِغُسالةِ ما يُكتبُ من الذِّكْرِ والأسماء الحسنى ... إلى آخره كلامِه. قال السائل ـ حفظه الله ـ: نعم لا يخفاكم أن الذي يُفْهم من ظاهر عبارةِ الجزري أنَّ النفثَ هو لأجْلِ ترْكِهِ الإخلاص والمعوِّذتينِ. وقول جغمان: وفائدتهُُ التبرُّكُ الهوى والنَّفسِ المباشِرِ للرُّقيةِ والذِّكرِ الحسنِ إلخ, وقولُه بعدُ: ألا ترى أنه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ نَفَثَ في يدِه إلخ آخره يُومئ إلى ذلك,، فالإشكال في النَّفثِ قبلَ حصولِ القراءةِ ¬

(¬1) ذكره ابن منظور في "لسان العرب" (14/ 223) (¬2) في "الصحاح" (1/ 295)

فقَبْلَهَا لم يكن الهوى والنَّفَسُ قد باشَرَ الرُّقيَة فأما أن يكونَ باعتبارِ التسبيحِ, والتحميدِ, والتكبير الواقع قبل القراءةِ, أو لأنَّها قد حصلتْ للهوى والنَّفَسِ البركةُ من قِبَلِ القراءة, كما أنَّه من توجَّه بوَجْهِهِ مثلاً للدعاء, أو للصلاةِ, أو في حالات الإقبال على الخالقِ عزَّ وعلا ـ يكون بذلكَ مع خضوعِهِ وذلَّتِهِ قد صار في مرْتَبةِ القَبولِ, وإن لم يكُنْ قد شرَعَ في ذِكْرِهِ, أو دخَلَ في صلاتهِ كما يقضي بذلكَ كَرَمُ الله ورحمتُه, أو لوجهٍ غيرِ هذِهِ الوجوهِ. انتهى السؤالُ.

بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين, والحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام الأتَّمانِ الأكْملانِ على سيد المرسلينَ, حبيبِ ربِّ العالمينَ, وعلى آله المطهَّرين, ورضيَ الله عن أصحابهِ الراشدينَ, وبعدُ: فإنه وصل إلىَّ هذا السؤالُ من مولانا العلامةِ المِفْضالِ, جمالِ الكمالِ لا زالتْ فوائدُةُ النفيسة وافدةً على الأعلامِ, ومباحثُهُ الشريفةُ محرَّرَةَ بالأقلام [1] على الدوام. وأقول: قد تقرَّر عندَ الجمهورِ من أئمةِ العربيةِ (¬1) أنَّ الواو لمطلقِ الجمعِ من دونِ ترتيبٍ، ولا مَعِيَّةٍ، (¬2) فيكونُ المعطوفُ بها تارةً متقدِّمًا على المعطوفِ عليه، وتارةً متأخِّرًا وتارةً مصاحبًا. وقد خالفَ في ذلكَ جماعةٌ من النُّحاةِ كثعلبٍ وابنِ دُرُسْتُويْهِ وغيرِهما (¬3) فقالوا: إنها تفيد الترتيب، فيكون المعطوفُ بها متأخرًا عن المعطوف عليه، واحتجُّوا ¬

(¬1) انظر (شرح كافية ابن الحاجب) (4/ 404 ـ 405). (مغني اللبيب) (1/ 390 ـ 408). (¬2) وهو الصحيح أنها لا تدل علي الترتيب لا في الفعل كالفاء، ولا في المنزلة كثمَّ، ولا في الأحوال كـ (حتى)، وإنَّما هو لمجرد الجمع المطلق كالتثنية. فإذا قلت: مررت بزيد وعمرو، فهو كقولك: مررت بهما. (البحر المحيط للزركشي (2/ 253). قال الرضى في (شرح الكافية) لابن الحاجب (4/ 405): والأصل في الاستعمال الحقيقة ولو كانت ـ الواو ـ للترتيب لتناقض قوله تعالي: {(وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ)} [البقرة: 58]. وقول تعالى في موضع آخر: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [الأعراف: 161]. إذ القصة واحدة. وانظر: (جواهر الأدب) (ص163 ـ 174). (¬3) كالفراء والكسائي والرّبعي. ذكره الرضى في (شرح الكافية) (4/ 405).

لذلك بحججٍ واهيةٍ يمكنُ دفْعُها بأدنى تأمُّلٍ. وقد أجاب عنها الجمهور بجواباتٍ، وزيَّفوها بتزييفاتٍ، واحتجُّوا لما ذهبوا إليه بحججٍ مقبولةٍ، وبَرْهَنوا عليهٍ ببراهينَ معقولةٍ ومنقولةٍ، والمقامُ لا يتسعُ لِبَسْطِ ذلكَ، فمن رامَ الوقوفَ عليهِ فليرجعْ إلى مطوَّلاتِ كتُبُ الفنِّ، (¬1) فإنه يجدُ فيها من ذلكَ ما يشفي العليل ويروي الغليل. إذا تقرَّر أن الواوَ لمطلقِ الجمعِ فقولُه في الحديث: ويجمعُ كفِّيه, ثم يَنْفُثُ فيهما, ويقرأ, وليس فيه دلالةُ على تقدُّمِ جمعِ الكفَّينِ, والنَّفثِ على القراءةِ, بل مدلولُهُ الجمعُ بينَ القراءةِ وجمعِ الكفَّينِ والنَّفثِ, مع احتمال تقدُّم القراءةِ على الجمعِ والنفثِ وتأخُرها ومقارنتَِها, ولكن لما كانت العلَّةُ في النَّفثِ معقولةً, وهى التبرُّكُ بالهوى الذي باشَرَهُ نَفَسُ التالي كان ذلكَ قرينةً قويةً على تعيُّنِ أحدِ تلكَ الاحتمالاتِ الثلاثةِ, وهو تخرُ النَّفْثِ عن التلاوةِ, لأنَّ تلك المزيةَ إنما تحصلُ للهوى بذلكَ, وأيضًا الاستشفاءُ إنما حصلَ بالمسحِ باليدينِ على البدَنِ, وهو متأخِّرٌ عن القراءةِ كما يدلُّ عليه لفظُهُ. ثم في قوله: ثم يمسحُ, ولفظ أبي داود: (¬2) كان إذا أوى إلى فراشِةِ كلَّ ليلةٍ جمعَ كفَّيِهِ ثم نفثَ فيهما: قل هو الله أحد, وقل أعوذ برب الفلق, وقل أعوذ برب الناس, ثم يمسحُ بهما ... (¬3) الحديث. فقيّدَ القراءةَ بكونِهما في الكفينِ, ثم رتَّب على ذلكَ المسحَ, فكان المعنى أنه يجمعُ بينَ القراءةِ والنَّفثِ في الكفينِ, ثم يمسحُ, وتلك القرينةَُ السالفةُ قاضيةُ بتقديمِ النَّفثِ على ¬

(¬1) انظر (مغني اللبيب) (1/ 390 ـ 408). (البحر المحيط) (2/ 253 ـ 260). (¬2) في: "السنن" رقم (5056) (¬3) وتمامه: " ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده, يفعل ذلك ثلاث مرات"

القراءة ليس على ما ينبغي, فإنْ قلتَ: لعله استرجحَ مذهبَ مَنْ قالَ إنَّ الواوَ تقتضي الترتيبَ. قلت: بمكن ذلكَ, ولكنه لا يخفى أنَّ أئمةَ العربيةِ إذا اختلفوا في شيء, وذهب جمهورُهم إلى أمرٍ, وخالفَهُمُ الأقلُّونَ كان المصيرُ إلى مذهبِ الجمهورِ أوْلَى, لأَّنهم بمنزلةِ مَنْ يروي لنا ذلكَ الأمرَ عن أهل اللغةِ, والكثرةُ من المرجَّحَاتِ, ولا سيمَّا إذا كانتْ متمسَّكاتُ الأقلِّينَ ضعيفةً, ومُتمسَّكاتُ الأكثرينْ قويَّةً كما في مسألة السؤالِ, مع أنه لو فُرِضَ استواءُ المذهبينِ لكانت تلك القرينةُ بمجرِّدها مرجِّحةً, وليس هذا من إثباتِ اللغةِ باالترجيحِ والاستدلال, بل من إثباتِ المدلولِ بذلكَ, وهو جائزٌ [2]. وابنُ جغمان قد أقرَّ في كلامِهِ المذكورِ بأنَّ فائدةَ النَّفثِ التبرُّكُ بالهوى, والنَّفْسُ المباشِرُ للرُّقيةِ والذِّكر الحسنِ ... إلى آخر كلامِهِ. وذلكَ يستلزمُ أنَّ النَّفْثَ بعدَ الذِّكرِ المذكورِ, لأنَّ هذه الخصوصيةِ إنما تحصلُ بعَده, فلا يناسبهُ الجزمُ بتقديمِ النَّفْثِ على القراءةِ. فإن قلتَ: يمكن أنْ يُقالَ أنَّ تلكَ الخصوصيةِ قد حصلتَ للهوى بالتكبير, والتسبيح والحمد المذكورةِ في أول الحديثِ. قلت: لا يصحُّ ذلك, لأنَّ روايةَ التكبير (¬1) والتسبيح والحمد روايةٌ مستقلِّةٌ, ليس فيها ذكرُ النَّفثِ والمسحِ. والمقيَّدُ بذلك إنما هى الروايةُ الثانيةُ (¬2) التي فيها تلاوةُ الصَّمدِ, والمعِّوذتينِ كما في البخاري, ومسلم, وأبي داود, والترمذي, والنَّسائي, وإنما ذكرَ الجزريُّ (¬3) أحَدَ الحديثينِ عقيبَ الآخرِ, لأنَّه بصددِ الجمعِ بين الأدعيةِ التي تُقالُ عند النومِ كما جرتْ بهِِ قاعدتُهُ, ويوضح ذلكَ أنَّ حديثَ قراءةِ الصمدِ, والمعوذتينِ من روايةِ عائشة كما في الأمهات الست, وحديث التكبير والتحميد والتسبيح من رواية علي ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3705و 5362) ومسلم رقم (2727) (¬2) تقدمت آنفًا (¬3) في "عدة الحصن الحصين" (ص238) مع الشرح

ـ عليه السلام ـ كما أخرجه البخاريُّ, (¬1) ومسلم, (¬2) وأبو داود, (¬3) والنسائي. (¬4) وأخرجَه أيضًا أبو داود (¬5) من طريقٍ أخرى عنه مطولةً, وفي إسناده عليُّ ابن أعْبد. قال علي بن المديني: (¬6) ليس بمعروفٍ, ولا يعرف له غيرهُ هذا الحديث. وأخرجه أيضًا أبو داودَ, (¬7) والنسائي (¬8) من طريق أخرى عنهُ, وفي إسناده محمدُ بنُ كعبٍ القُرظِيُّ عن شبثٍ بفتحِ الشينِ المعجمةِ, وبعدَها باءٌ موحَّدةٌ مفتوحةٌ, وثاءٌ مثلثةٌ, وهو ابنُ رِبْعِيٍّ, ولا يعرفُ لمحمد بن كعبِ سماعٌ من شبثٍ كما صرَّح بذلكَ البخاريُّ. (¬9) وأخرج حديثَ التكبيرِ والتحميدِ والتسبيحِ أبو داودَ, (¬10) والنسائي (¬11) مسندًا وموقوفًا, والترمذي (¬12) وصحَّحه من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرو, وأخرجه أيضًا أبو داود (¬13) عن ضُباعةَ بنتِ الزبير. ¬

(¬1) رقم (3705) (¬2) في صحيحه رقم (2727) (¬3) في "السنن" رقم (5062) (¬4) في "عمل اليوم والليلة" رقم (515) وهو حديث صحيح (¬5) في "السنن" رقم (5063) وهو حديث ضعيف (¬6) ذكره ابن حجر في " تهذيب التهذيب" (3/ 143) (¬7) في "السنن" رقم (5064) (¬8) في "عمل اليوم والليلة" رقم (816) وهو حديث ضعيف (¬9) انظر "تهذيب التهذيب" (2/ 149) (¬10) في "السنن" رقم (5056) (¬11) في "السنن" رقم (3/ 74) (¬12) في "السنن" رقم (3410). وهو حديث ضعيف (¬13) في "السنن" رقم (5066). وهو حديث ضعيف

وإذا كان الأمرُ كذلكَ تبيَّنَ أن المقيَّدَ بالنَّفثِ هو حديثِ عائشةَ لا حديث علي, وابن عمرو, وضباعة فينبغي توجيه حديث عائشة باعتبارِ تقدُّمِ النَّفثِ, وتأخره على الوجهِ الذي أسلفناه, ولا ينبغي أن يُنظرَ إلى غيرِه بذلك الاعتبارِ. فإن قلتَ: ربما كان الوجهُ في تقدُّم النَّفثِ ما ذكره السائلُ ـ حفظه الله تعالى ـ من أن الهوى والنَّفْسَ قد جُعِلَتْ فيها البركةُ من قِبَلِ القراءةِ لأجل التوجُّهِ إليهما إلخ. قلت: هذا وجهٌ نفيسٌ جدًا, ولكنْ إذا كان المصيرُ إلى ذلكَ متعِّينًا بلْ ولا راجحًا بل ولا مساويًا بل مرجوحًا, فلا ينبغي التعويل عليه, بلِ اللازمُ المصيرُ إلى الوجْهِ الرَّاجحِ لاسيَّما بعدَ وجودِ ما يدلُّ على لزومِ المصيرِ إليه. وفي هذا المقدار كفايةٌ. انتهى [3] من تحرير المجيبِ القاضي البدرِ عزِّ الدينِ محمدِ بن علي الشوكاني ـ حفظه الله تعالى ـ , ومتع الله بحياته, وأدام فائدته.

اللغة العربية وعلومها

خامسًا: اللغة العربية وعلومها

جواب الشوكاني على الدماميني

(199) ... 37/ 4 جواب الشوكاني على الدماميني تأليف محمد بن علي الشوكاني حققه وعلق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: (أ) 1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: جواب الشوكاني على الدماميني. 2 ـ موضوع الرسالة: لغة عربية. 3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين, على سيد المرسلين وآله الطاهرين وبعد: 4 ـ آخر الرسالة: انتهى جواب مولانا ـ الحافظ, البدر الهمام عزَّ الأنام محمد بن علي الشوكاني رحمه الله تعالى وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه وسلم. 5 ـ نوع الخط: خط نسخي مقبول. 6 ـ عدد الصفحات: 6 صفحات ما عدا صفحة العنوان. 7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 27 سطرًا. 8 ـ عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة. 9 ـ الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

وصف المخطوط: (ب) 1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: جواب الشوكاني على الدماميني. 2 ـ موضوع الرسالة: لغة عربية. 3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الطاهرين وبعد: .... 4 ـ آخر الرسالة: جُعلت نارا عليهم دَارهُم كالمضمحلة. 5 ـ عدد الصفحات: 7 صفحات. 6 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 23 سطرًا. 7 ـ عدد الكلمات في السطر: 11 كلمة. 8 ـ نوع الخط: خط نسخي جيد. 9 ـ الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيد المرسلين, وآله الطاهرينَ وبعدُ: فإنه سأل بعض الأعلام ـ كثر الله فوائده ـ عن الأسئلة التي حررها الدماميني ـ (¬1) رحمه الله ـ في شرحه الكبير على المغني, قال ما نصه: " واعلم أني كنتُ قديمًا حررتُ سبعَ مسائلَ متعلقة بحروف المعجم, لم يجب عنها أحدٌ إلى الآن وهذا نصُّها: من ادَّعى أنه في الفهم والعلم مقدَّم فليجب عما استُبْهِمَ من المسائل. الأولى: ما هذه الأسماء, ألف, باء, تاء, ثاء, ج, إلخ؟ وما مسمَّاها هل هى أسماء أجناس, أم أسماء أعلام؟ فإن كان الأول فمن أي أنواع الأجناس هى؟ وإن كان الثاني فهل هى شخصية أو حسية؟ فإن كان الأول فهل هى منقولة أو مترحلة؟ فإن كان الأول فمم نقلت أمِنْ حروف؟ أمِنْ أفعال؟ أم أسماء أعيان؟ أم مصادر؟ أم صفات؟ وإن كانت جنسية فهل هى من أعلام الأعيان أم من المعاني؟. الثاني: مَنْ وضعَ هذه الحروفَ, وفي أي زمان وضعت, وما مستند وضعها هل العقل أو النقلُ؟ الثالث: هل هى مختصة باللغة العربية, أو عامةٌ في جميع اللغات؟ ¬

(¬1) محمد بن أبي بكر بن عمر بن أبي بكر بن محمد بن سليمان بن جعفر القرشي, المخزومي الإسكندري, المالكي, ويعرف بابن الدماميني (يدر الدين) أديب, ناشر ناظم, نحوي. عروضي فقيه, مشارك في بعض العلوم, ولد بالإسكندرية, واستوطن القاهرة, ولازم ابن خلدون ... ولد سنة (763 ـ 827 هـ). من تصانيفه: " شرح مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" لابن هشام الأنصاري في النحو. " جواهر البحور في العروض", " الفواكه البدرية" من نظمه. " شرح لاميه العجم" للطغرائي. " شرح التسهيل" لابن مالك. " تزول الغيث". انظر: " البدر الطالع" رقم (428) , " الضوء اللامع" (7/ 184 رقم 440) , " معجم المؤلفين" (3/ 170 رقم 12446).

الرابع: الألف والهمزة هل هما مترادفان أو مفترقان؟ وعلى الثاني فما الفرق؟ وأيهما الأصل؟ الخامس: لِمَ أجمع علماء اللغة والعدد وغيرهم من المتكلمين على المفردات على الابتداء بحرف الهمزة وهل هذا أمر اتفاقي أو لحكمة؟ السادس: كلمة أبجد هوَّز إلى آخرها هل هي مهملة أو مستعملة؟ وما عني بها وما أصلها؟ وكيف نقلت [1أ] إلى المراد وما ضبطُ ألفاظها؟ السابع: ما حكمها في الابتداء والوقف عليها، والمنع والصرف، والتذكير والتأنيث، والإعراب والبناء، واللفظ والرسم وعند التسمية؟ فهذه سبعةُ أسئلةٍ من أجاب عنها فهو من الرجال، وإلا فلا مزية له على الأطفال) انتهى كلام الدماميني.

الجواب عن السؤال الأول وعلى الله ـ سبحانه [وتعالى] (¬1) في جميع الأمور المعوَّل ـ أن مسمياتِها هي الحروف [1ب] التي توجد في كلام المتكلمين، ورسمِ الراسمين، وهذا ظاهرٌ واضح لا يخفى ولا يحتاج إلى السؤال عنه، لكونه من الوضوح بمحل يعرفه صغار الطلبة. والحاصل أن مسمى كل واحد منها هو نوع مدلوله أعمُّ من أن يوجد في كذا، أو كذا أو كذا. والدلالة بدليةٌ تطلق على هذا الفرد أو هذا الفرد، وليست بشمولية كدلالة رجل على الذكر من بني آدمَ بدلاً لا شمولاً، وبهذا تعرف اختيار الشقِّ الأول من قوله: هل هي أسماء أجناسٍ أم أسماء أعلام؟ قوله من أي أنواع الأجناس. أقول: من النوع الذي دلالته بدلية، ولنا أن نختار الشقِّ الثاني، ونجعلَها من أعلام الأجناس، ويكون المقصود منه الدلالة على النوع من حيث هو هو، وإن كان الشق الأول هو الأولى والأحقُّ، وبهذا تعرفُ الجواب عن قوله فهل هي شخصية أو جنسية، فإن اختيار الثاني يدفع السؤال عن النقل أو الارتجال، إلخ. والجواب عن السؤال الثاني أن الواضع لهذه الحروف هو الواضعُ لهذه اللغةِ، (¬2) قد تكلم أهل العلم في ذلك في ¬

(¬1) زيادة يستلزمها السياق (¬2) قال ابن جني في (الخصائص) (1/ 33): أمَّا حد اللغة فإنه أصات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم ... وأمَّا تصريفها ومعرفة حروفها فإنها فُعْلة من لغوت: أي تكلمت وأصلها لُغوة ككرة وقُلّةٍ وثُبة، كلها لاماتها واوات. لقولهم كروت بالكرة، وقلوت بالقلة، ولأن ثبة كأنها مقلوب ثاب يثوب وقد دللت على ذلك وغيره من نحوه في كتاب في (سر الصناعة) وقالوا فيها: لغات ولُغُوت، ككرات، وكروت، وقيل منها لغي يلغي إذا هذَى ومصدره اللَّغا قال: وربِّ أسراب حجيجٍ كُظّمِ ... عن اللغَا ورَفَثِ التَّكلُّمِ وكذلك اللغو، قال الله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} أي بالباطل وفي الحديث: «من قال في الجمعة: صه فقد لغا» أي تكلم. قال إمام الحرمين في "البرهان" اللغة من لغى يلغَى من باب أضى إذا لهج بالكلام وقيل من لغى تَلْغَى. قال ابن الحاجب في مختصره: حدُّ اللغة كل لفظٍ وضع لمعنى. قال الأسنوي في "شرح منهاج الأصول": اللغات: عبارة عن الألفاظ الموضوعة للمعاني. "المزهر في علوم اللغة وأنواعها" للسيوطي (1/ 7ـ15).

الكتب الأصولية (¬1) بما يغني عن السؤال, ويرفع الإشكالَ, هذا إذا أراد بقوله مَنْ وضَعَ ¬

(¬1) اختلف في ذلك على أقوال: الأول: أن الواضع هو الله سبحانه وإليه ذهب الأشعري وأتباعه وابن فورك. الثاني: أن الواضع هو البشر وإليه ذهب أبو هاشم ومن تابعه من المعتزلة. الثالث: أن ابتداء اللغة وقع بالتعليم من الله سبحانه والباقي بالاصطلاح. الرابع: أن ابتداء اللغة وقع بالاصطلاح والباقي توقيفٌ. وبه قال الأستاذ أبو إسحاق. وقيل إنه قال بالذي قبله. الخامس: أن نفس الألفاظ دلّت على معانيها بذاتها وبه قال عبّاد بن سليمان الصُّيمريُّ. السادس: أنه يجوز كلُّ واحد من هذه الأقوال من غير جزم بأحدها وبه قال الجمهور كما حكاه صاحب "المحصول" ـ الرازي (1/ 181ـ 182). احتج أهل القول الأول بالمنقول والمعقول: أما المنقول فمن ثلاثة أوجه: الأول: قوله سبحانه وتعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]: دل هذا على أن الأسماء توقيفية وإذا ثبت في الأسماء ثبت في الأفعال والحروف إذ لا قائل بالفرق, وأيضًا الاسم إنّما سمِّى اسمًا لكونه علامة على مُسمّاه والأفعال والحروف كذلك. وتخصيص الاسم ببعض أنواع الكلام اصطلاح للنحاة. الثاني: أن الله سبحانه وتعالى ذم قومًا على تسميتهم بعض الأسماء من دون توقيفٍ بقوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم:23]. فلو لم تكن اللغة توقيفية لما صح هذا الذمُّ. الثالث: قوله سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم:22]. المرادُ اختلاف اللغات لا اختلاف تأليفات الألسُن. وأما المعقول فمن وجهين: الأول: أن الاصطلاح إنما يكون بأن يعرف كل واحد منهم صاحبه ما في ضميره, وذلك لا يعرف إلا بطريق كالألفاظ والكتابة. وكيفما كان فإن ذلك الطريق إما الاصطلاح ويلزم التسلسل أو التوقف وهو المطلوب. الثاني: أنها لو كانت بالمواضعة لجوَّز العقل اختلافها وأنها على غير ما كانت عليه لأن اللغات قد تبدلت وحينئذ لا يوثق بها. وأجيب عن الاستدلال بقوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} بأن المراد بالتعليم الإلمام كما في قوله: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء:80] أو يعلمكم ما سبق وضعه من خلق آخر, أو المراد بالأسماء المُسميّات بدليل قوله: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ}. ويحاب عن الاستدلال بقوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23] بأن المراد ما اخترعوه من الأسماء للأصنام والبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي, ووجه الذم مخالفةُ ذلك لما شرعه الله. وأجيب عن الاستدلال بقوله: {وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ} [الروم:22] بأن المراد التوقيف عليها بعد الوضع وإقرار الخلق على وضعها. ويجاب عن الوجه الأول من المعقول بمنع لزوم التسلسل, لأن المراد وضع الواضع هذا الاسم لهذا المسمَّى, ثم تعريف غيره بأنه وضعه كذلك. ويجاب عن الوجه الثاني بأن تجويز الاختلاف خلاف الظاهر, ومما يدفع هذا القول أن حصول اللغات لو كان بالتوقيف من الله عز وجل لكان ذلك بإرسال رسول لتعليم الناس لغتهم لأنه الطريق المعتاد في التعليم للعباد ولم يثبت ذلك. ويمكن أن يقال إن آدم عليه السلام علَّمها غيره وأيضًا يمكن أن يقال إن التعليم لا ينحصر في الإرسال لجواز حصوله بالإلهام وفيه أن مجرد الإلهام لا يوجب كون اللغة توقيفية, بل هى من وضع البشر بإلهام الله سبحانه لهم كسائر الصنائع. احتج أهل القول الثاني: بالمنقول والمعقول: أما المنقول فقوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم:4] أي بلغتهم فهذا يقتضي تقدُّم اللغة على بعثة الرُّسل, فلو كانت اللغة توقيفية لم يُتصوًّر ذلك إلا بإرسال فيلزم الدور لأن الآية تدل على سبق اللغات للإرسال والتوقيف يدل على سبق الإرسال لها. وأجيب بأن كون التوقيف لا يكون إلا بالإرسال إنما يوجب سبق الإرسال على التوقيف لا سبق الإرسال على اللغات حتى يلزم الدَّور, لأن الإرسال عليه وأجيب بأن آدم عليه السلام علمها كما دلت عليه الآية، وإذا كان هو الذي علَّمها لأقدم رسول اندفع الدور. وأما المعقول: فهو أنها لو كان توقيفية لكان إما أن يقال إنّه تعالى يخلُق العلم الضروريّ بأن وضعها لتلك المعاني أولاً يكون كذلك. والأول لا يخلو، إما أن يقال خلق ذلك العِلم في عاقل أو في غير عاقل، وباطلٌ أن يخلقه في عاقل لأن العلم بأنه سبحانه، وضع تلك اللفظة لذلك المعنى يتضمن العلم به سبحانه، فلو كان ذلك العلم ضروريًا لكان العلم به سبحانه ضروريًا، ولو كان العلم بذاته سبحانه ضروريًا لبطل التكليف. لكن ذلك باطل لما ثبت أن كلَّ عاقل يجب أن يكون مكلفًا، وباطلٌ أن يخلقه في غير العاقل لأن من البعيد أن يصير الإنسان الغير العاقل عالمًا بهذه اللغات العجيبة والتركيبات اللطيفة. احتج أهل القول الثالث: بأن الاصطلاح لا يصح إلا بأن يُعرَّف كل واحدٍ منهم صاحبه وما في ضميره. فإن عرَّفه بأمر آخر اصطلاحيِّ لزم التسلسل فثبت أنّه لا بد في أول الأمر من التوقيف ثم بعد ذلك لا يمتنع أن تحدث لغاتٌ كثيرةٌ بسبب الاصطلاح بل ذلك معلومٌ بالضرورة، فإن الناس يُحْدثون في كل زمان ألفاظًا ما كانوا يعلمونها قبل ذلك. وأجب بمنع توقفهِ علي الاصطلاحِ، بل يعرف ذلك بالترديد والقرائنِ كالأطفال. وأما أهل القول الرابع: فعلهم يحتجُّون علي ذلك بأن منهم ما جاء توقيفًا لا يكون إلا بعد تقدّم الاصطلاح والمواضعة، ويجاب عنه بأن التعليم بواسطة أو بإلهام يغني عن ذلك. واحتج أهل القول الخامس: بأنه لو لم يكن بين الأسماء والمسمَّيات مناسبة. بوجه ما لكان تخصيصُ الاسم المعيَّن للمسمَّي المعيَّن ترجيحًا بدون مرجِّح وإن كان بينهما مناسبة ثبت المطلوب، وأجيب بأنه إن كان الواضع هو الله سبحانه كان تخصيص الاسم المعيَّن بالمسمي المعيَّن كتخصيص وجود العالم بوقت معيَّن دون ما قبله أو ما بعده، وأيضًا لو سلمنا أنه لا بد من المناسبة المذكورة بين الاسم والمسمَّي كان ذلك ثابتًا في وضعه سبحانه وإن خفي علينا، وإن كان الواضع البشر فيحتمل أن يكون السبب خطور ذلك اللفظ في الوقت بالبال دون غيره كما يخطر ببال الواحد منا أن يسمَّي ولدَه باسم خاص. واحتج أهل القول السادس: علي ما ذهبوا إليه من الوقف بأن هذه الأدلة التي استدل بها الناقلون لا يفيد شيء منها القطع، بل لا ينتهض شيء منها لمطلق الدلالة، فوجب عند ذلك الوقف، لأن ما عداه هو من التقول علي الله بما لم يقلْ وأنه باطلٌ. قال الشوكاني في (إرشاد الفحل) (ص84): و (وهذا هو الحق). انظر: (الكوكب المنير) (1/ 97، 285)، (المزهر) (1/ 27). و (جامع البيان) للطبري (1/جـ1/ 215)، (سلاسل الذهب) (163)، (الخصائص) لابن جني (1/ 47).

هذه الحروفَ ... إلخ، مسميَّات، ألف، باء، تاء إلخ، وإن أراد هذه الأسماء فواضعُها أيضًا هو واضع أمثالها من أسماء المسميَّات, ودوالِّ المدلولات, وأما قوله: وما مستندُ وضعها هل العقل أو النقل؟ فإن أراد المسميات فالكلام فيه كالكلام في سائر اللغة والخلاف فيه كالخلاف فيها, وأمَّا مستند حصر اللغة فيها ودورانها عليها وعدم وجود غيرها فهو الاستقراءُ, (¬1) وهو تتبع الجزئيات لإثبات حكم شرعي, فمن استقرأ ما يدور به الكلام في لغة العرب وجده [1ب] مترددًا بينهما, غير مجاوز لها, ولا خارج عنها. وأما: الجواب عن السؤال الثالث وهو قوله هل هى مختصة باللغة العربية أو عامة في جميع اللغات [2أ]؟ فيقال هذا خاص باللغة العربية, ولم يدَّعِ مدَّعٍ أنه ثابت مثلُه في غيرها, وهذا يعرفه كل من يعرفُ ¬

(¬1) إن المنهج الصالح في دراسة فقه اللغة هو المنهج الاستقرائي الوضعي الذي يعرف بأن اللغة ظاهرة إنسانية اجتماعية كالعادات والتقاليد والأزياء ومرافق العيش, بل هى بين الظواهر الاجتماعية, كلها دليل نشاطها ورعاء تجاربها وبها تستقصي الملامح المميزة كل مجتمع. لا شيء في الحياة يؤكد خصائص المجتمع ويبرزها على وجهها الحقيقي, كاللغة المرنة المطواع التي تعبر بألفاظها الدقيقة الموحية عن حاجات البشر مهما تتشعَّب حتى تصبح الرمز الذي به يعرفون, والنسب الذي إليه ينتسبون. انظر مزيد تفصيل: "دراسات في فقه اللغة". للدكتور صبحي الصالح (ص32ـ 36).

ما ذكره أهل علم الأقلام, فإنهم تعرَّضوا لذكر اللغات, وذكروا حروفها, وفيها زيادة ونقصان, مثلاً في لغة الهنود حرف بين الراء والدال, وفي لغة التركِ حرف بين الجيم والشين, وهكذا أمثال ذلك وما أبردَ هذا السؤالَ وأحقَّه بأن لا يقالَ! وأما: الجواب عن السؤال الرابع وهو قوله الألف [والهمزة] هل هما مترادفان أو مفترقان؟ فيقال قد ذكر أهل اللغة (¬1) ما لو اطلع عليه السائل لم يحرر هذا السؤالَ, فقالوا: الألفَ ضربان ليِّنة ومتحركة, فاللينة نسمى ألفًا, والمتحركة تسمى همزة, فجعلوا الألف هى المقسم, وجعلوا الهمزة قسْمًا من قسمِها. وممن صرَّح بهذا صاحب الصحاح, (¬2) وبهذا تعرف الجواب عن قوله وأيُّهما الأصل. وأما: الجواب عن السؤال الخامس وهو قوله لِمَ أجمع العلماء اللغة والعدد وغيرهم من المتكلمين على المفرداتِ على الابتداء بحرف الهمزةِ, وهل هذا أمر اتفاقي أو الحكمة؟ (¬3) ¬

(¬1) انظر "مغني اللبيب" (2/ 370). (¬2) (1/ 1330). (¬3) كانت العرب تسير على نظام الأبجدية التي اخترعها الآجريتيون والتي تبدأ بحروف (أبجد هوز ... ) وتعد اللغة الأجريتية اللغة السامية الثانية من ناحية تاريخ تدوين النقوش فقد دونت نقوشها حوالي سنة 14 ق. م. وتنسب هذه اللغة إلى مدينة أجريت الواقعة بالقرب من رأس شمرا على الساحل السوري. وقد طور الأجريتيون الكتابة حيث تبعوا برموز قليلة لا يتجاوز عددها الثلاثين. ومعنى هذا أن الأجريتين بسطوا نظام الكتاب, فلم يعد هناك حاجة لتعلم مئات الرموز, بل بسط الأجريتيون الرموز المكتوبة إلى عدد قليل, لقد عبر الأجريتيون عن كل صوت من أصوات اللغة بحرف واحد, ولذا كانت الحروف بعدد الحروف الصوتية الموجودة في لغتهم غير أنهم دونوا للهمزة المفتوحة ثم للهمزة المضمومة ثم للهمزة المكسورة رموزًا مختلفة, وهذا القصور في تدوين الهمزة أصبح ميراثًا تناقلته كل الكتابات السامية الأبجدية فيما بعد. وبذلك كان الأجريتيون أول من دون أية لغة من اللغات تدوينًا صوتيًا يقوم على أساس استخدام الحرف الواحد ـ دائمًا ـ للوحدة الصوتية, وكانت الكتابة قبلهم إما صورية مثل الكتابة الهيروغليفية أو مقطعية مثل الكتابة السومرية والأكادية, وابتكار الأجريتيين للأبجدية وهى نظام سهل يقوم على أساس صوتي منتظم مكن للإنسانية أن تمضى في ركب الحضارة فالأجريتيون لم يدونوا الحركات على الإطلاق وتقوم كتابتهم على تدوين الصوامت فقط وقد ظلت الكتابات السامية تدون الصوامت فقط على نحو ما فعل الأجريتيون ولا تدون الحركات عدة قرون بعد الميلاد. لقد اتبع الأجريتيون لأول مرة في التاريخ النظام الأبجدي في تدوين اللغة، وترجع كلمة (أبجدية) إلى ترتيبهم للحروف التي كتبوا بها لغتهم فالحروف انتظمت عندهم وفق الترتيب التالي: "أ ب ج د هـ و. ز ح ط ي ك ل م ن س ع ف ص ق ر ش ت". وهذا الترتيب هو الأبجدية - لأنه يبدأ بالألف والباء والجيم والدال وقد ظل الترتيب الأبجدي سائداً عند كل الشعوب القي تعلمت الخط من الأجريتيين بصورة مباشرة، وغير مباشرة. وأكثر النظم المعروفة في ترتيب الحروف ترجع بشكل مباشر إلى الترتيب الأبجدي الأجريتي أخذته كما هو أو عدلت فيه قليلاً، فترتيب الحروف على النحو الأبجدي هو ترتيبها في العبرية وجميع اللهجات الأرامية إلى اليوم. انظر: " علم اللغة العربية " الدكتور محمود فهمي حجازي (ص 159 - 160). " دراسات فى فقه اللغة " الدكتور صبحي الصالح (ص 50).

فيقال: هؤلاء الذين أجمعوا على ذلك اقتدوا بأهل اللغة العربية, ونطقوا كما نطقوا وقد وجدوهم ينطقون بالابتداء بحرف الهمزة, ونقل ذلك الرواة عنهم في كتبهم المعتمدة فهذا شيء من لغة العرب. فليت شعري ما وجهُ تخصيصهِ بالسؤال! فإنه لا يختص بمزيد إشكال, بل الوجه فيه كالوجه في غيره من جميع الألفاظِ العربيةِ, وهو السماع المنقول تواتُرًا عن أهل اللغة (¬1). ¬

(¬1) قلنا أن العرب كانت تسير على نظام الأبجدية التي اخترعها الأجريتون والتي تبدأ بحروف (أبجد هوز ... ) وبقوا علي هذا الترتيب حتى عصر صدر الإسلام، فقد ذكر القلقشندي: (أنها كانت تعلم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ويشهد لذلك قول الأعرابي: أتيت مهاجرين فعلَّموني ... ثلاثة أسطرٍ متتابعات وخطُّوا لي أبا جاد وقالوا ... تعلَّم سَعْفصًا وقُريشاتِ (معاني القرآن للفراء) للفراء (1/ 369). وقد ذكرت العرب هذا في أشعارها، وغيروا فيها بعض التغيير. وقد عرف العلماء هذا الترتيب الأبجدي فهو عندهم (إمام الكُتّاب وقال أبو عمرو الداني عند حديثه عن ترتيب الحروف عندما ذكر حرف الباء) ولتقدمها في حروف أبي جاد التي هي أصل حروف التهجي)). انظر (الجمل) للزجاجي (ص273). وعرفوا أن (أبجد هوز) كلمات وضعت لدلالة المتعلم علي الحروف أما ترتيب (أ ب ت ث .... ) الذي يبدأ بالألف وينتهي بالياء فهو قد وضع في عهد عبد الملك بن مروان، وكذلك الإعجام وهو تنقيط الحروف الموسومة بشكل متقارب أو بشكل واحد لتميز بعضها عن بعض وذلك لأن هذه الحروف مثل [الباء، التاء، الثاء] إذا كتبت من غير نقط صار من الصعب علي الإنسان التمييز بينها. انظر (المحكم في نقط المصاحف) (ص29).

فإن قلت: ربّما كان مراد السائل بالسؤال عن وجه ابتداء المصنفين في علم اللغةِ [2ب] بالهمزة، فهذا إن كان هو المراد بالسؤال فما أبرده، وأقلَّ جدواه! لأن تقديم بعض الحروف في مصنَّفات الجامعين لمفردات اللغة هو موقوف على الاختيار، فيبدأ من صنَّف بأيّ حرف شاءَ ولا حرجَ عليه في ذلك، وإن أردنا بيان الوجه فهم وجدوا الصبيان في المكتب يبدؤون بها، فرتَّبوا كتب اللغة على ذلك تقريبًا لمن يريد البحث عن شيء من المفردات، لكون ذلك الترتيب هو المألوفَ في تعليم الصبيانِ في المكتبِ. وكان يلزم السائلَ أن لا يقصرَ السؤال على الهمزة، بل يجعل السؤال عامًا فيقول: ولم قدِّمَت الباء على التاء؟ ثم كذلك إلي آخر الحروف. وأما: الجواب عن السؤال السادس وهو قوله كلمة [أبجد و] (¬1) هوَّز ... إلخ، هل هي مهملة أو مستعملة، وما عني بها وما أصلها؟ (¬2) ¬

(¬1) زيادة من (ب). (¬2) تقدم آنفًا.

فيقال: قال مجد الدين في القاموس (¬1) ما لفظه: (وأبجدْ إلى قَرشَتْ وكَلمن رئيسهم: ملوك مدينَ، وضعوا الكتابة العربية على عدد حروف أسمائهم، هلكوا يوم الظُّلَّةِ فقالت [2أ] ابنة كَلَمُنْ: كَلَمنْ هدَّ رُكْنِي ... هُلْكُهُ (¬2) يوم المحلَّه سيِّد القوم أتاه الـ ... حتفُ نارٍ وسط ظلِّه جُعلتْ نارًا عليهم ... دارُهمْ كالمُضْمَحِلَّةْ ثم وجدوا بعدَهم ثخذٌ ضَظِغٌ فسموها الروادف) (¬3) انتهى. وقال بعض شعراء مدينَ: ملوك بني حطي وهو بينهم ... وسعفصُ أهل للمكارم والفخر هم صمُّوا أهلَ الحجاز بغارةٍ ... كمثل شعاعِ الشمسِ أو طالعِ الفجرِ وقال آخر أبو جاد، وهواز، وحُطِّي تمادوا في القبيحِ من الخطاب. ولو قدرنا أن الأمر لم يكن هكذا، وأن واضعًا جمعَ حروف الهجاء وجعلَها في هذه الكلماتِ ليسهِّلَ حفظَها لم يكن ذلك بعيدًا من الصواب، ولا يحتاج مثل هذا إلى السؤال. وقد فعل هذا جماعة قاصدين جمعَ الحروف، إمَّا لأجل ما يتعلق بها من الأعداد، كما في هذه وفي قول القائل: بر تذنق في حيش إلخ، وقول الآخر: قاصد البيان معرفة ترتيب الكتب المرتبةِ على حروف المعجم عليها: أبتْ ثِجَحٌ خَد ذرزٌ [3أ] وهذا كثير، والمتقدم على الجميع هو الخليل، (¬4) فإنه جمع الحروف في بيت له ............................... ¬

(¬1) (ص340) (¬2) كذا في المخطوط وفي القاموس (وسْطَ) (¬3) ما تقدم من أصل الخط العربي يضعف هذه الرواية. (¬4) هو: الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي البصريِّ. أبو عبد الرحمن صاحب العربية والعروض. وهو أوَّل من استخرج العروض، وحصر أشعار العرب بها، وعمل أول كتاب (العين) كان من الزهاد في الدنيا والمنقطعين إلى العلم)، والفراهيدي نسبة إلى فراهيد بن مالك بن فهم بن عبد الله بن مالك بن مضر بن الأزد. وأبوه أول من سُمِّي أحمد بعد النبي صلي الله عليه وسلم. (بغية الوعاة) (1/ 558 ـ 561).

معروف (¬1) وأما قوله وما ضبطُها؟ فجوابه أنه كما يسمعُه السامعُ من ألسن الناس، فإنه حفظوا ذلك طبقةً بعد طبقة إلى الواضع لها. وأمَّا: الجواب عن السؤال السابع وهي قوله وما حكمها في الابتداء والوقف ... إلخ. فأقول: حكمها حكم الألفاظ قبل التركيب. وقد صرح النحاة أجمعُ اكتعُ أنه ينطقُ بها ساكنةَ الأواخر حتى تُركَّبَ، فإذا ركبت استحقت ما تسحقّه سائر الألفاظ بعد تركيبها، وهذا ظاهر مكشوف ما أظنه يلتبسُ على صغار الطلبة. وأما قوله والمنع والصرف ... إلخ. فقد عرفت من كلام صاحب القاموس (¬2) ما يفيد أنها أسماءُ ملوكٍ من ملوك العجم، فإن صح ذلك كان لها حكم الأسماء التي قد اجتمع فيها العجمةُ والعلميّةُ، والأمر ظاهر لا غبار عليه، وإن كانت موضوعةً من واضع لأحد المقصدين المذكورين فلها حكم ما جاء كذلك، وهو ما ذكره من الكلمات التي هي مسرودة لقصدِ التعديد، لا لقصد التركيب ولا لقصد معانيها. وقد ذكر ذلك جماعةٌ من المفسرين منهم الزمخشري في كشَّافه (¬3) عند الكلام على فواتح السَّورِ المفتتحةِ بأسماء الحروفِ [2ب]، ثم قال الدماميني: فهذه سبعة أسئلة من أجاب عنها فهو من الرجال، وإلاَّ فلا مزية له على الأطفال. ¬

(¬1) والفراهيدي (الخليل) أول من جمع حروف المعجم في بيت واحد وهو: صِف خَلْق خَوْدِ كمثل الشمس إذ بزغتْ ... يحظى الضَّجيعُ بها نجلاء معطارُ (بغية الوُعاة) (1/ 509). (¬2) (ص340). (¬3) (1/ 128 ـ 129).

أقول: هذا مما يقضي منه العجبُ، فإنَّ هذه الأسئلة الباردة القليلةَ الفائدةِ والعائدة كيف يكون من لم يجب عنها فهو في عداد الأطفال، فإن أنواع العلوم مختلفة، وقد رزق الله عباده المشتغلين بالعلم ما رزقهم من أنواعه، وقد يكون الرجلَ جَبَلاً من جبال العلم وبحرًا من بحار الكتابِ والسنة، ويخفي عليه تخريج هذه الأسئلة الزائغة، أو يرغب عن الجواب عنها لما يراه [3ب] من عدم الفائدة المعتدِّ بها، فكيف يكون من هو بهذه المنزلة العلية لا مزية له على الأطفال! يا عجبًا كلَّ العجب من الدماميني! ولا جرم فالخنفساء تسمِّي بنتِها قمرًا، وقد كان ـ رحمه الله تعالى ـ كثيرَ الزَّهْوِ بنفسه كما يراه الإنسان في كثير من أبحاثه، والسبب خلوه عن العلم بالكتاب والسنة، وما اشتملا عليه من القوارع والزواجر الموجبة على من عرفها أن يميط عن بدنه الكبر والخُيَلاء والزَّهوِ والعُجْبِ، ويغسلَ ثيابَه عن أدران هذه النزغاتِ الشيطانية، ورحم الله صاحبَ ضمد، فإن الدماميني لما دخل اليمن قال البيتين المشهورين له وهما: لما دخلت اليمنا ... رأيتُ وجهي حسَنا أَقْبِحْ بها من بلدٍ ... أحسنُ من فيها أنا ولما وصل إلى ضمد راجعًا، وقد شاع هذان البيتان قصده الضمدي، وطلب منه المناظرة في فنِّه، وهو النحو، وكان قاعدًا على سرير فقال للضمدي: ما قرأت من كتب النحو؟ فذكر له الكافية، ومختصراتِ شروحها فقال: كتاب وضع لتدريب الصبيانِ ثم ماذا؟ قال: ثم الرَّضي، قال: قاربت الكفاءةَ، ثم ماذا؟ قال: ثم شرح التسهيل فقال: كفؤ كريمٌ، ونزل عن سريره، ودارت المباحثة بينهما، فأجاب الضمدي عن كل ما سأله الدماميني عنه، وأورد على الدماميني [3أ] إشكالاتٍ عجز عن الجواب عنها، فقال له الضمدي: من أحسن من فيها؟ يشير إلى البيتين السابقين، فقال: أنت، وهذا إنصافٌ منه في الجملة، وقد كان عنه في سعَة، ويروي أنه حرَّف البيتين بعد هذه المباحثة فقال: لما دخلت اليمنا ... رايتُ وجهي خَشِنا

أكرِمْ بها من بلدةٍ ... أقْبَحُ من فيها أنا وقد ذكر المسعودي على تقدم عصره، وشُهرِةِ كتابه، (¬1) فقال: [وقد كان ملوك عدة] (¬2) تفرَّقوا في ممالكِ متصلةٍ [ومنفصلة]، (¬3) فمنهم المسمَّي [بأبي جاد] (¬4) وهوز، وحطي، وكلمن، وسعفص، وقرشات، وهم على ما ذكرناه بنو المحصن بن جندلٍ. وأحرف الجمل هي أسماء هؤلاء الملوكِ. قال: وقد قيل في هذه الحروف [4أ] غيرُ ما ذكرنا من الوجوه، فكان أبجد ملكَ مكةَ وما يليها من الحجاز، وكان هوَّز وحُطِّي ملكينِ ببلاد وجَّ، وهي أرض الطائف وما اتصل بذلك من نجدٍ، وكلمُن وسعفص وقرشاتُ ملوكًا بمدينَ. وقيل ببلاد مصرَ، وكان كلمن على ملك مدينَ ومن الناس من رأى أنه كان مَلِكَ جميعَ من سمينا مشاعًا متصلاً على ما ذكرناه، وإن عذاب يوم الظلة كان في ملك كلمنْ منهم، وإن شعيبًا عليه السلام دعاهم فكذَّبوه فوعدهم بعذاب يوم الظُّلِّةِ ... إلخ كلام المسعودي. وقد ذكره المقريزي في الخطط والآثار (¬5) بأكثرَ من هذا. وإلى هنا انتهي الجواب والهداية بيد من هي بيده، والحمد لله أولاً وآخرًا. [انتهى جاب مولانا الإمام، الحافظ، البدر، الهمام، عزَّ الأنام محمد بن علي الشوكاني ـ رحمه الله تعالى ـ وصلى الله على خير خلقِه محمدٍ وآله وصحبِه وسلِّم] (¬6). [وعبارة العلامة عبد الرؤوف المناوي في شرحه على ................................. ¬

(¬1) (مروج الذهب ومعادن الجوهر) (2/ 161 ـ 162). (¬2) والذي في (المروج) [وقد كانوا عدة ملوك]. (¬3) زيادة من (مروج الذهب) (2/ 161). (¬4) والذي في (المروج) [بأبجد]، (¬5) وهو كتاب (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخط المقريزيَّة. (¬6) زيادة من (أ).

القاموس (¬1) ما لفظه: (وأبجد قرشتْ أي: وقول الناس: أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت، وكلمن رئيسُهم ملوكُ مدين، أي: أسماء ملوكهم، فقوله: وكلمن رئيسُهم جملة معترضةٌ وضعوا أي الأوائلُ هذه الكتابة العربية على عدد حروف أسمائهم. أصل هذا قول حمزةَ الأصفهاني يُقال أن أول من وضع الكتابة العربيةَ قومٌ من الأوائل نزلوا على عدنانَ بن أدَدٍ، واستعربوا ووضعوا هذه الكتابة على عدد حروف أسمائهم، وكانوا ستة أبجد، هوز، حُطِّي، كلمن، سعفص، قرشتْ، وهم ملوك مدينَ ورئيسهم كلمنْ هلكوا كلهم يوم الظُّلَّةِ فقالت ابنة كلمن تؤنِّبه وترثيه (¬2): كلمن قد هدَّ ركني ... هُلْكُهُ وسْط المحلَّهْ سيِّد القوم أتاه الـ ... حتفُ نارًا وسط ظْلَّهْ جُعِلَتْ نارًا عليهم ... دارهُم كالمضمحلَّة] (¬3) ¬

(¬1) انظر (القاموس) (ص340). (¬2) تقدم توضيح ذلك (¬3) زيادة من (ب).

سؤال: عن الفرق بين الجنس واسم الجنس وبينهما وبين علم الجنس. وبين اسم الجنس واسم الجمع وبين اسم الجمع مع الجواب للشوكاني

(200) 11/ 1 سؤال: عن الفَرْقِ بينَ الجِنْسِ واسْمِ الجِنْس وبينَهما وبينَ عَلَمِ الجِنْسِ. وبينَ اسمِ الجِنْسِ واسْمِ الجمْعِ وبينَ اسْمِ الجمْعِ مع الجواب للشوكاني تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: (سؤال عن الفرق بين الجنس واسم الجنس وبينهما وبين علم الجنس وبين اسم الجنس. واسم الجمع وبين اسم الجمع مع الجواب للشوكاني). 2 ـ موضوع الرسالة: لغة عربية. 3 ـ آخر الرسالة: وإنَّما نبَّهنا عليه تكميلاً للفائدة، وفي هذا المقدار كفاية وإن كان المقام محتملاً للتطويل. منقول من نسخة المؤلف حفظه الله تعالي. 5 ـ نوع الخط: خط نسخي معتاد. 6 ـ عدد الصفحات: (4) صفحات. 7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: (27 ـ 33) سطرًا. 8 ـ عدد الكلمات في السطر: (11 ـ 13) كلمة. 9 ـ الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم هذا جوابُ سؤالٍ وردَ على القاضي العلاَّمة محمد بن علي الشوكاني حفظه الله في شهر ربيع سنةَ 1202 عن الفَرْق بينَ الجنسِ واسْمِ الجنسِ، وبينَهما وبينَ عَلَمِ الجنسِ، وبينَ اسمِ الجنسِ واسْم الجمْعِ، وبينَ اسْمِ الجمعِ والجمعِ. فأجاب بما لفظهُ: اعلم أنَّها قدِ اختلفتْ اصطلاحاتُ المحقِّقينَ في اسمِ الجنسِ والجِنْسِ، فمنهم من لا يُفرِّق بينَهما، وهو الذي يظهرْ من عباراتِ المتقدِّمينَ، ومحقِّقي المتأخرين، فإنَّهم كثيرًا من يُطْلِقونَ على الشيء الواحد كالتمرِ مثلاً اسمَ الجنس تارةً، والجنْسَ أُخرى. هذا المحقّقُ الرضيُّ (¬1) صرَّح في بحثِ الكلمةِ (¬2) أنَّ التَّمْرِ جِنْسٌ، وكذا في بحثِ التمييزِ. (¬3) وصرَّح في بحثِ الجمعِ أنَّه اسمُ جِنْسٍ. وصرَّح أيضًا في بحث المنادَى (¬4) عندَ قولِ ابنِ الحاجبِ (¬5) إلاَّ مع الجِنْس أنَّ الرَّجُلَ ونحوَهُ جِنْسٌ. وهكذا غيرُه كابنِ الحاجبِ في الكافيةِ في بحي التمييز، والشافيةِ في بحث الجمعِ. وهكذا المحققُ الجاميُّ فإنَّه صرَّح في بحثِ التمييزِ بأنَّ التمرَ جِنْسٌ، وصرَّح في بحثِ الجمعِ بأنَّه اسم جنس. وقد وقع مثلُ هذا في مؤلَّفاتِ السَّعْدِ التفتازاني، والشريفِ الجُرجَاني في مواضعَ كثيرةٍ وفرَّقٍ جماعةٌ من المتأخِّرينَ بينَهما بفروقٍ مختلطةٍ مختبطةٍ، فقالَ بعضُهم: إنَّ اسمَ الجِنْس ما يُطْلَقُ على القليلِ والكثيرِ دُفْعَةً واحدةً وإذا أُريد التنصيصُ على واحدةٍ مُيِّزَ بالتاء كَتَمْرٍ ¬

(¬1) أي رضيِّ الدين محمد بن الحسن الاستراباذيِّ (ت سنة 686هـ). (¬2) في (شرح كافية ابن الحاجب) (1/ 21 ـ 23). (¬3) في (شرح كافية ابن الحاجب) (2/ 99). (¬4) في (شرح كافية ابن الحاجب) (1/ 386). (¬5) في (شرح شافية ابن الحاجب) (2/ 199 ـ 201).

مثلاً. والجنسُ ما يُطلق على كثيرينَ على طريقِ البدلِ، لا دُفعةً كرجلٍ مثلاً، وما ذكَرَهُ هذا القائلُ في تحقيقِ الجِنْسِ مخالفٌ لما قَالهُ المحقَّقُ الرَّضيُّ (¬1) فيه، فإنَّه قالَ في بحثِ الكلمةِ: إن الجنسَ يقعُ على القليلِ والكثيرِ (¬2) إلخ. وقال في بحث التمييزِ (¬3): إنَّ الجنسَ ما يقعُ لفظُ الواحدِ المجَّردِ عن تاء الواحدةِ منه على القليل والكثير، فَتمْرٌ، وضَرْبٌ جِنْسٌ، بخلافِ رجُلٍ وفرَسٍ، ومخالِفٌ أيضًا لما ذكره المحقِّقُ الجاميُّ في تفسيرِ الجِنْسِ، فإنَّه قال: وهو ما تتشابَهُ أجزاؤه، ويقعُ مجرَّدًا عنِ التاء علي القليلِ والكثيرِ، حتى قالَ: بخلافِ نحوِ رجلٍ وفرسٍ. وما ذكره في تفسيره اسم الجنسِ مخالفٌ لما ذكرَهُ السَّعْدُ في المطوَّلِ في بحثِ تعريف المسْنَدِ إليهِ باللامِ، فإنَّه جزَم بأنَّ اسْمَ الجِنْسِ موضوعٌ لواحدٍ من آحادِ جنسهِ، فإطلاقُهُ على الواحدِ إطلاقٌ على أصلِ وَضْعِهِ، وإطلاقُهُ على المجموعِ إطلاقٌ على غيرِ الأصْل. وحقَّقَهُمَا بعضُهم بعكسِ ذلكَ التحقيقِ السابقِ، فقالَ: إنَّ اسْمَ الجِنسِ يُطلَقُ على كثيرينَ على طريقَ البدلِ كَرَجلٍ مثلاً، والجِنْسُ يُطْلَقُ على القليل والكثير دُفعةً واحدةً. وقد حقَّق اسمُ الجِنْسِ بهذهِ الحقيقة ابنُ الحاجبِ في بحثِ المنادي من الكافية (¬4) وتَبعَهُ ¬

(¬1) في (شرح الكافية) (1/ 21). (¬2) ثم قال: كا (العسل) و (الماء) لكن الكلم لم يستعمل إلا علي ما فوق الاثنين. بخلاف نحو: (تمر) و (ضرب). (¬3) الرَّضي في (شرح الكافية) (2/ 99). (¬4) (1/ 386): قال ابن الحاجب (ولا يجوز حذف حرف النداء، إلا مع اسم الجنس، والإشارة، والمستغاث، والمندوب، نحو: {(يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف: 29]، و (أيها الرجل) وشذ (أصبحْ ليلُ) و (افتدِ مخنوق) (اطرق كرا). حيث قال الرضي في شرحه لذلك: يعني بالجنس ما كان نكرة قبل النداء، سواء تعرّف بالنداء، ولـ (رجل) أو لم يتعرف لـ (يا رجلاً)، وسواء كان مفردًا أو مضافًا أو مضارعًا له: نحو: (يا غلام فاضل) (يا حسن الوجه) (يا ضاربًا زيدًا) قصدت بهذه الثلاثة واحدًا بعينه أولاً.

المحققُ الجاميُّ. ولا ينافيه عدمُ فَرْقِهِمَا بينَ الجِنْسِ واسْمِ الجنسِ كما سبقَ، وهو لا يِتمُّ إلاَّ على مذهبِ [1] مَنْ يجعلْ اسْمَ الجِنْسِ موضوعًا للماهيَّةِ، ومع وحدةٍ لا يعيِّنها لا للماهيةِ من حيثُ هي كما حقَّقَهُ سيِّدُ المحققينَ في حاشيتهِ على المطوَّلِ، والأولُ مذهبُ ابنِ الحاجبِ، والزمخشريِّ، والسَّعْدِ، والثاني مذهبُ جماعةٍ منهم: المحققُ الشريفُ، فيكونُ إطلاقُ لفظِ الأسدِ مثلاً على كلِّ فردٍ على سبيل البدلِ حقيقةً على المذهبِ الأولِ لأنَّهُ مستعملٌ فيما وُضِعَ له مجازًا على الثاني، ويكون الموضوعُ له أيضًا على الأولِ الماهيةُ بشرطِ شيء، وعلى الثاني الماهيةُ لا بشرط شيءٍ. وقال الأندلسيُّ: اسمُ الجِنْسِ هو الدالُّ على حقيقةٍ موجودةٍ في أشخاصِ كثيرةٍ مختلفينَ بالشخصِ لا بالحقيقة، نحو: زيدٌ وعمروٌ، فإنَّ اختلافهما ليسَ بالحقيقةِ، بل بالأعراضِ، وهذا هو المتواطئُ عندَ المنطقينَ، وهو النكرةُ عندَ النحاةِ. والجنسُ هو الجزء التامُّ المشْتَرَكُ المختلِفُ بالحقيقةِ، وكلامُهُ في تحقيق الجِنْسِ مبنيٌّ على اصْطلاحِ المنطقيينَ، فإنَّهم رسموه بالمقولِ على الكثرةِ المختلفةِ. الحقيقيةِ. وأمَّا ما ذكره في اسم الجنس فليسَ موافقًا لاصطلاحاتهم، لأنَّه رسَمَهُ برسمِ النوعِ عند أهلِ المنطقِ، وهم لا يُطْلِقُونَ على النوع أنَّه اسمُ جنسٍ، ولم يَبْنِ كلامَهُ هذا على مُصْطَلحِ أهلِ الأصولِ في الجنسِ، فإنَّه يرسمونَهُ بِرَسْمِ النوعِ عند أهلِ المنطقِ، قال: العَضُد في شرحِ مختصرِه على المنتهي: اعلمْ أن اصطلاح الأصوليينَ (¬1) في الجنسِ والنوعِ يخالف اصطلاحُ المنطقيينَ، فالمنْدرجُ ¬

(¬1) انظر (الكوكب المنير) (1/ 147 ـ 148) حيث قال صاحبه: فعلم الجنس يساوي علم الشخص في أحكامه اللفظية من كونه لا يضاف ولا يدخل عليه حرف التعريف، ولا ينعت بنكرة ولا يقبح مجيئه مبتدأ ولا انتصاب النكرة بعده على الحال، ولا يصرف منه ما فيه سببٌ زائدٌ على العلمية. ويفارقه من جهة المعنى لعمومه: إذ هو خاصٌّ شائع في حالةٍ واحدةٍ مخصوصة باعتبار تعيينه في الذهن وشياعه باعتبار أنَّ لكل شخص من أنواعه أشخاص نوعه قسطًا من تلك الحقيقة في الخارج. ? وأما الفرق بين علم الجنس واسم الجنس. فقال بعضهم: إن اسم الجنس الذي هو أسدٌ، موضوع لفردٍ من أفراد النوع لا بعينه، فالتعدد فيه من أصل الوضع. وإن علم الجنس الذي هو أسامةُ، موضوع للحقيقة المتحدة في الذهن فإذا أطلقت أسدًا على واحدٍ، أطلقته على أصل وضعه، وإذا أطلقت أسامة على الواحد، فإنما أردت الحقيقة، ويلزم من ذلك التعدد في الخارج، فالتعدد فيه ضمنًا لا قصدًا بالوضع. ويتساويا في صدقهما على صورة الأسد. إلا أنَّ علم الجنس وضع لها من حيث خصوصها باستحضارها في الذهن، واسم الجنس وضع لها من حيث عمومها. انظر: (تسهيل الفوائد) (ص30).

جنسٌ, والآخر نوعٌ, وعند المنطقيِّ بالعكس انتهى. وقد تبيَّنَ بما سلفَ الترادفُ باعتبارِ اصطلاحِ بعضٍ, والتفارقُ باعتبارِ اصطلاحاتِ آخرين. ولا حرج في تفاوُتِ الاصطلاحاتِ لما تقرَّر من أنَّه لا مُُشاحَّةَ فيها. ومن جرَّد النظرَ إلى معناهما اللغويِّ وجدَ الفرقَ بينَهما أوضح من أن يخفى, إذ لا يشكُّ مَنْ له أدنى مَشَكَّةٍ أنَّ المرادَ بالجنسِ المدلولُ وباسمهِ الدالُّ كزيدٍ واسمِ زيدٍ, إلا أنَّ أهلَ الاصطلاحِ لم يلتفتُوا إلى هذا. وأما الفرقَ بينَهما وبينَ علم الجنسِ, وبينَ الثلاثةِ واسْمِ الجمعِ، وبينَه وبينَ الجمعِ فنقول: إذا قد عرفت مما سلفَ التَّرادُفَ بينَ الجنسِ عند المحققينَ, وأنَّه يُطلقُ كلٌ واحدٍ منهما على ما يُطلقٌ عليه الآخر فالفرقُ بينهما وبين علم الجنس قد وقع فيه اختلاف بين المحققين فقال العلامة السَّعْدُ في المطوَّلِ بما مَحصِّلُةُ أنَّ اسمَ الجنسِ موضوعٌ لواحدٍ من آحاد جنْسهِ, فإطلاقُهُ على الواحدِ إطلاقٌ على أصلِ وَضْعِهِ, وعََلَمُ الجنسِ موضوعٌ للحقيقةِ المتحدةِ في الذهن , (¬1) فإذا أطلقتَه على الواحدِ فإنَّما أردتَ الحقيقةَ, ولَزِمَ من إطلاقِهِ على الحقيقةِ باعتبارِ الوجودِ التعدُد ضمنًا [2]. وقال سيِّد المحققينَ في حاشيتهِ على المطوَّلِ: الفرقُ بينَ اسم الجنسِ وعلَمِ الجِنسِ على ما ذكرَهُ يعني السعَّدَ منقولٌ من كلامِ الشيخِ ابن الحاجبِ في شرح المفصَّلِ, وإنما يستقيم على قولِ مَنْ يجعلُ اسْمُ الجِنْسِ موضوعًا للماهيَّةِ مع وَحْدَةٍ لا بعَيْنِها, ويُسمَّى فردًا منتشرًا. ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة.

وأمَّا من يجعلُهُ موضوعًا للماهيَّة من حيث هي فعنده كلٌّ من اسم الجنس وعَلَمِهِ موضوعًا للحقيقةِ المتحدةِ في الذهنِ، وإنما افْتَرَقا من حيثُ إنَّ عَلَم الجِنْسِ يدلُّ بجوهرِهِ على كونِ تلكَ الحقيقةِ معلومةً للمخاطَبِ، معهودةً عندَه، كما أنَّ الأعلامَ الشخصيةَ تدلُّ بجواهرِها على كونِ الأشخاصِ معهودةً له. وأما اسمُ الجِنْسِ فلا يدلُّ علي ذلكَ بجوهِرِه، بل بالأدلةِ إن كانتْ. وقيلَ: إنَّ اسمَ الجنسِ وُضِعَ لمعني مشتركٍ بينَ أفرادِ الطبيعةِ باعتبارِ اشْتراكِها، وعَلَمُ الجِنْسِ وُضِعَ لِنَفسِ الطبيعةِ باعتبارِ تميُّزِها عن الغيْر، فالوضعُ على الطبيعةِ باعتبار كُلَّيَّتِها اسمُ الجنسِ، وباعتبارِ جُزئيَّتِها عَلَمُ الجنسِ. وقد أوردَ المحققُ الرضيُّ في الفرقِ بينَهما مادةً نفيسةً في بحثِ الأعلامِ فرَاجعْهُ. وذهب ابنُ مالكٍ في شرح التسهيل إلى أنَّه لا فرقَ بينهما إلاَّ من حيثُ اللفظُ، لا من جهة المعني ومرادُهُ بقولِهِ: من حيثُ اللفظُ أنَّ عَلَمَ الجِنْسِ يمتنعُ من الصرفِ مع عِلَّةٍ أُخرى، ويقعُ مبتدأ بلا مسوِّغٍ، ويجيءُ منْهُ الحالُ بلا مسوِّغٍ أيضًا. ويمتنعُ تعريفه باللامِ خلافَ اسْمِ الجنسِ، والجِنْسُ في ذلكَ كلِّه. وإلى مثلِ هذا ذهبَ أبو حيانَ، وذهبَ جمعٌ من المحققينَ النحويينَ والأصوليينَ كالتَّقي السُّبُكيِّ، والبرماويِّ، وابنِ الحاجبِ في المفصَّلِ، والجلالِ السيوطيِّ في هُمْعِ الهوامعِ، والشيخِ زكريا، والفاكهيِّ، وهو الذي أشار إليه سيبويه في كتابِه، وهو الذي عليهِ جمهورُ المتأخرينَ إلى أنَّ بينَهما فرقًا معنويًّا. وذكر فُرُوقًا متقاربةً أحسنُها ما قدِّمنا ذِكْرَهُ. قالوا: وهو أيْ عَلَمُ الجِنْسِ باعتبارِ مُسمَّياتِهِ ثلاثةُ أنواعِ (¬1): ما وُضِعَ لأعيانٍ لا تُوْلَفُ كأسامةُ للأسدِ وما وُضِعَ لأعيانٍ تَوْلَفُ كأبي الحجَّاجِ للفيلِ، وأبي صفوانَ للجملِ، وما وُضِعَ لأمورِ معنوية كيَسَارِ للميسرةِ، وفَجَارِ ¬

(¬1) انظره في (أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك) (1/ 122)، (شرح شذور الذهب) (ص179ـ 180).

للمفْجَرةِ. إذا تقرَّر لكَ هذا فاعلم أنَّ النسبةَ بينَ اسمِ الجنسِ وعلَمِ باعتبارِ ما هُوَ الأَوْلَي من وجوه الفرقِ بينَهما هي أنَّ اسْمَ الجنس أعمُّ مطلقًا مِنْ عَلَمِ الجنسِ، لأنه موضوعٌ للماهيَّةِ مطلقًا، أعمُّ من أنْ يكونَ موجودُهُ ذِهْنًا فقط، أو ذهنًا وخارِجًا، لكنَّه إنِ اعْتُبِرَ دلالتُهُ عليها لا معَ قيدِ فهوَ المطلقُ، وعمومُهُ شموليٌّ كعمومِ كلِّ، وإنْ اعتُبِرَا مع قيدِ الوحدةِ فهو النكرةُ، وعمومُهُ بدليٌّ كعمومِ رجلٍ. وأمَّا عَلَمُ الجنسِ فهو أخصُّ مُطْلَقًا، لأنَّهُ موضوعٌ للماهيَّةِ الذهنيةِ فقط، التي لا تُعْقَلُ في الخارجِ بحالٍ، وأمَّا عَلَمْ الشخصِ فهوَ ما وُضِعَ لفردٍ معيَّنٍ من أفرادِ الماهيَّةِ بحيثُ لا يتناولُ غيرَهُ، فهوَ أخصُّ مطلقًا من اسم الجنسِ وعلَمِهِ. وأمَّا باعتبارِ اللغةِ فالفرقُ ظاهرٌ لا يخفى، لأنَّ علَمَ الجِنْسِ ما وُضِعَ للدلالة علي الجِنْسِ بعينِهِ دونَ غيرهِ، واسمُ [3] الجِنْسِ ما وُضِعَ للدلالةِ على الجنسِ مطلقًا. وأما الفرقُ بينَ اسمِ الجنسِ واسْمِ الجمع ِ فقد قال المحقِّقُ الرَّضِيُّ في بابِ الجمعِ: والفرقُ بينَ اسمِ لجنسِ واسمِ الجمعِ مع اشتراكِهما في أنَّهما ليسَا على أوزانِ جموعِ التكسير (¬1) لا الخاصَّةِ بالجمعِ كأفْعِلَةٍ وأفْعالٍ، ولا المشهورةِ فيهِ كفعلهَ نحوه (نسوة) أنَّ اسْمِ الجمعِ لا يقعُ على الواحدِ والاثنينِ، بخلافِ اسْمِ الجنسِ، وأن الفرْقَ بينَ واحدِ اسْمِ الجنسِ وبينَه فيما له واحدٌ أنَّه يُميَّزُ إمَّا بالتاء أو بالياء، بخلافِ اسْمِ الجمعِ انتهي. ويُشْكِلُ على هذا الفرقِ الكَلِمُ، فإنَّه مما يُميَّزُ واحدُه بالتاء، ولا يقعُ في الاستعمال إلاَّ على ما فوقَ الاثنينِ، كما صرَّحَ بهِ الرَّضيُّ نفسُهُ في أوَّلِ شرْحِهِ للكافيةِ، فملاحظةُ عدمِ صحةِ إطلاقِهِ إلاَّ على ما فوقَ الاثنينِ يُلْحِقُهُ باسْمِ الجمعِ، وملاحظةُ تبيُّنِ واحدِهِ بالتاء يُلْحِقُهُ باسمِ الجنسِ، اللَّهمَّ إلاَّ أنْ يُجْعَلُ الكلِمُ واسطةً بينَهما كما قال ابن هشامٍ في أوضح المسالك (¬2) أنَّه اسْمُ جِنْسٍ جَمْعيٍّ، ومعنى كونِه اسْمِ جِنْسٍ أنه يدلُّ علي جماعةٍ ¬

(¬1) انظر (شرح شافية ابن الحاجب) (2/ 192 ـ 196). (¬2) (1/ 113).

سواء أزيْدُ على لفظه تاءُ التأنيثُ نقصَ معناه، وصارَ دالاً على الوحْدةِ، ونظيرُهُ لَبِنٌ ولبنةٌ ونَبِقٌ ونَبِقَةٌ. وأما الفرقُ بينَ عَلَمِ الجِنْسِ واسْمِ الجمعِ فواضحٌ، لأنَّ عَلَمَ الجِنْسِ موضوعٌ للحقيقة المتَّحدِة في الذهنِ كما سبقَ، سواءٌ مُشْخَصَاتُها قليلةٌ أو كثيرةٌ، لأنَّ القِلَّةَ والكَثْرَةَ غيرُ داخليْنِ في نظرِ الواضِعِ، بخلافِ اسْمِ الجمعِ، فإنه لفظٌ مفردٌ موضوعٌ لمعنى الجمعِ فقط. وأما الفرقُ بينَ الجمعِ واسْمِ الجمعِ فقد صرَّحَ بهِ الرَّضيُّ وغيرُهُ من شُرَّاحِ الكافيةِ (¬1) في شرحِ قولِ ابنِ الحاجِبِ: المجموعُ ما دلَّ على آحادِ مقصودِهِ بحروفٍ مُفْرَدَةٍ لأنَّ اسْمَ الجمعِ لم يدلَّ على الآحادِ بحروفٍ مفردةٍ، وهو ظاهرٌ. وذكر الرضيُّ أيضًا أنَّه لا فرقَ بينَ الجمعِ واسْمِ الجمعِ إلاَّ من حيث اللفظُ، وذلك لأنَّ لفظَ اسْمِ الجمعِ مفردٌ بخلافِ الجمعِ لا في المعنى، فإنَّ دلالَتَهُما على ما تحتَهما من الأفراد واحدةٌ، وهذا باعتبارِ الاصطلاحِ لا باعتبار المعنَى اللغويِّ، فإنَّ الجمعَ هو المدلولُ واسْمُ الجمعِ هو الدالُّ، وكذلكَ اسْمُ الجنسِ مغايرٌ لاسْمِ الجمع لغةً، لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما اسمُ المسمَّي مغايرٌ للمسمَّى، الآخَرُ. ولكنَّ المدلولَ اللغويَّ في جميعِ هذهِ الأطرافِ غيرُ مُرادٍ، وإنَّما نبَّهْنَا عليهِ تكميلاً للفائدةِ. وفي هذا المقدار كفايةٌ، إن كان المقامُ محتَمِلاً للتطويلِ. منقولةٌ من نُسخةِ المؤلِّفِ ـ حفظه الله تعالى ـ. [4] ¬

(¬1) (3/ 434) حيث قال الرضي قوله: (ما دل على آحاد) يشمل المجموع وغيره، من اسم الجنس كـ (تمرة) و (نخل) واسم الجمع: ـ (رهط) و (نفر) والعدد، لـ (ثلاثة) و (عشرة) ومعني قوله (مقصوده بحروف مفردة بتغيير ما) أي: تُقصد تلك الآحاد، ويدل عليها بأن يؤتي بحروف مفرد ذلك الدال عليها، مع تغيير ما في تلك الحروف إمّا تغيير ظاهر أو مقدر، فالظاهر إمَّا بالحرف كـ (مسلمون) أو بالحركة كـ (أُسْد في أسَد) أو بهما لـ (رجال) و (غُرَف) والتغيير المقدَّر كـ (هِجان) و (فُلْك). وخرج بقول: (مقصودة بحروف مفردة بتغيير ما) اسم الجمع نحو (إبل) و (غنم) لأنها وإن دلت على آحاد، لكن لم يقصد إلى تلك الآحاد بأن أخذت حروف مفردها وغيَّرت بتغيير ما، بل آحادها ألفاظ من غير لفظها لـ (بعير) و (شاة).

بحث في تبادر اللفظ عند الإطلاق

(201) 33/ 5 بحث في تبادر اللفظ عند الإطلاق تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في تبادر اللفظ عند الإطلاق. 2 ـ موضوع الرسالة: لغة عربية. 3 ـ أول الرسالة: وصل سؤالٌ إلى المولى شيخ الإسلام حاصلُه: ما المراد بقول علماء الأصول أنَّ تبادر المعنى عند إطلاق اللفظ ... 4 ـ آخر الرسالة: انتهى منقولاً من خط المجيب البدر شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني تغشاه الله بواسع رحمته، ورضوانه، وأسكنه ببحبوحة جنانه، وجزاه خيرًا آمين آمين. 5 ـ نوع الخط: خط نسخي مقبول. 6 ـ عدد الصفحات: 3 صفحات. 7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: الأولى والثانية: 18 سطرًا. الثالثة: 13 سطرًا. 8 ـ عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات. 9 ـ الرسالة من المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم وصل سؤالٌ إلى المولي شيخ الإسلام حاصلُه: ما المراد بقول علماء الأصولِ أنَّ تبادُرَ المعنى عند إطلاقِ اللفظِ لأي [ .... ] (¬1) دليل لكون اللفظِ موضوع للمعنى المتبادر إلى فهم السامعِ، واعترض السائل على ذلك بوجهه الأول إنْ كان للعلمِ بعد الوضع، فليس من الدلالة على الحقيقة فِي شيء. والثاني: إن كان قبلَ الوضع فهو قول القائل بأنَّ دلالة اللفظ على معناه بدايةً لا بالوضعِ هذا حاصلُه. وأجاب شيخ الإسلام ـ جزاه الله أفضل الجزاء ـ بقوله: الحمد لله ـ كثر الله فوائدكم ـ المراد المتبادرُ لأهل اللغةِ الذين لم تتغير لغتُهم، وأمَّا تبادُرَ المعنى لغةُ أهلِ اللغةِ فلا اعتبارَ به، ولا حكم له أصلاً. وإذا تبادَرَ إلى أذهانهم شيءٌ فإنما هو باعتبار اللغةِ الدائرة بينَهم، لا باعتبار لسان العرب، والنزاعُ في هذا لا في تلك، فإنْ وجد بعد تغيُّر اللغة من يعرفُها معرفةً تامةً حتى صار كأهِلها، وذلك كالأئمة المتبحرين في اللغة فالتبادرُ له كالتبادُرِ لهم إذا كان لا يلتفتُ إلى غيرها، ولا يشتغل باللغاتِ الحادثة التي جرى التعارفُ بها. وإذا تقرر هذا فالوضعُ على اختلاف الأقوال في الواضع من هو سابقٌ، وبعد هذا الوضع صارتْ هذه اللغةُ العربية [1أ] معروفةً عند كل عربي قبلَ تغيُّر اللغات العربيةِ، فإذا سمع من يتكلَّم بفرد من أفراد جملةٍ على المعنى الحقيقي، (¬2) لأنَّ المتكلِّم به لم ينصبْ قرينةً، فإذا ¬

(¬1) كلمة غير واضحة في المخطوط. (¬2) قال الشوكاني في (إرشاد الفحول) (ص121): أنّ اللفظ قبل الاستعمال لا يتصف بكونه حقيقةً ولا بكونه مجازًا لخروجه عن حد كل واحدٍ منهما، إذ الحقيقةُ هي اللفظ المستعمل فيما وضع له، والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، وقد اتفقوا على أن الحقيقة لا تستلزم المجاز لأن اللفظ قد يستعمل فيما وضع له ولا يستعمل في غيره، وهذا معلومٌ لكل عالمٍ بلغةِ العرب. انظر: (الإبهاج) (1/ 318 ـ 320).

نصبَها فهي التي نقلتْ ذلك اللفظَ من حقيقةٍ إلى مجاز، مثلاً لو سمع السامعُ من أهل اللغة قائلاً يقول: رأيت الأسدَ. لم يحملْه إلاَّ على الأسدِ الحقيقيِّ، فإن قال بعد قوله: رأيتُ الأسدَ ما يدلُّ على أنه أرادَ المجازَ كأنْ يقول: رأيتُ الأسدَ راكبًا أو معتقلاً [ ...... ]، (¬1) أو متقلدًا سيفًا عرف السامعُ أنه لم يُرِدْ إلاَّ المعنى المجازيَّ. قوله: ويقال: لهم هذا التبادرُ يحصلُ بعد العلم بالوضعِ أم قبلَه؟ .. إلخ. أقول: هذه العُربُ هم الذين صاروا يتكلَّمون بلغتِهم المعروفة بينهم، المشهورة عندهم تلقَّاها الآخر عن الأول، سواءً عرفوا الواضعَ أم لم يعرفُوه، بل أخذوا ألفاظها ومعانيها عن القوم الذين نشأ بينهم كما يتعلَّم الآن صبيانُنَا ما نتكلَّم به، سواءً كان لغويًّا أو عُرْفيًّا. وبالجملة فالوضعُ والنزاعُ في الموضوعٍ لهم لا يستلزمُ معرفتَهم للواضعِ، وأمَّا من قال أنَّ في [1ب] اللفظِ دلالةً على معناه كالصميري (¬2) فهو يقول: إنّ هذه الألفاظَ ¬

(¬1) كلمة غير واضحة في المخطوط. (¬2) عباد بن سليمان الصيمري أحد رجال الاعتزال المشهورين في عصر المأمون. قال السيوطي في (المزهر) (1/ 47): نقل أهل أصول الفقه عن عبّاد بن سليمان الصيمري من المعتزلة أنه ذهب إلى أنَّ بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية حاملةٌ للواضع على أن يضع، قال: وإلا لكان تخصيص الاسم المعيَّن بالمسمّى المُعيَّن ترجيحًا من غير مُرَجِّح، وكان بعض من يرى رأيه يقول: إنه يعرف مناسبة الألفاظ لمعانيها، فسُئل ما مسمَّى (إذغاغ) وهو بالفارسية الحجر، فقال: أجدُ فيه يُبْسًا شديدًا وأراه الحجر. وأنكر الجمهور هذه المقاتلة وقال: لو ثبت ما قاله لاهتدى كلُّ إنسان إلى كل لغةٍ ولما صحَّ وضع اللفظ للضدين، كالقرء للحيض والطهر، والجَوْن للأبيض والأسود، وأجابوا عن دليله بأنَّ التخصيص بإرادة الواضع المختار خصوصًا إذا قلنا: الواضع هو الله تعالي، فإن ذلك كتخصيصه وجود العالم بوقت دون وقت. وأما أهل اللغة والعربية فقد كادوا يطبقون على ثبوت المناسبة بين الألفاظ والمعاني، لكن الفرق بين مذهبهم ومذهب عبّاد أن عبّادًا يراها ذاتية موجبة، بخلافهم. وانظر: (البحر المحيط) (2/ 13 ـ 15).

الشائعةَ بين العرب التي حفظُوها طبقةً بعد طبقةٍ لها دلالةٌ في أنفسِها على معانيها، وهو قولٌ ساقطٌ، وقوله: هذا هو غيرُ قولِ أهلِ الاشتقاقِ، فإنَّ أهل الاشتقاق تتَّبعُوا لغةَ العرب، فوجدوا ما اتَّفقَ منها في أكثر الحروفِ أو بعضِها لا بدَّ أن يشملَها معنًى عامٌ وإنْ بَعُدَ، وهو علمٌ مفيدٌ جدًّا، وقد أهمله المتأخرون. وأنا جمعتُ فيه مؤلَّفًا (¬1) مختصرًا في أيام قديمةٍ به يستفادُ هذا العلم. انتهى منقولاً من خط المجيبِ البدرِ، شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني ـ تغشاه الله بواسع رحمته ورضوانه، وأسكنه بُحْبُوحَةَ جناتِه ـ وجزاه خيرًا. آمينَ آمينَ. ¬

(¬1) وهي الرسالة رقم (202) (نزهة الأحداق في علم الاشتقاق).

نزهة الأحداق في علم الاشتقاق

202 - 1/ 5 نُزهةُ الأحداق في علم الاشتقاق تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: نزهة الأحداق في علم الاشتقاق. 2 ـ موضوع الرسالة: لغة عربية. 3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي جعل في لغة العرب من الأسرار واللطائف الدالة على بديع الصنع وعظيم الاقتدار ... 4 ـ آخر الرسالة: واشتمل على ما لا يوجد مجموعًا في غيره ولا يوقف عليه كاملاً في سواه والحمد لله أولاً وآخرًا. حرّره مؤلَّفه غفر الله له. 5 ـ نوع الخط: خط نسخي مقبول. 6 ـ عدد الصفحات: 11 صفحة + صفحة العنوان. 7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 24سطرًا. 8 ـ عدد الكلمات في السطر: 9 ـ 11 كلمة. 9 ـ الرسالة من المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جعل في لغةِ العربِ من الأسرار واللطائفِ الدالّة على بديع الصُّنْعِ وعظيمِ الاقتدار ما ينبهِرُ له الأولياءُ الفحول وتتحيَّر عند الله من أكرم جيل وأشرقِ جَبيل، بأفصح لسان وأوضحِ بيان وعلى آله وأصحابهِ الذين هم القادةُ لأهل اللسان والسِّنان، والسادةُ للمتصرِّفين بالبناء في العِنان عند الرِّهان وبالبيان للبرهان من السنة والقرآن. وبعدُ: فلما كان علمُ الاشتقاقِ من أنفس العلوم المتعلقةِ بلغة العربِ وألطف المعارفِ التي من سبق إليها وتوفّر حظُّه منها الذي يملأ دلْوَ المُساجلة إلى عُقَد الكَرَب وإن كان أحضَرَ الجلدةِ في بيت العرب، وكان مما لم يُفْرِدْه أهلُ العلم بالتصنيف ولا دوَّنوه علي جهة الاستقلالِ بالتأليف بل عامةُ ما وقفْنا عليه وانتهى علمُنا إليه مباحثُ نَزْرةٌ وفصولٌ مختصَرةٌ كما سنوضح لك ذلك إن شاء الله ـ استعنْتُ بالله تعالى وأفردْتُ هذا الفنَّ الشريفَ بهذا المختصر اللطيف لِيَمشيَ على منواله الراغبون في لغة العربِ المتشوِّقون إلى الوقوف على أسرارها الشريفةِ ونُكَتِها اللطيفة، فيقتدروا بذلك علي رد بعضِها إلى بعض واستخراجِ بعضِها من بعض وسمَّيتُ هذه المختصرَ (نُزْهةَ الأحداق في علم الاشتقاق) ومن الله أستمدّ الإعانةَ وبيده الحولُ والقوة. اعلم أرشدني الله وإياك إلى الصواب [1أ] أن الاشتقاقَ في اللغة يطلق على معانٍ. قال في القاموس (¬1): والاشتقاق أخْذُ شِقِّ الشيءِ والأخذُ في الكلام وفي الخصومة يمينًا وشمالاً وأخْذُ الكلمةِ من الكلمة. وفي الاصطلاح (¬2): قيل هو أن يجدَ بين معنى اللفظين تناسُبًا في المعنى والتركيبِ فيُردَّ ¬

(¬1) (ص1159). (¬2) انظر (معجم البلاغة العربية) (ص314 ـ 315)، و (الكوكب المنير) (1/ 206).

أحدَهما إلى الآخر. وقيل هو أن يأخُذَ من اللفظ ما يناسبه في التركيب فيجعلَه دالاً على معنًى يناسب معناه. وقيل الأول باعتبار العلمِ والثاني باعتبار العملِ. وقيل ردُّ لفظٍ إلى آخَرَ بموافقته في حروفه الأصليةِ ومناسبتِه في المعنى. وقيل ما وافق أصلاً بحروفه الأصولِ ومعناه بتغيير ما (¬1). وقد نوقش كلُّ حدٍّ من هذه الحدودِ بمناقشات مدفوعةٍ بدُفوعات، وهذه الحدودُ وإن صحّ اعتبارُها في بعض أنواعِ الاشتقاقِ فإنه لا يصِحُّ في البعض الآخَرِ فالأولى أن يُرْسَمَ كلُّ واحدٍ منهما برسم يُخصُّه حتى يميِّزَ بعضَها من بعض فيذكُرَ أولاً الأقسامَ ثم يذكُرَ مفهومَ كلِّ واحدٍ منها على وجه يتبين به معناه فنقول: الاشتقاقُ ينقسم إلى ثلاثة أقسامٍ (¬2): أصغرَ وصغيرٍ وأكبرَ. فالأولُ إذا توافقت الحروفُ الأصولُ كضَرَب وضارِبٍ مرتّبةً من غير اعتبارٍ ما يتصل بينها من حروف زائدةٍ. والثاني إذا اتفقت الحروفُ الأصليةُ بدون ترتيبٍ كجَذَب وجَبَذ وحمِد ومدَح وكَنَي وناك. والثالثُ تناسبُ بعضِ الحروفُ الأصليةِ في النوعية وبعضِها في المخرج نحوُ ثلَبَ وثَلَم. أو تناسَب بعضُها في النوعية فقط أو في المخرج فقط كما [ .... .] (¬3) ويشترط فيه عدمُ ¬

(¬1) وقال في (شرح التسهيل): الاشتقاق أخذُ صيغةٍ من أخرى مع اتفاقهما معنًى. ومادةً أصلية، وهيئة تركيب لها ليدّل بالثانية على معني الأصل بزيادة مفيدة لأجلها اختلفا حروفًا وهيئة: كضارب من ضرب، وقذِرٌ من قذِر. (المزهر في علوم اللغة وأنواعها) (1/ 346). (¬2) انظر: (الكوكب المنير) (1/ 207 ـ 210)، (البحر المحيط) (1/ 83 ـ 85). (¬3) كلمة غير واضحة في المخطوط.

الموافقةِ في جميع الحروفِ ولو لم يُشْتَرطْ هذا الشرطُ التَبسَ بالقسم الأولِ إن توافقت الحروفُ والترتيب وبالقسم الثاني إن توافقت الحروفُ فقط. وإذا أُطلق الاشتقاقُ تعيَّن الأصغرُ لأنه المتبادَرُ [1ب] عند أهلِ النحوِ والصَّرفِ والمعاني والبيانِ، وتعيَّن الآخرانِ عند أهلِ الاشتقاقِ لأنهما المتبادَران في اصطلاحهم. وأما مجردُ الاتصالِ بين معنَيي اللفظين فهو كائنٌ في جميع الأقسامِ, أما القسمانِ الأولانِ فظاهرٌ, وأما القسمُ الثالثُ فإنك إذا أمعنَْ نظرَك في التراكيب اللغوية وجدْتَ بين كل كلمتين اتفَقَتا في الفاء والعين اتصالاً فإن تقارَبَ اللامان في المخرج كان التقارُبُ بين المعنيين بقدر ذلك, وإن تباعدا كان التباعُدُ بين المعنيين بقدر ذلك. وأما أصلُ الاتصال فلا بد منه, يظهر ذلك عند إمعانِ النظرِ. وذلك الاتصالُ هو حيثيّةٌ جامعةٌ لهما وإن خفِيَتْ ولما كان هذا القِسمُ هو الذي يحتاج إلى فضْلِ فِكْرٍ وقوّةِ اطّلاعٍ. أوردنا في هذا المختصَر من الأمثلة ما يكفي طالبَ هذا العلمِ ويُطْلعه على ما اشتمل عليه من الفوائد التي هى أسرارُ العربية, وسنذكر بعد ذلك إن شاء الله فوائد تُخصُّ كلَّ قسمٍ وفوائدَ تعُمّ الأقسامَ وفوائدَ تزيد المُطَّلِعَ عليها بَصيرةً في هذا العلم. إذا عرفتَ هذا فاعلم أنّ الناظرَ في علم اللغةِ إن نظَرَ إليه لقصد الاطلاعِ علي معاني الألفاظِ الموضوعةِ المستعملةِ في لسان العربِ من غير نظرٍ إلى جهةٍ جامعة لجملة من الألفاظ فهو طالبُ الاشتقاق، والقسمانِ علم اللغةِ ولكن الأولَ تطلُبُه العامّةُ والثاني تطلُبه الخاصَّةُ وإنما كان الثاني مطلوبًا للخاصة لأنه يكون لصاحبه به مَلكَةٌ مقتدَرٌ بها علي استخراج ما لم يعرِفْه [2أ] مما قد عَرَفه والعلومُ هي الملكاتُ الموصِلةُ إلى إدراك الجُزْئياتِ لا مجردُ معرفةِ الألفاظِ ومدلولاتِها من غير ملكةٍ كما يكون بالقسم الأول. وهذا المطلبُ المختصُّ بالخاصة يحصُل بتكرير النظرِ وتدريبٍ الفكْرِ في المواد المتّفقةِ في الفاء والعينِ وها نحن نُوردها هاهنا من ذلك ما يحصّل ذلك المطلب النفيسَ الذي هو من علم اللغةِ بمنزلة الرئيس.

[الهمزة مع الباء الموحدة] (¬1) فمن ذلك الهمزةُ مع الباء الموحَّدة فإن مدلولَها النُّفورُ والبُعدُ والانفصالُ بين الشَّبَه. انظر لفظَ أبّ وأبَتَ وأبدَ وأبَرَ وأبَقَ وأَبل وأبَنَ وأبه وأبى فإنك تجد في جميع هذه ذلك المدلولَ يقال أبّ للسير وأبَتَ اليومُ أي امتدَّ حرُّه فقطع الناسَ عن أعمالهم وأَبِد الوحْشُ نفَرَ وأبَر النخْلَ قطع شيئًا منه وأبَزَ الظبيُ وثب وانطلق وأَبقَ العبدُ إذا نفر عن مولاه، وأبِل أي توحش وأَبَنَ زيدٌ عَمْرًا إذا ذكره بسوء ففصله بذلك الذكرِ عن الخير والصلاح، وأَبَه عن الشيء تنزّه عنه أي بَعُدَ وأبى عن الضيم أي فرّ عنه وهكذا سائرُ تراكيبِ الهمزة مع الباء فإن تجد بكل واحدٍ منها شيئًا من ذلك إذا أمعنتَ النظر. [الهمزة مع الزاي] (¬2) وانظُر الهمزةَ مع الزاي [2ب] فإن مدلولَها ألصقُ في الأمر يقال أزَرَ المجلسُ إذا ضاق عن أهله وأزِقَ العيشُ إذا ضاق صدره وأزِق ضاق، وأزَل صار في ضيق وأزَم اشتد قحطُه وضاق عيشُه وأزَي الظّلُّ قلَص وضاق. [الهمزة مع السين] (¬3) وكذلك الهمزةُ مع السين المُهْملةِ فإن مدلولَها القوةُ والشدةُ يقال أسِدَ إذا قويَ غضبُه واشتد وأسَر: اشتد غضبُه وأسِف أي غضِب. [الباء مع الحاء] (¬4) ومن ذلك الباءُ مع الحاء المُهملةِ فإنّ مدلولَها التفتيشُ عن الشيء يقال بحت أي أخرج ¬

(¬1) (مقاييس اللغة) (1/ 6 ـ 7). (¬2) انظر: (مقاييس اللغة) (1/ 13 ـ 14). (¬3) انظر (القاموس) (ص1390). (¬4) (لسان العرب) (2/ 321 ـ 322).

الشيءَ من غيره وبحث أي فتّش عن الشيء فاستخرجه وبحَّ إذا أخرج الصوتَ خشِنًا وبَحَرَ أي شق أذُنَ الناقةِ فأخرجها عما كانت عليه وبَحَمَ الماءُ إذا خرج من منبعه بكثرة. [الباء مع الخاء المعجمة] (¬1) ومن ذلك الباء مع الخاء المعْجمة فإن مدلولَها الفَقْؤْ للعين وما يشابهه يقال بخَزَ عينَه فقأَها وبخَسَ عينَه فقأَها وبخَصَ عينَه قلعها وبخَعَ الرَّكيّةَ حفَرها وبخَقَ حفَرها عينَه فقأَها. [الباء مع الدال المهملة] (¬2) ومن ذلك الباء مع الدال المهملة فإنَّ مدلولَها ابتداءُ الأمرِ وظهورُه يقال بدأ الشيءَ أي ابتدأَه وبدا الشيءُ إذا ظهرَ وبدَح فلانًا بالأمر أي أظهره له من دون رويَّةٍ وبَدخَ أظهر التعظيمَ وبَدبَر إليه بكذا إذا [3أ] أظهره له وبَدَع أي ابتدى وبَدِغ بالشر أظهره وبَدَه بالأمر أي بدأ به بديهةً. [الباء مع الذال المعجمة] (¬3) ومن ذلك الباءُ مع الذال المُعْجمة فإن مدلولَها إخراجُ الشيء يقال بَذَى أي تكلم بالفُحش فأخرجه من فمه وبذَخَ أعطى فأخرج ما عنده وبذخ أخرج شقشقته وبذر أخرج سره وأخرج ماله بغير تقدير، وبذل أعطي ما عنده فأخرجه وبذَنَ أقرَّ بما يُخفيه فأخرجه. [الباء مع الراء المهملة] (¬4) ومن ذلك الباءُ مع الراء المهملة فإن مدلولَها الظهورُ. ¬

(¬1) انظر (لسان العرب) (1/ 330). (¬2) (القاموس) (ص42)، (لسان العرب) (1/ 334). (¬3) (لسان العرب) (1/ 350). (¬4) (لسان العرب) (1/ 355).

يقال بَرَءَ الشيءَ خَلَقه فأظهره برَتَ دل على الشيء فأظهره بَرَج ظهر ومنه التبرُّج برِحَ الخفاء ظهر. بَرَخَ زاد فظهرتْ فيه الزيادة بَرَّز ظهَر. برَزَ ظهر. برَشَ ظهر بياضُه برِص مثلُه برَض الماءُ ظهر. [الباء مع الزاي] (¬1) ومن ذلك الباءُ مع الزاى فإنّ مدلولَها خروجُ الشيء وظهورُه يقال بزَجَ أظهر فضائلَه وبَزَخَ الصدْرُ خرج. بزَر النباتُ خرج ِبزْرُه بَزْرُه بَزّه أظهر غلبتهُ بزُع الغلام ظهر طَرْفُه بزَغَت الشمسُ طلعتْ فظهرتْ بزقَتْ الشمسُ مثلُه بزَل نابُ البعير طلع. بزَن الحقُّ ظهر. [الحاء المهملة مع الجيم] (¬2) ومن ذلك الحاءُ المهملةُ مع الجيم فإن مدلولَها المنْعُ يقال حجَب منَع وحَجَر مثلُه وحجَزَ دخل بين الشيئين مانعًا وحجَل منعَ أحدَ الرِّجْلين عن المشي. [الحاء المهملة مع الراء] (¬3) ومنه الحاءُ المهملةُ مع الراء مدلولُها الشيءُ الشاقُّ: يقال: الحرُّ والحدْبُ والحرَد والحَرْقُ. [الحاء المهملة مع الفاء] (¬4) ومنه الحاءُ المهملةُ مع الفاء مدلولُها الجمعُ، يقال: خَفّ، حَفِظَ، حَفَل، حفَنَ. ¬

(¬1) انظر (القاموس) (ص230) و (مقاييس اللغة) (1/ 245). (¬2) (لسان العرب) (3/ 50). (¬3) (القاموس) (ص478). (¬4) (لسان العرب) (7/ 243).

[الحاء المهملة مع القاف] (¬1) ومنه الحاءُ المهملةُ [3ب] مع القاف مدلولُها الثبوتُ، نحو: حقِبَ، حقّ، حقَن. [الخاء المعجمة مع الدال] (¬2) ومنه الخاءُ المعجمة مع الدال المهملةِ مدلولُها التأثيرُ في الشيء نحو خَدَب، خدَّ خدَشَ خدَع خدَمَ (¬3) وقِسْ على هذا غيرَه فإنك إِذْ اعتبرتَ معنى بُعدِ الحروف مرتبةً على هذا الترتيبِ الذي ذكرنا وجدتَها كما بيّنا ولولا أن ذلك يطول جدًّا لذكرنا جميعَ الأقسامِ ولكن ليس الشيءُ المرادُ هنا إلاَّ تدريبَ الطالبِ. وقال ابنُ جنّي في الخصائص (¬4) إنَّ الاشتقاقَ على ضربين كبيرٌ وصغير فالصغيرُ أن تأخُذَ أصلاً من الأصول فيقره أو يجمَعَ بين معانيه وإن اختلفت صِيَغُه ومبانيه، وذلك كترتيب س ل م فإنك تجدُ منه السّلامةَ في تصرُّفه نحو سَلِمَ يسْلَم وسالم وسَلْمان وسَلمى والسلامة. والسليمُ اللَّديغُ أُطلق عليه تفاؤلاً بالسلامة له وعلى ذلك بقيةُ الباب إذا تأوْلْتَه، وبقيةُ الأصول غيره (¬5) كتركيب ض ر ب وتركيب ح ل س وتركيب بن ب ل قال فهذا هو الاشتقاق الصغير. أمّا الاشتقاقُ الكبيرُ فهو أن نأخذ أصلاً من الأصول الثلاثية فتعقِدَ عليه وعلى تقاليبه الستةِ معنًي واحدًا يجمع التراكيبَ الستةَ عليه وما يتصرّف من كل واحدٍ منها. وإن تباعد شيءٌ من ذلك رُدّ بلُطف الصنْعةِ والتأويلِ إليه كما يفعل الاشتقاقيّون ذلك في التركيب الواحد انتهى. ¬

(¬1) (لسان العرب) (3/ 253). (¬2) (القاموس) (ص1420). (¬3) في المخطوط خذم والصواب ما أثبتناه من القاموس. (¬4) (2/ 132 ـ 135). (¬5) لعل الصواب: وبقية أصول غيره.

وأقول قد جعل الأقسامَ قسمين صغيرً وكبيرًا ورسَم الكبيرَ بما رسمنا به الصغير ورسم الصغيرَ بما رسمنا به الأصغَر، وأهمل القسمَ الثالثَ وهو الأكبرُ وقد أوضحناه وذكرنا من أمثلته ما يتضح به معناه [4أ] وتتبين به حقيقتُه. ولنتكلم الآن علي الاشتقاق الصغيرِ بالاصطلاح الذي قدمناه فنقول. [تقلبات ج ب ر] (¬1) مثلاً ج ب ر في جميع تراكيبه يدل علي القوة والشدة قولهم جَبَر العظمُ قوي وجَبَر الملكُ قوى ورجل مُجَرَّب إذا جَرَّبَتْه الأمورَ فاشتدت شكيمتُه ومنه الجِراب لأنه يحفَظ ما فيهِ وإذا حفِظ ما فيه قويَ واشتد وإذا أُهمِلَ وأُغفل تساقط الأبجر والبُجْرة وهو القويُّ والسرَّة، ومنه قولهم (¬2): أشكو عُجَري وبُجَري أي همومي وأحزاني والعُجْرةُ كل عُقدةٍ في الجسد فإذا كانت في البطن والسرّة فهي البُجْرةُ إذا غلُظت واشتدّ مسُّها وقيل: معنى عُجَري وبُجَري: ما أُبدي وأخفي من أحوالى ومن ذلك البُرْج لقوته في نفسه وقوةٍ ما يليه به علي عدوهم. وكذلك البَرَجُ محركًا لنقاء بياضِ العينِ وصفاء سوادِها فهو لونٌ قوي. ومنه رَجَّبْتُ الرجلَ إذا عظمْتُه وقوّيتُ أمرَه ومنه رَجبٌ للشهر لكونهم يعظِّمونه ويقوّون أمرَه. [تقلبات ق س و] (¬3) ومن ذلك تركيب ق س و، ق وس، وس ق، س وق، س ق و. ¬

(¬1) انظر: (الخصائص) (2/ 135). (¬2) عزاه ابن جني في الخصائص (2/ 135) لعلي بن أبي طالب. وكذلك ابن منظور في (اللسان) (1/ 318). وقال ابن الأثير في (النهاية) (1/ 96 ـ 97) وأصل العجرة نفخةٌ في الظهر فإذا كانت في السُّرة فهي بُجْرة. وقيل العُجر العروق في الظهر والبجر العروق المتعقدة في البطن. ثم نُقِلا إلى الهمومِ والأحزان أراد أنّه يشكو إلى الله أموره كلها ما ظهر منها وما بطن. (¬3) انظر (الخصائص) (2/ 134).

وجميعُ ذلك معناه القوةُ والاجتماعُ ومنه القسوةُ وهي شدةُ القلبِ واجتماعُه، ومنه القوسُ لقوتها واجتماعِ طرَفيها ومنه الوَقْسُ بسكون القاف لابتداء الجري لأنه يجمع الجلد ومنه الوسْقُ لاجتماعه ومنه استوسَقَ الأمرُ أي اجتمع. والليل وما وسَقَ أي جمعَ، ومنه السَّوْقُ لأنه يُجْمع فيه المَسوقُ بعضُه إلى بعض. [تقلبات س م ل] (¬1) ومن ذلك تركيب س م ل، م س ل، ل م س، ل س م، م ل س. [4ب] والمعنى الجامع لهذه التراكيب الضعف واللين فالسمل الثوب الخلق والماء القليل لأنه يضعف بقلته عن الاضطراب والسليم اللديغ لضعف قوته، والمسل والمسل والمسيل واحدًا لأن الماء يجري فيه لضعفه ولو صادف حاجزًا قويًّا لأعاقه والأملس والملساء لما فيهما من اللين واللمس لأنه إمرار اليد على الملموس بدون شدة. وأما ل س م فمهمل وقيل مستعمل ومنه لسمت (¬2) الريح إذا مرت مرًا ضعيفًا. [تقلبات ق وس] ومنه تركيب ق ول، ق ل و، ول ق، ل ق و، ل وق. فالمعنى الجامع لهذه التراكيب هو الخفوق والحركة فالقول يخف به الفم واللسان، وهو ضد السكون، والقلو بكسر القاف وسكون اللام حمار الوحش وفيه خفة وإسراع ومنه قلوت الشيء لأنه إذا قلى خف وجف والوقل محركًا الوعل لحركته وخفته. وولق يلق إذا أسرع وقوي وقرئ {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} (¬3) أي تسرعونه. ¬

(¬1) انظر (الخصائص) (2/ 137). (¬2) قال ابن منظور في (اللسان) (12/ 275) لسم: ألسمه حجته كما يلسم ولد المنتوجة ضرعها. وقال ابن شميل: الإلسام إلقام الفصيل الضرع أول ما يولد. وقيل: اللسم السكون حياء لا عقلاً. (¬3) [النور: 15]، وانظر (الجامع لأحكام القرآن) (12/ 204).

واللٌّوقةُ الزُّبْدُ لخفته وإسراعِ حركتِه. واللُّقْوةُ يكسر اللام وسكون القاف من أسماء العُقاب لسرعة طيرانِه ويقال للناقة السريعةِ اللِّقاحِ لِقْوة، لأنها أسرَعتْ إلى ماء الفحلِ فقَبِلَتْه ولم تَتْبُ تُبُوَّ العاقرِ. [تقلبات ك ل م] ومنه تركيب ك ل م، ك م ل، ل ك م، م ك ل، م ل ك. فهذه الخمسةُ مستعملةُ وأُهمل منه ل م ك (¬1) المعنى الجامعُ [5أ] لهذه التراكيبِ القوةُ والشدةُ فالكَلْمُ الجرْحُ لما فيه من الشدة، والكُلاَم بضم الكاف ما غلُظ من الأرض وذلك لشدته. ورجلٌ كليم أي مجروح وجريح. وكمَل الشيءُ فهو كامل وكميل إذا تم وهو أقوى وأشدُّ من الناقص وَلَكَمَ لكمًا إذا وجَأ وضرب وفيه شدةٌ ظاهرةٌ. ومكُلَت البئرُ بضم الكاف فهي مَكُول إذا قلَّ ماؤُها وهي إذا قلَّ مجْفُوّةُ الجانبِ وتلك شدةٌ ظاهرةٌ ومَلَكَ العجينَ إذا أنعم عجنَه فاشتد وقويَ. ومنه المُلْك لِما فيه من القوة لصاحبه والغلَبةِ وفي هذا القدر من باب الاشتقاقِ الصغيرِ بالمعنى الذي قدمناه كفايةٌ. وأما الاشتقاقُ الأصغرُ فقد عرّفناك أن توافقَ الحروفِ الأصولِ مُرتبةً من غير اعتبار بما يفصِل منها من حروف زائدةٍ كما قدمنا في تركيب س ل م وتركيب ح ل س وتركيب ن ب ل فإنّ هذه التراكيبَ إذا استُعملت مرتبةً كانت راجعةً إلى معنى واحدٍ وإن اختلفت بالزيادة والنقصِ والحدوثِ والتجدّد وذلك كما يكون في الفعل الماضي والمستقبلِ ¬

(¬1) قال صاحب (اللسان) (12/ 331): لمك: الليث: لَمَكُ أبو نوح، ولامَكُ جدُّه ويقال: نوح بن لمك، لا يستعمل إلا في النفي. قال ابن السكيت: يقال ما لَلَحَّجَ عندنا بلحاج ولا تلمّك عندنا بلماكِ وما ذاق لماكًا ولا لماجًا. وفي النوادر: اليَلْمَكُ: الشاب الشديد.

والمصدر واسمي الفاعلِ والمفعولِ والصفةِ المشبهة وسائر الألفاظ التي توجد فيها الحروفُ الأصولُ مرتبةً وهذا الاشتقاقُ الأصغر هو الذي يسميه أهلُ النحوِ والصرفِ والبيانِ اشتقاقًا وعليه يُحمَل ما يرِد في استعمالاتهم كقولهم: المصدرُ الأصل الذي يُشتقّ منه الفعلُ وفروعُه، بمعنى أنها موافقةٌ له في المعنى المصدريّ وهو الحدثُ وإن زادتْ معانيها عليه بالدلالة على الزمن في الأفعال وعلى الذوات في سائر المشتقات [5ب]. وأما الاشتقاقُ الصغيرُ والكبير فقد كان القدماءُ يستعينون بهما ويُخْلِدون إليهما مع إعواز الاشتقاقِ الأصغرِ لكنهم لم يسمّوها باسمٍ خاص وإنما كانوا يستَروحون إليهما عند الضرورةِ ويتعلّلون بهما، وكان أبو عليٍّ الفارسيُّ (¬1) أكثرهم لزومًا لهما وعمَلاً عليهما ثم بعده الشيخُ أبو الفتح ابنُ جنّي فإنه استكثر من ذلك في مؤلفاته وقسَّمَ الاشتقاق إلى قسمين كما قدمنا ثم الزمَخْشَريّ فإنه أكثرَ من استعمال ذلك في تفسيره ثم إن جماعةً من المصنفين اقتصروا على مجرد الكلامِ في تعريفهما واضطربوا في التسمية اضطرابًا كثيرًا ولم يأتوا في تلك المباحثِ بما يستفيد به المطَّلعُ عليها فائدةً يُعتَدّ بها بحيث يَقتدِر عندها على الاستعمال، ويستوضح بها ما يحتاج إلى استيضاح. واعلم أنه قد وقع الخلافُ في الألفاظ التي يصدُق عليها أنها من الاشتقاق الصغير أو الكبير هل كلُّ واحدٍ منها أصلٌ مستقلٌّ أو بعضُها يرجع إلى بعض. قال في الخصائص (¬2) متى أمكنَ أن يكون الحرفانِ جميعًا أصلينِ كلُّ واحدٍ منهما قائمٌ برأسه لم يسُغ العدولُ عن الحكم لذلك، فإن دل دالٌّ أو دعتْ ضَرورةٌ إلى القول بإبدال ¬

(¬1) هو أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي الأصل النحوي ولد بمدينة (فا) من أعمال فارس سنة 288هـ واشتغل في بغداد وأقام بحلب عند سيف الدولة وصاحب عضد الدولة بن بويه. توفي سنة 377هـ ببغداد. من تصانيفه: (المقصود والمحدود)، (الحجة في القراءات). انظر وفيات الأعيان) (2/ 81 ـ 82)، (شذرات الذهب) (3/ 88 ـ 89). (¬2) (2/ 82).

أحدِهما عن صاحبه عُمِل بموجب الدِّلالةِ وصِيرَ إلى مقتضي الصنعةِ. من ذلك طبَرْزَلْ وطَبَرزَنْ (¬1) هما متساويان في الاستعمال فلستَ بأن تجعلَ أحدَهما أصلاً لصاحبه أولي منك بحَمْله على ضده. ومن ذلك قولُهم هتَلْتْ السماء وهتنَتْ السماءُ فإنهما أصلان ألا تراهما متساويين في التصرف يقولون: هَتَنت السماءُ تهتِن تَهتِل تَهْتَالاً وهي سحائبُ هُتَّنٌ وهُتَّلٌ. ومن ذلك ما حكاه الأصمعي قال الأصمعي: سُكّر (طبرزد) و (طبرزل) و (طبرزن) ثلاث لغات معربات. وأصله بالفارسية (تبرزَد). (المعرب) للجواليقي (ص276) تحقيق أحمد شاكر، (لسان العرب) (8/ 118). (¬2) كذا في المخطوط وصوابه ما في الخصائص [الصَّيف]. (¬3) كذا في المخطوط وصوابه (مبيضات) كما في الخصائص (2/ 85). (¬4) تقدمت ترجمته. [6أ] كان أبو بكر يشتق هذه الأسماءَ من البُخار، فالميم علي هذا بدَلٌ من الباء في بَخْر وليس ببعيد عندي أن يكون الميمُ أصلاً في هذا أيضًا وذلك لقوله تعالي: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} (¬5) ذاهبة جائية. قال ابنُ جنّي (¬6) وعلى كل حال فقولُ أبي بكرٍ أظهرُ. وأمّا قولُهم إناءٌ قَرْبانُ وكَرْبان (¬7): إذا دنا أن يمتلِئَ فينبغي أن يكونا أصلين لأنك تجد كلَّ واحدٍ منهما متصرِّفًا أي قارَبَ أن يمتلِئَ وكَرَب أن يمتلئ. ¬

(¬1) قال الأصمعي: سُكّر (طبرزد) و (طبرزل) و (طبرزن) ثلاث لغات معربات. وأصله بالفارسية (تبرزَد). (المعرب) للجواليقي (ص276) تحقيق أحمد شاكر، (لسان العرب) (8/ 118). (¬2) من قولهم دَهْمجَ البعيرُ يدهِمج دَهْمجَةً ودَهنَجَ يُدهْنجُ دهْنَجةً إذا قارب الخطْوَ وقال بناتُ مَخْرٍ وبنات بَخْرٍ سحائبُ بِيضٌ يأتين قُبُلَ المصيَّف (¬3) بِيضٌ منتصِباتٌ (¬4) في السماء. قال أبو عليٍّ الفارسيُّ (¬5) [النحل: 14]. (¬6) في الخصائص (2/ 85 ـ 86). (¬7) في المخطوط [ذكره بأن] وما أثبتناه من الخصائص.

وقال الأصمعيُّ (¬1) يقال جُعْشوشٌ بالشين المُعجمة وجُعْسوس بالسين المهملة، ويقال هم من جعاسيس الناسِ بالمهملة، ولا يقال بالشين المعجمة قال ابن جنيّ (¬2) فضِيقُ الشيِّن معَ سَعَة السين يُؤذِنُ بأن الشينَ بدلٌ (¬3) وكأنه اشتُقَّ من الجَعْس، وذلك أنه شبّه الساقطَ الهيِّن من الرجال بالخَرء لذِلّه ونَتْنِه. ومن ذلك قولُهم فُسطاطٌ وفُستاط وفُسَّاط بضم الفاء وكسرها في الجميع فذلك ستُّ لغاتٍ، فإذا صاروا إلى الجمع قالوا فَساطيط وفَساسيط، ولم يقولوا فساتيط بالتاء فهذي بدل على أنَّ التاء بدلٌ من الطاء أو السين ونحوُ هذا كثير. وقال ابنُ جنّي في الخصائص (¬4) أيضًا إن كلَّ لفظين وُجد فيهما تقديمٌ وتأخيرٌ فأمكن أن يكونا جميعًا أصلين ليس أحدُهما مقلوبًا عن صاحبه فهو القياسُ الذي لا يجوز غيرُه، وإن لم يكن ذلك حكمْتَ أن أحدَهما مقلوبٌ عن صاحبه ثم نظرتَ أيُّهما الأصلُ وأيُّهما الفرعُ فممّا هما أصلانِ لا قلبَ فيهما قولُهم جَذَب وجَبَذَ ليس أحدُهما مقلوبًا عن صاحبه وذلك أنهما جميعًا يتصرفان تصرُّفًا واحدًا يقول جَذَبَ جذْبًا فهو جاذِبٌ و [المفعول] (¬5) مجذوبٌ وجبَذ يجبِذ جبْذًا فهو جابِذٌ و [المفعول] (¬6) مجبوذ. فإن جعلْتَ مع هذا أحدَهما أصلاً لصاحبه فسَدَ ... ذلك لأنك لو فعلْتَه لم يكن أحدُهما أسعدَ بهذه الحالِ من الآخر، فإنْ قصُرَ أحدُهما عن تصرُّف صاحبِه ولم يساوِه فيه كان أوسعُهما تصرُّفًا أصلاً لصاحبه، ونحوُ هذه الألفاظِ كثيرٌ والمعيارُ أن تنظُرَ هل يجمعُهما اشتقاقٌ من أصلٍ أمْ لا فإن جَمَعَهما كان ما فيه حروف الأصلِ أصلاً للآخر الذي فيه تبديلُ بعضِ الحروفِ بحرف آخَرَ [6ب] كما في بَخَر ومخَر من البُخار فهذه فائدةً من فوائد الاشتقاقِ. وإذا لم يكونا مشتقَّين من أصل كان الأوسعُ تصرفًا واستعمالاً منهما أصلاً للأضيق. [تداخل الأصول الثلاثية] (¬7) وقال في الخصائص (¬8): اعلم أنَّ الثلاثيَّ على ضربين أحدُهما ما يصفو ذوقُه ويسقُط عنه التشكّكُ في حروف أصلِه، كضرب وقتل وما تصرف منهما فهذا ما لا يُرتاب به في جميع تصرُّفِه نحو ضارب ويضرِب ومضروب، وقاتل وقِتال واقتتل القومُ ونحوُ ذلك فما كان هكذا مجردًا واضحَ الحالِ من الأصول فإنه يحمي نفسَه وينفي الظنَّ عنه. والآخر أن تَجدَ الثلاثيَّ على أصلين متقاربين والمعنى واحدٌ فهاهنا يتداخلان ويُوهِم كلُّ واحدٍ منهما كثيرًا من الناس أنه مِن أصل صاحبِه وهو علي الحقيقة من أصل غيره، وذلك كقولهم رِخْوٌ ورخْوَدّ فهما كما ترى شديدَا التداخلِ لفظًا، وكذلك هما بمعنى واحد وإنما تركيبُ رِخْو وتركيبُ رِخْوَدّ من ر خ د، وواو رِخْوا زائدةٌ فالفاءُ والعينُ من رِخْو ورِخْوَدّ متفقتان لكن لاماهما مختلفان والرِّخْو الضعيف والرِّخْوَدُّ المتثنّي، والتثنّي عائدٌ إلى معنى الضعف فلما كانا كذلك أوقعا الشكَّ (¬9) ومن ذلك قولهم رجلٌ ضيّاطٌ وضَيْطار فقد ترى تشابُهَ الحروفِ والمعنى مع ذلك واحدٌ فهو أشدُّ لالتباسه (¬10). وإنما ضيّاط من تركيب ض يَ ط وضيطار [من تركيب] (¬11) ض ط ر. ¬

(¬1) ذكره ابن جني في (الخصائص) (2/ 86). قال في (لسان العرب) (2/ 297) الجعشوش: الطويل، وقيل: الطويل الدقيق، وقيل: الدميم القصير الذَّريُّ العميء منسوب إلي قَمْأة وحيفر وقلّة. (¬2) في (الخصائص) (2/ 86). (¬3) في (الخصائص) بدل من السين. نعم، والاشتقاق يعضد كون السين ـ غير معجمة ـ هي الأصل. (¬4) (2/ 69 ـ 70) باب في الأصلين (يتقاربان في التركيب بالتقديم والتأخير). (¬5) زيادة من (الخصائص) (2/ 70). (¬6) زيادة من (الخصائص) (2/ 70). (¬7) (2/ 44). (¬8) زيادة من الخصائص (2/ 44). (¬9) في الخصائص قوله: (لمن ضعف نظره). (¬10) في الخصائص [فهو أشد لإلباسه]. (¬11) زيادة من الخصائص (2/ 45).

ومن ذلك لُوقةٌ وأَلوقةٌ (¬1) وصوصٌ وأَصوصٌ (¬2) ويَنْجوج وألنَجْوج ويَلَنْجوج (¬3) وضيفٌ وضيَفنٌ وسَبِطٌ وسِبَطْرٌ. [تقارب الحروف لتقارب المعاني] (¬4) قال صاحب الخصائص (¬5) إنها تتقارَبَ الحروفُ لتقارُب المعاني. قال وهذا بابٌ واسعٌ من ذلك قولُ الله سبحانه {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83] أي تُزْعِجُهم وتُقلِقُهم فهذا في معنى تهزّهم هزًّا, والهمْزَةُ أهتُ الهاءِ فتقارَبَ اللفظانِ لتقارُب المعنيين فكأنهم خصُّوا هذا المعنى بالهمزة لأنها أقوى من الهاء وهذا المعنى أعظمُ في النفوس من الهزّ, لأنك قد تُهزّ [مالا حَركَ به] (¬6) كالجِذْع وساقِ الشجرة ونحو ذلك, فقد ترى أيضًا تصاقُبَ اللفظين لتصاقُب المعنيين. (¬7). ومنه القَرْمةُ وهى [ما] (¬8) تُحزّ من أنف البعير, وقريبٌ منه قلَّمْتُ أظفاري لأنَّ هذا ¬

(¬1) قال أبو عبيد: هو مأخوذ من اللوقة، وهي الزبدة في قول الفراء والكسائي. وقال ابن الكلبي: هو الزبد بالرطب. واللُّوقة: الرطب بالزُّبْد وقيل بالسمن. (لسان العرب) (12/ 309). (¬2) صوص: رجل صوص: بخيل والعرب تقول: ناقةٌ أصوصٌ عليها صُوصً أي كريمة عليها بخيل. والصُّوصُ: الرجل المنفرد بطعامه لا يؤاكل أحدًا. (¬3) اليَنْجُوج والأنجوج: العود الذي يتبحَّرُ به. قال ابن الأثير: كأنَّه يَلجُّ في تضوُّع رائحته، وهو انتشارها. (لسان العرب) (14/ 44). (¬4) زيادة من الخصائص (2/ 146). (¬5) (2/ 146ـ 152). (¬6) في (الخصائص) [مالا بال له]. (2/ 146). (¬7) (2/ 146ـ 152). (¬8) في (الخصائص) (2/ 146) [وهى الفقرة].

[7أ] انتفاصُ الظُّفْرِ وتلك انتفاصُ الجلد. قالوا فالراء أختُ اللام والعَملانِ متقاربان. وعليه قالوا (فيها) (¬1) الجَرْفةُ وهى من ج ر ف وهى أختُ جلَفْتَ القلمَ أخذتُ جِلْفَته, وهذا من ج ل ف وقريبٌ منه الجَنَفُ, وهو الميلُ, وإذا جَلَفْتَ الشيء أو جرَفْتَه فقد أَمَلْتَه عما كان عليه وهذا من ج ن ف. ومنه العَسَْف والآسَف وتاعينُ أختُ الهمزة كأنّ الأسَفَ يعسِف النفسَ وينال منها والهمزةُ أقوى من العين كما أنَّ أسَفَ النفسِ أغلظُ من التودُد والعسْفِ (¬2) فقد ترى تعاقب اللفظين. لتعاقب المعنيين ومثله تركيب ع ل م في العلامة والعَلَم وقالوا مع ذلك بَيضةٌ عَرْماءُ وقطيعٌ أعْرمُ، إذا كان فيها سوادٌ وبياضٌ وإذا وقع ذلك بأن أحدُ اللونَيْنِ من صاحبه، فكان كلُّ واحدٍ منهما علمًا لصاحبه وهو من ع ر م. ومن ذلك تركيبُ ح م س. وح ب س قالوا: حبستُ الشيءَ وحَمسَ الشرٌّ أي اشتدّ. والتقاؤُهما أن الشيئين إذا حبَس أحدُهما صاحبَه تمانعا وتعارّا فكان ذلك كالشر يقع بينهما. ومنه العَلْبُ الأثرُ والعلْمُ الشقٌّ في الشَّفة العُلْيا فهذا من ع ل ب والباءُ أختُ الميم. ومنه تركيبُ ق ر د وتركيبُ ق ر ت قالوا: قرِدَ الشيءُ إذا تجمّع وقالوا قرَتَ الدمُ إذا جمَدَ والتاءُ أختُ الدال. ومن ذلك العَلَزُ للخِفّة والطَّيش، والقَلَق، والعَلَصُ لوجع في الجوف يلتوي منه ويَقْلَق والزاي أختُ الصاد. ومنه الغَرْبُ وهي الدلْوُ العظيمةُ، وذلك أنها تغرِف من الماء، والفاء أختُ الباء. واستعملوا تركيبَ ج ب ل وتركيب ج ب ن وتركيب ج ب ر لتقاربها في موضع ¬

(¬1) زيادة من الخصائص (2/ 147). (¬2) كذا في المخطوط والذي في الخصائص (التردد بالعسْف فقد ترى تعاقُب اللفظين لتعاقب المعنيين).

واحد وهو الالتئامُ والتماسكُ ومنه الجبلُ لشدّته وقوّته وجَبُن إذا استمسك وتوقّف، ومنه جَبَرْتُ العظمَ أي قوَّيْتُه. وقد تقع المضارعَةُ في الأصل الواحدِ بالحرفين نحوُ السَّحِيل والصَّهِيْل فهذا من س ح ل وهذا من ص هـ ل والصاد أخت السين، كما أنَّ الهاء أختُ الحاء ونحوُ قولِهم سحَلَ في الصوت وزَحَر فالسين أختُ الزاي كما أنَّ اللامَ أختُ الراء. وقالوا: جَرَف وجَلَم فهذا للتقشير وهذا للقطع وهما متقارِبان معنًي ومتقاربان لفظًا، لأنَّ هذا من ج ل ف [7ب] وهذا من ج ل م نعم. وتجاوزوا ذلك إلي أن ضارعوا بالأصول الثلاثةَ. الفاء والعينِ واللام فقالوا عصرَ الشيءَ وقالوا أزَلَهُ إذا حبَسه. والعصْرُ ضربٌ من الحبس فهذا من ع ص ر وهذا من أزَل والعينُ أختُ الهمزةِ والصاد أختُ الزاي، والراء أختُ اللام. وقالوا الأَزْمُ المنعُ والعصْبُ الشدُّ فالمعنَيانِ متقاربان، والهمزةُ أختُ العين، والزاي أختُ الصادِ والميم أختُ الباءِ، وهذا من أزَم وهذا من عصب (¬1). وقالوا السلْبُ والصَّرفُ فإذا سُلِبَ الشيء فقد صُرِف (¬2) والسين أختُ الصاد واللام أختُ الواو والباء أختُ الفاء. وقالوا الغَدْرُ كما قالوا الختْلُ والمعنَيان متقاربان واللفظانِ متراسلا فهذا من غ د ر وهذا من خ ت ل فالعين أختُ الخاء والدال أختُ التاء والراء أختُ اللام. وقالوا زأَر الأسدُ كما قالوا سعَل لتقاربُ اللفظ والمعنى. وقالوا: عَدَنَ بالمكان كما قالوا: [تأطَّر] (¬3) أي أقام وثبت وقالوا ضرب كما قالوا جَلَفَ لأن شارب الماء مغن له كالجالف للشيء وقالوا: صَهَلَ كما قالوا: زأَر، وقالوا تجعَّد ¬

(¬1) انظر (الخصائص) (2/ 149). (¬2) في (الخصائص) (2/ 149) فقد صرف عن وجهه فذاك من (س ل ب) وهذا من (ص ر ف). (¬3) في المخطوط [اطرا] والصواب ما أثبتناه من الخصائص (2/ 150).

كما قالوا تشحّط وذلك أنّ الشيءَ إذا تجعَّد وتَقَبَّض عن غيره شحَطَ وبُعَد عنه. وهذا من تركيب ج ع د وهذا من تركيب ش ح ط والجيم أختُ الشين والعين أختُ الحاء والدال أختُ الطاء. وقالوا السيفُ والصَّوبُ، وذلك أن السيفَ يوصَفُ بأنه يَرْسُب في الضَّرِيبة لِحدّته، ولذلك قالوا سيفٌ رَسوبٌ وهذا هو معني صاب يصوب إذا انحدر، فهذا من س ي ف وهذا من ص وب والسين أختُ الصاد، والباء أختُ الواو، والفاء أختُ الباء. وقالوا جاع يجوع وشاء يشاءُ فالجائع مريدٌ للطعام لا محالة، ولهذا يقول المدْعوُّ إلى الطعام إذا لم يُجبْ لا أُريده ولست أشتهي ونحوَ ذلكن والإرادةُ هي المشيئةُ وهذا من ج وع وهذا من ش ي أ فالجيم أختُ الشين والواو أختُ الياء والعين أختُ الهمزة. وقالوا هو حِلْسُ بيتِه إذا لازمه. وقالوا: أرَز الشيءُ إذا اجتمع نحوَه وتقبّض إليه ومنه: «إن الإسلامَ لَيأرِزُ إلى المدينة» (¬1) فهذا من ح ل س وهذا من أرَز، والحاء أختُ الهمزة [8أ] واللام أختُ الراء والسين الزاي وقالوا أَفَلَ كما قالوا غَبرَ لأن أَفَلَ غاب والغابرُ آفِل أيضًا فهذه من أ ف ل وهذا من غ ب ر فالهمزة أختُ الغين والفاء أخت الباء واللام أختُ الراء. قال ابنُ جني (¬2) وهذا (¬3) موجود في أكثر الكلام وإنما بقيَ من يُثيره ويبحث عن مكنونه، بل من إذا أوضح (¬4) له وكُشِفَ عنده حقيقتُه أطاع طبعُه له فوعاه، وهيهاتَ ذلك مطلبًا، وعَزّض فيهم مذهبًا. وقد قال أبو بكر: مَن عَرَفَ ألِفَ ومن جهلِ استوحش، ونحن نُتْبع هذا الباب بابًا أغربَ منه وأدلَّ علي حكمة اللهِ سبحانه تقدستْ ¬

(¬1) وهو حديث صحيح تقدم تخريجه وتمامه [إنّ الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحيّة إلى جحرها] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) في الخصائص (2/ 152). (¬3) عبارة الخصائص هكذا (وهذا النحو من الصنعة موجود). (¬4) انظر: الخصائص (2/ 152).

أسماؤُه فتأمَّلْه تحْظَ به (¬1). [إمساس الألفاظ أشباه المعاني] (¬2) وقد نبّه عليه الخليلُ وسِيبَويهِ وتلقَتْه الجماعةُ بالقَبول والاعتراف بصِحتّه. قال الخليلُ كأنهم توهّموا في صَوْت الجُنْدُبِ استطالةً [ومدّا] (¬3) فقالوا: صرَّ وتوهّموا في صوت البازي تقطيعًا صَرْصَر. وقال سيبويه (¬4) في المصادر التي جاءت على الفَعَلان إنها تأتي للاضطراب والحركة نحو [النفزان] (¬5) والغَلَيان والغَثيان فقابلوا بتوالي الحركاتِ في المثال تواليَ الحركَاتِ في الأفعال. قال ابنُ جني (¬6) ووجدْتُ أنا من هذا الحديثِ أشياءَ كثيرةٌ على سَمْتِ ما حَدّاه وِمنهاجِ ما مثَّلاه، وذلك أنك تجد المصادرَ الرُّباعية المضعَّفة تأتي للتكرير والزعْزعةِ نحو القلْقلة والصَّلْصَلة والصَّعْصَعة والجَرْجرة والقَهْقَرة، ووجدتُ أيضًا (الفَعَلَى) من الصفات والمصادرِ إنما تأتي للسًّرعة نحوُ: البَشَكَى والجَمَزَى والوَقَلَى والحيدَى (¬7) فجعلوا ¬

(¬1) قال ابن جني في (الخصائص) (2/ 152) اعلم أنَّ هذا موضع شريف لطيف ... ]. (¬2) من الخصائص (2/ 152). (¬3) زيادة من الخصائص (2/ 152). (¬4) في الكتاب (4/ 14 ـ 17) تحقيق عبد السلام هارون. قال سيبويه: (ومن المصادر التي جاءت علي مثال واحد حين تقارب المعاني قولك: النَّزوان والنَّفزان والقفزان. وإنّما هذه الأشياء في زعزعة وتحرك. ومثله الغثيان لأنّه تجيْش نفسه وتثور، ومثله الخطران واللّمعان لأن هذا اضطراب وتحرّك، ومثل ذلك اللهبان والوهجان لأنّه تحرّك الحرّ وتثوره فإنما هو بمنزلة الغليان). (¬5) في المخطوط [النَفران] وما أثبتناه من الخصائص. (¬6) في (الخصائص) (2/ 152). (¬7) وردت في قول الشاعر: أمية بن أبي عائذ الهذلي: كأني وَرْحلي إذا هجَّرت ... على جَمَزَى جازيء بالرمال أو أصحم حامٍ جرامِيزه ... حزابية حَيَدَى بالدِّحالِ انظر: (اللسان) (2/ 352)، (الخصائص) (2/ 153). قال ابن منظور: شبه ناقته بحمار وحشي ووصفه وحشي، وهو السريع وتقديره على حمار حَمزَى.

المثالَ المكرّر أعنى بابَ القلقلة، والمثالَ الذي توالت حركاتُه للأفعال التي توالت الحركاتُ فيها. ومن ذلك ـ وهو أصنَعُ منه ـ أنهم جعلوا (استفعل) في أكثر الأمرِ للطلب، نحو استسْقَي واستطعَمَ واستوهَب واستمنَحَ [واستودَعَ عَمْرًا] (¬1) واستصرخ جعفرًا. فرُتّبتْ في هذا البابِ الحروفُ على ترتيب الأفعالِ، وتفسيرُ ذلك أن الأفعالَ المُحَدَّثَ عنها أنها وقعتْ عن غير طلبٍ إنما تَفجَأُ حروفُها الأصولَ أو ضارَعَ بالصنعةَ الأصولَ. فالأصولُ نحوُ قولِهم طَعِم ووهَب [8ب] ودخل وخرج وصعد ونزل، فهذا إخبارٌ بأصول فاجَأتْ عن أفعالٍ وقعتْ، ولم يكن معها دِلالة تدل على طلب لها ولا إعمالَ فيها، وكذلك ما تقدمت الزيادةُ فيه على سَمْت الأصلِ نحوُ أحسَنَ وأكرم وأعطى وأوْلى، فهذا من طريق الصنعةِ بوزن الأصل نحو دحْرجَ وسرْهَفَ وقَوْفَى وزَوْزَي وذلك أنهم جعلوا هذا الكلامَ عباراتٍ عن المعاني وكلما ازدادتْ العبارةُ شبَهًا بالمعني كانت أدلَّ عليه وأشهَرَ بالعَرَض فيه، فلما كانت إذا فاجَأت الأفعالَ فاجَأتْ أصول المثلِ الدّالةِ عليها أو ما جرَى مَجْرى أصولِها نحوُ وهَب ومنَح وأكرَم وأحسَنَ كذلك إذا أخبْرتَ أنك سعَيتَ فيها وتسبَّبتَ لها وجب أن تَقدِّمَ أمامَ حروفِها في مُثُلها الدالةِ عليها أحرُفًا زائدةً على تلك الأصولِ تكونُ كالمقدِّمة لها والمؤدّيةِ إليها. وذلك نحو استفعل فجاءتِ الهمزةُ والسين والتاء زوائد، ثم وردَتْ بعدَها الأصولُ: الفاءُ والعينُ واللامُ، فهذا من اللفظ وفْقَ المعنى الموجودِ هنالك، وذلك أن الطلبَ للفعل والتماسَه والسعْيَ في والتأتِّيَ لوقوعه تقدَّمه ثم وقعت الإجابةُ إليه فتبع الفعلُ السؤالَ فيه ¬

(¬1) كذا في المخطوط وفي (الخصائص) (2/ 153) استقدم عمرًا.

والتسبيبَ لوقوعه. فكما تبِعَتْ أفعالُ الإجابةِ الطلبَ كذلك تبِعَتْ حروفُ الأصلِ الحروفَ الزائدةَ التي وُضعت للالتماس والمسألة. وذلك نحوُ استخراج واستقدم واستوهب واستمنَحَ واستعطى واستَدْني فهذا على سَمْت الصنْعةِ التي تقدّمت في رأي الخليل وسيبَويه إلاَّ أنّ هذه أغمضُ من تلك غيرَ أنها وإن كانت كذلك فإنها منْقولةٌ عنها ومعقودةٌ عليها ومَنْ وجَد مقالاً قال به وإن لم يَسبِقْ إليه غيرُه. فكيف به إذا تبِعَ العلماءَ فيه وتلاهم على [تمثيل] (¬1) معانيه. ومن ذلك جعلوا تكريرَ العينِ في المثال دليلاً على تكرير الفعل فقالوا: كَسَّرَ وقطَّع وفتَّح وغلَّق وذلك أنهم إذا جعلوا الألفاظَ دليلةَ المعاني [فأقوى] (¬2) اللفظِ ينبغي أن تقابَلَ به قوةُ الفعلِ والعينُ أقوى من الفاء واللام، وذلك أنها واسطةٌ لهما ومكنوفَةٌ لهما فصارا كأنهما سياجٌ لها ومبذولان للعوارض دونها. (¬3) فأما حذفُ الفاءِ ففي المصادر من باب وعد نحو العِدَة والزِّنة والهِبَه. وأما اللام فنحو اليد والدم والفم والأب والأخ والسَّنَة، وقَلّما تجد الحذفَ في العين. فلَّما كانت الأفعالُ دليلةَ المعاني كرّروا أقواها وجعلوه دليلاً على قوة المعنى المحدَّثِ به وهو تكريرُ الفعل، كما جعلوا تقطيعَه نحو صَرْصَرَ دليلاً على تقطيعه ولم يكونوا ليضعّفوا الفاءَ ولا اللامَ لكراهية [المضعَّفِ أن يجيءَ في آخرها] (¬4) وهو مكانُ الحذفِ وموضعُ الإعلال، وهم قد أرادوا تحصينَ الحرفِ [9أ] الدالِّ على قوة الفعلِِ، فهذا أيضًا من مساوقة الصنْعةِ للمعاني. وقد أتبعوا اللامَ في باب المبالغة العينَ وذلك إذا كُرّرت العين معها في نحو دَمَكْمَك ¬

(¬1) في المخطوط [مثيل] وما أثبتناه من الخصائص (2/ 155). (¬2) في المخطوط فقوّاه وما أثبتناه من الخصائص (2/ 155). (¬3) قال ابن جني في الخصائص (2/ 155): ولذلك تجد الإعلال بالحذف فيها دونها. (¬4) العبارة اعتراها سقط: وهي في (الخصائص) (2/ 155) كما يلي: التضعيف في أول الكلمة. والإشفاق على الحرف المضعّف أن يجيء في آخرها.

وصَمَحْمَح وعَرَكْرَك وعصَبْصَب وغَشَمْشَم، والموضعُ في ذلك للعين، وإنما ضامَّتْها اللامُ هنا تبعًا لها ولاحقةً بها، ألا ترى إلى ما جاء عنهم للمبالغة من نحو اخلَوْلق واعشَوْشب واغدَوْدَنَ واحْمَوْمي واذْلَولي وكذلك في الاسم نحوُ عَثَوثل وغدَوْدَن وعَقَنْقَلٍ وهَجَنْجَل، وكلُّ واحدٍ من هذه المُثُل قد فُصِل بين عينيه بالزائد (¬1)، فعلمتَ أن تكريرَ العينِ في باب صَمَحْمَح إنما هو للعين وإن كانت اللامُ فيه أقوى من الزائد في باب افعَوعَل وفَعَوعَل وفَعَيعَل وفَعَنْعل لأنّ العينَ باللام أشبهُ من الزائد بها، ولهذا ضاعفوها أيضًا كما ضاعفوا العينَ للمبالغة نحو عُتُلٍّ وصُمُلٍّ وحُزُقٍّ ألاَّ ترى أنَّ العينَ [أقعدُ] (¬2) في ذلك من اللام، فإنّ الفعلَ الذي هو موضوعٌ للمعاني لا يُضعَّف ولا يؤكد تكرير إلاَّ بالعين. هذا هو الباب. فأما اقعنسَسَ واسْحَنكَكَ فليس الغرضُ فيه [التوكيد و] (¬3) التكريرَ لأنّ ذا إنما ضُعِّف للإلحاق، فهذا طريقٌ صناعيةٌ وبابُ تكريرِ العينِ هو طريقٌ معنْويّةٌ، ألا ترى أنهم لمّا اعتزموا إفادةَ المعنى توفّروا عليه وتحامَوا [طريق] (¬4) زيادة من الخصائص (2/ 156). الصَّنعةَ والإلحاقَ فيه، فقالوا قطّع وكسّرَ تقطيعًا وتكسيرًا ولم يجيئوا بمصدره على مثال الفَعْلَلَة فيقولون قطعة ولا كَسَّرةً كما قالوا في الملحق: يبطَرَ بيْطرةً وحَوْقَل حَوْقلةً وجَهْوَرَ جَهْورةً. ويدلُّك على أن افعَوعَلَ لما ضُعّفت عينه للمعني انصرف به عن طريق الإلحاق تغليبًا للمعنى على اللفظ وإعلامًا أنَّ قدْرَ المعنى عندهم أعلى وأشرفُ من قدْر اللفظِ أنهم قالوا في افعوعَل من رَدَدْتُ: ارْدَوَدَّ، ولم يقولوا اردَوْدَدَ فيظهَرَ التضعيفُ للإلحاق كما أظهروه في نحو اسحَنْكَكَ لما كان للإلحاق باحْرَنجمَ واخرنطم ولا تجد في بُنات الأربعةِ نحو احْرَوْجَمَ حتى يقال إن افعوعل من رَدْدتَ فيقال اردَوْدَدَ لأنه لا مثالَ له رباعيًا فيُلْحقَ هذا به، فهذا طريقُ المُثُل واحتياطاتُهم فيها بالصنعة ودَلالاتُهم منها على الإرادة والبُغْية. ¬

(¬1) قال في (الخصائص) (2/ 156): لا باللام. (¬2) في المخطوط (أبعد) وما أثبتناه من الخصائص (2/ 156). (¬3) زيادة من الخصائص (2/ 156). (¬4) زيادة من الخصائص (2/ 156).

وهذا مما يوضح لك سِرَّ ما أسلفنا في الاشتقاق، وتبيّن لك أن العربَ لا يجعلون فعلاً من الأفعال أو اسمًا من الأسماء موافقًا لفعل أو اسم آخرَ على الصفة التى قدمنا [9ب] إلاَّ وقد راعَوا معنًي يجمعُهما قريبًا أو بعيدًا فإنهم قد راعَوا ذلك في الألفاظ التي ليس بينها من الاتصال والعلاقةِ ما بين ما يصدُق عليه مسمَّى الاشتقاقِ من الألفاظ كما قدمنا الإشارةَ إليه بل لقد وقعت المُراعاةُ منهم لما هو دون ما ذكرنا فإنهم قد قابلوا الألفاظَ بما يشاكل أصواتَها من الأحداث [فيجعلون كثيرًا] (¬1) أصواتَ الحروفِ على سمْت الأحداثِ المعبَّرِ بها [عنها فيجد قوّتَها بها] (¬2) كقولهم خَضم وقَضِم فالخضْمُ لأكل الشيء الصُّلْب اليابسِ نحوُ قضِمَت الدابّةُ شعيرَها، ومنه قولُهم (قد يُدْرك الخَضْمُ بالقضْم) أي قد يُدرك الرخاءُ بالشدة واللينُ بالشظف، ومنه قول أبي الدرداء يخْضِمون ونقْضَم، والموعِدُ الله (¬3) فاختاروا الخاءَ لرَخاوتها للرَّطْب والقافَ لصلابتها لليابس فحَذَوا بمسموع الأصواتِ على خَذْو محْسوسِ الأحداث. ومن ذلك قولُهم النضْحُ بالمهملة للماء الخفيف لدقّةِ الحاء المُهْمَلة وجَعلوا النضْخَ بالخاء المُعجمة لما هو أقوى منه لِغِلَظ الخاء المُعْجمة. ¬

(¬1) ولعلها: (وذلك أنهم كثيرًا ما يجعلون) كما في الخصائص (2/ 157). (¬2) والعبارة كما في (الخصائص) (2/ 157): فيعدّلونها بها، ويختذونها عليها. وذلك أكثر مما تقدره وأضعاف ما نستشعره. (¬3) قال ابن الأثير في (النهاية) (2/ 44) (خضم) في حديث علي رضي الله عنه: فقام إليه بنو أميّة يخضمون مال الله خضم الإبل نبته الرَّبيع). الخضم: الأكل بأقصى الأضراس، والقضم بأدناها: خضم يخضم خضمًا. ومنه حديث أبي ذر: «تأكلون خضمًا ونأكل قضمًا». وفي حديث أبي هريرة: «أنّه مرَّ بمروان وهو يبني بنيانًا له، فقال: ابنوا شديدًا وأمّلوا بعيدًا، واخضموا فستقضموا».

ومن ذلك قولُهم القَدُّ طُولاً والقَطّ عَرْضًا وذلك لأنّ الطاء أخصَرُ للصوت وأسرعُ قطْعًا له من الدال فجعلوا الطاءَ المتأخِّرة لقطع العَرْض لقُربه وسُرعتِه والدالَ لِما طَالَ من الأثَر وهو قطْعُه طولاً. ومنه قولُهم قَرَتَ الدمُ وقَرِدَ الشيءُ وتقرَّد، وقرَط يقرُط فالتاء أخفّ الثلاثةِ فاستعملوها في الدم إذا جفّ لأنه قَصْدٌ ومستخَفٌّ في الحِس (¬1) وقرِد من القَردَ لما يُخفى صوتَه، ويقال من القرْد وذلك لأنه موصوفٌ بالقِلّة والذِّلة. قال الله سبحانه: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (¬2) [وجعلوا الطاءَ وهي أعلى الثلاثةِ صَوْتًا للقَرْط الذي يُسمع]. (¬3) ومن ذلك قولُهم الوسيلةُ والوَصيلة، فالصاد أقوى من السين لِما فيها من الاستعلاء فكانت الوصيلةُ أقوى من الوسيلة وذلك أن التوسّلَ ليست له عِصْمة الوصْلِ والصِّلة، لأن الصِّلةَ أصلها من اتصال الشيء بالشيء ومُماسّتِه له وكونِه في أكثرِ الأحوال بعضًا له، كاتصال الأعضاءِ بالإنسان، وهي أبعاضُه، ونحوُ ذلكِ، والتوسُّلُ معنًى يضعُفُ ويصْغُر أن يكونَ المُتوسَّل إليه، وهذا واضح، فجعلوا الصادَ لقوتها للمعنى الأقوى والسينَ لضَعْفها عنها للمعنى الأضعفِ. ومن ذلك قولهم خذا يخْذو بالواو لاسترخاء الأُذُن وخذأَ يخْذَأ بالهمزة للذل، والواو أضعفُ من الهمزة، واسترخاءُ الأُذنِ دون الذلِّ لأنّ الاسترخاء ليس من العيوب التي يُسَبُّ بها بخلان الذل (¬4). ¬

(¬1) قال في (الخصائص) (2/ 158): عن القرْدد الذي هو النباك في الأرض ونحوها. وجعلوا الطاء وهي أعلى الثلاثة صوتًا ـ للقرط الذي يسمع. (¬2) [البقرة: 65]. (¬3) موضعها بيناه آنفًا. (¬4) والعبارة في الخصائص (2/ 160). ومن قولهم: (الخذا) في الأذن، و (الخذأ: الاستخذاء) فجعلوا الواو في خذواء ـ لأنها دون الهمزة صوتًا ـ للمعنى الأضعف. وذلك أن استرخاء الأُذن ليس من العيوب التي يُسبُّ بها ولا يتناهى في استقباحها. وأما الذل فهو من أقبح العيوب، وأذهبها في المزراة والسبّ فعبروا عنه بالهمزة لقوتها، وعن عيب الأذن المحتمل بالواو لضعفها، فجعلوا أقوى الحرفين لأقوى العيبين، وأضعفهما لأضعفهما.

ومن ذلك جفأ الوادي يجفُو بالواو وجفَأ [10أ] بالهمزة فإنّ فيهما معنى الجفا لارتفاعهما، يقال جفا الشيءُ يجفو وجفأ الوادي يجفأ ولكنهم استعملوا الهمزة في الوادي لقوة دفْعِه. ومن ذلك سِعِدَ وصَعِدَ فالصاد لما كانت أقوى لِما سلف من كونها من حروف الاستعلاء جعلوها لِما فيه أثَرٌ مشاهَدٌ يُرى وهو الصعود في الجبل والحائط ونحوِ ذلك وجعلوا السين لما فيها من الضَّعف لما لا يظهر ولا يشاهد حِسًّا إلاَّ أنه مع ذلك فيه صُعودُ الجَدِّ لا صعودُ الجسْمِ، ألاَّ تراهم يقولون هو سعيدٌ وهو عالي الجَدِّ، وقد ارتفع أمرُه وعلا قدره. (¬1) ومن ذلك قولهم سَدَّ وصَدَّ فالسدّ دون الصّدِّ، لأنّ السدِّ للباب والمنْظَرَة والصَّدَّ جانبُ الجبَل والوادي والشِّعب، وهذا أقوى من السدّ الذي يكون لثُقْب الكُوَّة ورأسِ القارورة. ونحو ذلك. ومن ذلك القَسْمُ والقَصْمُ فالقصْمُ أقوى فعلاً من القسم، لأنّ القصْمَ يكون معه الدقُّ، وقد يُقسم بين الشيئين فلا يُنكأ أحدُهما فلذلك خُصَّت بالأقوى الصاد، وبالأضعف السين. ومن ذلك تركيبُ ق ط ر وتركيبُ ق د ر وتركيب ق ت ر فالتاءُ خافيةٌ مستقلة والطاء ساميةٌ متَصَعَّدةٌ فاستُعمِلَتا لعاديهما في الطرفين كقولهم: قَطْر الشيءِ وقَتْرهُ، ¬

(¬1) قال ابن جني في (الخصائص) (2/ 161): (فجعلوا الصاد لقوتها، مع ما يشاهد من الأفعال المعالجة المتجشمة، وجعلوا السين لضعفها، فيما تعرفه النفس، وإن لم تره العين والدلالة اللفظية أقوى من الدلالة المعنوية.

والدال بينهما ليس لها صعودُ الطاءِ، ولا نُزول التاءِ فلذلك كانت واسطةً بينهما فَعُبّر بها عن معظم الأمرِ ومُقابلتِه فقيل قدرُ الشيء لجُماعه. وينبغي أن يكون قولُهم قطرَ الإناءُ الماءَ إنما هو فَعَلٌ من لفظ القُطْر ومعناه ذلك لأنه [إنما ينقط] (¬1) الماء من صفحته الخارجةِ وهو قُطْرُه، فاعرِف ذلك فهذا ونحوُه إذا أنت أَتيتَه من بابه وأصلحْتَ فكرَك لتناوُله وتأمُّله أعطاك مَقادَه وأركبك ذُروتَه، وجلّي عليك [بهجاتُه] (¬2) ومحاسنة وإنْ أنت تناكَرْتَه، وقلت هذا أمرٌ منتشرٌ ومذهبٌ صَعْبٌ مُوعرٌ حرمْتَ نفسَك لذَّته وسددْت عليها باب الحُظْوَةَ به. ووراءَ هذا ما اللُّطفُ فيه أظهرُ والحكمةُ أعلى وأصنَعُ. وذلك أنهم قد يُضيفون إلى اختيار الحروفِ وتشبيهَ أصواتِها بالأحداث المعبَّرِ عنها (¬3) وتقديمَ ما يُضاهي أوّلَ الحدثِ وتأخيرَ ما يُضاهي آخرَه (¬4) سَوقًا للحروف على سمْت المعنى المقصودِ والغرضِ المطلوب. ومن ذلك قولُهم شدَّ الحبْلَ فالشينُ لِما فيها من التفشّي تَشبَّهُ بالصوت أولَ انجذابِ الحبلِ قبل استحكام العَقْد، ثم يليها إحكامُ الشدِّ والجذْبِ فَيُعبّر [عنه] (¬5) بالدال [10ب] التي هي أقوى من الشين لا سيما وهي مُدْغَمةٌ فهي أقوى لصنعتها وأدَلَُ على المعنى الذي أُريد بها. فأما الشِّدةُ في الأمر فإنها مستعارةٌ من شدّ الحبل. ومن ذلك قولُهم جرَّ الشيءَ يجُرُّه، قدموا الجيمَ لأنها حرفٌ شديدٌ وأولُ الجرِّ المشقّةُ على الجارّ والمجرورِ جميعًا، ثم عقّبوا ذلك بالراء وهي حرف مكرَّرٌ، وكرَّروها مع ذلك في نفسها، وذلك لأن الشيءَ إذا جُرَّ على الأرض في غالب الأمرِ اضطربَ صاعدًا عنها ونازلاً، وتكرّر ذلك منه على ما فيه من التعْتعَة والقَلَق فكانت الراءُ لِما فيها من ¬

(¬1) في المخطوط [يسقط]. وما أثبتناه من الخصائص (2/ 162). (¬2) زيادة من الخصائص (1/ 162). (¬3) قال في الخصائص (2/ 162): (بها ترتيبها). (¬4) قال في الخصائص (2/ 162): وتوسيط ما يضاهي أوسطه. (¬5) زيادة من الخصائص (2/ 162).

التكرير، ولأنها أيضًا قد كُرِّرتْ في نفسها أوفقَ لهذا المعنى من جميع الحروفِ. فإنْ رأيتَ شيئًا من هذا لا ينقاد لك فيما رسْمناه ولا يتابِعُك على ما أردناه فذلك لأحد أمرين إما أن يكونَ لم تُنْعِم النظرَ فيه فيتَعَدَّ بك فكرُك عنه، أو لأن لهذه اللغةِ أصولاً وأوائلَ قد تخفى عنا وتقصُرُ أسبابُها دوننا. قال ابنُ جني في الخصائص (¬1): فإن قلتَ فهلا أجَزْتَ أن يكون ما أوردتَه في هذا الموضعِ يعني ما قدّمنا ذكرَه شيئًا اتّفق وأمرًا وقع في صورة المقصودِ من غير أن يُعتَقَدَ قلت: في هذا حُكمٌ بإبطال ما دلتْ الدِّلالةُ عليه من حكمة العربِ التي تشهد بها العقولُ. ثم قال ولو لم يُنبَّه على ذلك إلاَّ بما جاء عنهم من تشبيههم الأشياء بأصواتها كالخاقْ باق لصوت الفرجِ عند الجِماع، وغاق لصوت الغُراب وفي قوله: تداعَيْنَ باسم الشِّيب ... لصوت مَشافرِها. ومنه قولُهم حاحَيْتَ وعافَيْتَ وهاهَيْتَ إذا قلتَ حاءِ وعاءِ وهاءِ، وقولُهم بسْمَلْت وهَيْلَلْت وحَوْقَلْت كلُّ ذلك بأشباهه إنما يرجِعُ في اشتقاقه إلى الأصوات. قال (¬2): ومن ظريف ما مرَّ بي في هذه اللغةِ التي لا يُكادُ يُعلم بُعدُها ولا يُحاط بقاصيها ازدحامُ الدال والتاء والطاء والراء واللام إذا ما زَجَتْهن الفاءُ على التقديم والتأخير، فأكثرُ أحوالِها ومجموعِ معانيها أنها للوهْن والضَّعْف ومن ذلك الدالِفُ للشيخ الضعيفِ والشيء التالفِ والطَّليف (¬3). والدَّنِفُ المريضُ. ومنه التَّنوفَةُ وذلك لان الفلاةَ إلى الهلاك، ألا تراهم يقولون لها مَهْلكة، وكذلك قالوا بيداء فهى فعْلاء من بادَ يبيد. ¬

(¬1) (2/ 164). (¬2) ابن جني في (الخصائص) (2/ 166). (¬3) قال في (الخصائص) (2/ 166) والظليف: المجّان وليست له عصمة الثمين.

ومنه التُّرْفَهُ لأنها إلى اللّين والضَّعْف، وعليه قالوا الطَّرَف لأن طَرفَ الشيءِ أضعفُ مِن قلبه وأوسطِه. ومنه الفردُ لأن [المفْرَدَ] (¬1) إلى الضَّعف والهلاكِ ما هو. ومنه الفتورُ للضَّعف. والرَّفْتُ للكَسْر. والرَّديفُ لأنه ليس له تمكُّن الأوْل. ومن ذلك الطِّفْلُ: للصبيُّ لضَعفه. والطَّفْلُ للرّخصْ وهو ضدُّ الشَّثْنِ، والتَّفَلُ: للريحُ المكروهةُ فهي منبوذةٌ مطروحةٌ وينبغي أن تكون الدِّفْليَ من ذلك لضعفه عن صلابة النَّبْعِ. ومنه الفَلْتة لضعف الرأي وفَتْلُ المِغْزل لأنه تَثنٍّ واستدارةٌ، وذاك إلى وهْنٍ وضَعْف. والفَطْرُ الشَّقُّ وهو إلى الوهن. هذا حاصلُ كلامِه (¬2) مع اختصار، وفيه ما يَزيدُك بَصيرةً بما ذكرناه سابقًا وجَمَعْنا هذا المختصر له مِنْ أن التوافُقَ في بعض [11أ] الحروف بين الكلمتين لا يكون إلاَّ لمعنى يجمَعُهما قريبًا أو بعيدًا بحسَب تقاربُ الحروفِ بل مجرّدِ تقارُبِ مخارجِ الحروفِ، ويكون بينها اتصالٌ من وجْهٍ لا يكون إلاّ لجهة جامعةٍ بينهما باعتبار المعاني كما قدَّمنا في تركيب ع ص ر وتركيب أزل وهكذا في تركيب أزم وتركيب ع ص ب وهكذا تركيبُ غ د ر وتركيبُ خ ت ل وسائرُ ما ورد هذا المورِدَ، وقد قدّمنا إيضاحَه، وإذا عرفْتَ ما أوردناه في هذا المختصر حقَّ معرِفَته وتدَبَّرْتَه حقَّ تدبُّرِه اطَّلعْتَ على ما في هذه اللغةِ الشريفةِ من الأسرار السَّرِيّة والنُّكات الفائقةِ، واللطائفِ الرائقةِ، والإحكام البديع، والإتقان البالِغ، وسلامةَ أفهامِهم وأنهم أشرفُ طوائفِ هذا النوع الإنسانيِّ وأكرمُ بني آدمُ وأفضلَ البشرِ عُقولاً وقلوبًا وأفعالاً وأقوالاً وإصْدارًا وإيرادًا هذا على ما هو المذهبُ الحقُّ من أنهم الواضعون له لهذه اللغةِ الفائقةِ البالغةِ في الإتقان إلى حد تتقاصر عنده عقولُ المُرْتاضين بالعلوم ¬

(¬1) الذي في الخصائص [المنفرد]. (¬2) أي ابن جنِّي في الخصائص.

على اختلاف أنواعِها وتتصاغر لديه إدراكاتُ المشتغلين بالدقائق على تبايُن مراتِبها، وإن علمًا يُوقِف [11 ب] صاحبَه على هذه الأسرارِ لَعظيمُ الخَطَر، نبيلُ القَدْر، وإنّ فنًّا يُتوصّل به إلى هذا اللطائفِ لَكبيرُ الشأنِ جليلُ المكان، ومع هذا فما أقبحَ بالعالم المستكثِرِ من الفنون المتعلّقةِ بلغة العربِ أن يجهَلَ علمًا معْدودًا من علومها غيرَ مُندرجٍ تحت فنٍّ من فنونها فإن جماعةً من محقّقي العلماءِ جعلوا العلومَ المتعلِّقةَ بلغة العَرَب ستةً: النحوُ والصَّرْفُ والاشتقاقُ والمعاني والبيانُ والبديعُ وجماعةٌ منهم حصَروا فنونَ الأدب في علومٍ منها الاشتقاقُ حتى قال قائلُهم في حصر العلومِ الأدبية أبياتًا منها قولُه: لغةً وصَرْفٌ واشتقاقٌ نحوُها ... علمُ المعاني والبيان بديعُ وبالجملة فحقٌّ لفن مستقلٍّ وعِلْمٍ منفردٍ أن تعظمَ العِنايةُ به وتتوفَّرَ الرَّغْبةُ إليه وإن هذا المختصَرَ قد تكفّل ببيانه واشتمل على ما لا يوجد مجموعًا في غيره ولا يُوقَف عليه كاملاً في سواه. والحمدُ لله أولاً وآخِرًا. حرّره مؤلِّفُه غفر الله له.

كلام في فن المعاني والبيان (تعليق من الشوكاني على كلام صاحب الفوائد الغياثية)

(203) 10/ 5 كلام في فن المعاني والبيان (تعليق من الشوكاني على كلام صاحب الفوائد الغياثية) تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديث محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط 1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: كلام في فن المعاني (تعليق من الشوكاني على كلام صاحب الفوائد الغياثية). 2 ـ موضوع الرسالة: لغة عربية. 3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم عبارة صاحب الفوائد الغياثية وشارحها في المقدمة، وإنما احتاج في تطبيق الكلام على مقتضي الحال. 4 ـ آخر الرسالة: فإن في كلام العرب نظمًا ونثرًا ما مثل ذلك، ويختلف باختلاف المسميات. والله أعلم انتهى من خط محرره سلمه الله تعالي. 5 ـ نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 ـ عدد الصفحات: 2 صفحتان. 7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: الأولي: 19 سطرًا. الثانية: 10 أسطر. 8 ـ عدد الكلمات في السطر: 19 ـ 20 كلمة. 9 ـ الرسالة من المجد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم عبارةُ صاحب الفوائد الغياثيةِ (¬1) وشارِحها في المقدمة، وإنما احتج في تطبيق الكلام على مقتضي الحال [إلى علم الآن] (¬2) المقامات، أعني بها الأقوالَ ليست كلُّها على نهج واحد، حتى يُستغني عن معرفة تفاصيلها، فإنَّ المقاماتِ مختلفةٌ، كالجدِّ مع الهزْلِ، والتواضعِ مع الفخْرِ، والمدح مع الذّم، والشكر مع الشكايةِ، والتهنئة مع التعزية، والترغيب مع الترهيبِ إلى غير ذلكن فيختلف ما يناسبُ كلاًّ من ذلك، وكل يستدعي تركيبًا يفيد ما يناسبه. هذا واضح لكن مقتضياتِ الأحوالِ المذكورة مما لم يضبط بعد فيما رأيناه من كتب الظنِّ، وإنما دوَّنوا الأقوالَ المقتضيةَ للحالات المخصوصة الإسنادَ والمسندَ إليه والمسندَ مثلاً، وهذا لا يغني عن ذلكَ، ولئن ساعدَ التوفيق، ووافق التقدير سأنتهض لذلك بعد الفراغ مما شرعت فيه، والله ـ سبحانه ـ ميسِّر كلَّ عسيرٍ انتهى، والمطلوب منكم تحقيقُ هذه المقاماتِ الخارجة عمَّ دُوِّن. كتب عليه مولانا شيخ الإسلام الحافظ عزُّ الأنامِ محمد بن علي الشوكاني ـ سلمه الله تعالي ـ: اعلم أنَّ فنَّ المعاني (¬3) ..................................... ¬

(¬1) (الفوائد الغياثية في المعاني والبيان)، للقاضي عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الأيجي المتوفي سنة 756هـ لخصها من القسم الثالث من (مفتاح العلوم) ونسبها إلي غياث الدين وزير سلطان محمد خدا بنده وشرحه شمس الدين محمد بن يوسف الكرماني المتوفي سنة 786هـ. (كشف الظنون) (6/ 1299). (¬2) العبارة اعتراها تقديم وتأخير. ولعلها إلى الآن، علم]. (¬3) علم المعاني: هو علمٌ يعرف به أحوال الكلام العربيّ التي تهدي العالم بها إلى اختيار ما يطابق منها مقتضي أحوال المخاطبين، رجاء أن يكون ما ينشئ من كلام أدبي بليغًا. ويدور هذا العلم حول تحليل الجملة المقيدة إلى عناصرها، والبحث في أحوال كل عنصر منها في اللسان العربي، ومواقع ذكره وحذفه، وتقديمه وتأخيره ومواقع التعريف والتنكير، والإطلاق والتقيد، والتأكيد وعدمه، ومواقع القصر وعدمه، وحول الجمل المقيدة ببعضها، بعطف أو بغير عطف ومواقع كل منهما ومقتضياته، وحول كون الجملة مساوية في ألفاظها لمعناها أو أقلّ منه، أو زائدًا عليه، ونحو ذلك: (معجم البلاغة العربية) (1/ 138 ـ 139) عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني. قال الخطيب القزويني في (الإيضاح في علوم البلاغة) (ص15): علم المعاني هو ما يحترز به عن الخطأ في تأدية المعنى المراد وإلى تمييز الكلام الفصيح من غيره. والمقصود من علم المعاني منحصر في ثمانية أبواب: 1 ـ أحوال الإسناد الخبري. 2 ـ أحوال المسند إليه. 3 ـ أحوال المسند. 4 ـ أحوال متعلقات الفعل. 5 ـ القصر. 6 ـ الإنشاء. 7 ـ الفصل والوصل. 8 ـ الإيجاز والإطناب والمساواة. انظر (جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع) (ص3).

والبيان (¬1) والعلم الذي به تبين دقائق العربية وأسرارُها، وقد أوعت فيه أئمتُه بحيث لم ¬

(¬1) البيان: لغة الكشف والتوضيح والظهور، وهو في الاصطلاح عبارة عن المنطق الفصيح المعبر عما في الضمير. والبيان عند البلاغيين: هو علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بتراكيب مختلفة في وضوح الدلالة على المعنى المراد، بأن تكون دلالة بعضها أجلى من بعض. ? وسمّي (علم البيان) لأن له مزيد تعلُّ بالوضوح والبيان، من حيث أن علم البيان يعرف به اختلاف طرق الدلالة في الوضوح والبيان. وكثيرٌ من البلاغيين يسمَّي علوم البلاغة الثلاثة ـ المعاني والبديع ـ علم البيان، لتعلقها جميعًا بالبيان. وهو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير وبعضهم يسمي (البيان والبديع) تغليبًا للبيان المتبوع على البيان التابع. وهذا يقع كثيرًا في كلام الزمخشري في (الكشاف). والفصاحة والبلاغة والبيان، ألفاظ تشترك في كثير من المعاني، ويختص كل واحد منها بما ليس للآخر. لكن الفصاحة: أصلها الخلوص من الشوائب، لقولهم: أفصحَ اللبنُ وفَصحُ. إذا خلص من اللباء. وذلك في الكلام لا يكاد ينفك عن أن يكون بيّنًا. فالفصاحة أعم من البيان من وجه. والبيان أعمّ من الفصاحة من وجه. فإنَّ البيِّن قد لا يكون كلامًا، والخالص من الشوائب قد لا يكون بيِّنًا. وكذلك البلاغة مع كل من الفصاحة والبيان، ومعنى البلاغة انتهاء الشيء إلى غايته المطلوبة، وكل واحد من الألفاظ الثلاثة يستعمل في الكلام وفي غيره. والكلام في هذه المعاني الثلاثة هو بالنسبة إلى وقوعها في الكلام لا غير. فالفصاحة تكون بالنسبة إلى اللفظ من وجهين: أحدهما: أن يخرج المتكلم الحروف من مخارجها، ويخلّص بعضها من بعض. الثاني: أن يكون اللفظ مما تداوله فصحاء العرب، وكثر في كلامهم. وتكون الفصاحة أيضًا بالنسبة إلى المعنى وهو أن يكون الكلام مخلصًا من غيره. والبلاغة تتعلق بالمعنى فقط، وهو أن يبلغ المعنى في نفس السامع مبلغة، ومما يعين على ذلك الفصاحة في كلام العرب، لا أن الفصاحة من أجزاء البلاغة فإنَّ الأعجمي إذا كلّم الأعجمي، فبلغ المعنى غاية مبلغه كان كلامه بليغًا. ووصف بالبلاغة، وكلامه ليس من كلام العرب. والبيان في عرف الكلام أتمّ من كل واحد من الفصاحة والبلاغة، لأن كل واحد منهما من مادته، وداخل في حقيقته ولذلك قلنا (علم البيان) وتكلمنا فيه في الفصاحة والبلاغة وغيرهما، ولم يوضع علم للفصاحة، ولا علم للبلاغة. والبيان عند البلاغيين ـ كم تقدم ـ علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه. ? فمثال إيراد المعنى بطرق مختلفة، في باب (الكناية) أن يقال في وصف زيد بالجود مثلاً: زيد مهزول الفصيل، وزيد جبان الكلب، وزيد كثير الرماد. فهذه التراكيب تفيد وصفه بالجود على طريق الكناية، لأن هزال الفصيل إنّما يكون بإعطاء لبن أمه للأضياف. وجبن الكلب ولا يتجاسر عليه، وهو معنى جبنه، وكثرة الرماد من كثرة الإحراق للطبائخ من كثرة الأضياف. وهي مختلفة وضوحًا، وكثرة الرماد أوضحها، فيخاطب به عند المناسبة كأن يكون المخاطب لا يفهم بغير ذلك. ? ومثال إيراده بطرق (الاستعارة) أن يقال مثلاً في وصفه بالجود: رأيت بحرًا في الدار، في الاستعارة (التحقيقية وطم زيد بالإنعام جميع الأنام، في الاستعارة بالكناية، لأن الطموم، وهو الغمر بالماء من وصف البحر، فدلَّ على أنّه أضمر تشبيهه بالبحر في النفس، وهو الاستعارة بالكناية، ولجة زيد تتلاطم أمواجها. وذلك مما يدل علي إضمار التشبيه في النفس أيضًا وأوضح هذه الطرق الأوَّل، وأخفاها الوسط. ـ ومثال إيراده في التشبيه أن يقال: زيد كالبحر في السخاء. وزيد بحر. وأظهرها ما صرَّح فيه بالوجه، وأخفاها ـ وهو أوكدها ـ ما حذف فيه الوجه والأداة معًا. فيخاطب بكل من هذه الأوجه في هذه الأبواب بما يناسب المقام من الخفاء والوضوح. ويعرف ذلك بهذا الفن. ومما تقدم يعلم أن (البيان) يطلق على معنيين: 1): معنى أدبي واسع يشمل الإفصاح عن كل ما يختلج في النفس من المعاني والأفكار والأحاسيس والمشاعر بأساليب لها حظها الممتاز من الدقة والإصابة والوضوح والجمال، وهو بهذا التعميم يجمع فنون البلاغة الثلاثة: المعاني والبيان والبديع. 2): معنى علمي محدود وهو التعبير عن المعنى الواحد بطريق الحقيقة أو المجاز أو الكناية، كما سلف. وقد حصر البلاغيون أصول علم البيان في أربعة أصول هي: 1 ـ أصلان ذاتيان. وهما المجاز، والكناية. 2 ـ أصل واحد وسيلة وهو التشبيه. 3 ـ أصل واحد جزء من أصل، وهو الاستعارة. انظر: (معجم البلاغة العربية) (100/ 103)، (الإيضاح في علوم البلاغة) للخطيب القزويني (ص201 ـ 203)، (جواهر البلاغة في (المعاني والبلاغة والبديع) (ص197). ? واعلم أنه واضع علم البيان أبو عبيدة الذي دوَّن مسائل هذا العلم في كتابه المسمَّى (مجاز القرآن) وما زال ينمو شيئًا فشيئًا حتى وصل إلى الإمام: عبد القاهر، فأحكم أساسه وشيَّد بناءه، ورتَّب قواعده وتبعه الجاحظ وابن المعتز وقدامة بن جعفر، وأبو هلال العسكري. وثمرته الوقوف على أسرار كلام العرب (منثوره ومنظومه) ومعرفة ما فيه من تفاوت في فنون الفصاحة، وتباين في درجات البلاغة التي يصل بها إلى مرتبة إعجاز القرآن الكريم الذي حار الجنُّ والإنس في محاكاته، وعجزوا عن الإتيان بمثله. انظر: (جواهر البلاغة) (ص198).

يدعو شيئًا مما يحتاج إليه، وبيان ذلك أنهم أولاً ذكروا حدَّ البلاغة والفصاحةِ، (¬1) وما ينافيها حتى صارتا معلومتينِ لكل فاهم. ثم بعد ذلك ذكروا حدَّ علم المعاني بحيث ينطبقُ على ما يصدُقُ عليه مفهوم هذا العلم، وأوضحوا ذلك بذكر أحوال الإسناد (¬2) والمسندِ (¬3) ....................... ¬

(¬1) البلاغة في المتكلم ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ، أي كيفية راسخة في النفس يقدر بها صاحبها على أن يؤلف كلامًا مطابقًا لمقتضى الحال فصيحًا في أي معنى قصده، وفي أي نوع أراده، فلو لم يكن ذا ملكة يقتدر بها على ما ذكر لم يكن بليغًا على قياس ما سيأتي في الفصاحة. ومن تأمَّل ما سبق عَلِمَ أن البلاغة أخصّ، والفصاحة أعم، وأنَّ كل ما يطلق عليه لفظ (البليغ) كلامًا كان أو متكلمًا يطلق عليه لفظ (الفصيح) يطلق عليه لفظ (البليغ) لجواز أن يكون كلام فصيح غير مطابق لمقتضى الحال، أو متكلم ذو ملكة يقتدر بها على الفصيح الغير المطابق لمقتضى الحال. وليعلم أن البلاغة يتوقف حصولها وتحققها على حصول أمرين: 1 ـ الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المقصود، إذ ربما أدّى المعنى المراد بلفظ غير مطابق لمقتضى الحال فلا يكون بليغًا. 2 ـ تمييز الكلام الفصيح من غيره، إذ ربما أورد الكلام المطابق لمقتضى الحال غير فصيح، لاختلال ركن من أركان فصاحة الكلام فيه، فلا يكون بليغًا. فمسّت الحاجة إلى علمين يحترز بهما عن الخطأ في تأدية المعنى المراد، وعن التعقيد المعنوي المخلّ بفصاحة الكلام والأول منهما هو (علم المعاني) والثاني: (علم البيان) ويسمّيان بعلمي البلاغة. ولما كان (علم البديع) به تعرف وجوه تحسين الكلام جعل تابعًا لهذين العلمين، حتى تعرف طرق التحسين الذاتي بهما، والعرضيِّ به، فانحصر المقصود من علمي البلاغة وتوابعها في ثلاث فنون. (معجم البلاغة العربية) (ص88). (¬2) الإسناد الخبري: هو ضمّ كلمة أو ما يجري مجراها ـ كالجملة الواقعة موقع مفرد ـ إلى أخرى على وجه يفيد أن مفهوم إحداهما ثابت لمفهوم الأخرى، أو منفي عنه. نحو: (الحزم نافع) ونحو عليٍّ أخلاقه (حسنه) وعلي حسنته أخلاقه ونحو ما علي بخائن. وانظر مزيد تفصيل: (جواهر البلاغة) (ص40). (¬3) المسند يكون مفردًا لا جملة، لكونه غير سببي، ولم يقصد به تقوية الحكم نحو: (عليٌّ مسافر) فأما السببي نحو: (زيد أبوه منطلق) أو (انطلق أبوه) وما شاكل ذلك من كل جملة واقعة خبرًا عن مبتدأ يربطها به عائد غير مسند إليه في تلك الجملة، فيبقي جملة لتعينها في الإخبار، وكذلك ما قصد به تقوية الحكم، فلا يعدل عنه إلى المفرد، حتى لا تزول التقوية إذا أُفرد. ويكون المسند فعلاً تقييده على أخصر وجه مع إفادة التجدد بأحد الأزمنة الثلاثة: الماضي، وهو الزمان الذي قبل الذي أنت فيه. والمستقبل، وهو ما يترتب وجوده بعد هذا الزمان. والحال: وهو في عرف أهل العربية أجزاء متعاقبة من أواخر الماضي، وأوائل المستقبل، قد تطول وقد تقصر، بحسب اختلاف الفعل في نحو قولنا: (زيد يصلّي، أو يحجّ) مرادًا بذلك الحصول في الحال. ويكون اسمًا لإفادة الثبوت لأغراض تتعلق بذلك، كما في مقام المدح فقولنا: (زيد مكرم لضيفه) يدل على ثبوت أكرام الضيفان لزيد، من غير نظر إلى زمان ولا تجدد بعد عدم، ولا كذلك قولنا: (زيد أكرم أو يكرم ضيفه) فإنّه يدل علي حصول في الماضي، وثانيًا علي حصول في الحال أو في المستقبل بعد أن لم يكن. ويكون المسند جملة للأغراض الآتية: 1) تقوية ثبوت المسند للمسند إليه، أو نفيه عنه نحو: (زيد قام) ويختص التقوي بما يكون مسندًا إلى ضمير المبتدأ المعتد به كما في المثال السابق. وسبب التقوي تكرر الإسناد. 2) كون المسند سببيًّا، نحو: (زيد أبوه قائم) و (عليّ أكرمته). 3) كون المسند إليه ضمير شأن نحو: (هو الله أحد). 4) إرادة التخصيص. نحو: أنا سعيت في حاجتك، فالتقوية وإن كانت حاصلة هنا ليست مقصودة لذاته. وتكون جملة المسند اسمية لإفادة الثبوت، وفعلية لإفادة التجدد والحدوث في أحد الأزمنة الثلاثة على أخصر وجه، وشرطية للاعتبارات المختلفة الحاصلة من أدوات الشرط في نحو: زيد إن تلقه يكرمك) أو إذا لقيته يكرمك فقد أخبرت أولاً بالإكرام الذي يحصل على تقدير اللقاء المشكوك فيه، وثانيًا بالإكرام الحاصل على تقدير وقوع اللقاء المحقق. ومواضع المسند ثمانية: 1 ـ خبر المبتدأ: نحو (قادر) من قوله: (الله قادر). 2 ـ اسم الفعل: نحو هيهات، وَيْ، آمين. 3 ـ الفعل التام: نحو (حضر) من قولك: حضر الأمير. 4 ـ المبتدأ الوصف المستغني عن الخبر بمرفوعه: نحو (عارف) من قولك: (أعارفٌ أخوك قدر الإنصاف؟). 5 ـ وأخبار النواسخ (كان ونظائرها) و (إنَّ ونظائرها). 6 ـ والمفعول الثاني لظنَّ وأخواتها. 7 ـ والمفعول الثالث لأرى وأخواتها. 8 ـ والمصدر النائب عن فعل الأمر. انظر: (جواهر البلاغة) (ص41)، (معجم البلاغة العربية) (ص286).

والمسندِ إليه، (¬1) وأحوال متعلِّقاتِ الفعلِ، والقصرَ (¬2)، .................................................... ¬

(¬1) (1) المسند إليه: ويسمي (المحكوم عليه) أو المتحدث عنه، وله ستة مواضع: 1 ـ الفاعل للفعل التام. 2 ـ أسماء النواسخ: كان وأخواتها وإن وأخواتها. 3 ـ والمبتدأ الذي له خبر. 4 ـ والمفعول الأول لظنّ وأخواتها. 5 ـ والمفعول الثاني لأرى وأخواتها. 6 ـ ونائب الفعل. انظر: (البلاغة العربية) (1/ 182). (¬2) القصر: لغةً الحبس: واصطلاحًا: هو تخصيصُ أمرٍ بآخر بطريق مخصوص. أو هو إثبات الحكم لما يذكر في الكلام ونفيه مما عداه بإحدى الطرق الآتية: 1 ـ العطف بل مثل: محمدٌ شاعر لا كاتب. المقصور عليه: هو المقابل لما بعد (لا). 2 ـ العطب ببل ولكن: مثل: ما خالد شاعرًا بل محمد ما محمد كاتبًا بل شاعرًا. ما محمد مقيمًا لكن مسافرًا. 3 ـ النفي والاستثناء: مثل: ما محمد إلا شاعر. وما شاعر إلا محمد، والمقصود عليه هو ما بعد (إلا). 4 ـ إنما: مثل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}. 5 ـ تقديم ما حقه التأخير: نحو: {(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)}. انظر مزيد تفصيل: (جواهر البلاغة) (ص 146ـ 147) , (معجم البلاغة العربية) (ص 544ـ 555).

والإنشاء (¬1) والفصل (¬2)، .......................................................................... ¬

(¬1) الإنشاء: لغة الإيجاد. واصطلاحًا ما لا يحتمل الصِّدق والكذب لذاته نحو اغفر دارهم, فلا يُنسب إلى قائله صدق أو كذب. وإن شئت فقل في تعريف الإنشاء ما لا يحصل مضمونه ولا يتحقَّق إلا إذا تلفظت به, فطلب الفعل في (أفعل) وطلب الكفِّ في (لا تفعل) وطلب المحبوب في (التمني) وطلب الفهم في الاستفهام, وطلب الإقبال في (النداء) كل ذلك ما حصل إلا بنفس الصيغ المتلفظ بها. وينقسم إلى نوعين: إنشاء طلبي, وإنشاء غير طلبي. الإنشاء غير الطلبي: ما لا يستدعي مطلوبًا غير حاصل وقت الطلب كصيغ المدح والذم, والعقود والقسم، والتعجُّب، والرجاء، وكذا رُبّ، ولعلّ، وكم الخبرية ولا دخل لهذا القسم في علم المعاني. الإنشاء الطلبي: وهو الذي يستدعي مطلوبًا غير حاصل في اعتقاد المتكلم وقت الطلب ويكون بخمسة أشياء: الأمر، والنهي والاستفهام، والتمني والنداء. (جواهر البلاغة) (ص161ـ 163). (¬2) العلم بمواقع الجمل, والوقوف على ما ينبغي أن يصنع فيها من العطف والاستئناف والتهدي إلى كيفية إيقاع حروف العطف في مواقعها, أو تركها عند عدم الحاجة إليها صعب المسلك, لا يوفَّق للصواب فيه إلاَّ من أوتي قسطًا وافرًا من البلاغة وطبع على إدراك محاسنها, ورزق حظًا من المعرفة في ذوق الكلام وذلك لغموض هذا الباب ودقة ملكه. وعظيم خطره, وكثير فائدته, يدل هذا أنهم جعلوه حدًا للبلاغة, فقد سئل عنها بعض البلغاء فقال: هى (معرفة الفصل والوصل. فالوصل عطف جملة على أخرى بالواو ونحوها, والفصل تركك هذا العطف والذي يتكلم عنه علماء المعاني هنا العطف (بالواو) وخاصة دون بقية حروف العطف, لأن الواو هى الأداة التي تخفى الحاجةُ إليها ويحتاج العطف بها إلى لطف فهم ودقّة في الإدراك ... ). مواضع الفصل: من حقِّ الجمل إذا ترادفت ووقع بعضها إثر بعض أن تربط بالواو لتكون على نسق واحد, ولكن قد يعرض لها ما يوجب ترك الواو فيها ويسمى هذا فضلاً ويقع في خمسة مواضع. 1) أن يكون بين الجملتين اتحادٌ وامتزاجٌ معنوي حتى كأنهما أفرعا في قالب واحد، يسمى ذلك كمال الاتصال. 2) أن يكون بين الجملتين تباينٌ تامّ بدون إبهام خلاف المراد ويسمّى ذلك كمال الانقطاع. 3) أن يكون بين الجملة الأولى والثالثة جملة أخرى متوسطة حائلة بينهما، فلو عطفت الثالثة على (الأولى المناسبة لها) لتوهم أنها معطوفة على (المتوسطة) فيترك العطف، ويسمّى كمال الانقطاع. 4) أن يكون بين الجملتين تناسبٌ وارتباط لكن يمنع من عطفهما مانع وهو عدم قصد اشتراكهما في الحكم ويسمى (التوسط بين الكمالين). فائدة: قيل للفارسي: ما البلاغة؟ فقال: معرفة الفصل والوصل. وقال المأمون لبعضهم: من أبلغ الناس؟ قالوا: من قرَّب الأمر البعيد المتناول، والصَّعب الدَّرك بالألفاظ اليسيرة. (معجم البلاغة العربية) (ص512 ـ 513)، (جواهر البلاغة) (ص162 ـ 163).

والوصل (¬1) .............................................. ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة. يقع الوصل في ثلاثة مواضع: 1) إذا اتفقت الجملتان في الخبرية والإنشائية لفظًا ومعنى أو معنى فقط، ولم يكن هناك سبب يقتضي الفصل بينهما، وكانت بينهما مناسبةً تامة كقوله تعالي: {(إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ) (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)}. وقوله تعالى: {فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}. وقوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}. أي: إني أشهد الله وأشهدكم فتكون الجملة الثانية في هذه الآية إنشائية لفظًا، ولكنها خبرية في المعنى. 2) إذا اختلفت الجملتان في الخبرية والإنشائية وكان الفصل يوهم خلاف المقصود، كما تقول مجيبًا لشخص بالنفي (لا وشفاه الله). ـ فجملة شفاه الله خبرية لفظًا إنشائية معنى العبرة بالمعنى ـ لمن يسألك هل بريء عليٌّ من المرض؟ فترك الواو يوهم السامع الدعاء عليه وهو خلاف المقصود لأن الغرض الدعاء له. ولهذا وجب أيضًا الوصل وعطف الجملة الثانية على الأولى لدفع الإبهام، وكلٌّ من الجملتين لا محل له من الإعراب. 3) إذا كان للجملة الأولى محلٌّ من الإعراب وقصد تشريك الجملة الثانية لها في الإعراب حيث لا مانع نحو: عليٌّ يقول ويفعل. فجملة يقول في محل رفع خبر المبتدأ، وكذلك جملة: ويفعل معطوفة على جملة يقول وتشاركها بأنها في محل رفع خبر ثان للمبتدأ. انظر: (معجم البلاغة العربية) (512 ـ 513)، (جواهر البلاغة) (ص159 ـ 160).

والإيجاز (¬1) ..................................................... ¬

(¬1) الإيجاز: لغة: اختصار الكلام وتقليل ألفاظه مع بلاغته. يقال لغة: أوجز الكلام إذا جعله قصيرًا ينتهي من نطقه بسرعة. ويقال: كلام وجيز, أي خفيفٌ قصير. ويقال: أوجز في صلاته إذا خفَّفها ولم يُطل فيها. الإيجاز في اصطلاح علماء البيان هو: اندراج المعاني المتكاثرة تحت اللفظ القليل. وأصدق مثال فيه قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} فهاتان الكلمتان قد جمعتا معاني الرسالة كلها, واشتملت على كليات النبوة وأجزائها. وكقوله تعالى: {(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)} فهذه الكلمات على قصرها وتقارب أطرافها قد احتوت على جميع مكارم الأخلاق, ومحامد الشيم, وشريف الخصال. قال أصحاب الإيجاز: الإيجاز قصور البلاغة على الحقيقة, وما تجاوز مقدار الحاجة فهو فضلٌ داخل في باب الهذر والخطل, وهما من أعظم أدواء الكلام وفيهما دلالة على بلادة صاحب الصناعة. وفي تفصيل الإيجاز يقول جعفر بن يحيى لكتّابه: إذا قدرتم أن تجعلوا كتبكم توقيعات فافعلوا. وقال بعضهم: الزيادة في الحد نقصان. وقال محمد الأمين: عليكم بالإيجاز, فإن له إفهامًا وللإطالة استبهامًا. وقال شبيب بن شبّة: القليل الكافي خير من كثير غير شافٍ. وقيل لبعضهم: ما البلاغة؟ فقال الإيجاز؟ قيل: وما الإيجاز؟ قال حذف الفضول, وتقريب البعيد!. والإيجاز قسمان: 1) إيجاز حذف, مثاله: قول نعيم بن أوس يخاطب امرأته: إذا شئتِ أشرفنا جميعًا فدعا الله كل جهده فأسمعا بالخير خيرًا وإن شرًّا فا ولا أريد الشرّ إلا أن تا كذا رواه أبو زيد الأنصاري، وساعده من المتأخرين على بن سليمان الأخفش وقال لأن الرجز يدل عليه، إلا أن رواية النحويين: ((وإن شرًّا فا)) و ((إلاَّ أن أتى)) قالوا: يريد: ((وإن شرًّ فشرّ)) و ((إلاَّ أن تشائي)) ويكون بحذف ما لا يخل بالمعنى ينقص من البلاغة. انظر تفصيل ذلك في: (البلاغة العربية) (2/ 26 ـ 36). (معجم البلاغة العربية) (ص 155 ـ 157). 2) إيجاز قصر: القصر: هو تخصيص شيء بشيء بطريق من الطرق. تقدم ذكر هذه الطرق. والإيجاز عند الرمَّاني على ضربين: مطابق لفظه لمعناه، لا يزيد عليه ولا ينقص عنه، كقولك: (سَلْ أهل القرية) ومنه ما حذف للاستغناء عنه في ذلك الموضع، كقول الله عز وجل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}. وعبر عن الإيجاز بأن قال: هو العبارة عن الغرض بأقل ما يمكن من الحروف. انظر: (معجم البلاغة العربية) (ص712 ـ 713).

والإطناب (¬1) ............................................. ¬

(¬1) الإطناب: هو زيادة اللفظ على المعنى لفائدة جديدة من غير ترديد. وقولهم في التعريف: ((زيادة اللفظ على المعنى)) عام في الإطناب، وفي الألفاظ المترادفة كقولنا: ليث وأسد، فإنه من زيادة اللفظ على معناه. وقولهم لفائدة: يخرج عنه التطويل الذي هو زيادة من غير فائدة. وقولهم: (جديدة): تخرج عنه الألفاظ المترادفة، فإنها زيادة في اللفظ على المعنى لفائدة لغوية، ولكنها ليس جديدة. وقوله: (من غير ترديد) يتحرز به عن التواكيد اللفظية في مثل: (اضرب اضرب) فإنها زيادة اللفظ على المعنى لفائدة جديدة وهي التأكيد لكنه ترديد اللفظ وتكريره بخلاف الإطناب فإنه خارج عن التأكيد وحاصل الإطناب الاشتداد في المبالغة في المعاني أخذًا من قولهم: أطنبت الريح إذا اشتد هبوبها، وأطنب الرجل في سيره إذا اشتد فيه. 1 ـ وقد يقع الإطناب: قد يكون واقعًا في جملة واحدة: أ ـ في الجملة الواحدة على جهة الحقيقة ومثال ذلك. قال تعالى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} فإن المعلوم من حال السقف أنه لا يكون إلا فوق، وإنما الغرض المبالغة في الترهيب والتخويف والإنكار والرد. ب ـ ما يرد على جهة المجاز ـ في الجملة الواحدة ـ مثاله: قال تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} فالفائدة بذكر الصدور هنا وإن كانت القلوب حاصلة في الصدور علي جهة الإطناب بذكر المجاز. 2ـ وقد يقع في الجملة المتعددة: أ ـ ما يرد عن طريق النفي والإثبات: ومثاله: قال تعالي: {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} ثم قال سبحانه: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} فالآية الثانية كالآية الأولى إلاَّ في النَّفي والإثبات، فإن الأولى من جهة النفي والثانية من جهة الإثبات، فلا مخالفة بينهما إلاَّ فيما ذكرناه، خلا أن الثانية اختصت بمزيد فائدة وهي قوله: {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}. ب ـ أن يصدر الكلام بذكر المعنى الواحد على الكمال والتمام، ثم يردف بذكر التشبيه على جهة الإيضاح والبيان ومثاله قول البحتري: ذاتُ حسن لو استزادت من الحسـ ... ـن إليه لما أصابت مزيدًا فهي كالشمس بهجة والقضيب واللَّدْ ... ن قَدًّا والرئم طرفًا وجيدًا فالبيت الأول كان كافيًا في إفادة المدح وبالغًا غاية الحسن، لأنه لما قال: ((لو استزادت لما أصابت مزيدًا)) دخل تحته كل الأشياء الحسنة، فلا أن للتشبيه مزية أخري تفيد السامع تصويرًا وتخييلاً لا يحصل من المدح المطلق، وهذا الضرب له موقع بديع في الإطناب. جـ ـ أن يذكر الموصوف فيؤتي في ذلك جمعان متداخلة خلا أن كل واحد من تلك المعاني مختصٌّ بخصِّيصةٍ لا تكون للآخر ومثاله قوله أبي تمام يصف رجلاً أنعم عليه: مِنْ منَّةٍ مشهورة وصنيعةً ... بِكْرٍ وإحسان أغرَّ مُحَجّلِ فقوله: منَّة مشهورة، وصنيعة بكر، وإحسان أغر محجّل، معانٍ متداخلة لأن المنّة والإحسان والصنيعة كلها أمور متقاربة في بعضها من بعض. وليس ذلك من قبيل التكرار. لأنها إنما تكون تكريرًا لو اقتصر على ذكرها مطلقة من غير صفة كأن يقول مِنَّة وصنيعة وإحسان. ولكنه وصف كل واحدة منها بصفة تخالف الأخرى. فقال: مِنَّة مشهورة لكونها عظيمة الظهور لا يمكن كتمانها، وقوله: ((صنيعة بكر)) وصفها بالبكارة أي أن أحدًا من الخلق لا يأتي بمثلها، وقوله: ((وإحسان أغرَّ محجل)) فوصفه بالغُرَّة ليدل على تعداد محاسنه وكثرة فوائده: فلما وصف هذه المعاني المتداخلة الدالة على شيء واحد بأوصاف متباينة صار ذلك إطنابًا. د ـ ومن الإطناب أن المتكلم، إذا أراد الإطناب فإنه يستوفي معاني الغرض المقصود من الرسالة أو الخطبة أو تأليف كتاب أو قصيدة أو غير ذلك من فنون الكلام، وهذا من أصعب هذه الضروب الأربعة وأدقها مسلكًا، وبه تتفاضل المراتب، ويتفاوت الأدباء في أساليب النظم والنثر. ويكون الإطناب بأمور كثيرة منها: 1) الإيضاح بعد الإبهام. نحو قوله تعالي: {أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}. 2) عطف الخاص على العام. ويكون للتنبيه على فضل الخاص حتى كأنه من جنس العام. لما امتاز به عن سائر أفراده من الأوصاف، تنزيلاً للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات. نحو: قوله تعالي: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} فقد خصَّ الله سبحانه وتعالي الروح وهو (جبريل) بالذكر مع أنه داخل في عموم الملائكة تكريمًا له وتعظيمًا لشأنه، كأنه من جنس آخر. 3) عطف العام على الخاص ويكون لإفادة العموم والشمول نحو: قوله تعالي: {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ} وذلك لإفادة الشمول من العناية بالخاص لذكره مرتين: مرة وحده، ومرة مندرجًا تحت العام. 4) التكرير والتكرير البليغ ما كان لنكتة بلاغية. كتأكيد الإنذار في نحو قوله تعالي: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} وفي ثم دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول تنزيلاً لبعد المرتبة لبعد الزمان واستعمالاً للفظ (ثم) في التدرج في الارتقاء. 5) الإيغال: قال بعضهم الإيغال: هو ختم البيت بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها وعلى هذا فإنه يختص بالشعر. وقيل: لا يختص بالشعر. ومثلوا له بقوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْم اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} فقول: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} مما يتم المعنى بدونه لأن الرسول مهتدٍ لا محالة، إلا أن فيه زيادة حث على الاتباع وترغيب في الرسل. 6) التذييل هو تعقيب الجملة بجملة أخرى تشتمل على معناها بعد إتمام الكلام لإفادة التوكيد، وتقريرًا لحقيقة الكلام. نحو قوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}. 7) التكميل ويسمى الاحتراس وهو أن يأتي في كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفعه, وذلك الدافع قد يكون في وسط الكلام كقول الشاعر: فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمةٌ تهمي فلما كان المطر قد يؤول إلى خراب الديار وفسادها أتى بقوله: (غير مفسدها) دفعًا لذلك. وقد يأتي في آخر الكلام كما في قوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}. 8) التتميم: وهو أن يذكر الشاعر المعنى, فلا يدع من الأحوال التي تتم بها صحته, وتكمل معها جودته شيئًا إلا آتى به مثل قول نافع بن خليفة الغنوي: رجالٌ إذا لم يقبل الحقٌ منهم ويعطوه عاذوا بالسيوف القواطع وإنما تمت جودة المعنى بقوله: (ويعطوه) وإلا كان المعنى منقوص الصحة. وفي قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} فقوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} تم المعنى. 9) الاعتراض: هو أن يؤتى في أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين معنى بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب لنكتة سوى دفع الإيهام كالتنزيه في قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} فقوله: {سُبْحَانَهُ} جملة لأنه مصدر بتقدير الفعل وقعت أثناء الكلام. (معجم البلاغة العربية) (388, 414) , (البلاغة العربية) (2/ 60ـ 69, 76, 80).

والمساواة, (¬1) ثم استدلوا على انحصار علم المعاني في هذه الأبواب بما لا يبقى بعده شك ولا ريب لكل عارف, ثم ذكروا حدَّ علم البيان (¬2) على وجه يشملُ كل ماله دخْلٌ في هذا العلم, وذكروا الدلالةَ الوضعيةَ والعقليةَ وأقسامَهُما ولوازمَهُما على أتمِّ إيضاح, ¬

(¬1) المساواة: أن تكون المعاني بقدر الألفاظ, والألفاظ بقدر المعاني, لا يزيد بعضها عن بعض. والمساواة هى المذهب المتوسط بين (الإيجاز والإطناب ومما في القرآن من المساواة قوله الله تعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} أي محبوسات على أزواجهن. وقوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}. (معجم البلاغة العربية) (ص 290). (¬2) تقدم توضيحه.

وأبلغ بيان. ومعلوم انحصارُ الدلالات في الدلالتين, فلا يبقى شيء من الدلالات إلاَّ وهو مندرج تحت ذلك مبيَّنٌ أكملَ بيانٍ, فبرهن عليه بأوفى برهان, بحيث لا يخرج عنه شيء, ولا يشذُّ فيه شاذٌّ. فقول صاحب الفوائد الغياثية أن مقتضياتِ الأحوال مما لم يضبطْ فيما رآه من كتب الفنِّ إن أراد لم يضبطْ بأمر كل ما يندرج تحته جميعُ الأفراد فباطلٌ, فقد ضبطت بالقوانين الكلية المنطبقة على جميع الأفراد كما شأن كل فنٍّ من فنون العلم, وإن أراد تعدادَ الأمثلة, وتكرارَ إيراد الصور لمجرَّد الإيضاحِ فمثلُ هذا قد أغنى عنه القانون الكلِّيُّ المنطبقُ على أفراده, والاعتراضُ بمثله غفلةٌ شديدة [1أ]، وذهول عن قواعد الفنونِ العلميةِ بأسْرها، فإنَّ أهل النحو أو الصرف مثلاً لو أرادوا استيعابَ كلِّ الأمثلةِ، وجميعَ الصور لم يتمكَّنوا من ذلك قطٌُ، بل ضبطوا علم الصرف بضابط كليٍّ اندرج تحته جميع الأفراد، وكذلك علماءُ النحو صنعوا كذلك، وكذلك علماء المنطق، وعلماء الأصول، بل العلوم كلُّها هكذا، ومن زعم ما يخالفُ هذا فهو لا يعرف هذه العلومَ لا جملةً ولا تفصيلاً نعم علم اللغة من حيثُ لفظُها هو الذي يحتاج إلى استيعاب ما ورد عن العرب لأنه لم يكن هناك ضابطٌ كليٌّ، بل المتعةُ ذِكْرُ كلِّ لفظٍ للاطلاعِ على هذه اللغةِ العربية. إذا عرفت هذا فاعلم أنَّ الفن الثالثَ من فنون هذا العلم هو علم البديع (¬1) الذي يعرف به وجوهُ تحسين الكلام، كائنًا ما كان. ولا وجه لاقتصار المصنِّفين في البديع على أنواعٍ مخصوصة، ولا لاقتصار أهل البديعياتِ على تلك الأنواعِ التي أوردوها في نظمِهم، ¬

(¬1) علم البديع: علم تعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية مطابقته لمقتضى الحال. ووجوه تحسين الكلام التي يبحث فيها (علم البديع) قسمان: قسم يرجع إلي المعنى وقسم يرجع إلى اللفظ، فهو علم المحسنات اللفظية، والمحسنات المعنوية. (معجم البلاغة) (ص69).

بل ما كان له مدخل في التحسين كان من علم البديع، ويسميه مستخرجُه بأي اسم كان مما فيه مناسبة لذلك النوع. وقد جمعتُ كراسةً ذكرتُ فيها أنوعًا غيرَ داخلةٍ في الأنواع التي ذكرها علماء الفن، وشعراءُ البديعياتِ (¬1) وأخبرنا بعضُ علماء الديار القاصية أنها قد انتهت عندهم إلي سبعِ مائة نوعٍ، (¬2) وذلك غير غريب، فإنَّ في كلام العرب نظمًا ونثرًا ما يحملُ مثل ذلك، ويختلف باختلاف المسمَّيات. والله أعلم انتهى من خط محرره ـ سلمه الله تعالى ـ. ¬

(¬1) قالوا إنَّ أوَّل من دوَّن في هذا الفن (عبد اله بن المعتز العباسي) المتوفي سنة 274هـ إذ جمع ما اكتشفه في الشعر من المحسنات وكتب فيه كتابًا جعل عنوانه عبارة (البديع) ذكر في كتابه هذا سبعة عشر نوعًا وقال: ما جمع قبلي فنون البديع أحد، ولا سبقني إلى تأليفه مؤلف، ومن رأي إضافة شيء من المحاسن إليه فله اختياره. وجاء من بعده من أضاف أنواعًا أخر، منهم: جعفر بن قدامة (ت سنة 319هـ ألف كتابًا سماه (نقد قدامة) ذكر فيه ثلاثة عشر نوعًا من أنواع البديع إضافة إلى ما سبق أن اكتشفه عبد الله بن المعتز العباسي). (¬2) أوصل الأنواع إلى مئة وأربعين نوعًا (صفي الدين بن عبد العزيز بن سرايا السَّبنسي الطائي الحلي) (677 ـ 750هـ). (البلاغة العربية) (2/ 369 ـ 370). انظر (الرسالة) رقم (204) من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني) الآتية.

الروض الوسيع في الدليل المنيع على عدم انحصار علم البديع

(204) 22/ 5 الروضُ الوسيع في الدليل المنيع على عدم انحصارِ علمِ البديع تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديث محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: (أ) 1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: الروض الوسيع في الدليل المنيع على عدم انحصار علم البديع. 2 ـ موضوع الرسالة: لغة عربية. 3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ذي الصنع البديع والشأن الرفيع والفضل الوسيع. 4 ـ آخر الرسالة: ومن زاد زاد الله في حسناته حرره مؤلفه غفر الله له. 5 ـ نوع الخط: خط نسخي مقبول. 6 ـ عدد الصفحات:8 صفحات + صفحة العنوان. 7 ـ عدد الأسطر في الصفحة 22 سطرًا. 8 ـ عدد الكلمات في السطر: 8 ـ 10 كلمة. 9 ـ الرسالة من المجد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

وصف المخطوط: (ب) 1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: الروض الوسيع في الدليل المنيع على عدم انحصار علم البديع. 2 ـ موضوع الرسالة: لغة العربية. 3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ذي الصنع البديع والشأن الرفيع والفضل الوسيع، والجود المريع ... 4 ـ آخر الرسالة: أمتعنا الله بطول حياته وكان معه في جميع حالاته، وأسكنه بعد العمر الطويل فسيح جنّاته آمين الله آمين. 5 ـ نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 ـ عدد الصفحات:8 صفحات + صفحة العنوان. 7 ـ عدد الأسطر في الصفحة 23 سطرًا. 8 ـ عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات. 9 ـ الرسالة من المجد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله ذي الصُّنِع البديع، والشأن الرفيع، والفضلِ الوسيع، والجود المَريع والصلاة والسلام على الشفيع المشفَّع وعلى آله وصحبِه السُّجَّد الرُّكَّع. وبعد: فإنَّ علمَ البديعِ (¬1) الذي هو ثالثُ فنونِ البيانِ المشتمل على ما يُعرف به وجوهُ [مجيء] (¬2) الكلام [بعد رعاية] (¬3) المطابقة ووضوحِ الدِّلالةِ، قد جمع المصنّفون في علم المعاني من ذلك عددًا يسيرًا بالنسبة إلى ما ذكره أهلُ البديعيَّاتِ، والكلُّ بالنسبة إلى ما يحتمله الكلامُ والتحسينُ يسيرٌ غيرُ كثير، حرَّرْتُ هذه النُّبذةِ كالبُرهان على هذه الدعوى فتحًا للباب ورفعًا للحجاب، وتنشيطًا لِهمَم ............................................ ¬

(¬1) البديع في اللغة: كلمة (بديع على وزن ((فعيل)) تأتي لغة بمعنى اسم الفاعل وبمعنى اسم المفعول. يقال لغة: بدع فلان الشيء يبدعه بدعًا إذا أنشأه على غير مثال سبق، فالفاعل للشيء بديع، والشيء المفعول بديع أيضًا. ويقال أيضًا: أبدَع أي: أتي بما هو مبتكر جديد بديع على غير مثال سبق فهو مبتدع والشيءُ مُبْدعٌ. وقد أطلقت كلمة (البديع) على العلم أو الفن الجامع والشارح للبدائع البلاغية المشتملة على المحسنات المعنوية، والمحسنات اللفظية من منثورات جمالية في الكلام، فما لم يلحق بعلم المعاني، لا بعلم البيان. فعلم البديع اصطلاحًا: هو العلم الذي تعرف به المحسنات الجمالية المعنوية واللفظية المنثورة، التي لم تلحق بعلم المعاني، ولا بعلم البيان. أ) المحسنات الجمالية المعنوية: هي ما يشتمل عليه الكلام من زينات جمالية معنوية قد يكون بها أحيانًا تحسين وتزيين في اللفظ أيضًا ولكن تبعًا لا أصالة. ب) المحسنات الجمالية اللفظية: هي ما يشتمل عليه الكلام من زينات جمالية لفظية قد يكون بها تحسين وتزيين في المعنى أيضًا، ولكن تبعًا لا أصالة. (¬2) في (أ) تحسين. (¬3) في (ب) بُعيد عامة.

[الطالبين] (¬1) أهل الفنِّ وترغيبًا للمشتغلين به المتوفِّرين على التوسُّع منه والاستكثارِ من أنواعه، فإن هذا فنٌّ لا حجْرَ [فيه] (¬2) ولا منْعَ من الاستزادة منه بل كلُّ ما له مدخلٌ في التحسين فهو بالتنبيه عليه قَمين، والفنُّ في مواضعه واصطلاح أهله فن توسعةٍ وتكثير لا فنُّ حصرٍ وتحجير، فانظُر يا مَن له فهمٌ مُرتاضٌ بلطائف الكلامِ إلى ما اشتملت عليه هذه الأبياتُ التي ذكرتُها في هذا المقام [1]. [فالذي] (¬3) ينبغي أن تسمى شهادة الديار بما أفاض عليه من الآثار: آلا إنَّ وادي الجزعْ أضحى ترابُه ... مِن المسّ كافورًا وأعوادُه رَنْدا وما ذاكَ إلاَّ أنَّ هندًا عشيَّةً ... تمشَّت وجرَّتْ في جوانبه بُرْدًا [والذي] (¬4) ينبغي أن يسمي التأنيس بالتأسيس: وأذكُرُ أيامَ الحِمى ثم أنثني ... على كبدي مِن خشيةٍ أن تصَدَّعا وليستْ عشيّاتُ الحِمى برواجعٍ ... إليكَ ولكنْ خلِّ عينيكَ تَدْمَعا [والذي] (¬5) ينبغي أن يسمّى التهديد مع [التسديد] (¬6) وأنتَ وحسبي [قد] (¬7) تعلم أنَّ لي ... لسانًا أمامَ المجْدِ يبني ويهدمُ وليس حليمًا مَن تُقَبِّل كَفََّة ... فيرضى ولمنْ مَن يُعضُّ فيحلمُ [1أ] [والذي] (¬8) ينبغي أن يُسمَّى قلبَ الوسيلة وإن كانت جليلة: يقولون خبِّرنا فأنت أمينُها ... وما أنا إنْ خبَّرتُهم بأمينِ ¬

(¬1) زيادة من (ب). (¬2) زيادة من (أ). (¬3) في (أ) هذا. (¬4) في (أ) هذا. (¬5) في (أ) هذا. (¬6) في (أ) التشييد. (¬7) في (أ) أنت. (¬8) في (أ) هذا.

[والذي] (¬1) ينبغي أن يسمى التعريضَ بالذم لمن كان وجودُه كالعدم: أيا شجَرات بالأباطِح من منًى ... على شط وادي البانِ مُشُتبكاتِ إذا لم يكنْ فيكنّ ظلٌّ ولا جنًى ... فأبعدكُنَّ الله من شَجَرات والذي ينبغي أن يُسمَّى تهوينَ العليل مع القطعِ [بملامة] (¬2) الجليل: إذا كنتَ قد أيقنتَ أنك هالكٌ ... فمالَكَ ممَّا دون ذلك تُشْفِقُ ومما [جناه] (¬3) المرءُ ذو الحلم أنه ... يرى الأمرَ حتْمًا واقعًا ثم [يعْلق] (¬4) [والذي] (¬5) ينبغي أن يسمى التجهيل بركوب غير السبيل: وكلُّ امرئ يدري مواقعَ رَشْدِه ... [ولكنما الأعمى] (¬6) أسيرُ هواهُ هوى نفسِه يُعميه عن قبح عينِه ... وينظُرُ عن حدْقٍ عيونَ سواهُ [والذي] (¬7) ينبغي أن يسمى تهوينِ الخطْب بما لا بد منه من الكرب: أرى الناسَ في الدنيا كراعٍ تنكَّرتْ ... مراعيه حتى ليس فيهنّ مَرْتعُ فماءٌ بلا مرعى ومرعى بغيرها ... وحيث يرى ماءً ومرعً فيتْبعُ [2] [والذي] ينبغي أن يسمى دفعَ الجحود [بلازم] (¬8) الوجود: وقائلةٍ يا راكبَ الخيلِ هل ترى ... أبا ولدي عنه المنيةُ [خلَّتِ] (¬9) فقلتُ لها لا علْمَ لي غيرَ أنني ... رأيتُ عليه المشْرفيَّةَ سُلَّتِ ¬

(¬1) في (أ) هذا (¬2) في (أ) بملابسة. (¬3) في (أ): يشين. (¬4) في (أ) يقلق. (¬5) في (أ) هذا. (¬6) في (أ) ولكنه أعمى (¬7) في (أ) هذا. (¬8) في (أ) بلوازم. (¬9) في (أ) زلت.

ودارتْ عليه الخيلُ [طوقين] (¬1) والظُّبا ... وحامتْ عليه الطيرُ ثم تدلَّتِ فصكَّتْ جبينا كالهِلال إذا بدا ... وقالتْ لك الويلات ثم توَّلتِ [والذي] (¬2) ينبغي أن يسميّ المقابلة بما يستلزم المفاضلة: [لو كنتُ من مازنٍ لم تستبحْ إبلي ... بنو اللَّقيطةِ من ذُهْلِ بن شيبانا قومٌ إذا الشر أبد ناجذيه لهم ... طاروا إليه جماعاتٍ ووحْدانا يَجزون من ظلم أهل الظلمِ مغفرةً ... ومن إساءة أهلِ السوء إحسانا إذًا لقامَ بنصري معشرٌ خُشُنٌ ... عند الكريهةِ إن ذلوا ببرهان لكنَّ قومي وإن كانوا ذوي عددٍ ... ليسوا من الشرِّ في شيء وإن هانا كأنَّ ربَّك لم يخلقْ لخشيته ... سواهُم من جميع الخلقِ إنسانا [1ب] (¬3). [والذي] (¬4) ينبغي أن يسمّى الكلامَ المادح مع التفاوت القادح: كنّا الأَيْمنينِ إذا التقينا ... وكان الأيسرَين بنو أبينا فأبوا بالنِّهاب بالسَّبايا ... وأُبْنَا بالملوك مُصفَّدينا (¬5) [والذي] ينبغي أن يسمّى الأزْرى بمن ارتكب بما هو بالإثم أحرْى. ¬

(¬1) في (أ) دروين. (¬2) في (أ) هذا. (¬3) ترتيب الأبيات في النسخة (أ) كالتالي: لو كنتُ من مازنٍ لم تستبحْ إبلي ... بنو اللَّقيطةِ من ذُهْلِ بنِ شيبانا إذًا لقامَ بنصري معشَرٌ خُشُنٌ ... عند الكريهةِ إن ذو لوثة هانا قومٌ إذا أبدا الشر ناجذيه لهم ... طاروا إليه زرافاتٍ ووحْدانا لكنَّ قومي وإن كانوا ذوي عددٍ ... ليسوا من الشرِّ في شيء وإن هانا كأنَّ ربَّك لم يخلقْ لخشيته ... سواهُم من جميع الخلقِ إنسانا (¬4) في (أ) هذا. (¬5) لعمرو بن كلثوم. انظر (المعلقات العشر وأخبار شعرائها). اعتنى بجمعه أحمد بن الأمين الشنقيطي.

سقوني وقالوا لا تُغنِّ ولو تسقى ... جبالُ حُنين ما سَقوني لغنّتِ معتّقةً كانت قريشٌ [تعافُها] (¬1) ... فلما استحلُّوا قتلَ عثمانَ حلّتِ [والذي] (¬2) ينبغي أن يسمّى استدراك ما فرَطَ بما يُنبَّه على الغَلَط: رمتْني على عمَدٍ بثينةُ بعدما ... تولَّى شبابي وارجَحَنّ شبابُها ولكنما تَرْمَيْنَ نفسًا مريضة ... لعزة منها صفْوُها ولُبابُها [والذي] (¬3) ينبغي أن يسمّى الإرشاد إلى ترك الشرّ بالتخويف بما يتعقَّبُه من الضَرّ. لا تهتِكَنْ من مساوي الناس ما ستَروا ... فيهتِكَ الناسُ سِترًا من مساويكا واذكر محاسنَ ما فيهم إذا ذُكِروا ... ولا تعِبْ أحدًا منهم بما فيكا [3] [والذي] (¬4) ينبغي أن يسمَّى الإرشاد إلى تيسُّر الانقياد: هو السَّيلُ إنْ واجَهْتَه انقدْتَ طَوْعَهُ ... ويقْتادُه من جانبيه فيتْبَعُ ومثلُه: هو السيفُ إنْ لاينْتَه لان لمسُه ... وحَّداه إنْ خاشَنْتَه خَشِنانِ [والذي] (¬5) ينبغي أن يسمي التهديد بالمعنى القريب والبعيد: وعلى عدوك يا بن بنت محمدٍ ... رصد إن ظنّوا الصبح والإظلام فإذا تنبه رعته وإذا غفا ... سلَّتْ عليه سيوفَك الأحلامُ [والذي] (¬6) ينبغي أن يسمى التآلفُ على التكافف: بنفسيَ مَن لو مرَّ بَرْدُ بنانِه ... على كبدي كانت شفاءً أناملُهْ ومن هابني في كل شيء وهبْتُه ... فلا هوَ يعطيني ولا أنا سائلُهْ [والذي] (¬7) ينبغي أن يسمّى تنزيلَ الإشارة بمنزلة العبارة: [له لحظات من خفايا سريره ... أُذاكِرُها فيها عِقابٌ ونائلٌ ¬

(¬1) في (أ) تصرفها. (¬2) في (أ) هذا. (¬3) في (أ) هذا. (¬4) في (أ) هذا. (¬5) في (أ) هذا. (¬6) في (أ) هذا. (¬7) في (أ) هذا.

فأمَّا الذي أمَّنتُ أمَنَ الرَّدى ... وأما الذي أوعدْتُ بالثكل ثاكل كريمٌ له وجهان: وجْهٌ لدى الرضا ... أسِيلٌ ووجهٌ في الكريهة باسلُ وليس بمعطي العفْو عن غير قدرةٍ ... ويعفو إذا أمْكنَتْه المقاتِلُ [2أ] (¬1) [والذي] (¬2) ينبغي أن يسمّى الامتحان لمحاسن الإنسان: تُقلِّبُُهُ لِنخْبَرَ حالتيه ... فتَخْبَرَ منهما كَرمًا وطِيبًا نميلُ على جوانبه كأنّا ... إذا ملنا نميل على أبينا [والذي] (¬3) أن يسمى الاستدلالَ على الكرم بالقُرب في الغنى والبعد في العدم أسَدٌ ضارٍ إذا هِجْتَه ... وأبٌ برٌّ إذا ما قدرَا يعرِف الأبعدَ إن أثرى ولا ... يعرِف الأقربَ إمَّا افتقرا [والذي] (¬4) ينبغي أن يسمى ربْطَ الاستحسان بما يُفيد الاطمئنان: إذا بلغ الرأيُ المشورةَ فاستعنْ ... برأي نصيحِ أو نصيحةِ حازمِ ولا تجعل الشورى عليك غضاضةً ... فإن الخوافي قوّةٌ للقوادم [والذي] (¬5) ينبغي أن يسمّى دفعَ الضَّعف ببعض العُنفُ: تراهم يغمزون من اشتركوا ... ويجتبون من صدَق المصاعا ومثلُه [قول القائل] (¬6): لا يسْلم الشرفُ الرفيعُ من الأذى ... حتى يُراقَ على جوانبه الدمُ ¬

(¬1) ترتيب الأبيات في النسخة (أ) كالتالي: له لحظات من خفايا سريره ... أذاكرها فيها عقاب ونائل كريم له وجهان وجه لدى الرضا ... أسيل ووجه في الكريهة باسل فأمَّا الذي أمنت أمنة الردى ... وأما الذي أوعدت بالثكل ثاكل وليس بمعطى العفو عن غير قدرة ... ويعفو إذا ما أمكنته المقاتل (¬2) في (أ) هذا. (¬3) في (أ) هذا. (¬4) في (أ) هذا. (¬5) في (أ) هذا. (¬6) في (أ) هذا.

ومثلهُ أيضًا: وإنما الناسُ لا تصفو مودّتُهم ... حتّى تُذيقَهُم كاسًا من الألمِ ومثلُه أيضًا: مَن ظلم الناسَ تحامَوا ظُلمَه ... وعز فيهم جانباه وأحظا (¬1) ومثلُه أيضًا: ومَن لم يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدَّم ومن لا يظلم الناسَ يُظلمِ (¬2) ومثلُه أيضًا: وفي الشر نجاة حين لا يُنجيك إحسانُ ... وبعضُ الحِلْمِ عند الجهلِ للذّلَة إذعانُ (¬3) [والذي] (¬4) ينبغي أن يُسمّى التحذير بما يستلزم التكثير: ولا تُفشِ سِرَّكَ إلاَّ إليكَ ... فإن لكل نصيح نصيحًا فإني رأتي غواة الرجال ... لا يتركون إذْ نما صحيحًا ومثله أيضًا: إذا ضاق صدر المرئ عن سر نفسه ... فسر الذي مستودع السر أضيق [والذي] (¬5) ينبغي أن يسمّي المنذِرَ من المبادئ الحسن مع العواقب الخشنِة: الحربُ أولَ ما يكون فتيّةٌ ... تسْعى لريبتها لكل جَهولِ سمطًا حوَتْ رأسها وسكرت ... مكروهةٌ للشمّ والتقبيل حتى إذا حمَلَتْ وشبّ ضِرامُها ... عادت عجوزًا غير ذات خليل ¬

(¬1) غير واضح البيت في المخطوط. (¬2) للشاعر زهير بن أبي سلمى في معلقته. انظر: (المعلقات العشر) (ص50). (¬3) لعل البيت: وفي سوء نجاة حين لا ينجيك إحسانُ ... وبعض الحلم عند الجهل للذلة إذعان (¬4) في (أ) هذا. (¬5) في (أ) هذا.

[والذي] (¬1) ينبغي أن يسمّي المكافة للآفة بالآفة: ولا أتمنى الشر [لو كان] (¬2) تاركي ... ولكن متى أحمل على الشر أركب (¬3) [والذي] (¬4) ينبغي أن يسمّي التصير لنيل الشرف الكبير: أبت لي همتي وأبى إبائي ... وأخذ المجدَ بالثمن الربيحِ وقولي كلما جشأت وجاشت ... ويدَك تُحْمدي أو تستريحي وإقدامي على المكروه نفسي ... وضَرْبي هامةَ البطلَ المُشيحِ (¬5) فإما رُحتُ بالشرف المعلى ... وإمّا رُحتُ بالموتُ المريح [2ب] ومثلُه [يعني التصبير] (¬6) قولُ الآخر: أقول لها وقد طارتْ شعاعًا ... من الأبطال وَيْحكِ لا تُراعي فإنَّك لو سألتِ بقاءَ يومٍ ... على الأجل الذي لك لم تُطاعي ومثلُه أيضًا: فتًى مات بين الطعنِ والضربِ ميتةً ... تقوم مقامَ النصرِ إنْ فُقِد النصرُ فأثبتَ في مستنقعِ الموتِ رِجْلَه ... وقال لها من تحت أخْمصِكِ الحشرُ تردى ثياب الموتِ حُمرًا فما أتى ... لها الليلُ إلاَّ وهي من سندسٍ خُضْرُ ومثلُه أيضًا: لا بدّ أن أركَبَها صَعْبةً ... وقاحةً تحت عَلامٍ وَقاحْ أُجهِدُها أن تنثني بالرَّدى ... دون الذي أمَّلتُ أو بالنّجاحْ ¬

(¬1) في (أ) هذا. (¬2) في (أ) والشر. (¬3) كذا في المخطوط غير واضح. (¬4) في (أ) هذا. (¬5) موقعه بعد البيت الأول كما في المخطوط (أ). (¬6) زيادة من (ب).

إما فتًى نال المُنى فاشتقى ... أو بطلٌ ذاق الرَّدى فاستراحْ [والذي] (¬1) ينبغي أن يسمّى تنزيهَ الحبيب عن التشريك للجَنيب: وكيف ترى ليلى بعينٍ ترى بها ... سواها وما طهرَّتَها بالمدامعِ وتلتذّ منها بالحديث وقد جرى ... حديثُ سِواها في خروت المسامعِ أجَلَّكِ يا ليلى عن العين أنما ... أراكِ بقلبٍ خاشعٍ لك خاضع ومثلُ ذلك: إذا كان هذا الدمعُ يجري صبابةً ... على غير ليلى فهو دمْعٌ مُضيَّعٌ [والذي] (¬2) ينبغي أن يسمّى تحذير الرفيع عن عداوة الوضيع: بلاءٌ ليس يُشْبِهُه بلاءُ ... عداوةُ غير ذي حسَبٍ ودينِ يُبيحُك منه عرضًا لم يصُنْه ... [ويُوقِعُ] (¬3) منك في عِرْض مَصونِ [والذي] (¬4) ينبغي أن يسمّى الترغيبَ في البداية ببيان حالِ النهاية: لا تبْخَلَنَّ بدُنيا وهي مقبلةٌ ... فليس ينقُصُها التبذيرُ والسَّرَفُ فإن تولَّيتْ [فأجْري أن [عود بها] (¬5)] (¬6) ... فالحمدُ منها إذا ما أدبَرَتْ خَلَقُ [6] [[والذي] (¬7) ينبغي أن يسمى التنفير بذكر النظير: لا تُضعْ من عظيم قدْرٍ وإن كنـ ... ـت مُشارًا إليه بالتعظيمِ ولعُ الخمرِ بالعقول وفي الخمر ... يتخذها وبالتحريم (¬8)] (¬9) والذي ينبغي أن يسمّى تحمُّلَ الثقيل لنيل الثناء الجزيل: ¬

(¬1) في (أ) هذا. (¬2) في (أ) هذا. (¬3) في (أ) ويرتع. (¬4) في (أ) هذا. (¬5) لعله (أعود بها). (¬6) في (أ) (فأحرى أن تجود بها). (¬7) في (أ) هذا. (¬8) كذا في المخطوط غير واضح. (¬9) زيادة من (ب).

إذا المرءُ لم يدْنَسْ من اللؤُم عرِضُه ... فكلُّ رداءٍ يرتديه جميلُ إذا المرء أعيتْه السيادةُ ناشئًا ... فمطلَبُها كهلاً عليه شديد وإن هو لم يحمِلْ على النفس ضيمَها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل [3أ] (¬1) [والذي] (¬2) ينبغي أن يسمى شهادةَ الجماد لمن كان من الأجواد: يا أكرمَ الناسِ من عُجْمٍ ومن عرَبٍ ... بعد الخليقةِ يا ضِرغامَةَ العربِ أفنيتَ مالكَ تُعطيه وتنهبُه ... يا آفة الفَضّةِ البيضاء والذهَبِ إن السِّنانَ وحدَّ السيفِ لو نطقا ... لأخبرا عنك في الهيجاء بالعجب [والذي] (¬3) ينبغي أن يسمّى تجويدَ الحِلية للظَّفر بالعَطايا الجليلة: وامرأةٍ بالبخل قلنا لها اقصِري ... فليس إلى ما تأمُرين سبيلُ فِعالي فِعالُ المُكْثرين تجمُّلاً ... ومالي كما قد تعلمينَ قليل وكيف أخافُ الفقْرَ أو أُحرَمُ الغنى ... ورأيُ أميرِ المؤمنين جميلُ ومثلُه قولُ الآخر: إليك عني فقد كلَّفتني شطَطًا ... حَمْلَ السلاحِ وقولَ الدّراعين قِفِ أمِنْ رجال المنايا خلْتَني رجلاً ... أو أن قلبي في جَنْبيْ أبي دُلَفِ [والذي] (¬4) ينبغي أن يسمّى الهجْوَ المَهين بمدح القَرين: لشتّان ما بين البزيدين في الندا ... بزيد سُليمٍ والأغرّ ابن حاتمِ فَهَمُّ الفتى الأزْديّ إنفاقُ مالِه ... وهمُّ الفتى القيسيِّ جمعُ الدراهم فلا يحسَبِ التَّمتامُ أني هجَوْتُه ... ولكنَّني فضَّلْتُ أهلَ المكارم ¬

(¬1) ترتيب الأبيات في النسخة (أ) كالتالي: إذا المرءُ لم يدْنَسْ من اللؤُم عرِضُه ... فكلُّ رداءٍ يرتديه جميلُ وإن هو لم يحمِلْ على النفس ضيمَها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل إذا المرء أعيتْه السيادةُ ناشئًا ... فمطلَبُها كهلاً عليه شديد (¬2) في (أ) هذا. (¬3) في (أ) هذا. (¬4) في (أ) هذا.

يُعَدّ الناسبون إلى تميمٍ ... بيوتَ المجدِ أربعَةَ كِبارا يَعُدّون وآل سعدٍ وعمرًا ... وعَمرًا ثم حنظلةَ الخيارا ويذهبُ بينهما المُريُّ لغْوًا ... [كما ألغيتَ في الديَّة] (¬1) الحُوارا ومن هذا قول الآخر: بين [الغربونين] (¬2) بون في فعالهما ... هذا يُعطي وهذا يأخذ الصَّدَقهْ [والذي] (¬3) ينبغي أن يسمَّى تحبيب ما به الإيجاع لما فيه من الارتفاع: لو كان يقْعُد فوق النجمِ من شرَفٍ ... قومٌ بأولهم أو مجْدِهم قعَدوا مُحَسَّدون على ما كان من نِعَمٍ ... لا ينزعْ اللهُ عنهم ما به حُسِدوا [7] ومن هذا: يجود بالنفس أن ضنَّ الجبان بها ... والجودُ بالنفس أقصى غاية الجودِ ومنه: لولا المشقةُ ساد الناسُ كلُّهُمُ ... الجودُ [يفقر] (¬4) والإقدامُ قتَّالُ [والذي ينبغي] (¬5) تنشيط المقصودِ إليه بأنه لا كريمَ إلاَّ مَن يدُلّ عليه: ولقد ضربنا في البلاد فلم نجدْ ... أحدًا سواكَ للمكارم ينُسبُ وإكرامًا ما ندري إذا ما فاتنا ... طلبٌ إليك من الذي نتطلّبُ فاصبِرْ لعادتك التي عوَّدْتَنا ... أوْلاً فأرشدنا إلى من نتقرَّبُ [3ب] (¬6) ¬

(¬1) في (أ) (كماء الغيب في القرية). (¬2) الوزن مكسور ولعل الأصل بين الغريبين أو الفريقين ونحو ذلك. (¬3) في (أ) هذا. (¬4) في (ب) (يفنى). (¬5) في (أ) هذا ينبغي أن يسمى. (¬6) ترتيب الأبيات في النسخة (أ) كالتالي: والله ما ندري إذا ما فاتنا ... طلب إليك من الذي نتطلب ولقد ضربنا في البلاد فلم نجدْ ... أحدًا سواكَ للمكارم ينُسبُ فاصبِرْ لعادتك التي عوَّدْتَنا ... أوْلاً فأرشدنا إلى من نذهب

[والذي] (¬1) ينبغي أن يسمَّى المدح بجميع الأوصاف التي يتنافس فيها الأشراف: هم القوم إن قالوا أصابوا وإنْ دُعُوا ... أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأنزلوا وما يستطيع الفاعلون فِعالَهم ... وإن أحسنوا في الثنيات وأجملوا [والذي] (¬2) ينبغي أن يسمَّى القول الفصْل المبنيّ عن الثناء الجزْل: عجبتُ لحرّاقهَ بنِ الحسيـ ... ـن كيف تسير ولا تغْرَقُ وبحرانِ: من تحتها واحدٌ ... وآخَرُ من فوقها مُطْبِقُ وأعجَبُ من ذاك عيدانُها ... وقد مسّها الكفُ لا تورق [والذي] (¬3) ينبغي أن يسمَّى حسن الاعتذار مع تعظيمِ المقْدار: أتاني أبيتَ اللعْنَ أنك لمتني ... وتلك التي تصطك منها المسامعُ فبتُ كأني ساوَرَتني ضئيلةٌ ... من الرُّقش في أنيابها السمُّ ناقِعُ أكلَّفْتَه ذنبَ امرئٍ وتركْتَه ... كذا الغِرُّ يكْوي غيرَه وهو راتِعُ فإنك كالليل الذي هو مدْركي ... وإن خلْتُ أن المنتأى عنك واسعُ ومثل هذا [قوله] (¬4) وقد سمّاه بعضُ أهلِ البيان باسم آخرَ ولا تزاحم بين المُقتضيات: [ولست بمستبقٍ أخًا لا تلمُّهُ ... على شعثٍ أي الرِّجالِ المهذّبُ؟ فإن أكُ مظلومًا فعبدٌ ظلمته ... وإن تك ذا عُتبي فمثلك يُعْتِبُ حَلَفْتُ فلم تتركْ لنفسكِ ريبةً ... وليس وراء اللهِ للمرء مذهَبُ لئن كنتَ قد بُلِّغتَ عني جناية ... لمُبْلِغُكَ الواشي أغَشُّ وأكذبُ ألم تر أن الله أعطاك سورةً ... ترى كلَّ مَلْكٍ دونها يتذَبْذبُ ¬

(¬1) في (أ) هذا. (¬2) في (أ) هذا. (¬3) في (أ) هذا. (¬4) زيادة من (ب).

فإنك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ ... إذا طلعتْ لم يبقَ منهم كوكبُ] [8] (¬1) [والذي] (¬2) ينبغي أن يسمَّى تأثير إطلاق اسم الجواد في حصول المراد: [يهز] (¬3) حديثُ الجودِ ساكنُ عِطْفِه ... كما هزّ شرْبَ الحيِّ صهباءُ قرْقَفُ إذا قيل عونُ الدين حيّا تألُّقُ كا ... لغمامِ وماسَ السَّمْهَريُّ المثقَّفُ [4أ] [والذي] (¬4) ينبغي أن يسمَّى الاستدلال على الحب مما تجدُه في تيسير الزيارة من البعد والقرب: يا ليلُ ما جئتكُمُ زائرًا ... إلاَّ رأيتُ الأرضَ تُطْوى ليا ولا ثنيتُ العزْمَ عن بابكم ... إلاَّ تعثَّرْتُ بأذياليا والذي ينبغي أن يسمى التمويه على الرقيب السفيه: أبكي إلى الشرق إن كانتْ منازلُها ... مما يلي الغرْبَ خوفَ القيلِ والقالِ أقول في الخدّ خالٌ حين أنْعَتُها ... خوفَ الوشاةِ وما بالخدّ منْ خالِ وفي هذا المقدار كفايةٌ، فليس المرادُ إلا رفعَ التحجير ودفعَ الحصْرِ بإيراد هذه الأبياتِ التي هي من فائق الشعرِ ورائعِ [رائق] النظم ومن زاد زاد اللهُ في حسناته [حرره مؤلف غفر الله له]. (¬5) [انتهى من كلام مؤلِّفِه أمد الله بحياته وتولى إعانته ومكافأتَه بتاريخ خمسٍ من شهر شوال سنة 1243 بعناية سيدي العلامة المحقق الفهامة الصفيّ أحمدَ بن زيد بنِ عبد الله الكبسي، أمتَعَنا الله بطول حياتِه وكان معه في جميع حالاتِه، وأسكنه بعد العمرِ الطويل ¬

(¬1) الأبيات نظمها الشاعر النابغة الذبياني معتذرًا إلى النعمان ومادحًا إياه. انظر: (ديوان النابغة الذبياني) (ص27 ـ 28) والأبيات كتبها الشوكاني وفيها تأخير وتقديم. (¬2) في (أ) هذا. (¬3) في (ب) (بهنَّ). (¬4) في (أ) هذا. (¬5) زيادة من (أ).

فسيحَ جنّاتِه. آمين] (¬1). اللهم آمين [4ب]. ¬

(¬1) زيادة من (ب).

بحث في الرد على الزمخشري في استحسان المربة

(205) 48/ 4 بحث في الرد على الزمخشري في استحسان المُرِبَّةَ تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّ عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في الرد على الزمخشري في استحسان المُرِبَّة. 2 ـ موضوع الرسالة: لغة العربية. 3 ـ أول الرسالة: الحمد لله وصلى الله على رسوله وآله وسلم. قد عجبت كثيرًا من استحسان الزمخشري يرحمه الله لقول الشاعر. 4 ـ آخر الرسالة: إذا تدبرها المتدبر وجدها من تقليد الأصاغر للأكابر بدون تفكّر ولا تدبُّر. قاله كاتبُه غفر الله له. 5 ـ نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 ـ عدد الصفحات: 3 صفحات. 7 ـ عدد الأسطر في الصفحة الأولى: 12 سطرًا. الثانية: 30 سطرًا. الثالثة: 10 أسطر. 8 ـ عدد الكلمات في السطر: 9 كلمات. 9 ـ الرسالة من المجد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

: الحمد لله وصلى الله على رسوله وآله وسلم ـ. قد عجبت كثيرًا من استحسان الزمخشري (¬1) يرحمه الله لقول الشاعر: ¬

(¬1) في (الكشاف) (1/ 160). وهو الشاهد الثامن والأربعون بعد الثلاثمائة: ألا أيُّها الطّيرُ المُربَّةِ بالضحى ... على خالدٍ لقد وقعتِ على لحمٍ وكذا أورده في تفسيرهما ـ الزمخشري والبيضاوي ـ عند قول تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5] على تنكير هدىً للتعظيم أي هدى عظيم, كتنكير لحم في هذا البيت, أي لحم عظيم, والفرق بينهما أنَّ الأول مفهومٌ من اللفظ المحذوف, والثاني من الفحوى, والمحوج إلى هذا استقامة المعنى, ولولاه لكان لغوًا لا يفيد شيئًا, ولهذا اعتبر, سواء كان بالقرينة الأولى أو الثانية. ونقل عن الزمخشري أنّه كان إذا أنشد هذا البيت يقول: ما أفضحك من بيت! والبيت من شعر مذكور في أشعار هذيل ذكر موضعين منها, ذكر في الموضع الأول ستة أبيات, وفي الموضع الثاني اثنين وثلاثين بيتًا. وأما الرواية الأولى, والشعر منسوبٌ لأبي خراش فهى هذه. إنك لو أبصرتِ مصرع خالدٍ ... بجنب السَّتار بين أظلمَ فالحزم لأيقنت أنَّ البكرَ ليس رزيَّة ... ولا النَّاب, لا اضطمَّت يداك على غُنمِ تذكَّرتُ شجوًا ضافني بعد هجعةٍ ... على خالدٍ فالعين دائمةُ السَّجم لعمرُ أبي الطَّير المرُبة بالضحى ... على خالدٍ لقد وقعت على لحمِ كلية, وربِّى, لا تجيئين مثله ... غداة أصابته المنيَّةُ بالرّوْم ولا وأبي تأكل الطَّيرُ مثله ... طويل النِّجاد غير هارٍ ولا هشم ? إنك لو أبصرت مصرع خالدٍ, خطاب لعشيقة خالد بن زهير الهذلي قُتل بسببها. وخالد هو ابن أخت أبي ذؤيب الهذيلي. ? أظلم: موضع قريب من السِّتار. ? الحزم: موضع يقال له حزم بني غُوَال. ? (لأيقنت أن البَكر) البَكْر: الجمل الشاب, والناب: الناقة المسنّة. يقول لو رأيت هلاك خالد لعلمت أن ذهاب البكر والناب ليسا بمصيبة, استخففتِ مصابهما, وقوله: (اضطمَّت) هو دعاء عليها, وهو افتعلت من الضم. أي لاغنِمتْ يداك بل خيبك الله, إذ صرت تحزنين على هذا البكر. ? قوله: لقد وقعت علة لحم: كان ممنوعًا. وأراد بأبي الطَّير خالدًا سمّاه به لوقوعها عليه كما يقال أبو تراب ونحو وقيل أراد أبت الطَّير الواقعة لحمة, واستعظمها بالقسم بها لاستعظام لحم خالدٍ العظيم ففيه تعظيم للإقسام عليه بنفسه. والرِبَّة: اسم فاعل. صفة الطير, من أربَّ بالمكان إذا أقام به وروى في التفسيرين ـ الزمخشري والبيضاوي ـ. فلا وأبي الطير المرِبَّةَ بالضُّحى. وأما الرواية الثانية نسبها الأخفش للخراش ابن المذكور. انظر: (خزانة الأدب) (5/ 85 ـ 90).

فلا وأبى الطير المُرِبّة في الضُّحى ... على خالدٍ لقد وقعت على لحمِ حتى كان يقول: ما أبلغَك يا بيتُ المُرِبَّة! وغاية ما في هذا البيت دلالةُ اللحم على عِظَمِ حال الرجلِ، وكِبَرِ شأنِه، فكنَّى عن ذلك باللحم، ونكَّره تنكيرُ التفخيم، فمن أين جاء هذا التعجُّبُ من بلاغته، والاستعظام لشأنه! من هذا الذي بلغ من معرفة لغة العرب ودقائقِها وأسرارِها ما لا يقعُ في مثله اختلافٌ، وليس فيه إلاَّ معنى كنائيُّ مطروقٌ معروفٌ. ألا قال مثلَ هذه المقالةِ في مثل قولِ القائل (¬1): إن السماحةَ والمروءةَ والندى ... في قبةٍ ضُرِبَتْ على ابن الحشرج (¬2) فإن هذا قد بلغ من فصاحة اللفظِ، وبلاغة المعنى، وجودةِ الكنايةِ، وتعدَّد المعاني ما هو فوقُ ذلك بمسافات بعيدةٍ، وإن كان تعجبه واستحسانُه باعتبار ذكرِ الطير [1ب] وكونِها مرَّتْ بهِ في ذلك الوقتِ على ذلك القتيل فأعجبُ من هذا، وأغرب، وأحسن، ¬

(¬1) هو زياد بن سليمان مولى عبد القيس أحد بني عامر بن الحارث ثم أحد بني مالك بن عامر الخارجية. وقيل زياد بن سلمى. (خزانة الأدب) (4/ 193)، (الشعر والشعراء) (ص395). (¬2) هو عبد الله بن الحشرج. انظر: (الأغاني) (15/ 385).

وأفخم، وأجود قولُ القائل (¬1): وقد ظُلِّلت عُقْبَانُ راياته ضُحًا ... تعفيانِ طيرَ الدني نواهل أقامت على الرايات حتى كأنَّها ... من الجيش إلاَّ أنها لم تقاتلِ فهاهنا جعل الطير لكثرة نصرِ صاحب الرايات واثقةً بنصره لاعتيادِها لذلك، واستمرارها عليه، حتى كأنها عند الغزو واثقةٌ ستأكلُ من لحوم أعدائِه، فأثبت لها هذا العلم المفيدَ لاستمرار النصر، وأنه للممدوح عادةٌ جاريةٌ، مع كونها متراكمةً على راياته حتى ظللتَها. ومع ما ذكر العقبانِ على العقيانِ من الحسن البالغ، والجناس الفائقِ. ثم ألا قال الزمخشري ـ رحمه الله ـ هذه المقالةَ فيما هو أحق بها وأولى، وهو قول القائل: وقائلةٍ يا راكبَ الخيل هل ترى ... أبا ولدي عنه المنيةُ ذلَّتِ فقلت لهاك لا علمَ لي غيرَ أنني ... رأيتُ عليه المشرفيةُ سُلَّتِ ودارت عليه الخيلُ دورينِ بالقَنَا ... وحامتْ عليه الطيرُ ثم تدلَّتِ فصكَّت جبينًا كالهلالِِ إذا بدا ... وقالت لك الويلاتُ ثم تولَّتِ فهاهنا قد قوله: وحامت عليه الطيرُ ثم تدلَّتِ أحسنَ موقعٍ من الدلالة على أنه قتيلٌ يأكل من لحمه الطيرُ، مع أن أكلَ لحومِ القتلى عادةٌ للطيور، فليس في قوله: على لحم ما قدمنا في العقبانِ المظلِّلَةِ للرايات من حصول العلمِ لها المستفادِ من العادة الجاريةِ العائدة على الممدوح بأكبرِ مدح، وأفخمِ ثناءٍ. وغايةُ ما في بيت المربَّةِ أنه لحمُ رجلٍ عظيم، فقايس بين هذا المدح العائدِ إلى صاحب اللحمِ، وبين المدح العائد إلى صاحب الراياتِ، فإنك تجده ما بين الثَّرا والثُّريَّا، ومطلعِ الشمس ومغربِها. ومثلُه قول القائل (¬2): ¬

(¬1) أبو تمام، انظر ديوانه (ص233) في قصيدة يمدح المعتصم ... (¬2) قال في (خزانة الأدب) (4/ 289) هذا المعنى أعني تتبع الطير للجيش الغازي للأعداء حتى تتناول من القتلى متداولٌ بين الشعراء قديمًا وحديثًا وأوّل من جاء به الأفوَهُ الأوديُّ في قوله: وتر الطيرَ على آثارنا ... رأي عينٍ، ثقةً أن ستَمُارُ أي تأخذه الميرة من لحوم القتلى. وكلهم قصر عن النابغة لأنه زاد في المعنى فأحسن التركيب، ودلَّ على أنَّ الطير إنَّما أكلت أعداءَ. الممدوح. قال النابغة مادحًا عمرو بن الحارث الأصفر ابن الحارث الأعرج، حين لجأ إليه في الشام: إذا ما غزوا بالجيش، حلَّق فوقهم ... عصائب طير تهتدي بعصائب جوانحَ قد أيقنَّ أنّ قبيلة ... إذا ما التقى الجيشان أولُ غالبِ لهنَّ عليهم عادةٌ قد عرفنها ... إذا عُرِضَ الخطيُّ فوق الكواثبِ (خزانة الأدب) (4/ 589 ـ 290) (ديوان النابغة الذبياني) (ص30 ـ 31).

وترى الطيرَ على راياتِنا ... عاكفاتٍ ثقةً أن ستَمُار فإنه يفيد ذلك المعنى مع التصريح بلازم المعنى، وهو أنها ستدرك الميرة، وأنها واثقةٌ بذلك. نعم. قد صار التقليد للأكابر عادة مستمرةً، وطريقة مسلوكة، انظر قول عمرَ بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لما قال له قائل: من أشعرُ الناس؟ فقال: الذي يقول: ربما أوفيتُ في عَلَمٍ ... ترفعنَ ثوبي شمالاتِ (¬1) فانظر أي معن يوجب تفصيل قول هذا الشاعر، فإن غاية ما هناك أنه طلعَ جبلاً، فهبتِ الريحُ فرفعتْ ثيابَه. فهذا بيت سمجٌ خالٍ عن كل محسِّنٍ [2أ]، بل ليس فيه معنى يستحق أن يُنظَمَ. ¬

(¬1) عزاه ابن منظور في (اللسان) (7/ 200) لجزيمة الأبرش. رُبَّما أوفيتُ في عَلَمٍ ... ترفعَنْ ثوبي شَمَلاتُ والشِّمال ريح تهب من قبل الشام عن يسار القبلة. وقيل: الشِّمال: مهب الشمال من بنات نعشِ إلى مسقط النَّسْر الطائر ويكون اسمًا وصفةً والجمع شَمَالاتٌ.

انظر لو أخبرك مخبرٌ أنه طلع جبلاً فرفعتِ الريحُ ثيابه فإنك لا تقول له بعد سماع هذا منه إلاَّ سخنْت عينُك، فكان ماذا؟ فهلا قال هذا القولَ في قول الخنساء (¬1): وإنَّ صخرًا لتأتمُّ الهداةُ به ... كأنه علمٌ في رأسه نارٌ (¬2) فانظر إلى ما اشتمل عليه هذا البيتُ من المدح الفائق البالغ إلى أعلا منزلٍ من منازل الفصاحة والجَوْدَةِ والمِدْحَةِ الرائقةِ الفائقةِ، وانظر أين يقعُ قولُ ذاك البائس من ول هذه المرأةِ!، وكم لهذه الأمور من أخواتٍ إذا تدبَّرها المتدبِّر وجدها من تقليد الأصاغرِ للأكابر بدون تفكُّر ولا تدبُّر. قاله كاتبه ـ غفر الله له ـ. [2ب]. ¬

(¬1) هي تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد بن رباح بن يقظة بن عصيَّة بن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة (وقيل: نهية) بن سليم بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن غيلان بن مضر بن وتكنَّى أم عمرو. (¬2) قتل أخوها لأبيها صخر، وكان أحبهما إليها لأنَّه كان حليمًا جوادًا محبوبًا في العشيرة، كان غزا بني أسد فطعنه أبو ثور الأسدي طعنة مرض منها حولاً. ثم مات فلما قتل أخوها أكثرت من الشعر فمن قولها في صخر: أعينيَّ جُودَا ولا تجمُدا ... ألا تبكيان لصخر النَّدى ألا تبكيان الجريءَ، الجميلَ ... ألا تبكيان الفتى السّيدا طويل النَّجاد عظيمُ الرَّما ... د ساد عشيرتُه أمردا وأجمع أهل العلم بالشعر أنّه لم تكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها. حضرت الخنساء بنت عمرو السلمية حرب القادسية ومعها بنوها أربعة رجال فذكرت موعظتها لهم وتحريضهم على القتال وعدم الفرار وفيها: إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين. وإنكم لبنوا أبٍ واحد وأم واحدة. ما هجنت آباءكم، ولا فضحت أخوالكم فلما أصبحوا باشروا القتال واحدًا بعد واحد حتى استشهدوا. (الإصابة) (8/ 109 ـ 110 رقم 11112) (ديوان الخنساء) (ص40).

فتح القدير في الفرق بين المعذرة والتعذير

(206) 2/ 4 فتح القدير في الفرق بين المعذرة والتعذير تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّ عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: فتح القدير في الفرق بين المعذرة والتعذير. 2 ـ موضوع الرسالة: لغة عربية. 3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وبعد، فإنه وصل سؤال من سيدي العلامة جمال الإسلام علي بن يحيى أحيا الله به معاهد العلوم، ولفظه .... 4 ـ آخر الرسالة: لأن سؤال السائل كثر الله فوائده قد تعلق بالآيتين من تلك الحيثية فكان في التعرُّض لتفسيرهما تكميلٌ للفائدة والله أعلم. حرره في ليلة الاثنين من ليالي شهر ربيع الآخر سنة 1214هـ. 5 ـ نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 ـ عدد الصفحات: 15 صفحة. 7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 18 ـ 19 سطرًا. 8 ـ عدد الكلمات في السطر: 9 ـ 12 كلمة. 9 ـ الرسالة من المجد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله. وبعد: فإنه وصل سؤال من سيدي العلامة جمال الإسلام علي بن يحيى (¬1) ـ أحيا الله به معاهد العلوم ـ. ولفظه: أشكل على المحب قولُ الزمخشري (¬2) في سورة الأنفال (¬3) على قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} ولكنها تعمُّكم، وهذا كما يحكي أن علماء بني إسرائيل نُهُوا عن المنكرِ تعذيرًا، فعمهم الله بالعذاب (¬4) مع قوله فيما تقدم في سورة الأعراف على قوله تعالي: {(وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ .... إلخ} (¬5). فإن قلت: الأمة الذين قالوا: (لما تعظون) من أي الفريقين هم؟ أمن فريق الناجين؟ أم من المعذبين؟ قلت: من فريق الناجينَ، لأنَّهم من فريق الناهين. انتهى. فظهر من هذا أَن الذين نُهوا وقالوا: (معذرةً) لم يعمَّهم العذابُ ... وهل أشار في القصة الأولى أعنى قوله كما (يحكى ... إلخ) إلى هذا أم لا؟ وهل بين المعذرة والتعذير فرقٌ؟ انتهى. أقول ـ وبالله الثقة، وعليه التوكل ـ: إن الجواب عن هذا السؤال ينحصر في أبحاث ثلاثة: ¬

(¬1) انظر (البدر الطالع) رقم الترجمة (351). (¬2) تقدمت ترجمته. (¬3) [الأنفال: 25]. (¬4) انظر (تفسير القرآن العظيم) لابن كثير (4/ 38). (¬5) [الأعراف: 164].

الأول: الفرق بين المعذرة والتعذيرِ ـ وبه يندفع الإشكالُ، ويتضح مرادُ ذي الجلال ـ إذ هذا الأمرُ هو الحامل على السؤال. البحث [1أ] الثاني: في تقرير معنى قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (¬1) البحث الثالث: في تقرير معنى قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ ... } (¬2) الآية. الفتح 3 من 6123 إلي آخر ص6277 ¬

(¬1) [الأنفال: 25]. (¬2) [الأعراف: 164].

[البحث الأول الفرق بين المعذرة والتعذير] أما البحث الأول: فاعلم أن التعذير مصدرُ عذَّر بتشديد الذالِ المعجمة، ومعناه عند أهل اللغة عدمُ ثبوتِ العذرِ. قال في القاموس: (¬1) (عذَر تعذيرًا لم يثبتْ له عذْرٌ) انتهى. ومنه قوله تعالى: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ} (¬2) أي المقصرون الذين لا عُذْر لهم، كما صرح بذلك أئمة التفسير، (¬3) ومصدره (التعذير)، فمراد العلامة الزمخشري (¬4) بقوله: (إن بني إسرائيل نهوا عن المنكر تعذيرًا) أي أَنهم لم يُنْهَوْا عن المنكر لقصد القيامِ ¬

(¬1) (ص561). (¬2) [التوبة: 90]. (¬3) انظر: (الجامع لأحكام القرآن) (8/ 228 ـ 229). قال الراغب الأصفهاني في (مفردات ألفاظ القرآن) (ص 555 ـ 556): العُذرُ: تحرِّي الإنسان ما يمحو به ذنوبه ويقال: عُذْرٌ وعُذُرٌ وذلك على ثلاثة أضرب: إما أن يقول: لم أفعلْ، أو يقول: فعلت لأجل كذا، فيذكرُ ما يخرجه عن كونه مذنبًا. أو يقول: فعلت ولا أعود، ونحو ذلك من المقال. وهذا الثالث هو التوبةُ، فكل توبة عُذرٌ وليس كل عُذر، واعتذرت إليه: أتيت بعذر، وعَذَرتْه عذره قال تعالى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا} [التوبة: 94]. والمُعذِّر: من يرى أن لا عذْرًا ولا عُذْر له. قال تعالي: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ} [التوبة: 90] وقرئ: المُعْذِرون، وقوله: {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} [الأعراف: 164]، فهو مصدر عذَرْتُ، كأنه قيل: اطلب منه أن يعذرني وأعذر: أتى بما صار به معذورًا، وقيل: أعذَرَ من أنذر أتى بما صار به معذورًا. وقال بعضهم: أصل العُذْر من العَذِرة وهو الشيء النجس. (¬4) في الكشاف (2/ 122).

بما أوجبه الله عليهم، ولأجل إبلاء العذرِ، بل نهوا عنه لقصد التعذير مع قيام الحجة عليهم، وقدرتِهم على دفع المنكرِ، وعدمِ وجود عذرٍ لهم مسوِّغٍ لما وقع منهم من التعذير، وذلك كما يفعله من كان قادرًا على دفع ما يراه من المنكر بالفعل من التكلُّم باللسان مع ضعف عزيمةٍ، وانكسار شكيمةٍ في المواقف التي لا تأثير للكلام فيها معتِقدًا أن مجر تكلُّمِهِ بلسانِه في غير مواطن النفعِ ينفعُه ويقومُ بإسقاط ما أوجبه الله عليه من إنكار المنكرِ، وهو يعلم يقينًا أنه قادرٌ على دفع المنكر بالفعل، والأخذِ بيد الظالم، والحيلولة بينه وبين انتهاك الحرمِ المحرَّمةِ فمن كان بهذه المثابةِ، وله هذه المنزلة والمكانة ففرضُه تغييرُ المنكر بيده لا تبرأُ ذمتُه ويسقطُ فرضُه بدون ذلك [1ب] فإذا ترك المنكر وتعلَّل بمجرد توجُّعه وتحسُّره وتَلَهُّفِه في مواقف الخلواتِ بين أحبابِه وأترابه ومعارفه، فلم يأت بشيء مما أمره الله به، بل هو التعذيرُ بعينه، وإن لوى شِدْقَهُ وعَصَر جفْنَه، وقطَّبَ وجهَهُ فهو عن الأمر الذي أوجبه الله عليه وتعبَّد به بمراحلَ {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} (¬1) وهكذا استروح إلى مجرد الإنكار بقلبه، وهو قادر على التكلم بلسانه فهو أيضًا لم يأت بما أمره الله به، ولا قام بما هو فرضُه. بل ما فعل إلا مجرَّدَ التعذيرِ فقطْ، لأن الله ـ سبحانه ـ أوجب على عباده إِنكارَ المنكر بالقول مع الاستطاعةِ، ولم يسوغِ العدولَ إلى القول إلا مع عدم الاستطاعةِ للفعل، ولا سوّغ العدولَ إلى مجرد الإنكار بالقلب إلا مع عدم الاستطاعةِ للقول. وقد صح عن رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أنه قال: «من رأى منكم منكرًا فليغيرْهُ بيده، فإِنْ لم يستطعْ فبلسانِه، فإِن لم يستطعْ فبقلبِه، وذلك أضعفُ الإيمانِ» (¬2) وهذا الحديث قد اتفق الناسُ على صِحَّتِه، ولم يخالف في ذلك مخالفٌ. فانظر ¬

(¬1) [البقرة: 9]. (¬2) أخرجه مسلم رقم (49)، وأبو داود رقم (1140)، والترمذي رقم (2172) وقال: حسن صحيح، والنسائي (8/ 111 ـ 112)، وابن ماجه رقم (1275) و (4013)، وأحمد في (المسند) (3/ 10، 20، 49، 54) من حديث أبي سعيد الخدري. وقد تقدم.

كيف جعل مراتبَ الإنكار هاهنا ثلاثةَ أقسام: القسم الأَول: مرتبةُ من كان قادرًا على تغيير المنكر بيده، فإِنه جعل فَرْضَهُ التغييرِ باليد، ولم يسوغ له الانتقالَ عن هذه الرتبةِ التي بعدها إِلا بشرط عدمِ الاستطاعةِ ثم لم يسوغْ له الانتقالَ إلى الرتبة الثالثةِ وهي الإنكارِ بالقلب ـ إلا بشرط عدم الاستطاعةِ على الرتبة الثانيةِ، فمن كان مستطيعًا لتغيير المنكرِ بيده فعدلَ إِلى الإنكار بلسانه فهو إِنَّما جاء بالتعذير، وكذا من [2أ] كان قادرًا على الإنكار بلسانه فعدلَ إلى الإنكار بقلبه فهو إِنما فعل مجرَّد التعذيرِ، ولا يصدقُ عليه القيامُ بما افترضه الله عليه من إِنكار المنكر، ولا يقال له: إِنه أَنكر المنكر، ولهذا عمَّ الله بني إسرائيلَ بالعذاب، مع أَنهم قد أَنكروا في الصورةِ، ولكنهم عدلُوا عن الذي أَوجبه الله عليهم إِلى غيره بغير عذرٍ كما قال العلاَّمةُ: (إنهم نُهُوا عن المنكر تعذيرًا). إذا تقرر لك معنى التعذير فاعلم أَن معنى المعذرة إِبداءُ العذْرِ بفعل ما يجب، وهي مصدر عَذَرَ مخفَّفُ الذال وأعْذَرَ، قال في القاموس (¬1): (عذر يعذُرُ ـ عذرًا ومعذِرةً ومعذُرة وأعذره، والاسم المعذَرة مثلثةُ الذال. قال: وأعذر أبْد عذرًا، وأحدث، وثبت له عذرٌ) انتهى. وقال: الرازي في مفاتيح الغيب (¬2): (المعذرةُ مصدرٌ كالعُذْرِ) وقال أبو زيد (¬3) عذرتُه أعذرَ عذرًا ومعذرةً) ومعنى عذره في اللغة (¬4): إذا أقام بعذره (وقيل عذره يقال: من يعذرُني، أي من يقوم بعذري، وعذرتُ فلانًا فيما صنع أي قمتُ بعذرِه، ¬

(¬1) (ص561). (¬2) (16/ 159) (¬3) انظر: (لسان العرب) (9/ 103). (¬4) قال ابن فارس في (مقاييس اللغة) (4/ 254): قال أهل المُعْذِرون بالتخفيف هم الذين لهم العُذْر، والمعذِّرون: الذين لا عذر لهم ولكنّهم يتكلَّفون عُذرًا.

فعلى هذا معنى قوله: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} أي قيامٌ منا بعذرِ أنفسِنا إلى الله تعالى، فإذا طُوْلِبْنَا بإقامة النهي عن المنكر قلنا قد فعلنا، فنكون بذلك معذورينَ. وقال الأزهري (¬1): (المعذرة اسمٌ على مَفعُلَة) من تعذَّر وأقيمَ مقامَ الاعتذار، كأنهم قالوا: موعظتُنا اعتذرٌ إلى ربنا، فأقيم الاسم مقامَ الاعتذار. يقال: (اعتذر فلان اعتذارًا وعذرًا ومعذرةً من ذنبِه [2ب] (انتهى كلام الرازي في مفاتيح الغيب (¬2). فعرفتَ أن معنى المعذرةِ القيامُ بما أوجبه الله من نهي المنكر، وفعل ما يقوم بالعذر عند الله على وجه لا يكون للفاعل بعده خطابٌ من الله، لأنه قد أبدى عذرَه، وفعل ما يجب عليه، بخلاف التعذير، فإنه فِعْلُ ما لا يثبتُ به العذرُ، ولا يسقطُ به الغرضُ كما تقدم تحقيقُه وحينئذ يتبين أنه لا مخالفةَ بين الآيتينِ الكريمتينِ، ولا بين ما ذكره العلامة الزمخشريُّ (¬3) في تفسيرهما، ويظهر أنه لم يشرْ بما ذكره في تفسير قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (¬4) حيث قال: (نُهُوا عن المنكر تعذيرًا إلى الآية الأخرى ـ أَعني ـ قوله تعالي: {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} لما قدمنا من التخالف بين معنى التعذير والمعذرةِ: بل هما ضدَّا لما عرفت من أن معنى المعذرة ثبوتُ العذر، ومعنى التعذيرِ عدمُ ثبوت العذر. (¬5) ¬

(¬1) في (تهذيب اللغة) (2/ 306). (¬2) (16/ 159). (¬3) في (الكشاف) (2/ 100، 122). (¬4) [الأنفال: 25]. (¬5) قال الجوهري في (الصحاح) (2/ 741): (كان ابن عباس يقرأ (وجاء المعْذِرون) مخففة من أعذر ويقول والله هكذا نزلت. قال النحاس إلا مدارها عن الكلبي وهي من أعذر ومنه قد أعذر من أنذر، أي قد بالغ في العذر من تقدّم إليك فأنذرك. وأمَّا المعذّرون بالتشديد ففيه قولان: أحدهما: أنه يكون المحقّ، فهو في المعنى المعتذر لأن له عذرًا فيكون المعذورون على هذه أصله المعتذرون. ولكن التاء قلبت ذالاً فأدغمت فها وجعلت حركتها على العين كما قرئ (يخصِّمون) بفتح الخاء. ويجوز (المعذِرون) بكسر العين لاجتماع الساكنين ويجوز ضمها اتباعًا للميم. الثاني: أن المعذِّر على جهة المُفعِّل لأنه الممرّض والمقصّر يعتذر بغير عذر. وقال غيره: يقال عذَر فلان في أمر كذا تعذيرًا، أي قصر ولم يبالغ فيه والمعنى أنهم اعتذروا بالكذب. قال الجوهري في (الصحاح) (2/ 741) كان ابن عباس يقول: لعنَّ الله المعذِّرين، كأن الأمر عند أن المعذّر بالتشديد هو المظهر للعذر اعتلالاً من غير حقيقة له في العذر. انظر: (جامع البيان) (6ج10/ 209 ـ 210).

البحث الثاني: [عدم اقتصار الفتنة على الظالم ... ] في تقرير معنى قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (¬1) قال أبو السعود (¬2): (أي لا تختصُّ إصابتُها من يباشرُ الظلم منكم، بل تعمُّه وغَيْرَهُ كإقرار المنكر بين أَظهرِهم، والمداهنةِ في الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكرِ، وافتراقِ الكلمة، وظهورِ البدعِ، والتكاسُلِ في الجهاد، وقوله: {لَا تُصِيبَنَّ} إما جوابُ الشرطِ مقدرٌ على معنى: (إن أصابتْكم لا تصيبنَّ) وفيه أن جوابَ الشرط مترددُ، فلا تليقُ به النونُ المؤكدةُ، لكنه لما تضمن معنى النهي [3أ] ساق فيه، كقوله تعالى: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ} وإما صفة لفته و (لا) للنفي، وفيه شذوذ، لأن النون لا تدخلُ المنفي في غير القسمِ أو للنهي، على إرادة القول، كقول من قال: حتى إذا جنَّ الظلامُ واختلطْ ... جاؤوا بمِذقٍ هل رأيتَ الذئبَ قطْ وإِما جواب قسم محذوفٍ كقراءة من قرأ: (لَتُصِيْبَنَّ) (¬3) ¬

(¬1) [الأنفال: 25]. (¬2) في تفسيره (إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم) (3/ 314) بتحقيقي. (¬3) قال القرطبي في (الجامع لأحكام القرآن) (7/ 391 ـ 392): قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} فيه مسألتان: الأولى: قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين ألا يُقرّوا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب. الثانية: اختلف النحاة في دخول النون في (لا تصيبن) قال الفراء: هو بمنزلة قولك: انزل عن الدابة لا تطرحنَّك فهو جواب الأمر بلفظ النهي أي إن تنزل عنها لا تطرحنَّك ومثله قوله تعالى: {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ} أي إن تدخلوا لا يحطمنكم فدخلت النون لما فيه من معنى الجزاء. وقيل: لأنه خرج مخرج القسم، والنون لا تدخل إلا على فعل النهي أو جواب القسم. وقال أبو العباس المبرّد: إنّه نهي بعد أمر، والمعنى النهي للظالمين أي لا تقربنَّ الظلم. وحكى سيبويه: لا أرينّك هاهنا، أي لا تكن هاهنا فإنّه من كان هاهنا رأيته. وقال الجرجاني: المعنى اتقوا فتنة تصيب الذين ظلموا خاصة فقوله: {لَا تُصِيبَنَّ} نهي في موضع وصف النكرة وتأويله الإخبار بإصابتها الذين ظلموا ـ وهذا القول مردود فقد قال محيي الدين الدرويش. في (إعراب القرآن الكريم) (3/ 555): واختلفوا في (لا) من قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} على قولين: أ) أن (لا) ناهية وهو نهي بعد أمر، أي إنّه كلام منقطع عما قبله، كقولك صلِّ الصبحَ ولا تضرب زيدًا، فالأصل: اتقوا فتنة، أي عذابًا، ثم قيل: لا تتعرضوا للفتنة فتصيب الذين .. وعلى هذا فالإصابة بالمتعرضين، وتوكيد الفعل بالنون واضح لاقترانه بحرف الطلب، مثل: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا} ولكن وقوع الطلب صفة للنكرة ممتنع، فوجب إضمار القول. أي: واتقوا فتنة مقولاً فيها ذلك كما قيل في قوله: حتى إذا جن الظلام واختلط جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط (ب) أنها نافعة واختلف القائلون بذلك على قولين: 1 ـ أن الجملة صفة لفتنة، ولا حاجة إلى إضمار قول، لأن الجملة خبرية وعلى هذا فيكون دخول النون شاذًّا مثله في قوله: فلا الجارة الدنيا بلها تُلحَّينَّها ... ولا الضيف فيها إنْ أناخ مُحَوِّل بل هو في الآية أسهل، لعدم الفصل، وهو فيهما سماعي والذي جوزه تشبيه لا النافية بلا الناهية وعلى هذا الوجه تكون الإصابة عامة للظالم وغيره لا خاصة بالظالمين. كما ذكره الزمخشري، لأنها قد وصفت بأنها لا تصيب الظالمين خاصة فكيف تكون مع هذا خاصة بهم!! 2 ـ أن الفعل جواب الأمر وعلى هذا فيكون التوكيد خارجًا عن القياس شاذًّا وممن ذكر هذا الوجه الزمخشري وهو فاسد، لأن المعنى حينئذ: فإنكم إن تتقوها لا تصب الظالم خاصة. وقوله: إن التقدير إن أصابتكم لا تصيب الظالم خاصة، مردود لأن الشرط إنما يقدر من جنس الأمر لا من جنس الجواب.

والظاهر أَن (لا) للنفي (¬1)، بل هو الوجه الذي لا يحمل النظمُ القرآني سواهُ، وتكون هي وما دخلت عليه إما جوابَ شرط محذوفٍ أو صفةًً لفتنة ... ويقال في توجيه النونِ المؤكدةِ مثلُ ما سلف، وقد اقتصر على ذلك جماعةٌ من أئمة التفسير، وقال صاحب مدارك التنزيل أبو البركات عبدُ الله بن أحمد بن محمود النسفي (¬2): إن قوله تعالى: {لَا تُصِيبَنَّ} جوابٌ، وبين المعنى بقول: و (لكنَّها تعمُّكم) ـ، وقال محمد بن جزء الكلبي ـ في التسهيل لمعالم التنزيل (¬3) ما لفظه: (أي لا تصيب الظالمين وحدَهم، بل تصيبُ معهم من لم يغيِّر المنكرَ، ولم يَنْهَ عن الظلم، وإن كان لم يظلم)، وقال الرازي في مفاتيح الغيب (¬4): (والمعنى: [3ب] واحذروا فتنةً إن نزلت بكم لم تقتصرْ على الظالم خاصَّةً، بل تتعدي إليكم جميعًا، وتصل إلى الصالح والطالح). وقد ذكر الطبري (¬5)، والبغوي (¬6)، والرازي، (¬7) وغيرهم (¬8) أَنها نزلت في جماعة من الصحابة وأن الفتنةَ هي ما جرى يومَ الجمل، ولا يخفى على ذي لُبٍّ أن الجزْمَ بكون الفتنةِ المذكورة في الآية هي فتنةُ يوم الجملِ محتاجًا إلى دليل، فإن الله ذكر الفتنةََ منكرةً، ثم القولُ بنزولها في المباشرين للقتال في ذلك اليوم لا يصحُّ، لأن الفتنة يومَ الجمل وقعت بَعْدَ موت النبيِّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ وانقطاع الوحي بزيادة على عشرين سنةً، بل الآية تحذير لجمع من يصلحُ للخطاب وقتَ النزول أن يقع أحدٌ منهم في فتنة ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة. (¬2) (مدارك التنزيل المعروف بتفسير النسفي) (2/ 100). (¬3) (ص241). (¬4) (15/ 149). (¬5) في (جامع البيان) (6/ج6/ 219). (¬6) في تفسيره (معالم التنزيل) (3/ 345). (¬7) (15/ 149). (¬8) انظر: (الجامع لأحكام القرآن) (7/ 391 ـ 392).

كذلك، كذلك هي خطابٌ لمن وجد من المسلمين بعد انقراض عصر الموجودين وقتَ النزول كسائر الآيات القرآنية (¬1) والخطابُ وإن كان لا يصلح لمن كان معدومًا لكن قد قرَّر أئمة الأصول الكلامَ في ذلك فيما يعرفه من يعرف علمَ الأصول. (¬2) وبالجملة فالمخاطب بهذه الآية بهذه الآية هو المخاطبُ بقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (¬3)، {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬4)، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (¬5)، والتعبُّد بما اشتملت عليه شاملٌ لكل من تعبَّده الله بما اشتملت عليه هذه الآيات الواردةُ في الصلاة والزكاة والصوم والحج، فكل طائفةٍ من طوائف المسلمين مأمورةٌ باتقاءِ الفتنة [4أ] التي هذا شأنُها. بل كل فرد من أفراد المسلمين مأمور بذلك ... ولا يصح تعيينُ فتنةٍ من الفتن الواقعة في الإسلام بأنها هي المرادةُ دونَ غيرها، ولا أنَّ الآية نزلتْ في بعض أَفراد الصحابة دون بعض إلا بدليل، ولا دليلَ فيما أعلم. بل قد ورد في أحاديثِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما يدل على عدم التعيينِ، من ذلك ما أورده البغويُّ (¬6) بإسناده في تفسير هذه الآية ولفظه: عن سيف بن أبي سليمان قال: ¬

(¬1) قال ابن كثير في تفسيره (4/ 38) والقول بأن هذا التحذير يعم الصحابة وغيرهم ـ وإن كان الخطاب معهم ـ هو الصحيح. (¬2) تقدم توضيحه. وانظر: (إرشاد الفحول) (ص76 ـ 77)، (نهاية السول) (1/ 307 ـ 309). (¬3) [البقرة: 43، 110]. (¬4) [البقرة: 185]. (¬5) [آل عمران: 97]. (¬6) في تفسيره (3/ 345). قلت: وأخرجه أحمد في (المسند) (4/ 192) بإسناده ضعيف لإبهام الراوي عن الصحابي وباقي رجال الإسناد ثقات والدولابي في (الكنى) (1/ 44) والطحاوي في (شرح مشكل الآثار) رقم (1175) والطبراني في (الكبير) (ج17 رقم 343) من طرق. وهو حديث حسن لغيره. وله شواهد تقدم كثير منها وسيأتي بعضها.

سمعت عديًا الكندي قال: حدثني مولى لنا أنه سمع جدي يقول: سمعت رسولَ الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ يقول: «إن الله لا يعذِّب العامَّة بعمل الخاصَّة حتَّى يروا المنكرَ بين ظهرانِيهم، وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذَّب الله العامَّة والخاصَّة» انتهى. ولا شك أَن كثيرًا من الفتن الواقعة في أيام الصحابةِ هي من هذا القبيلِ، فإن فتنةَ يوم الجمل لم يُصَبْ بها الباغي وحدَه، بل قُتِلَ فيها جماعة من المحقِّينَ، وكذلك أيامُ صفِّينَ فإِنه قتل فيها من المحقينَ ألوف مؤلَّفة منهم عمار بن ياسر، ولكن الشأن في كون الفتنةِ التي هي سببُ النزول هي فتنة معينة، فإن ذلك لم يثبتْ. وقد أورد الرازي في تفسير هذه الآية من مفاتيح الغيب (¬1) سؤالاَ وأَجاب عنه فقال: (فإن قيل) (حاصل) الكلام في الآية أَنه تعالى يخوِّفهم بعذابٍ لو نزل [4ب] لعمَّ المذنبَ وغيره، وكيف يليق برحمة الرحيم الحكيمِ أن يوصلَ الفتنة والعذابَ إِلى من لم يذنبْ: ـ؟ قلنا: إنه تعالى قد ينزل الموتَ والفقر والعمى وإنزاله بعبيده ابتداء، لأَنه يحسن منه تعالى ذلك بحكم المالكيةِ، ولأنه تعالى علم اشتمالَ ذلك على نوع من أنواع الصلاح على اختلاف المذهبينِ، وإِذا جاز ذلك لأجل هذين الوجهين فكذا هاهنا والله أعلم بمراده) انتهى. وأقول: هذا إنما يكون مشكلاً إِذا كانت الفتنةُ المذكورة تصيب من لم يكن له ذنبٌ قطُّ، وأَما إِذا قيل إِنها تصيب الذين ظلموا ـ أَي باشروا المعصيةَ الموجبة لاتصَّافهم بالظلمِ، والذين لم ينكروا المنكرَ مع وجوب ذلك عليهم كما تقدم، لم يكن ما في الآية مشكلاً، لأن الذين ظلموا أصيبوا أيضًا بذنوبهم ـ وهي ترك إنكارًا المنكرِ مع التمكُّن منه، لكنه يشكل على هذا أن الذين تركوا إِنكار مع وجوبه قد صاروا من جملة الظلمةِ، لأنهم اقترفوا ذنبًا ـ وهو ترك الإنكار الواجبِ، اللَّهم إلا أن يقالَ: إِن المرادَ بالذين ظلموا في الآية هم الفاعلون للمعصية التي يجب ¬

(¬1) في تفسيره (15/ 150).

إنكارُها كما يدلُّ على هذا كلام محمد بن جزيّ المتقدَّم ذكْرُه. فإنه فسر الآيةَ بما تقدم من قوله: (إنها لا تصيبُ الظالمين وحدَهم، بل تصيب معهم من لم يغيرِ المنكرَ، ولم ينه عن الظلمِ، وإن كان لم يظلم). انتهى. فهذا فيه تصريح بما ذكرناه [5أ]، ومثلُه كلامُ أَبي السعود (¬1) المتقدِّمُ نقلُه ... وإِذا صح هذا اندفع السؤالُ الذي أورده الرازي من أَصله، فإِنه إِنما نشأ من قوله في تفسير الآية: (أن الفتنة تتعدَّى إِلي الجميع كما تقدم نقله) ولكنه يقدحُ في تخصيص إصابة الفتنةِ لفاعل المعصية، ولمن لم ينكر عليه مع وجوب الإِنكارِ ما قدمنا من دخول بعض الفتنِ الواقعةِ بين الصحابة تحت الآية: إذ من أَصابتْه الفتنةُ من المحقينَ منهم لم تصبْه لأجل تركهِ لإنكارِ ما وجب عليه من المنكرِ, لأنهم قد قاموا بواجب الإِنكار, وسلُّو سيوفَهم في وجوه المبطلينَ من أهل الشام والخوارجِ ونحوِهم, وربما يجاب عن هذا بأن ترك الإنكار الذي هو سببُ الوقوع في الفتنة مع الظلمة لا يختصُّ بالتَّرك في نفس تلك الفتنةِ الثائرة لإمكان أن يكون قد وقع التَّرك لما يجب من الإنكار في أُمور آخرةٍ بمقدمةٍ على ثوراِنها فتسببتْ عن تلك الأسباب. وبعدَ هذا فالأنسبُ بالعموم المستفاد من المفهوم القرآني هو ما ذكره الرازي (¬2) من تعدى الفتنةِ إلى من لم يكن له ذنبٌ قطٌ, لا بمباشرته للظلمِ, ولا بترك إنكار, لأن مفهوم الآية الكريمة هكذا: (بل تصيبهم وغيرهم) والغيرُ يعمٌ المذنبَ بترك الإنكارِ وغَيْرَهَُ, ويؤيد هذا ما يتفق في كل عصر, ويشاهدُ من حلول محنِ الفتنِ [5ب] بمثل النساءِ والصبيانِ, ومن لا قدرة له على إنكار المنكر, بل ومن كان من القائمينَ بواجب الإنكار, وهذا يعرفهُ كلُّ إنسان بالمشاهدةِ والتواتُرِ. وقد اشتملت كتبُ التاريخ من ذلك على عجائب وغرائبَ, فإن فتنة التتار (¬3) طحنتْ غالبَ البلاد الإسلاميةِ, وكان من ¬

(¬1) في تفسيره (3/ 314) بتحقيقي. (¬2) في (مفاتيح الغيب) (5/ 149). (¬3) تقدم ذكره

عادتهم أنهم إِذا دخلوا مدينةً من مدائن الإسلام قتلُوا جميع من فيها من كبير وصغير, وذكرٍ وأنثى, وصالح وطالحِ, وعالم وجاهل, وكذا فتنةُ (تيمورلَنْكْ) فإنه فعل في البلاد الإِسلاميةِ ما يقارب فعل التتار ... وكذا لشاهُ إسماعيل وأمثالُهم من رءوس الفتنِ, فما ذكره الرازي (¬1) أنسب بالمفهوم القرآني, وبما يقع في الخارج, ويشاهد ويتواتَرُ, وإن كان ما ذكره غيره من التخصيص أَنسبَ بعدل الله وحكمتِه في حلول نقمته بمن يستحقُّها دون من لا يستحقُّها, فإنه ـ جل جلاله ـ لا يظلم الناس شيئًا {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] ويؤيدُ هذا الحديثُ الذي ذكرناه من رواية البغوي, (¬2) وفي معناه أَحاديثُ كثيرة (¬3) وبالجملةِ فالمقام من المعارك, وعلى فرض إمكان التخلُّ عن بعض الصور كما يكون من أفعال العبادِ من الفتن بأن يقال: إن المصابينَ من غير المذنبينَ, ومن النساء والصبيان والمجانين مظلمون, وليس إلى الله من ظلم العباد بعضِهم لعضًا شيء, ولا [6أ] يردُّ به الإشكال على ما في الآية الكريمة من التعميم, فقد لا يمكن التخلُّص عن العقوبات التي هى من أفعال الله كالخسفِ, والمسخِ, والجدْسِ, والعاهاتِ, وسائر الأمورُ السماويةِ إلا بمثل ما ذكَرَ الرازي. ¬

(¬1) في (مفاتيح الغيب) (5/ 149). (¬2) في تفسيره (3/ 345). (¬3) منها ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3346) ومسلم رقم (2880) عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أنَّ النبي صلي الله عليه وسلم دخل عليها فزعًا يقول: (لا إله إلا الله) ويلٌ للعرب من شرِّ قد اقترب, فتح اليوم من ردم يأجوج مأجوج مثل هذه) وحلَّق بين إصبعيه الإبهام والتي تليها, فقلت: يا رسول الله, أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم. إذا كثر الخبثُ). ومنها: ما أخرجه ابن حبان في صحيحه رقم (7270) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلتُ: يا رسول الله إن الله إذ أنزل سطوته بأهل الأرض وفيهم الصَّالحون, فيهلكون بهلاكهم؟ فقال: (يا عائشة, إنَّ الله إذا أنزل سطوته بأهل نقمته وفيهم الصَّالحون فيصابون معهم, ثمَ يبعثون على نيَّاتهم). وهو حديث صحيح لغيره.

البحث الثالث [مصير الفرق الثلاث من بني إسرائيل] في تقرير معنى قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ}. [الأعراف:164] قال أبو السعود: (¬1) إن المراد بقوله تعالى: {أُمَّةٌ مِنْهُمْ} جماعة من صلحائهم الذين ركبوا في وعظهم كل صعب وذلول حاى يئسوا عن احتمال القبول لأخرين, والمقول لهم جماعة آخرون لا يقلعون عن التذكير رجاء للنفع والتأثير, مبالغة في الإعذار, وطمعا في فائدة الإنذار, والقول هو: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} أي مخترمهم بالكلية, ومطهر الأرض منهم {أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} دون الاستئصال بالمرة, وقيل مخزيهم في الدنيا أو معذبهم في الآخرة, لعدم إقلاعهم عما كانوا عليه من الفسق والطغيان, والترديد لنتع الخلو دون منع الجمع, فإنهم مهلكون في الدنيا ومعذبون في الآخرة, وإيثار صيغة اسم الفاعل مع أن كلا من الإهلاك والتعذيب مترقب ـ للدلالة على تحققهما وتقررهما البتة, كأنهما واقعان, وإنما قالوه مبالغة في أن قالوه بمحضر من القوم حثا لهم على الاتعاظ, فإن بت القول بهلاكهم وعذابهم مما يلقي [6ب] في قلوبهم الخوف والخشية, وقيل المراد طائفة من الفرقة الهالكة أجابوا به وعاظهم ردا عليهم, وتهكما بهم, وليس بذاك. وجواب القول المتقدم هو قوله تعالى: {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} أي قال الواعظ: نعظهم معذرة إلى الله على أنه مفعول له ـ وهو الأنسب بظاهر قولهم: لم تعظون, أو ¬

(¬1) في تفسيره (3/ 258)

نعتذر معذرة على أنه مصدرٌ محذوفٍ, وقرئ بالرفع على أنَه خبرٌ لمبتدأ محذوف ـ أي موعظتُنا معذرةٌ إليه تعالى, بحيث لا ننسب إلى نوع تفريطٍ في النهي عن المنكرِ, وفي إضافة الربِّ إلى ضمير المخاطبينَ نوعُ تعريضٍ بالسائلين. وقوله تعالى: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} عطفٌ على مقدَّر ـ أي ورجاءٍ لأَن يتَّقوا بعضَ التقاةِ, وهذا صريح في أَن القائلين {لِمَ تَعِظُونَ} ليسوا من الفرق الهالكةِ ... {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} أي تركوا ما ذَكَّرَهم صلحاؤُهم تَرْكَ الناسي للشيء, وأعرضوا عنه إعراضًا كليًا لم يخطُرْ بباله شيءٌ من تلك المواعظِ أصلاٍ {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} ومن الفريقان المذكورانِ, وتصدير الجواب بإنجائِهم للمسارعة إِلى بيان نجاتِهم من أول الأمر, {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا} [7أ] بالاعتداءِ ومخالفةِ الأَمر {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} أي شديد. وصرح صاحب مدارك التنزيل (¬1) بأن المقولَ لهم هم الوعاظُ القائلينَ هم الصلحاء. وقال في تفسير: {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا} أَنهم الراكبون للمنكرِ, وجزَمَ بـ (لأن) الذين قالوا {لِمَ تَعِظُونَ} هم من الناجينَ, وروى عن الحسن أَنه قال: نجت فرقتانِ, وهلكت فرقةٌ, وهم الذين اتخذوا الحيتانَ. وقال محمد بن جُزيّ في التسهيل (¬2) في تفسير الآية: (افترقتْ بنو إسرائيلَ ثلاثَ فِرَق: ـ فرقةً عصتْ بالصيدِ يومَ السبت، وفرقةٌ نهتْ عن ذلك، وفرقةً سكتتْ واعتزلتْ لم تنهَ، ولم تعص، ـ وإن هذه الفرقةَ لما رأت مجاهرةَ الناهيةِ، وطغيانَ العاصيةِ قالوا للفرقة الناهية: (لم تعظونَ قومًا يريدُ الله أن يُهْلِكَهم أو يعذّبهم). فقالتِ الناهيةُ: ننهاهم معذرةً إِلى الله، ولعلهم يتقون، فهلكتِ الفرقةُ العاصِيةُ، ¬

(¬1) (المعروف بتفسير النسفي) (2/ 83). (¬2) (ص299)

ونجت الناهيةُ. واخْتُلِفَ في الثالثةِ هل هلكت لسكوتِها أو نجتْ لاعتزالها وبترك العصيان؟). وبالجملة فكلام أهل التفسير مختلفٌ في الفرقة الثالثة (¬1): هل نجت أو هلكتْ؟ ولا حاجة بنا إلى التطويل باستيفاءِ كلامهم [7ب] لأَن محلَّ السؤال هو في الذين قالوا {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} والاتفاقُ كائن أنهم ناجونَ، وأَن ذلك ليس من التعذير الذي لا يُسْقِطُ الواجبَ، وقد وقع الجواب عن سؤال السائلِ ـ عافاه الله ـ في البحث الأول من الثلاثةِ، وإنما ذكرنا البحثين الآخرينِ ليتضحَ بهما ما حررناه في البحث الأول، لأن سؤال السائل كثر الله فوائده قد تعلق بالآيتين من تلك الحيثية فكان في التعرُّض لتفسيرهما تكميلٌ للفائدة والله أعلم. حرر في ليلة الاثنينِ من ليالي شهر ربيع الآخر سنة: 1214هـ. ¬

(¬1) قال القرطبي في (الجامع لأحكام القرآن) (7/ 307) قال جمهور المفسرين: إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق وهو الظاهر من الضمائر في الآية، فرقة عصت وصادت، وكانوا نحوًا من سبعين ألفًا. وفرقة نهت واعتزلت، وكانوا اثنى عشر ألفًا، وفرقة اعتزلت ولم تنه ولم تعص. وأن هذه الطائفة قالت للناهية: لِم تعظون قومًا تريد العاصية ـ الله مهلكهم أو معذبهم على غلبة الظنَّ. وما عهد من فعل الله تعالى حينئذ بالأمم العاصية. فقال الناهية: موعظتنا معذرة إلى الله لعلهم يتقون. ولو كانت فرقتين لقالت الناهية للعاصية: ولعلكم تتقون، بالكاف. ثم اختلف بعد هذا، فقالت فرقة: إن الطائفة لم تنته ولم تعص هلكت مع العاصية عقوبة على ترك النهي قاله ابن عباس: وقال أيضًا. ما أدري ما فُعل بهم، وهو الظاهر من الآية. وقال عكرمة: قلت لابن عباس لما قال لا أدري ما فعل بهم: ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم فقالوا: لم تعظون قومًا الله مهلكهم؟ فلم أزل به حتى عرّفته أنهم قد نجوا، فكساني حُلّة، وهذا مذهب الحسن ومما يدل على أنه هلكت الفرقة العادية لا غير قوله: {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا} وقوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ ....... } الآية. انظر: (مفاتيح الغيب) للرازي (15/ 39).

الطود المنيف في ترجيح ما قاله السعد على ما قاله الشريف من اجتماع الاستعارة التمثيلية والتبعية في قوله تعالى: {(أولئك على هدى من ربهم}

الطود المنيف في ترجيح ما قاله السعد على ما قاله الشريف من اجتماع الاستعارة التمثيلية والتبعية في قوله تعالى: {(أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} ... تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقته وعلَّقت عليه وخرَّجت أحاديثه محفوظة بنت علي شرف الدين أم الحسن

وصف المخطوط: 1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: الطود المنيف في ترجيح ما قاله السعد على ما قاله الشريف من اجتماع الاستعارة التمثيلية والتبعية في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}. 2 ـ موضوع الرسالة: لغة عربية. 3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، وبه أستعين والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله، ورضي الله عن صحبه الراشدين، وبعد ... 4 ـ آخر الرسالة: فرغ من تحريره مؤلّفه محمد بن علي الشوكاني ـ غفر الله لهما ـ في ليلة الأحد لسبع وعشرين خلتْ من شهر رجب سنة 1221. حامدًا لله، ومصليًا مسلمًا على رسوله وآله. 5 ـ نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 ـ عدد الصفحات: 25 + عنوان الرسالة. 7 ت عدد الأسطر في الصفحة: 25 سطرًا. 8 ـ عدد الكلمات في السطر: 13 ـ 14 كلمة. 9 ـ الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم على صفحة العنوان هذه الأبيات الشعرية في وصف الكتاب: تسرّت وجوهُ الاستعاراتِ بالبدرِ ... وذلك شأن البدرِ في هتكِه السِّتر وأدركَ ثأرَ السعدِ ممن أذَّله ... فيا لكَ من دركٍ، ويا لك من نَصْرِ ولا شكَّ أنَّ الحقَّ فيما زبرتُه ... بكاشفُ الأمراضُ من علل الدهر وسمَّيْتهُ طوْدًا منيفًا وإنّما ... مصنِّفه أولى بذلكم الذكر فيا ليت شعري هل عقودٌ تنضَّدتْ ... على صحفاتِ التِّبْرِ في لبةِ النحرِ أم الغادةْ الحَسْنَا أبانتْ أقاحِيَا ... فأسْفَرَ نورُ الفجرِ من ذاك الثغر وما الروضةُ الغنَّاءُ غطَّ عبيرُها ... وفاح عطرها بمختلف الزهر بأنصعَ نَشْرٍ من سطورٍ تضمنت ... إقامةَ سوقِ الحقِّ في خافي الأمرِ

بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعينُ والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلامُ على سيدنا محمد وآله، ورضي الله عن صحبه الراشدين، وبعدُ: فإنه لما بلغ بنا الدرسُ في الكشاف (¬1) مع جماعةٍ من نبلاء الطلبةِ، وأذكياء العلماء العارفين بالفنون إلى كلام الزمخشري، وأهل الحواشي على قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬2). ومن جملةِ ما اشتمل عليه هذا المقامُ المباحثةُ المشهورةُ بين سعد الدين التفتازاني (¬3)، والسيِّد الشريفِ (¬4)، وقد اشْتُهِرَ ما وقع بينَهما في ذلك اشتهارَ النهار، حتى قيل: إن موتَ سعد الدين كان بهذا السببِ. (¬5) ¬

(¬1) (1/ 159). (¬2) [البقرة: 5]. (¬3) تقدمت ترجمته (ص719). (¬4) هو على بن محمد بن علي الجرجاني الحسيني الحنفي، ويُعرف بالسيِّد الشريف أبي الحسن، عالم حكيم مشارك في أنواع العلوم، ولد بجرجان عام 740هـ. توفي بشيراز سنة 816هـ من تصانيفه: ـ حاشية على شرح التنقيح للتفتازاني في الأصول. ـ حاشية على تفسير البيضاوي. ـ حاشية على المطوّل للتفتازاني. انظر: ((البدر الطالع)) (1/ 488 ـ 490))، ((معجم المؤلفين)) (2/ 515). (¬5) وذلك أنَّ السعد اتصل بالسلطان تيمورلنك، وجرت بينه وبين الشريف مناظرة في مجلس السلطان في مسألة كون إرادة الانتقام سببًا للغضب أم الغضب سببًا لإرادة الانتقام، فالسعد يقول بالأول، والشريف يقول بالثاني. قال الكارزوني: والحق مع السيد الشريف، كما جرت بينهما المناظرة المشهورة في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} ويقال بأنه حكم للشريف أيضًا، فاغتمَّ السعد ومات كمدًا. (البدر الطالع) (2/ 304).

والذي لاح لي أن الحقَّ في جانب السعدِ، وأن الصوابَ بيده، ولما كان هذا قد خفي على غالب المحصلينَ لكون الشريفَ قد أطالَ ذيلَ المقالِ، وتنوع في مسالك الجدالِ، واستكثر من الدفع والإبطالِ خصوصًا في حاشيتِه على المطوَّل، فإنه حكى هذه المباحثةَ، وأطنبَ إطنابًا لا يحتملُهُ المقامُ، ولا يقتضيه البحثُ. وليس للسعد في هذا البحثِ إلا ما تكلم به في حاشيته على الكشاف من تلك الكلماتِ المختصرةِ، وما نقله عنه خصمهُ في غضون كلامه. وبعد الجواب الموجز طلبَ مني أولئك الأعلامُ إيضاحَ الكلامِ في هذا المقام، بل منهم من حرر سؤالاً نفيسًا، وبحثًا شريفًا، وهو سيدي العلامة يحيى بن المطهر بن إسماعيلَ (¬1) ـ كثر الله فوائده ـ. وها أنا أجلُو عليك ما أفوّض أمرَهُ إليك في الترجيح والتجريح، والإبطال والتصحيح مبتديًا بنقل كلام الزمخشري، وإيضاحِ معناه، ثم كلام السعد في حاشيته على الكشاف، ثم كلامِ الشريفِ في حاشيته على الكشاف أيضًا، ثم كلامِه الطويلِ في حاشيتهِ على المطوَّلِن مبينًا لك ما ينبغي بيانُه، متعقِّبًا ما يستحقُّ التعقيبَ. ولولا الثقةُ مني بإنصاف أولئك الأعلام، وما عرفته من رسوخهم في المعارفِ، وثبوتِ أقدامهم في التحقيق، وما تحققتُه من أنهم ممن ينظر إلى القول لا إلى قائِله لم أتعرَّضْ للدخول بين هذينِ الفحلينِ، ولا سلكتُ هذا المضيقُ بين ذينكِ الجبلينِ. فأقول: قال العلامة الزمخشري في كشافه (¬2) ما لفظه: ومعنى الاستعلاء في قوله: {عَلَى هُدًى} مثلٌ لتمكُّنهم من الهدى، واستقرارِهم عليه، وتمسُّكِهم به، شُبِّهَتْ حالُهم بحال منِ اعتلى الشيءَ وركبَه ونحوِه. هو على الحقِّ وعلى الباطل. ¬

(¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) (1/ 159).

وقد صرَّحوا بذلك في قولهم [1]: جعل الغوايةَ مركبًا، وامتطى الجهلَ، واقتعدَ غارِبَ الهوى ... انتهى. وكل ناظر يعلم أن المحكومَ عليه في كلامه هذا بكونه مثلاً هو معنى الاستعلاء، وليس في مثل هذا نزاعٌ، ولا هو بموضوع اشتباهٍ، فإنه كلام على معنى الاستعلاء الذي عَنْونَ به كلامَهُ، وعقد البحث عليه. ولا شك ولا شبهةَ أن هذا الاستعلاءَ الذي ذكره هنا وتكلَّم عليه هو متعلَّق معنى الحرف المذكور في الآية الكريمةِ، أعني (على)، وليس فيها ما يفيد هذا المعنى قطُّ غيرُهُ. فالزمخشريُّ قد حكم على متعلَّق هذا المعنى الحرفي بأنه مَثَلٌ لتمكُّنِهم من الهدى، واستقرارهم عليه، وتمسُّكِهم به. ثم زاد المقامَ إيضاحًا وبيانًا بأن متعلِّق ذلك المعنى الحرفيِّ استعارةٌ تمثيليةٌ، فقال: شُبِّهَتْ حالُهم بحالِ منِ اعتلى الشيء وركبَه، فلم يبقَ شكٌّ حينئذٍ في مرادهِ ومعنى كلامِه، بل وضوحُه غنيٌّ عن البيان، فإنه لم يستغنِ بالحكم على المعنى الحرفي بكونِه مثلاً حتى فسَّر ذلك المثلَ بأنه تشبيهُ الحالةِ بالحالة. وإذا تقرر لك أن المحكومَ عليه بكونه مثلاً هو متعلَّق ذلك المعنى الحرفي فأنت لا يخفى عليك أن الاستعارةَ في متعلَّق معاني الحروف تبعيةٌ، كما صرَّح به علماء البيانِ تصريحًا يستغني عن البيان. (¬1). ¬

(¬1) قال محيي الدرويش في (إعراب القرآن الكريم وبيانه) (1/ 26): (الاستعارة التصريحية التبعيّة في قوله: {عَلَى هُدًى} تشبيهًا لحال المتقين بحال من اعتلى صهوة جواده فحذف المشبه واستعيرت كلمة (على) الدالة على الاستعلاء لبيان أنَّ شيئًا تفوق واستعلى على ما بعدها حقيقة نحو: زيد على السطح، أو حكمًا نحو: عليه دين فالدين للزومه وتحمله كأنّه ركب عليه وتحمله والدقة فيه أن الاستعارة بالحرف ويقال في إجرائها: شبه مطلق ارتباط بين هدى ومهدي بمطلق ارتباط بين مستعلٍ ومستعلى عليه بجامع التمكن في كل منها فسرى التشبيه من الكليات إلى الجزئيات ثم استعيرت (على) وهي من جزئيات المشبه به لجزئي من جزئيات المشبه على طريق الاستعارة التصريحية التبعية ومثل الآية الكريمة قوله: لسنا وإن أحسابنا كرمت ... يومًا على الآباء نتكل

وعند هذا تعلمُ مطابقةَ ما شرحه السعدُ في حاشيته لهذا الكلام المشروحِ، فإنه قال ما لفظه: ومعنى الاستعلاء مَثَلٌ أي: تمثيلٌ، وتصويرٌ لتمكُّنِهم من الهدى، يعني أن هذه الاستعارةَ تبعيةٌ تمثيلاً. أما التبعيةُ فَلِجَرَيانِها أولاً في متعلَّق معنى الحرف، وتبعيُتها في الحرفِ. وأما التمثيلُ فلكون كلٍّ من طرفي التشبيهِ حالةً منتزعةً من عدةِ أمورٍ، لأنه شُبِّهَتْ حالُهم في الاتصاف بالهدى على سبيل التمكُّن والاستقرارِ بحال من اعتلى الشيءَ وركبَه، فتكون الصفة بمنزلة المركوب ... انتهى. (¬1) ¬

(¬1) قال الشريف في حاشيته على (الكشاف) (1/ 110): اعلم أنَّ قوله: {عَلَى هُدًى} يحتمل وجوهًا ثلاثة: الأول: ما مرَّ من تشبيه تمسُّكهم بالهدى باستعلاء الراكب. الثاني: أنَّ تشبيه هيئة مُنتزعة من المتَّقي والهدى وتمسُّكه به بالهيئة المنتزعة من الراكب والمركوب واعتلائه عليه فيكون هناك استعارة تمثيلية مُركَّب كل من طرفيها، لكنه لم يُصرح من الألفاظ التي هي بإزاء المُشبَّه به إلاَّ بكلمة (على)، فإنَّ مدلولها هو العمدة في تلك الهيئة، وما عداه تبعٌ له يُلاحظُ معه في ضمن ألفاظ منوية، وإن لم تكن مقدَّرة في نظم الكلام، فليس حينئذٍ في (على) استعارةً أصلاً، بل هي على ما لها قبل الاستعارة، كما إذا صرَّّح بتلك الألفاظ كلها. الثالث: أن يُشبَّه الهدى بالمركوب على طريقة الاستعارة بالكناية، وتُجعل (على) قرينة لها على عكس الأول كما اختاره الإمام السكَّاكي، وحينئذ فمن اعتبر في طرفي التشبيه تلك الهيئة الوحدانية وحكم بأنَّ الاستعارة تبعية، فقد اشتبه عليه الوجه الأول بالثاني، وقد تمادي في ذلك مَنْ ادَّعى تكرُّرَه في الكشاف وهو بريء منه، وتوهَّم أنَّ عبارة المفتاح في تقرير الاستعارة التبعية في (لعلَّ) بيِّنةٌ في اجتماع التبعية والتمثيلية فيما ادَّعاه، وليس فيها إلا أنه شبَّه حال المكلَّف بحالة المُرتجى، والحال أعمُّ من المفرد والمُركَّب، كما لا يخفى. فإن قلت: إذا جُوِّز في التمثيل أن يكون طرفاه مفردين مع تركُّب وجهه؛ أمكن أن يُجامع الاستعارة التبعية في الحروف والأفعال. قلتُ: نعم, لكن الحق اسْتلزم التمثيل تركُّبُ طرفيه, فإن المتبادَرَ من قولهم: التمثيل؛ ما وجهه مُتنوعٌ من عدَّة أمور في كل من الطرفين, وإنْ أمكن أن يراد انتزاعه من أمور هى أجزاؤه كما في الهيئة المنتزعة التي تجعل مشبَّهة أو مشبَّهًا به, لا يُقال: تركُّب طرفيه واجبٌ بحسب المعنى, وأما بحسب اللقظ قلا, إذْ ربما يُطلق لفظ واحد على قصة, كقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة:17]؛ لأنَّا نقول: المراد بكون المعنى مُفرَدًا: أن يُلاحظ ملاحظةٍ واحدة في ظمن لفظ واحد, سواء لم يكن له أجزاء متعدِّدة لُحظت دفعة إجمالاً, ويكون المعنى مركَّبًا: أن يلتفت إلى أشياء عدَّة؛ كل على حدة, ثم يُضمُّ بعضها إلى بعض, وتصير هيئة وحدانية, وكل معنى ذي أجزاء عُبِّر عنه بلفظ واحد لم تكن تفاصيلها ملحوظةٍ ولم تعد مركَّبًا, وأما التشبية بالمثل فلا يُعني شيئًا, فإن الحالة المختصَّة المشَّبهة إنما تُفهم من ألفاظ مقدَّرة, أي مثلهم بما ذكر من إظهار الإيمان وإبطان الكفر وما يترتَّب عليه من الخداع المستتبع للمنافع, كما أن الحالة المشبَّه بها تثقهم من جميع الألفاظ المذكورة ههنا. قوله ـ أي الزمخشري ـ: (نحوه: هو على الحق) تجري فيه الوجوه الثلاثة؛ أي السابقة. قوله ـ أي الزمخشري ـ: (وقد صرَّحوا بذلك ... ) لما ذكر أن كلمة (على) مستعارة للتمسُّك بالهدى؛ لوم من ذلك تشبيه الهدى ونظائره بالركوب, وربما تبادَر إلى بعض الأذهان استبعاده, فأزاله بأن هذا التشبيه فيما ذكرناه ضمني غير مقصود من الكلام, وقد صرَّحوا به في مواضع أُخَر؛ وجعلوه مقصودًا منه. أما في صورة التشبيه كما في قولهم: جعل الغواية مركبًا, فإنه في قوة قولك: الغواية مركب؛ أي كالمركب. وأما في صورة الاستعارة كما في قولهم: اقتعد غارب الهوى, فقد شبه الهوى بالمطيَّة على طريقة الاستعارة المكنية. اهـ.

فهذا الكلام هو موافقٌ لكلام الزمخشري, مطابق للمشروح, لا يخالفُه بوجهه من الوجوه, وليس للسعد فيه زيادةٌ على ما يفيده كلامُ صاحب الكشاف إلا مجرَّدُ الإيضاح ولم يأتِ السعدُ مما يستحقُّ المؤاخذةَ عليه. وقد تقدمه إلى مثل هذا العلويُّ (¬1) في حاشيته على الكشافِ فقال ما لفظه: مَثَلٌ لتمكنهم, أي هو ....................................... ¬

(¬1) هو السَّيد يحيى بن القاسم بن عمر بن علي العلوي الحسني اليماني الصنعاني عز الدين ولد سنة 680 هـ قرأ على مشايخ اليمن ثم ارتحل إلى بغداد والشام وخراسان وقرأ على علماء هذه الديار, أكثر الاشتغال بالكشاف. وصنَّف حاشيته المشهورة بحاشية العلي, وهو الذي يشير إليه المتأخرون بالفاضل اليمني وهو من شافعية أهل اليمن. من كتبه: (تحفة الأشراف في كشف غوامض الكشاف). انظر: (البدر الطالع) (2/ 340) , (الأعلام للزركلي) (8/ 163).

استعارةٌ (¬1) ................................................................................................. ¬

(¬1) الاستعارة استعمال العبارة في غير ما وضعت له في أصل اللغة على وجه النقل للإبانة. وقيل: الاستعارة مجاز لغوي علاقته المشابهة. وقيل: الاستعارة أن تذكر أحد طرفي التشبيه وتريد به الطرف الآخر, مدعيًا دخول المشبه في جنس المشبه به دالاً على ذلك بإثباتك ما يخص المشبه به. وقيل: الاستعارة نقل المعنى من لفظ إلى لفظ المشاركة بينهما بسبب ما. وهذا الحد فاسد، لأن التشبيه يشارك الاستعارة فيه. وقيل: الاستعارة تعليق العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة على جهة النقل للإبانة. وقيل الاستعارة تشبيه حذف أحد طرفيه. وتنقسم الاستعارة من حيث ذكر أحد طرفيها إلى قسمين: (أ) الاستعارة التصريحية: بمعنى اللفظ المستعار إن كانت مذكورة في نظم الكلام لفظًا أو تقديرًا فهي استعارة مصرّحة. أي مصرح بها. ويقال لها استعارة مصرّح بها على الأصل. واستعارة تصريحية نحو (أسد) في قولك: عندي أسدٌ يرمي. ونحو (أسد) المدلول على الجملة الواقعة فيها بنعم، الواقعة في جواب من قال: أعندك أسدٌ يرمي؟ فالأولى استعارة مصرّحة مذكورة لفظًا. والثانية مصرحة مقدرة إذ تقدير الكلام (عندي أسد يرمي) بقرينة السؤال. وإذا لم يكن اللفظ المستعار مذكورًا سميت الاستعارة (استعارة مكنية). (ب) استعارة مكنية: وتنقسم الاستعارة باعتبار لفظها قسمين: 1) الاستعارة الأصلية. 2) الاستعارة التبعية. وتنقسم الاستعارة باعتبار ملائمها إلى: 1) الاستعارة المطلقة. 2) الاستعارة المجرَّدة. 3) الاستعارة المرشحة. وتنقسم بحسب طرفيها: أ) الاستعارة الوفاقية. ب) الاستعارة العنادية. انظر مزيل تفصيل: (معجم البلاغة العربية) (ص467 ـ 470).

تمثيليةٌ (¬1) واقعةُ التبعيةِ، (¬2) يدلُّ عليهِ قِوامُ حالِهم. ¬

(¬1) الاستعارة التمثيلية: مجاز مركبٌ علاقته المشابهة كقول الرمّاح بن ميّادة، وقد أراد أن يعبِّر أنّه كان مقدَّمًا عند صاحبه، ويتمنى ألاَّ يؤخره وكان مقرَّبًا فلا يبعده. ومجتبًى فلا يجتبنه فعبر عن تلك المعاني بقوله: ألم تكَ في يُمنى يديك جعلتني ... فلا جعلتني بعدها في شمالكا ولو أنني أذنبتُ ما كنت هالكًا ... على خصلةٍ من صالحات خصالكا ومنها قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ}. ومتى اشتهرت الاستعارة التمثيلية وكثر استعمالها سارت مثلاً والأمثال لا تغير فلا يلتفت فيها إلى مضاربها إفرادًا وتثنية وجمعًا وتذكيرًا وتأنيثًا, بل يشبه المثل بموارده, فينقل لفظه كما هو بلا تصرف. فتقول لرجال ضيعوا الفرصة على أنفسهم ثم جاءوا يطلبونها (الصيف ضيّعت اللبن) بتاء مكسورة. لأنه في الأصل خطاب لامرأة. (معجم البلاغة العربية) (ص110). (¬2) تنقسم الاستعارة بحسب لفظها إلى استعارة أصلية، واستعارة تبعية، الاستعارة (التبعية) هي التي لا يكون المستعار فيها اسم جنس غير مشتق فيكون فعلاً أو اسمًا مشتقًا أو حرفًا. وسميت هذه الاستعارة (تبعية) لأنها تابعة لاستعارة أخرى في المصدر، لأن الاستعارة تعتمد التشبيه والتشبيه يعتمد كون المشبه موصوفًا، والأفعال والصفات المشتقة منها بمعزل عن أن توصف. والمحتمل للاستعارة في الأفعال والصفات المشتقة منها هي مصادرها، وفي الحروف متعلقات معانيها، فتقع الاستعارة هناك، ثم يسري فيها. * ومتعلقات معاني الحروف ما يعبّر عنها عند تفسيرها. مثل قولنا: إن معنى (من) ابتداء الغاية. ومعنى (إلى) انتهاء الغاية. فاستعارة الفعل نحو قول الله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} فالمعنى على الحقيقة: بل نورد الحق على الباطل فيذهبه فقد شبه الإيراد بالقذف، واستعير لفظ المشبه به للمشبه، ثم اشتق من القذف بمعنى الإيراد (قذف) بمعنى (أورد) على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. واستعار الدفع للمحو بجامع الإذهاب في كل. واستعارة المشتق نحو: حكم على قاتلك بالسجن، من القتل بمعنى الضرب الشديد. واستعارة الحرف نحو قوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} فقد شبه مطلق الارتباط بين المستعلي والمستعلى عليه بمطلق الارتباط بين الظرف والمظروف بجامع التمكن أو مطلق الارتباط في كل. فسرى التشبيه من الكليين إلى الجزئيات، واستعير لفظ (في) من جزئيات المشبه به لجزيء من جزئيات المشبه على سبيل الاستعارة التبعية. (معجم البلاغة العربية) (ص110 ـ 111) (المطوَّل) (ص380).

وتقريره أن يقال: شُبَّهَتْ حالُهم وهي تمكُّنهم من الهدى، واستقرارُهم عليه، وتمسُّكهم به بحال منِ اعتلى الشيءَ ورَكبَهُ، ثم اسْتُعيرَ للحالةِ التي هي المشبَّه بها [2] كلمةُ الاستعلاء المستعملةُ في المشبه به، وتدلك على أن الاستعارةَ التبعيةَ تمثيليةُ الاستقراء، وبه يُشعِرُ قولُ صاحب المفتاح ـ رحمه الله ـ في استعارة (لعلَّ) فشبَّه حالَ المكلَّف ... إلى قوله: بحالِ المرتجي إلى آخِره انتهى. (¬1) فهذا تصريحٌ بما صرح به السعدُ مع زيادةِ الاستدلالِ على أن الاستعارةَ التبعية تمثيليةٌ بالاستقراء ... ويقولُ إمام الفنِّ السكاكي (¬2) صاحبُ المفتاحِ: وإذا عرفت هذا فاسمعْ ما نمليهِ عليك من كلام الشريفِ في حاشيته على الكشافِ، ثم من كلامه في حاشيته على المطوَّلِ، وسنكتُبُهُ هاهنا بحروفه ونتعقَّبه بما هو معروضٌ على معارفِ العارفينَ، مجلُوٌّ على أذهانِ الأذكياء من المتدربينَ، فقال في حاشيته على الكشاف ما لفظه: قوله: ومعنى الاستعلاء ـ يريد أن كلمة (على) هذه استعارةٌ تبعيةٌ ـ شبَّه تمسُّكَ المتقينَ بالهدى باستعلاء الراكبِ على مركوبِه في التمكُّن والاستقرارِ، فاسْتُعيرَ له الحرفُ الموضوعُ ¬

(¬1) انظر (المطوّل) (ص376). (¬2) هو: يوسف بن أبي بكر بن محمد بن علي السكّاكي الخوارزمي الحنفي أبو يعقوب سراج الدين، ولد عام سنة 555هـ توفي سنة 626هـ عالم بالعربية والأدب. من كتبه: (مفتاح العلوم) في النحو والبيان والمعاني البديع ... (الأعلام) للزركلي (8/ 222).

للاستعلاء كما شبَّه استعلاءَ المصلوبِ على الجذعِ باستقرار المظروفِ في الظرفِ بجامع الثباتِ، فاستُعيرَ له الحرفُ الموضوعُ للظرفية في قوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}. وإنما قال: ومعنى الاستعلاء دون معنى (على)، لان الاستعارة في الحروف تقع أولاً: في متعلَّق معناه كالاستعلاء والظرفيةِ والابتداء مثلاً، ثم تسري إليها بتبعيته. وقوله (مَثَلٌ) تصويرٌ: إذِ المقصودُ في الاستعارةِ تصويرُ المشبه بصورة المشبَّهِ به إبرازًا لوجه الشَّبَهِ في جانب المشَّبهِ به في صورته, في جانب المشبه به مبالغةً في شأنه, كأنه هو, فإنك إذا قلت: رأيتُ أسدًا يرمي, فقد صورتَه في شجاعتِه بصورةِ الأسدِ وجُرْأَتِه, وإنما قدَّم تصويرَ التمكن والاستقرارِ ـ أعني: وجْهَ التشبيهِ ـ على تصوير التمسُّك ـ أي المشبَّه ـ لأنه المقصودُ الأصليُّ بالقياس إليه. أقول: هكذا قال في حاشيته مفسِّرًا لكلام الزمخشري, شارحًا لمعناه. وحاصله: أن الاستعارة تبعيةٌ فقطْ, وهو وإن كان صحيحًا باعتبار معنى الحرف لكنه أهملَ بيانَ معنى قول الزمخشري: مَثَلٌ لتمكُّنهم من الهدى وأهمل أيضًا بيانَ معنى قوله: شُبِّهَتْ حالُهم بحالِ منِ اعتلَى الشيءَ وركبَه, وادَّعى أن معنى قوله مَثَلٌ هو مجرَّدُ التصويرِ, وهذه دعوى غيرُ مطابقةٍ لمصطلحِ أهل فنِّ البيان, فإنهم يستعملونَ هذا اللفظَ في الاستعارةِ التمثيليةِ كما تشهدُ به نصوصُهم في غير موضعٍ, لا سيما ما يقع من ذلك للزمخشري في الكشاف, هذا على فرض أن الزمخشريَّ لم يحققْ هذا المعنى ويوضِّحهُ, ويصرحْ به, فكيف وقد [3] قال عقبه: شُبِّهَتْ حالُهم بال منِ اعتلى الشيء وركبه! فإنه لا يبقى بعد هذا شكٌّ أن مقصودَه بيانُ الاستعارة التمثيليةِ التي حكم على معنى الاستعلاء بها حيثُ قال: ومعنى الاستعلاء في قوله: {عَلَى هُدًى} مَثَلٌ لتمكُّنهم .. إلخ ومع كون هذا هو مصطلح أهل الفنِّ هو أيضًا مستفادٌ من دليل الاستقرارِ, ومن كلام السكاكي كما قاله العلوي في كلامه المتقدم, فلم يكن هاهنا موجبٌ لتحريفِ الكلامِ, وحَمْلِهِ على خلاف معناهُ, وإخراجه عن مدلوله اللغوي والاصطلاحي.

قال: وزعم بعضُ الناس أن الاستعارةَ ها هنا تبعيةٌ تمثيليةٌ: قال: أما كونها تبعيةً فلِجَرَيانها أولاً في متعلَّق معنى الحروفِ, وتبعيتُها في الحرف, وأما كونها تمثيليةً فلكون كل من طرفي التشبيهِ حالةً منتزعةً من عدَّة أمور. واعترض عليه بأن انتزاعَ كلَّ طرفي التشبيه من أمور عدَّة يستلزم تركُّبَه من معان متعددةٍ. ولا شكَّ لأن متعلَّق معنى الحرفِ هو الاستعلاءُ, وإنه من المعاني المفردة كالضرب وأمثالِه, فلا يكون مُشَبَّهًا به في ذلك التشبيهِ سواءٌ كان جزءًا منه أو لا, فكيفَ يسري التشبيهُ والاستعارةُ منه إلى معنى الحرف! ومحصِّلة: أن معنى كون (على) استعارةً تبعيةً يستلزم كونَ معنى الاستعلاء مشبَّهًا به, وإنَّ ترُّكبَ الطرفين يستلزمُ أن لا يكون مشبهًا به, فلا يجتمعان. فإذا جُعلت (على) تبعيةً لم تكن تمثيليةً مركَّبة الطرفين, بل كانت استعارة ً في المفرد كما بيناه. أقول: حاصل هذا الكلام دعوى أن الاستعلاءَ الذي هو معنى الحرف من المعاني المفردةِ, ثم دعوى أن ذلك يمنعُ من أن يكون مشبَّهًا به في التشبيه الذي يركَّبُ طرفاه, وذلك ممنوع, وبيان معنى هذا المنع هو أنا نطالبُك بالدليل على كون معنى الاستعلاء الذي هو معنى الحرف مفردًا, فإن العقل والحِسَّ واللغةَ والاصطلاحَ ليس فيها شيء يستفادُ منه ما ذكرت. أما العقلُ: فإنه لا يمتنعُ عنده أن يكون معنى لفظ من الألفاظ المفردة متعددًا, وليس هذا مما يختلف العقلاءُ في صحته حتى يبرهنَ عليه, والقائم مقامَ المنع يكفيهِ هذا القيامُ في ذلك المقام. وأما الحِسُّ: فكلُّ ذي حِسٍّ لا ينكر أن للاستعلاء الحاصلِ من مجموعِ راكب ومركوب وركوب [4] هيئةً منتزعةً من أمور متعددة.

وأما اللغةُ: فأيُّ قائل قد قال منهم أن اللفظَ إذا كان مفردًا كان معناه غير متعدد, فإن الألفاظ المفردة التي لها معانٍ متعددةٌ موجودةٌ في كل باب من أبوابها وجودًا كثيرًا, فإن كان يعترفُ بهذا في معاني سائرِ الألفاظِ المفردة ويدَّعيه في معنى هذا اللفظ ـ أعني لفظَ الاستعلاء ـ فنحن نطالبُه بالنقل عن أهل اللغة, وما أظنه يجد إليه سبيلاً. وأما الاصطلاح: فلم يصطلحْ على مل ذكره من التلازم أحدٌ من أهل الفنون العلميةِ فضلاً عن علماء البيان, وكيف يخفى مثل هذا! وكتبُ البيانِ مصرِّحةٌ في حد الاستعارةِ التمثيليةِ بأنها اللفظُ المستعملُ فيما شُبِّه بمعناه الأصلي, (¬1) كما وقع في تلخيص المفتاح (¬2) فإن هذا تصريحٌ بتوحيد اللفظ وتوحيد معناهُ, ولو كانت الاستعارة التمثيليةُ تتوقَّف على تَعْدادِ اللفظ أو معناه لكان هذا الحدُّ مختلاً. قال: فأجاب بأنَّ انتزاعَ كلٍّ من طرفي التشبيهِ من عدةِ أمور لا يوجِبُ تركُّبَهُ في نفسِه، بل يقتضي تعدُّدًا في مأْخّذِه. وردَّ عليه بأن المشبَّه مثلاً إذا كان منتزعًا من أشياء متعددةٍ، فإما أن يُنْتزَعَ بتمامه من كل واحد منها، وذلك باطلٌ، لأنه إذا أخذ بتمامه من واحد منها كان أخْذُهُ مرَّةً ثانيةٍ من شيء آخرَ لغوًا، بل تحصيلاً للحاصل. وإما أن يُنتزعَ من كل واحد منها بعضٌ منه، فيكون مركبًا بالضرورة، وأما أن لا يكون هناك لا هذا ولا ذاك، وهو أيضًا باطلٌ، إذ لا انتزاعَ حينئذ للمشبَّه منها أصلاً، فتعيَّن القِسْمُ الثاني ولزم المطلوب. ¬

(¬1) تقدم ذكره. (¬2) (التلخيص) هو للقزويني. اختصر فيه كتاب مفتاح العلوم للسكاكي. يقول السعد في شرحه على (التلخيص): إنّا لا نسلم أن التمثيل يستلزم التركيب, بل هو استعارة مبنية على التشبيه التمثيلي قد يكون طرفاه مفردَيْن كما في قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا}. (المطوَّل) (ص390ـ 391).

أقول: اعلم أن جوابَ السعد المذكورَ في غايةِ الوضوحِ والظهورِ، وما أورده عليه فجوابُه أنا نختار القِسْمَ الثاني الذي قال أنه متعيّنٌ، ونقول له: ما تريد بقولك: (فيكون مركَّبًا بالضرورة؟). هل اللفظُ أو المعنى أو شيءٌ آخَرُ؟ إن أردتَ اللفظَ فممنوعٌ. وإن أردت المعنى فنحن نقول بموجبه (¬1)، ولا يضرنا ولا ينفعُك. فما معنى هذه المراوغَة! وإن أردت شيئًا آخر فما هو حتى نجيبَ عليه؟ قال: فكيف لا وقد صرح هذا الزاعم في تفسير قوله تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} بأنه لا معنى لتشبيه المركبِ بالمركبِ إلا أن تنتزعَ كيفيتهُ من أمور متعددةٍ فتُشَبَّه بكيفيةٍ أخرى مثلِها، تقعُ في كل واحد من الطرفين أمورٌ متعددة ... أقول: نعم صرَّح بهذا، فكانَ ماذا؟ فإنه ليس في كلامِه هناك ما خالف كلامَه هنا، وليس تصريحُه هنالك بأنه تقع في كل واحد من الطرفين أمورٌ متعددة يستلزمُ أن يكون التعدُّدُ في اللفظ حتى يقال: لفظ الاستعلاء مفردٌ، بل المرادُ أن يكون [5] المعنى في كل واحد من الطرفين متعدَّدًا، سواءٌ كان الدالُّ عليه لفظٌ مفردٌ أو متعدِّدٌ ... قال: وأيضًا قد اتَّفقوا على أن وجه التشبيهِ في التمثيل يجبُ أن يكون مركَّبًا، وما ذاك إلا لكونه منتزعًا من متعدد، وأمثال ذلك مما لا يلتبس على ذي فطنة ناقدةٍ، وفكرة صائبةٍ ... أقول: وكون مثلِ هذا الكلامِ لا ينفعهُ ولا يضرُّ السعدَ لا يلتبسُ على ذي فطنة ناقدةٍ وفكرة صائبة، فإن اتفاقهم على كونه وجْهَ الشبه في التمثيل يجبُ أن يكون مركبًا مسلَّم، وكذلك انتزاعُهُ من متعدد، ولا تعلُّق لمثل هذا الكلامِ بالمقام، فإن الانتزاعَ إنما هو من المأخذ لا من الدالِّ عليه الواقعُ في الكلام المشتملِ على الاستعارة التمثيلية. قال: فكأنّى بك قد تطلعت نوازعَ من قلبِك إلى ما يشفي غليلَ صدرك من تحقيق ¬

(¬1) في حاشية المخطوط: لكنه يبطل به قول السعد أن انتزاع طرفي التشبيه من عدة أمور لا يوجب تركبه في نفسه.

المقام الذي زلَّتْ في الأقدامُ. فتقول ـ وبالله التوفيق ـ قوله: {عَلَى هُدًى} تحتملُ وجوهًا ثلاثةً: الأول: أن يُشَبَّهَ التمسُّكُ بالهدى باستعلاء الراكبِ كما سلف. الثاني: أن تُشَبَّهَ هيئةٌ منتزعةٌ من المتقي، والهدى، وتمسكه به بالهيئةِ المنتزعةِ من الراكب والمركوب، واعتلائه عليه، فتكون هناك استعارة تمثيليةٌ ترَكَّبَ كلُّ واحد من طرفيها، إلا أنك لم تصرِّحْ من اللفظ الذي هو بإزاء المشبَّه به إلا بكلمة (على)، فإن مدلولَها هو العمدةُ في تلك الهيئةِ، وما عداه تَبَعٌ له يلاحظُ معه في ضمن ألفاظ متعددةٍ، وليس حينئذ (على) استعارةً أصلاً، بل هي على حالها قبل الاستعارةِ، كما إذا صرح بتلك الألفاظ كلِّها. الثالث: أنه يشبه الهدى بالمركوبِ على طريقةِ الاستعارةِ بالكنايةِ، وتُجْعَلُ (على) قرينةً لها على عكس الأولِ كما اختاره الإمامُ السَّكاكيُّ، وحينئذ فمن اعتبر في طرفي التشبيه بعد الهيئةِ الوحدانية، وحكَمَ بأن الاستعارة تبعيةٌ فقد اشتبه عليه الوجهِ الأول بالثاني، وقد يماري في ذلك منِ ادَّعى تكرُّرَهُ في الكشاف، وهو بريء منه. وتوهَّم أن عبارة المفتاحِ في تقرير الاستعارة التبعيةِ في (لعل) بيّنةٌ في ما ادَّعاه، وليس فيها إلا تشبيهُ حال المكلَّفِ بحال المرتجي، والحال أعمُّ من المفرد والمركب كما لا تخفى. أقول: هذا التحقيق الحقيقُ بالقبول لم يشتملْ على شيء من البرهان المقتضي لامتناع اجتماعِ الاستعارةِ التبعيةِ والتمثيليةِ، وذلك هو محلُّ النزاع، ولكنه قد اشتمل على تكرير الدعاوى المجرَّدةِ، وهو قد اعترف بأن المقامَ صالحٌ للاستعارة التبعيةِ، وللاستعارة التمثيليةِ. وادَّعى امتناعَ اجتماعِهما، واستدل على ذلك بأن معنى الحرف مفردٌ. وهي دعوى قد عرفت بطلانِها، ثم إنه ادَّعى هاهنا دعوة هي أبعدُ مما سلف فقال: إنه لم يصرِّحْ من اللفظ الذي هو بإزاء المشبَّه به [6] (¬1) إلاَّ بكلمة (على)، وإن ثَمَّ ألفاظًا أُخَرَ ¬

(¬1) في حاشية المخطوط: ولكنه لا يخفى عليك أن القول بتركب المعنى فيما نحن فيه لا يستلزم إبطال قول السعد أن ذلك الجواز تركبه بغير ذلك لأن الكلام هنا عن التشبيه نفسه لا عن طرفيه. تمت.

معتبرةً معها ملاحظَةً في ضمن ألفاظٍ متعددة، فوقع في مضيقٍ أضيقَ من المضيقِ الأول ـ أعني دعوى أن معنى الاستعلاء مفردٌ ـ وجاء بكلام يخالفُ ما عند أهل الفن مع ما فيه من التكلُّف الذي يمجُّه كلُّ طبعٍ سليمٍ، وينفِرُ عنه كلُّ فهم قويمٍ، ثم اعتمد في دفع ما استدَّل به خصمُه من تكرُّر ذلك في الكشافِِ، وفي كلام السكاكيَّ على مجرَّد الدعوى كقوله: ليس فيها إلا تشبيهُ حالِ المكلَّف بحال المرتجي. ثم جاء: بمغالطة بينةٍ فقال: والحالُ أعمُّ من المفرد والمركب كما لا يخفى. فيقال له: هذه الحالُ التي زعمت أنها أعمُّ هل هي الحال المذكورةُ في عبارة السكاكي هنا أم في غيرها؟ فإن قال بالأول فقد سلَّم أن هذه الحالَ تكون مركبةً كما تكون مفردةً، ولم يبرهنْ على أنها مفردةٌ فقطْ، فكان كلامه مصحِّحًا لما ادَّعاه خصْمُه، وليس المراد إلا وجودَ المصححِ، فإنه إذا كان ما قاله خصمُه صحيحًا بوجهٍ من الوجوه، وعلى اعتبار من الاعتبارات، لم يبقَ مسوِّغ للاعتراض عليه، ومثلُ هذا لا يخفى على مثل هذا الإمامِ. ولكن ما عرض في المقام بينَه وبين ذلك الإمام من الخصامِ قد تسبَّب عنه مثلُ هذا، ولا سيما إذا صحَّ ما يقال من أن هذه المباحثةَ بينهما كانت بمقامِ السلطان تيمورلنك. وإن قال بالثاني فهو مع كونه خلافَ مدلول هذه الكلمةِ لغةً واصطلاحًا لا ينفعهُ ولا يضرُّ خصمَه ... قال: فإن قلت: إذا جُوِّز في التمثيل أن يكون طرفاهُ مفردَيْن مع تركُّبِ وجهه أمكنَ أن تجامعَ الاستعارةُ التبعيةُ في الحروف والأفعال. قلت: نعم لكنَّ الحقَّ استلزامُ التمثيلِ تركُّبَ طرفيهِ، فإن المتبادَرَ من قولهم: التمثيلُ ما وجههُ منتزعٌ من عدة أمورٍ انتزاعُ وجهِهِ من عدة أمور في كل من الطرفينِ، وإن أمكن أن يُرادَ انتزاعُهُ من أمور هي أجزاؤه كما في الهيئة المنتزعةِ التي تجعلُ مشبَّهَةُ أو

مشبهًا بها. أقول: تدبَّر هذا المقامَ تظفرْ بالمرامِ، فإنه أورد على نفسِه أنه يجوزُ أن يكون طرفًا التمثيل مفردينِ، وأن هذا التجويزَ يجامع الاستعارةَ التبعيةَ في الحروف والأفعالِ، ثم قال في الجواب (قلتُ نعم) وهذا تسليمٌ منه يرفعُ النزاعَ، ويدفع الاعتراضَ، وينادي بأبلغِ صوتٍ، وينطق بأفصحِ لسانٍ أن كلام خَصْمِه حقٌّ، وأن اعتراضَه باطلٌ، ثم نكصَ بعد هذا التسليمِ فقال بعد قوله نعم: لكنَّ الحقّ استلزامُ التمثيل تركُّبَ طرفيه. فيقال له: هذا الاستلزام إن كان متعينًا لا يجوزُ غيرُه، فما معنى قولك نعم [7]! وإن كان غيرَ متعيَّنٍ لم يبق لاعتراضك موضعٌ، وصح كلام خصمِك باعترافِك، فليس المرادُ إلا وجودَ المصحح. ثم نقول: ما تريد بتركُّبِ الطرفينِ؟ هل تركُّبُ اللفظينِ أم تركُّبُ المعنى المستفادِ منهما؟ إن قلتَ: بالأول فذلك شيءٌ خارج عن الفن لا يقول به أحدق من أهله وإن قلتَ بالثاني كما هو صريح كلامِك سابقًا فقد تقدم ما فيه. قال: لا يقال تركُّبُ طرفيهِ واجبُ بحسبِ المعنى، وأما بحسب اللفظ فلا، إذ ربما يُطلقُ لفظٌ واحد على قصةٍ كقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي ... } لأنا نقول: المرادُ بكون المعنى مفردًا أن يُلاحَظَ ملاحظةً واحدةً في ضمنِ لفظ واحدٍ، سواء لم تكن له أجزاءٌ أو كانت أجزاءً متعددةً لوحِظَتْ دُفعةً إجمالاً، ويكون المعنى مركَّبًا أن يلتفتَ إلى أشياءَ عدَّةٍ عنه كلٌّ على حِدّةٍ ثم تُضَّمُّ بعضُها إلى بعض وتصيرُ هيئةًً وحدانيةً، فكل معنى ذي أجزاء عُبِّرَ عنه بلفظ واحدٍ لم تكن تفاصيلُها ملحوظةً، ولم يعد مركبًا، وأما التشبيهُ بالمثلِ فلا يغني عنك شيئًا؛ فإن الحالةَ المختصَّةَ المشبَّهةَ إنما تُفُهَمُ من ألفاظٍ مقدَّرةٍ، أي مثَّلهم بما ذكر من إظهارِ الإيمانِ وإبطانِ الكفر، وما يترتب عليه من الخداعِ المستتبعِ للمنافعِ، كما أن الحالةَ المشبَّهةَ بها تفهم من جميعِ الألفاظِ المذكورةِ هاهنا. أقول: قد أسفر بهذا الكلام الصبحُ لذي عينينِ، فإن هذا المحقَّق قد عقد بحثَه على أن معنى (على) مفردٌ، ثم لما تبيَّن له أن ذلك لا يغني من الحقِّ شيئًا أوردَ على نفسِه هذا

السؤالَ، وحاصلُه: إن التركُّبَ بحسب المعنى واجبٌ، وأما بحسب اللفظ فلا، وهو لم يتقدَّم له إلا الكلامُ على أن معنى الاستعلاء مفردٌ، وأن ذلكَ هو المانعُ، وعليه مصبُّ الاعتراضِ، لكنه تبيَّن له أن ذلك لا ينفعُه ولا يضرُّ خصمُه، فعاد إلى اعتبار تركُّبِ اللفظ ثم حقَّق معنى كون اللفظِ مفردًا ومركَّبًا بما لم يقعْ في كلامِ غيرِه من أهل العلم، فاعتبر في المفردِ أن يُلاحظَ ملاحظةً واحدةً في ضمن لفظ واحدٍ، وفي المركب أن يلتفتَ إلى أشياءَ متعددةٍ، فيقال له: على تسليم هذا الكلام الجاري على غير قوانين الأعلام، فهل ثمَّ مانعٌ في المقام الذي نحن فيه من أن يلتفت من الاستعلاءِ إلى أشياء متعددة، وهي الراكبُ [8] والمركوبُ والركوبُ، وإن قلتَ نعم فأيُّ جدوى بهذا الكلام؟ وإن قلت: لا فأخبرنا عن المانع من ذلك؟ ثم انظر كيف أورد على نفسه قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا}. وكان ورودُ هذا عليه أوضحَ من الشمسِ، فإن أفرادَ الطرفينِ معلومٌ لكل أحدٍ فأجاب عنه بمراوغة لا تغني من الحقِّ شيئًا. وقال: إن الحالة المختصَّة المشبهةَ إنما تفهم من ألفاظٍ مقدرةٍ ... إلخ. فيقال له: فكان الاعتذارُ للسَّعدِ بمثل هذا العُذرِ، وتوجيهُ كلامِه بمثل هذا التوجيهِ يكفيك مَؤُنَةَ الاعتراضِ عليه، ويدفع عنه ما ناله بسببك من تلك القلاقلِ والزلازلِ. فإن قلتَ: إن هذا الفهمَ من الألفاظ المقدَّرة تختصُّ ببعض الألفاظ المفردةِ، وهو لفظ المثل مثلاً دون لفظِ الاستعلاء، فما الدليل على هذا؟ هذا على فرض صحةِ هذه الدعوى، وصلاحيةِ مثلِ هذه المراوغةِ، وإن كانت من البُطلانِ بمكان لا يخفى، ومن الفساد بمحلٍّ بيِّن. وهاهنا انتهى الكلام على كلام الشريفِ في حاشية الكشاف. وسنشرعُ الآن بمعونةِ الله في الكلام على كلامِه في هذا البحثِ في حاشيته على المطولِ، (¬1) وهو إن كان قد ¬

(¬1) (ص391 ـ 398).

اشتمل كلامُهُ السابقُ على خلاصتِه فربَّما ينفق ما ذكره من التطويلِ، وكرَّره من التهويل على بعض الأذهانِ، فسنكتبه هاهنا ـ إن شاء الله ـ، ونستغني في دفع ما قد تقدم دفْعُهُ بالإشارة إلى ما قد تقدم. فقال ـ رحمه الله ـ بعد كلامه على قول صاحب المطوَّل: اعلم أن القومَ عرفوا التشبيهَ التمثيليَّ بما وجهُه منتزعٌ من متعدِّدٍ ما لفظُهُ: ثم إنَّ هاهنا قصةً غريبة في الاستعارة التمثيليةِ، فلنقصَّها عليكَ أحسنً القصَصِ، لتزدادَ إيمانًا بما ذكرنا، وينكشفَ لك بها مآربُ أخرى في مواضعَ شتَّى .. قال صاحب الكشاف: ومعنى الاستعلاء في قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى} مثلٌ لتمكُّنهم [9] من الهدى، واستقرارِهم عليه، وتمسُّكِهم به، فشُبِّهَتْ حالُهم بحال منِ اعتلى الشيءَ ورَكِبَهُ ... وقال هذا الشارح ـ يعنى السعد ـ في حواشيه عليه: قولُه ومعنى الاستعلاء مثلٌ أي تمثيلٌ وتصويرٌ لتمكُّنهم من الهدى، يعني أن هذه استعارةٌ تبعيةٌ تمثيلاً، أما التبعية فلجريانها أولاً في متعلَّق الحرفِ، وتبعيتُها في الحرفِ. وأما التمثيلُ فلكون كلٍّ من طرفي التشبيهِ حالُه منتزعةٌ من عدةِ أمورٍ، وهذه عبارتُه .. ثم قال: وأقول: لا يخفى عليك أن متعلَّق معنى الحرفِ هاهنا أعني كلمةَ (على) هو الاستعلاء، كما أن متعلَّق معنى (من) هو الابتداءُ، ومتعلَّق معنى (إلى) هو الانتهاءُ، ومتعلَّق معنى (كي) هو الفرضيةُ على ما صرَّح به في المفتاحِ. وقد مرت إشارةٌ إليه، ولا يلتبسُ أيضًا أن الاستعلاءَ من المعاني المفردة كالضربِ والقتلِ، ونظائرِهما، وكذلك معنى كلمة (على) مفردٌ، إذ لا يعني به في اصطلاح القومِ إلا ما دلَّ عليه بلفظ مفردٍ، وإن كان ذلك المعنى مركبًا في نفسِه بدليل أن تشبيهَ الإنسان بالأسدِ تشبيهُ مفردٍ بمفرد اتِّفاقًا، وإن كان كلٌّ منهما ذا أجزاء كثيرةٍ. وقد تقدم في مباحثِ وجهِ التشبيهِ تصريحهُ بذلك، ونبَّهناك عليهِ، ولما صرَّح بأنَّ كل واحد في طرفي التشبيهِ هاهنا حالةٌ منتزعةٌ من عدَّةِ أمور لزمه أن يكونَ كلُّ واحد منهما

مركَّبًا، وحينئذ لا يكون معنى الاستعلاء مشبهًا به أصالةً، ولا معنى (على) مشبَّهًا به تبعًا في هذا التشبيهِ المركَّبِ الطرفينِ، لأنهما معنيان مفردانِ، وإذا لم يكن شيءٌ منهما مشبهًا به هاهنا سواءٌ جُعِلَ جزءًا من المشبَّه أو خارجًا عنه لم يكن شيء منهما أيضًا مستعارًا منه، فكيف يسري التشبيهُ والاستعارةُ من أحدِهما إلى الآخر! والحاصلُ أن كونَ كلمةِ (على) استعارةً تبيعةً يستلزمُ أن يكون متعلَّق معناها ـ أعني الاستعلاء ـ مشبهًا به، ومستعارًا منه أصالةً، وأن يكون معناها مشبهًا به ومستعارًا منه تَبَعًا، وأن كون كلِّ واحد من طرفي التشبيه هاهنا مركَّبًا يستلزمُ أن لا يكون معنى (على)، ولا متعلَّقُ معناها مشبَّهًا ولا مستعارًا منه، لا تبعًا ولا أصالةً، ومنافي اللازمينِ ملزومٌ لتنافي الملزومين، فإذا [10] جُعِلَتِ الاستعارةُ في (على) تبعيةً لم تكن تمثيليةً مركَّبةَ الطرفينِ قطعًا ... أقول: ليس في كلامه هنا زيارةٌ على ما قدمنا من كلامه في حاشيته على الكشافِ إلا مجرَّدَ الأطنابِ، ومزيدَ الإيضاحِ، فلا حاجة لإعادة ما أسلفناه، إلا أنه هاهنا ربطَ دعوى كونِ معنى (على) مفردًا بما ذكره من اصطلاحِ القومِ أنه ما دلَّ عليه بلفظٍ مفردٍ، وإن كان المعنى مركَّبًا في نفسِه فيقال له: لا منافاةَ بين المفردِ بهذا المعنى، وبين المفرد الذي ندَّعي صلاحيتَه للاستعارةِ التمثيليةِ، إذ ليس المرادُ إلا مجرَّدَ انتزاعِ كلِّ من طرفي التشبيهِ من أمورٍ متعدِّدةٍ، وذلك لا يستلزمُ أن يكون الدالُّ على هذا المنتزَعِ مركَّبًا لا عقلاً، ولا لغةً، ولا اصطلاحًا، كما قدمنا تحقيقهَ. فإن الاستعلاء هيئةٌ حاصلةٌ من راكب ومركوب وركوب، وهذا لا يخفى قطُّ، ولا يلتبسُ على منْصفٍ. فاشتغالُه بالكلام على كون الطرفِ مفردًا تارةً معناه، وتارة لفظُه لم يربطْه بدليل قطُّ، ولا بشبهةٍ تنفقُ على بعض المحصلينَ، بل مجرَّدُ تطويلٍ وتهويلٍ. ثم هذه الكليةُ التي ذكرها ممنوعةٌ أعني قوله: إذًا لا يعني به اصطلاحِ القومِ إلا ما دلَّ عليهِ بلفظ مفرد. قال: ولما أورد عليه هذه النكتةَ منقَّحةً هكذا، واضحةَ المقدِّمات، ومحققةً مبنيةٌ على القواعد البيانيةِ والمشهوراتِ، وأبتْ له عصبيتُه أن يذعِنَ لما استبانَ من الحقِّ جَحَدَها بعدما استيقَنها. فقال في الجواب:

إن انتزاع كلٍّ طرفي التشبيه من أمور متعددةٍ لا يستلزم تركُّبًا في شيء من أطرافِه بل في مأخذهما، وهذا كما ترى ظاهرُ البطلانِ من وجوه: أحدها: أن المشبَّه بهِ مثلاً إذا انْتُزِعَ من عدَّةِ أمورٍ فلا يصحُّ أن يُنزَعَ بتمامه من كلِّ واحد [11] من تلك العدَّةِ، لأنه إذا انْتُزِعَ بتمامِه من واحد منها فقد حصلَ المقصودُ الذي هو المشبَّه بهِ، فلا معنى لانتزاعِهِ من واحد آخر مرةً أخرى، بل يجب على ذلك التقديرِ أن يكون جزءًا من المشبَّهِ بهِ، مأخوذًا من بعض تلك الأمور، وجزءًا آخَرَ من بعض آخَرَ فيلزمُ تركُّبُهُ قطْعًا. الثاني: إنهم قد أطبقوا على أن وجه الشَّبهِ في التمثيلِ لا يكون إلا مركبًا وليس هناك ما يوجبُ تركبُه سوى كونه منتزعًا من عدة أمور، فإنهم قد عرفوا التمثيلَ بما وجهه منتزعٌ من متعددٍ، وإن كان انتزاعُ وجهِ الشَّبهِ من أمور متعددةٍ مستلزمًا لتركُّبِه كان انتزاعُ كلِّ طرفي التشبيهِ منهما مستلزمًا لتركُّبِهما، لأن المقتضي للتركيب هو الانتزاعُ من أمورٍ عدَّةٍ، وخصوصًا كونُ المنتزعِ وجهَ شبَهٍ، أو مشبَّهًا به، أو مشبَّهًا ملغاةٌ في ذلك الاقتضاء جزمًا. الثالث: قد حكم بأن انتزاعَ كلٍّ من الطرفين من أمور عدةٍ يجب تركيبُهما حيث ردَّ على موجبِ أن يكون قولُه تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} من تشبيه المفرد بالمفردِِ، فإن قال هناك: ومنهم من قال: التشبيهُ ليس تشبيهًا مفردًا، ولا مركبًا، وإنما يكون كذلك لو كان تشبيهَ أشياءَ بأشياءَ، وليس كذلك، بل تشبيهُ شيء واحدٍ هو حالُ المنافقين بشيء واحدٍ، وهو حالُ المستوقدِ نارًا، ثم قال في الرد عليه: أقول: لا معنى للتشبيه المركَّب إلا أن تُنزعَ كيفيتُه من أمور متعددةٍ تُشبَّهُ بكيفية أخرى كذلك، فيقع في كل من الطرفين عدةُ أمورٍ، وإنما يكون التشبيهُ فيما هو ظاهر، لكن لا يُلتفتُ إليهِ، بل إلى الهيئة الحاصلةِ من المجموعِ كما في قوله: وكأنَّ أجرامَ دررٍ نُثِرتْ على بساط أزرقَ هذه عبارتُه، وهي مصرَّحةٌ بأن كلَّ واحد من طرفي التشبيه إذا كان حالُه منتزعةٌ من

أشياءَ متعددةٍ كان مركَّبًا، وبأن التشبيه المركَّب لا يكونان إلا منتزعين من أمورٍ عدةٍ، فلا فرْقَ إذنْ في وجوبِ التركيبِ بين أن يقالَ: هذا تشبيهٌ بمركَّب، وبين أن يقال: هذا تشبيهٌ منتزعٌ من عدةِ أمورٍ بمنتزعٍ آخر من أمور أخرى. وهذا كلامُ حقٍّ لا يحومُ حولّهُ شكٌّ ... وأما منعه هذا المعنى في هذا الجوابِ فهو بالحقيقةِ مكابرةٌ، وتلبيسٌ خوفًا من شناعةِ الإلزامِ. أقول: قد قدمنا جوابَ الوجهِ الأولِ باختيارِ أنَّه ليس بمنتزعٍ من كل واحد منها بتمامِه، بل هو مأخوذٌ من كل واحد منها، هذا يستلزمُ تركُّبَهُ قطعًا لا يضرُّ السعدَ، فإنه يقولُ أن كلاً من طرفي التشبيهِ منتزعٌ من أمور متعددةٍ، وأن التركُّبَ كائنٌ في المأخذ لا في نفسِ الطرفِ. فإن كان الشريفُ يريد أنه هو لفظُ الاستعلاء فلا يقول عاقلٌ أن تركُّبَ معنى الاستعلاء وهو انتزاعه من عدة أمورٍ يستلزم تركب لفظِه لا عقلاً ولا لغةً، ولا اصطلاحًا، وإن كان يريدُ به معنى الاستعلاء كما هو صريحُ كلامِه السابقِ فالسعدُ لا ينكرُ ذلك، فإن هيئةَ الاستعلاء الحاصلة [12] من المركوب والراكب والركوبِ هي متركبةٌ من هذه الحيثيةِ، أي منتزعةٌ من عدةِ أمورٍ، ولا ينكر هذا إلا مكابرٌ. والجواب عن الوجه الثاني بتسليم ما ذكره من أن تركَّبَ وجه الشَّبهِ يستلزمُ تركُّبَ كلِّ واحد من الطرفينِ، والطرفَ في محل النزاعِ هو معنى الاستعلاء المنتزعِ من تلك الأمور لا لفظُه، كما يفهم من رسم أهل الفنِّ للتشبيه التمثيلي، فإنه قال في التلخيص: هو اللفظ المستفادُ منه. والزمخشريُّ، وشرَّاح كلامِه إنما تكلموا في معنى الاستعلاء لا في لفظه، فقال الزمخشري: ومعنى الاستعلاء مَثَلٌ، ولم يقلْ: ولفظُ الاستعلاء مثَلٌ، وهكذا السعدُ إنما شرح كلامَ الزمخشري هذا، وهذا الظرفُ متركِّبٌ من تلك الأمورِ. وقد اضطرب كلامُ الشريفِ فتارةً يجعلُ الطرفَ اللفظَ، وتارة يجعلُه معنى اللفظ كما عرفناك سابقًا، والسعد

قد منع عليه استلزامَ انتزاعِ كلٍّ من طرفي التشبيهِ من متعدِّدٍ لتركُّبهما، ولم ينهض الشريفُ بعد هذا المنعِ بدليل تقوم به الحجةُ، بل اشتغلَ تارةً بالكلام على الطرف باعتبارِ لفظ المشبَّه به، وتارة باعتبار معناه، فاضطرب البحثُ، وتلوَّن كما أوضحناه فيما سبق. وأما ما ذكره في الوجه الثالثِ عن السَّعدِ فليس بينه وبين كلامه هنا منافاةٌ قطُّ، لا بمطابقةٍ، ولا تضمن، ولا التزامٍ، بل ذلك كلامٌ في تحقيق التشبيه المفردِ والمرَّكبِ فتدبَّرْه. فإن قوله: فتقعُ في كلٍّ من الطرفين عدةُ أمور. الذي جعله الشريفُ حجةً له عليه، ليس فيه إلا أنَّه يعتبرُ أن يكون معنى الطرفِ كذلك، وهو يلتزمُه في معنى الاستعلاء الذي هو محلُّ النزاعِ كما صرَّح به في كلامه الذي نقلَه عنه خصمُه، ولا مخالفةَ بينه وبين ما قاله من أن تركُّبَ المأْخَذِ لا يستلزمُ تركُّبَ الطرفِ، فإنه يريدُ به هاهنا اللفظَ الواقعَ طرفًا للتشبيه ... قال: ولعلك تشتهي الآنَ زيادةَ تحقيقٍ وتوضيحٍ في البيان. فنقول: قولُه تعالى: {عَلَى هُدًى} يحتملُ وجوهًا ثلاثة: أحدها: أن تشبيه الهدى بالمرْكبِ الموصلِ إلى المقصد فيثبتُ له بعض لوازمِه، وهو الاعتلاء على طريقةِ الاستعارةِ بالكناية. وثانيهما: أن يشبَّه تمسُّكُ المتقينَ بالهدى باعتلاء الراكبِ في التمكنِ والاستقرارِ، وحينئذ تكون كلمةٌ (على) استعارةً تبعيةٌ. الثالث: إن تشبُّهَ هيئة مركبةٍ من المتقي والهدى، وتمسُّكَهُ به ثابتًا مستقرًا عليه. لهيئةِ مركبِه من الراكبِ والمركوبِ، واعتلائِه عليه متمكِّنًا منه. وعلى هذا ينبغي أن يذْكُرَ جميعَ الألفاظِ [13] الدالةِ على الهيئةِ الثانية، ويراد بها الهيئةُ الأولى، فتكون مجموعُ تلك الألفاظ استعارةً تمثيليةً، كلُّ واحد من طرفيها منتزعٌ من أمور متعددة، ولا تكون في شيء من مفرداتِ تلك الألفاظِ تُصَرَّفُ بحسب هذه الاستعارةِ، بل هي على حالها قبل

الاستعمال، فلا تكون هناك حينئذ استعارةٌ تبعيةٌ في كلمة (على)، كما لا استعارةَ تبعيةً في الفعل في قولك: (وتقدَّم رِجْلاً وتأخَّر أخرى) إلا أنَّه اقتصر في الذكر من تلك الألفاظِ على كلمة (على)، لأن الاعتلاءَ هو العمدةُ في تلك الهيئة، إذ بعد ملاحظته تقرُّبِ الذهن إلى ملاحظة الهيئةِ، واعتبارِها، فجعلَ كلمةَ (على)، ولا مساغَ لأنْ يقال اسْتُعيرتْ كلمة (على) وحدَها من الهيئة الثانيةِ للهيئة الأولى، وذلك لأن الهيئة الثانيةَ ليست بمعنى (على)، ولا متعلَّق معناها الذي تسري الاستعارةُ منه إلى الأولى، والهيئة الأولى ليست مفهومةً منها وحدَها، فكيف تستعار هي من الثانية للأولى! أقول: قد تقدم الكلامُ على هذا، وقد اعترف بأن محلَّ النزاع يضيق لاعتبار الاستعارةِ التمثيليةِ، وذلك مطلوب. وأما قوله: وعلى هذا ينبغي أن يذكر جميعَ الألفاظِ ... إلخ فهذ دعوى مجردةٌ، فإن كان عليها دليل من كلام أهل الفن فما هو؟ فإنه لم يكن في كلامهم ما يُشعرُ بتعدد الألفاظ في نص قطُّ، بل نصوصُ أكابرِ الأئمةِ كالزمخشري والسكاكي مصرِّحةٌ بخلاف ذلك كما تقدم بيانه، ومحلُّ النزاع أعني اجتماعَ الاستعارةِ التبعيةِ والتمثيليةِِ قد دل عليه الاستقراءُ كما ذكره الفاضل اليمني، فما بقي حجةٌ. فإنْ كان الشريف يوجب تعدُّدَ اللفظ في كل طرف كما يشعر به كلامُه هنا وفيما تقدَّم، وفيما سيأتي مستدلاً على ذلك بما وقع في كل طرف كما يشعر به كلامُه هنا وفيما تقدَّم، وفيما سيأتي مستدلا على ذلك بما وقع في كلام أهل الفن: إن الاستعارةَ التمثيليةَ تشبيهُ هيئة بهيئةَ، وأن الهيئة لا يتعدَّد عليها ما كان مفردًا من الألفاظ. فاعلم أن هذا مصادرةٌ ظاهرةٌ، فإن ذلك هو محلُّ النزاع كما تقدم الكلام عليه غيرَ مرَّة، والخصمُ يقول: إن الاعتبار بتعدد المأخذِ كما تقدم، وبقول أن تعدُّدَهُ لا يستلزم تعددَُّ الدالِّ عليه، ويستدل على هذا بنصوص أئمةِ الفنِّ واستعمالاتِهم، وإن كان لا يحتاج إلى الدليل بل يكفيه قيامُه في مقام المنعِ، فإن الذي جاء بدعوى اعتبار التعدُّد فظًا،

وزعم في مثل محلِّ النزاع أن هناك ألفاظًا محذوفةً بعد اعترافه بصلاحيتِه للاستعارة التمثيليةِ هو الذي يتعيَّن عليه الاستدلالُ على ما ادَّعاه، أو يصحِّحُ النقلَ عن أئمة الفنِّ إن كان ذلك نقلاً عنهم، ولم يأت بشيء يصلحُ لذلك مجرَّد إلا الدعاوى. انظر كيف قال في هذا المقامِ مستدلاً على ما أسلفه من تعدد الألفاظ أنه لا مساغَ لأن يُقال: اسْتُعيرتْ كلمةُ (على) وحدَها من الهيئةِ الثانيةِ للهيئة الأولى، وذلك لأنَّ الهيئةَ الثانيةَ ليست على معنى (على)، ولا متعلَّق بمعناها ... إلخ ... وأنت تعلمُ أن هذا هو عينُ محلِّ النزاعِ، فإن الاستعلاء الذي هو معنى (على) بالاتفاق معناهُ متعدِّدٌ كما تقدم تقريره غير مرة، وكلامُ الزمخشري وشُرَّاح كلامِه إنما هو في معنى الاستعلاء كما هو مصرح به، وهذا التعدد في المعنى لا يستلزم أن يكون الدالُّ عليه ألفاظًا متعددةً لا لغة ولا عقلاً، ولا اصطلاحًا. وبالجملة فمن أنصف علِمَ أنه لم يكن بين يدي السيد المحققِ في هذا البحث إلا مجرَّد تكرير الدعاوى والمصادراتِ. قال: فإن قلتَ: لما كان معنى الاستعلاء مستلزمًا لفهم المعتلي والمعتلى عليه كانت كلمةُ (على) دالةً على مجموع الهيئةِ، فلا حاجة إلى تقدير ألفاظ أُخَرَ ... قلتُ: فَهْمُ المعتلي والمعتلى عليه من الاعتلاء، إنما يكون تبعًا لا قصدًا، وذلك لا يكفي في اعتبار الهيئة، بل لا بد أن يكون كل واحد منهما ملحوظًا قصدًا كالاعتلاء لتُعْتَبَر هيئةً مركبةً منهما، وهما من حيث إنَّهما يلاحظَانِ قصدًا مدلولاً لفظين آخرين فلا بدَّ أن يكونا مقدَّرين في الإرادة، وإما تقديرهما في نظم الكلامِ فذلك غير واجب، بل ربما كان تقديرهما موجبًا لتغيُّر نظمهِ. أقول: لما استشعر بسقوط ما ذكرَه من أنه لا دلالةَ لمعنى (على)، ولا لمتعلَّق معناها ـ على الهيئةِ أوردَ على نفسهِ هذا السؤالَ الذي لا يتلقَّاه المنصفُ بغير التسليم والاعتراف، وتحاشي عن دفْعِه، وردِّه لكونه [15] بمكان من الظهور لا يخفى، فاعترف بفهم الهيئةِ من معنى الاعتلاء، وتخلُّص عند بدعاوى ثلاث:

الأول: أن هذا الفهمَ إنما هو تَبَعًا لا قصدًا. الثاني: أن المعتبرَ هاهنا هو الفهمُ قصدًا. الثالثة: أنه لا بد أن يكون كل واحد من المركب مدلولاً للفظٍ غيرِ اللفظِ الذي دلَّ على الآخر، وهذه الدعاوي لم تُرْبَطْ بدليلٍ، ولا شهد بها عقلٌ ولا نقلٌ، فيكفي في دفعها مجرَّدُ المنعِ كما لا يخفي على من له أدنى تمسُّك بعلم المناظرة ... قال: ونظير ذلك ما صرَّحوا به من أن المشبَّه قد يُطوى ذكرُهُ في التشبيه طيَّا على سنَنِ الاستعارةِ، فلا يكون مقدَّرًا في نظم الكلام، فيلتبس بالاستعارةِ، فيُفَرَّقُ بينهما بوجهين: أحدهما: أن لفظ المشبَّهِ به في التشبيهِ مستعملٌ في معناه الحقيقي، وفي الاستعارة في معناه المجازي. الثاني: إن لفظ المشبَّه مقدَّر في الإرادة في صورةِ التشبيه دون الاستعارةِ كقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} (¬1) فإنه تشبيهٌ، إذ لم يُرِدْ بالبحرين الإسلامَ والكُفْرَ، بل أُريد البحرانِ حقيقةً، كما نشهد به سياق الآيةُ لمن له ذوقٌ سليم، وأريد تشبيهُ الإسلام والكفر بهما كأنه قيل: الإسلام بحر عذبٌ فرات، والكفر بحر مِلْحٌ أجاجٌ. فلفظ المشبَّه هاهنا مقدَّر في الإرادة دون نظم الآيةِ مغيرًا له، الشارح ـ يعني السعدَ ـ معترفًا بذلك ¬

(¬1) [فاطر: 12]. قال محيي الدين الدرويش في (إعراب القرآن الكريم وبيانه) (8/ 140 ـ 141): مثل الله للمؤمن والكافر بالبحرين ثم فضل البحر الأجاج على الكافر بأنه قد شارك البحر العذب في منافع من السمك واللؤلؤ وجري الفلك بما ينفع الناس والكافر خلو من النفع فهو في طريقة قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} ثم قال: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} ويقال أيضًا إن المؤمن والكافر وإن اشتركا في بعض الصفات كالشجاعة والسخاوة لا يتساويان في الخاصية العظمى لبقاء أحدهما على فطرته الأصلية.

حيث قال في تفسير قول الكشاف: فقد جاء مطويًا ذكْرُهُ على سننِ الاستعارةِ يعني: قد يطوي في التشبيهِ ذكرُ المشبَّه كما يطوي في الاستعارةِ، بحيث لا يكون المذكور ولا يحتاج إلى تقديره في تمام الكلامِ، إلا أنه في التشبيه يكون منويًا مرادًا، وفي الاستعارة منسيًا غيرَ مراد. ومصداق الصرفِ أن اسم المشبَّه به في الاستعارة يكون مستعملاً في معنى المشبَّه مرادًا به ذلك حيث لو أقيم مقام َ اسم المشبَّه استقام الكلامُ، وفي التشبيه يكون مستعملاً في معناه الحقيقيِّ مرادًا به ذلك، ثم قال في قوله تعالي: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ ... } إلى قوله تعالى: {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} (¬1) دلالةٌ قطعية على أن المراد بالبحرين معناهما الحقيقيِّ فيكون تشبيهًا: أي لا يستوي الإسلام والكفر اللذان هما كالبحرينِ الموصوفينِ. وقد خفِيَ هذا [16] البيانُ على بعض الأذهان فذهبوا إلى أن هذه الآيةَ من قبيل الاستعارةِ، ولا أدري كيف يتصدَّى أمثالُ هؤلاء لشرح مثل هذا الكتابِ ... انتهى كلامه. فقد اتضح جوازُ كون اللفظ مرادًا منويًا وإن لم يكن مقدرًا في تركيب الكلام، وإذا تحققتَ ما تلونا عليك عرفتَ أن تمييز الوجهِ الثالثِ ـ أعني أن تكون الاستعارةُ تمثيليةً ـ على الوجه الثاني ـ أعني أن تكون الاستعارةُ تبعيةً ـ مبني على تدقيق النظر في أحوال المعاني المقصودةِ بالألفاظِ المقدرةِ، ورعاية ما تقتضيه قواعدُ علمِ البيانِ، فَمِنْ ثَمَّ زلَّتْ فيه أقدامُ فَضَلَّوا وأضلُّوا. أقول: هذا الكلام ساقَه للاستدلال به على ما ذكره آخِرًا من جواز كون اللفظِ مرادًا منويًا ... إلخ ... ولا أدري كيفَ وقع مثلُ هذه التهافتاتِ لمثل هذا المحقِّقِ! فإن مجرد جواز الحذفِ في بعض المواضعِ لا يصلُحُ دليلاً لما فيه النزاعُ، فإنه يزعم أن الحذفَ فيه متعيَّنٌ لا يجوز غيره كما في الاستعارةِ التمثيليةِ، وخصمُه يخالفه ويمنعُ عليه ما قاله فهل يصلحُ في جواب هذا المنعِ المستفادِ من كلام خصمهِ أن يستدلَّ عليه بأنه قد جاز مثلُ ¬

(¬1) [فاطر: 12].

ذلك في موطن من المواطنِِ؟ فإن هذا التجويزَ غايةُ ما فيه أن يكون مثلَ ذلك جائزًا في محل النزاعِ لا متعيَّنًا، فيكون هذا الدليل الذي ساقه مقتضيًا بصحةِ ما قاله خصمُه، فاندفعَ الاعتراضُ، وبطل البحثُ من أصله. هذا على فرض أن الخصمَ يسلِّم صحةَ الحذفِ في المتنازعِ فيه، واحتمالَه لذلك، فكيف إذا كان قائمًا في مقام المنع مسنِدًا له بأن الطرفَ مذكورٌ بتمامه، وأن مأخذه متركبٌ ومعناه متعدِّد! قال: فإن قلتَ: على أي هذه الوجوه الثلاثة يحملُ كلامَ العلامة؟ قلتُ: على الوجه الثاني، فإنه جعل المشبَّه به اعتلاء الراكبِ، ويُعْلَمُ من ذلك أن المشبَّه هو التمسُّكُ بالهدى، وأن وجهَ الشَّبِه هو التمكن والاستقرارُ. وأما قوله مَثَلٌ فمعناه تمثيلٌ ـ أي تصويرٌ ـ فإن المقصودَ من الاستعارة تصويرُ المشبَّهِ بصورةِ المشبَّهِ بهِ، بل تصويرُ وصفِ المشبَّهِ بصورة وصفِ المشبَّهِ به. مثلاً إذا قلتَ [17]: رأيت أسدًا يرمي فقد صوَّرتَ الشجاعَ بصورة الأسدِ، بل صورت شجاعتَه بصورة جراءته، ولما كان المقصدُ الأعلى تصويرَ ما في المشبَّه من وجه الشَّبَهِ قدَّمَ التمكُّنَ والاستقرارَ على التمسُّك الذي هو المشبَّه وإنما قال: ومعنى (على) تنبيهًا على أن استعارةَ اللفظِ تابعةٌ لاستعارة المعنى، ليكون معناها للمبالغة. أقول: قد تقدم دفعُ هذا بما لا يحتاج إلى تكريره هنا. وقد عرفت مصطلحَ أهلِ الفنِّ إذا أطلقوا لفظَ المثلِ في مثل هذا المقامِ فافهمْ بأنهم لا يريدون به إلا الاستعارةَ التمثيليةَ. ولما كان ذلك مناديًا بصحة ما قاله السعدُ، وفسادِ ما قاله الشريفُ أبلغُ مناداةٍ حاول إخراجَه عن معنى المصطلح عليه تتميمًا لدعواهُ، وترويجًا لاعتراضه، ولا سيما بعد التصريح من قبل صاحب الكشافِ بما لا يبقي عنده شكٌّ في مراده حيث قال: شُبِّهَتْ حالُهم ... إلخ. إن لفظَ المثل في مثل هذا الموطن محتملاً لما زعمه لكان هذا التصريحُ مانعًا من إرادة ما أراده، ودافعًا لحملِه على ذلك. ثم تأمَّل قولَه: وإنما قال: ومعنى الكشافِ ـ يعني الزمخشري ـ فإن هذا لما كان مصرِّحًا بأن المستعارَ منه هو معنى الاستعلاء لا

لفظُه حاول دفعَه ليتمَّ له ما ذكره آخرًا مع أنه لم يصرِّح في حاشية الكشافِ وحاشيةِ المطوَّل إلا بالاعتراض على أن معنى الكشاف لا يصلُحُ أن يكون طرفًا في للتمثيل حسبما قدمنا حكايةً ذلك عنه، ولكنه غيَّر كلامه، ورجع إلى الكلام على اللفظِ الدال على ذلك المعنى أحيانًا كثيرةً، هذا تكميلاً للاعتراض وتقويمًا لهذه المباحثةِ التي لم يكن بها انتهاءٌ. قال: فإن قلت: قد تبين لنا مما قررت أن الصوابَ هو أن طرفي التشبيه [18] يتركَّبان معنى ولفظًا، فإن التركيبَ واجبٌ في الاستعارة التمثيليةِ كما صرَّح به في الإيضاح، (¬1) وشهد به المفتاحُ، وتبين أيضًا أن الاستعارةَ التبعيةَ في كلمة (على) لا تجامِعُ التمثيليةَ أصلاً، فما حال التبعيةِ في سائر الحروف والأفعالِ والأسماء المتصلةِ بها؟ قلت: هي لا تجامعُ التمثيليةَ في شيء منها، وذلك لأن معاني الحروف كلَّها مفرداتُ لكونها مدلولةً لألفاظ مفردةٍ، وكذلك متعلَّقاتُ معانيها من حيث إنها مفهومةٌ من تلك الحروف، ومعاني الأفعال ومصادِرُها، والأسماء المشتقة منها مفرداتٌ أيضًا لما ذكرنا، وليس شيء من هذه المعاني هيئةً مركَّبة، وحالةٌ منتزعةٌ من عدةِ أمورٍ فلا يقع شيء منها مشبَّهًا به أصالةً ولا تَبَعًا في الاستعارةِ التمثيليةِ. أقول: قد كان في أوائل كلامه يدعي أن الاستعلاء من المعاني المفردة، وأطال الكلام في ذلك، وكرر أنه لا بدَّ أن يكون المعنى مركبًا، ثم عاد بحثُه إلى أن لفظ الاستعلاء ونحوه لا يصلحُ بطرفيّهِ التمثيلِ لكونه مفردًا، ثم إنه هاهنا صرح بأن الصوابَ أن يكون طرفا التشبيهِ التمثيليِّ مركبين معنى ولفظًا، ثم استدلَّ على ذلك بأن التركيبَ واجبٌ في الاستعارة التمثيلية، وزعم أنه صرح بذلك في الإيضاح، وشهد له كلام المفتاح، وهذه مغالطة بيِّنةٌ، فإنه جعل الدليلَ على تركُّبِ لفظِ كلٍّ من الطرفين ومعناهُ هو كون التركيبِ واجبًا في الاستعارةِ التمثيليةِ. ¬

(¬1) (ص293 ـ 294) للخطيب القزويني.

ولا نزاع في وجوب التركيبِ، إنما النزاعُ في استلزام هذا التركيب لتركيبِ كل من الطرفين لفظًا ومعنى كما سبق تقريرُه غيرَ مرَّة، ثم كمل المغالطةَ بأنه صرَّح بذلك في الإيضاحِ، (¬1) وشهد بهِ كلامُ المفتاحِ، وليس فيهما إلا كونُ التركيبِ واجبًا في الاستعارةِ التمثيليةِ، لا أنه لا بد أن يكون كلٌّ من طرفيها مركَّبًا لفظًا ومعنى، فإن ذلك هو محلُّ النزاع. وقد عرفت أنه وقع التصريح في المفتاح بخلافِ ما زعَمَهُ كما تقدَّم عن العلويِّ راويًا لذلك عنه في خصوص مسألةِ النزاعِ وهو اجتماعُ الاستعارة التمثيليةِ [19] والتبعيةِ، وكما يُسْتفادُ من الدليل الاستقرائي حسبما تقدم به التصريح. والحاصل أن الخصم قائم مقام المنعِ مطالبٌ بالدليل فما هو؟ وأين هو؟ وكيف هو؟ قال: فإن قلت: قد نتخيل اجتماعَ التبعيةِ والتمثيليةِ من تقرير السكاكي: الاستعارةُ في (لعلَّ) في قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} قلتُ: ذلك تخيل فاسدٌ، وكيف لا وقد صرَّح في صدر كلامه بأن المشبَّه به والمستعارَ منه أصالةً هو معنى الترجِّي، ويعلم من ذلك مع باقي كلامه أن المشبَّه والمستعارَ به أصالة هو الإرادة، ثم يسري التشبيهُ والاستعارة فيهما إلى المعنى الحقيقي لكلمة (لعلَّ)، فيصير مشبَّهًا به ومستعارًا منه تبعًا. وإلى المعنى المقصود بها في تلك الآية ونظائِرها فيصيرُ مشبًَّهًا ومستعارًا له تبعًا، وكما أن المعنى الحقيقيَّ بهذه الكلمة غيرُ مستقلٍّ بالمفهومية، وإذا أريدَ أن يُفَسِّرَ عُبّر عنه بالترجِّي، (¬2) كذلك معناها المجازي المرادُ بها هاهنا غيرُ مستقلٍّ في المفهوميةِ. وإذا أريدَ ¬

(¬1) انظر (الإيضاح في علوم البلاغة) (ص293). (¬2) إذا ورد الترجي في كلام الله تعالى ففيه تأويلات: 1) إن لعلَّ على بابها من الترجِّي والأطماع ولكنه بالنسبة إلى المخاطبين وقد نص على هذا التأويل سيبويه في كتابه والزمخشري في كشافه. 2) إن لعلَّ للتعليل أي اعبدوا ربكم لكي تتقوا. نص عليه قطرب واختاره الطبري في تفسيره. 3) أنها للتعرض للشيء كأنه قيل: افعلوا ذلك متعرضين لأن تتقوا. نص عليه أبو البقاء واختاره المهدويّ في تفسيره. انظر: (إعراب القرآن الكريم وبيانه) (1/ 54 ـ 55).

أن يُفسَّرَ عُبّر عنه بالإرادة، وكل هذه المعاني ـ أعني الترجِّيَ، والإرادة، والمعنى الأصليَّ، والمعنى المراد ـ مفرداتٌ فلا يكون المشبَّه به ولا المشبَّه في هذا التشبيهِ لا أصالةً ولا تبعًا بمركَّب منتزعٍ من عِدَّة أمورٍ، فلا تكون استعارةُ (لعل) حينئذ تمثيليةً بما مرَّ من حصرِ التمثيليةِ فيما ينتزع كلُّ واحد من طرفيه من أمور متعددةٍ. نعم لما كان استعارةُ (لعل) من معناها الحقيقيِّ المفسَّرِ بالترجي لمعناها المجازي، المفسَّرِ بإرادة الله للأفعال الاختياريةِ للعباد مبنيةً على أصول المعتزلة أودَها. وأطنبَ فيها بما هو بسطٌ لكلام الكشافِ، ثم صرَّح بالمقصود مقتفيًا له أيضًا فقال: فشبَّه حالَ المكلَّف المتمكنِ من فعل الطاعةِ والمعصيةِ مع الإرادةِ منه أن يطيعَ باختياره بحال المرتجي المخيَّرِ بين أن يفعلَ وأن لا يفعلَ، وكان الظاهرُ أن يقول: فشبَّه حالَ اللهِ الممكنِ بحالِ المرتجي، لأنه أراد بالحالِ الذي هو المشبه به المعنى الحقيقيَّ الذي يعبَّر عنه بالترجِّي، وهو حال قائمٌ بالمرتجي، متعلِّق بالمترجي. وأراد بالحال الذي هو المشبَّه المعنى المجازي الذي يعبَّر عنه بإرادة الله تعالى، وهو حال قائم بالله تعالى، متعلِّق بالمكلف. والأولى بالحال أن يُضافَ إلى ما قام به. لكن عدلَ عن ذلك وأضافَه إلى المتعلَّق لفائدتينِ: الأولى: رعايةُ الأدب في ترك التصريحِ بتشبيهِ حال اللهِ تعالى بحال المرتجى. والثانية: الإشارة إلى وجه الشَّبهِ بين الترجِّي، وتلك الإرادة، فإن المشابهةَ بينهما إنما هي في أن متعلِّقَ كلِّ منها يتمثَّل بين إقدام وإحجامٍ، فقوله: مع الإرادة لله أن يطيعَ متعلِّق بالمتمكِّن لا بقوله: فتُشَبَّهُ ليؤذنَ بتركيبٍ في المشبَّه، وهذه صفتُه أعني المتمكَّن مع ما في حيِّزها تنبيهٌ على وجه الشَّبهِ في جانب المشبَّه، فكذلك قوله [20]: المخيَّر بين أن يفعلَ وأن لا يفعلَ تنبيهٌ عليه في جانب المشبَّه به، ولم يُقْصَدْ بشيء منهما تركيبٌ في أحد

الطرفين، وانتزاعُهُ من متعدد، وحينئذ قد اضمحلَّ ذلك الخيالُ، واتضح المستقيمُ من المحالِ، وإن شئت زيادةَ توضيحٍ في المقال فاعلم أن قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وأمثالَهُ يحتمل الوجوهَ الثلاثة على قياس ما تقدم. أما التبعيةُ فقد كشفنا عنها غطاءها فأنت بها خبيرٌ، وأما التمثيليةُ فإن تشبيهَ الهيئة المركبةِ المنتزعةِ من المريدِ والمراد منه، والإرادة بالهيئة المركبة المنتزعة من المرتجى والترجي، فيكون المستعارُ مجموع الألفاظ الدالةِ على الهيئةِ المشبَّهِ بها. وقد سبق في تحقيقها ما هو كافٍ وشافٍ لمن ألقى السَّمع وهو شهيدٌ. وأما الاستعارةُ بالكناية فبصرُك اليوم فيها حديدٌ، وهي إن كانت هي المختارةَ عند السكاكي حيث ردَّ التبعيةُ إليها مطلقًا فقد ردَّ عليه ذلك صاحب الكشاف بما لم يسبقْه به أحدٌ، وما عليه من مزيد. وسيرد عليك هذا المعنى غيرَ بعيد. أقول: هاهنا حصحصَ الحقُّ، واتَّضح الصوابُ، وارتفع الحجابُ، فإنه قد نقل عن السكاكي في كلامه هذا أنه صرَّح بأن المشبَّه به والمستعارَ منه أصالةً هو معنى الترجِّي، وهذا متعلِّقُ معنى الحرف ـ أعني (لعل) ـ بلا شك ولا شبهةٍ، فهو بالنسبة إلى (على) الذي هو محلُّ النزاعِ. ثم نقلَ عنه في هذا الكلامِ الذي كتبناه أنَّه بين معنى الاستعارةِ فقال: شُبِّهَ حالُ المكلَّفِ المتمكِّن من فعل الطاعةِ والمعصية مع الإرادة منه أن يطيعَ باختياره بحالِ المرتجي المخيَّر بين أن يفعلَ وأن لا يفعلَ، فهذا تصريحٌ أوضحُ من الشمس بأن هذه الاستعارةَ تمثيليةٌ، فلم يبق شكٌّ بعد ذكره لتشبيه الحالِ بالحال مع تفسيرِ كلِّ منهما بمتعدِّدٍ بأن هذه استعارةٌ تمثيليةٌ، ثم أخذ في تحريف هذا الكلامِ وإخراجِه عن معناهُ بما لا ينبغي التعرُّضُ لِدَفْعِ، بل يكفي تفويضُه إلى نظر المنصفِ العارفِ بمواقعِ الكلامِ، وأساليبِ المباحثةِ، وآداب المناظرةِ، فإنه عند من كان كذلك غنيٌّ عن البيان والله المستعان. فأنت ـ أيها الناظر ـ إن كنت لا تقتدي بالرجال، ولا تتقيدُ بالنظر إلى من قال،

فقد حللنا عنك عِقَالَ الإشكال [21]، وإن كنت على غير هذه الصفةِ فانظر أين يقع المحققُ الشريف من العلامة صاحبِ الكشافِ، والعلامةِ السكاكي، وأتباعِهما! كالفاضل اليمني، والسعد في خصوص مسألةِ النزاعِ، ثم في هذه المسألة المماثلةِ لها ـ أعني الاستعارة في (لعل) ـ وأما تجويزه في (لعل) ما جوَّزه في (على) من الوجوه الثلاثة فجوابُه مثلُ ما تقدم، وحاصلُه أن يقال له: قد سلَّمتَ جوازَ التبعيةِ والتمثيليةِ في كلامك هذا، وادَّعيتَ أنَّهما لا يجتمعانِ، ونحن نمنع ذلك. ثم ادَّعيتَ أن التمثيليةَ هاهنا لها ألفاظٌ محذوفةٌ، والحذف خلافُ الأصلِ فما دليلكِ عليه؟ قال: ونحن نوضِّح لك الحالَ في بعض صور الأمثالِ، ليكون ذلك مثالاً تحتذيهِ، ومنارًا تنتحيهِ، فنقول: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} إنْ جُعِلَ المشبَّه به فيه المعنى المصدريُّ الحقيقي للختْمِ والمشبَّه إحداثُ حالةٍ في قلوبِهم، مانعةً من نفوذ الحق فيها كان طرفا التشبيهِ مفردينِ، والاستعارةُ تبعيةً، وهو الوجه الأول في الكشاف، وإن جُعِلَ المشبَّه به هيئةً مركَّبة منتزعةً من الشيء، والختْمُ الواردُ عليه ومنعَه صاحبُه من الانتفاعِ به، والمشبَّه هيئةٌ مركَّبة منتزعةً من القلبِ، والحالةُ الحالّة فيه، ومنعَها صاحبُه الاستنفاعَ في الأمور الدينيةِ كان طرفا التشبيهِ مركبينِ، والاستعارةُ التمثيليةُ قد اقتصرَ فيها ألفاظ المشبَّه به على ما معناه عدَّةُ أمورٍ في تصوير تلك الهيئةِ واعتبارِها، وباقي الألفاظ منويةٌ مرادةٌ، وإن لم تكن مقدَّرةً في نظم الكلام، وليس هناك استعارةٌ تبعية أصلاً على ما تقرر فيما سبق، وهو الوجه الثاني في الكشافِ، فالفائدة في الاقتصار على بعض الألفاظ الاختلافُ: في العبارةِ، وتكثير محتملاتِها بأن تُحْمَلَ تارةً على التبعيةِ، وأخرى على التمثيلِ، ولو صرَّح بالكلِّ تعيَّنتِ التمثيليةُ إلى غير ذلك من الفوائدِ التي ربما لاحتْ لك في مواردها إذا فكرتَ فيها، وإن قصدَ في الآية إلى تشبيهِ قلوبِهم بأشياء مختومةً، وجعلَ ذلك الختْمَ الذي هو من روادف المستعارِ المسكوتِ عنه تنبيهًا عليه، ورمزَ إليه كان من قبيل الاستعارةِ بالكنايةِ، والله المستعان في البداية والنهاية.

أقول: الكلامُ في الختْم المذكور كالكلام في الاستعارةِ، فكل واحد منهما منتزعٌ من أمور متعددةٍ هي المذكورةُ هناك وهنا، وذلك هو المعتبرُ في الاستعارةِ التمثيليةِ، وأيضًا المستعار منه هو معناهما كما تقدَّم تحقيقهُ، وبيانُ النصِّ عليه والتصريحُ به، ولا مانع من تعدُّدِه لا عقلاً ولا لغة، ولا اصطلاحًا [22] كما أنه لا تلازُمَ بين اللفظ والمعنى في التعدد لا عقلاً، ولا لغةً، ولا اصطلاحًا، بل وجودُ المعاني المتعددةِ المدلولِ عليها بالألفاظ المفردةِ معلومٌ بالضرورة كما تقدم تقريرُه غَيْرَ مرَّة ... قال: ثم إن الشارح ـ يعني السعد ـ بعدما جرى في المباحثة في إبطالنا الاستعارةَ التمثيليةَ التبعيةَ في صورة جزئيةٍ، أعني كلمةَ (على) كما حققنا، وتشبثُه بما لا يُتشبَّثُ به كما مضى فكَّر في نفسه برهةً، وقدَّر وصوَّر ذلك الجزئيَّ في صورة كلية، وقرَّر فقال لا يقال الاستعارةُ التبعيةُ الحرفيةُ لا تكون تمثيليةً، لأنها تلتزم كونَ كلٍّ من الطرفين مركبًا ومتعلِّقُ معنى الحرف لا يكون إلا مفردًا، لأنا نقول: كلتا المقدمتينِ في حيِّز المنعِ، فإن مبنى التمثيل على تشبيهِ الحالةِ بالحالةِ، بل وصْفُ صورةٍ منتزعةٍ من عدَّةٍ أمور بوصفِ صورةٍ أخرى، وهذا لا يوجب إلا اعتبارَ التعدُّد في المأخذ لا فيه نفسِه، ولا ينافي كونَه متعلِّق معنى الحرف. ومن البيِّن في ذلك تقريرُ المفتاحِ لاستعارةِ (لعل) في: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. هذه عبارتُه بعينها ومَيْنها، وأنت بعد خِبْرتَكَ بتحقيق ما سلفَ في وجوب إفراد متعلِّقاتِ معاني الحروفِ، ووجوبِ تركُّبِ ما يُنتزعُ من أمورٍ متعدِّدةٍ تعلَمُ بسقوط منعيهِ معًا سقوطًا لا مِريةَ فيه ولا خفاء، وعبارتُه هذه مختلَّةٌ أيضًا، فإن قوله: بل وَصْفُ صورةٍ صوابُهُ أن يقال: بل صورةٌ، فإنَّ المشبَّه مثلاً هو الصورةُ المنتزعةُ لا وصفُها، فلفظُ الوصف مُسْتَدَرَكٌ في الموضعين هاهنا بخلافِ ما في عبارة المفتاحِ حيث قال: ومن الأمثلةِ استعارةُ وصفِ إحدى صورتينِ منتزعتين من أمور لوصفِ الأخرى. وقد صرح بذلك حيث قال: شبَّه صورةَ تردُّدِهِ هذا بصورةِ تردُّدِ إنسان لم يدخلْ رومًا للمبالغةِ في

التشبيهِ، فيكسوها وصفُ المشبَّه به من غ ير تعبيرٍ فيه، وأما قوله: ومن البيِّنِ فقد بيَّنا أنه خيالٌ فاسدٌ لا يلتبسُ على من له قدَمُ صِدْقٍ في القواعد البيانية. واعلم أن الفاضل اليمني توهَّم اجتماعَ التبعيةِ والتمثيليةِ من عبارة المفتاحِ، لكنه لم يصرحْ بأن طرفي تلك التمثيليةِ يكونان منتزعيْنِ من أمور عدَّةٍ فخفى الفسادُ في كلامه، والشارحُ قلَّده في ذلك، وزاده ما أظهر فسادَه، فتثبتْ أنت في رعايةِ القوانينِ، ولا تكن من المقلِّدين الذين يحسبونَ أنهم يحسنون صُنعًا. أقول: لا يخفى على ذي فهم سليمٍ، وقدمٍ في العلوم قويمٍ أنَّ كلام السعد هذا في غاية [23] المتانةِ والرصانةِ والمطابقةِ لأساليبِ الجدلِ، والمناسبةِ لقواعدِ المناظرةِ، فإنه قال لا يُقالُ: الاستعارةُ التبعية الحرفيةُ لا تكون تمثيليةً، لأنها تلتزمُ كونَ كلٍّ من الطرفينِ مركبًا، ومتعلَّقُ معنى الحرف لا يكون إلا مفردًا، لأنا نقول: كلتا المقدمتينِ في حيِّز المنع فهذا الكلام لا يشكُّ مَنْ نظَرَ فيه أنه قد جرى من مسالك الإنصاف في أوضح مسلكٍ، وأبينِ طريقٍ، لأنه حاصلُ ما اعترضَ الشريفُ عليه، فإنه بنى اعتراضَهُ على دعوى كون متعلَّق معنى الحرف مفردًا، وعلى دعوى كون كلٍّ من طرفي الاستعارةِ التمثيليةِ مركَّبًا، ولا يشكُّ عارفٌ أنه يصدُقُ على كلِّ منهما اسمُ الدعوى في مصطلح علم المناظرةِ، فأجابه السعد بالمنعِ الذي هو بمعنى طلب الدليل فلم يأت الشريف في هذا الكلام الطويل الذي كتبناه وتعقبناه بشيء يكون دليلاً. ولا نَقَلَ عن أهل الفنِّ ما يشهُدُ لما ادَّعاه حتى يُحمَلَ كلامُهُ علمًا على تقليد أهل فنِّ البيان. وغايةُ ما ساقه في هذه الأبحاثِ هو مجرَّدُ الدعاوى، كما بينه في كل موضع، ولم يأتِ هنا في جواب المنعين إلا باتهام المقصرينَ أنهما من [ .... ] (¬1) ثم زعم أنه قد أسلفَ ما يجب العلم بسقوط هذين المنعينِ سقوطًا لا مريةَ فيه ولا خفاء، ولست أدري كيفَ وقعَ هذا المحققُ الكبير والعلامةُ النِّحرير في مثل هذه التعسُّفات الخارجة عن الأساليب المعتبرة! ¬

(¬1) كلمة غير واضحة في المخطوط.

وأسعدُ الناس بالحقِّ في مثل فنِّ البيان هو من وافق القواعدَ المعتبرةَ عند أئمته، وإنَّ من أعلاهم كَعْبًا، وأرفعِهم فهمًا، وأحقَّهم بالاقتداء به، والمشي على طريقتهِ، والتقيدِ بأقواله ... إلى تقريره الإمام السكاكي، والإمام الزمخشري. وقد حكيناه لك عنهما ما هو شاهدُ صدقٍ على أن السعد هو أسعدُ الرجلين بالحق، وأولاهما بمصطلح أهل الفن، فإن كان الاعتبارُ في فن البيان بالأكابر من أئمته فلا أكبر من هذين الإمامين فقد وقع الاتفاق على أنهما قد عضّا على دقائقِه وحقائقِه بأقوى لِحْيَيْن، وإن كان [24] الاعتبار بموافقةِ علمِ اللغةِ لكون موضوعِ هذا الفنِّ هو دقائق العربيةِ وأسرارُها فقد عرفتَ من جميع ما سلفَ أنه لم يأتِ الشريفُ في مباحثته هذه بشيء منها تقومُ به الحجةُ على خَصْمِه، وإن كان الاعتبارُ بالاصطلاحِ الواقع لأهل الفنِّ في الكتب المدوَّنة فيه. فانظر هل تجدُ فيها شيئًا يشهدُ لما ذكره، ويدلُّ عليه! ومع هذا فالفاضلُ اليمني المعروفُ في هذه الديار بالعلويِّ قد صرَّح بما قدمنا ذِكْرَهُ من أنه قد دلَّ الاستقراءُ على أنَّ الاستعارةَ التبعيةَ تمثيليةٌ، وهو غيرُ متَّهم فيما ينقلُه عن أهل الفنِّ، فإنه من أئمته ... فلو فرضنا أنه لم يكن في المقام شيء من هذه الأمور الشاهدةِ لما قاله السعد بالصحةِ لكان قيامُهُ قيامَ المنعِ يرتضيهِ المنصفُ على فرض عجز المانعِ عن نقض ذلك الدليل أو معارضتهِ. ثم انظر كيف صنع المحققُ الشريفُ ـ رحمه الله ـ في كلامه هذا، فإنه لما جعل سقوط المنعينِ أمرًا معلومًا لا مريةَ فيه ولا خفاء كرّ على مناقشة العبارةِ بما لو كان صحيحًا لم يغنِ عنه شيئًا في محل النزاعِ، مع أن هذه العبارةَ المناقشةَ لا فرقَ بينهما، وبين عبارة السكاكي، فإن لفظ عبارة السكاكي هكذا، ومن الأمثلة استعارةُ وصفِ إحدى صورتينِ منتزعتينِ لوصف صورةٍ أخرى ... انتهى. وهذه العبارة مثلُ عبارة السعدِ، وقد اعترفَ الشريفُ في كلامه هذه بعبارةِ وصفٍ، لكنه حذفَ لفظَ صورةٍ. ثم اعتذرَ عن نقل السعد لعبارة صاحب المفتاح بأنه خيالٌ فاسدٌ ولو كان بمثل هذه المراوغاتِ يُؤْكَلُ الكتِفُ لَدَفَعَ من شاء ما شاءَ، وتزلزلتِ المعارفُ

العلميةُ، ولم ينفعُ محقٌّ بما في يده من الحقِّ، ولا افتضحَ مبطلٌ بما يزخرفه فيه من الباطلِ. فعليك أيُّها الناظر في هذا المقام بتدبُّر ما اشتملتْ عليه هذه المباحثةُ بين هذين الإمامينِ، فقد أسفر الصبحُ لذي عينين. (¬1) ¬

(¬1) قال الألوسي في (روح المعاني) (1/ 124) {عَلَى هُدًى} استعارة تمثيلية تبعية حيث شبهت حال أولئك ـ وهي تمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه وتمسكهم به بحال من اعتلى الشيء وركبه ثم استعير للحال التي هي المشبه المتروك كلمة الاستعلاء المستعملة في المشبه به وإلى ذلك ذهب السعد. وأنكر السيد اجتماع التمثيلية والتبعية لأن كونها تبعية يقتضي كون كل من الطرفين معنى مفردًا لأن المعاني الحرفية مفردة وكونها تمثيلية يستدعي انتزاعها من أمور متعددة وهو يستلزم تركبه، وأبدى في الآية ثلاثة أوجه: 1) أنها استعارة تبعية مفردة بأن شبه تمسك المتقين بالهدى باستعلاء الراكب على مركوبه في التمكين والاستقرار فاستعير له الحرف الموضوع للاستعلاء. 2) أن يشبه هيئة منتزعة من المتقي والهدى وتمسكه به بالهيئة المنتزعة من الراكب والمركوب واعتلائه عليه فيكون هناك استعارة تمثيلية تركب من كل طرفيها لكن لم يصرح من الألفاظ التي بإزاء المشبه به إلا بكلمة (على) فإن مدلولها هو العمدة في تلك الهيئة وما عداه تابع له ملاحظ في ضمن ألفاظ منوية وإن لم تقدر في نظم الكلام فليس في (على) استعارة أصلاً بل هي على حالها قبل الاستعارة كما إذا صرح بتلك الألفاظ كلها. 3) أن يشبه الهدى بالمركوب عن طريق الاستعارة بالكناية وتجعل كلمة (على) قرينة لها على عكس الوجه الأول. وهذا الخلاف بين الشيخين في هذه المسألة مما سارت به الركبان وعقدت له المجالس وصنفت فيه الرسائل. وأول ما وقع بينهما في مجلس تيمور وكان الحَكَمُ نعمان الخوارزمي المعتزلي فَحَكَمَ والظاهر أنه لأمر ما للسيد والعلماء إلى اليوم فريقان في ذلك ولا يزالون مختلفين فيه إلا أن الأكثر مع السعد. وأجابوا عن شبهة السيد بأن انتزاع شيء من أمور متعددة يكون على وجوه شتى فقد يكون من مجموع تلك الأمور كالوحدة الاعتبارية وقد يكون من أمر بالقياس إلى آخر كالإضافات وقد يكون بعضه من أمر وبعضه من آخر وعلى الأولين، لا يقتضي تركيبه بل تعدد مأخذه فيجوز حينئذ أن يكون المدلول الحرفي لكونه أمرًا إضافيًا كالاستعلاء حالة منتزعة من أمور متعددة تمثيلية ولعل اختيار القوم في تعريف التمثيلية لفظ الانتزاع دون التركيب يرشد المنصف إلى عدم اشتراط التركيب في طرفيه وإلا لكان الأظهر لفظ التركيب وقد أشبعنا القول في ذلك وذكرنا ما له وما عليه في كتابنا ـ الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية.

فرغ من تحريره مؤلّفه محمد بن علي الشوكاني ـ غفر الله لهما ـ في ليلة الأحد لسبع وعشرين خلتْ من شهر رجب سنة 1221. حامدًا لله، ومصليًا مسلمًا على رسوله وآله.

جيد النقد بعبارة الكشاف والسعد

(208) 29/ 3 جيد النقد بعبارة الكشاف والسعد تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: جيد النقد بعبارة الكشاف والسعد. 2 ـ موضوع الرسالة: لغة العربية. 3 ـ أول الرسالة: سيدي المالك القدير العلامة الأوحد عزَّ الإسلام وزينه الأنام محمد بن علي حفظه الله، وأمتع بحياته وعليه أفضل السلام ورحمة الله وبركاته ... 4 ـ آخر الرسالة: بما لا يبقي بعده ريبٌ لمرتاب إن شاء الله. حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله له في صباح يوم الأربعاء من ربيع الآخر سنة 1224هـ. 5 ـ نوع الخط: خط نسخي عادي. 6 ـ عدد الصفحات: 8 صفحات. 7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 27 سطرًا. 8 ـ عدد الكلمات في السطر: 10 ـ 13 كلمة. 9 ـ الناسخ: محمد بن علي الشوكاني للجواب، وعلى هاجر للسؤال. 10 ـ الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

[السؤال] الحمد لله .. سيدي المالك القدير العلامةَ الأوحدَ، عزَّ الإسلام، وزينةَ الأنام، محمدَ بن علي ـ حفظه الله ـ وأمتع بحياته وعليه أفضل السلام ورحمة الله وبركاتهُ، أشكلَ على المحبِّ على هاجر قولُ صاحب الكشاف (¬1) في تفسير قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (¬2) فقال: ما تركنا وما أغُفلنا في الكتاب في اللوحِ المحفوظِ من شيء من ذلك لم نكتُبْهُ، ولم نُثْبِتْ ما وجبَ أن يَثْبِتُ مما يختصُّ به. وقال سعد الدين في الحاشية عليه: قولُه نختصُّ به (بالنون)، وضير (به) لما، ويروى بالياء، والمستكِنُّ (لما)، وضميرُ بهِ للكتابِ، وكيف ما كان فهو بيانٌ لما وجب فيه احترازٌ عما يتعلَّق بقدرة العباد وإرادتِهم، فإنها لا تكون من هذا القبيلِ، وإنما تُعْلَمُ تِبْعًا لما يقع ... انتهى. فالمحبُّ ـ مع قصوره في علم الكلام، وعدمِ وجودِ كتاب فيه لديه ـ، أشكلَ عليه هذا التخصيصُ، فإنه ظهر عنه أن ما يتعلَّق بقدرةِ العبادِ وإرادِتهم فهو غيرُ مكتوبٍ في اللوح، ولا معلومٍ في الأزل، وإنما يُعْلَمُ بعد وقوعِه، فهذا ما فهمه الحقيرُ، وما أظن ذلك مرادَ صاحبِ الكشافِ، ولا مرادَ المحشِّي. ولعل الحقيرَ إنما أتى من قِبَلِ سوء فهمه للمرادِ. فالمطلوبُ إزالة الإشكالِ في ذلك. وما المراد بهذا التخصيص؟ وما الملجئ إليه؟ وما المراد أيضًا بما يتعلق بقدرة العباد وإرادتهم فإنه إن كان المراد بذلك أفعالهم ونحوَها فقولُه صلي الله عليه وسلم في الحديث المشهور: «ثم يرسلُ الملَكُ، فيؤمر بأربعٍ: بكتب رزقِه، وعملِه، وأجلِه، وشقيٌّ أم ........................................................... ¬

(¬1) (2/ 342 ـ 343). (¬2) [الأنعام: 38].

سعيدٌ» (¬1) يفيدُ أن جميعَ أفعال العبادِ معلومةٌ قبل وقوعِها، وكذلك عمومُ قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} دليلٌ على ذلك ... ولما كان معتقدُ الحقيرِ في غير نظرٍ في كتب علمِ الكلامِ أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يعلم بعلمِه السابقِ كلِّ شيء مما يختصُّ به، مما يتعلَّق بقدرةِ العبادِ من أفعالِهم وأقوالِهم وإرادتِهم وخطَراتِ قلوبِهم ولحظاتِ أعينِهم ووساوسَ نفوسِهم أشكلَ عليه هذا التخصيصُ غايةَ الإشكالِ، فالمراد إراحةُ الحقير عن هذا الإشكال، وتبيين الحق في هذه المسألةِ، وتبيين ما أراده المصنِّفُ والمحشِّي، وتوضيحُ المسألة ـ أجزل الله جزاءكم، وتولنا، ولا أخلَّ الوجود عن مثلكم ـ ولم أقل مثلك أعني به سواكَ يا بدرُ بلا مشبهةٍ، وفي حماية الله وحسن رعايته آمين [1]. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (1/ 382)، والبخاري رقم (7454)، ومسلم رقم (2643)، وأبو داود رقم (4708)، والترمذي رقم (2137)، وابن ماجه رقم (76) من حديث عبد الله بن مسعود. وقد تقدم.

[الجواب] بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمينِ، وآله الطاهرينَ وبعدُ: فإنه ورد السؤالُ الملصقُ بظاهر هذه الورقةِ من السائل ـ كثر الله فوائده ـ، وقد كنت أمرتُ العلامة محمد بن علي العمراني (¬1) ـ عافاه الله ـ بالجواب عنه، فأجاب بجواب مفيدٍ جدًّا، ذكر فيه ما ورد في إثبات القدَرِ على الوجهِ الذي وردت بهِ الشريعةُ، وما ورد في السنة المطهرةِ من أن الله يأمر الملَكَ بكتْب رزقِ المولودِ، وأجلِهِ، وعمَلِهِ، وكونهِ شقيًّا أم سعيدًا، وذكر أيضًا ما ورد في ذمِّ القدريةِ، وأوضح أنهم من قال أنَّ الأمر أنفٌ (¬2) كما ثبت تعيينُهم عن السلفِ الصالحِ، وكثير من العلماء المنصفينَ، ثم تكلم بعد ذلك في خصوصِ ما سأل عنه السائل، وقرر ما فهمهُ، وأن كلام السعد غيرُ صحيح، وأن منشأَ الوهْم منه كونُه حَمَلَ الصفةَ ـ أعني قول الزمخشريِّ ـ مما يختصُّ به على التقييدِ ولو حملها على الكشفِ لم يقعْ فيما وقعَ فيه من الغلط. هذا حاصلُ جوابِه. وقد تقدَّم من العلامةِ المقبليِّ في الأبحاثِ المسدَّدة (¬3) في هذا البحثِ بخصوصِه كلامٌ هذا لفظه: قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} قال في الكشاف: ما أغْفلنا في الكتاب في اللوح المحفوظِ من شيء لم نكتبْه، ولم نُثْبِتْ ما وجبَ أن يَثْبُتَ مما يختصُّ به أي مما يختصُّ به ذلك الشيءُ، لأنه فسَّر {أَمْثَالُكُمْ} بقوله: مكتوبةٌ أرزاقُها وآجالُها وأعمالُها كما كُتِبَتْ أرزاقكم وآجالكم وأعمالكم، فأراد هاهنا أي أرزاقَ كلِّ شيء في كل فردٍ، وجميعِ أحوالِه المختصةِ بهِ، وهذا أمرٌ أوضحُ من أن يُشْرَحَ. ¬

(¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) تقدم ذكره والتعليق عليه مرارًا. (¬3) (ص81 ـ 83).

لكن سعدَ الدينِ قال: هو نختصُّ (بالنون) ـ ويروى (بالياء). قال: وكيف ما كان فهو بيانٌ لما وجب. ثم قال: وفيه احترازٌ عما يتعلَّق بقدرةِ العباد وإرادتِهم، فإنَّها لا تكون من هذا القبيلِ، وإنما تعلم تبعًا لما يقعُ. انتهى كلامُهُ. وأراد بقوله: تعلمُ تِبْعًا لما يقعُ يعني مذهبَ القدريةِ الذين قالوا: الأمرُ أنفٌ، ولا شكَّ أنه مذهبُهم، فإما أن يكون قال ذلك بهتًا للمعتزلةِ ليحقِّق فيهم اسمَ القدرِ اغتنامًا لفرصةِ التلبيسِ، لأن عدمَ قولِ المعتزلة (¬1) لذلك معلومٌ عند كل باحث. وقد صرَّحتْ به الأشعرية (¬2) فضلاً عن غيرهم كابن حجرٍ في شرح الأربعين، واللقاني في شرح الجواهرِ [2]، ومن لا يُحْصَى، وإما أن يكون مثلَ أقوال بعض المغفلينَ الذين أخَذَ اسمَ القدرِ من أفواه الأشعريةِ واصطلاحِهم، ثم أخذ معناهُ من الأحاديث، فيكون السببُ عمى التعصُّبِ هو الذي أوقعَه في ذلك مع ذكائِه واطَّلاعه. وعلى كل تقدير فقد بُهِتَ شطرُ أهل البسيطةِ، بل كل موفَّق سلَّمه الله من بدعةِ الجبْرِ فبهتَهم بأعظمِ ذنبٍ، وما عسى أن تقعَ وُرَيْقاتُهُ التي صنَّفها في جنبِ ذلك! نسأل الله العافيةَ والسلامةَ، وروايتهُ نختصُّ (بالنون) غيرُ مقبولةٍ، وحاله ما ذكر. ولو جاءت من غيرهِ لم يكن فيها شبهةٌ أيضًا ... انتهى كلامُ المقبليِّ (¬3) ... وأقول: ينبغي أن نقرِّر أولاً معنى عبارةِ الزمخشري (¬4) تقريرًا يتضحُ به المرادُ إيضاحًا لا يبقي فيه إشكالٌ، وبيان ذلك أنه فسَّر قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا} بقوله: (ما أغفلنا)، وفسر {الْكِتَابِ} باللوحِ المحفوظِ، ثم قال: من شيء لم نكتبه، ولم نثبتْ ما وجبَ أن يَثْبتَ مما يختصُّ به، أي بل كتبناه وأثبتنا ما وجبَ أن يثبتَ مما نختصُّ به، وتوضيح العبارة هكذا: لم نكتبِ الشيءَ، ولم نُثْبِتِ الذي وجبَ أن يَثْبُتَ من شيء نختصُّ نحن ¬

(¬1) تقدم التعريف بها. (¬2) تقدم التعريف بها. (¬3) في (الأبحاث المسددة) (ص81 ـ 83). (¬4) في (الكشاف) (2/ 342).

بذلك الشيء، أو من شيء يختصُّ ذلك الشيء بالكتاب. فما في قوله ما وجبَ مفعولٌ نثبتُ، وفاعلُ وجب قولُه أن يثْبُتَ، وفاعل أن يَثْبُتَ ضميرٌ مُسْتكنٌّ فيه، عائدٌ إلى ما في قوله: ما وجبَ، فمعنى ما فسرَّ به قولَهُ: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ما أغْفلنا شيئًا منه بتركِ كتابِته، وتركِ إثباتِ ما يجبُ إثباتُه من الأشياء التي لنا اختصاصٌ بها، أو من الأشياء التي لذلك الكتابِ اختصاصٌ بها، بل أثبتْنا في الكتاب كلَّ شيء من الأشياء التي يجبُ إثباتها، ولنا بها اختصاصٌ، هذا على أن نختصُّ بالنونِ أو من الأشياء التي للكتابِ بها اختصاصٌ، على أن يختصَّ بالياء التحتيةِ، فيحصُلُ من هذا الكلام تقييدُ ما هو ثابتٌ في اللوح المحفوظِ بقيدين: الأول [3]: أن يكون مما يجبُ إثباته. والثاني: أن يكون مما يختصُّ به الله ـ سبحانه ـ على تقدير أن قوله نختصُّ بالنون، أو يكون مما يختصُّ به الكتابُ أي اللوحُ المحفوظُ على تقدير أن قولَه يختصُّ بالياء التحتيةِ، فهذان القيدانِ اللذانِ قيَّد الزمخشري ـ رحمه الله ـ كلام الله تعالى بهما لا بد أن ينتهضَ عليهما دليلٌ مرضٍ يدلُّ على أن مرادَه ـ سبحانه ـ بقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} أي من الأشياء التي يجبُ إثباتها، ولنا بها اختصاصٌ، أو للكتاب بها اختصاصٌ، فإنْ وجَدْنا هذا الدليلَ فبها ونِعْمَتْ، وإن لم نجده فلا خلافَ أن كلامَ الله ـ سبحانه ـ لا يجوز تقييدُهُ لمجرَّدِ الرأي. فإن قلت: ماذا تقول أنتَ هل لهذا التقييدِ من دليل يتعيَّن علينا قبولُه، ويلزمُنَا تقييدُ كلامِ الله بهِ؟ قلت: أما قيدُ الوجوبِ فهو إما أن يكون الوجوبُ على الله ـ سبحانه ـ أو على ملائكته، أو على سائر عباده لا يصحُّ أن يُرادَ الوجوبُ على عبادِه، لأنهم لا يتَّصلونَ باللوح المحفوظِ، فضلاً عن أن يكتبونَ فيه، فضلاً عن أن يجبَ عليهم إثبات شيء فيه، ولا يصحُّ أن يُرادَ الملائكةُ، لأنهم يفعلُون ما يؤمرون، وليس لهم من الأمرِ شيءٌ، ولا لاختيارِهم مدخلٌ في ذلك.

إذا تقرر هذا فلم يبق هاهنا إلا أن يكون الوجوبُ على الله ـ سبحانه ـ. وقد تقرر في علم الكلام أن إثباتَ الواجباتِ على الله تعالى هو مذهبٌ ذهبتْ إليه المعتزلةُ دون مَنْ عَدَاهُم (¬1)، على أنهم حصروا الواجباتِ على الله سبحانه في ثمانٍ مبيَّنةٍ ¬

(¬1) وذلك أن المعتزلة بناء على قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين أوجبوا على الله تعالى أمورًا وحرموا عليه أخرى بمحض عقولهم قياسًا لله على العبيد وبئس القياس. فما أوجبوا عليه، رعاية الصلاح للعباد، والثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية، وسموا ذلك عدلاً. وخالفهم في مذهبهم هذا جماهير المسلمين فقالوا: لا يجب على الله شيء بل له أن يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد. فقد قال الحافظ في (الفتح) (11/ 490): ـ في شرح حديث عبد الله بن مسعود وقد تقدم ـ واستدل به على أنّه لا يجب على الله رعاية الأصلح خلافًا لمن قال به من المعتزلة لأن فيه أن بعض الناس يذهب جميع عمره في طاعة الله، ثم يختم له بالكفر ـ والعياذ بالله ـ فيموت على ذلك. فيدخل النار فلو كان يجب عليه رعاية الأصلح لم يحبط جميع عمله الصالح بكلمة الكفر التي مات عليها، ولا سيما إن طال عمره وقرب موته من كفره. قال ابن القيم في (مدارج السالكين) (2/ 338): فعليك بالفرقان في هذا الموضع الذي افترقت فيه الفرق والناس فيه ثلاث فرق: ? فرقة رأت: أن العبد أقل وأعجز من أن يوجب على ربه حقًا، فقالت: لا يجب على الله شيئًا البتة، وأنكرت وجوب ما أوجبه الله على نفسه. ? وفرقة رأت: أنّه سبحانه أوجب على نفسه أمورًا لعبده فظنت أن العبد أوجبها عليه بأعماله. ? والفرقة الثالثة: أهل الهدى والصواب: قالت: لا يستوجب العبد على الله بسعيه نجاة ولا فلاحًا، ولا يدخل أحد عمله الجنة أبدًا والله تعالى بفضله وكرمه أكد إحسانه وجوده بأن أوجب لعبده عليه حقًّا بمقتضى الوعد فإن وعد الكريم إيجاب، ولو بعسى ولعل، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنه عسى من الله واجب. ? ويقول ابن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم) (2/ 785 ـ 786): لا ريب أن الله جعل على نفسه حقًّا لعباده المؤمنين كما قال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]. وكما قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]، وفي الصحيحين ـ البخاري رقم (5967)، ومسلم رقم (30) ـ أنَّ النبي صلي الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل وهو رديفه: «يا معاذ ما حق الله على عباده؟» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حقهم عليه أن لا يعذبهم» فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق. وقد اتفق العلماء على وجوب ما يجب بوعده الصادق، وتنازعوا: هل يوجب بنفسه على نفسه؟ على قولين: ومن جوز ذلك احتج بقوله سبحانه: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وبقوله في الحديث الصحيح: «إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا» ـ تقدم تخريجه ـ. وأمّا الإيجابُ عليه سبحانه وتعالى، والتحريم بالقياس على خلقه فهذا قول القدرية، وهو قول مبتدع مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول، وأهل السنة متفقون على أنّه سبحانه خالق كل شيء ومليكه وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن العباد لا يوجبون عليه شيئًا. ولهذا كان من قال على الله شيئًا، كما يكون للمخلوق على المخلوق، فإنَّ الله هو المنعم على العباد بكل خير، فهو الخالق لهم، وهو المرسل إليه الرسل، وهو الميسر لهم الإيمان، والعمل الصالح ... )).

في ذلك العلمِ، وليس هذا الإثباتُ في اللوحِ المحفوظ منها. ثم الظاهِرُ من هذا التقييدِ أعني كونَ تلك الأشياء مما يجبُ إثباتُه أن ثَمَّ أشياءَ لا تتصفُ بالوجوبِ، وأنها لم تثبت في اللوح المحفوظِ، وهذا مدفوع بشيئين [4]. الأول: ما يستفاد من قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وأنَّ وقوعَ النكرةِ في سياق النفي يفيدُ العمومَ لمجرَّدِه، (¬1) وهو من أقوى صيغِ العموم، فكيف إذا انضمَّ إلى ذلك التأكيدُ بـ (من) المزيدةِ في قوله: (من شيء)! فكيف إذا كانت هذه النكرةُ الواقعةُ في سياق هذا النفي المؤكَّدةِ بالحرفِ المزيدِ هي لفظُ شيء! فكيف إذا كانت هذه النكرةُ الواقعةُ في سياق هذا النفي المؤكَّدةِ بالحرفِ المزيدِ هي لفظُ شيء! فإنه أعمُّ العامُّ. وقد صرَّح الزمخشريُّ نفسُه في كشَّافه (¬2) عند تفسير قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى ................ ¬

(¬1) انظر (إرشاد الفحول) (ص410) وقد تقدم مرارًا. (¬2) (1/ 311 ـ 312).

شَيْءٍ} (¬1) فقال: وهذه مبالغةٌ عظيمة، لأن المحالَ والمعدومَ يقعُ عليها اسمُ الشيء، وإذا نُفي إطلاق اسم الشيء عليه، فقد بُولِغَ في تركِ الاعتدادِ به إلى ما ليس بعدَه، وهكذا قولُهم: أقلُّ من لا شيء ... انتهى بحروفه. فإذا كان الشيءُ يُطلقُ على المحالِ والمعدومُ فضلاً عن الموجودِ عند الزمخشري، كأن حثَّ عليه أن يقولَ في الشيء المذكور في هذه الآية ما قالَه في الشيء المذكور في تلكَ الآية، فكيف يخصَّصُه ببعض الأفرادِ! والثاني: ما يُستفادُ من الأحاديث الصحيحةِ الثابتة عن جماعة من الصحابة، مرفوعةٍ إلى النبيِّ صلي الله عليه وسلم وموقوفةٍ، فمنها: حديث عبادةَ بن الصامتِ قال: سمعتُ رسولَ الله صلي الله عليه وسلم يقول: «إن أوَّل ما خلقَ الله القلمَ، فقال له: اكتبْ فجرى بما هو كائنٌ إلى الأبدِ ... » أخرجه ابن أبي شيبة، (¬2) وأحمدُ، (¬3) والترمذيُّ، (¬4) وصحَّحَهُ، (¬5) وابن مردويهِ. (¬6) ومنها حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «إنَّ أوَّل ما خلقَ الله القلمَ، قال: اكتُبْ، قال: ما أكتب؟ قال: كل شيء كائنٌ إلى يوم القيامة» أخرجهُ ابنُ جرير (¬7) والطبرانيُّ. (¬8) ¬

(¬1) [البقرة: 113]. (¬2) في (المصنف) (14/ 114). (¬3) في (المسند) (5/ 317). (¬4) في (السنن) رقم (2155، 3319). (¬5) في (السنن) (4/ 458). (¬6) عزاه إليه السيوطي في (الدر المنثور) (8/ 241). وهو حديث صحيح. (¬7) في (جامع البيان) (14 جـ 29/ 241). (¬8) في (المعجم الكبير) (11/ 433 رقم 12227) وأورده الهيثمي في (المجمع) (7/ 128) وقال: (لم يرفعه عن حماد بن زيد إلاَّ مؤمل بن إسماعيل. قلت: ومؤمل ثقة كثير الخطأ، وقد وثقه ابن معين وغيره وضعفه البخاري وغيره وبقية رجاله ثقات). اهـ.

ومنها حديثُ معاويةَ بن قُرَّةَ عن أبيه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} قالَ: «لوحٌ من نور، وقلمٌ من نور يجري بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة» أخرجه ابن جرير. (¬1) ومنها حديثُ أبي هريرة قال: سمعتُ رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: «إن أوَّل شيء خلقه الله القلمِ، ثم خلق النونَ، وهي الدواة، ثم قال له: اكتبْ، قال: وما أكتبُ؟ قال ما كان، وما هو كائن إلى يوم القيامة، من عملٍ، أو أثرٍ، أو رزقٍ، أو أجلٍ، فكتب ما يكون، وما هو كائن إلى يوم القيامة». (¬2) ومنها حديثٌ آخَرةٌ عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «النون السمكةُ التي عليها قرارُ الأرضينَ، والقلمُ الذي خطَّ به ربُّنا ـ عز وجل ـ القدَر خيرهُ وشرَّه، وضرَّهُ ونَفْعَهُ [5]» (¬3) ومنها عن ابن عباس أيضًا موقوفًا قال: «إن أوَّل شيء خلقَه الله القلمَ، فقال له: اكتبْ، قال: يا ربَّ وما أكتبُ؟ قال: اكتب القدرَ، فجرى من ذلك اليومِ بما هو كائنٌ إلى أن تقوم الساعة، ثم طوى الكتابِ، ورفع القلم» أخرجه عبد الرزاق، (¬4) والفريابيُّ، (¬5) وسعيد بن منصور، (¬6) وعبد بن حميد، (¬7) وابن جرير، (¬8) .................... ¬

(¬1) في (جامع البيان) (14/ 29\ 15 ـ 16). (¬2) عزاه السيوطي في (الدر المنثور) (8/ 24) للحكيم الترمذي. (¬3) عزاه السيوطي في (الدر المنثور) (8/ 242) لابن مردويه. (¬4) في تفسيره (2/ 307). (¬5) في (القدر) رقم (77). (¬6) عزاه إليه السيوطي في (الدر المنثور) (8/ 240). (¬7) عزاه إليه السيوطي في (الدر المنثور) (8/ 240). (¬8) في (جامع البيان) (14/جـ29/ 14).

وابن المنذر، (¬1) وابن أبي حاتم، (¬2) وأبو الشيخ في العظمة، (¬3) والحاكم، (¬4) وصححه، وابن مردويه، (¬5) والبيهقيُّ في الأسماء والصفاتِ، (¬6) والخطيبُ في تاريخه، (¬7)، وأيضًا في المختارةِ. (¬8) ومنها عنه أيضًا قال: «إن الله خلق النونَ، وهي الدواة، وخلق القلم، فقال: اكتبْ، قال: ما أكتُب؟ قال: ما هو كائنٌ إلى يوم القيامة» أخرجه ابن جرير، (¬9) وابن المنذر. (¬10). ومنها عنه أيضًا قال: «أوَّلُ ما خلقَ اللهُ القلمُ، فأخذه بيمِينه وكلِْتَا يديهِ يمينٌ، وخلق النونَ، وهي الدواءُ، وخلق اللوحَ فكتب فيه، ثم خلق السماوات والأرضَ فكتب ما يكون من حينئذٍ في الدنيا إلى أن تكون الساعةُ من خلقِ مخلوقٍ، أو عملٍ معمول، بَرِّ، أو فجورٍ، وكلَّ رزقٍ حلالٍ أو حرامٍ، رَطْبٍ أو يابسٍ» أخرجه ابن أبي شيبةَ، (¬11) وابن المنذر. (¬12) ومنها عنه أيضًا قال: «خلق اللهُ القلمَ، فقال: أَجْرِهِ فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة» أخرجه عبد بن حميد. (¬13) ¬

(¬1) عزاه إلي السيوطي في (الدر المنثور) (8/ 240). (¬2) في تفسيره (10/ 3364 رقم 18936). (¬3) رقم (901). (¬4) في المستدرك) (2/ 498) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. (¬5) عزاه إليه السيوطي في (الدر المنثور) (8/ 240). (¬6) رقم (804). (¬7) عزاه إليه السيوطي في (الدر المنثور) (8/ 240). والخلاصة: أن أثر ابن عباس صحيح. (¬8) عزاه إليه السيوطي في (الدر المنثور) (8/ 240). والخلاصة: أن أثر ابن عباس صحيح. (¬9) في (جامع البيان) (14/جـ29/ 15). (¬10) انظر (جامع البيان) (14/جـ 29/ 15 ـ 16). (¬11) في (المصنف) (14/ 101). (¬12) عزاه إليه السيوطي في (الدر المنثور) (8/ 240). (¬13) عزاه إليه السيوطي في (الدر المنثور) (8/ 240).

ومنها عنه أيضًا قال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ما تركنا شيئًا إلا وقد كتبناهُ في أمِّ الكتاب. (¬1) ومنها عن عبيدِ الله بن زياد البكري قال: دخلتُ على ابني بشرِ المارِّبيين صاحبي رسول الله صلي الله عليه وسلم فقلت: يرحمُكُما الله ... الرجلُ يركُبُ منّا الدابةَ فيضربُها بالسوطِ، أو يكبحُها باللّجامِ، فهل سمعتُما من رسول الله صلي الله عليه وسلم في ذلك شيئًا؟ فقالا: لا. قال عبيد الله: فنادتْني امرأة من الداخل فقالتْ: يا هذا، إن الله يقول في كتابه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} فقالا: هذا أختُنا، وهي أكبرُ منَّا، وقد أدركتْ رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم. (¬2) وفي الباب عن جماعة من السلف آثارٌ كثيرةٌ. إذا تقرَّر لك هذا عرفتَ أن ما في اللوح المحفوظِ شاملٌ لكل شيء، لا يخرجُ عنه شيء فتقييدُ ذلك بكونه يجبُ إثباتُه إن أرادَ به إخراجَ شيء من الأشياء الداخلةِ في العموم فلا دليلَ عليه، بل هو مدفوعٌ بما ذكرنا من الأدلة، وإن أراد به عدمَ الإخراجِ فهو كلامٌ لا فائدةَ فيه، ولا ثمرةَ له على ما فيه من إثبات واجبٍ على الله ـ سبحانه [6]ـ لم تقلْ به المعتزلةُ فضلاً عن الأشعرية، فضلاً عن السلفِ الصالحِ. وأما القيدُ الثاني وهو كونُ ذلك الشيء المثبتِ مما يختصُّ به الله ـ سبحانه ـ أو مما يختصُّ به الكتابُ، فهذا القيدُ يُسْتَفَادُ منه أن الأشياءَ التي يُعَلِّمُ بها الملائكةَ، أو الأنسَ، أو الجنَّ مما أدركوه بعقولِهم، أو بسائرِ حواسِّهم، أو بما علَّمهم الله في كتبه المنزلةِ، أو على ألْسُنِ رسلِهِ المرسلةِ لم تثبتْ في اللوحِ المحفوظِ، لأن الله ـ سبحانه ـ لم يختصَّ بعلمِها، بلْ شاركَه في ذلك بعضُ خلْقِه. هذا على أن قولَه نختصُّ بالنون، وأما على أنه بالياء التحتيةِ أعني الكتابَ ـ أي اللوح المحفوظَ ـ يختصُّ بذلك، فإن أراد بهذا الاختصاصِ إخراجَ ما خرجَ على تقديرِ أن قولَهُ نختص بالنون فهو مثلُه، وإن أراد إخراجَ أمرٍ أخَرَ فما هو؟ وإن لم يردْ باختصاصِ وإن أرادَ إخراجَ ما ذكرناه مما يدركُهُ الملائكةُ والجِنُّ والإنسُ بعقولهم، أو بحواسِّهم، أو بتعليمِ الله لهم، فأيُّ دليل دلَّ على أن هذه الأمورَ لم تكتب في اللوح المحفوظِ، حتى تجعلَ ذلك مخصَّصًا لعموماتِ الكتاب والسنةِ! ولم أقفْ إلى الآن على مخصِّص يصلحُ للاستدلالِ به على ما ذكرنا، بل أدلةُ الكتابِ والسنةِ تدفعُ ذلك وتبطلُهُ كما عرفتَ. وإذا تقرر لك هذا وفهمتَه كما ينبغي علمتَ أن ما ذكره المقبليُّ من إرجاع الضميرِ في قوله يختصُّ (بالياء التحتية) إلى الشيء، وزَعْمَهُ أن كلامَ الزمشخريِّ على ذلك واضحٌ لا إشكال فيه، وأن السَّعد أخطأَ وفَعَل فعلاً باطلاً من وجوه: الأول: أنه قدح في رواية نختصُّ بالنون، بكون السعد راويها، وليس ذلك بشيء، ولا ينبغي لمنصفٍ أن يأتي بمثلِه، والسعد إنما قال بما قاله من تقدُّمِهِ من أهل العلم الذين لهم روايةٌ عن صاحب الكشاف، أو اطلاعٌ على النسخةِ التي بخطِّه، ثم لو فرضنا أنه لم يرو ذلك غيرُ السعدِ لكان أوثقَ من أن يكْذِبَ، وأجلَّ من أن يأتي بما لم يكن تنفيثًا لهؤلاء وتزييفًا لمذهب غيرِه. الثاني: [7]: إن المقبليَّ ـ رحمه الله ـ قال (¬3) ذلك، ولو جاءت من غيرِه لم تكن فيها شبهةٌ أيضًا: وهذه مراوغةٌ ومغالطةٌ وتدليسٌ لا ينفُقُ، وتلبيسٌ لا يُقبل، وهو ـ رحمه الله ـ كثيرُ التحذير من هذا وأمثالِه في مصنفاتِه، وكان عليه أن يبيَّن ذلك فهو مقامُ الإشكال ومحلُّ اللَّبسِ، وموطنُ الاشتباهِ. وما أظنُّ وقوع مثل هذهِ المراوغةِ منه إلا لمحبةِ صاحبِ الكشافِ مع ذهوله عند تحرير كلامِه ذلك عن هذا كما يقعُ لغيره كثيرًا مما يكثرُ ¬

(¬1) انظر: (الدر المنثور) (3/ 267)، (جامع البيان) (5/جـ7/ 188). (¬2) ذكره السيوطي في (الدر المنثور) (3/ 267). (¬3) في (الأبحاث المسددة) (ص81 ـ 83).

التحذير عنه في مؤلفاته. الثالث: أنه لا ينحلُّ عقالُ الإشكالِ بما زعمه في روايةِ يختصُّ بالياء التحتيةِ على انفرادِها، وبيانُه أنه إذا كان الثابتُ في اللوح المحفوظِ هو ما يختصُّ به ذلك الشيءُ لزمَ أن يخرج الشيءُ في نفسِه فيكون الثابتُ هو الأمورَ المختصّة به دونه. ومعلومٌ أنَّ كلَّ شيء هو مكتوبٌ في اللوح المحفوظِ أولاً، ثم يختصُّ به ثانيًا، ثم يلزمُ خروجُ الأمور المشتركةِ بين كلِّ الأشياء أو أكثرِها أو بعضِها، فإنَّه لا يوصَفُ الاختصاصُ بمفرد منها ... وإذا عرفتَ هذا وتبيَّن لك عدمُ تصحيحِ كلامِ الزمخشري بما قاله المقبليُّ فاعلم أن ما شرَحَهُ به السعدُ لا ينشرحُ به الصدرُ، ولا يقبلُه الفهمُ. وبيانُ ذلك أنه قال (وفيه احترازُ عما يتعلَّق بقدرةِ العبادِ وإرادتِهم، فإنها لا تكون من هذا القبيلِ، وإنما تُعْلَمْ تِبْعًا لما يقع) ولا يخفاكَ أن هذا لا يصحُّ لوجهين: الأول: تخصيصُ ذلك بقدرةِ العبادِ وإرادتهِم. وقد عرفتَ أن اللازمَ من عبارة الزمخشريِّ ما هو أعمُّ من ذلك وأطمُّ كما أوضحناه. الثاني: قوله: (وإنما يُعْلَمُ تِبْعًا لما وقعَ) فهذا فاسدٌ، وبيانُه أن النزاعَ إنما هو في المكتوب في اللوح المحفوظِ، فلا فيما هو معلومٌ لله سبحانه، فإن علْمَ الله تعالى أعمُّ وأشملُ بل لا يحيطُ به قلمٌ، ولا يحصرُهُ فمٌ، ولا يتناهى، وغايةُ ما في اللوح المحفوظِ الإحاطةُ بما هو كائن إلى يوم القيامة، كما قيَّدتْهُ الأحاديثُ والآثارُ. ولا يَشُكُّ أحدٌ أن الله ـ سبحانه ـ قد علم بعلمٍ قديمٍ أزليٍّ ما هو كائنٌ بعد يوم القيامةِ إلى ما لا يتناهى، ولا تحيطُ به العقولُ، ولا تدركُهُ الأفهامُ كما عَلِمَ ما هو كائن إلى يوم القيامةِ، ثم قولُ السعدِ: وإنما يُعْلَمُ تِبْعًا كلامٌ فاسدٌ، وبيانٌ باطلٌ لا يصحُّ أن يكون مرادًا لله، ولا لصاحِب الكشافِ ولا لَهُ. وإذا تبيَّن لك ما حررناه علمتَ أن كلامَ صاحبِ الكشاف في هذا المحلِّ هو منشأُ الإشكالِ، ومعدنُ الاشتباهِ. وقد أوضحنا ما هو الصوابُ بما لا يبقي بعده ريبٌ لمرتاب

إن شاء الله. حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله له في صباح يوم الأربعاء من ربيع الآخر سنة 1224هـ.

القول الصادق في ترتيب الجزاء على السابق

(209) 15/ 3 القول الصادق في ترتيب الجزاء على السابق حرره الجاني المتكلم فيما لا يعنيه بلسان التواني لطف الله غُفر ذنبه فمن وقف على تقصير في هذا أصلحه بقلم البيان ومد ثوب ستره على العريان وعذرني من التقصير فما يستوي الأعمى والبصير وصلي الله على محمد البشير النذير وعلى آله وأصحابه تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: القول الصادق في ترتيب الجزاء على السابق. 2 ـ موضوع الرسالة: لغة العربية. 3 ـ أول الرسالة: القول الصادق في ترتيب الجزاء على السابق، بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي صان كتابه من الخلل وتولى حفظه ...... 4 ـ آخر الرسالة: هذا ما ظهر تحريره عند الاطِّلاع على السؤال بدون مراجعة وبحث فليتأمل. وحسبي الله وكفى ونعم الوكيل. في أصل المخطوط على صفحة العنوان حاشية بقلم العلامة علي بن عبد الله الجلال جوابًا لسؤال العلامة لطف الله لفظها: بعد الحمد لله قوله. 5 ـ نوع الخط: خط نسخي جيد 6 ـ عدد الصفحات: 5 صفحات. 7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 16 سطرًا. 8 ـ عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة. 9 ــ الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

في أصل المخطوط على صفحة العنوان حاشية بقلم العلامة علي بن عبد الله الجلال جوابًا لسؤال العلامة لطف الله لفظها: بعد الحمد لله قولُه: اطلعتُ على هذا السؤالِ الذي حرره الولدُ العلامةُ النبيهُ لطفُ اللهِ، والولد العلامةُ الحسن بن علي حنش جواباتهم المذكورة, وهو سؤالٌ عظيم مما يستشكلُ مثلُه أولوا الأفهامِ, ووقع في الخاطرِ عند ابتداء النظرِ فيه, قبلَ البحث في كلام المفسرينَ أنه لا بد من التجوُّز في المرجع بأن يُرادَ به غيرُ يوم المعادِ, أو يكون الترتيبُ غيرَ زماني, أو بضربٍ من ضروب المجازِ, ورأيت الكشافَ (¬1) والبيضاويَّ, (¬2) وغيرَهُما قد أطبقوا أن قول الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ... } إلى آخر الآية, (¬3) تفسيرٌ للحكمِ, لكنهم لم يستشكلوا كزنَ الحكم في القيامة, وعذاب الدنيا متقدمٌ عليه, فكيف يكون تفسيرًا له! وهو محطُّ نظر السائلِ ـ أبقاه الله ـ ثم بحثت حواشي الكشافِ فرأيتُ صاحب الكشاف قد نقلَ الإشكال عن صاحب التحقيق وجواباتِه. ومثلُه سعد الدين في حواشيه, فإنه قال على قوله في الكشاف تفسيرًا للحكم ما لفظه واعْتُرِضَ بأن الحكمَ مرتَّبٌ على الرجوعِ إلى الله, أعني المعادَ, وذلك في القيامة لا محالةَ, فكيف يصحُّ في تفسيره العذابُ في الدنيا! وأجيبُ بوجوه: الأول: أن المقصودَ التأبيدُ وعدمُ الانقطاع من غير نظرٍ إلى الدنيا والآخرة, كما في قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} (¬4) ¬

(¬1) (1/ 562) (¬2) (1/ 265) (¬3) [آل عمران: 55 ـ 57] (¬4) [هود: 107]. انظر تفصيل ذلك في الرسالة رقم (18).

والثاني: أن المراد بالدنيا والآخرةِ مفهومُهُما اللغويُّ، أعني الأولَ والأخِرَ، ويكون ذلك عن الدوام، وهذا أبعدُ من الأول جدًّا. الثالث: أن المرجعَ أعمُّ من الدنيوي والأخروي، كونُه بعدَ (جَعَل) الفوقيةِ الثابتة إلى يوم القيامةِ لا يوجِبُ كونُه بعدَ ابتداء يوم القيامة. وعلى هذا فوقيةُ الأجور أيضًا تتناولُ نعيمَ الدارينِ. ولا يخفى أن في لفظ: {كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (¬1) بعضَ نبوَّةِ عن هذا المعنى، وأن المعنى: أحكم بينكم في الآخرة فيما كنتم فيه تختلفونَ فيه فِي الدنيا. الرابع: أن العذابَ في الدنيا هو الفوقيةُ عليهم، والمعنى: أضمُّ إلى الفوقية السابقةِ عذابَ الآخِرة، وهذا بعيدٌ في اللفظ جدًّا، إذ معنى أعذِّبه في الدنيا والآخرة ليس إلاَّ أني أفعلُ عذابَ الدارينِ. إلاَّ أن يقالَ: إن اتحادَ الكلِّ لا يلزم أن يكون باتحاد كلِّ جزء، فيجوز أن يفعلَ في الآخرةِ عذابَ الدارينِ بأن يفعلَ عذابَ الآخرةِ. وقد فُعِلَ في الدنيا، فيكون تمامُ العذابينِ في الآخرة. انتهى ما أفاده سعدُ الدين ـ قُدس سرُّه ـ. والمحلُّ محلُّ إشكال. ولا يخفى الراجحُ من تلك الجواباتِ. وقد نقلت كلامَ السعد فقد لا يكونُ لدى السائل نسخةٌ أو لم يكنْ قدِ اطَّلع على البحثِ. والله أعلم. كتبه عليُّ بن عبد الله الجلال ـ لطف الله به ـ ... انتهى. ¬

(¬1) [آل عمران: 55].

القول الصادق في ترتيب الجزاء على السابق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي صان كتابه من الخلل وتولى حفظَه فما غيَّره بجراءتِه، ولا بدَّل، وصانه عن الزيغ والتحريفِ، وأبدع إتقانَه، وأحكم منه الترصيفَ. وإن مما قصُرَ عنه فهمي ولم يصل إلى ذروة معناه علمي وتقاعدتْ عنه مُشَمُخِرهِ همَّتي وحسرتْ في محجَّتِه فكرتي ترتيبُ الجزاء على سابقه في قول الله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِين (57)} (¬1). قال العلامة (¬2) ـ رحمه الله ـ في تفسيره (¬3) ما لفظُه: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} (¬4) يعلونَهم بالحجَّةِ وفي أكثر الأحوال بها، وبالسيف ومتبعوه هم المسلمون لأنَّهم متبعوه في أصل الإسلام، وإن اختلفتِ الشرائعُ دون الذين كذَّبوه، وكذبوا عليه من اليهود والنصارى. وتفسير الحكم قوله: (فأعذِّبهم، فنوفيهم أجورهم ... انتهى بلفظه ... ¬

(¬1) [آل عمران: 55 ـ 57]. (¬2) الزمخشري. (¬3) في (الكشاف) (1/ 562). (¬4) انظر الرسالة رقم (29).

فأشكل علينا هذا الكلامُ، وكان قد دار بيني وبين الوالد العلامة درةُ تاجِ الفضلِ والكرامة، مَعيْنُ المعارفِ، سلوةُ المؤلفِ والمخالفِ، الحسن بن علي حنش (¬1) ـ كثر الله فوائده، ومد على الطلاب موائده [1]ـ فقلت له: أيُّ معنى لتفسير حكم الله في عَرَصاتِ القيامة بين هؤلاء بأنَّه سيعذِّبهم في الدنيا حال كونه يومَ القيامة؟ هل هذا إلا تناقضٌ ظاهرٌ؟ ولو كان سَوْقُ الآية هكذا: (فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابًا شديدًا في الآخرة) لكان المعنى واضحًا لا غبار عليه، وكان التفسير للحكم ظاهرًا لمن لمح إليه. فأجاب الوالد العلامة الحسن ـ دامت فوائده ـ بأن قال: المساقُ صحيحٌ، والتفسير في الآية واضح صريحٌ، وأن الله أخبر أن حُكْمَهُ في الكافرين تعذيبُهم في الدنيا والآخرة، وأن كلام العلامة جار الله (¬2) لا يحتمل زيادةً على هذا ... وقال ـ عافاه الله ـ لما بشَّر الله عيسى بأنه رافعه ومطهِّرُه، وكذا وكذا رتَّب على تلك البشارةِ بشارةً أخرى لعيسى وغيره فقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} إلخ الآيات. لكنه لم يظْهَرْ لي ما قاله ـ أي قول الوالد العلامة الحسنِ ـ عافاه الله ـ ولا تبيَّن لي صحَّةُ كلام جار الله على إيجازه، وعدم الإطالة. وكان قد ظهر لي بعد التأمل الطويلِ شيءٌ، وهو أن جَعْلَ الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلي يوم القيامة مجهولٌ، (¬3) بيَّن بأن الذين كفروا معذَّبين في الدنيا: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} (¬4) والأمرُ كذلك، وفي الآخرة لهم عذابُ النارِ. فهذا معنى جَعْلِ الذين اتبعوه فوقَ الذين كفروا. وأما الذين آمنوا ففوقيَّتُهم متحققة في الدنيا والآخرة: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ¬

(¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) أي الزمخشري في (الكشاف) (1/ 562). (¬3) انظر تفصيل ذلك في الرسالة رقم (29). (¬4) [آل عمران: 112].

وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (¬1) {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ} (¬2)، {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (¬3)، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (¬4)، {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬5)، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (¬6). وفي القيامة كذلك: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ} (¬7)، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬8)، {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} (¬9) وآياتٌ عديدة. فإن قلت: هذا الحكم ظاهرُهُ على مقتضي الآية إنما هو إلى يوم القيامة، ولا تدخل (ما) بعد إلى ما في قبلها. قلت: لا مانعَ من دخولِه، وعلى فرض عدم التسليم فقد جاءت بمعنى مع كقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (¬10) أي معَ المرافق. فإن قلت: سلَّمنا عذابَ الكافرِ في الدنيا بالذِّلَّةِ، فكيف جوَّزتَ إتيان المؤمن الأجر ¬

(¬1) [التوبة: 32]. (¬2) [الصف: 14]. (¬3) [غافر: 51]. (¬4) [المنافقون: 8]. (¬5) [المائدة: 3]. (¬6) [آل عمران: 85]. (¬7) [الأنبياء: 103]. (¬8) [المائدة: 69]. (¬9) [التحريم: 8]. (¬10) [المائدة: 6].

في دار الدنيا؟ .... قلتُ: هو صحيحٌ لا مانعَ في إتيانهِ فيها، وقد جاء: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (¬1) فهذا ما ظهر لي ووضحَ معناه. والآية [2] مشكلةٌ غايةَ الإشكال فيرفع ذلك الكلامُ، ويحال على مولانا العلامة خاتمةِ المجتهدينِ، جَهْبَذِ السادة المحققينَ، نورِ عينِ الذكاء، نادرةِ الدهرِ من أوضح الله له طريق الدقائقِ مسلكًا، وفتحَ له المغْلق، وأطلَعَهُ على سرِّ المقيِّد والمطلقِ، وهدى به العامَّ والخاصَّ، وجعله مرجعًا لأهل الحَلِّ والعقدِ من الخواصِّ، العالم الربَّاني، المترجم عن السرِّ الصمداني محمد بن علي الشوكاني ـ أدام الله إفادته ـ فليكشفْ عن ما وضح، وينصرُ القولُ الصحيح بالدليل الأصحِّ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. ¬

(¬1) [العنكبوت: 27].

[جواب القاضي الشوكاني على الرسالة السابقة] الحمد لله وحدَه. لما وقفَ الحقير على هذا التحرير ظهر له أن قولَه تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ ... } إلى قوله {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} استئنافٌ (¬1) تقدير السؤالِ، كأنه لما سمعَ السامعُ ذِكْرَ حزبِ الإيمان وحزب الكفرانِ مع ذكر كونِ طائفةِ المؤمنينَ فوقَ طائفةِ الكافرين تشوَّق إلى استيضاحِ الأمرِ، ومعرفةِ جليِّة الحال عن شأن الحزبينِ، فكأنه قال: ما ذاك تكونُ حالُ طائفةِ الكافرينَ، وطائفة المؤمنين، بعد أن أخبر الله ـ عز وجل ـ أنه جاعل إحدى الطائفتين فوق الأخرى، فإن هذا الجعلَ المجملَ لا ريبَ أنه أعظمُ باعثٍ على أخفاء [3] السؤال عن أسبابه. فقال ـ جل جلاله ـ: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا}. {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} ولا يلزمُ انحصارُ الجعل المجمل في هذا البيان، بل يمكن أن يكون بأسباب كثيرةٍ وقعَ البيان لبعضها، وأهمُّها. فالحاصلُ أن قولَه تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ} استئناف بيانيٌّ جوابٌ لسؤالٍ منشؤُه قولُه تعالى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} وما رجَّحه جار الله ـ رحمه الله ـ لا ريب أن فيه إشكالاً، لأن الأفعال إذا انضم إليها ذِكْرُ الأزمنة أو الأمكنة تقيَّدتْ بالمذكور. تقول ضَرَبْتُه يوم الجمعةِ، وفي الدار، فكان الضربُ مطلقًا. فلما قيل يومَ الجمعة، وفي الدار لم يبقَ له صدقٌ على ضربٍ واقعٍ في يوم السبتِ مثلاً، وفي المسجد، وهكذا سائرُ القيودِ والمتعلقاتِ. إذا تقرر هذا فقولُه تعالى: {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} مفيدٌ بكونِه بعد المرجعِ إلى الله، كما تُشْعِرُ به (الفاءُ) الدالةُ على الترتيبِ والتعقيبِ. (¬2) ¬

(¬1) الفاء: استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتكون تفسيرًا للحكم بين الفريقين. انظر: (إعراب القرآن الكريم وبيانه) (1/ 521) محيي الدين الدرويش. (¬2) أي أن المعطوف بعد المعطوف عليه بحسب ما يمكن. وهو معنى قولهم إنّها تدل على الترتيب بلا مهملة أي: في عقبه ولهذا قال المحققون منهم: إن معناها التفرق على مواصلة. وهذه العبارة تحكي عن الزجاج وأخذها ابن جني في (لمعه) ومعنى التفرق أنها ليست للجمع كالواو. ومعنى على مواصلة: أي: أن الثاني لما كان يلي الأول من غير فاصل زماني كان مواصلاً له. انظر: (البحر المحيط) (2/ 261 ـ 262).

رجوِعكم إلىَّ أوقعتُ الحكمَ بينكم فيما كنتم فيه تختلفون. فهذا الحكمُ قد تقيَّد بوقتِ الرجوعِ، ولا ريب أن الرجوعَ إلى الله هو بعد المفارقةِ لهذه الدارِ، فلا يصح أن يكون من جملةِ المحكومِ به عذابُ الدنيا الذي قد مضى وانقضى في تلك الحال [4]، وليس الحكم هو مجرَّد الإخبارِ حتَّى يقال أنه أخبرَ بذلك خبرًا خاليًا عن الحكم، بل المرادُ إيقاعُهُ للحكم حينئذٍ، كما هو المشعورُ به من الصيغة والتركيبِ. ولا أقول أن المعنى كما ذكره السائلُ ـ كثر الله فوائدِه ـ في هذا السؤالِ، وهو أن قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ} إلخ بيانٌ لقوله تعالى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} إلخ، لأنَّ البياناتِ لا تجيء على هذه الصيغة، بل لا بد من توسيطِ تقديرِ السؤالِ والحكمِ على الجملة بالاستئنافِ، فتكون منفصلة عن قوله: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} بخلاف ما لمح إليه السائل ـ عافاه الله ـ فإنه يوجبُ أن تكون متصلةً، وهذا يحتاج إلى مزيدِ تدبُّر لما قُرِّرَ في علمِ المعاني من أحكامِ الوصل (¬1) والفصل. (¬2) ¬

(¬1) الوصل عطف: بعض الجمل على بعض. قيل للفارسي: ما البلاغة؟ فقال: معرفة الفصل والوصل. (معجم البلاغة العربية) (ص513). (¬2) الفصل: هو ترك هذا العطف ـ فإذا أتت جملة بعد جملة، فالأُولى إما أن يكون لها محل من الإعراب، بأن تكون خبرًا نحو: الله يعز من يشاء ويذل من يشاء. أو حالاً نحو: أبصرت عليًّا يلهو ويلعب. أو صفة نحو: أبصرت ولدًا يلهو ويلعب، أو مفعولاً نحو: أتخال الحق يخفي ويُطمس؟ أو مضافًا إليه نحو: جاء الحق وزهق الباطل. فإذا كان للأولى محل، وقصد تشريك الثانية لها في حكم إعرابها عطفت عليها بالواو وغيرها، ليدل العطف على التشريك المقصود كالمفرد، فإنه إذا قصد تشريكه لمفرد قبله في حكم إعرابه من كونه فاعلاً أو مفعولاً أو نحو ذلك وجب عطفه عليه نحو اقبل عليٌّ وأخوه، وقابلت عليًّا وأخوه (معجم البلاغة العربية) (ص 513 ـ 515). ? قال الرازي في تفسيره (8/ 71 ـ 72): قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}. اعلم أن الله تعالى لما ذكر: {مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} بين بعد ذلك مفصلاً ما في ذلك الاختلاف، أما الاختلافُ فهو أن كفر قوم وآمن آخرون وأما الحكم فيمن كفر فهو أن يعذبه عذابًا شديدًا في الدنيا والآخرة، وأما الحكم فيمن آمن وعمل الصالحات فهو أن يوفيهم أجورهم وفي الآية مسائل: 1) أما عذاب الكافر في الدنيا فهو من وجهين: أ) القتل والسبي وما شاكله حتى لو ترك الكفر لم يحسن إيقاعه به، فذلك داخل في عذاب الدنيا. ب) ما يلحق الكافر من الأمراض والمصائب. وقد اختلفوا في أن ذلك هل هو عقاب أم لا؟ قال بعضهم: إنّه عقاب في حق الكافر. وإذا وقع مثله للمؤمن فإنه لا يكون عقابًا بل يكون ابتلاءً وامتحانًا. وقال الحسن: إن مثل هذا إذا وقع للكافر لا يكون عقابًا بل يكون أيضًا ابتلاءً وامتحانًا ويكون جاريًا مجرى الحدود التي تقام على التائب، فإنها لا تكون عقابًا بل امتحانًا والدليل عليه أنّه تعالى يعد الكل بالصبر عليها والرضا بها والتسليم لها وما هذا حاله لا يكون عقابًا. فإن قيل: فقد سلمتم في الوجه الأول إنه عذب للكافر على كفره: وهذا على خلاف قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} وكلمة (لو) تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فوجب أن توجد المؤاخذة في الدنيا. وأيضًا قال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} وذلك يقتضي حصول المجازاة في ذلك اليوم لا في الدنيا، قلنا الآية الدالة على حصول العقاب في الدنيا خاصة، والآيات التي ذكر نحوها عامة، والخاص مقدم على العام. 2) لقائل أن يقول وصف العذاب بالشدة، يقتضي أن يكون عقاب الكافر في الدنيا أشد، ولسنا نجد الأمر كذلك، فإن الأمر تارة يكون على الكفار وتارة يكون على المسلمين ولا نجد بين الناس تفاوتًا. قلنا: بل التفاوت موجود في الدنيا، لأن الآية في بيان أمر اليهود الذين كذبوا بعيسي عليه السلام، ونري الذلة والمسكنة لازمة لهم. فزال الإشكال. 3) وصف الله هذا العذاب بأنه ليس لهم من ينصرهم ويدفع ذلك العذاب عنهم. فإن قيل: أليس قد يمتنع على الأئمة والمؤمنين قتل الكفار بسبب العهد وعقد الذمة. قلنا: المانع هو العهد. ولذلك إذا زال العهد حل قتله. انظر: (جامع البيان) (3 جـ3/ 293 ـ 294).

هذا ما ظهر تحريره عند الاطِّلاع على السؤال بدون مراجعة وبحث فليتأمل. وحسبي الله وكفى ونعم الوكيل [5].

فائق الكسا في جواب عالم الحسا

فائق الكسا في جواب عالم الحسا تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: فائق الكسا في جواب عالم الحسا. 2 ـ موضوع الرسالة: لغة عربية. 3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم إياك نعبد وإياك نستعين، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الرسول الأمين ...... 4 ـ آخر الرسالة: وعقابه أعظم وفي هذا المقدار كفاية والله وليُّ الهداية ... حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما. 5 ـ نوع الخط: خط نسخي مقبول 6 ـ عدد الصفحات: 15صفحة ما عدا صفحة العنوان. 7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 25 سطرًا. 8 ـ عدد الكلمات في السطر: 9 كلمات. 9ـ الناسخ: محمد بن علي الشوكاني. 10 ـ الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم إياك نعبد وإياك نستعين، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الرسول الأمين، وآله الطاهرين، ورضي الله عن الصحابة أجمعين. قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ: وهو العالم المباركُ عبد الله بن المبارك الوافدُ إلى صنعاءَ من ديارٍ نجدٍ، وأصلهُ من الحسا ـ زاد الله في الرجال من أمثاله ـ. السؤال الأول: عن تفسير قوله سبحانه: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (¬1) فإنه يشْكلُ وجودُ اتِّصافِهم بالإيمان في حالة تلبُّسهم بالشركِ، لأنه يستدعي الجمعَ بين النقيضين في حالة واحدة، وهو باطل فليوضِّحْ لنا السبيلَ في ذلك ـ أوضح الله لنا وله واضح المسالك ـ، فإن الحاجةَ ماسَّةٌ إليه، والخاطر كثيرًا ما يقعُ عليه. انتهى. أقول ـ مستعينًا بالله عز وجل، ومتكلاً عليه ـ أن إيضاح ما تضمنه السؤالُ يتوقف على إيضاح ما ذكره أهلُ التفاسير المعتبرة في تفسير هذه الآيةِ، وينحصر ذلك في وجوه اثني عشر، وينضم إلى ذلك ما ذكرتُه أنا فتكون الوجوهُ ثلاثةَ عَشَرَ. الأول: إن أهل الجاهليةِ كانوا يقرون بأن الله ـ سبحانه ـ خالقُهم ورازقُهم، ويعبدون غيره من أصنامِهم وطواغيتِهم، فهذا الإقرار الصادرُ منهم بأن الله ـ عز وجل ـ خالِقُهم ورازقُهم هو يصدُق عليه أنه إيمانٌ بالمعنى الأعمِّ، أي تصديقٌ لا بالمعنى الاخصِّ ـ أعنى إيمانَ المؤمنين ـ فهذا الإيمان الصادرُ منهم واقعٌ في حال الشرك، فقد آمنوا حالَ كونهم مشركينَ وإلى هذا الوجهِ ذهب جمهور المفسرينَ، ولكنهم لم يذكروا ما ذكرناه هاهنا من تقريره بكونِه إيمانًا بالمعنى الأعمِّ، ولا بد من ذلك حتى يستقيمَ الكلامُ، ويصدقَ عليه مُسمَّى الإيمانَ. (¬2) ¬

(¬1) [يوسف: 106]. (¬2) انظر (روح المعاني) للألوسي (13/ 66).

الوجه الثاني: إن المرادَ بالآية المنافقونَ، لأنهم كانوا يظهرون الإيمان، ويبطنونَ الشركَ، فما كانوا يؤمنون ظاهرًا إلا وهم مشركونَ باطنًا، وروي هذا عن الحسن البصري. (¬1) الوجه الثالث: أنهم أهلُ كتابِ يؤمنونَ بكتابهم، ويقلِّدون [1] علماءهم في الكفر بغيره، ويقولون: المسيحُ ابنُ الله، وعزيزٌ ابن الله، فهم يؤمنون بما أنزل الله على أنبيائهم حالَ كونهم مشركينَ. (¬2) الوجه الرابع (¬3): إن المقصودَ بذلك ما كان يقع في تلبيةِ العرب من قولهم: (لبيك لا شريكَ لك إلا شريكٌ هو لك) (¬4) فقد كانوا في هذه التلبيةِ يؤمنون بالله وهم مشركونَ. روي نحوُ ذلك عن ابن عباس. الوجه الخامس: إن المراد بهذه الآيةِ المرآؤن من هذه الأمةِ، لأن الرياء هو الشركُ المشارُ إليه بقوله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «الشرك أخْفى في أمتي من دبيب ¬

(¬1) ذكره ابن كثير في تفسيره (4/ 418): قال الحسن البصري في قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} قال: ذاك المنافق يعمل إذا عمل رياء الناس، وهو مشرك بعمله ذاك يعني قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142]. وانظر: (الجامع لأحكام القرآن) (9/ 273). (¬2) قال الألوسي في (روح المعاني) (13/ 66): وعن ابن عباس أنهم أهل الكتاب أقروا بالله تعالى وأشركوا به من حيث كفروا بنبيه صلي الله عليه وسلم أو من حيث عبدوا عزيزًا والمسيح عليهما السلام. وقيل: أشركوا بالنبي واتخاذهم وأحبارهم ورهبانهم أربابًا. وانظر: (الجامع لأحكام القرآن) (9/ 273). (¬3) ذكره الألوسي في (روح المعاني) (13/ 66). والقرطبي في (الجامع لأحكام القرآن) (9/ 273). (¬4) أخرج مسلم في صحيحه رقم (22/ 1185) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك قال: فيقول رسول الله صلي الله عليه وسلم: «ويْلكم قدْ قدْ» فيقولون: إلاَّ شريكًا هو لك. تملكه وما ملك يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت).

النمل» (¬1) فالمراؤن آمنوا بالله حالَ كونهم مشركينَ بالرياء. وأخرج الإمام أحمدُ في المسند (¬2) من حديث محمود بن لبيدٍ أن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ـ قال: «إن أخوف ما أخافُ عليكم الشركَ الأصغرَ» قالوا: وما الشركُ الأصغر يا رسول الله؟ قال: «الرياء يقول الله يومَ القيامة إذا جُزي الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتُم ترآؤن في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟ .. ». الوجه السادس: (¬3) إن المراد بالآية من نَسِيَ ربَّه في الرخاء، وذكره عند الشدائدِ .. روي ذلك عن عطاء، وفيه أنه لا يصدقُ على ذلك أنه آمن بالله حالَ كونه مشركًا إلاَّ أن يجعلَ مجرَّدَ نسيانِ الذكرِ والدعاء عند الرخاء شركًا مجازًا، كأنه بنسيانهِ وتركِه للدعاء قد عَبدَ إلهًا آخر، وهو بعيدٌ على أنه لا يمكن اجتماعُ الأمرينِ، لأنه حالَ الذكر والدعاء غير متَّصفٍ بالنسيانِ، وتركِ الذِّكْرِ. وقد تقرر أن الحالَ قيدٌ في عاملها إلا أن يعتبرَ بما كان عليهِ الشيءُ، فإن ذلك أحدُ العلاقاتِ المصححةِ للتجوَّزِ. ويدل عليه قولُه تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}. (¬4) الوجه السابع: إن المراد من أسْلَمَ من المشركين، فإنه كان مشركًا قبل إِيمانه. حكى ذلك الحاكمُ في تفسيره وتقريره إنَّه ما يؤمن أحدُهم بالله إلا وقد كان مشركًا قبل إيمانِه ¬

(¬1) أخرجه أحمد (4/ 403). وهو حديث حسن لغيره. وقد تقدم. من حديث أبي موسى الأشعري. (¬2) أخرجه أحمد (5/ 428)، والبيهقي في (الشعب) رقم (4831). وهو حديث صحيح. انظر: (تفسير القرآن العظيم) لابن كثير (4/ 420). (¬3) ذكره القرطبي في (الجامع لأحكام القرآن) (9/ 273). (¬4) [العنكبوت: 65].

[2]. والكلامُ فيه كالكلام في الوجهِ الذي قبلَه، والجوابُ الجوابُ. الوجه الثامن: إن المراد بالشركِ هاهنا ما تُعرض من الخواطرِ والأحوالِ حالَ الإيمان. قاله الواسطي كما حكاه عنه البِقاعيُّ، (¬1) وفيه أن هذه الخواطِرَ والأحوالَ إن كانت مما يصدُقُ عليه الشركُ الأكبرُ أو الأصغر فذاك، وإن كانت خارجةً عن ذلك فهو فاسد. الوجه التاسع: إنهم الذين يشبِّهون الله بخلقِه. رواه في الكشاف (¬2) عن ابن عباس، وتقريره أنهم آمنوا بالله حالَ تشبيههم له بما يكون شركًا أو يؤولُ إلى الشرك. الوجه العاشر: هو ما تقوله القدريةُ من إثبات القدرةِ للعبد. حكاه النَّسفيُّ في مداركِ التنزيل، (¬3) وتقريره أنهم آمنوا بالله حالَ إثباتهم ما هو مختصٌّ به لغيره، وهو شرك أو مُنَزَّلٌ منزلَة الشِّرك. الوجهُ الحادي عَشَرَ: ما قاله محيي الدين بن عربي في تفسيره: إن أكبر الناس إنما يؤمنون بغير اللهِ، ويكفرون بالله دائمًا، ففي بعض الأحيانِ يشركون الله ـ سبحانه ـ مع ذلك الإله الذي هم مؤمنونَ فلا يؤمن أكثرهم بالله إلا حالَ كونه مشركًا. وفيه أن ظاهر النظم القرآني أن الإيمان بالله، والشركَ بتشريكِ غيرِه معَهُ لا بتشريكهِ مع غيرهِ، وبين المعنيينِ فرقٌ. الوجه الثاني عشَرَ: ذكره ابن كثير في تفسيره (¬4) وهو أن ثَمَّ شركًا خفيًّا لا يشعر به غالبُ ممن يفعله كما روي عن حذيفةَ أنه دخلَ على مريض يزورهُ فرأى في عضدهِ سيرًا فقطعَه، أو انتزعه ثم قال: وما يؤمنُ أكثرهم بالله إلا وهم مشركونَ). وفي الحديث الذي رواه الترمذيُّ، (¬5) ......................... ¬

(¬1) في (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور) (10/ 238 ـ 239). (¬2) (3/ 327 ـ 328). (¬3) (2/ 137 ـ 138). (¬4): (4/ 418). (¬5) في (السنن) (1535).

وحسَّنه (¬1) عن ابن عمر مرفوعًا: «من حلف بغير الله فقد أشركَ» وأخرج أحمدُ (¬2) وأبو داودَ (¬3) من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «إنَّ الرّقى والتمائمَ والتولُّةَ شركٌ». وفي لفظ لهما (¬4): «الطيرةُ شركٌ» وما منَّا إلاَّ ولكن الله يذهبه بالتوكُّل. وروى أحمد في المسند (¬5) عن عيسى بن عبد الرحمن قال: دخلتُ على عبد الله بن حكيم [3] وهو مريضٌ فقيل له: لو تعلَّقتَ شيئًا؟ فقال: أتعلَّق شيئًا، وقد قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «من تعلَّق شيئًا وُكِلَ إليه». ورواه النَّسائي (¬6) عن أبي هريرة. وفي المسند (¬7) عن عقبةَ بن عامر قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «من علَّ تميمةً فقد أشركَ». وفي صحيح مسلم (¬8) عن أبي هريرة قال: سمعتُ رسولَ الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ يقول: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشركَ فيه غيري تركتُه وشِرْكَهُ». وروى أحمد (¬9) نحوَه من حديث غيرِه ..................... ¬

(¬1) في (السنن) (4/ 110) وقال: هذا حديث حسن. وهو حديث صحيح وقد تقدم. (¬2) في (المسند) (1/ 381). (¬3) في (السنن) رقم (3883). وهو حديث صحيح. (¬4) أحمد في (المسند) (1/ 389). وأخرجه أبو داود رقم (3910). وهو حديث صحيح. (¬5) في (المسند) (4/ 310). وأخرجه الترمذي رقم (2072). وهو حديث صحيح. (¬6) في (السنن) (7/ 112). وهو حديث ضعيف دون جملة التعليق فهي صحيحه. (¬7) في (المسند) (4/ 156). بإسناد صحيح. (¬8) في صحيحه رقم (2985). (¬9) في (المسند) (4/ 215) من حديث أبي سعيد بن أبي فضالة.

وفي المسند (¬1) أيضًا «من ردَّته الطِّيرة من حاجة، فقد أشرك». قالوا: يا رسول الله، ما كفارةُ ذلك؟ قال: «أن يقول أحدهم: اللهم لا خيرَ إلا خيرُك، ولا طَيْرَ إلا طيرُك، ولا إلهَ غيرُك». وأخرج أحمد (¬2) من حديث أبي موسي قال: خطبَنَا رسولُ الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: ذاتَ يوم فقال: «يا أيها الناسُ اتَّقوا هذا الشركَ، فإنه أخفى من دبيبِ النملِ» ثم قالوا له: كيف نتجنَّبهُ وهو أخْفى من دبيب النمل؟ قال: «قولوا: اللهم إنا نعوذ بك أن نشركَ بك شيئًا نعلمُه، ونستغفرك لما لا نعلمُه». وقد رُويَ من حديث غيرهِِ. (¬3) إذا عرفتَ ما تضمنتْه كتبُ التفسير من الوجوهِ التي ذكرناها، وعرفت تقريرها على الوجه الذي قررناه، فاعلم أن هذه الأقوالَ إنما هي اختلافٌ في سبب النزولِ، وأما النظم القرآني فهو صالحٌ لحملهِ على كل ما يصدقُ عليه مسمَّي الإيمان مع وجودِ مسمَّى الشركِ، والاعتبارُ بما يفيده اللفظُ لا بخصوصِ السبب كما هو مقررٌ في موطِنهِ، فيقال مثلاً في أه الشرك أنه ما يؤمنُ أكثرهم بأن الله هو الخالقُ الرازقُ إلا وهو مشركٌ بالله بما يعبدهُ من الأصنام، ويقال في من كان واقعًا في شرك من الشرك الخفي وهو من المسلمينَ إنه ما يؤمن بالله إلا وهو مشركٌ بذلك الشرك الخفي. ويقال مثلاً في سائر الوجوه بنحوه هذا على التقريرِ الذي قررناه سابقًا، وهذا يصلح أن يكون وجهًا مستقلاً، وهو أوجَهُهَا وأرجَحُها فيما أحسبُ [4].وإن لم يذكرُه أحدٌ من المفسرينَ. فما قاله السائل ـ كثر الله فوائده ـ من أنه يُشكلُ وجوهُ اتَّصافِهم بالإيمان في حالٍ ¬

(¬1) في (المسند) (2/ 220). (¬2) في (المسند) (4/ 403) وهو حديث صحيح وقد تقدم. (¬3) أخرجه أحمد (1/ 9)، وأبو داود رقم (5067)، والترمذي رقم (3392)، والبيهقي في (السنن الكبرى) رقم (1/ 769) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

تلبُّسِهم بالشركِ استشكالٌ واقعٌ موقعَه، وسؤالٌ حالٌّ من محلِّهِ، وجوابُه قد ظهر مما سبق فإنه يقال مثلاً أن أهلَ الجاهليةِ كان إيمانهم المجامِعَ للشرك هو مجردُ الإقرار بأن الله الخالقَ الرازقَ، وهو لا ينافي ما هم عليه من الشركِ، وكذلك يقال إن أهل الإسلام كان يشرك من وقع منهم في شيء من الشركِ الخفي الأصغرِ غيرُ منافٍ لوجود الإيمان منهم، لأن الشرك الأصغر لا يخرجُ به فاعله عن مسمَّى الإيمان. ولهذا كانت كفارتُهُ أن يتعوَّذ بالله من أن يشركَ به، وأن يقول في الطيرة: «اللهم لا طَيْرَ إلا طيرُك، ولا إله غيرك» فقد صح بهذا أنه اجتمع الإيمان الحقيقيُّ والشركُ الخفيُّ في بعض المؤمنينَ، واجتمع الإيمان بالمعنى الأعمِّ، والشركُ الحقيقيُّ في أهل الجاهليةِ، وكذا يقال في أهل الكتاب أنه اجتمعَ فيهم الإيمان بما أنزلَ الله على أنبيائهم، والإشراكُ بجعْلِ المخلوقينَ أبناءً لله ـ عز وجل ـ وهكذا في بقيةِ الوجوه.

قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ ... السؤال الثاني: عن حديثِ: «إنما الأعمالُ بالنيات» هل هو من المتواترِ كما ادَّعاه بعضٌ، أو من الغريب المشهورِ كما قال به آخرون، أو من الغير المشهورِ كما قال به جمعٌ، وهل هو في درجةِ الصحةِ أو درجةِ الضعف؟ أفيدونا ما هو الصحيحُ لديكم فإنا في حاجة إليه. أقول: هذا الحديثُ ثابتٌ في صحيح البخاري (¬1) ومسلم، (¬2) والسننِ الأربعِ، (¬3) وقد رواه سائر الأئمة المشهورين (¬4) إلا الإمام مالكٍ فلم يَرْوِهِ في الموطَّأ، (¬5)، ووهم من زعمَ أنه في الموطأ، (¬6) ولكنه أخرجه النسائي (¬7) من طريق مالك. وقد جزم الترمذيُّ والنسائي، والبزَّار، وابن السكن وغيرهم (¬8) بأنه لم يروهِ عن النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم [5]ـ إلا عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه ولا رواه عن عمرَ إلا علقمةُ بن وقاص الليثي، ولا رواه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي، ولا رواه عن محمد بن إبراهيم إلا يحيى بنُ سعدُ الأنصاري، ثم اشتهر عن يحيى، ورواه الجمعُ الجمُّ، وتلقَّاه الناس بالقَبولِ، فهو في ¬

(¬1) في صحيح رقم (1). (¬2) في صحيحه رقم (1907). (¬3) أبو داود رقم (2201)، والترمذي رقم (1647)، والنسائي (1/ 58)، وابن ماجه رقم (4227). (¬4) أخرجه أحمد في (المسند) (1/ 25، 43)، والدارقطني في (السنن) (1/ 50 رقم 1)، والبيهقي في (السنن الكبرى) (1/ 41). (¬5) بل أخرجه مالك في (الموطأ) (ص341 رقم 983) برواية محمد بن الحسن الشيباني. (¬6) في حاشية المخطوط ما نصه: قلت: قد رواه مالك في (الموطأ) رواية محمد بن الحسن الشيباني كما ذكره السيوطي متعينًا لهذا القول المتقول عن الحافظ ابن حجر وقد رأيته كذلك في موطأ محمد وعلى هذه النسخة شرح على القاري في هذا الموطأ زيادة ونقص وتقديم وتأخير. (¬7) في (السنن) (1/ 58). (¬8) ذكره الحافظ في (التلخيص) (1/ 91 ـ 92).

اصطلاح أهل علم الحديثِ غريبٌ نسبيٌّ لكونه قد تفرَّد به بعضِ رجالِ السندِ عن بعض، ولكنه لا تنافي بين الغريب والصحيحِ، سواء كان الغريبُ مطلقًا وهو ما رواه الفردُ عن الفردين أول الإسنادِ إلى آخره، أو كان الغريبُ نسبيًّا وهو ما تفرَّد به بعضُ رجال السند دون بعض. وقد قال الخطابي (¬1) أنه لا يعرفُ إلا بهذا الإسنادِ بلا خلافٍ بين أهلِ الحديثِ. قال ابن حجر (¬2): وهو كما قال لكن بقيدينِ: أحدهما: الصحة، لأنه ورد من طرق معلولةٍ ذكرها الدارقطنيُّ، وأبو القاسم بن منده، وغيرهما ... ثانيهما: السياقُ لأنه ورد في معناه عِدَّةُ أحاديثَ صحَّتْ في مطلقِ النيةِ كحديثِ عائشةّ، (¬3) وأمِّ سلمةَ عند مسلمٍ: «يبعثون على نيَّاتِهم» (¬4) وحديثِ ابن عباس: «ولكنْ جهادٌ ونيَّةٌ»، (¬5) وحديث أبي موسى: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» (¬6) متفق عليهما .. وحديثِ ابن مسعود: «رب قتيلٍ بين الصفينِ الله أعلم بنيَّتِه» أخرجه أحمد، (¬7) وحديثِ عبادةَ: «من غزى وهو لا ينوي إلا عقالاً فله ما نوى» أخرجه النسائي. (¬8) ¬

(¬1) ذكره الحافظ في (الفتح) (1/ 11). (¬2) في (فتح الباري) (1/ 11). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2118)، ومسلم رقم (2884). (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1864) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3077)، ومسلم رقم (85/ 1353). (¬6) أخرجه البخاري رقم 02810)، ومسلم رقم (149/ 1904). (¬7) في (المسند) (1/ 397) بإسناد ضعيف. (¬8) في (السنن) (6/ 24). وأخرجه ابن حبان في صحيحه رقم (4619). وهو حديث حسن.

إلى غير ذلك مما يتعسَّر حصْرُهُ. وعرف بهذا غلطُ من زعم أن حديثَ عمر متواترٌ إلا أن حُمِلَ على التواتُر المعنوي فيحتمل ... نعم قد تواتر عن يحيى بن سعيد، فقد حكى الحافظ (¬1) النقاش أنه رواه عن يحيى بن سعيد مئتان وخمسون نفسًا، وسرد أسماؤهم القاسمُ بن منده فجاوزَ عددُهم ثلاثمائةٍ. وروي عن الحافظ الهروي أنه قال: كتبته من حديث سبعمائة من أصحاب يحيى. إذا عرفتَ هذا علمتَ منه جوابَ سؤال السائل ـ عافاه الله ـ فهذا [6] من قسم الغريبِ الصحيح المشهورِ المتلقَّى بالقبول، لا كما قال أبو جعفر الطبريُّ أن هذا الحديثَ قد يكون على طريقة بعضِ الناسِ مردودًا لكونه فردًا ... انتهى. (¬2) فإن هذا إنما هو إشارةٌ منه إلى قول من يقول أنه يعتبرُ في عدد الرواية ما يعتبر في عدد الشهادةِ، فلا يُقبل إلا ما رواه اثنان فصاعدًا عن اثنين فصاعدًا، وليس هذا بمعتبرٍ عن أحد من أئمة الحديثِ المعتبرينَ، وإنما قال به بعضُ أهل الأصول، وهو قول مدفوعٌ. وأما ما رواه جماعةٌ عن البخاري أن شرطَهُ أن يروي الحديثَ عن رسول الله صلي الله عليه وسلم صحابيانِ ويروي عن الصحابيين أربعةٌ، وعن الأربعةِ ثمانيةٌ، فهذا نقلٌ، وروايةٌ مدفوعةٌ، فإن هذا الحديثَ الذي سأل عنه السائل ـ عافاه الله ـ هو أولُ حديث في البخاري. (¬3) وقد تفرد به واحدٌ من الصحابة عن رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ وتفرَّد به عن الصحابي الواحدِ واحدٌ من التابعينَ، وتفرد به عن التابعيِّ واحدٌ كما عرفت. ¬

(¬1) ذكره الحافظ في (الفتح) (1/ 11 ـ 12). (¬2) كلام الحافظ في (الفتح) (1/ 11 ـ 12). (¬3) في صحيحه (1/ 9 رقم 1) وأطرافه (54، 2529، 3898، 5070، 6689، 6953).

قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ ... السؤال الثالث: ما يقول القاضي في رجل قال لزوجته: (إن وطِئْتُكِ فأنت طالق) هل تطلُق لمجرد الإيلاجِ، أو بعد الإخراجِ، أو قبلَ الوْطئ؟ وإن قلتُم أنه لمجرد الإيلاجِ هل يحدُّ في إخراجه أو لا يحدُّ؟ أفتونا مأجورينَ. أقول: تعليقُ الطلاق بالوطئ صحيحٌ عند الجمهور، (¬1) وخالف في ذلك البعضُ ثم اختلف القائلون بالصحةِ بماذا يقعُ الطلاقُ؟ فقيلَ يقعُ بالتقاء الختانين بناءً على أن ذلك قد صار حقيقةً عرفيةً (¬2) للوطئ، وقيل بكمال الإيلاج، فإذا وقع الالتقاءُ للختانينِ عند الأولينِ وقعَ الطلاق، فيكف عن الإيلاج، فإن فعل [7] كان الإيلاج رجعةً في الطلاق الرجعيِّ، وأما في البائن فقيل يجب الحدُّ ... ولا وجه لذلك، فإن الزِّنا هو إيلاج فرجٍ، وتتمةُ الإيلاج ليست بإيلاج، بل جزءُ إيلاج. هذا عند أهل القولِ الأولِ. وأما عند أهل القولِ الثاني وهو المعتبرون للإيلاج، فقيل: يجوزُ له النزعُ، ولا يكون آثمًا ولا زانيًا لأنه لا يمكنه الخروجُ من الحرام إلا بذلك. وقيل: يجبُ عليه الحدُّ وهو فاسدٌ لأن الزنا إيلاج فرجٍ في فرجٍ، والنَّزعُ ليس بإيلاج، والمسألة مبسوطةٌ في علم الفروع، والكلام فيها مقررٌ في مواطنه. وعندي أنه إذا علَّق الطلاقَ بالوطئ جازَ له أن يطأها حتى يُنزلَ، لأنه يصدقُ على ذلك أنه وَطئٌ لغةً وشرعًا، وهو معروف في لغة العرب، وفي لسان الشرع، إلا أن يريدَ وطئًا يوجِبُ الغسلَ فقد ثبتَ عن الشارعِ أنه إذا لاقى الختانُ الختانَ فقد وجب الغسلُ (¬3) ¬

(¬1) انظر (المغني) (10/ 482). (¬2) تقدم تعريفها. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (88/ 349) من حديث عائشة رضي الله عنها. ? قال ابن قدامة في (المغني) (10/ 482): وإذا قال لامرأته: إن وطئتك فأنت طالق. انصرفت يمينه إلى جماعها. وقال محمد بن الحسن: يمينه على الوطء بالقدم. لأنه الحقيقة. وحكى عنه أنّه لو قال: أردت به الجماع. لم يقبل في الحكم. ولنا: أنَّ الوطء إذا أضيف إلى المرأة كان في العرف عبارةً عن الجماع. ولهذا يفهم منه الجماع في لفظ الشارع في مثل قول النبي صلي الله عليه وسلم: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة» ـ تقدم تخريجه ـ فيجب حمله عند الإطلاق عليه، كسائر الأسماء العرفيّة، ولا يحنث حتى تغيب الحشفة في الفرج وإن حلف ليجامعها أو لا يجامعها انصرف إلى الوطء في الفرج ولم يحنث بالجماع دون الفرج، وإن أنزل، لأنَّ مبنى الأيمان على العُرف والعرف ما قلناه .... ).

فيقتصر على ذلك، فإن فعل كان آثمًا. وأما أنه يجبُ عليه الحدُّ فلا، وإن طال العملُ والنَّزع والإيلاج حتى ينزلَ، لأن الحدُود تُدْرَأُ بالشبهاتِ كما صحَّ عن الشارع. وجوازُ أولِ الفعلِ شبهةٌ توجبُ سقوطَ الحدِّ في التمام. هذا على فرض أن الطلاقَ ليس برجعيِّ، وإلا كان التمامُ رجعةً. [8].

قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ ... السؤال الرابع: هل الصحيحُ عند القاضي جوازُ القرآنِ بالسنةِ أو المنعُ؟ (¬1) فإذا قلتُم بالجواز يشكُلُ قولُه ـ سبحانه وتعالى ـ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ الآية} فإن السنة ليست بمثلِ القرآنِ ولا خيرًا منه، وإن كانت وحيًا لنسبتِها إلى الرسول، ونسبةُ القرآنِ إلى الله وإذا قلتم بالمنع أشكلَ أيضًا آيةُ: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ ... الآية} (¬2) اللهمَّ إلا أن يقالَ: إن هذا من باب تخصيصِ الكتابِ بالسنة، وإلاَّ أشكلَ إبقاؤُها مع قوله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «لا وصية لوارثٍ» (¬3) أفتونا بالتحقيق الذي هو إثباتُ المسألةِ بدلائلها؛ فإن الحاجة ماسَّةٌ إلى ذلك. أقول: قد ذهب جمهورُ أهلِ الأصولِ إلى جوازِ نسخِ القرآنِ بالسنةِ المتواترةِ، (¬4) وخالف في ذلك الشافعيُّ، (¬5) وتابعه على ذلك طائفةٌ، (¬6) وبه قال أئمة الزيديةِ. ¬

(¬1) النسخ لغةً: الإبطال والإزالة ومنه نسخت الشمسُ الظلَّ والريح آثار القوم ومنه تناسخ القرون. ويطلق ويراد به النقل والتمويل ومنه نسخت الكتاب أي نقلته ومنه قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29]. انظر: (مقاييس اللغة) (5/ 424) (14/ 121). النسخ في الاصطلاح: هو رفع حكم شرعي بمثله مع تراخيه عنه. (اللمع) (ص30)، و (البحر المحيط) (4/ 65). (¬2) [البقرة: 180]. (¬3) أخرجه أحمد (4/ 186، 187)، وابن ماجه رقم (2712)، والنسائي (6/ 247)، والترمذي رقم (2121)، وقال: حديث حسن صحيح. من حديث عمرو بن خارجة. وهو حديث صحيح بشواهده. (¬4) انظر (إرشاد الفحول) (ص629 ـ 630) و (البحر المحيط) (4/ 110). (¬5) انظر الرسالة (ص106). (¬6) قال الشوكاني في (إرشاد الفحول) (ص630): وذهب الشافعي في عامة كتبه كما قال ابن السَّمعاني إلى أنَّه لا يجوز نسخ القرآن بالسنة بحال وإن كانت متواترةٌ وبه جزم الصيرفيُّ والخفاف ونقله عبد الوهاب عن أكثر الشافعية. وقال أبو منصور: أجمع أصحاب الشافعي على المنع وهذا يخالف ما حكاه ابن فورك عنهم فإنه حكى عن أكثرهم القول بالجواز: ثم اختلف المانعون فمنهم من منعه عقلاً وشرعًا، ومنهم من منعه شرعًا لا عقلاً واستدل على ذلك بقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106]. قالوا: ولا تكون السنة خيرًا من القرآن ولا مثله قالوا: ولم نجد في القرآن آية منسوخة بالسنة. وقد استنكر جماعة من العلماء ما ذهب إليه الشافعي من المنع حتى قال إلكيا الهراسي هفوات الكبار على أقدارهم، ومن عد خطؤه عظم قدره. انظر: (البحر المحيط) (4/ 112). قال أبو منصور البغدادي مطلق السنة بل أراد السنة المنقولة آحادًا واكتفى بهذا الإطلاق لأن الغالب في السنة الآحاد. وقال الزركشي في (البحر المحيط) (4/ 115): والصواب أن مقصود الشافعي أن الكتاب والسنة لا يوجدان مختلفين إلا ومع أحدهما مثله ناسخ له. وهذا تعظيم عظيم وأدب مع الكتاب والسنة ومهم لموقع أحدهما من الآخر وكل من تكلم في هذه المسألة لم يقع على مراد الشافعي بل فهموا خلاف مراده حتى غلطوه وأولوه.

واختلف المانعون، فمنهم من منعه عقلاً، كالحارث المحاسبي، وعبد الله بن سعيد القلاسي، وهو رواية عن أحمد بن حنبل، ومنهم من منعه سمعًا كالشيخ أبي حامد الإسفراييني، واحتج الجمهور بأن التكليف بمتواتر السنة كالتكليف بالآية القرآنية، وبأن ذلك قد وقع في هذه الشريعة المطهرة. واحتج الآخرون بقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (¬1) وتقرير الدلالة من وجهين: أحدهما: أن ما ينسخ به القرآن يجب أن يكون خيرًا أو مثلاً، والسنة ليست كذلك. ثانيهما: أنه قال (نأت) والضمير لله ـ سبحانه ـ فيجب أن لا ينسخ إلا بما يأتي به الله، وهو القرآن. وأجاب الأولون عن ذلك بأن المراد بقوله [سبحانه]: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ¬

(¬1) [البقرة: 106].

أي بحكم خير منها أو مثلِها في حق المكلَّفِ باعتبارِ الثوابِ، وهذا صحيحٌ، ولا يخالُفه الضميرُ في قوله: {نَأْتِ} فإن القرآنَ والسنةَ جميعًا من عند الله ـ سبحانه [9]ـ قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} (¬1) والكلامُ في المسألةِ طويلٌ، وهو مدوّن في الأصول بما لا يتَّسع المقام لبسطِه، الحقُّ عندي الجوازُ. (¬2) وأما نسخُ الكتاب بما صحَّ من آحادِ السنةِ فقد منعه الجمهورُ، لأن الآحاد لا تفيد القطعَ، والكتابُ مقطوعٌ به. وذهب جماعةٌ من متأخرين الحنفيةِ إلى جواز نسخ القرآنِ بالخبرِ المشهورِ، وقال في جمع الجوامع (¬3): إن نسخَ القرآنِ بالآحاد جائز غيرُ واقع ... وقال أبو بكر الباقلاَّني، (¬4) والغزالي، (¬5) وأبو عبد الله البصري (¬6) أنّه جائزٌ في عصره ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ لا بعدّه ... ووافَقهم الإمامُ يحيى من أئمة الزيدية. وذهب جمعٌ من الظاهرية إلى جواز ووقوعِه ... وأقول: إنَّ النزاعَ إن كان في قطعية المتنِ فلا شك أن القرآن كذلك وما صح من آحاد السنة ليس بقطعي وإن كان النزاعُ في الدلالةِ فإن كان القرآنُ المنسوخ عمومًا أو محتملاً فدلالتُه ظنيةٌ كدلالةِ ما صحَّ من الآحادِ، والذي يصلُح أن يكون محلاًّ للنزاع هنا هو الثاني لا الأولُ، على أنه قد وقع نسخُ القطعيَّ بالظنيِّ، فإن استقبالَ بيتِ المقدسِ ثبت ثبوتًا قطعيًّا متواترًا، ثم إن أهلَ قُباءَ استدارُوا إلى الكعبةِ وهم في الصلاة بخبر واحدٍ ولم ينكر عليهم ذلك النبيُّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم (¬7) ـ. ¬

(¬1) [النجم: 3 ـ 4]. (¬2) انظر (إرشاد الفحول) (ص631)، (البحر المحيط) (4/ 115). (¬3) انظر: (البحر المحيط) (4/ 109). (¬4) انظر (المسودة) (ص202). (¬5) في (المستصفي) (2/ 101ـ 104). (¬6) انظر (البحر المحيط) (4/ 109 ـ 110). (¬7) تقدم ذكره. وانظر: (إرشاد الفحول) (633).

وكذلك ثبت نسخُ الوصيةِ للوالدين والأقربين بقوله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «لا وصية لوارث»، (¬1) وكذلك نُسِخَ قوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ... } بقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ: ما توفي رسولُ الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ حتى أحلَّ الله له أن يتزوجَ من النساء ما شاءَ. ونسخ قولُهُ تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا ... الآية} (¬2) بنهيهِ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ عن أكل كلِّ ذي ناب، (¬3) والكلام في هذا يطولُ، ومحلُّه مطوَّلاتُ كتب الأصولِ، فإن استيفاءَ الكلام في ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) [الأنعام: 145]. (¬3) أخرجه مسلم رقم (1934)، وأبو داود رقم (3803)، والنسائي (7/ 206) من حديث ابن عباس. وهو حديث صحيح. قال ابن الجوزي في (ناسخ القرآن ومنسوخه) (1/ 399 ـ 400)، اختلف العلماء في حكم هذه الآية على قولين: أحدهما: أن المعنى: لا أجد محرمًا مما كنتم تستحلون في الجاهلية إلا هذا قاله طاووس ومجاهد. ثانيهما: أنها حصرت المحرم، وليس في الحيوانات محرم إلا ما ذكر فيها ثم اختلف أرباب هذا القول. فذهب بعضهم إلى أنها محكمة، وأن العمل على ما ذكر فيها. فكان ابن عباس لا يرى بلحوم الحمر الأهلية بأسًا. ويقرأ هذه الآية ويقول: ليس شيء حرامًا إلا ما حرمه الله في كتابه وهذا مذهب عائشة والشعبي. وذهب آخرون إلى أنها نسخت بما ذكر في المائدة، ومن المنخنقة، والموقوذة والمتردية والنطيحة، وما أكل السبع وقد رد قوم هذا القول، بأن قالوا: كل هذا داخل في الميتة. وقد ذكرت الميتة هاهنا فلا وجه للنسخ. وزعم قوم أنها نسخت بآية المائدة، وبالسنة من تحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير وهذا ليس بصحيح. أما آية المائدة فقد ذكرنا أنها داخلة في هذه الآية. وأما ما ورد في السنة فلا يجوز أن يكون ناسخًا لأن مرتبة القرآن لا يقاومها أخبار آحاد. ولو قيل: إن السنة خصت ذلك الإطلاق أو ابتدأت حكمًا كان أصح. انظر: (إرشاد الفحول) (ص632 ـ 633).

هذه المسألة يحتاجُ رسالةً مستقلةً [10].

قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ: السؤال الخامس: ما يقول القاضي في قول النحاة مثلاً هذا في محلِّ رفع، وهذا في محل نصب، وهذا محلِّ جر، وهذا في محل جزم، وهو شيء أخذه متأخِّروهم عن أولِّيهم، هل تساهلوا في ذلك حيثُ جعلُوا الاسم مثلاً أو الفعلَ بمنزلةِ الحركةِ أو الحرفِ أو الحذفِ، وكان القياسُ أن يقولوا في محلِّ مرفوعٍ، وفي محلٍّ منصوب، وفي محل مجرور، وفي محل مجزوم، أو الاعتراضَ؟ .. وكذلك هل وقع منهم تساهلٌ في قولهم مثلاً في أول الأبوابِ حين يأخذون في حدِّ كل باب: المبتدأ: هو الاسمُ المجردُ عن العوامل اللفظيةِ المرفوعُ، أو هو الاسم الصريح أو المؤول به المرفوعُ، أو ما ابتدأَ به مرفوعًا. والحالُ وصفٌ فعله منتصبٌ، حيث جعلوا الرفعَ في المبتدأ، أو النصبَ في الحال جزءًا من الماهية، وهو حكم من الأحكام، وهذا عندهم من جملة المردودِ، إذا إدخالُ الأحكام في الحدودِ منتقد وإن جعلوه جزءًا واحدًا لزمَ فيه الدورُ، سواء كان بمرتبةٍ كتوقُّفِ (أ) على (ب) و (ب) على (أ)، أو بمراتبَ كتوقُّفِ (أ) على (ب) و (ب) على (ج) و (ج) على (أ)، أفتنا على ماذا نعتمدُ عليه ونعوِّل عليه؟ .... أقول: هذا قد اشتمل على سؤالينِ: وجوابُ الأول: أنه من باب التعبيرِ بالمصدرِ عن اسم المفعولِ، وذلك واقع كثيرًا، ومنه الصورةُ التي ضربها أهلُ النحو مثالاً، وهي قولهم: الدرهمُ أو الدينارُ ضربُ الأمير أي مضروبُهُ، ومن ذلك قول النحاة (¬1): الكلمةُ لفظ وضعَ مفردٍ كما وقع في كافيةِ (¬2) ابن الحاجبِ، فإن شُرَّاحِ (¬3) كلامِه قالوا في الشروح: إن اللفظ هنا بمعنى الملفوظِ، ومن ¬

(¬1) انظر: (شرح كافية ابن الحاجب) (1/ 21). (¬2) (1/ 21). (¬3) منهم: رضي الدين محمد بن الحسن الأستراباذي.

ذلك قولُ ابن الحاجب بالضمةِ رفعًا، والفتحة نصبًا، والكسرة جرًّا، فإن الرَّضيَّ قال في شرحه: إن هذه المصادرَ بمعنى المفعولِ كقولهم: الفاعلُ رفعٌ أي مرفوعٌ، وهذا يقعُ كثيرًا في كلامهم، ومنه ما سألَ عنه [11] السائل ـ عافاه الله ـ ... قال الرَّضيُّ (¬1) عند شرح قول ابن الحاجب: وحكمه أن يختلف آخرهُ لاختلافِ العواملِ لفظًا أو تقديرًا ما لفظُه: فلهذا يقال في نحو هؤلاء أنَّه في محلِّ رفع، أي في موضع الاسمِ المرفوعِ ... انتهى. وقد ذكر هذا أهلُ المعاني والبيانِ في مواضعَ، ومثَّلوه بقول الشاعر: فإنما هي إقبالٌ وإدبارُ ... أي مقبلةٌ ومدبرةٌ ... وجواب السؤال الثاني: إن ما يذكره أهلُ العلم في الأبواب هو من باب الرسول لا من باب الحدودِ، كما حقَّق ذلك جماعةٌ من المحققين، لأن الوقوف على الذاتيات التي مدارُ الحدِّية عليها متعسِّرًا أو متعذِّرًا، وإذا كان ذلك رسمًا لا حدَّا فالمراد تمييزهُ عن مشاركاتهِ في الماهيةِ بالوجهِ لا بالكُنْهِ، ولو كان ذلك بخاصةٍ أو بعرضٍ عامٍّ، وبيانه في مثل الصورةِ التي ذكرها السائلُ ـ عافاه الله ـ إنه لما قيل في حد المبتدأ أنَّه الاسم المجردُ عن العوامل اللفظيةِ بقي كثيرٌ من الأسماء المجردةِ عن العوامل داخلاً في هذا، فلما قال المرفوعُ خرجت تلكَ المشارِكاتِ على زعم من حدَّد المبتدأَ بمثل هذا الحدِّ. وعندي أنها لا تخرجُ جميعُ المشاركاتِ بقوله المرفوعُ، بل يبقي الخبر داخلاً في حدِّ المبتدأ فإنه اسم مجرَّدٌ عن العوامل اللفظية مرفوعٌ، فلا يصح الحدُّ إلا عند من يجعلُ المبتدأ هو العاملُ في الخبرِ كما نقلَه الأندلسيُّ عن سيبويه. وروي عن أبي علي الفارسي وأبي الفتح ابن جنيّ. (¬2) وقال الكسائي والفراءُ: هما مترافعانِ. وقال خلف الأحمرُ: إن المبتدأ يرتفع بإسناد الخبر إليه. وقال بعض الكوفيين: المبتدأ مرتفعٌ بالضميرِ العائد إلى الخبرِ. وقال الزمخشريُّ والجزوليُّ: إن الابتداءَ هو العامل ¬

(¬1) في (شرح الكافية) (1/ 50). (¬2) انظر (اللمع في العربية) (ص72 ـ 73)، (ضياء السالك إلى أوضح المسالك) (1/ 171).

في الخبر. (¬1) وإذا تقرر هذا تبيَّن لك أن وقوعَ لفظ المرفوع في حدِّ المبتدأ ليس على ما ينبغي، فالأولى [12] في حدِّ المبتدأ ما قاله ابن الحاجب (¬2) أنه الاسمُ المجرد عن العوامل اللفظيةِ مسندًا إليه، فإنه بهذا يتميزُ عن الخبرِ، وإن كان الاعتراضُ باقيًا باعتبارِ قول من قال: إن عاملَ المبتدأ لفظيٌّ، لأنه حينئذٍ لا يكون مجرَّدًا عن العوامل اللفظيةِ. وأما ما قاله السائل ـ عافاه الله ـ من كونهم جعلوا الرفْعَ والنصبَ جزءًا من الماهيةِ، وهو حكمٌ من الأحكام. فجوابه أن ذلك إنما يراد إذا كان المذكورُ في الباب حدًّا، وأما إذا كان رسمًا كما ذكرناه فلا، فإن الرسْمَ يكون بالخاصَّةِ، وبالعرضِ العامِّ، إذ المرادُ التمييزُ بالوجه لا بالكُنْهِ، ولهذا قالوا: (إن مدارَ الحدَّيةِ على الفصلِ، ومدارَ الرسميةِ على الخاصةِ. وبهذا تعرف جوابَ ما ذكره السائل ـ عافاه الله ـ من لزوم الدورِ ... ¬

(¬1) انظر التعليقة السابقة. (¬2) في (شرح كافية ابن الحاجب) (1/ 196).

قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ .... السؤال السادس: ما الفرقُ بين العكسِِ اللغويِّ والعكس الاصطلاحي؟ وذلك في مثل قولِهم: كل بليغٍ فصيحٍ ولا عكسَ، هل المرادُ به ولا عكسَ لغويٌّ أو اصطلاحيُّ؟ أقول: العكس اللغويُّ هو أن يقال مثلاً: كل بليغٍ فصيحٌ وعكسُه ليسَ كلُّ فصيحٍ بليغٍ. وأما العكسُ الاصطلاحيُّ المعروفُ عند أهل المنطقِ فهو ينقسم إلى قسمين: العكسُ المستوي، وعكسُ النقيضِ، ولكل واحد منهما بحثٌ محرر في علم المنطقِ تحريرًا يتبيَّن به كلُّ صورةٍ من صورهِ، ولا يتعلَّق بإيراد ما ذكروه هنا فائدةٌ، لأنه يغني عن ذلك الرجوعُ إلى مختصرٍ من مختصرات علمِ المنطقِ .. فمثلاً قولُه: كل بليغٍ فصيحٌ ينعكسُ بالعكسِ المستوي عند أهل المنطق إلى موجبةِ جزئيةٍ وهي بعض الفصيحِ بليغٌ، وأما عكس النقيض فهو تبديلُ نقيضِ الطرفينِ فاعرفْ هذا.

قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ .. السؤال السابع: ما يقولُ القاضي في قولهم مثلاً: هذا كلامٌ ساذَجٌ، وهذه عبارةٌ ساذَجَةٌ؟ ماذا يريدون بالسَّاذج؟ فإنا قد طالعنا الصحاحَ والقاموسَ فلم نجد لهذا الحرفِ أصلاً فيهما، فعلى هذا فهل تكون مولَّدةً أو عربيةً؟ أقول: هذه اللفظةُ ليست من لغةِ العرب, (¬1)، ولكنه استعملَها كثيرٌ من المشتغلينَ بالفنون الآلية، والعلوم العقليةِ، فتارةً يريدون بالساذج ما لا معنى له، وتارة يريدون به ما لا دلالة له، وتارة يريدون به ما لا فائدةَ فيه وقد بيَّن بعضُ أهل العلم معناهُ فقال: هو مأخوذٌ من قولهم ثوبٌ ساذجٌ أي لا علامةَ فيهِ، وهذا التبيينُ ساقطٌ، فإنه إنما يحتاجُ إلى هذا في الألفاظ اللغويةِ. وأما الألفاظُ العجميةُ والمولَّدةُ فلا ضرورةَ تستدعي ذلكَ، وتقتضيه، وما أحسنَ ما قالَهُ بعضُ علماء اللغةِ في بعض الألفاظِ العجمية: (إنه عجميٌّ فالعبْ به كيفَ شِئتَ ... ). ¬

(¬1) سذج: حجّةٌ ساذجة وساذَجَةٌ بالفتح: غير بالغة قال ابن سيده: أراها غير عربية. إنما يستعملها أهل الكلام فيما ليس ببرهان قاطع وقد تستعمل في غير الكلام والبرهان وعسى أن يكون أصلها سادَةْ فعُرّبت كما اعتيد مثل هذا في نظيره من الكلام المعرّب. ذكره ابن منظور في (لسان العرب) (6/ 223).

قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ ... السؤال الثامن: ما يقول القاضي في أخوين: أحدُهما بالمشرقِ والآخَرُ بالمغربِ، فتوفيَّا في يومِ جمعةٍ حين زالت الشمسُ، فهل يحكُم بتوريثِ أحدِهما من الآخَرِ أم لا؟. أقول: إن كلامَ أهل العلم في هذه المسألةِ معروفٌ، والذي عندي أنه إذا علم خروجُ روحَيْهما في لحظةٍ واحدةٍ بدون تقدُّمٍ ولا تأخُّرٍ أصلاً فلا توارُثَ بينَهما، بل ميراثُ كلِ واحد منهما لورثتِهِ الأحياء، وإن لم يُعْلَمْ ذلك، بل الْتَبَسَ فالواجبُ أن يكون العملُ فيهما كالعملِ في الغرقاء والهدماء حسبما هو مذكور في علم المواريثِ، فيجب تقدير موتِ كلِّ واحد منهما عن ورثتِه الأحياء والأمواتِ، ثم عن ورثتهِ الأحياء فقط، ثم يفرضُ موتُ كلِّ واحد منهما عن النصيبِ الذي ورثَه من الآخرِ، هذا أرجحُ ما يقالُ في مثل ذلك، وبه يحصل الوفاءُ بما شرعهُ الله ـ سبحانه ـ من التوريثِ والسلامةِ عن الوقوعِ في الوعيد الواردِ في من قطع ميراث وارثٍ. والكلامُ في مثل هذا فقد استوفاه علماءُ الفراضِ في مؤلَّفاتهم. (¬1) ¬

(¬1) قال ابن قدامة في (المغني) (9/ 170 ـ 171): وجملةُ ذلك أن المتوارثين إذا ماتا، فجهل أوَّلهما موتًا، فإن أحمد قال: اذهب إلى قول عمر، وعلى وشريح وإبراهيم والشَّعبيِّ: يرث بعضهم من بعض، يعني من تلادِ ماله دون طارفه وهو ما ورثه من حيث معه. وهذا وقل من ذكره الإمام أحمد، وهو قول إياس بن عبد المزنيِّ، وعطاء، والحسن، وحميد الأعرج، وعبد الله بن عتبة وابن أبي ليلى، والحسن بن صالح، وشريك ويحيى بن آدم وإسحاق، وحكى ذلك عن ابن مسعود. قال الشعبي: وقع الطاعون بالشام عام عمواس، فجعل أهل البيت يموتون عن آخرهم، فكتب في ذلك إلى عمر رضي الله عنه فكتب عمر: أنْ ورِّثوا بعضهم من بعض. وروي عن أبي بكر الصديق وزيد، وابن عباس، ومعاذ، والحسين بن علي رضي الله عنهم آنّهم لم يورِّثوا بعضهم من بعض، وجعلوا لكل واحدٍ للأحياء من ورثته. وبه قال عمر بن عبد العزيز، وأبو الزِّناد، والزُّهري، والأوزاعي، ومالك، والشافعي رضي الله عنهم، وأبو حنيفة، وأصحابه، ويروى ذلك عن عمر، والحسن البصري وراشد بن سعد وحكيم بن عمير وعبد الرحمن بن عون. وروي عن أحمد ما يدلُّ عليه. انظر مزيد تفصيل (المغني) (9/ 171). وإذا علم خروج روحهما معًا في حال واحدة، لم يرث أحدهما صاحبه وورث كل واحدٍ الأحياء من ورثته لأنَّ توريثه مشروط بحياته بعده، وقد علم انتفاء ذلك. انظر: المصدر السابق.

قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ ... السؤال التاسع: ماذا يقول القاضي في قول الصرفيينَ: وأبي يأبي شاذٌ وتقسيمُ الشاذِّ إلى ما هو موافقٌ للاستعمال ومخالفٌ للقياس، كمسجدٍ مقبولٍ، وبفتح الجيم عكسُه [14] مقبولٌ، وما خالفهما معًا مردودٌ، هل هذه القاعدةُ محرَّرةٌ أو هي لم تتضحْ إلى الآن ... ؟ أقول: قد ذكر علماءُ الصرف أن الشاذَّ ينقسم إلى ثلاثة أقسام: شاذٌّ مخالفٌ للقياس وهو مقبولٌ وشاذٌّ مخالفٌ للاستعمالِ وهو أيضًا مقبولٌ، وشاذ مخالف لهما وهو مردودٌ وهذه القاعدةُ محرَّرةٌ مقرَّرةٌ، ولها أمثلةٌ معروفةٌ في علم الصرفِ. وقد ذكرهما علماءُ المعاني استطرادًا، والكلام فيها معروفٍ. وقد نظمها بعضُ أهل العلم بأبياتٍ أولُها: يشذُّ ما خالفَ القياسَ وإن ... كان كثيرَ الورودِ في الكَلِمِ

قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ ... السؤال العاشر: هل الكذب على العلماء العاملينَ كالكذبِ عليه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أم لا؟ أقول: قد ثبتَ عن رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أنه قال: «إنَّ كذبًا عليَّ ليس ككذبٍ على أحدكم، إنَّه من كذبَ عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار». (¬1) فأفاد هذا أن الكذبَ على رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ ليس كالكذب على غيره من غيرِ فرقٍ بين العلماء العاملينَ وغيرِهم، فحاصلُهُ أن الكذبَ من أعظم الذنوبِ وأشدِّها، ومن الكبائرِ العظيمةِ، ولكنه على رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم أشدُّ، وعقابه أعظم وفي هذا المقدار كفاية والله وليُّ الهداية .... . حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1291)، ومسلم رقم (4/ 4) من حديث المغيرة.

فتح الخلاق في جواب مسائل الشيخ العلامة عبد الرزاق الهندي

(211) 30/ 5 فَتْحُ الخَلاَّقِ في جواب مسائل الشيخ العلامة عبد الرزاق الهندي تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: فَتْحُ الخَلاَّقِ في جواب مسائل الشيخ العلامة. 2 ـ موضوع الرسالة: لغة عربية. 3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم أحمدك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك ...... 4 ـ آخر الرسالة: سبحانه ربك ربِّ العزة عمِّا يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. 5 ـ نوع الخط: خط نسخي جيد 6 ـ عدد الصفحات: 31 + صفحة العنوان. 7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 20 سطرًا. 8 ـ عدد الكلمات في السطر: 10+ 11 كلمة. 9 ــ الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم أحمدك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك، سيد الأنام، وعلى آله الكرام، وصحبه الفخام. يا فتاح، يا عليم، افتح لنا أبواب الهداية، وافتح علينا بفهم ما استصعبَ من علوم الدراية والرواية، إنَّه لا خيرَ إلاَّ خيرُك، ولا يهب المعارفَ الحقةَ على الحقيقةِ غيرُك، وبعدُ: فيقول الحقير الجاني محمد بن علي الشوكاني ـ غفر الله له ذنوبه، وستر عن عيون العباد عيوبه ـ وأنه ورد عليَّ، ووفد إلىَّ من الشيخ المحقق العلامة المدقق الفهامة، المتحلِّي من المعارف بما دقَّ وفاق، ورقَّ وراق، الفاضلِ عبد الرزاق، وهو الهنديُّ المستوطن دلّي ـ غفر الله له ولي ـ هذه المسائلُ الرشيقة، والمباحث الأنيقة الدقيقة. وها أنا أذكرها لك بنصِّها، واكتبها بلفظها وفصها، ثم أذكر ما ظهر لي من جوابها مسألةً مسألةً، وبالله الاستعانةُ على فك أقفال كلِّ معضلة ومشكلةِ، قال ـ كثر الله فرائد فوائده ـ ومدَّ على الطُّلاب فوائد فرائده ـ: مسألة: ما قضية نتجتْ غيرَ مكررة الحد الأوسط، وما الشكل الأول ينفي الصغرى فأنتج وإيجابها مشرّط؟ مسألة: وما اقتراني كالاستثناءِ، وهما نقيضان. مسألة: وما قضايا حوتْ ثلاثةَ الآلفِ في الحسبان، وما شكل ثانٍ اتفقت مقدمتاهُ إيجابًا وسلبًا، فأنتج دون ما عداهُ. مسألة: ما بين الصورة الجسمية [1أ]، والصورة النوعيّة من أنواع التقابل الحكمية. مسألة: وما بين العارضِ والعرضِ من النسبِ الأربع قد عرض، فإن قلتم يتساويان قلنا يتغاير الحدَّان، وإنْ قلتم نقيضان، قلنا يرتفعانِ، وإن قلتم غير ذلك فعليكم البيان. مسألة وما بين الكمال الأول والثاني من هذه النسبِ، وهل السؤالُ عنها بما أو بأيّ قد وجب.

مسألة وما شيءٌ لا من وجود ولا معدوم، ولا كلِّي ولا جزئي، ولا خاصٍّ ولا عامٍّ. وهل يدخل في مسمَّي الشيء؟ وهل يحسن السؤال عنه بأيِّ؟ وهل معنى لا شيء ولا موجود متَّحدٌ؟ وهل التلازم بين الوجود والشيئية من الأمور الخارجيَّة أو الذهنية، أو لا ملازمة أصلاً؟ وما بين اللاشيء واللاموجود من التقابل حكمًا. مسألة: قالوا: في قام زيد خمسةٌ وعشرون وجهًا فانعموا بالقيد. مسألة قول الشاعر: لا يألف الدرهمُ المضروبُ صُرَّتَنا ... لكن يمرُّ عليها وهم منطلقُ لم آثر لفظ يألفُ على غيره من الألفاظ التي تولفُ، وَلِمَ أتى بالدرهم دون الدينارِ؟ وبلا دونَ ما، ولِمَ اختار التعريفَ على التنكير، والإفراد على جمع التكسير؟ ولم وصَفَه بالمضروب؟ هل فائدة أوقع في القلوب؟ ولم أختار لفظ الصَّرة على ما يقوم مقامَها؟ بيِّنوا سرَّهُ. ولم قدَّم لفظ المرور على ما يرادفُه بما على الألسنة يدور؟ ولمَ جاء به مضارعًا دون ماضٍ؟ وهل زمانه الحالُ، أو الاستقبال، أو الاستمرار؟ وما عليها من الاعتراض. وهل المرور الانطلاق؟ فكيف قيَّده به؟ وتقييد الشيء بنفسه منعه الاتفاق، وهل يصح الاستشهاد بهذا البيت للحشو والتطويل والإيماء؟ وأين موضع كُلّ يا نبيلُ [1ب]. مسألة: هل الإعراب والبناء نقيضان؟ فإن قلتم: نعم. قلنا: يرتفعانِ. وإنْ قلتم: لا. فما بينَهما عند ذوي الشأن، وهل لهما عارضان أو عَرَضَان؟ مسألة: أي خبر مشتق استكنَّ فيه ثلاثةُ ضمائرَ وخبرينِ مشتقَّين ليس فيهما إلاَّ ضميرُ دائرة. مسألة: ما مبتدأ رفعتُه حال. مسألة: إذا بنيت من آي على مختال كيف تجمعُه جمعَ السلامةِ. وتصغِّره. وتكسِّره وترخِّمُهُ على القاعدة المقامةِ؟ مسألة: ما حرف ناب عن حرف حذف فنابَ عن ذلك النائبِ اسمٌ ربما عرف

فعرف؟ مسألة إذا سمَّيتَ بلا كيف تثنيه، وكيف تجمعه، وكيف تكسره، وكيف ترخمه منادي، وتصغره؟ مسألة ما به اسمٌ عوضٌ عن نون التثنية في غير الإضافةِ العادية. مسألة: ما حدُّ علةِ الفرق، وعلة الاستغناء، وعلة التوكيد، وعلَّة النقيض، وعلَّة حمل المعنى على المعنى؟ وما علَّة القرب، وما علَّة الوجوب، وما علة المعادلة، وما علة الجواز، وما علة الأصل، وما علة التعليل، وما علَّة المشاكلة؟. وما مثالِ كلٍّ من هذه العلل عند النحاة؟ فأنعموا بالمثل، وما حدُّ العلَّة، وما رسْمُه، وما مثالُه؟ وهل يجوز التعليلُ بالعلَّة القاصرةِ، وما مثاله، وما فساد الاعتبار في علم العربيّة، ومتى تعارض شاذ ولغة ضعيفةٌ، فهل ارتكابُ الضعيف أولى أو لا؟ والله أعلم. تفضَّلوا بتحرير الجواب، ولكم جزيل الثواب انتهى السؤال. قال المجيب ـ أمدَّ الله أيامه، ونشر بمناهج التحقيق أعلامَه ـ[2أ] وقبل تحرير الجواب تقدم مقدمةً مشتملةً على فوائدَ يزدادُ بها الواقفُ على هذه الأسئلةِ وأجوبتها بصيرة، وينتفع بها فيها انتفاعًا تامًّا. الفائدة الأولى: اعلم أنَّ المسائل التي يوردها السائل على طريقة التعميةِ والألغاز (¬1) ¬

(¬1) الألغاز قصدتها العرب وألغازٌ قصدتها أئمة اللغة، وأبيات لم تقصد العرب الإلغاز بها، وإنما قالتها فصادف أن تكون ألغازًا وهي نوعان: فإنّها تارة يقع الإلغاز بها من حيث معانيها، وأكثر أبيات المعاني من هذا النوع وقد ألف ابن قتيبة في هذا النوع مجلدًا حسنًا. وكذلك ألف غيره. وإنما سموا هذا النوع أبيات المعاني لأنها تحتاج إلى أن يسأل عن معانيها ولا تفهم من أول وهلة. وتارة يقع الإلغاز بها من حيث اللفظ والتركيب والإعراب. انظر (المزهر في علوم اللغة وأنواعها) للسيوطي (1/ 578). وقال السيوطي في (الأشباه والنظائر) (1/ 7) واللغز النحوي قسمان: أحدهما: ما يطلب به تفسير المعنى والآخر ما يطلب به وجه الإعراب. ? واللُّغز: هو أن يكون للكلام ظاهر عجب لا يمكن وباطن ممكن غير عجب. واشتقاق اللغز من: ألغز اليربوع ولغَزَ إذا جفر لنفسه مستقيمًا ثم أخذ يمنة ويسرة. يورِّ بذلك ويُعمِّي على طالبه. قال الخفاجي: إن قيل: فما تقولون في الكلام الذي وضع لغزًا، وقصد ذلك فيه؟ قيل: إن الموضوع على وجه الإلغاز قد قصد قائله إغماض المعنى وإخفاءه، وجعل ذلك فنًّا من الفنون التي يستخرج بها أفهام الناس، وتمتحن أذهانهم، فلما كان وضعه على خلاف وضع الكلام في الأصل كان القول فيه مخالفًا لقولنا في فصيح الكلام. حتى صار يحسن فيه ما كان ظاهره يدل على التناقض، أو ما جرى مجرى ذلك، كما قال بعضهم في الشَّمع: تحيا إذا ما رؤوسها قطعت ... وهنَّ في الليل أنجم زُهرُ وقال صاحب البرهان: وأما اللغز: هو قول استعمل فيه اللفظ المتشابه طلبًا للمعاياة والمحاجاة. والفائدة في ذلك في العلوم الدنيوية، رياضة الفكر في تصحيح المعاني، وإخراجها من المناقضة والفساد إلى معنى الصواب والحق، وقدح الفطنة في ذلك، أو استنجاد الرأي في استخراجه. انظر: (معجم البلاغة العربية) (ص622 ـ 623).

ليس المعتبرُ في حلِّها إلا ما يصلُح أن يكون حلا لها على الوجه المعتبر، سواءً كان ذلك هو الذي قصدَه المورِدُ لها أو غيره، مما يتجلى به إشكالُها، ويتضح عنده إعضالُها، وينفتح لديه مُغْلَقُها. ومن زعم أنه لا يتمُّ الحلُّ، ولا تتضح التعميَّة إلاَّ بالتنصيص على الصورة التي أرادها من جاء بالتعميةِ فقد ركبَ أبعد الشططِ، وغلط أقبحَ الغلطِ. وإذا تقرر لك هذا علمت أنه ليس على المسؤولِ، فالمسائل الواردة على تلك الصورة إلاَّ مجرَّد تخريجها على وجهٍ صحيح، فإن تمَّ له ذلك فقد أصاب في الجواب، وعلى السائل التسليمُ، وإن لم يكنِ الحلُّ بعين تلك الصورة التي قصدها فإن زعم أن ذلك التخريجَ مختلٌّ بوجه من وجوه الاختلال فعليه أولاً إيضاحُ مُعَمَّاهُ، وتقريرُ انطباقهِ على تلك الصورة التي قصدها دون غيرها، وليس له أن يمنعَ منعًا مجردًا، وعليه ثانيًا بيانُ وجه الخللِ في ذلك التخريج الذي جاء به المجيب. الفائدة الثانية: إنَّ عدم فهم المسألة الواردةِ على طريق التعميةِ لا يستلزم عدمَ فهم نفس تلك المسألةِ لو وردتْ بغير ذلك العنوانِ، وعلى غير تلك الصور، بل المعتبرُ في

تحقيق العلوم، وتدقيق المعارف أن يكون العالمُ عارفًا بالمسائل، [2ب] قادرًا على استخراج الدلائل، متمكنًا من استحضارها على الوجهِ الذي دُوِّنت عليه في العلوم، ولا يلزمه أنْ يفهمَها إذا غُيِّرتْ تغييرًا خرجت به عن الطريقة المألوفة، وخالفت بسببه المسالكَ المعروفةَ. فإنَّ ذلك لا يقدحُ في علم العالِمِ بلا خلاف. ومن أنكر هذا فقد أنكر الأمرَ الواضح البيِّنَ، وما سبيل هذه المسائل التي أوردَهَا السائل ـ كثر الله فوائده ـ إلاَّ سبيلَ ما أورده أذكياء أهل الفنون في فنونهم على اختلافها من المسائل المعمَّاة في كل فن، بحسب ما يتعارفه أهلُه، ويدور بينهم في مجامعهم، فإنَّ ذلك قد يخفي على أكثرهم تدقيقًا، وأكملِهم تحقيقًا. فإذا انكشف وجهُ التعمية وجد ذلك من أصغر ما يعرفه، وأوضح ما يقومُ بتحريره وتقريره، ويلتحق برياضة أذهانِ الطلبةِ بالتعمية في مسائل العلوم ما يعقدُ من التعمية تارةً بالنظم، وتارةً بالنَّثر في أمور معروفة مألوفة. صارت بإيرادها على ذلك الوجهِ مما يصعُب حلُّه، ويبعدُ فهمُهُ، وكثيرًا ما يقع ذلك بين المشتغلين بالأمور الأدبيَّة، والمحاضرات المجلسيَّة. فإذا ظهر وجهها، وحصل حلُّها ظهر عند ذلك أن ذلك المعمَّى الذي تقاصرت الأذهان عن حلِّه، وتعبت في استخراجه في شيء يعرفُه كلُّ أحدٍ. الفائدة الثالثة: أنَّ مسائل التعمية إذا كان كشفُها وحلُّ ألغازِها بما يشابهها في التغطية. ويناسبها في الوجه الذي وردت عليه، وعلى تلك الصورة التي جاءت بها كان ذلك حَسَنًا مقبولاً، مشتملاً على زيادة فائدةٍ، وهي شَحْذُ ذهن الواقفِ على الجواب [3أ]، وتحديدُ فهمه، وتقوية إدراكِهن وتصيفة صورة تصوُّره، وربما نسلك في بعض هذه الأجوبةِ هذا المسلكَ، ونمشي على هذه الطريقة التي مشَاها السائل ـ كثر الله فوائده ـ. الفائدة الرابعة: قد كان رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ يكره كثرةَ السائل، ولما أكثروا عليه في بعض المواطن غضبَ، ثم طلب منهم أنْ يسألوه، وتقاضَاهم ذلك غيرَ مرَّة حتى قال بعضُهم: مَنْ أبي يا رسول الله؟ فقال: أبوك فلان، ثم

كرر الطلبَ لهم مغضَبًا، فقام عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فقال: رضينا بالله ربًّا، والإسلام دينًا، وبمحمدٍ رسولاً، فسكن. والحديث في الصحيح. (¬1) وقد ورد في حديث صحيح تعليلُ كراهةِ كثرةِ المسائلِ بأنْ يتسبَّبب السائلُ لإيجاب حكم لم يجب وإثبات شرع لم يثبتْ. وأفاد ذلك جوازَ المسائل التي لا تستلزمُ مثلَ ذلك، بل جوازَ ما لم يتعلق بأمر الدين منها، ويؤيد ذلك حديثُ ابن عمر الثابت في الصحيح، الذي ترجم عليه البخاري بقوله: باب طرحِ المسألةِ. وقد كان كثيرٌ من السلف يكرهون المسائلَ التي هي من نوع الأغلوطاتِ، ومن جنس ما لم يكن للناس إليه حاجةٌ. وقد كان كثير منهم لا يجيبُ في مثل ذلك، ولا يلتفت إليه. وأمَّا علماء المعقول فقد استكثروا من ذلك، ووضعوا له مؤلَّفات مستقلةً، فإن أرسطا طاليس (¬2) صنَّف كتابًا مستقلاً في بيان الأمور التي يُقْصَدُ بها التمويهُ، وذكر جميع ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4621)، ومسلم رقم (134/ 2359) من حديث أنس بن مالك قال: بلغ النبي صلي الله عليه وسلم عن أصحابه شيءٌ فخطب فقال: «عرضت على الجنة والنار، فلم أر كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً وبكيتم كثيرًا» قال فما أتي على أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم يوم أشدّ منه، قال: غطوا رءوسهم ولهم خنينٌ، قال: فقام عمر فقال: رضينا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا. قال: فقام ذاك الرجل فقال: من أبي؟ فقال: (أبوك فلان) فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}. وأخرج البخاري في صحيحه رقم (92)، ومسلم رقم (138/ 2360) عن أبي موسى قال: سُئل النبي صلي الله عليه وسلم عن أشياء كرهها. فلمَّا أُكثر عليه غَضِبَ. ثم قال للناس: «سلوني عم شئتم» فقال رجل: من أبي؟ قال: «أبوك حذافةٌ» فقام آخر فقال: من أبي؟ يا رسول الله، قال: «أبوك سالم مولى شيبة» فلما رأى عمر ما في وجه رسول الله صلي الله عليه وسلم من الغضب قال: يا رسول الله إنّا نتوب إلى الله. (¬2) أرسطاليس: ومعناه محب الحكمة، ويقال الفاضل الكامل. وهو أرسطاليس بن نيقوماخس بن ماخامرون. ومن ولد اسقليبادس الذي اخترع الطب لليونانيين. وكان اسم أمه افسيطياء، وترجع إلىاسقلبيادس، وكان من مدينة لليونانيين تسمى اسطاغاريا. وكان أبوه نيقوماخس مطببًا لفيلبس أبي الأسكندر. وهو من تلاميذ أفلاطون ـ عاش ما بين (382 ـ 322 ق. م). من مصنفاته: الجدل. العبارة أو التفسير. السماء والعالم .. انظر: (الفهرست) لابن النديم (ص347)، (تاريخ الفلسفة اليونانية) (ص179) ليوسف كرم.

ما يوضِّح الأقاويلَ التي يستعملُها المموهون، وبأيِّ الأشياء تُفْتَتَحُ، وكيف يتحرر الإنسان منها، ومن أين تقع المغالطةُ [3ب] في المطويَّاتِ، وسمَّى هذا الكتابُ سوفسطيقا (¬1) ومعناه الحكمة المموّهة. وصنف كتابًا آخَرَ في كيفية السؤالِ الجدلي، والجواب الجدلي، وسمَّاه طويبقًا، (¬2) ومعناه بالعربية المواضعُ الجدليَّة، وصنف كتابًا ثالثًا في الأقوال التي يمتحى بها، وسمَّاه أنا لوطيقنا، (¬3) ومعناه بالعربية كتاب البرهان. بسم الله أشرع الآن في الجواب، مستعينًا بفاتح مُغْلَقَاتِ الأبواب. قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ: ما قضية نتجت غيرَ مكررةِ الحدِّ الأوسط. أقول: القضية هي التي يصحُّ أن يقال لقائلها أنه صادقٌ أو كاذبٌ، كما صرَّح به المحقق الشريفُ في التعريفات، (¬4) وهي التي يقول فيها أهلُ النحو والبيانِ أنها ما احتملت الصدقَ والكذبَ، فإن كان المرادُ بالنتيجةِ التي ذكرها السائل هي ما تستلزمهُ تلك القضية ¬

(¬1) نقله ابن ناعمة وأبو بشر متى إلى السرياني، ونقله يحيي بن عدي من تيوفيلي إلى العربي، وللكندي تفسير لهذا الكتاب. (الفهرس) لابن النديم (ص349). (¬2) وللفارابي تفسير هذا الكتاب، نقل إسحاق هذا الكتاب إلى السرياني ونقل يحيى بن عدي الذي نقله إسحاق إلى العربي ونقل الدمشق منه سبع مقالات. (الفهرست) لابن النديم (ص349). (¬3) نقله ثيادورس إلى العربي، وللكندي تفسير لهذا الكتاب. (الفهرست) لابن النديم (ص348). (¬4) (ص183 ـ 184) للشريف الجرجاني.

فقد لزم عنها لذاتِها قولٌ آخَرُ، وهو عكسُها، وعكس نَقِيْضِها. وإن كان المراد النتيجة التي تلزم القولَ المؤلِّف من قضايا فجوابه مبين في القضايا التي قياساتُها معها، وما يشابها. فإنَّ قولنا: الأربعةُ زوجٌ نتجت، ولم يتكرر فيها الأوسط، لأنَّ الأوسط هنا معلومٌ لكل من يعلم أنَّ الأربعة عدد منقسمٌ بمتساويينِ، وكلُّ عدد منقسم بمتساويينِ زوجٌ، فالأربعة زوج. فهذه قضية نتجت غَيْرَ مكررةِ الحدِّ الأوسط، ويمكن الحلُّ بقياس المساواةِ على ما رجَّحهُ صاحب المطالع، ثم نقول له على طريقة المشاكلةِ لسؤاله: والمماثلة لمنواله [4أ] ما قضية نتجتْ وليس فيها من الشروط المعتبرةِ. وأخرى لم تنتج مع كمال شروطها المعتبرة. ثم نقول له أيضًا: ما قضيّةٌ صحَّ فيها أن تكون موجهةً بجهتين متناقضتينِ، وصدقتا لكن بنوع من العنايةِ ترتفع عنده العماية. وما قضيّةٌ صدقتْ موجبةً وسالبةً، وما قضيّة خبريةٌ ليست بصادقة ولا كاذبة. قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ: وما الشكل الأول ينفي الصغرى فأنتج وإيجابها يشترط. أقول: ينظر السائل جوابه في بحث المعدولاتِ، فإنه عند ذلك يظفر بالمطلوب، وفي المشروطة الخاصَّة، والعُرفيَّة الخاصَّة، والوجودية اللاضرورية، والوجودية اللاذعة ما يغني عن التطويل، ويقتضي الاكتفاءَ بالحلِّ في هذا الكلام القليل على أنه إذا جعلَ موضوع الكبرى ما سلبَ عن الأوسط في الصغرى السالبةِ كان الإنتاج متحقِّقًا، والقياس من الشكل الأول كما صرَّح به السعدُ، ثم نقول له: وما شكل أنتج وصغراهُ منفيَّةٌ وكبراه ليست بكليَّةٍ. قال السائل ـ عافاه الله ـ مسألة وما اقترافي كالاستثنائي وهما نقيضان. أقول: إنْ أراد المشابهةَ بينهما في وجهٍ من الوجوه، وعلى حالةٍ من الحالات، ولو بمجرد التألُّف منهما، والصحبة بينهما، فجوابُه مبينٌ في قياس الحلفِ، وإنْ أراد المشابهةَ بينهما في بعض الوجوه ففي مباحث المركَّباتِ ما يرشدُ إلى الحلِّ على بعض الحالات،

وإن أراد المشابهةَ في كل الوجوه ففي صور الاعتبارات، ووجوه عدم تزاحُمِ المقتضياتِ ما يوضَّحُ له هذه [4ب] المقامات، ثم نقول: ما وجه الحصر في النوعين؟ وأي دليل على عدم وجود ثالث للقسمين؟ فإن قال: من العقل، فما هو؟ وإن كان من استقراء أقسام الكلام فأين هو؟ قال: مسألة: وما قضايا حوتْ ثلاثةَ الآلفِ في الحسبانِ. أقول: لما أطلق القضايا ولم يبينْ لها عددًا، ولا أوضح لها مدَدًا لم يمتنع أن يقال أنَّ هذه القضايا مساويةٌ لما حوتْ مساواةً يطيحُ عندها الإشكالُ، ويطير ببيانها طائرُ الإعضالِ، أو مساوية لمخرج من مخارجها القريبةِ أو البعيدة، مع تكثُّر وجوه الحاوي وتنوُّعه إلى المقدارِ المساوي، ثم نقول على مقتضى هذا الإهمال، ما قضيةٌ واحدة صحيحة القاعدةِ حوتْ ما لا ينحصرُ في الحسبان؟ وما أخرى حوت بالاجتلابِ ألفَ ألفِ ألفِ ثلاثَ مرَّاتٍ؟ قال: وما شكل ثانٍ اتفقت مقدِّمتاه إيجابًا وسلبًا فأنتج دون ما عداه؟ أقول: جواب هذا السؤال قد أرشدْنا إليه فيما سبق، فإنْ أراد السائل مزيدَ الإيضاح ففي تركيبه من كبرى ممكنةٍ خاصَّة مع صغرى اللاضروريةِ يحصلُ الحلُّ، ويتبيَّن به الدٌّقُّ والجُلُّ، ولكن في قوله دون ما عداهُ تساهلٌ لا يرضاه. ثم نقول له: ما شكل ثانٍ لم يحصلْ ما هو معتبرٌ فيه من دوام صغراهُ، ولا انعكاس سالبة كبراه، أنتج قولاً صحيحًا، واستلزم لذاتِه دليلاً رجيحًا، ثم ما شكل ثالث أنتج مع عدم إيجاب صغراهُ، وما شكل رابع أنتج مع عدم إيجاب كبراه؟ قال: مسألة ما بين الصورة الجسميَّة، والصورة النوعية [5أ] من أنواع التقابل الحكميَّة. أقول: يتضح الجواب بذكر مفهومي الصورتين، ومفهوم التقابل. أمَّا الصورة الجسميَّةُ فهي جوهر متصلٌ غيرُ بسيط، لا وجودَ لمحلِّه دونَه، قابل للأبعاد الثلاثة، والصورة النوعيَّة جوهر بسيطٌ لا يتمُّ وجودُه بالفعل دون وجود ما حلَّ

فيه، وأمَّا التقابلاتُ فهما اللَّذان لا يجتمعانِ في شيء واحد من جهة واحدة، وأقسامه أربعة: أحدها: الضدَّان، وهما الموجودانِ غير المتضايقينِ كالسواد والبياض. (¬1) وثانيهما: المتضايقان وهما موجودان يُعْقَلُ كلٌّ واحد منهما بالنسبة إلى الآخر كالأُبوَّة والنبوَّة. (¬2) وثالثها: المتقابلانِ بالعدم والملَكَةِ، وهما أمران يكون أحدُهما وجوديًّا، والآخر عدميًّا، لكن لا مطلقًا بل يعتبرُ منهما موضوعٌ قابلٌ لذلك الموجود، بل الوجودي كالبصرِ والعمى، والعلمِ والجهلِ. (¬3) ورابعها: المتقابلانِ بالسَّلْبِ والإيجابِ كالفرسيةِ والأفرسيَّة (¬4) إذا عرفت هذا، وتقرَّر لديك قيدُ البساطةِ في إحدى الصورتينِ وعدمِها في الأخرى علمتَ أن تقابُلَ المقام من النوع الأول من تلك الأقسامِ، وعلى تقدير البساطة فيهما كما قاله البعض يكون توقُّفُ المحلِّ على الحال في الأولى، وتوقُّفُ الحال على المحلِّ في الثانية، مماله مدخل في ذلك التقابُلِ لما تقرر من استلزام تنافي اللوازمِ لتنافي الملزوماتِ، ثم نقول للسائل ـ كثر الله فوائده ـ: كم عدد ما يطلق عليه اسمُ الصورةِ عند أهل الفنِّ؟ وهل يصحُّ وجود تقابل غيرِ الأربعةِ المذكور لا يصدق عليه مفهومٌ واحد منها؟ فإن قال نعم فما هو؟ وإن قال لا فما وجه الحصر؟ [5ب] ثم هل تنحصرُ الموجوداتُ في الجواهر والأعراض، أو ثَمَّ ¬

(¬1) هو مقابلة الشيء بضده: قال تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} ألا ترى صحة هذه المقابلة البديعة حيث قابل الضحك بالبكاء. والقليل بالكثير. (معجم البلاغة العربية) (ص535)، (جواهر البلاغة) (ص291). (¬2) انظر: (معجم البلاغة العربية) (ص367). (¬3) بناء على أن العجز نفي القدرة عمَّن من شأنه الاتصاف بالقدرة. (معجم البلاغة العربية) (ص367). (¬4) انظر: (معجم البلاغة العربية) (ص279)، (جواهر البلاغة) (ص292).

واسطةٌ بينهما لا يصدقُ عليها مفهوم أحدهما، ولا يندرج تحتَ واحد منهما؟ ولهذا السؤال تعلّق كاملٌ بتحقيق ما سأل عنه السائل. قال: مسالة: وما بين العارض والعَرَضِ من النِّسبِ الأربع قد عرضَ، فإن قلتم يتساويانِ قلنا تغايَرَ الحدَّانِ، وإن قلتما هما نقيضانِ قلنا: يرتفعانِ، وإن قلتم غيرَ ذلك فعليكم البيانُ. أقول: العارض أعمَّ من العَرَضِ، إذ يقال للجوهر عارضٌ كالصورة تعرضُ على للهيولَى، (¬1) ولا يقال لها عرضٌ، صرَّح بذلك المحققُ الشريف، (¬2) فعرفت أنَّ بينهما عمومًا مطلقًا لصدق العارضِ على الصورة، فإنها عارض للهيولى، وليست بعرض، لأنها من قبيل الجوهر، لكن في قوله: وإنْ قلتُم نقيضانِ قلنا يرتفعان تسامحَ في العبارة، فإنَّ التناقُضَ من النسبِ الأربعِ، إلاَّ أن يريد التبايُن على ما فيه من الخلل، فإنَّ الارتفاعَ لا يمنعُ من التباين، والتباين لا يمنع من الارتفاع، ثم نقول للسائل ـ كثر الله فوائده ـ: هل يمكن وجود نسبة خامسةٍ؟ فإنْ قال: نعم فما هي؟ وإنْ قال لا فما وجه الحصر؟ ونقول له أيضًا: إذا كان العارض هو المحمولَ على الشيء الخارجَ عنه، فما النسبة بين العارض والمعروض؟ وما النسبة بين العرض الموجود والعرض اللازم؟ وما النسبة بين كل واحد منهما، وبين العرض المفارقِ؟ (¬3) قال: مسألة: وما بين الكمال الأول والثاني من هذه النسبِ، وهل السؤال عنها بما أو بأيّ قد وجب؟ ¬

(¬1) كلمة يونانية الأصل، ويراد بها المادة الأولى، وهو كل ما يقبل الصورة وترجع إلى أرسطو، ثم أخذها المدرسون من بعده. (المعجم الفلسفي) (ص208). (¬2) في (التعريفات) (ص139). (¬3) انظر: (الكوكب المنير) (1/ 33 ـ 35). (بغية المرتاد) لابن تيمية (ص 413 ـ 417).

أقول: قال المحقق الشريف (¬1) وغيره [6أ]: الكمال ما يكملُ به النوعُ في ذاته، أو في صفاته. والأول هو الكمال الأول ليقدمه على النوع، والثاني هو الكمال الثاني لتأخُّره عنه، ووجه تسميّة ما يكملُ به النوعُ في ذاته كمالاً أو لا، فما يكمل به في صفاته كمالاً ثانيًا أنَّ كمال الشيء في صفاتِه متوقِّفٌ على كماله في ذاته، والصفة متأخرة عن الموصوف، وإذا تقوَّى لك هذا، وعلمتَ أنَّ عدم اجتماعِ اللوازِم يستلزمُ عدمَ اجتماع الملزوماتِ عرفتَ أنَّ النسبةَ بينَهما التبايُنُ، وعرفت أيضًا أنه يصحُّ السؤالُ في كل واحد منهما بأيٍّ إذا كان المطلوبُ شرحَ ماهِيَّتهما، ويصح أيضًا السؤالُ في كل واحد منهما بأيِّ إذا كان المطلوبُ تمييزهَ عن المشاركاتِ له، ثم نقول للسائل ـ كثر الله فوائده ـ: هل الكمالُ الأول متَّحدٌ أو متعددٌ؟ وعلى تقدير التعدُّد هل تلك الأمور المتعددةُ متفاوتةٌ أو متوافقةٌ؟ وهل هي من باب التواطؤ أم من قسم التشكيك؟ وهكذا يقال في السؤال عن الكمال الثاني، ثم يقال أيضًا: هل ثَمَّ كمالٌ ثالثٌ خارجٌ عن الكمالين؟ فإنَّ الوهب الذي لا تحصلُه الذات، ولا تكتسبه الصفاتُ لا يصحُّ أن يقال فيه أنه من الكمال الأول، ولا من الكمال الثاني، فإن كان كمالاً ثالثًا فما وجهُ الاقتصار على كمالين؟ وما النسبة بينَه وبين كل واحد من الكمالينِ؟ وإن كان داخلاً فيهما أو في أحدهما فعليكم ببيان تحقيقِ الدخولِ، وإن كان ذلك مما يبعدُ إليه الوصولُ. قال: مسألة: وما شيء لا موجودٌ، ولا معدومٌ، ولا كليَّ، ولا جزئي، [6ب] ولا خاصٌّ، ولا عام؟ وهل يدخل في مسمَّى الشيء؟ وهل يحسنُ السؤال عنه بأيِّ؟ وهل معنى لا شيء ولا موجود متحدٌ، وهل التلازمُ بين الوجودية والشيئية من الأمور الخارجية أو الذهنية؟ أولا ملازمةَ أصلاً؟ وما بين اللاشيء واللاموجود من التقابل حكمًا؟ أقول: قد أثبت القاضي أبو بكر الباقلاني، وأبو هاشم المعتزلي وإمام الحرمين ¬

(¬1) في (التعريفات) (ص196).

الجويني واسطةً بين الوجود والعدمِ، وهو الحال، وأوَّل من قام به أبو هاشم. ولذا يقال حالُ البهشمي (¬1) فالحال على هذا القول لا موجودٌ ولا معدومٌ، وذهب الجمهور إلى أنه لا واسطةَ بين الموجود والمعدوم، لأنَّ الموجود ما له تحقٌّقٌ، والمعدوم ما ليس له كذلكَ، ولا واسطة بين النفي والإثباتِ في شيء من المفهومات ضرورةً واتفاقًا. والبحث في هذا يطول فليرجعِ السائلُ إلى المواقف العضُدية وشرحِها، والمقاصِدِ السعديةِ وشرحها، وإلى التجريد وشرحِهِ، ففي ذلك ما يغني عن التطويلِ، (¬2) وأمَّا كون الشيء لا يكون كليًّا ولا جزئيًا فقد تقرر أنَّ الكليةَ والجزئيةً من صفات المفاهيمِ العقليةِ، فالموجوداتُ الخارجية لا تتصف بأحد الوصفينِ، وهكذا يقال في جواب قوله: ولا عامٌّ ¬

(¬1) قال أبو هاشم الجبائي أن الباري تعالى عالم بذاته بمعني أنّه ذو حالة هي صفة معلومة وراء كونه ذاتًا موجودًا. وإنما تعلم الصفة على الذات لا بانفرادها. فأثبت أحوالاً هي صفات لا موجودة ولا معدومة، ولا معلومة ولا مجهولة، أي هي على حالها لا تعرف كذلك بل مع الذات. قال ـ أبو هاشم ـ والعقل يدرك فرقًا ضروريًّا بين معرفة الشيء مطلقًا وبين معرفته على صفة، فليس من عرف الذات عرف كونه عالمًا، ولا من عرف الجوهر عرف كونه متحيزًا قابلاً للعرض ... ). انظر: (الملل والنحل) (1/ 92 ـ 93). قال الإسفراييني في (التبصير في الدين) (ص87): وكان من جهالته ـ أبو هاشم بن الجياني ـ قوله بالأحوال حتى كان يقول: إن العالم له حال يفارق به من ليس بعالم، وللقادر حال به يفارق حال العلم ثم كان يقول: إن الحال ليس بموجودة ولا معدومة ولا مجهولة وإن العالم يعلم على حالة ولا يعلم حال العالم ولا حال القادر، ولا يمكن الفرق بين حال العالم وبين حال القادر. إذ لا يعلم حال حيث قالوا: إن الصانع لا معدوم ولا موجود ولا ما من ثابت إلا وهو في الحقيقة وجود. إذ لا واسطة بين العدم والوجود، ولو ثبت بينهما واسطة لجاز أن يخرج الشيء من العدم إلى الثبوت ثم من الثبوت إلى الوجود كما جاز أن يخرج من القيام إلى القعود، ثم من القعود إلى الاضطجاع إذ القعود واسطة بين الطرفين. (¬2) انظر (منهاج السنة النبوية) (1/ 269 ـ 271). (بغية المرتاد) (ص413 ـ 417).

ولا خاصٌّ، فإنَّ العموم والخصوص من خصائص الكلياتِ، وهي التي يكون بينها النسبُ الأربعُ، فالموجودات الخارجية لا تتصفُ بعموم ولا خصوصٍ، ويمكن الجواب عن هذا السؤال بالماهيّةِ، فإنه ذكر الشريف في التعريفات أنها لا موجودةٌ، ولا معدومةٌ، ولا كليةٌ [7أ]، ولا جزئية، ولا عامةٌ، ولا خاصَّةٌ. ولكنَّ ما قدمنا أقربُ إلى الصواب، وأمَّا قوله: وهل يدخل في مسمَّى الشيء؟ فمن جعل الشيءَ هو الموجودَ لم يدخلْ، ومن جعله المعدومَ وهو الجاحظُ والبصريّةُ من المعتزلةِ صحَّ وصفُه بالشيئية، (¬1) وأمَّا على قول من قال هو للجسمِ، وقول من قال هو حقيقةٌ في الموجود، ومجازٌ في المعدوم، فالتخريج على هذه الأقوال واضحٌ لا يخفى. وقد يجوز في الكتب الكلامية، وفي علم اللطيف بحث كون المعدومِ شيئًا أم لا، حتى قال المحقق العضُدُ من أمهاتِ المسائل الكلامية، إذ يتفرع عليها أحكام كثيرةٌ جدًّا. وبهذا يعرف جوابَ قولِه: وهل معنى لا شيءَ ولا موجودَ متحدٌ. وأمَّا السؤال عنه بأيٍّ فيصبحُ إذا كان المطلوبُ تمييزَه عن مشاركاتهِ على القول بأنَّ له مشاركاتٍ لا على غيرهِ، وأمَّا قولُه: وهل التلازمُ بين الوجودي والشيئية من الأمور الخارجيةِ، أو الذاتية، أو لا ملازمةَ أصلاً؟ فجوابه أنَّ لفظ الشيء عند الأشاعرةِ (¬2) يطلق على الموجود فقط، (¬3) فكلُّ شيء عندهم موجود، وكل موجود شيء، هكذا حكى عنهم جماعةٌ من محققيهم، وبهذا يتقرر التلازمُ بين الوجودية والشيئيةِ، وبين الوجود ¬

(¬1) يعرف هذا لدى المعتزلة بشيئية المعدوم. أي أن الأشياء كانت قبل أن تخرج إلى الوجود موجودة قائمة، فالجواهر كانت جواهرًا والأعراض كانت أعراضًا. وأول من ابتدع هذه المقالة في الإسلام هو أبو عثمان الشحام شيخ أبو على الجبائي وتبعه عليها طوائف من القدرية المبتدعة ومن المعتزلة والرافضة. (¬2) تقدم التعريف بهم. (¬3) انظر: (مجموعة الرسائل والمسائل) لابن تيمية (1/ 19 ـ 20).

والشيء ذاتًا وخارجًا. وأمَّا على قول غيرهم فمن قال أنَّ الشيء هو المعلومُ، فالشيء أعمُّ من الموجود مطلقًا لإطلاقه على الموجودِ والمعدومِ، بل على المستحيل، ومن قال هو للقديم دون الحادث جعلَه أخصَّ من الموجود مطلقًا، وهكذا تكون النسبةُ [7ب] عند من جعله للحادث وللجسمِ، قال القوشجي في شرح التجريدِ: ولهم تردّد في اتحاد مفهوم الوجودية والشيئية، بل ربما يدعى نفيَه، إذ يقال وجودُ الماهية من الفاعل، ولا يقال بشيئيتها من الفاعل، ويقال هي واجبةُ الوجودِ، وممكنة الوجود، ولا يقال هي واجبةُ الشيئيةِ، وممكنة الشيئيةِ. (¬1) انتهى. وبهذا تعرف جوابَ قوله: وما بين اللاشيء واللاموجودِ من التقابل. ثم نقول للسائل ـ كثر الله فوائده ـ: هل المعدوماتُ متُمايزة أم لا؟ وما الحق في ذلك؟ وما الدليل عليه الذي لا تتطرَّقه الشبهةُ، ولا يَعْتَوِرُهُ التغوُّض؟ ثم على القول بالتمايز هل الأفراد من قسمِ المتواطئِ أو المشككِ، وما النسبة بينَهما؟ وهل يقال في المعدوم أنه ينقسم إلى قسمين: خارجي وذهني كما انقسم الموجودُ إليهما؟ وكيف يصح قولُهم معدوم خارجي، ومعدوم ذهني؟ وما الحق في الوجود الذهني؟ هل إثباته كما قال الحكماء أو نفيه كما قال غيرهم؟ وما النسبة بينه وبين الوجود الخارجي؟ وهل بينهما واسطة أم لا؟ وهل ذلك التمايُزُ الذي قال به من قال في المعدومات بحسب إدراك العقل فقط أم بغيره من الإدراكات؟ وما الأمر الذي كلَّما أدركه العقلُ كان إدراكُه غلَطًا مع كونه من المعقولات؟ وما الأمر الذي لا يتخيَّر ولا غيرُ متخيَّر، ولا يتصف بالصفات ¬

(¬1) قال ابن تيمية في (مجموعة الرسائل والمسائل) (1/ 29): فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة وعامة العقلاء أن الماهيات مجعولة وأن ماهية كل شيء عين وجوده، وأنّه ليس وجود الشيء قدرًا زائدًا على ماهيته بل ليس في الخارج إلا الشيء الذي هو الشيء وهو عينه ونفسه وماهيته وحقيقته وليس وجوده وثبوته في الخارج زائدًا على ذلك. وانظر (بغية المرتاد) (ص415).

النفسية، ولا بالصفات المعنوية؟ وما أمر يصحُّ وصفهُ بالوجود تارةً وبالعدم أخرى؟ (¬1) قال: مسألة: قالوا في قام زيد خمسةُ وعشرونَ وجهًا فأنعموا بالقيد؟ أقول: في كل واحد من [8أ] الفعل والفاعل مسائلُ، وفي مجموعها كذلك، وبيانه أنَّ قام كلمة موضوع مفرد جزءُ جملةٍ، فعلق ماض، ثلاثي معتل، أجوفُ، مبني، وبناؤه على الفتحِ يدلُّ على الماضي بلفظه، وعلى الحال بقيده وعلى المتقيد بقيده يقدَّم ويؤخَّر، ويحذف جوازًا، ويقتضي الإسنادَ، ويقال له مسندٌ، ويدلُّ على مصدره. وعلى الحدثِ، وعلى النسبةِ، وعلى مطلقِ الزمانِ، وعلى قيامهِ بفاعلِه، وعلى تبعية له في التخييرِ، وعلى كون له به اختصاصٌ ناعتٌ، وعلى أنه لا بدَّ له من مكان يقع فيه، وذاتٌ يقوم بها، ومشتق من المصدر، ويلاقي في الاشتقاق الكبير ما فيه حروفُه غيرَ مترتبةٍ، وفي الاشتقاق الأكبر ما وافقَه في بعضِها، ويجزم بحذف حرف علَّته، ويتكون آخره، ويسند إلى من قام به إسنادًا حقيقيًّا. وإلى من لمْ يقُمْ به إسنادًا مجازيًا، وله معانٍ حقيقيةٌ، ومعانٍ مجازيةٌ. هل المعاني في الفعل يمكن أن يأتي فيه غيرها، فإنَّ إسناده إلى زيدٍ مسألة، وإسناده إلى عمرو مسألة، وإسناده إلى كل فرد أو أفراد مسألة، فيأتي من ذلك ما لا ينحصر من ¬

(¬1) قال ابن تيمية في مجموعة (الرسائل والمسائل) (1/ 18): والذي عليه أهل السنة والجماعة عامة عقلاء بني آدم من جميع الأصناف أن المعدوم ليس في نفسه شيئًا وأن ثبوته ووجوده وحصوله شيء واحد، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع القديم، قال الله تعالى لزكريا: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9]، فأخبر أنه لم يك شيئًا. وقال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35] فأنكر عليهم اعتقادًا أن يكونوا خلقوا من غير شيء خلقهم أم خلقوا هم أنفسهم ولهذا قال جبير بن مطعم: لما سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم قرأ هذه السورة أحسست بفؤادي قد انصدع، ولو كان المعدوم شيئًا لم يتم الإنكار ... ).

المسائل، وأمَّا زيد فهو كلمةٌ، موضوعٌ، منقولٌ، مفردٌ، اسم، ثلاثي، معربٌ، متصرَّف، مذكَّر، مرفوع، ممكن، مستوعب فاعلَه على قول مبتدأ على آخره، مسند إليه، جزءُ جملة، قام به الفعل، وصار له به اختصاصٌ ناعت، وتبعَه في التخيير، ويدل على الذاتِ [8ب] وعلى قابلِيَّتها لما أسند إليها، هذه المعاني في الاسم وحدَه، ويمكن أن يأتيَ فيه غيرُها، وفي مجموع الفعل والفاعل مسائلُ، فهما كلام، وجملة خبريَّة، وجملة فعليَّة، ويحتمل الصدق والكذبَ، ومسندٌ، ومسند إليه، وجملة ابتدائية، ومستأنَفَةٌ، وتقع صلةَ الموصول، وخبرَ المبتدأ، وحالاً بتقدير قد، وجوابًا لسؤال سائلٍ، وحكايةً لقول قائل، وذات محلٍّ تارة، ولا محلَّ لها أخرى، ويدلُّ على الحدوث، وعلى النقص، ووزن قامَ فَعَلَ، ووزن زيدٌ فُعْلٌ، وهو مشتقٌ من الزيادة، ويبني من كل واحد منهما على زنةٍ، فجملة هذه المسائل ستٌّ وسبعونَ مسألةً، مثلَ ما قال السائل أكثر من ثلاثِ مرَّاتٍ، ويمكن الزيادةُ عليها بكثير، وإنما هذا ما جرى به القلم بدون إطالةِ فكرهِ، ولا تروي، ثم يقال للسائل ـ كثر الله فوائده ـ: قال بعض المحققين أنه يتخرَّج من قوله ـ سبحانه ـ: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} (¬1) الآية مائة وخمسونَ نكتةٌ من النكات السَّريةِ المعتبرة عند أرباب المعاني والبيان والبديع، فهل من سبيل إلى سبيل استخراج هذه النكاتِ وتحريرها؟ وقال العلامة جلال الدين السيوطي في الإتقان: إنَّ شرائعَ الإسلام ثلاثُ مائةٍ وخمسَ عشرةَ فأفيدونا بإيضاحِها، فإنَّ حصرها في هذا العدد من أعجب ما يطرقُ الإسماعَ. قال: مسألة: قولُ الشاعر: لا يألفُ الدرهمُ المضروبُ صُرَّتَنَا ... لكن يمرُّ عليها وهو منطلقُ لم آثر لفظ يألفُ على غيره من الألفاظ التي يؤلفُ، ولم أتى بالدرهمِ دون الدينار، وبلا دون ما ولم، ولِمَ اختار التعريفَ على التنكير، والإفرادَ على جمع التكسير، ولمَ ¬

(¬1) [هود: 44] ٍ.

وصفَه بالمضروب، هل الفائدةُ أوقعَ [9أ] في القلوب، ولمَ اختار لفظ الصُّرَّة على ما يقوم مقامَها؟ بيّنوا سرَّه، ولم قدَّم لفظ المرورِ على ما يرادفه مما على الألسنة يدورُ، ولم جاء به مضارعًا دون ماضٍ، وهل زمانه الحال، أو الاستقبالُ، أو الاستمرار، وما عليهما من الاعتراض، وهل المرور الانطلاق فكيفَ قيَّده به، وتقييد الشيء بنفسِه منعَه الاتفاقُ، وهل يصح الاستشهاد بهذا البيت للحشوِ والتطويلِ والإيجازِ، وأين موضع كلِّ يا نبيل؟ أقول: ما تأثير لفظ يألفُ فلدلالته على طول مدَّةِ البقاء مع المحبَّة كما هو شأن البخيلِ، فإن دِرْهَمَهُ يألفُ صرَّته إلفًا لا يتفارقان عنده إلاَّ في النادرِ الشاذ، فاثبت للممدوح صفةً تخالف صفةَ البخيل، فإنْ قلتَ: نفي الألف الذي هو طول مدة البقاء مع المحبةِ قد دلَّ على أنَّ ذلك الدرهَم يلبثُ في صرة الممدوح لبثًا ليس بالطويلِ، ومجرَّد اللبث يخالفُ الوصفَ المادحَ. قلت: قد حصل المدح بمجرد عدم الألفِ، وفرقٌ بين من يألفُ الدرهمُ صُرَّتهُ وقتًا يسيرًا ثم يخرج في وجوه الشرفِ، وطرائق المجدِ، وأيضًا قد عقب هذا الذي قلتَ أنه تقيد لبثًا ما بما يقلعُ ذلك الفهمَ من أصله، ويجتثه من مغرسِهِ، فقال لكن يمرُّ عليها وهو منطلقُ فأشْعَرَ هذا بأنه لا لُبْثَ له ظاهر، فاندفع ما فهمتَه تلويحًا بما تعقبَّه تصريحًا. قوله: ولمَ أتي الدرهم دون الدينارِ؟ وجه ذلك لأنه لو جاء بالدينارِ لا نكسرَ الشعرِ، ولا يطلبُ للشاعر نكتةٌ في تجنب اللفظِِ الذي ينكسِرُ به شعرُه، بل في تأثير لفظ على لفظ يفيدُه معناه، ولا ينكسر البيتُ به [9ب]، ثم لذكر الدرهمِ على تقدير أنه لا ينكسِرُ الشعر بالدينار وجهٌ واضح، وهو كونُه قد تقدم ذكر الدرهم في البيت الذي قبلَه، وهو قوله: كأنَّا إذا اجتمعتْ يومًا دراهِمُنا ... ظلَّت إلى طرقِ الخيرات تستبقُ وقوله: وبلا دون ما ولم يجاب عنه بأنَّ لا موضوعةٌ لنفي المستقبلِ والحالِ، وهو المعنى الذي يتأدّى به المدُح بنا، لأنَّ ذلك يفيد أنه لم يألفْ صرَّتَه الدرهمُ في الحال، ولا

يألفُها في مستقبل الزمانِ، وأنَّ الكرمَ قد صار له سجيَّةً وطبيعةً لا تفارقه، لا في الزمن الذي هو فيه، ولا في ما بعده من الأزمنة، ولو جاء في هذا النفي بما لم يفدْ هذا المفادَ، لأنها موضوعةٌ لنفي الحال فقط، فيكون ذلك تمدُّحًا بالحالة الحاضرةِ دون ما بعدَها، وليس في ذلك كثيرُ مدْحٍ، ولا عظيمُ فخْرٍ، ولو جاء به في هذا بِلَمْ لكان معناه نفيَ الماضي فقط، وليس في ذلك من المدح ما في نفيه بلا. وأمَّا قوله: ولِمَ اختار التعريفَ على التنكير؟ فيجاب عنه بأنه لو جاء بالدرهم منكَّرًا لا نكسَرَ الشعر، ولا يطلب للعدول عما ينكسِرُ به الشعرُ إلى ما لا ينكسِرُ به نكتةٌ، وأيضًا لو فرضنا عدمَ انكسار الشعرِ بالمنكَّر لكان في تأثير المعرَّفِ نكتةٌ سريةٌ، ومدحةٌ جليلة، لأنَّ تحليتهَ بلام الجنس أو الاستغراقِ أو الحقيقةِ يفيدان هذا شأنُ كلِّ درهم يصلُ إليهن على أيّ صفة كان، وفي أيَّ زمان أو مكان حصلَ، ولو قال لا يألفُ درهم، لأشْعَرَ بأنه لا يألفُها إذا جاء واحدٌ منها عقبَ واحدٍ، ويمكن أن يقال أنَّ هذه النكرة الواقعةَ في سياق النفي يفيدُ العموم كما صرَّح به أئمة الأصول (¬1) والبيان، فيكون المعرَّفُ كالمنكَّرِ. قلت: هما طريقتان مستويتانِ يسلك الشاعرُ أيَّهما شاء [10أ]، مع كون أحدهما ينكسرُ بها الشعر بخلاف الأخرى. وأمَّا قوله: والإفراد على جمع التكسيرِ، فيجاب عنه بأنَّ جمعَ التكسير ينكسر به البيت، فلا يطلب للعدول عنه نكتةٌ، ولو سلمنا أنه لا ينكسر به لكان تأثيرُ الدرهم المعروفِ أكثرَ فائدةً، وأجلَّ مدحًا لما تقرر من أنَّ استغراقَ المفرد أشملُ. وأمَّا قوله: ولم وصفه بالمضروبِ؟ هل الفائدةُ أوقعُ في القلوب؟ أقول: إن كان الدرهم لا يقال إلاَّ على المضروبِ كأنّ ذكر المضروب للكشفِ والبيانِ كما تقول العربُ في وصف الوجهِ الجميلِ كالدرهمِ المنقوشِ، مع أنَّ الدرهم لا ¬

(¬1) تقدم مرارًا وانظر (إرشاد الفحول) (ص418).

يكون إلاَّ منقوشًا، وإن كان الدرهم يقع على القطعةِ من الفضةِ المقدرةِ بذلك القَدْرِ ففي وصفه بالمضروبِ فائدةٌ زائدةٌ، فإنَّ النفوس على المضروب منها أحرصُ، وإليه أرغبُ، ومنه قولُهُ: وأصغُر من ضربِ دارِ الملوكِ ... يلوحُ على وجهه جعفرُ وقول الآخر: ووجوهٌ مثلُ الدنانيرُ مُلْسُ ثم لا يعاب الشعرُ بالمجيء بالأوصاف الكاشفة لأجل أن يستقيمَ وزنُه، ويخرجَ عن النثر إلى النظم. وأما قوله: ولِمَ اختار لفظَ الصُّرَّة على ما يقوم مقامَها؟ بينوا سرَّهُ. فيجاب عنه بأنَّ وجه ذلك ما تفيدُه الصّرةُ من كون الدرهمِ يُصَرُّ فيها، ويحفظ على وجه الرَّبط والشدِّ، فإنه لا يكون بهذه المنزلة في المدح بما يخالفُ حالُ البخيل، فإنَّ في ذكره الصُّرَّة إيضاحُ حالةِ البخيل ونفيُها عن الممدوح على أبلغِ وجهٍ، وليس المراد إلاَّ إثباتَ أوصافٍ للممدوح تخالِفُ أوصافَ البخيلِ، على أنَّ صنيع الناس وعملَهم أنْ يحفظوا الدرهم في الصُّرَرِ ويشدُّوها، فالشاعر جاء بما هو المعروف المألوف، فلا يلزمهُ أن يأتيَ بشيء يخالفُ ما هو العادةُ [10ب] الجاريةُ، والطريقة المستمرة، وأيضًا إذا كان درهمُه لا يألَفُ الصُّرَّةَ المستوثقَ منها بالشدِّ والرَّبط، فدم إلْفِهِ لما لم يكن كذلك ثابتٌ بفحوى الخطاب كما لا يخفى على الفَطِنِ. وأمَّا قوله: ولم قدَّم المرورَ على ما يرادفه مما على الألسنة يدور؟ فيجاب عنه: بأنَّ هذا الذي يرادُفه إنْ كان مما لا ينكسرُ به الشعر فما هو؟ وإن كان مما ينكسر به كالمضي والسعي والإسراع ونحوِها فلا يطلبُ للعدول عنه نكتةٌ. ثم لا يخفى أنَّ المرور قد دلَّ على وصوله إليها، وخروجه عنها، وذلك أمدح لما جُبِلَتْ عليه النفوسُ من الشُّحِّ بما قد صار في حوزةِ الإنسانِ، ووصل إليه.

وأمَّا قوله: ولم جاء به مضارعًا دون ماضٍ. فيجاب عنه: بما تقرَّر أنَّ المضارعَ يفيدُ الاستمرارَ التجدديَّ. وأمَّا قوله: وهل زمانُه الحالُ، أو الاستقبال، أو الاستمرار، وما عليها من الاعتراض؟ فيجاب عنه: بما في كتب النحو والبيان من الأقوال في ذلك، وقد رجَّح الرضي (¬1) كونَه حقيقةً في الحال، مجازًا في الاستقبال، والحقُّ أنه حقيقةٌ في الاستقبال، مجاز في الحال، وعليه جمهورُ المحققينَ، ولعلَّه يريد بقوله أو الاستمرارُ الاستمرارَ التجدديَّ، لا الاستمرارَ الذي يساوق، فإنَّ ذلك مدلولُ الجملةِ الاسميةِ. وأمَّا قوله: وما عليهما من الاعتراض فلعلَّه يشيرُ إلى ما وقع من الكلام على حجج الأقوالِ التي أشرنا إليها من أهل المذاهبِ المختلفةِ، وما اعترضِ به بعضهُم على بعض، وما أورد بعضُهم على بعض، أو إلى ما نقله الرضيُّ عن الحكماء، ودفعَه، أو إلى ما حرَّره بعض أهل الحواشي على بعض شروح الكافيةِ، (¬2) أو إلى ما نقله بعضُ أهل الحواشي على المطوَّل، أو [11أ] إلى جميع ذلك، فإنه مشتمل على تطويل المقال في الحال فلا نطوّل بذكرهِ. وأمَّا قوله: وهل المرورُ الانطلاقُ فكيف قيَّده به، وتقييد الشيء بنفسه منعه الاتفاق؟ أقول: في الانطلاق مزيدةُ فائدةٍ لم تكن في المرور، فإنه يشعر بمزيد السرعةِ، فالمعنى أنه مرورٌ لا تُؤَدَةَ فيه، ولا لُبْثَ، ومعلومٌ أنك إذا قلتَ: مررتُ بزيد لمْ ينافي ذلك مشيَه حالَ المرورية مشيًا لطيفًا رفيقًا، بخلاف الانطلاق، فإنه ينافي ذلك في الجملةِ، فتقييد الفتح 5 من أول ص6278 إلى ص ¬

(¬1) في شرح كافية ابن الحاجب (4/ 12) ثم قال وهو أقوى، لأنه إذا خلا من القرائن، لم يحمل إلا على الحال، ولا يصرف إلى الاستقبال إلا لقرينة وهذا شأن الحقيقة والمجاز. (¬2) انظر: (شرح الكافية) (4/ 12 ـ 13).

المرور بالانطلاقِ لدفع توهُّم ما يستفاد منه مطلقُ المرور، كما ذكرنا على أنَّا لو قدَّرنا أنه لم يأت التقييدُ بالانطلاق بمزيد فائدةٍ، بل معناه معنى المرور، لكان ما يستفادُ من التأكيد فائدةٌ جليلةٌ، وتقويةٌ نبيلة، فإنَّ التقرير معدودٌ في فوائدِ التأكيد كما عدَّ من فوائده دفعُ توهُّم التجوَّزِ، أو السهو، أو عدمُ الشمولِ. هذا على تقديرات الشاعر لم تضْطَرَّه القافية إلى المجيء بقوله منطلقُ، أمَّا لو كان قد اضطرتْه إلى ذلك ولم يحضرْ له غيرُه، ولا تحصَّل له سواهُ فلا يطلب له نكتةٌ، وليس في الإمكان أبدعُ مما كان، وبمجموع ما ذكرناه تعرف أنه لا يصحُّ الاستشهاد بالبيت للحشو والتطويل وذلك ظاهر، ولا للإيجاز أيضًا لأنَّ البيت على ما أوضحناه من قبيل المساواةِ، وأمَّا السؤال عن موضع كل منها فمعروف في علم البيان، محرر في كتبه أحسنَ تحرير، مقررٌ أبلغَ تقرير، موضح بالأمثلة من النظم والنثر. ونقول للسائل ـ كثر الله فوائده ـ: ما عنده في قول المتنبي: (¬1) كثيرُ حياةِ المرءِ مثلُ قليلها ... يزولُ وباقي عشيِه مثلُ ذاهبِ [11ب] لِمَ آثر لفظَ الكثيرِ والقليلِ على لفظ الطويلِ والقصيرِ؟ ولم آثر لفظَ يزولُ على لفظ يمرُّ، ولم آثر باقي على آتي؟ ولم آثر ذاهب على غابر؟ وما يفيد مفاده مما يستقيم في النظم والقافية، ولا ينكسر به الشعر؟ قال: مسالة: هل الإعراب: (¬2) .................................. ¬

(¬1) قاله في مدح أبي القاسم طاهر بن الحسين العلوي: (ديوان أبي الطيب المتنبي) (1/ 150) بشرح أبي البقاء العكبري المسمّى بالتّبيان في شرح الديوان. (¬2) الإعراب: هو الإبانة عن المعاني بالألفاظ، ألا ترى أنك إذا سمعت أكرم سعيد أباه وشكر سعيدًا أبوه علمت برفع أحدهما ونصب الآخر الفاعل من المفعول. وأما لفظه: فإنّه مصدر أعربت عن الشيء إذا أوضحت عنه، وفلان معرب عمّا في نفسه أي بين له. وموضح عنه. (الخصائص) لابن جني (1/ 35 ـ 36)، (شرح الكافية) (1/ 48 ـ 49).

والبناء (¬1) نقيضان؟ فإن قلتم نعم. قلنا يرتفعانِ، وإن قلتم لا. فما بينهما عند ذوي الشأن، وهل هما عَرَضَانِ أو عارضانِ؟ أقول: هما متضادانِ عند من يجعل المفرداتِ قبلَ التركيب لا معربةً ولا مبنيةً، ومن جعلها من المبنيَّاتِ، حتى تُرَكَّبَ فَهُما عنده نقيضان، ولما كان الإعراب والبناء مما يبحثُ عنهما في الفنِّ كانا عَرَضَيْنِ، وقد تقدَّم أنَّ العارِضَ للشيء هو ما يكون محمولاً عليه، خارجًا عنه، وأنه أعمُّ من العرضِ، ثم نقول له هذا الإعرابُ لبعض الكلماتِ المنقولةِ عن العرب، والبناءُ لبعض آخَرَ، هل هو منقول عن العرب سماعًا ومشافهةً؟ فما الدليل على ذلك؟ أو إفادة الاستقراء أو التتبعِ ففيه أنَّا نجدُ بعضَ الكلماتِ في النظم والنثر يخرجُ عن ذلك كما يعرفُه كل عارف بلغةِ العربِ، راسخِ القدمِ في كلامِها، كثيرَ الممارسةِ لما جاء عنها من المنظوم والمنثور، ثم ما الوجهُ الذي لأجله جعلَ النحاةُ بعضَ الجمل لها محلٌّ من الإعراب، وبعضها لا محلَّ لها؟ إنْ قيل لكون بعضِها حلَّ محلَّ المفرد، وقام مقامه، وأوِّلَ به، فيقال مضمون كلِّ جملة سواءً كانت معربةً أو مبنيةً مفردٌ، فهلا كانت كلُّها من هذه الحيثية على نمطٍ واحدٍ، إمَّا معربةً أو مبنيةً، ثم ما الفائدة لوصف بعضِها بثبوت المحليةِ من الإعرابِ دون بعضٍ مع كونها كلِّها متفقةً في عدم ظهورِ أثرِه عليها، وهل هذا مجرَّد اصطلاحٍ أو تتعلَّق به فائدةٌ راجعة إلى اللغة؟ قال: مسألة [12أ]: أيُّ خبر مشتقٍّ استكنانِ ثلاثةِ ضمائرَ في الخبر المشتقِ، نحو الحسنُ وجهًا إذا وقع بعد ثلاثةٍ، ويجوز أيضًا اعتبار مثلِ ذلك في الخبر المشتقِّ ¬

(¬1) البناء: لزوم آخر الكلمة ضربًا واحدًا من السكون أو الحركة. لا لشيء أحدث ذلك من العوامل. وكأنهم إنَّما سمّوه بناء لأنه لزم ضربًا واحدً فلم يتغير تغير الإعراب سمي بناء. من حيث لازم موضعه، لا يزول في مكان إلى غيره: (الخصائص) لابن جني (1/ 37 ـ 38).

المشتركِ. بين ثلاثةِ معانٍ إذا اسْتُعْمِلَ في جميعها على ما ذهب إليه طائفةً من أهل العلم. وقد جوز بعضُ متأخري النحاة أنْ تكون في الخبرينِ المشتقينِ نحو: هذا حلوٌ حامضٌ ضميرٌ دائرٌ راجعٌ إلى المبتدأ، وليس في كل واحد منهما ضميرٌ مستقل، وتعقَّبه بعض المحققينَ مصرِّحًا بمنع ذلك، طالبًا لما يشهدُ له من كلام العرب، مسندًا ذلك المنعَ بما صرَّح به المحقق الرضيُّ (¬1) من عدم جواز بقاء الصفةِ بلا ضميرٍ إذا لم يرفعْ ظاهرًا لقوةِ شبْهِهَا بالفعل. ثم نقول للسائل ـ كثر الله فوائده ـ أيُّ خبر مشتقٍّ استكنَّ فيه ثمانيةُ ضمائرَ وخمسةُ أخبارٍ مشتقةٌ ليس فيها إلا ضميرٌ دائرٌ، وهذا على ما يقتضيه كلامُه، لا على ما هو الراجح عندي؟ قال: مسألة: ما مبتدأُ رفعتَه حالٌ. أقول: يتخرج هذا على بعض المذاهبِ لا على جميعِها، وبيانه أنَّ من قال بأنَّ المبتدأ الخبر يعملُ كلُّ منهما في الآخر فرافعُ المبتدأ هو الخبرُ، ورافع الخبر هو المبتدأُ، فإذا سدَّ مسدَّ الخبرِ حالٌ نحو: ضَربني زيدًا قائمًا كان ذلك الحالُ السادُّ مسدَّ الخبر هو الرافعَ للمبتدأ، لأنه سدَّ مسدَّ ما هو رافعٌ له، وعاملٌ فيه، وبهذا يحصلُ الحلُّ، فإذا تخرَّج في صورة أخرى لم يكن ذلك قادحًا فيما ذكرناه كما قدّمنا في المقدمة. ثّمَّ [12ب] نقول للسائل ـ كثر الله فوائده ـ: أيُّ حال استحقَّتِ النصب وبيّنت هيئتَه، وكانت في عداد العُمَدِ لا في عداد الفَضَلاتِ؟ وأيُّ صفة رفعتْ ظاهرًا مع كونها متحملةً لضمير مستكنٍّ؟ قال: مسألة: إذا بنيت من آي على وزنِ مختالٍ كيف تجمعُه جمعَ السلامة؟ وتصغره، وتكسِّره، وترخمه على القاعدة المقامة؟ أقول: الكلام في مختال كالكلام في مختارٍ منْ صلاحيتهِ لأنْ يكون اسم الفاعلَ أو اسم ¬

(¬1) انظر (شرح الكافية) (3/ 506 ـ 507).

مفعول، ويتبيّن ذلك بإعلالهِ وردِّه إلى أصلهِ، وهكذا في جمعه وتصغيرِه وتكسيرهِ وترخيمهِ، فإذا بنيتَ آي على زنتهِ جئت من يماثلُه وعاملْتَه معاملتَه، وفي علم الصرف ما يوضِّح ذلك ويبينهُ فالإحالة عليه أولى من المجيء هاهنا برسم يتطرق إليه التغيير الذي يقتضيه التداولُ بين الكتَبَةِ على اختلاف أفهامِهم، وتبايُنِ رسومهم، فإنَّ مثل ذلك يكون منشأً للتغليظِ، وفيما دار بين الأصمعي والجَرْميِّ من الكلام في مثل هذا المقام، ما يتحصلَّ به المرامُ، فليراجعْه السائل ـ دامت فوائده ـ. ثم نقول للسائل ـ كثر الله فوائده ـ: إذا بنيتَ من أن أولم على وزن مضْطَرٍّ، كيف تجمعُه وتكسره وترخِّمه وتصغِّرهُ؟ قال: مسألة: ما حرفٌ ناب عن حرفٍ، فناب عن ذلك النائب اسمٌ ربما عُرِفَ فَعُرِفَ؟ أقول: يتخرج هذا في مثل حرفِ القسم إذا نابت عنه الهمزةُ ثم حذفتْ، وبقي الاسم مجرورًا، فإِنَّ الاسم باعتبارٍ عارضٍ من عوارضِه، وهو الجرُّ قد ناب منابَ الهمزة، الهمزة النائبةِ منابِ حرف القسمِ، [13أ] والمراد بالنيابةِ الثانيةِ انفهامُ ذلك منه، ودلالته عليه، ويصحُّ تخريج مثلِ هذا في واو رُبَّ إذا اقتضَى المقامُ حذفَ ربَّ، ثم جُرَّ الاسم بالواو، ثم حذفتْ مع بقاء الجرِّ، ويصحُّ تخريجُ هذا في مثل قولهم: اللهم، فإنَّ الميمَ نابتْ عن حرفِ النداء، فيجوز حذفُهما مع بقاء الاسم مقصودًا به النداءُ الذي أفادَهُ حرفُه، فإنْ كان عند السائل ـ دامت إفادته ـ تخريجٌ أوضحُ من هذا التخريجِ فالفائدةُ مطلوبةٌ، وليس هذا الطلب منا خاصًّا بهذه المسألةِ، بل هو عامٌّ في جميع هذه المسائل. ثم نقول له ـ كثر الله فوائده ـ: أيُّ حرف تعيَّن حذفُه وجوبًا، وبقي عملُه؟ وأيُّ حرف حال بينَه وبين معموله حرفٌ فمنعه عن العملِ، وأيُّ حرف حالَ بينَه وبين معموله حرفٌ فعملَ. قال: مسألة: إذا سمِّيتَ بلا كيفَ تثنيهِ، وكيف تجمعُه، وكيف تكسِّره، وكيف ترخِّمه منادي، وكيف تصغِّره؟

أقول: صرَّح المحقق الرّضي (¬1) وغيره من المحققينَ أنَّ الكلمةَ المبنيَّةَ إذا جُعِلَتْ علمًا لغير ذلك اللفظِ أعربتْ، (¬2) فإنْ كان ثنائيّةً ثانيها حرفُ علَّة ضُعِّفَ حرف العلَّة فتكون تثنيتهُ على وجهينِ، إمَّا ببقاءِ الحرف الآخَرِ أو بقلبه واوًا، وكذا في جمعه وتكسيره، وأمَّا في تصغيرِه فيقلبُ واوً حتمًا. وقال المحقق الرضيُّ (¬3) أيضًا ما نصُّه: ولآء زدتَ على الألفِ لا ألفًا آخَرَ، وجعلته همزةً تشبيهًا برداءِ وكساء، وربما وجب التضعيفُ، لأنك [13ب] لو أعربتَه بلا زيادة أسقطتَ حرف العلَّة للتنوينِ، فيبقي على حرف واحد ولا يجوزُ. (¬4) انتهى. وأمَّا ترخيمُه فإنما يجوز عند من جوَّز بقاءَ المرخَّم على حرفينِ، وهما الأخفشُ والفرَّاء، وجماعةٌ من الكوفيينَ، لا عند من منع من ذلك، وهم مَنْ عدا من ذكرنا. ثم نقول للسائل ـ كثر الله فوائده ـ إذا سمَّيْتَ بلا، وهو، وهي، كيف تثنِّيها، وكيف تجمعُها، وكيف تكسِّرها، وكيف ترخِّمها؟ ¬

(¬1) في (شرح الكافية) (3/ 347). (¬2) قال فالواجب الإعراب وإن جعلتها اسم ذلك اللفظ بسواء كانت في الأصل اسمًا أو فعلاً، أو حرفًا فالأكثر الحكاية، كقولك: (من الاستفهامية حالها كذا) وضرب فعل ماضٍ. وليتَ تمِّن وقد يجيء معربًا نحو قولك: (ليتٌ ينصب ويرفع) قال من الخفيف: ليتَ شعري وأين مني ليتٌ ... إنَّ ليتًا وإن لوَّا عناءُ فإن أوَّلته بالمذكر كاللفظ، فهو متصرف مطلقًا، وإن أوَّلته بالكلمة أو اللفظة فإن كان ساكن الأوسط لـ (ليت) فهو كا (هند) في الصرف وتركه، وإن كان على أكثر من ثلاثة، أو ثلاثيًا متحرك الأوسط فهو غير منصرف قطعًا. (¬3) في (شرح الكافية) (3/ 348). (¬4) ثم قال: وكذلك لو أوّلناه بالكلمة، أو سمَّينا به، ومنعناه من الصرف، وجب التضعيف لأنّا لا نأمن من التنكير، فيجيء التنوين إذن، وحُكي عن بعض العرب أنه يجعل الزيادة المجتلبة بعد حرف العلة الثاني همزة في كل حال. نحو (لَوءٌ) و (فيء) و (لاءٌ). والأول: أي التضعيف أولى، لكون المزيد غير أجنبي.

قال: مسألة: ما اسم عوض عن نون التثنيةِ في غيرِ الإضافة العاديةِ؟ أقول: يتخرَّجُ هذا في الصفات إذا عُرِّفَتْ بالألف واللامِ الموصولةِ، وعملت فيما بعدَها، ثم حذفتْ نونُها تخفيفًا فنقولُ: الضاربا زيدًا، والضاربو زيدًا، ومنه الحافِظُو عورةَ العشيرةِ إلخ. والمسوِّغ للحذفِ هو التعريفٌ بذلك المعرَّف الاسمي، إذا لا يجوز الحذفُ مع عدمِه، فصار كالعوض عن النونِ، ويصح تخريجُ ما ذكره في اثنى عشر، فإنَّ نونَه حذفتْ لتركيب الاسمينِ لا لمجرَّد الإضافيةِ العادية. (¬1) ثم نقول للسائل ـ كثر الله فوائده ـ: ما حرفٌ ناب عن نون التثنيةِ، ونونِ الجمع فحذفتا حَتْمًا تارةً وجوازًا أخرى؟ قال: مسألة: ما حدُّ علَّة الفرق وعلِّة الاستغناءِ، وعلَّة التوكيدِ، وعلِّةِ النقيض، وعلَّة حمل المعنى على المعنى، وما علَّةُ العرب، وما علِّة الوجوبِ، وما علَّة المعادلة، وما علَّة الجواز، وما علَّة الأصل [14ب] وما علَّة التعليل، وما علَّة المشاكلة؟ وما مثال كل من هذه العلل عند النحاة؟ فأنعموا بالمثل، وما حدُّ العلة وما رَسْمُه؟ وهل يجوزُ التعليل بالعلَّة القاصرةِ وما مثالُه، وما فساد الاعتبار في علم العربية؟ ومتى تعارضَ شاذٌّ، ولغةٌ ضعيفةٌ، فهلِ ارتكاب الضعيفةِ أولى؟ أو لا تفضَّلوا بتحرير الجوابِ، ولكم جزيلُ الثواب. أقول: سؤالُ السائل ـ كثر الله فوائده ـ اشتمل على اثنتى عَشْرَةَ علَّةً فاقتصر على بعض ما أثبته أهلُ الصناعة في ذلك، فإنهم جعلُوها اربعةً وعشرينَ نوعًا، وبعضهم جعلَها أكثرَ من ذلك. ¬

(¬1) قال الرضي في (شرح الكافية) (1/ 77): أما نون المثني والمجموع فالذي يقوي عندي، أنَّه كالتنوين في الواحد في معنى كونه دالاً على تمام الكلمة وأنها غير مضافة، لكن الفرق بينهما أن التنوين مع إفادته هذا المعنى يكون على خمسة أقسام، كما مرَّ، بخلاف النون فإنه لا يشوبها من تلك المعاني شيء وإنّما يسقط التنوين مع لام التعريف لاستكراه اجتماع حرف التعريف مع حرف يكون في بعض المواضع علامة التنكير، ولا تسقط النون معها، لأنها تكون للتنكير.

والحاصل: أنَّ عللَ النحويينَ (¬1) صنفانِ: علَّةُ نظرٍ، وعلى كلام العربِ، وتنساق على قانونِ لغتِهم، وعلَّةٌ تكشفُ عن صحةِ أغراضِهم ومقاصدِهم في موضوعاتِهم، وهم للأُولى أكْثَرُ استعمالاً، وأشدُّ تداولاً، وهي وساعةُ الشُّعب إلاَّ أن مدارَ المشهورةِ منها على اربعةٍ وعشرينَ نوعًا، أو ستة وعشرينَ نوعًا، ولنقتصر على بيان ما سأل عنه. فنقول: أمَّا علَّة الفرقِِ (¬2) فلبيان الوجهِ في رفع الفاعلِ، ونصبِ المفعولِ، وكسر نونِ المثنى، وفتحِ نون الجمع، وغير ذلك مما يحتاجُ إلى التعليل، وقد صرَّح النحاة بجميع ذلك، كلُّ شيء في بابه، وأمَّا علَّة الاستغناءِ فتكون ببيان وجه استغنائهم بشيء عن شيء كاستغنائهم بتركَ عن ودَعَ. وأمَّا علة التوكيد (¬3) فمثل بيانِ وجه إدخالهم النون الخفيفةَ تارةً، والثقيلةَ أخرى في فعل الأمرِ لتأكيد [14ب] إيقاعِه، وأمَّا علَّة النقيض فبيانُ الوجهِ في مثل نصْبِهم النكرةَ بلا (حملاً) على المعنى، ومنه: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} (¬4) انتهى. فذكَرَ فعلَ ¬

(¬1) اعلم أن علل النحويين أقرب إلى علل المتكلمين منها إلى علل المتفقهين وذلك أنهم إنّما يحيلون على الحس، ويحتجون فيه بثقل الحال أو خفتها على النفس، وليس كذلك حديث علل الفقه. وذلك أنها إنّما هي أعلام، وأمارات، لوقوع الأحكام ووجوه الحكمة فيها خفية عنا. غير بادية الصفحة لنا ألا ترى أن ترتيب مناسك الحج وفرائض الطهور والصلاة والطلاق وغير ذلك إنما يرجع في وجوبه إلى ورود الأمر بعمله، ولا تعرف علة جعل الصلوات في اليوم والليلة خمسًا دون غيرها من العدد .... )). (الخصائص) لابن جني (1/ 48). (¬2) قال أبو إسحاق في رفع الفاعل، ونصب المفعول. إنما فعل ذلك للفرق بينهما، ثم سأل نفسه فقال: فإن قيل: فهلا عكست الحال فكانت فرقًا أيضًا؟ قيل: الذي فعلوه أحزم، وذلك أن الفعل لا يكون له أكثر من فاعل واحد وقد يكون له مفعولات كثيرة، فرفع الفاعل لقلته، ونصب المفعول لكثرته، وذلك ليقل في كلامهم ما يستثقلون، ويكثر في كلامهم ما يستخفون فجرى ذلك في وجوبه. انظر: (الخصائص) (1/ 48 ـ 50). (¬3) انظر (اللمع) (ص141). (¬4) [البقرة: 275].

الموعظةِ مذكَّرًا حملاً لها على الوعْظِ. وأمَّا علة القرب (¬1) والجواز فبيان الوجهِ في مثل الجرِّ بالقرب والجِوارِ، كقولهم: جِحْرُ ضبٍّ خَرِبٍ، يجر خربٍ لمجاورتِه لضبٍّ وقُرْبهِ منه، وكضمِّ لام الله في الحمد لله، لمجاورتِها للدَّالِ المضمومةِ، وأمَّا علَّة الوجوبِ فيكون بيان وجوب الشيء وتحتُّمه كرفع المبتدأ والخبر والفاعل. وأمَّا علةُ الجواز (¬2) فتكون ببيان كون الشيء جائزًا غيرَ لازم، كتعليلِ الإمالة بما ذكروه، فإنه إنما يفيدُ جوازَها لا وجوبَها. وأمَّا علة المعادلةِ فيكون ببيان كونِِ هذا معادلاً لذلك، مثل جرِّهم ما لا ينصرفُ بالفتح حملاً على النصبِ، ثم عادلوا بينهما، فحملُوا النَّصْبَ على الجرِّ في جمع المؤنثِ السالم. (¬3) وأمَّا علة الأصل فيكون ببيان كون أصلِ الشيء كذا كتعليلِهم لصرفِ ما لا ينصرف. وأمَّا علَّة التعليل فيكونُ ببيان الوجه في كون هذا الشيء معلِّلاً بكذا، أو ذلك لا يختصُّ بمادة، ولا بمسألة. وأمَّا علة المشاكلةِ (¬4) فبيانُ الوجه في كون هذا الشيء مشاكِلاً لهذا، ومحمولاً عليه، كما في قوله سلاسلاً وأغلالاً. وأمَّا قوله: وما حدُّ العلَّة وما رسْمُها ومثالُه؟ فنقول: تصوُّر احتياجِ الشيءِ [15أ] إلى غيره ضروريٌّ، فالمحتاج إليه في وجود الشيء يُسمَّى علَّةً له، والمحتاج يسمَّى معلولاً، والعلةَّ إمَّا تامًّةٌ، وأمَّا ناقصةً، والناقصةُ إمَّا ¬

(¬1) انظر: (الخصائص) (2/ 218 ـ 227). (¬2) انظر: (الأصول في النحو) (3/ 160 ـ 163). (¬3) انظر (الأصول في النحو) (2/ 401 ـ 407). (¬4) انظر: (معجم البلاغة العربية) (ص316 ـ 317). (معترك الأقران في إعجاز القرآن) (1/ 312).

جزئي الشيء، أو خارجٌ عنه، والأوَّل إن كان به الشيءُ بالفعل كالهيئةِ للسريرِ فهو الصورةُ، وإن كان بالقوة كالخشبِ له فهو المادةُ، والثاني وهو الخارج عنه كالنجارِ للسرير، وهو الذي يقال له العلةُ الفاعليةَ، (¬1) وأمَّا لأجله الشيء كالجلوسِ عليه، وهو العلةُ الغائيَّةُ. (¬2) وأمَّا العلة التامَّة فمنقسمةٌ إلى أقسام يطولُ البحث بذكرها، وهي مقررة في كتب الأصول (¬3) محرَّرة بحدودها ورسومِها. وأمَّا السؤال عن حدِّها فنقولُ: العلَّة التامَّةُ هي ما يجبُ وجودُ المعلولِ عنده، وأما جواز التعليل بالعلَّة القاصرة فمنعَ ذلك أهلُ الأصولِ، واختلفَ فيه أهل النحو، قال ابن الأنباري: (¬4) اختلفوا في التعليلِ بالعلَّة القاصرةِ، فجوَّزها قومٌ، ولم يشترطوا التعديةَ في صحتِها، وذلك كما علَّلوا به قولَهم: ما جاءتْ حاجتُك، وعسى الغويرُ أَبْؤُسًا، فإنَّ جاءتْ وعسَى أُجْرِيَا مُجْرَى صار في هذين الموضعينِ، ولا يجوز أن يجريا مجراها في غيرهما، والحق منعُ التعليل بالعلةِ القاصرةِ كما صرَّح به جماعةٌ من محققيهم. وأمَّ فسادُ الاعتبارات في علم ا لعربية فهو أن يعلِّل قياسٌ في العربية، ويخالِفَه السماعُ، فإنه لا اعتبار بهذا القياس، بل الاعتبارُ بالسماع. (¬5) وأمَّا قوله: ومتى تعارضَ شاذٌّ ولغةٌ ضعيفةٌ، (¬6) فهل ارتكابُ الضعيفةِ أولى أولاً؟ فجوابُه أنهم اختلفوا في ذلك، فمنهم من رجَّح اللغةَ الضعيفةَ على الشاذِّ، ومنهم من ¬

(¬1) انظر: (الكوكب المنير) (1/ 441). (¬2) نحو: كالتحلي بالخاتم، النوم على السرير. (الكوكب المنير) (1/ 441). (¬3) انظر: تفصيل ذلك. (المدخل إلى مذهب أحمد) (ص66). (¬4) انظر: (البحر المحيط) (5/ 192). (¬5) انظر: (الخصائص) (1/ 117). (¬6) انظر: (الخصائص) (1/ 96 ـ 100).

رجَّح الشاذ على اللغة الضعيفةِ، وممن رجَّح الأول [15ب] ابنُ عصفور، والحق أنَّ الشاذَّ أرجحُ إن كان مخالفًا للقياسِ فقط، أو مخالِفًا للاستعمال فقط، لا إذا كان مخالفًا لهما جميعًا فليس بأرجَح من اللغة الضعيفةِ، بل هو ضعيف مثلُها. ثم نقول للسائل ـ كثر الله فوائده ـ قد أوضحنا ما سأل عنه من العللِ، فلتوضِحْ لنا ما بقي منها، وهي علَّة السماع، وعلةُ التشبيه، وعلةُ الاستثقالِ، وعلة التعويضِ، وعلة التضمينِ، وعلة التغليبِ، وعلةَُ الأشعارِ، وعلةُ التضادُّ، وعلة الأَوْلى، هذه العللُ باعتبار مصطلحِ النحاةِ، ولأهل الأصولِ أسماءُ العللِ معروفةٌ كثيرةُ العددِ لا معنى للسؤال عنها، لأنها موجودةٌ في الفنِّ، وإنما سألنا السائل ـ كثر الله فوائده ـ عن هذه العلل النحويةِ مشْيًا على منوالِ سؤالهِ، وجريًا على مثاله. انتهى نقل الجواب المنقولِ عن الأصل الذي بخط المجيب ـ حفظ الله أيامه، وأناله مُرَامَهُ ـ آمينَ. وافق الفراغ من التحرير عن القدير ضحوةَ الخميس ثالثَ محرَّم الحرامِ مفتتح سنة 1241 إحدى وأربعينَ بعد المائتين والألفِ ختَمها الله تعالى ما بعدَها بخير آمين، وغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين والمؤمناتِ آمينَ اللهم آمينَ. سبحان ربك ربِّ العزة عمِّا يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين [6أ]

بحث فيما زاده الشوكاني من أبيات شعرية صالحة للاستشهاد بها في المحاورات وعند المخاصمات وأضافها إلى ما يصلح لهذه الأغراض في ديوان ابن سناء الملك

(212) 18/ 5 بحث فيما زاده الشوكاني من أبيات شعرية صالحة للاستشهاد بها في المحاورات وعند المخاصمات وأضافها إلى ما يصلح لهذه الأغراض في ديوان ابن سناء الملك تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: بحث فيما زاده الشوكاني من أبيات شعرية صالحة للاستشهاد بها في المحاورات وعند المخاصمات وأضافها إلى ما يصلح لهذه الأغراض في ديوان ابن سناء الملك ... 2 ـ موضوع الرسالة: لغة عربية. 3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وعلى آله الطاهرين وبعد. فإني لما وقفت على المجموع الذي جمعه ابن سناء الملك 4 ـ آخر الرسالة: إنك إنْ حَمَّلْتني ما لم أطِقْ ... ساءك ما سرَّك مني من خُلق. وإلى هنا انتهى ما أردت جمعه. كتبه جامعه: محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما. 5 ـ نوع الخط: خط نسخي مقبول. 6 ـ عدد الصفحات: 14 صفحة. 7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 24 سطرًا. 8 ـ عدد الكلمات في السطر: 11 كلمة. 9 ــ الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وعلى آله الطاهرين وبعد: فإني لما وقفت على المجموع الذي جمعه ابن سناء الملك (¬1) الأديب المشهور، الذي قال في حقه القاضي الفاضل عبد الرحيم البياني وزير السلطان صلاح الدين أيوب: نعم الصاحب الذي لا يخلفه الأنام، ولا يعرف له نظير من الأقوام، أمانة سمينة، وعقيدة ودٍّ متينة، ومحاسنُ ليس بواحدة، ومساعٍ في نفع المعارف جاهدة. وكان حافظًا لكتاب الله، مشتغلاً بالعلوم الأدبية، كثيرَ الصدقات نفعه الله، وللأعمال الصالحات عرَّفه الله بركاتها. انتهى. وذلك المجموع مشتملٌ على الأبيات التي اشتملت على الحِكَمِ النفيسة، التي يهتدي بها من حفظها على مكارم الأخلاق، ويستعين بها من عرفها على إصابة الرأي فيما ينويه من الأمور. والحاصل أنَّ غالبها من الشعر الذي قال فيه الصادق المصدوق صلي الله عليه وآله وسلم: «إن من الشعر لحكمة» (¬2) وهي أيضًا مما يصلح للاستشهاد بها في المحاورات ¬

(¬1) القاضي الأثير البليغ المنشئ أبو القاسم هبةُ الله بنُ جعفر بن القاضي المُلك محمد بن هبة الله المصريّ الشاعر المشهور، قرأ القرآن على الشريف أبي الفتوح، والنّحو على ابن برِّي وله (ديوان) مشهور، ومصنفات أدبية. قال ابن خلِّكان: هو هبة الله ابن القاضي الرَّشيد أبي الفضل جعفر ابن المعتمد سناء الملك السّعدي، كان أحد الرؤساء النبلاء. توفي سنة 608هـ. انظر: (سير أعلام النبلاء) (21/ 480 ـ 481)، (شذرات الذهب) (5/ 35 ـ 36)، (وفيات الأعيان) (6/ 61). (¬2) تقدم تخريجه.

وعند المخاصمات، فيكون بانتزاع الشاهد منها فصلُ الخطاب، وإلقامُ المنازِع حجرًا، ومع ذلك فالمستشهدُ ببيت منها على ما يطابق مقتضى الحال يَنْبُلُ في الأعين، ويكبرُ في الصدور، وهي كلُّها غُرَرٌ، وجميعُها دُرَرٌ، ولكني استحسنتُ أن أنتقي منها في هذه الأوراق ما فاقَ وَرَاقَ، وأضم إليه ما قد حفظته من أشعار العرب ومن يلحق بهم من المخضرمين، ومَنْ بعدهم من الشعراء المفلقين، حتى يصير مجموعُ ذلك نزهةً للناظرين من المتأدبين، وروضةً للراغبين في نتائج عقول فحول المجيدين من الأولين والآخرين [1أ] وقد جعلت عَلامَةَ ما زدته من عندي نقطةً مقابلةً له ليتميز بذلك عن أبيات الكتاب، فأول ما ذكره في مجموعه قولُ الشاعر: الله أنجح ما طلبت به ... والبر حقيبته الرَّحْلُ [خفْض] (¬1) الجأش واصبري قليلاً ... فالرازيا إذا توالت تولَّتْ * ولا خير فيمن لا يوطّن نفسَه ... على نائباتِ الدهر حين تنوبُ * (¬2) فقلت لها يا عَزَّ كلُّ مصيبةٍ ... إذا وُطِّنَتْ يومًا لها النّفسُ ذلَّتِ * (¬3) وإذا افتقرت إلى الذخائر ... لم يجد ذخرًا كصالح الأعمال * من يفعل الخير لا يُعدم جوازَيهُ ... لا يذهب العرف بين الله والناس * (¬4) ¬

(¬1) كذا المخطوط ولعلها اخفضي. (¬2) للشاعر ضابئ بن الحارث بن أرطأة بن شهاب بن عبيد بن خاذل بن قيس، القبيلة بن حنظلة بن مالك، من الطبعة التاسعة. انظر: (طبقات فحول الشعراء) (1/ 171). (¬3) الشاعر كثير عزة .. انظر ديوانه (1/ 42). وانظر (خزانة الأدب) (5/ 218). (¬4) للشاعر: الحطيئة وهو جرول بن أوس بن مالك بن جؤية بن مخزوم بن غالب بن قطعية، ينتمي إلى بني نزار والحطيئة لقب غلب عليه فَعُرفَ واشتهر به، قيل لقصره وقربه من الأرض، وقيل لدمامته، وهو من قصيدته: [لا يذهب العرف]. انظر: (ديوان الحطيئة) (ص1120).

رُبَّ حُلْمٍ أضاعه عدمُ الما ... ل وجهلٌ غطَّى عليه النعيمُ من راقب الناس مات غمًا ... وفاز باللذة الجسورُ (¬1) من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... فاز بالطيباتِ الفاتكُ اللَّهجُ * (¬2) وجرم جرَّه سَفَهًا قومٌ ... فحلَّ بغير جارمِهِ العقاب * لم أكن من جنُاتِها علم الله ... وإني لحرِّها اليومَ صالي * وإذا تكون كريهةٌ أدعى لها ... وإذا يحاس الحيسُ يدعى جُنْدُبُ ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإنْ خالها تخفي على الناس تُعْلَمِ * (¬3) أي خلل الرماد وميض حمر ... ويوشك أن يكون لها اضطرامُ * ........................................................... ¬

(¬1) هو: لـ (سَلْم الخاسر) أحد تلامذته بشار بن برد ورُواته. انظر: (الأغاني) (3/ 200). (¬2) للشاعر بشار بن بُرْد من قصيدته [قد بحث بالحب] من البحر البسيط. (ديوان بشار بن برد) (ص236). قال في (الأغاني) (3/ 200) أخبرنا يحيي قال: حدثنا أبي قال أخبرني أحمد بن صالح وكان أحد الأدباء، قال: غضب بشار على سَلْم الخاسر وكان من تلامذته ورواته فاستشفع عليه بجماعةٍ من إخوانه فجاءوه في أمره، فقال لهم: كلُّ حاجةٍ لكم مقضيةٌ إلا سَلمًا، قال ما جئناك إلا في سلم ولا من أن ترضىعنه لنا، فقال: أين هو الخبيث؟ قالوا: ها هو هذا؟ فقام إليه فقبّل رأسه، ومثل بين يديه وقال: يا أبا معاذ، خرِّيجك وأديبُك، فقال: يا سلْم من الذي يقول: من راقب الناس مات غمًّا. قال: أنت يا أبا معاذ، جعلني الله فداءك؟ قال: فمن الذي يقول: من راقب الناس مات غمًّا ... وفاز باللذة الجسورُ قال: خريجك يقول ذلك (يعني نفسه). (¬3) للشاعر: زهير بن أبي سلمى المَزني في معلقته (ص50).

ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلتُ نفسي وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادةُ لي بأني فاضلُ (¬1) إذا جهلتْ فضلي رعائفُ خندفٍ ... فقد عرفت قدري غطاريفُ همدان [1ب] * إنَّ الذين ترونهم إخوانكُم ... يشفي غليلَ صدورِهم أن تُصْرَعُوا إن جئتَ أرضًا أهلُها كلُهم ... عورٌ فغمِّضْ عينَكَ الواحدة والذي يُظهر في الذليل مودةٌ ... وأودُّ منه لمن يودُّ الأرقم ذلُّها أظهر التودُّدَ منها ... وبها منكم كحرِّ المواسي * ومن يك ذا فم مرٍّ مريضٍ ... يجدْ مُرًّا به الماءَ الزلالا ومن يقل للمسك أين الشذا ... كذَّبه في الحال من شمَّا * ومن ذا الذي تُرضي سجاياه كلُّها ... كفي بالمرء نبلاً أن تعدَّ معايبه إذا أنت لم تُقصر عن الجهل والخَنَا ... أصبتَ حليمًا أو أصابك جاهلُ * (¬2) إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى ... ظمئت وأيُّ الناسِ تصفو مشاربه (¬3) والشيخ لا تترك أخلاقُه ... حتى يوارى في ثرى رمسه وإذا بدا شرُّ اللبيب فإنه ... لكالدهر لا تمارِ بما فعل الدهر وإنَّ أمير المؤمنين وفعلَه ... فإن عرضتْ أيقنت أن لا أخا ليا وإنَّ حُسيْنَا كان شيئًا مُلفَّقًا ... فمحَّضه التكشيفُ حتى بدا ليا * ¬

(¬1) للشاعر أبو الطيب المتنبي. انظر: ديوانه (3/ 260)، وهي من قصيدة يمدح القاضي أبا الفضل أحمد بن عبد الله الأنطاكي. وهي من الكامل والقافية من المتدارك. (¬2) للشاعر: زهير بن أبي سلمى. ديوانه (ص219). (¬3) للشاعر: بشار بن بُرْد من قصيدة (موت الفجاءة) بحر الطويل. (ديوان بشار بن برد) (ص142).

وفتيانٍ حسبتُهم دروعًا ... فكانوها ولكن للأعادي * ويضمر قلبي عُذْرَها فيعِنُّها ... عليَّ فما لي في الفؤاد نصيبُ * وعينُ الرضى عن كل عيب كليلةٌ ... ولكنَّ عينَ السُّخطِ تبدي المساويا (¬1) فيضاحِكْنَ وقد قُلْنَ لها: ... حسنٌ في كل عينٍ مَنْ تُردْ * أضحى عرابةُ ذا مال وذا ولدٍ من مالٍ جعد وجعدُ غيرُ محمودِ * أُحِبُّ أبا ثروان من أجل تمره ... وأعلم أن الرفقَ بالمرء أوفقا * إن جعتم قلتُم يا عمَّنا ... وإنْ شبعتُم فيا بنَ الأزورِ * إذا حدَّثتْكَ النفس أنك قادرٌ ... على ما حوتْ أيدي الرجال فكذبِّ [2أ] رُبَّ هجرٍ يكون من خوفِ هجرٍ ... وفراقٍ يكون خوفَ فراقِ ولكم تمنيت الفِراقَ مغالطًا ... واجتلتُ في استثمار عرسِ ودادي* سأطلب بُعْد الدار عنكم لتقربوا ... وتسكب عيناي الدموع لتجمدا* إذا ما أُهان امرؤٌ نفسَهُ ... فلا أكرمَ اللهُ مَنْ أكْرَمه ومن يغترب يحسب عدوًا صديقه ... ومن لم يكرِّمْ نفسَه لم يُكرَّم * (¬2) أكرِم تميمًا بالهوانِ فإنهم إن أُكْرِمُوا فسَدوا من الإكرام * أهِنْ عامِرًا تُكْرَمْ عليه فإنما ... أخو عامر مَنْ مسَّه بهوانِ * لا تؤمل أني أقول لك اخسْأ ... لستُ أسخو بها لكل الكلابِ ولقد أمرُّ على اللئيم يسبُّني ... فمضيتُ ثمَّتَ قلت: لا يَعْنِيني * إنَّما يُدَّّخر المالُ ... لحاجات الرجالِ وفي السماء نجومٌ ما لها عددٌ ... وليس يُكْسفُ إلاَّ الشمس والقمرُ ¬

(¬1) انظر: (جواهر الأدب) (2/ 487). (¬2) للشاعر: زهير بن أبي سلمى من معلقته. انظر: (المعلقات العشر) (ص50).

أتي الزمانَ بنوهُ في شبيته ... فسرَّهم وأتيانه على الكِبَرِ * لا تعتمدْ إلاَّ رئيسًا فاضلاً ... إنَّ الكبارَ أطبُّ للأوجاع ليس إجلالُكَ الأكابرَ ذُلاً ... إنما الذلُّ أن تُجِلُّ الصِّغارا * هنيئًا مريًا غيرَ داء مخامرٍ ... لعزَّةَ من أعراضنا ما استحلَّتِ (¬1) إذا ضيَّعتَ أوَّلَ كلِّ أمْرٍ ... أبتْ أعجازُهُ إلاَّ التواءَ وعاجزُ الرأي مِضيًا لفرصـ ... ـته حتى إذا فات أمرًا عاتَب القدرا * قد يدركُ المتأني بعضَ حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزَّللُ (¬2) وربما فات بعضَ القوم أمرُهم ... مع التأني وكانَ الجرمُ لو عَجِلوا * لا ذا ولا ذاك في الإفراط أَحْمَدُهُ ... وأحمدُ الأمرَ يأتي وهو معتدلُ * أخْلِقْ بذي الصب أن يحظى بحاجته ... ومُدْمِنِ القرع للأبواب أن يَلِجَا وما نزلتُ من المكروهِ منزلةً ... إلاَّ وَثْقْتُ بأنْ ألقى لها فرجَا * وما الحسنُ في وجه اللئيم شرفٌ له ... إذا لم يكن في فعله والخلائقِ [2ب] إذا كان الفتى ضَخْمَ المعاني ... فليس يضرُّه الجسمُ النحيلُ * ولست بِنَظَّارٍ إلى جانب الغِنا ... إذا كانتِ العليا في جانب الفقرِ يصدُّ عن الدنيا إذا هي أقبلتْ ... وإن برزتْ في زيِّ عذراءَ ناهِب * من عاش أجْلَلَتِ الأيامُ جِدَّتَه ... وفاتَه ثقتاهُ السمعُ والبصرُ إنَّ الثمانينَ وبُلِّغْتُهَا ... قد أحوجت سمعي إلى تُرْجُمان * إذا المرءُ أعيتْه السيادةُ ناشئًا ... فمطلبها كهلاً عليه شديدُ إذا ما أولُ الخطى أخطى ... فلا يُرجي لآخره انتصارُ * ¬

(¬1) للشاعر: كثير عزة. انظر: (خزانة الأدب) (5/ 214). (¬2) عزاه في (جواهر الأدب) (2/ 464).

قد يَجْمَعُ المالُ غيرُ آكله ... ويأكل المالَ غيرُ من جمعَهْ (¬1) تخيرت من نعمانَ عَوْدَ دِراكهِ ... لهندٍ ولكنْ مَنْ تبلِّغُهُ هند ولله مني جانبٌ لا أضيعُه ... وللَّهْوِ مني والخلافةِ جانبُ إن الناس غطوني تغطيَّن عنهمُ ... وإن بحثوا عني ففيهم مباحثُ (¬2) لا تهتكَنَّ مساوي الناس ما ستروا ... فيَهْتِكُ الناسُ سِتْرًا من مساويكا * ومَنْ دعا الناسَ إلى ذمِّهِ ... ذمُّوه بالحق وبالباطلِ (¬3) قد قيل ما قيل إنْ صِدقًا وإن كذبًا ... فما اعتذارك من قول إذا قيلا * (¬4) ألا قاتل اللهُ الضرورةَ ... تُكَلِّفُ أعلا الخلقِ أدنى الخلائقِ وإذا لم يكن من الذلِّ بدٌ ... فالْقَ بالذلِّ إن لقيتَ الكبارا * وما ينفع الأصلُ من هاشمٍ ... إذا كانتِ النفس مِنْ باهِلَهْ وما الفخرُ بالعْظمِ الرَّميمِ وإنما ... فخَارُ الذي يبغي الفخارَ بنفسِه * ومن نكد الدنيا على الحرِّ أن يرى ... عدوًا له ما من صداقته بدٌّ وأسرعُ مفعولٍ فعلتَ تغيّرا ... تكَلُّفُ شيء في طباعك ضِدُّه * يُرَادُ مِنَ القلب نسيانُكُم ... وتأبى الطباعُ على الناقلِ * فعاجُوا فأثُنَوْا بالذي أنت أهلُهُ ... ولو سكتوا أثْنَتْ عليكَ الأباعِدُ ¬

(¬1) قاله الأضبط بن قريع في الأدب العام. انظر: (جواهر الأدب) (2/ 476). (¬2) عزاه أبو فرج الأصبهاني في (الأغاني) (10/ 406) لأبي دلامة. وقال بعده: وإن حفروا بئري حفَرَتُ بئارَهم ... فسوف ترى ماذا تُثير النَّبائث (¬3) للشاعر كعب بن زهير بن أبي سلمى أحد فحول المخضرمين مادح النبي صلي الله عليه وسلم. انظر: (جواهر الأدب) (2/ 135). (¬4) النعمان بن المنذر.

وإني اللَّبونُ إذا ما لذَّ في قرنٍ ... لم يستطعْ صَبْوَهُ البررُ العناعيسُ ومن ظنَّ ممن يلاقي الحروبَ ... بأنْ لا يُصابَ فقد ظنَّ عَجْزَا أرى جَذَعًا إنْ يُثْنَ لم يَقْوَ رائضٌ ... عليه فبادرْ قبل أن ينثني الجذع [3أ] أُقَلِّبُ طرفي في البلاد فلا أرى ... وجوهَ أحبائي الذين أريدث واحتمالُ الأذى وَدِيَّةُ جانيهِ ... غداءٍ تضْوَى به الأجسامُ وكففت عن أثوابه ولو أنني ... كنتُ المقطَّرَ بزَّني أثوابي شكوتُ وما الشكوى لمثلي عادةٌ ... ولكنْ تغِيضُ العينُ عند امتلائها ولا بد من شكوى إلى ذي مروءةٍ ... يواسيكَ أو يُسلِيْكَ أو يتوجَّعُ * وما منزلُ اللذاتِ عندي بمنزل ... إذا لم أُبَجَّلْ عنده وأُكَرَّمِ لمن تطْلُبِ الدنيا إذا لم تُرِدْ بها ... سرورَ مُحِبٍّ أو إساءةَ مجرِمٍ ولو أنَّ صدورَ الأمر [ ..... ] (¬1) ... كأعقابِه لم تُلْفِه يتنَدَّمُ ما كلُّ ما يتمنى المرءُ يدركُهُ ... تجري الرياح بما لا تشتهي السَّفن (¬2) وقد وَفَيْتُمُونا مرةً بعد مرةً ... وعلمُ بيان الأمرِ عندَ المجرَّبِ فإنَّ الحسامَ الخضيبَ الذي ... قتلتمُ به في يد القاتلِ يا عقربَ النعلِ هذي النعلُ حاضرةٌ ... إنْ عُدْتَ عدنا إلى عاداتنا الأُوَلِ * قضى الله في بعضِ المكارِه للفتى ... برُشْدٍ وفي بعض الهوى فيحاذِرُ ¬

(¬1) كلمة غير واضحة في الخطوط. (¬2) الشاعر: أبو الطيب المتنبي. من قصيدة قالها: لما بلغه أنَّ قومًا نعوه في مجلس سيف الدولة بحلب وهو بمصر. وهي من البسيط، والقافية من المتراكب. مطلعها: بم؟ التعلُّل لا أهلٌ، ولا وطنٌ ... ولا نديمٌ، ولا كأسٌ، ولا سكنٌ انظر: (ديوان أبي الطيب المتنبي) (4/ 233 ـ 236).

وإذا خفيتْ على الغبيّ فعاذرٌ ... أن لا تراني مقلةً عمياء وليس قولُك من هذا بِضائِرِه ... العُرْبُ تعرف مَنْ أنكرتَ والعجمُ * وكم من عائبٍ قولاً صحيحًا ... وآفتُه من الفهمِ السقيم (¬1) ليس العطاءُ من الفضول سماحةً ... حتى يجودَ وما لذلك قيل تريدين رُقْيا المعالي رخيصةً ... ولا بُدَّ دونَ الشهدِ من إبَرِ النحل (¬2) إذا غامرتَ في شرفٍ مَرْوْمٍ ... فلا تقنعْ بما دونَ النُّجومِ * فطعمُ الموتِ في أمرٍ حقيرٍ (¬3) ... كطعمِ الموتِ في أمرٍ عظيمٍ * (¬4) فإما مكانًا يُضْرَبُ النجمُ دونَه ... سُرَادِقُهُ أو باكيًا لِلجامِ * إذا ما لم تكن مِلَكًا مُطاعًا ... فكن عبدًا لخالِقه مطيعًا * وإنْ لم تملكِ الدنيا جميعًا ... كما تهواهُ فاتركْهَا جميعًا * هما سِيَّانِ من ملكٍ ونُسْكٍ ... ينْبُلانِ الفتى شرَفًا رفيعًا [3ب] * وضعيفةٍ فإذا أصابتْ قدره فرصةً ... فتكتْ كذلكَ قدرةُ الضعفاءُ يشمّر لِلُجِّ عن ساقِه ... ويغمرُهُ الموجُ في الساحلِ يودُّ الفتى طولَ السلامة والغِنا ... فكيف ترى طولَ السلامةِ تفعلُ * ¬

(¬1) للشاعر أبي الطيب المتنبي. (¬2) للشاعر أبي الطيب المتنبي وهو يمدح أبا الفوارس دلَّسيْر بن لشكور سنة 353هـ. وهي من الطويل والقافية من المتواتر. تريدين لِقيانَ المعاني رخيصةً ... ولا بدَّ دون الشَّهد من إبر النحل (الديوان) (3/ 290). (¬3) للشاعر أبي الطيب المتنبي في قصيدة وقد كسبت أنطاكية. وهي من الوفر، والقافية من المتواتر. (الديوان) (4/ 119). (¬4) في (الديوان) [صغيرٍ].

مَنْ يسالِ الناسَ يَحْرِمُوهُ ... وسائلُ الله لا يُخيَّبُ أليسَ من الخسرانِ أنَّ لياليًا ... تمرُّ بلا نفعٍ وتُحْسَبُ من عمْري لا أَلْفينَّك بعد الموت تَنْدُبُني ... وفي حياتي ما زوَّدتني زادي ما كان ينفعني مقالُ نسائِهم ... وقُتِلتُ دونَ رجالِهم لا تبعد * تُعَدُّ ذنوبي عند قومي كثيرةٌ ... ولا ذنبَ لي إلاَّ العُلا والفضائل * إنْ سمعوا سبةً طاروا بها فرحًا ... مني وما سمعوا من صالحٍ دفنوا * إنْ يسمعوا الشرَّ يُخْفُوه وإنْ سمعوا ... شرًّا أذاعوا وإن لم يسمعوا أفِكُوا * ولن يبلغَ البنيانُ يومًا تمامَهُ ... إذ كنتَ تبنيهِ وغيرُكَ يهدِمُ أيذهبُ يومٌ واحدٌ إنْ جنيتُه ... بصالحِ أيامي وحسنِ بلائيا متى يُجْمَعِ القلبُ الذكيُّ وصارمًا ... وأنفًا حميًا تَجْتَنْكَ المظالِمُ سأغسلُ عني العارَ بالسيف جالبًا ... عليَّ قضاءُ الله ما كان جالبًا * والنجمُ يستصغرُ الأبصارَ رؤيتَهُ ... والذنبُ للعين لا للنجمِ في الصِّغرِ ما أنت إلاَّ كلحمِ ميِّتٍ ... دعا إلى أكله اضطرار ولولا الضرورةُ ما جئتُكُم ... وعند الضرورة يؤتى الكنيفْ * وإنْ بقومٍ سوَّدوك لحاجةٍ ... إلى سيد لو يظفُرونَ بسيِّدِ ومتى كنت تفعلُ الكثيرَ من الخير ... إذا كنتَ تاركًا لأقلِّهْ وما بقيتْ من اللذاتِ إلاَّ ... محادثةُ الرجال ذوي العقولِ كيف احتراسي من عدوي إذا ... كان عدوي بينَ أضلاعي أسَدٌ عليَّ وفي الحروب نعامةٌ ... فتْخاءُ [تنفر] (¬1) من صفير الصافر ومَنْ سَرَّه أن لا يرى ما يسؤُهُ ... فلا تتخذِ شيئًا بخافٍ له إذا رأيت نيوبَ الليث بارزةً ... فلا تظنَّنَّ أنَّ الليثَ يبتسمُ [4أ] ¬

(¬1) كلمة غير واضحة في المخطوط.

ينشدُ الشعرَ وإن عاتبتَهُ ... في مُحالٍ قال في هذا لُغَهء كل ما يصلُح للمو ... لى على العبد حرامُ وأحييتَ لي ذكرًا وما كان خاملاً ... ولكنَّ بعضَ الذِّكْرِ أنبهُ من بعضِ إني وقتلى سُلَيْكَا ثمَّ أعْقِلَهُ ... كالثورِ يضربُ لمَّا عافتِ البرةُ وحمَّلتني ذنبَ امرئ وتركَتهُ ... كذي العُرّ يكون غَيْرَهُ وهو راتِعُ * قل للذي يحفر بئر الردى ... هيِّئ لرجليك مراقيها سكتتْ بغابغةُ الزمان ... وأصبح الوطواطُ ناطقْ في الناس إن فتَّشتَهم ... من لا يُعِزُّكَ أو تُذلُّهْ وقد تُخْرَجُ الحاجاتُ يا أمِّ مالك ... كرائمَ من ربٍّ له ضنين إذا صوَّتَ العصفورُ طار فؤادُه ... وليثُ حديدِ النابِ عند الثرائدِ إذا رام التخلقُ جاذبتهُ ... خلائقُه إلى الطبعِ القديمِ إذا كان غيرُ الله للمرءِ عِدَةً ... أتتهُ الرزايا من وجوهِ الفوائدِ يأبى الفتى إلاَّ اتباعَ الهوى ... ومنهجُ الحق له واضحُ كتاركةٍ بيضَها بالعراءِ ... ومُلْبِسَةٍ ثوبَ أخرى جناحًا ولستَ بمأخوذٍ بلغوٍ تقوله ... إذا لم تُعَمَّدْ عاقداتِ العزائمِ والمستجيرُ بعمرو عند كُرْبَتِهِ ... كالمستجيرِ من الرمضاء بالنارِ وأُديمُ نحوَ محدِّثي نظري ... أني قد فهمت وعندكم عقلي تحسَبُه مستمعًا منصتًا ... وعقلُه في آفةٍ أخرى ولا تُكثرنْ في إثر شيء ندامةً ... إذا نزعتْه من يديكَ المقاديرُ ضاع معروفٌ واضعٌ ... العرف في غير أهلهِ من ظنَّ أنْ لا بدَّ منه ... فإنَّ منه ألفَ بُدِّ زعمَ الفرزدق أن سيقتلُ مِرْبَعًا ... أبْشِرْ بطول سلامةٍ يا مِرْبَعُ (¬1) ¬

(¬1) الشاعر جرير بن عطية، الخطفي، التميمي، اليربوعي. ولد سنة 42هـ من بني يربوع أحد أحياء بني تميم. وهذا البيت أشد بيت في التهكم. (جواهر الأدب) (2/ 152).

وَلَرُبَّ نازلةٍ يضيقُ بها الفتى ... ذَرْعَاً وعند الله منها المخرجُ ولم أرَ كالمعروف أمَّا مذاقُةُ ... فحلوٌ وأما وجهُهُ فجميلُ إذا لم تستطيع شيئًا فدعْهُ ... وجاوِزْهُ إلى ما نستطيعُ [4ب] وقد يحزنُ المءُ من موتِ ما ... تكونُ السلامة في موتِهِ تفرَّقتِ الطباءُ على خِراشٍ ... فما يدري خراش ا يصيبُ ما عابني إلا اللئامُ ... وتلكَ لي إحدى المناقِبْ إذا محاسني اللاتي أمتُّ بها ... غدت ذنوبًا فقل لي كيفَ أعتذرُ يريكَ البشاشةَ عند اللقاء ... ويبريكَ في الغيب بَرْيَ القلمْ ويحييني إذا لاقيتهُ ... وإذا نحلُو له جسمي رَتَعْ * ألا ربما ضاقَ الفضاءُ بأهلهِ ... وأمكن من بين الأسِنَّةِ مخرجُ كأنك لم تسبق من الدهر ِ ليلةً ... إذا أنت أدركتَ الذي أنت تطلبُ وغير تعني بأمرِ الناس بالنعي ... طبيبٌ يداوي الناسَ وهو عليلُ* وكنّأ نستطشبُّ إذا مرِضْنا ... في الداء من قِبَلِ الطبيبِ* وإنك لنترى طَرْدًَا لحرٍ ... كالصياقِ به طرفُ الهوانِ يهون علينا أن تُصابَ جسومُنَا ... وتسلمَ أعراضٌ لنا وعقولُ* ومستعجبٍ مما يرى من أناتِنا ... ولو زبنتُهُ الحربُ لم يتزمزمِ لم يخلقِ الله مسجونًا تسائلُه ... ما بال سجنِك إلا قال مظلومُ حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيهُ ... فالكل أعداءٌ له وخصومُ لولا اشتعالُ النار فيما جاورت ... ما كان يظهرُ طِيْبُ نَشْرِ العودِ* ونُبِّئْتُ قومًا يحسدونَ [محاسنًا] (¬1) ... وذو الفضلِ لا تلقاه إلا َّ محسَّدا ¬

(¬1) كلمة غير واضحة في المخطوط

وإذا حَذِرْتَ من الأمور مقدَّرًا ... وفررتُ منه فنحوَهُ تتوجهُ توَقَّ ملاحاةَ الرجال وذمَّهم ... فإن لهم علمًا بسوء المثالبش إن النساء متى ينهيْنَ عن خلُقٍ ... فإنه واقع لابدُّ مفعولُ من لم يَعُدْنَا إذا مرِضْنَا ... إن مات لم تشهدِ الجنازهْ ولست بالموجبِ حقًا لمن ... لا يوجِبُ الحقَّ على نفسِهِ* لو بغير الماء حلقي شرَقْ ... كنتُ كالغصَّان بالماء اعتصاري إلى الماء يسعى من يغصُّ بلقمةٍ ... إلى أين يسعى من يغصُ بماء* إذا اعتاد الفتى خوضَ المنايا ... فأهون ما يمر به الوحولُ [5أ] إنَّا لفي زمن تركُ القبيح به ... من أكثر الناس إحسانًا وإجمالاً لولا المشقةُ ساد الناس كلُّهم ... الجودُ يُفْقِرُ والإقدامُ قتَّالُ وكلٌّ يرى طُرُقَ الشجاعةِ والندى ... ولكنَّ طَبْعَ النفسِ قائدُ* ولست بمستبقٍ لا تلِمُّه ... على شَعَثٍ أيُّ الرجال المهذَّبُ (¬1) ومن ينفق الساعاتِ في جمع أموالِه ... مخافةَ فقرٍ فما الذي فعلَ الفقرُ ومن يأمنِ الدنيا يكن مثلَ قابضٍ ... على الماء خانتْه فروجُ الأصابعِ وما المرءُ إلا كالشهاب وضوءُهُ ... يعود رمادًا بعد إذ هو صادعُ إذا لم يكن فيْكُنَّ ظِلٌّ ولا جنى ... فأبْعَدَكُنَّ الله من شجراتِ وكنت إذا قومٌ غزوني غزوتُهم ... فهل أنا في ذايالِ همدانَ ظالمُ ¬

(¬1) للشاعر: النابغة الذبياني, من قصيدة (أي الرجال المهذب). نظمها معتذرًا إلى النعمان بن المنذر مادحًا إياه وفيها: فإنك شمسٌ والملوك كواكبٌ ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكبُ (ديوان النابغة الذبياني) (ص 28). وانظر: (جواهر الأدب) (2/ 40).

فإنك لم تفخر عليك تفاخُرٌ ... ضعيفٌ ولم تغلِبُكَ مثلُ تَغْلِبِ ولو أني بُليتُ بها شمسي ... خؤُلُتُهُ بنو عبدِ المدانِ * لهانَ عليَّ ما ألقى ولكنْ ... تعالوا فانظروا بمن ابتلاني * لو كما تنقصُ تزدادُ ... إذًا نِلْتَ السماء ومما يقتُلُ الشعراء غمًا ... عداوةُ من يقلُّ عن الهجاء بلاءٌ ليس يشبُهُه بلاءٌ ... عداوةُ غير ذي حسَبٍ ودينِ * يبيحُك منه عِرضًا لم يَصُنْهُ ... ويرتع منك في عِرْضٍ مصونِ * رأيتَ حياةَ المرء تُرْخِصُ قَدْرَهُ ... فإن مات أغلتْهُ المنايا الطوائحُ وما للمرء خيرٌ في حياةٍ ... إذا ما عُدَّ من سَقَطِ المتاعِ يريد المرءُ أن يُعطى مُناه ... ويأبى الله إلا ما يشاءُ وما بقاءً علىَّ تركتماني ... ولكنْ خِفْتُمَا صدَّ النِّبالِ ألم تر أنَّ سيرَ الخير رَبْتٌ ... وإنَّ الشرَّ راكبُه يطيرُ ليس من مات فاستراح بميْتٍ ... إنما الميْتُ ميِّتُ الأحياء فيا ليت حظي من غدانَةَ ... أنها تكون كفافًا لا علىَّ ولا ليا [5ب] تغطَّى بجلباب لها حُرَّ وجهِهَا ... وتبدي اسْتَهَا هذا الحياءُ المخالفُ كل شيء إذا تناهي تناهى ... وانتقاصُ البدورِ عند التمامِ تُوقَّى البدورُ النقصَ وهي أهلَّةٌ ... ويدركها النقصانُ وهي كواملُ * فإن يكنِ الفعل الذي ساءَ واحدًا ... فأفعالُه اللائي سَرَرْن ألوفا جرى طَلِقًا حتى إذا قيل سابقًا ... تداركه غُرْفُ اللئام فبلَّدا وأكذبُ ما يكون إذا تألَّى ... وشدَّدها بأيمانٍ غلاظِ يَحْلُبُ غيري وأكونُ الذي ... يرضى من العنزِ بقرنينِ نكون حماتَها ونَذُبُّ عنها ... ويأكل خرجَها القومُ اللِّئامُ * معاذَ الله حتى تنتضيها ... عقائِرَ في العَجَاجِ لها انتسامُ *

إذا المال لم ينفعْكَ إلا تخزنُهُ ... فبَرُّ بلادِ الله مالُكِ والبحرُ أنت للمال إذا أمسكتَهُ ... وإذا أنفقتَه فالمالُ لكْ وأنت كمثلِ الجوز تُمْنَعُ أكلَه ... صحيحًا وتعطي أكلَه حينُ يُكْسرَ ومن يحتفر في الشر بئرًا لغيرِهِ ... يَبِتْ وهو فيها لا محَالَهَ واقعُ وأدركُه حالاتِه فخذلتُهُ ... ألا إن عِرقَ السوء لا بدَّ مدرْكُ وإنَّ كبيرَ القوم لا عِلْمَ عندَه ... صغيرٌ إذا التفتْ عليه المحافلُ * عيُّ الشريفِ يشينُ منصبَه ... وترى الوضيعَ يزيْنُهُ أدبُهْ إذا الشافعُ استقصى لك الجهدَّ كلَّه ... وإن لم تنلْ بِحِجَا فقد وجب الشكرُ وعلىَّ أن أسعى وليس علـ ... ــــيَّ إدراكُ النجاحِ وأنت امرؤ منَّا خُلِقْتَ لغيرنا ... حياتُكَ لا نفعٌ وموتُكَ فاجعُ * لا ألفيتُك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زوَّدتني زادي* فلا تعتذر بالشُّغل عنَّا فإنما ... تُناطُ بك الآمالُ ما اتَّصل الشُّغْلُ ولا أكون كمن ألقى رِحَالتَهُ ... على الحمارِ وخلَّى صهوةَ الفَرَسِ وإنَّ مقيماتٍ بُمنْعَرَجِ اللِّوي ... لا قربَ من ليلى وهاتيكَ دارُها كالعيسِ في البيداء يتلِفُها الظما ... والماء فوقَ ظهورِهِا محمولُ* أرى ماءً وبي عطشٌ شديدٌ ... ولكنْ لا سبيلَ إلى الورودِ * عسى الهمُّ الذي أمسيتَ فيه ... يكونُ وراءه فرجٌ قريبُ [6أ] ربما تكره النفوسُ من الأمرِ ... له فُرْجَةٌ كَحَلٌ العِقَالِ * فما بالُنا أمْسى أسدُ العرين ... وما بالُنا اليومَ شاءَ النجفُ هل يستطيعُ جحودَ ذنبٍ قد مضى ... رجلٌ جوارحُهُ عليه شهودُ إنَّ عَمْرًا يكون آخرَه الموتُ ... سواءٌ طويلُه والقصيرُ قليلُ حياة المرء مثلُ كثيرِها ... يزولُ وباقي عيشِه مثلُ ذاهبِ * ومَنْ جهلتْ نفسه قَدْرَهُ ... رأى غيرُهُ منه ما لا يَرَى

من رامَ ما يعجزُ عنه طوقُه ... تقاصرتْ عنه فسيحاتُ الخطا * وأظلمُ أهلِ الظلمِ من باتَ حاسِدًا ... لمن باتَ في نَعْمائِهِ يتقلَّبُ وكل امرئ: تولي الجميلَ نجيبُ ... وكلُّ مكانٍ يُنْبِتُ العرَّ طيِّبُ أعزُّ مكانٍ في الدنا سرُج سابحٍ ... وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ * أشدُّ الغمِّ عندي في سرور ... تيقنَّ عنه صاحبُهُ انتقالا خلاَ لكِ الجو فبيضي وأصفري ... ونقري ما شئتِ أن تنقري أبا منذر أفنيتَ فاستبقِ بعضَنا ... حنانَيْكَ بعضُ الشرِّ أهونث من بعضِ استرزقِ الله مما في خزائنهِ ... فبينها الجرادُ دارتْ مناشيرُ وحالتْ حياضُ الموت بيني وبينها ... وجادتْ بوصلٍ حيث لا ينفعُ الوصلُ فإنكَ والكتابَ إلى عليٍّ ... ليس بالظنِّ أنه إذا ذلَّ مولى المرء فهو ذليلُ * لك العزُّ إنْ مولاكَ عزَّ ... وإنْ يَهُنْ فأنت فِدَى بُحْبُوبَةِ الهُونِ كائنُ إذا وَتَرْتَ امرءًا فاحذر عدواتَهُ ... من يزرع الشوكَ لا يحصدْ به عِنبًا إن العدوِّ وإن أبدى مسالمةً ... إذا رأى منك يومًا فرصةً وثبا فاليومَ نقنعُ بالسلامةِ منكم ... لا تأخذوا منا ولا تعطُونَا كفاني الله شرَّك يا حبيبي ... فأمَّا الخيرَ منكَ فقد كفاني [6ب] إذا كنت تبغي (¬1) العيشَ فابْغِ توسُّطًا ... فعند التناهي يقصرُ المتطاوِلُ ما زدتَ حين وَلِيْتَ إلاَّ خسَّةً ... والكلبُ أنجسُ ما يكون إذا اغتسلْ إذا اجتمع الآفاتُ فالبخلُ شرُّها ... وشرٌّ من البخيل المواعيدُ والمُطْلُ ¬

(¬1) في الهامش (إذا ما أردت).

يزداد من القلب نسيانُكُم ... وتأتي الطّّباعُ على الناقلِ وأصعبُ مفعولٍ فعلتَ تغيَّرا ... تُكَلَّفُ شيئًا في طباعكَ ضِدَّهُ فما يديمُ سرورًا ما سررتَ به ... ولا يُرَدُّ عليك الفائتَ الحزْنُ إن كان سمَّاكَ شمسًا من ضلالته .... فالخنفساء تسمِّي بنتَها القمرا إذا عبت قومًا بالذي فيك مثلُهُ ... وكيف يُعيبُ العُوْرَ مَنْ هو أعورُ اذْكُرْ محاسنَ ما فيهم إذا ذكروا ... ولا تُعِبْ أحدًا منهم بما فيكا أزمعتُ يأسًا مبينًا من نوالِكُمُ ... ولن ترى طاردًا للحرِّ كاليأسِ فقد صِرْتَ أُذُنًا للوشاةِ سمعيةً ... ينالون من عِرضي ولولاكَ ما نالوا وقاهم جدُّهم ببني أبيهم ... وبالأشقينَ ما حلَّ العقابُ قد كان في الموت له راحةٌ ... والموتُ ختم في رقابِ العبادِ شقِيتْ بنو أسدٍ بشعر مساورٍ ... إنَّ الشقيَّ بكل حَبْلٍ يُخْنَقُ إنَّ الشقيَّ بالشقاء مولعٌ ... لا يملكُ الردَّ له إذا أتى تعلِّلُني بالموتِ والموتُ دونَه ... إذا متُّ عطشانًا فلا نزلَ القطرُ نحلتْ له نفسي النصيحةَ إنه ... عند الشدائدِ تذهبُ الأحقادُ تهوى حياتي وأهوى موتَها أنفًا ... والموتُ أكرمُ نوَّالِ على الجُرْمِ ولله سرٌّ في علاكَ وإنما ... كلام العدى ضرب من الهذيان إذا أنت أعْطِيت السعادة لم تَبَلْ ... ولو نظرتْ شَرَرًا إليك القبائلُ * وقد يتزيَّا بالهوى غيرُ أهلهِ ... ويستعجبُ الإنسانُ مَنْ لا يلائمهْ لا بأس بالقومِ من طول ومن قِصَرٍ ... جسمُ البغالِ وأحلامُ العصافيرِ [7أ] وما ذاك بخلا بالسيوفِ وبالقَنَا ... ولكنَّ صَدْمَ الشرِّ بالشرِّ أحْزَمُ عرفتَ الشرَّ لا للشرِّ لكن لتوقيهِ ... ومن لا يعرفُ الخيرَ من الشرِّ يقع فيه ما* وإنما يبلُغ الإنسانُ طاقتَهُ ... كل ماشيةٍ بالرجل شِملالُ ستبدي لك الأيامُ ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تُزَوِّدِ وإنَّ ابنَ عمِّ المرْ فاعلم جناحُهُ ... وهل ينهضُ البازي بغير جناحِ لعلَّ عَتْبَكَ محمودٌ عواقُبهُ ... وربما صحَّ الأجسام بالعلِلِ والهجْرُ أقْتَلُ لي مما أراقبهُ ... أنا الغريقُ فما خوفي من البَللِ فرشتُ منك بغيرِ ما أمَّلْتُهُ ... والمرءُ يِشْرَقُ بالزُّلال الباردِ أنكرتُ طارقهَ الحوادثِ مرَّةً ... حتى اعترفتُ بها فصارتْ ديدنَا وزادني كَلَفًا بالحبِّ أنْ مَنَعَتْ ... وحُبُّ شيء إلى الإنسان ما مُنِعَا وبيننا لو رعيتُم ذاك معرفةٌ ... إنَّ المعارفَ في أهل النُّهى ذِمَمُ وأُغَبطُ من ليلى بما لا أناله ... ألاَّ كلُّ ما قرَّتْ به العينُ صالحُ أعاتبُ نفسي إن تبسمتُ خاليًا ... وقد يضحكُ الموتورُ وهو حزينُ وفي الشك تفريطٌ وفي الحزم قوةٌ ... ويخطي الفتى في حدسه ويصيبُ يجود بالنفسِ إنْ حنَّ الجبان بها ... والجودُ بالنفس أقصى غايةِ الجودِ سيذكرني قومي إذا ضنَّ جِدُّهم ... وفي الليلة الظلماء يفتقدُ البدرُ (¬1) لا تعجبنَّ لخير زلَّ عن يدهِ ... فالكوكبُ النحس يسقي الأرضَ أحيانًا ومن مذهبي حبُّ الديارُ وأهلِها ... وللناسِ فيما يعشقون مذاهبُ إني أرى فتنةً تغلي مراجلها ... والملكُ تعداني لعلى لِمَنْ غلبَا وغيظي على الأيام كالنار في الحشا ... ولكنه غيظُ الأسيرُ على القَدِّ أمِنَ المنونِ ورَيْبِها تتوجَّعُ ... والدهرُ ليس بمعتبٍ مَنْ يجزعُ ولاتك فيها مفرطًا أو مفرطًا ... كلا طرَفَيْ قصدُ الأمورِ ذِمَيمْ [7ب] إذا تضايق أمرٌ فانتظرْ فرجًا ... فأضيقُ الأمرِ أدناهُ إلى الفَرَجِ ¬

(¬1) للشاعر أبي فراس الحمداني. من قصيدة (أراك عصيَّ الدمع).

أراها وإن كانت تُجَبُّ فإنَّها ... سحابةُ صيفٍ عن قليل تَقَشَّعُ لعمرُكَ ما المكروهُ إلاَّ ارتعابُهُ ... وأعظمُ مما حل ما يُتوقَّعُ وإني لا أزالُ أخا حروبٍ ... إذا لم أجْنِ كنتُ مجنَّى جاني إني لأُكْثِرُ مما سُمْتَني عجَبًا ... يدٌ تشحُّ وأخرى منك تأسوني تلقى بكلِّ بلادٍ إنْ حَلَلْت بها ... أهلاً بأهل وجيرانًا بجيرانِ يقولون أقوالاً ولا يعملونها ... ولو قيل هاتوا حقَّقوا لم يحقِّقُوا إنك إنْ حَمَّلْتني ما لم أطِقْ ... ساءك ما سرَّك مني من خُلق. وإلى هنا انتهى ما أردت جمعه. كتبه جامعه: محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما.

بحث في سيحون وجيحون وما ذكره أئمة اللغة في ذلك ويليه مناقشة لبعض أهل العلم في البحث السابق ثم جواب المناقشة السابقة

(213) 3/ 3 بحث في سيحون وجيحون وما ذكره أئمة اللغة في ذلك ويليه مناقشة لبعض أهل العلم في البحث السابق ثم جواب المناقشة السابقة تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقته وعلَّقت عليه وخرَّجت أحاديثه محفوظة بنت على شرف الدين أم الحسن

وصف المخطوط: 1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في سيحون وجيحون وما ذكره أئمة اللغة في ذلك. 2 ـ موضوع الرسالة: لغة عربية. 3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله الأكرمين، وصحبه الأنجبين وبعد. 4 ـ آخر الرسالة: فليس له منزلٌ ينزله إلا منزل الحيرة التي أرشدنا إليها ... أرشدنا الله إلى ما يرضيه آمين. 5 ـ نوع الخط: خط نسخي جيد. 6 ـ عدد الصفحات: 24 صفحة. 7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 27 سطرًا. 8 ـ عدد الكلمات في السطر: 11 ـ 12 كلمة. 9 ــ الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله الأكرمين، وصحبه الأنجبين وبعد .... فإنه ورد السؤالُ من بعض الأعلامِ فيما ذكره مجدُ الدين صاحبُ القاموس ـ رحمه الله ـ في سيحانَ وجيحانَ. سبكَ السؤالَ في قالبِ من النظم بديع الأسلوبِ، غزيرُ الشؤبوبِ. (¬1) وها أنا أقدم بيان ما ذكره المجد في قاموسه لتعلُّق السؤال به، ثم أذكر ما ذكره غيره. فأقول: قال في المجد في القاموس (¬2) ما لفظه: وسيحانُ نهرٌ بالشام وآخَرُ بالبصرةِ، ويقال فيه ساحينَ، وقرية بالبلقاء بها قبرُ موسى ـ عليه السلام (¬3) ـ وسيحونُ نهرٌ بما وراء ¬

(¬1) الشؤبوب: الدُّفعة من المطر، وحدُّ كل شيء وشدةُ دفعه وأول ما يظهر من الحسن وشدة حرٍّ الشمس. (القاموس المحيط) (ص127). (¬2) (ص288). (¬3) جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3407) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أُرْسِلَ ملك الموت إلى موسى عليهما السلام، فلما جاءه صكَّهُ، فرجع إلى ربه، فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت. قال: ارجع إليه، فقل له يضع يده على متن ثورٍ، فله بما غطَّت يده بكلِّ شعرةٍ سنة. قال: أي رب، ثم ماذا؟ قال: الموت، قال: فالآن. قال: فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رميةً بحجر. قال أبو هريرة: فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «لو كنت ثمَّ لأريتكم قبره، إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر» قال الحافظ في (الفتح) (6/ 442): الكثيب الأحمر: الرمل المجتمع. زعم ابن حبان أن قبر موسى بمدين بين المدينة وبين المقدس، وتعقبه الضياء بأن أرض مدين ليست قريبة من المدينة ولا من بيت المقدس، قال: وقد اشتهر عن قبر بأريحاء عنده كثيب أحمر أنَّه قبر موسى، وأريحاء من الأرض المقدسة. انظر: (مجموع الفتاوى) (4/ 329). * وقيل: أنّه لا يصحُّ تعيين قبر نبيّ غير نبينا محمد صلي الله عليه وسلم نعم قبر إبراهيم في الخليل لا بخصوص تلك البقعة. نقله الفاري عن الجزري في (أسنى المطالب) (ص380).

النهر، ونهر بالهند. انتهى. فأفاد هذا أن سيحان نهرانِ: أحدُهما بالشامِ والآخَرُ بالبصرةِ، وأن سيحون نهرانِ: أحدهما بما وراءَ النهرِ والآخَر بالهند، وهذا يقتضي تغايُرَ مسمَّى سيحانَ ومسمى سيحونَ لاختلافِ الأمكنةِ المذكورةِ، فإن الشام والبصرة غيرُ ما وراء النهر، والهند لا شكَّ في ذلك. وقال ياقوت بن عبد الله الرومي في كتابه (المشترك وضعًا المختلِف صقعًا) (¬1) ما لفظه: بأن سيحانَ وسيحون، وسيحانُ بسينٍ مفتوحة وياء ساكنةٍ وحاء مهملةٍ وألف ونونٍ. الأول: نهر كبيرٌ جرارٌ من نواحي (المصيصةِ) بالثغرِ، وهو نهر أذنه بين أنطاكيةَ والرومِ بالقرب منه نهرٌ يقال جيحانُ، (فالبثغر) إذن سيحانُ وجيحانُ، و (بخراسانَ) سيحونُ وجيحونُ. الثاني: سيحانُ ماءٌ (لبني تميم) بالباديةِ. الثالث: سيحانُ نهر بالبصرة ذكرتْهُ شعراءُ الأعراب (¬2). قال البلاذري (¬3): حَفَرَهُ البرامكةِ وسمُّوه بهذا الاسمِ. انتهى. فأفاد هذا أن سيحانَ اسمٌ لثلاثةِ أنهارٍ: الأولُ النهر الكبيرُ الذي بالشام، لأن المصيصة بلدٌ بالشام، والثاني ماء لبني تميم، والثالثُ بالبصرة. ً ¬

(¬1) (ص314) حيث قال: سيحان: نهرٌ كبير جرار، في ثغر المصيصة وهو نهر أذنة بين أنطاكية والروم، يصبُّ في البحر الأعظم، وبالقرب منه نهر يقال له: جَيْحَان، فبالثغر سيحان وجيحان، وبأرض الهياطلة سيحون وجيحون، وسيحان ماء لبني تميم في البادية، وسيحان نهر بالبصرة، ذكرته شعراء الأعراب، قال البلاذري: حفرته البرامكة وسمّوه كذلك. (¬2) انظر: (معجم البلدان) (قال: قدم ابن شدقم البصرة فآذاه قذرها فقال: إذا ما سقى الله البلاد فلا سقى ... بلادًا بها سيحانُ برقًا ولا رعدً). (¬3) ذكره ياقوت في (معجم البلدان) (3/ 294).

وأفاد أيضًا أن سيحون نهرٌ بخراسانَ فوافقَ كلامَ القاموس في سيحانَ، وزاد عليه أنه يطلقُ على ماءٍ لبني تميمٍ. ووافقَهُ في مغايرةِ سيحانَ لسيحونَ وإن خالفَه في قصرِه على اسمٌ لمسمَّى واحد لا لاثنين. وأفاد أيضًا أن جيحانَ غيرُ جيحونَ. وسيأتي الكلامُ على جيحانَ وجيحونَ بعد الفراغ من الكلام على سيحانَ وسيحونَ [1]. وقال صاحب النهاية (¬1) في مادة (س ي ح) ما لفظه: وفيه ذكر سيحان هو نهرٌ بالعواصمِ من أرض المصيصةِ، وقريبًا من طرطوسٍ، ويذكر مع جيحانَ ... انتهى. وقال في مادة (ج ي ح) ما لفظه فيه ذكر سيحنَ وجيحانَ، وهما نهرانِ بالعواصم عند أرض المصيصةِ وطرطوسٍ .. انتهى. فأفاد هذا سيحانَ نهرٌ واحد بالشام، وجيحانَ نهرٌ واحدٌ بالشام أيضًا. وهذا لا يعارض ما تقدم عن القاموسِ، (¬2) وكتابِ (المشتركِ وضعًا المختلِفِ صقْعًا)، (¬3) لأن صاحب النهاية إنما تعرَّض لتفسير ما وردَ في الحديث الثابت في الصحيح: «إنَّ سيحانَ وجيحان من أنهارِ الجنة» (¬4) فتلخَّص من مجموع ما ذكرناه أن سيحانَ اسمٌ لأربعة ¬

(¬1) (2/ 433). (¬2) (ص288). (¬3) (ص314). (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2/ 2839). وأخرجه أحمد (2/ 289، 440) والخطيب في (تاريخ بغداد) (1/ 54 ـ 55) من طريق حفص بن عاصم عن أبي هريرة مرفوعًا. وأخرجه أحمد (2/ 261)، وأبو يعلى في مسنده رقم (81/ 5921)، والخطيب في (تاريخ بغداد) (1/ 44) و (8/ 185) عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنه مرفوعًا بلفظ: «أربعة أنهار فجرت من الجنة: الفرات، والنِّيل نيل مصر، وسيحان وجيحان» بإسناد حسن. وأخرجه الخطيب في (تاريخ بغداد) (1/ 54) من طريق الأودي عن أبيه مرفوعًا مختصرًا بلفظ: «نهران من الجنة: النيل والفرات». وإدريس هذا مجهول. كما في (التقريب). وسيأتي شاهد له من حديث أنس.

مسمياتٍ: نهرٌ بالشامِ، وآخر بالبصرة باتفاق صاحب المشترك والمختلف، وصاحب القاموس، وماءٌ لبني تميم كما أفاده ياقوتٌ، ولا يقدح في ذلك إهمالُ صاحب القاموس له، وقريةٌ بالبلقاء ولا يقدحُ في ذلك إهمالُ ياقوتٍ (¬1) لها. وأن سيحوت اسمٌ النهر بما وراء النهر باتِّفاق ياقوت والمجدِ، ونهرٌ بالهند كما أفاده صاحبُ القاموس، (¬2) ولا يقدح في ذلك إهمالُ ياقوتٍ له، ويتعين أن سيحانَ الذي هو نهر من أنهار الجنة هو الكائنُ بالشام كما بيَّنه صاحب النهاية، وفسره بعضُ شرَّاح الحديثِ لا غيرهِ، مما بيَّنه صاحب القاموس وياقوتٌ، لأنهما بصدد بيانِ المسميَّاتِ بهذا الاسم من غير نظرٍ إلى تخصيصِ ما ورد عن صاحب الشرع، فلم يبقَ إشكالٌ فيما نقله المجدُ، لا باعتبار تعدُّدِ المسميَّاتِ، ولا باعتبار أن سيحان غيرُ سيحونَ، لأن غاية ما أوردَهُ في قاموس هو أن سيحانَ اسمٌ لنهرينِِ وقريةٍ، وسيحون اسم لنهرينِ، ولم يقل إنَّ النهر الذي وصفَه النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ بأنه من أنهار الجنة هو كذا منها. ولا قال بالاشتراك بين سيحانَ وسيحونَ، بل فسَّر كلَّ واحد منهما بتفسير يميزه عن غيره، فقال: سيحانُ نهر بالشام ¬

(¬1) في (معجم البلدان) (3/ 293): سيْحان: بفتح أوله، وسكون ثانيه ثم حاء مهملة، وآخره نون، فعلان من ساح الماء يسيح إذا سال: وهو نهر كبير بالثغر من نواحي المصيصة، وهو نهر أذنة بين أنطاكية والروم يمرّ بأذنه ثمّ ينفصل عنها نحو ستة أميال فيصب في بحر الروم، وإياه أراد المتنبي في مدح سيف الدولة: أخو غزوات ما تُغبُّ سيوفه ... رقابهم إلاَّ وسيخان جامد يريد أنّه لا يترك الغزو إلاَّ في شدة البرد إذا جمد سيحان، وهو غير سيحوم الذي بما وراء النهر ببلاد الهياطلة، في هذه البلاد سيحان وجيحان، وهناك سيحون وجيحون، وذلك كله ذكر في الأخبار. وسيحان أيضًا: ماء لبني تميم. وسيحان قرية من عمل مآب بالبلقاء يقال بها قبر موسى بن عمران عليه السلام، وهو علي جبل هناك، ونهر بالبصرة يقال له سيحان. وقال (3/ 294): سيحون: بفتح أوله، وسكون ثانيه وحاء مهملة، وآخره نون: نهر مشهور كبير بما وراء النهر قرب خَجندة بعد سمرقند يجمد في الشتاء حتى تجوز على جمده القوافل، وهو في حدود بلاد الترك. (¬2) (ص288).

وآخرُ بالبصرةِ. ولا شك أن الشامَ يتميَّزُ عن البصرةِ، لأن البصرة من أرض العراق، فكذلك يتميَّز [2] كلُّ واحد من النهرين عن الآخَرِ، ثم قال: وقريةٌ بالبلقاء بها قبرُ موسى، فبيَّن أنها من أرض البلقاء، ثم بينها ببيان آخرَ وهو: أن قبرَ موسى ـ عليه السلام ـ فيها، ثم قال: وسيحونَ نهر بما وراءَ النهرِ، ونهرٌ بالهند، فميَّز كلَّ واحد منهما عن الآخر، وتضمَّن ذلك المغايرةَ بين سيحانَ وسيحونَ، وغايةُ ما يقال عليه أنه لم يبيِّن أنها نهرُ الجنة وعذرُه في ذلك واضحٌ، لأنه بصدد بيان المفهوماتِ اللغوية، وقد بينه من هو بصدد بيانِ ما ورد في كلام الشارع كما عرفتَ. وأما كون هذه الأسماء حقائقَ لمسميَّاتِها، أو مجازاتٍ، أو مختلطةٍ، فقد عرف من صنع المجدِ وقبلَه صاحبُ الصحاح عدمُ التعرضِ لتمييز ذلك وإن كان مقلِّلاً للفائدة، لكنه لا يختصُّ الكلامُ عليه بهذه المادة، بل جميع ما في الكتابين كذلك. وأما جيحانُ وجيحونُ فقال في القاموس (¬1) ما لفظه: وجيحونُ نهرُ خوارزم، وجيحانُ نهر بين الشام والروم معرَّب جهانِ. انتهى. فأفاد المغايرةَ بين جيحانَ وجيحونَ، وأن كل واحد منهما اسمٌ لمسمى واحد، فجيحون نهرُ خوارزم، وجيحان نهر بين الشام والروم، وقد تقدم في كلام ياقوتٍ في كتاب: (المشتركُ وضعًا المختلفُ صقْعًا) (¬2) أن جيحانَ بالقرب من سيحانَ الذي هو بالشام بين أنطاكيةَ والرومِ، وهو أن جيحون بخراسانَ، فوافق كلامَ صاحب القاموس فيهما. وفي (شمس العلوم) (¬3): جيحونَ اسم نهرٍ بلخٍ فطابق ما في القاموس، لأن ¬

(¬1) (ص1530). (¬2) (ص314). (¬3) (شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم). تأليف أبي سعيد نشوان بن سعيد بن نشوان الحميري (573هـ) وهو معجم لغوي مهم مرتَّب على الحروف، ومقسَّم إلى الأبواب، لكل حرفٍ باب، وكل بابٍ في شطرين، أحدهما للأسماء والآخر للأفعال. وجعل لكل حرف من الأسماء أو الأفعال بابًا يشرحها فيه .. وهو في ثمانية مجلدات. (مؤلفات الزيدية) (2/ 214 ـ 215).

خوارزم وبلخ من خراسانَ. وقال في كتاب (المسالك والممالك) (¬1): جيحون نهر بلخٍ وبلخٌ من خراسان، ثم يخرج من بلاد خراسانَ ويجري بين بلاد خوارزم حتى يصب في بحيرتها. ثم قال: وجيحان بالألف نهر يخرج من حدود الرومِ ويمتدُّ إلى أقرب حدودِ الشام. هكذا قال فوافق صاحب القاموس فيهما. وقال ياقوت في معجم البلدان (¬2): جيحانُ بالفتح ثم السكونِ، والحاءُ مهملةٌ، وألفٌ ونونٌ نهر بالمصيصةِ بالثغر الشامي، ومخرجُهُ [3] من بلاد الروم، ويمرُّ حتى يضيقَ بمدينة تعرفُ بكفرسا باب المصيصةِ، وعليه عند المصيصة قنطرةٌ من حجارة روميةِ عجيبةٍ قديمةٍ عريضةٍ، فيدخل منهما إلى المصيصةِ، وينفذ منها ليمتد أربعةَ أميال، ثم يصب في بحر الشام. ثم ذكر قولَ المتنبي (¬3): سريتُ إلى جيحانَ من أرض آمدٍ ... ثلاثًا لقد أعياك ركَضٌ وأبعدا ثم ذكر أبياتًا لعدي بن الرِّقاع العاملي (¬4) فيها ذكر جيحانَ، ثم قال: جيحون بالفتح وهو اسمٌ أعجميٌّ، وقد تعسَّف بعضهم وقال هو من جاحة إذا استأصلَه، ومنه الخطوب الجوائحُ، سمِّيَ بذلك لاجتياحهِ الأرضين. ¬

(¬1) المسالك والممالك: تأليف: محمد بن الحسن الكلاعي الحميدي (بعد 404هـ) نقله من كتاب (المسالك والممالك) للعزيزي الحسن بن محمد المهلبي المتوفي سنة 380هـ. وهو في صفة بيت المقدس. (¬2) (2/ 196). (¬3) في قصيدة يمدح سيف الدولة ويهنئه بعيد الأضحى ومطلعها: لكل امرئ من دهرِهِ ما تعوَّدا ... وعادات سيف الدولة الطَّعن في العدا (ديوان أبي الطيب المتنبي) (1/ 283). (¬4) ومنها: فقلت لها: كيف اهتديت ودوننا ... دُلُوكٌ وأشراف الجبال القواهرُ وجيحانُ جيحانُ الملوك وآلسٌ ... وحَزْنٌ خزازي والشعوب القواسرُ

قال حمزة (¬1): أصلٌ اسم جيحون بالفارسيةِ هارونُ، وهو وادي خراسانَ، وعلى وسطه مدينةٌ يقال لها جيحانُ، فنسبه الناسُ إليها، وقالوا: جيحونُ على عادتهم في تغيير الألفاظِ. قال ابن الفقيه (¬2): يجيء جيحونُ من موضع يقال له أبو سارانَ، وهو جبل يتصلُ بناحية السندِ والهندِ وكابُلٍِ، ومنه عينٌ تخرج من موضعٍ يقال له عندمين. وقال الأصطخري (¬3) بعد أن أطال الكلام، وذكر أنها تنصبُّ إليه خمسةُ أنهار، وذكر أسماءها وأمكنتها، ثم ذكر أن أصلَ مخرجهِ من بلاد التركِ، ثم ذكر مواضِعَ يمرُّ بها حتَّى يمرُّ في حدود بلخٍ إلى التَّرمذ (¬4)، آمُلٍ، (¬5) ثم ذرعانَ، أو لأرض خوارزمَ، ثم مدينة خوارزمَ. قال: ولا ينتفعُ بهذا النهر من هذه البلادِ التي يمرُّ بها إلا خوارزمُ، ثم ينحدرُ من خوارزمُ حتى ينصبُّ في بحيرة تعرفُ ببحيرة خوارزمَ، وهي بحيرة بينها وبين خوارزمَ ستةُ أيام، وهي في موضع أعرضُ من دِجْلَةَ. قال ياقوت (¬6): وقد شاهدتُه وركبتُ فيه، ثم ذكر جمودَه إذا اشتدَّ البردُ. ثم قال: وهو سمِّيَ نهر بلخٍ لأنَّه مجازًا لأنَّه يمر بأعمالِهما، فأما مدينةُ بلخٍ فإن أقربَ موضع منه إليها مسيرةٌ اثني عَشَرَ فرسخَا انتهى. فقد وافق ما رواه صاحبُ المعجمِ عن نفسهِ وعن غيرِه ما ذكره صاحبُ القاموس [4] ¬

(¬1) عزاه إليه ياقوت الحموي في (معجم البلدان) (2/ 196 ـ 197). (¬2) عزاه إليه ياقوت الحموي في (معجم البلدان) (2/ 196 ـ 197). (¬3) هو: أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الفارسي ـ المعروف بالكرخي، له مسالك الممالك، وصور الأقاليم. انظر: (معجم المؤلفين) (1/ 68 رقم 507). (¬4) ترمذ: في خراسان، وهي على الضفة الشرقية من جيحون. (الروض المعطار) (ص132). (¬5) آمل: مدينة من مدن خراسان، بينها وبين مرو على شط نهر جيحون ست مراحل، وبين آمل وجيحون ثلاثة أميال. (الروض المعطار) (ص5). (¬6) في (معجم البلدان) (2/ 197).

في جيحانَ وجيحونَ، وإنما خصصَ نهر جيحون بخوارزم لما عرفتَ من أنه لا ينتفعُ به إلا خوارزمُ. وبالجملة فما ذكره صاحب القاموس هو ما ذكره مَنْ قبلَه من هؤلاء الأئمةِ، فإن حاصل ما يستفادُ من كلامهم المغايرةُ بين جيحانَ وجيحون، وإن كلَّ واحد منهما بالمكان الذي ذكره، وأما تعيين النهر الذي من الجنة منهما فقد عيَّنه المفسِّرون لما وقع في كلام النبوةِ، وأنه جيحانُ كما تقدم عن صاحب النهاية (¬1) وغيرهِ، وعذرُ صاحبِ القاموس في عدم تعيين النهرِ الذي من الجنة منهما هو ما قدمنا في سيحانَ وجيحانَ، فالنهرانِ اللذانِ من الجنة هما سيحانُ وجيحانُ، لا سيحونُ وجيحونُ كما تقدم بيانُه، وهو ثابت في الصحيح (¬2) بلفظ: «سيحانُ وجيحانُ». ¬

(¬1) (1/ 323 ـ 324). (¬2) عند مسلم في صحيحه رقم (26/ 2839). قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (17/ 176 ـ 177): قوله صلي الله عليه وسلم: «سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة» اعلم أن سيحان وجيحان غير سيحون وجيحون، فأمَّا سيحان وجيحان المذكوران في هذا الحديث اللذان هما من أنهار الجنة في بلاد الأرمن فجيحان نهر المصيصة وسيحان نهر إذنة وهما نهران عظيمان جدًّا أكبرهما جيحان فهذا هو الصواب في موضعهما. وأمّا قوله الجوهري في صحاحه (2/ 433): جيحان نهر بالشام فغلط أو أنَّه أراد المجاز من حيث أنه ببلاد الأرمن وهي مجاورة للشام، قال الحازمي: سيحان نهر عند المصيصة قال وهو غير سيحون. وقال صاحب (النهاية) ـ (1/ 323 ـ 324) ـ سيحانه وجيحان نهران بالعواصم عند المصيصة وطرطوس، واتفقوا كلهم على أن جيحون بالواو نهر خراسان عند بلخ، واتفقوا على أنَّه غير جيحون وكذلك سيحون غير سيحان وأمّا قول القاضي عياض هذه الأنهار الأربعة أكبر أنهار بلاد الإسلام فالنيل بمصر والفرات بالعراق، وسيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون ببلاد خراسان ففي كلامه إنكار من أوجه: أحدها: قوله الفرات بالعراق وليس بل هو فاصل بين الشام والجزيرة. والثاني: قوله سيحان وجيحان يقال سيحون وجيحون فجعل الأسماء مترادفه وليس كذلك بل سيحان غير سيحون وجيحان غير جيحون باتفاق الناس. الثالث: أنَّه ببلاد خراسان وأمَّا سيحان وجيحان ببلاد الأرمن بقرب الشام والله أعلم. وأما كون هذه الأنهار من ماء الجنة ففيه تأويلات ذكرهما القاضي عياض ـ في (إكمال المعلم بفوائد مسلم) (8/ 372) ـ: أحدهما: أن الإيمان عم بلادها وفاض عليها، وأنَّ الأجسام المتغذية بهذه المياه صائرة إلى الجنة. الثاني: وهو الأصح أنه على ظاهره، وأنَّ لها مادة من الجنة، إذ الجنة موجودة مخلوقة عند أهل السنة وانها التي أنزل منها آدم. وقد ذكر مسلم أول الكتاب في حديث الإسراء: أنّ النيل والفرات يخرجان من أصلها، وبينه في البخاري (4/ 134) فقال: من أصل سدرة المنتهى.

وأما زَعْمُ من زعم المعارضةَ بين قوله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «سيحانُ وجيحانُ والنيلُ والفراتُ من أنهار الجنة» وبين قوله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «وإذا أربعةُ أنهارٍ: نهران ظاهرانِ، ونهران باطنانِ، أما الظاهرانِ فالنيلُ والفراتُ، وأما الباطنانِ فسيحانُ وجيحانُ» (¬1) ثم صار إلى الجمع بأنه لم يثبتْ في سيحانَ وجيحانَ أنهما من الجنة، فهذا ليس يجمع، بل إهدار لما وقع في الحديثين جميعًا من ذكر سيحانَ وجيحانَ، والأمر أقربُ من ذاك، ومعنى كلام النبوة أوضحُ، فإن غاية ما يستلزمه كونُ سيحانَ وجيحانَ باطنينِ أن لا يظهرُ انصبابُهما من نفسِ الجنةِ بأن يجريا من باطنِها إلى باطن الأرضِ، ثم يظهرانِ من حيثُ ظهرا، ويظهر انصبابُ النيل والفرات من ظاهر الجنةِ إلى ظاهر الأرضِ، ثم يتصلُ ظهورهما وجريُهما بالمواضع المعروفة الآن [5]. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5610) تعليقًا وقد وصله البخاري في صحيحه رقم (3207)، ومسلم رقم (264/ 164). وأبو عوانة (1/ 120 ـ 124). والنسائي في (السنن) (1/ 76 ـ 77)، وأحمد 04/ 207 ـ 208)، من طرق عن قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة مرفوعًا بحديث الإسراء بطوله، وفيه: « ... وحدّث نبي الله صلي الله عليه وسلم أنّه رأى أربعةَ أنهارٍ، يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان، فقلتُ: يا جبريل، ما هذه الأنهار؟ قال: أمَّا النهران الباطنان فنهران في الجنة، وأمَّا الظاهران فالنيل والفرات».

وهكذا جمُعُ من جمَعَ بعدم ظهورِ سيحانَ وجيحانَ على وجه الأرضِ وإن كانا من أنهار الجنة نظرًا منه إلى ما وقع من توصيفِهما بكونهما باطنينِ، فإنه ليس في هذا الوصف ما يستلزمُ أنهما لا يظهرانِ أبدًا، إذا صدقُه يوجدُ بما ذكرناه، ولو كان الأمر كما قال هذا لم يكن لإخبارِه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ للأمَّةِ بأن الأربعة الأنهارِ من أنهار الجنة كثيرٌ فائدةٍ بعد تسميته لها بأسمائها المعروفةِ عند أهل الدنيا، مع اعتقادهم بوجود مسميَّاتِها في بقاع الأرضِ، وليست ذلك من قبيل الأخبار بما في الجنة كما وقع في الكتاب العزيز من أخبار الله ـ عز وجل ـ بما فيها من أنهار الماء والعسلِ والخمرِ واللبنِ، (¬1) بل من باب الأخبار بما صار في الدنيا من أنهار الجنةِ كما تفيده ألفاظُ الأحاديث وسياقاتُها. فتقرَّر بمجموع ما ذكرنا صحةُ ما قاله صاحب القاموس في سيحانَ وجيحانَ، وسيحون وجيحونَ. وتبين ما هو منها من أنهار الجنةِ وما ليس منها، وظهر تعيينُ مواضعِ ما هو من الجنةِ، وتعيينُ مواضعِ ما ليس منها، ولم يبقَ في الكلام على هذا التقرير إشكالٌ. وأما ما سأل عنه السائل ـ كثر الله فوائده ـ من تغليط صاحب القاموس (¬2) لصاحبِ الصحاح في مواضعَ كثيرةٍ جدًّا كما هو مصرَّحٌ بذلك في القاموس. وحاصلُ السؤال أنه هل يقبل من صاحب القاموس مجرَّدُ ما يقعُ منه من دعوى غلطِ صاحب الصحاح من دون أن يقيمَ على ذلك برهانًا مقبولاً، أم لا بدَّ من البرهان على ¬

(¬1) لقوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ} [محمد: 15]. (¬2) قال صاحب (القاموس): العلامة مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي في مقدمة القاموس (ص35): ثم إنّي نبَّهت فيه على أشياء ركب فيها الجوهري ـ رحمه الله ـ خلاف الصواب، غير طاعن فيه، ولا قاصدٍ بذلك تنديدًا له، وإزراء عليه، غضًّا منه، بل استيضاحًا للصَّواب، واسترباحًا للثواب، وتحرزًا وحذارًا من أن ينمى إلىَّ التصحيف، أو يعزى إلىَّ الغلط والتحريف ... ".

ذلك؟ وأقول: هذا سؤالٌ قويٌّ، وبحث سويٌّ، والجوابُ عنه من وجوه: الأول: إنه لا يقولُ [6] قائلٌ من أهل العلم أن نسبةَ عالمٍ للغلط إلى عالم آخرَ مقبولةٌ بمجرَّد الدَّعوى، وكما أن هذا لم يقلْ به أحدق فهو أيضًا لا يطابقُ قاعدةً من قواعد العلومِ على اختلافِ أنواعِها، فإن من قال في مقام النقل عن أهل اللغةِ: إن من لغتَهم كذا فليس لأحدٍ أن يقولَ: هذا باطلٌ أو غلطٌ، ولا سيما إذا كان الناقلُ مثلَ الجوهري في إمامِته وثقتهِ وقبولِ الناس لروايتِه قرنًا بعد قرن، واحتجاجِ أهلِ العلم بما نقلَه في صحاحِه من عصره إلى الآنَ. (¬1) الوجه الثاني: غايةُ ما يقال لمن ينقل عن العرب شيئًا من لغتِهم بعد ثبوت كون الناقلِ ثقةً: نحن نطلبُ منك تصحيحَ النقلِ، فإن جاء بما يفيدُ ذلك، وإما برواية صحيحةٍ عن العرب على الحدِّ المعتبرِ في نقل اللغةِ كما هو مدوَّنٌ في الأصول، أو باستخراجِ ذلك من كلماتِهم التي قد اشتغلَ بجمعِها الثقاتُ الأثباتُ، كدواوين أشعارهم ومجاميعِ خُطَبهم ¬

(¬1) قال أبو بكر زكريا الخطيب التَّبريزي اللُّغوي: كتاب الصحاح هذا كتاب حسن الترتيب، سهل المطلب لما يراد منه، وقد أتى بأشياء حسنة، وتفاسير مشكلات من اللغة، إلا أنَّه مع ذلك فيه تصحيفٌ لا يشك في أنَّه من المصنف لا من الناسخ، لأن الكتاب مبنيٌّ على الحروف، قال: ولا تخلو هذه الكتبُ الكبار من سهوٍ يقع فيها أو غلطٍ، غير أن القليل من الغلط الذي يقع في الكتب إلى جنب الكثير الذين اجتهدوا فيه وأتعبوا نفوسهم في تصحيحه وتنقيحه معفوٌ عنه. قال الثعالبي اللغوي في كتابه (يتيمة الدهر) في محاسن أهل العصر: كان الجوهريُّ من أعاجيب الزمان وهو إمام في اللغة وله كتاب الصحاح. وفيه يقول أبو محمد إسماعيل بن محمد بن عبدوس النيسابوري: هذا كتاب الصِّحاح سيدُ ما ... صُنِّف قبل الصحاح في الأدب تشمل أبوابه وتجمع ما ... فُرِّق في غيره من الكتب وقال ابن بزيّ: الجوهري أنْحى اللغويين. انظر: (المزهر في علوم اللغة) وأنواعها (1/ 97 ـ 99) للسيوطي.

ومحاوراتهم المشهورةِ عند الناس شهرةً بالغةً إلى الحدِّ المعتبرِ في ذلك فبها ونْمَتْ، وإن لم ينهضْ بذلك فليسَ لأحدٍ أن يقولَ له: هذه الروايةُ باطلةٌ أو غلطٌ، بل غايةُ ما يقال فيها أن راويْها لم ينقلْها على الوجه المعتبرِ، فلم تثبتْ بها الحجةُ، ولا يجوزُ الأخذُ بها حتى يصحِّحَ نقلَها هو أو غيرُه ممن هو أطولُ باعًا منه. وفَرْقٌ بين وصفِ الشيء بكونه لا تقومُ به الحجةُ، أو أنه لا يؤخذُ به، وبين وصِفِهِ بكونه باطلاً أو غلطًا، فإنه يكفي في الأول مجرَّدُ عدمِ تصحيح النقل، ولا يكفي في الثاني إلا وجودُ البرهانِ [7] المسوِّغِ لنسبةِ الغلطِ إلى الناقلِ أو البطلانِ للمنقولِ، وذلك إما باستقراء لغةِ العربِ استقراءً تامًا على وجه لا يبقى بعده شكٌّ في غلط الناقلِ، أو بطلانِ ما نقلَه، أو بأن يحكي الناقلُ عن نفسه أن جميعَ ما نقلهَ في مؤلَّفه هو من كتاب كذا فلا يوجد ذلك في الأصلِ أو يصحِّفه الناقلُ. الوجه الثالث: أنه قد تكلم جماعةٌ من أهل العلم المتبحرينَ في اللغة على أحرف مما نقلَه الجوهري في الصحاح، وبرهنوا على ذلك في كتبهم، فنقل عنهم صاحبُ القاموس ما ذكروه مجرَّدًا عن البرهانِ، وقبل الناسُ ذلك منه لثقته وإمامتهِ واضْطِلاعِه بفنِّ اللغةِ. وعلى فرض عدمِ نَقْلِ ما ذكره صاحبُ القاموس عن التغليطِ لصاحب الصحاحِ من غيره فهو أهلٌ للاستقراء العامِّ والبحثِ الكامل. الوجه الرابع: إن قلت: فما الحكمُ فيما وجدناه منقولاً في الصحاح للجوهري متعقبًا في القاموس بأنه غلطٌ أو باطلٌ، من دون وجود ما يقتضي تصحيحَ ما نقلَه الجوهريُّ، ولا وجودَ برهان مسوِّغٍ لنسبة الغلط والبطلان؟ قلت: إن تمكن الناظر في الكتابين من البحث المفضِي إلى تصحيح ما نقلَه الجوهري بالطريقة التي قدمنا ذكْرَها فلا اعتبارَ بما ينقلُه صاحب القاموس على الوجهِ المتقدم فلا حكمَ لما ينقلُه صاحبُ الصحاح في ذلك الحرفِ، ولا تقوم به الحجةُ. وإن لم يمكن الوقوفُ على تصحيح النقلِ، ولا على برهان الغلطِ فلا يجوزُ العملُ بشيء من تلك الأحرفِ التي نقلها صاحبُ الصحاح، ونسبَهُ صاحبُ القاموس إلى الغلط فيها، لأن جزمَ مثل صاحبِ

القاموس بالغلط يفتُّ في عَضُدِ الظنِّ الحاصلِ بروايةِ صاحب الصحاح، على فرض قبولِ نقل الآحادِ في اللغة، ويقدحُ في المعتبرِ من التواترِ على القول باعتباره في نقلها، وهذا معلومٌ بالوجدان لكل أحد، فإن من أخبره ثقةٌ بخبرٍ، ثم أخبره ثقةٌ آخر مثل الأول بأن المخبرَ غلطٌ مع علمِ السامعِ بأن الآخَرَ لا ينسِبُ الغلطُ إلى الأولِ مجازفةً وعبثًا، فإنه يحدثُ عند السامع ذلك وقفةً وحيْرَةً حتى يتخلَّص بالبحث إن أمكن، وإن تعذَّرا استمرَّ حائرًا .... واللهُ أعلم [8].

هذه مناقشة لبعض أهل العلم في البحث السابق [9]. بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله رب العالمين، والصلاةُ والسلام على سيدنا محمد الأمين وآلِه الطاهرينَ، وعلى أصحابه الراشدين آمينَ. قول شيخنا العلامِةِ البدرِ ـ كثر الله فوائده ـ في جوابه عن السؤال الذي نظمُتُه إليه: ويتعيَّن أن سيحانَ الذي هو من أنهار الجنةِ هو الذي بالشام إلى آخره، فيه بحثٌ، وهو أنه قد ثبت اشتراكُ هذا الاسم بين نهرين مشهورينِ: أحدُهما بالبصرةِ، والآخر بالشام كما اتفق عليه صاحبُ القاموس (¬1) وصاحب المعجم (¬2)، وماءٌ لبني تميم على ما ذكره صاحب المعجمِ، وقريةٌ بالبلقاءِ على ما ذكره صاحب القاموسِ (¬3). وحينئذٍ فلا بدَّ من قرينةٍ تعيِّنُ المرادُ به في الحديث من هذين النهرينِ. وقولُ صاحب النهاية (¬4) أنه النهرُ الذي بالشام بمجرَّده لا يكفي، وكذلك تفسير بعض شُرَّاحِ الحديثِ، (¬5) وليس تفسير صاحب النهايةِ لما وقع في الحديث فيما قدمت أنه مشتركٌ، ويصح صرفُ اللفظ إلى كل من معنييهِ من قبيل نقل العدلِ للغةِ، ونفي سوى ما نقلَه. فقد صحَّ الاشتراك بنقل الثقاتِ الأثبات. (¬6) ¬

(¬1) (ص288). (¬2) (معجم البلدان) (3/ 293). (¬3) (ص288). (¬4) (1/ 323 ـ 324). (¬5) انظر ما قال النووي في (شرحه لصحيح مسلم) رقم (17/ 176 ـ 177). (¬6) اللفظ المشترك: هو اللفظةُ الموضوعةُ لحقيقتين مختلفتين أو أكثر وضعًا أولاً من حيث هما كذلك. (المحصول) (1/ 261). وقال ابن الحاجب في (شرح المفصل) كما في (البحر المحيط) (2/ 122) وهو اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفين أو أكثر دلالة على السواء عند أهل اللغة سواء كانت الدلالتان متفاوتتين من الوضع الأول أو من كثرة الاستعمال، أو استفيدت إحداهما من الوضع والأخرى من كثرة الاستعمال وهو في اللغة على الأصح. قال الشوكاني في (إرشاد الفحول) (ص100): اختلف أهل العلم في المشترك فقال قومٌ إنّه واجب الوقوع في لغة العرب، وقال آخرون إنّه ممتنع الوقوف، وقالت طائفةٌ إنّه جائز الوقوع. ثم ذكر الشوكاني ـ رحمه الله ـ أدلة القائلين بالوجوب، وأدلة المجوّزين ثم قال: (ص105): إذا عرف هذا لاح لك عدم جواز الجمع بين معنييَ المشترك أو معانيه، ولم يأت من جوَّزه بحجة مقبولة. وقد قيل إنّه يجوز الجمع مجازًا لا حقيقةً، وبه قال جماعة من المتأخرين وقيل: يجوز إرادةُ الجمع لكن بمجرد القصد لا من حيث اللغة. وقد نسب هذا إلى الغزالي والرازيُّ. وقيل: يجوز الجمع في النفي لا في الإثبات. فيقال مثلاً: ما رأيتُ عينًا يراد العين الجارحة، وعين الذهب، وعين الشمس، وعين الماء. ولا يصح أن يقال عندي عينٌ وتراد هذه المعاني بهذا اللفظ. وقيل: بإرادة الجميع في الجمع فيقال مثلاً عندي عيونٌ ويراد تلك المعاني. وكذا المثنى فحكمه حكم الجمع فيقال مثلاً عندي جَوْنانِ ويراد الأبيض والأسود ولا يصحُّ إرادة المعنيين أو المعاني بلفظ المفرد وهذا الخلاف إنّما هو في المعاني التي يصح الجمع بينها وفي المعنيين اللذين يصحُّ الجمع بينهما لا في المعاني المتناقضة. انظر: (الإبهاج) (1/ 263)، (نهاية السول) (2/ 138 ـ 140).

ومحلُّ السؤال هو تعيينُ النهر المرادِ بسيحانَ في الحديث من هذينِ النهرينِ اللذين وُضِعَ لكل منهما هذا الاسمُ وضعًا على حِدَةٍ، ونُصِبَ الدليلُ من قرينة صريحة صحيحة، أو حديثٍ خاصٍّ، أو روايةٍ مجمعٍ عليها تقومُ به الحجةُ. ولعله يقال: قد صرح المجيبُ في أثناء الجوابِ بما يفيد التعيينُ فيما نقلَه ـ نفع الله بعلومه ـ عن البلاذري (¬1) من أنه نهرَ البصرة حفرهُ البرامكة، ومع هذا فلا يصح تفسير ما ورد في الحديث به لعدمِه، وعدمِ وضع هذا الاسم له في أيام النبيِّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ ولكن يبقي الكلامُ في أن المجيبَ ـ دامت إفادته ـ قد ذكر أن صاحبَ القاموس بصددِ بيان المفهوماتِ اللغويةِ. فإذا كان وضعُ هذا الاسم لنهر البصرةِ لغةً من لغة العرب اندفع ما ذكره البلاذري أنه من أوضاع البرامكةِ، أو ثبت التعارضُ بين كلامه ¬

(¬1) ذكره ياقوت في (معجم البلدان) (3/ 293).

وكلام المجدِ كما لا يخفي. وأيضًا فإنَّ ماءَ بني تميم المسمَّى بسيحانَ إما أن يكون نهرًا جرّارًا، أو نهرًا يوردُ أو بئرًا أو بريكةٍ لماء المطر. وعلى التقديرينِ الأوَّلينِ فهما مما يحتملُه اللفظ في الحديث، ويصحُّ تفسير المعنى به لاستقامةِ المعنى. إذن فيبقى الإشكالُ بحاله. قوله ـ نفع الله بعلومه ـ أن جيحانَ بالقربِ من سيحانَ الذي هو نهر بالشام بين أنطاكيةَ والروم، وأن جيحون بخراسان فوافق كلامَ صاحبِ القاموس فيهما. أقول [10]: لا موافقةَ في تفسير جيحانَ بين كلاميهما، لأنه قد تقدم في كلام ياقوتٍ (¬1) الذي نقلَه المجيبَ عنه ما لفظُه: فبالثغر إذن سيحانُ وجيحانُ يعني في ثغر الشام وسيأتي قريبًا نقلاً عنه أيضًا بعد أن ضبطَ حروفَ جيحانَ أنه نهر بالمصيصةِ بالثغرِ الشاميِّ. والمصيصةُ مدينةٌ بالشام كما أفاده المجيبُ، وصرح به الجوهري في صحاحِه. (¬2). قال فيه والمصيصةُ بالتخفيف غيرُ مُثَقَّلٍ مدينة بالشام، والمجدُ في قاموسه (¬3) قال فيه: والمصيصةُ كسفينةٍ بلدٌ بالشام ولا تشدَّدُ. انتهى هذا تفسير ياقوتٍ له. وقول صاحب القاموس (¬4): إنه نهر بينَ الشام والرومِ لا في أصلِ الشام ينافيهِ منافاةً ظاهرةً إلا أن يقال: إن البيِّنةَ نسبيةٌ لا استقلال لها كما يقالُ في أمثال العرب (بين جمادى ورجبٍ ترى العجبَ). (¬5) مع أنه لا وقتَ خارجٌ عن مسمَّى جمادى ورجبٍ هو ¬

(¬1) في (معجم البلدان) (3/ 293) وقد تقدم بتمامه. (¬2) (2/ 433). (¬3) (ص288). (¬4) (ص288). (¬5) (العجب كلُّ العجب بين جمادى ورجب). أول من قال ذلك عاصم بن المشعرِّ الضَّبِّيّ كان أخوه أبيدة علق امرأة الخنيفس بن خشرم الشيباني، فعلم الخنيفس بذلك فقتل أبيدة. ولما علم أخوه عاصم بقتله لبس أطمارًا من الثياب، وركب فرسه، وتقلّد سيفه، وذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة، وبادر فقتل قاتل أخيه قبل دخول رجب، لأنّهم لا يقتلون في رجب أحدًا. فقال: (العجب كل العجب بين جمادى ورجب) فأرسلها مثلاً ورجع إلى قومه. (مجمع الأمثال) للميداني (2/ 354 ـ 355) بتصرف.

بينهما، بل الوقت إما من جمادى أو رجب لا يتحقَّق فاصلٌ بينَهما هو من غيرهما وفيه نظر لا يخفى سيَّما إذا كانت البيَّنةُ في الأمكنةِ كما إذا قلت: كرمانُ إقليمٌ بين فارسَ وسجستانَ فلا بدَّ من تحقيق إقليمٍ لا يطلق عليه أنه من فارسَ، ولا يطلق عليه أنه من سجستانَ، وإنما تتصلُ به بلاد فارسَ من جهةٍ، وبلاد سجستانَ من جهةٍ أخرى. هذه حقيقةُ هذا اللفظ .. نعم لكن ما ذكره ياقوتٌ في تعيين محلِّ جيحانَ هو الذي ذكره صاحبُ النهاية في قوله: سيحانُ وجيحانُ نهرانِ بالعواصمِ، لأن العواصمَ من المصيصةِ، والمصيصة من القطر الشامي كما تقدم. وكذلك ذكره الجوهري في الصحاح قال فيه: وجيحونُ نهرُ بلخٍ، وهو فَيْعوْلُ، وجيْحانُ نهر بالشامِ .. انتهى. وقال فيه أيضًا: وسيحانُ نهرٌ بالشام، وساحينُ نهر بالبصرةِ، وسيحونَ نهر بالهندِ هذا كلامه. وقد غلَّطه الشيخُ محيي الدين النواوي ـ رحمه الله ـ في شرحه لصحيح مسلم عند الكلام في شرحه لصحيحِ مسلمٍ (¬1) عند الكلام على هذا الحديثِ المذكورِ في تفسير جيحانَ بأنه نهرٌ بالشام، فقال ما لفظه: اعلم أن سيحانَ وجيحانَ غيرُ سيحونَ وجيحونَ فأما سيحانُ وجيحانُ المذكورانِ في هذا الحديثِ فهمًا في بلاد الأرمنِ، فجيحانُ نهرُ المصيصةِ، وسيحانُ نهر أذنةَ، وهما نهران عظيمانِ جدًّا، أكبرهما جيحانُ. وقل الجوهري: جيحانُ نهرٌ بالشام غلطٌ ... انتهى. وهذا هو الذي قصد في النظم في هذه الأبيات. ¬

(¬1) (17/ 176 ـ 177).

ورُوينا في صحاحِ ... الجوهري الغَرْطرَّا إن جيحانَ بقطرِ الشامِ ... نهرٌ ليس يكرى ثم في شرح النواوي ... جعلَه زورًا ونُكرى وأقول: بل الغلطُ ما ذكره الشيخ محيي الدين، فإنه أثبت ما هو شبهُ الأخصِّ، ونفيَ ما هو شبهُ الأعمِّ، وكلَّما وُجِدَ الأخصُّ وجِدَ الأعمُّ، فإنه إذا صدقَ الإنسانُ صدقَ الحيوانِ بالضرورةِ، فإذا كان جيحانُ [11] بالمصيصة كما ذكره كان بالشام؛ إذ لا خلافَ أن المصيصةَ من بلاد الشام .. وقولُه: الأرمنُ لم يتعرض لها في القاموسِ في مظانها ولم يبيِّنْ معناها، ولكنِ استطردَ ذكرَها في مادة (ط ر س) فقال ما لفظه (¬1): وطرسوسٌ كجلزونٍ بلدٌ إسلامي مخصِبٌ، كان للأرمن ثم أُعيدَ إلى الإسلام في عصرنا ... انتهى. فظهر منه أنهم قومٌ كفَّار، أو ملكٌ كافر. وأذنةُ محرَّكةً بلد قرب طرطوسٍ. وقوله كجلزونٍ، هذا اللفظ كثيرً ما يزينُ به ولم يذكره في موضعه في كتابه، ولا بين معناه ومما زان به العَربُوس. وهذا كما ذكر البقْسَ (¬2) وقال إنه شجرٌ كالآسِ ورقًا وجَبًا، أو هو [الشمساد] (¬3) ولم يذكر [الشمسارَ] (¬4) في موضعهِ، وهذا تعريف بمجهولٍ، بل يُخِلُّ ¬

(¬1) (ص713). وذكرها (ص684) في مادة (أ ي س) وتأيَّسَ: لانَ وكسحابٍ بلد للأرمن فُرْضَةَ تلك البلاد صارت للإسلام. ? الأرمن: سكان أرمينية، وهي بلد معروف يضمُّ كورًا كثيرة وهي أمةٌ كالروم. فتحت في زمن عثمان، فتحها سلمان بن ربيعة الباهلي سنة 24هـ. انظر: (الروض المعطار) (ص25). (¬2) قال في (القاموس) (ص687): البقسُ يقال: بَقْسيسٌ: شجر كالآسي ورَقًا وحبًا، أو هو الشّمْشاذُ قابض، مُجفَّفٌ. (¬3) كذا في المخطوط والذي في القاموس الشّمْشاذُ. قال في (المعجم الوسيط) (1/ 493) والشَّمذة شجرة تُعد لتمتد عليها شجرة متسلِّقة جمعها شُمُذ وشِماذ ولعل ذلك معروف، فلم يُبيِّن معناه واكتفى بذكره. (¬4) كذا في المخطوط والذي في القاموس الشّمْشاذُ. قال في (المعجم الوسيط) (1/ 493) والشَّمذة شجرة تُعد لتمتد عليها شجرة متسلِّقة جمعها شُمُذ وشِماذ ولعل ذلك معروف، فلم يُبيِّن معناه واكتفى بذكره.

بما ادَّعاه من الإحاطة .... والله أعلم قوله ـ طاب ذكره ـ: وفي شموس العلوم (¬1) جيحونُ اسمُ نهرِ بلخٍ فطابقَ ما في القاموس لأن خوارزمَ من خراسانَ. أقول: تبايُنُ الكلامينِ ظاهرٌ لأن الذي في القاموسِ أنه نهرٌ بخوارزمَ، والذي في شمس العلوم أنه نهر بلخٍ، خوارزم غيرُ بلخٍ قطعًا. وكونُ القطرينِ يشملُهما اسمُ خراسانَ لا يفيدُ في ذلك شيئًا، كما لو قال قائل: قصرُ غمدانَ بصنعاءَ، وقال آخر: قصرُ غمدان بذمارٍ، وصرْنا إلى أن القولينِ متَّفِقانِ، لأن المحلَّين من اليمنِ لما كان شيئًا يعتدُّ به، وإنما كان يحصلُ التطابُقُ لوقوع في كلام صاحبِ شمس العلوم أنه نهرٌ بخراسانَ، وخراسانُ يشملُ بلخَ وخوارزمَ كما أفاده المجيبُ. على أن ما نقل عن صاحب كتاب المسالكِ والممالكِ ينافي القولَ بأنَّ خوارزمَ من خراسانَ، حيثُ قال: ثم يخرجُ من بلادِ خراسان ويجري بين بلاد خوارزمَ، فجعلَه خارجًا من بلاد خراسانَ جاريًا بين بلاد خوارزمَ، فلو كانتْ خوارزمُ من خراسانَ لما صحَّ أنه خارجٌ عن بلاد خراسانَ حال كونِه جاريًا في بلاد خوارزمَ، التي هي منها، وهو ظاهرٌ، ويؤيِّده قولُ الشيخُ مُحيي الدين النووي في شرح صحيح مسلم (¬2) عند الكلام على الحديثِ (¬3) المذكورِ. وأما جيحونُ بالواو فنهرٌ وراءَ خراسانَ عند بَلْخٍ، وظاهر هذا أنه ليس في خراسانَ. بقي هاهنا سؤالٌ، وهو أنه ورد في الحديث (¬4): «نهرانِ مؤمنان، ونهرانِ كافرانِ، ¬

(¬1) تقدم ذكره. (¬2) (17/ 176 ـ 177). (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) تقدم تخريجه.

أما المؤمنان فالنيلُ والفراتُ، وأما الكافرانِ فدجلةُ ونهر بِلْخٍ». فهل المرادُ بنهر بلخٍ جيحونُ على ما في شمس العلوم، أو غيرُه من أنهارهِ؟ قوله ـ زاده الله علمًا ـ ثم قال: جيحونُ بالفتح وهو اسمٌ أعجميٌّ. فعلى هذا هو غير منصرفٍ للعلميةِ والعجمية مع تكاملِ شروطِها، وهو أنه لم يُسْتَعْمَلْ في لغة العرب إلا عَلَمًا كما قرَّره الرَّضي، (¬1) فتنوينُه في حالةِ الرفع والجرِّ وكسر بالألفِ المنقلبةِ عن النونِ في حالةِ النصبِ كما وقع بخط شيخِنا ـ أبقاه الله ـ. في أثناء الجواب ليس في محلِّه وكذلك سيحونُ. قوله: كثر الله فوائده: وقد تعسَّف بعضُهم فقال [12] هو من جاحَهُ إذا استأصلَهُ ... إلى آخره. يؤيد أنّه قول معسَّف قولُ حمزةَ الآتي أنه بالفارسيةِ هارونُ، وظنَّ شيخُنا ـ أبقاه الله ـ أنه على عادتهم في تغيير الألفاظِ، وأنا أظن أنه في تعريب الألفاظ، ولأن تغييرَ الألفاظ ليس بعادةٍ بخلاف التعريبِ، فإن تغيير بعض الحروف لا بد منه، فلا بد من تغيير بين المعرّب والمقرّب إليه بحروف مخصوصةٍ، ولو بقي على حاله لما صدق معرَّبٌ ومعرَّبٌ إليه، لأنه واحد بالشخص مع عدم التغيير بأي شيء. وقد نص عليه الخفاجي في الريحانةِ حيث قال: الشرموزةُ هو النعلُ المعروف، ويقولون شرموجةُ على قاعدتهم في التعريب فإنها تقلب فيه الزاي جيمًا) .. انتهى. ونظير ذلك الخَوَرْنَقُ. قال في القاموس (¬2): إنّه معرّبُ خورنكاه، (¬3) والجنابذُ قال ابن حجر (¬4) جمع جنبذة معرَّبُ كنبذةٍ، والدرهمُ قال في ................................ ¬

(¬1) في (شرح كافية ابن الحاجب) (1/ 123 ـ 124). (¬2) (ص1135). (¬3) انظر: (المزهر) (1/ 280). (¬4) في (فتح الباري) (1/ 463) أن الجنابذ شبه القباب واحدها جنبذة بالضم، وهو ما ارتفع من البناء فهو فارسي معرب وأصله بلسانهم كنبذة يوزنه لكن الموحدة مفتوحة والكاف ليست خالصة.

الصحاح (¬1): إنه معرّب. وزاد في الريحانة أنه معرّبُ دَرِم، وعزا في ذلك قصةٌ إلى ما ذكره السُّكريُّ في شرح ديوان الأعشي، ويمكن توجيهُ العبارة بأنه على عادتِهم في تغيير الألفاظِ للتعريب. وظاهر صنعِ صاحب النهايةِ (¬2) يقضي بأنه من جاحه، ألا تراه ذكَرَهُ في مادة (ج ي ح) فجعل أصولَه الجيمَ والألفَ المنقلبةَ عن الياء والحاء المهملة فهو من الاجتياحِ على هذا إن كان لا يعتبرُ الزائدُ الأول لأن هذا ليس منه كما لا يخفى. وأما صاحب القاموس (¬3) فذكره في باب النونِ فجعل أصولَه (ج ح ن) وجعلَ أيضًا جيحونَ من هذه المادةِ كما نقله شيخُنا عنه، وذكر في القاموس (¬4) أن جيحانُ معرَّبُ جِهَانَ. قلت: ولعلَّ التعريبَ هو الوجهُ في جعْلِه النونَ أصليةً، إذ لا اشتقاقَ الجهانَ الذي جيحانُ معرَّبُهُ بخلافِ سيحانَ فليس بمعرَّب شيء بل هو مشتقٌّ من السَّيْحِ، فذكره في (س ي ح). (¬5) قوله ـ نفع الله بعلومه ـ: وأما تعيينُ النهر الذي من الجنة منهما فقد عيَّنه المفسِّرون لما في كلام النبوةِ، وأنه جيحانُ لا جيحونُ كما تقدم عن صاحب النهاية (¬6) وغيرِه. أقول: قد عيَّنه النبيُّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ بصريح قولِه: «سيحانُ وجيحانُ، والنيلُ والفراتُ كلِّ من أنهار الجنةِ» وإنما عيَّن المفسرونَ (¬7) في أي موضع هو ¬

(¬1) (5/ 1918): الدرهم فارسي معرب. (¬2) (1/ 323 ـ 324). (¬3) (ص1530). (¬4) (ص1530) (¬5) (ص288). (¬6) (1/ 323 ـ 324). (¬7) انظر: (الجامع لأحكام القرآن) للقرطبي (13/ 104)، (16/ 237).

وغلَّطوا من وَهِمَ اسمٌ لنهر واحد كما تقدم عن النووي. (¬1) قوله ـ أبقاه الله ـ: وأما زَعْمُ من زعم المعارضَةَ: أقول: لا معارضةَ بين الحديثينِ، ولا أدرى من زعمَهما وإنما وقع في كلام الحافظ ابن حجر في فتح الباري (¬2) ما يُفْهِم الترادُفَ فقال فيه في شرح قوله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «وإذا أربعةٌ أنهارٍ: نهرانِ ظاهرانِ، ونهرانِ باطنانِ، فقلتُ ما هذان يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهرانِ في الجنة، وأما الظاهران فالنيلُ والفراتُ» ما لفظه: وأما الحديثُ الذي أخرجه مسلم (¬3) بلفظ: «سيحانُ وجيحانُ، والنيلُ والفراتُ من أنهار الجنة» فلا يعارضُ هذا لأن المرادَ به أن في الأرض أربعةَ أنهارٍ أصلُها من الجنة، وحينئذ لم يثبت لسيحونَ وجيحونَ أنهما يُنبعانِ من أصلِ سِدْرَةِ المنتهى، فيمتاز النيلُ والفراتُ عليهما وجيحون بذلك [13]. وأما الباطنانَ المذكورانِ في حديث الباب فهما غير سيحونَ وجيحونَ، والله أعلم ... انتهى. فانظر كيف بيَّن عدمَ التعارُضِ بين حديث: «سيحانُ وجيحانُ .. » إلى آخره ... وبين حديث: «وإذا أربعةُ أنهارٍ ... » المذكورِ. بأنه لم يثبتْ لسيحونَ وجيحونَ أنهما ينبعان من أصل سدرةِ المنتهى، يعني كما ثبت ذلك للنيلِ والفراتِ في حديث المعراجِ، مع أنه لا ذكر لسيحونَ وجيحونَ في الحديث أصلاً، ما ذاك إلا بناءً على ترادُفِ سيحانَ وجيحانَ، وسيحون وجيحونَ، وهو غلط لا يخْفَى، وسائر كلامه صحيحٌ. فقد ثبت في صحيح مسلم (¬4) من حديث أنس رضي الله عنه ما لفظه: وحدّثَ نبيكم أنه رأى ¬

(¬1) في شرحه لصحيح مسلم (17/ 167 ـ 177). (¬2) (7/ 213 ـ 214)، ورقم الحديث (3887) من حديث أنس بن مالك بن صعصعة رضي الله عنه الحديث. (¬3) في صحيحه رقم (26/ 2839). (¬4) في صحيحه رقم (264/ 164)، وأخرجه البخاري رقم (3207) وقد تقدم.

«أربعةَ أنهار يخرجُ من أصلها: نهرانِ ظاهرانِ، ونهران باطنانِ، فقلت: يا جبريلُ، ما هذه الأنهارُ؟ قال: أما النهرانِ الباطنانِ فنهرانِ في الجنةِ، وأما النهرانِ الظاهرانِ فالنيلُ والفراتُ» فهذا ما بني عليه قولَه: وحينئذ لم يثبتْ لسيحونَ وجيحونَ أنهما ينبعانِ من أصل سدرةِ المنتهى، فيمتازُ النيلُ والفراتُ عليهما بذلك، أي لأنه قد ثبتَ لهما ذلك في الحديث الصحيح المذكور. قوله ـ زاده الله علمًا ـ: أعني حديثَ المعراجِ، بل لم يردْ عنه في رواية ضعيفةَ فضلاً عن صحيحة. قال القرطبي (¬1): لعل تركَ ذكرِهما في حديث الإسراء لكونهما ليسا أصلاً برأسيهما، وإنما يحتمل أن يتفرَّعا عن النيل والفرات. وقد ثبت فيهما أنهما ظاهرانِ، والعجبُ كلَّ ا لعجب من شيخنا العلامةِ ـ أدام الله علاه ـ مع طول باعه، وسَعَةِ اطلاعهِ وشدة فهمهِ، وكثرة علمه. كيف وقع هذا في كلامه، وبنى عليه، ولم ينكره! بل وجَّهَهُ وقرَّره، وبيَّن معناه، وفرع عليه دفعَ المعارضةِ، وصرَّح بأنه من كلام النبوةِ، بل لم يقل أحد من أئمة الحديث فيما أعلم مع شدة البحثِ في ذلك أن النهرينِ الباطنينِ المذكورين في حديث المعراج هما سيحانُ وجيحانُ، وكيف يقولُ ذلك وقد صرَّح في الحديث المذكور مع صحتِه أن النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ سأل جبريلَ ـ عليه السلام ـ عنهما فقال: «أما الباطنان ففي الجنة»، أو في لفظ للبخاري (¬2) ومسلم (¬3): «فنهران في الجنةِ، وأما الظاهرانِ فالنيلُ والفراتُ» فمعنى قوله ففي الجنة أن منبعَهما ومستقرَّهما والانتفاعَ بهما كائنٌ في الجنة، لا في الدنيا، وإلا لما كان لتخصيصهما بقوله ففي الجنَّة معنى يُعْتَدُّ به، لأن الجميعَ من أنهار الجنة قد شاهدها تنبعُ من أصل سدرةِ ¬

(¬1) ذكره الحافظ في (الفتح) (7/ 214). (¬2) في صحيحه رقم (3207، 3887). (¬3) في صحيحه رقم (3207، 3887).

المنتهى كما في صحيح البخاري. وإنما التقسيم للكينونةِ التي يتفرَّع عنها الانتفاعُ. وقد وقع في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عنه ـ صلي الله عليه وآله سلم ـ في حديث المعراج: «فإذا فيها عينٌ تجري يقال لها السلسبيلُ، فينشقُّ منها نهران: أحدُهما الكوثرُ، والآخر يقال نهرُ الرحمةِ» (¬1) قال الحافظ في فتح الباري، (¬2) قلت: فيمكن أن يفسَّر بهما النهرانِ الباطنانِ المذكورانِ في حديث الباب، وكذا روى عن مقاتل قال: الباطنانِ السلسبيلُ والكوثرُ انتهى. قلتُ: فيما روي [14] عن مقاتل نظرٌ، فإنه ثبت أن الكوثرَ من السلسبيلِ فيكون قد قسم الشيءَ إلى نفسهِ، فالأصح ما ذكره الحافظ ـ رحمه الله ـ. قوله ـ كثر الله فوائده ـ: ثم صار إلى الجمعِ بأنه لم يثبتْ في سيحانَ وجيحانَ أنهما من الجنةِ ليس لأحدٍ أن يقول ذلك، وكيف يقولُه وقد ورد عن النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ في حديث صحيح صريحٍ! ولهذا ردَّه شيخان ـ أبقاه الله تعالى ـ وقد صار بعضهم إلى حملها على المجازِ والمرادُ أنها لشدةِ عذوبتِها وكثرةِ منافعِها وبركتِها كأنهار الجنة، أو أن في الجنة أنهارًا تسمَّى بهذه الأسامي، أو أن الإسلام قد طبقَ الأراضي التي هي فيها فالأجسامُ المتعديةُ بها صائرةٌ إلى الجنة، وحملُها على ظاهرِها أولى. وأما قوله ـ أبقاه الله ـ: والأمر أقربُ من ذاك، ومعنى كلام النبوة أوضحُ. فإن غاية ما يستلزمُهُ كونُ سيحانَ وجيحانَ باطنينِ أن لا يظهر انصبابُهما من نفسِ الجنةِ، بأن يجريا من باطنِها إلى باطن الأرضِ، ثم يظهران حيث ظهرا، فكلامٌ مبنيٌّ على غير أساسٍ لما عرفت من عدم وقوعِه في الحديث أصلاً. قوله ـ حرس الله ذريته ـ: وكذا جمع من جمع لعدم ظهورِ سيحانَ وجيحانَ على ¬

(¬1) وهو حديث ضعيف جدًّا. أخرجه البيهقي في (دلائل النبوة) (2/ 136 ـ 142). (¬2) (7/ 214).

وجه الأرض، وإن كانا من أنهارِ الجنةِ نظرًا منه إلى ما وقع من توصيفهما بكونهما باطنينِ إلى آخره. هذا إن كان قائلُه من العلماء فهو من أعظم زلاَّتِه، بل لا ينبغي ذِكْرُهُ عنه لوجوه ثلاثة: الأول: إن قوله بعد ظهور سيحانَ وجيحانِ على وجه الأرض يكذِّبه العقلُ، والنقلُ، والحٍسُّ، ثم أيُّ نفعٍ لهما إذا لم يظهرا على وجه الأرض، وكيف يصيرُ إليه ذو فهم؟ الثاني: إن نظَرَهُ إلى توصيفهما بكونهما باطنينِ قد عرفتَ أن وصفَهما بذلك ليس في الحديثِ، فإما أن يكون غلطًا فاحِشًا أو تساهلاً في أمر الرواية. وإما أن يكون كذبًا على رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ، ومَنْ كذب عليه متعمدًا فليتبوأ مقعدَه من النار. (¬1) الثالث: إن قوله: وإن كانا من أنهار الجنة عكس ما كان ينبغي أن يقال، لأن حاصله أنهما لا يظهران، وإن كانا من أنهار الجنة مفهومه، وأما لو كانا من أنهار الدنيا فعدم ظهورهما أولى وأحرى، لأن (إن) هاهنا هي التي بمعنى (لو) كما ذكره ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (108)، ومسلم رقم (2/ 2) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «من تعمد على كذبًا فليتبوأ مقعده من النار». ? وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (106)، ومسلم رقم (1/ 1) من حديث على قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «لا تكذبوا على، فإنه من يكذب على يلج في النار». ? وأخرج مسلم في صحيحه رقم (3/ 3) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «من كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار». ? وأخرج البخاري في صحيحه رقم (1291)، ومسلم رقم (4/ 4) من حديث المغيرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «إن كذبًا على ليس ككذب على أحد فمن كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار».

الرَّضيُّ (¬1) وغيرُه، ومثَّلوا ذلك بقولهم: (زيدٌ وإن كان غنيًّا بخيلٌ)، و (لا تقُم من مقامك وإن أُهِنْتَ) وهذا باطلٌ لأن مقتضى ما في الجنةِ أن لا يظهر على وجهِ الأرض، إلا إذا جاء بدليله، وكان ينبغي أن يقال: لا يظهرانِ وإن كانا من أنهارِ الدنيا التي من شأن ما فيها أن يظهر نظرًا إلى وصفِهما بكونهما باطنينِ ... إلى آخره. ويصير مفهومُهُ: وأما لو كانا من أنهار الجنةِ فعدمُ ظهورهما أولى وأحرى، وكل ذلك عرفت ما فيه. قوله ـ أدام الله علاه ـ وعلى فرض عدم نقلِ ما ذكره صاحبُ القاموس لصاحب الصحاحِ عن غيرِه فهو أهل للاستقراءِ التامِّ، والبحثِ الكامل. أقول [15]: حاصلُ الوجه الأولِ أن نسبةَ عالمٍ للغلطِ إلى عالم آخر غيرُ مقبولة، ولم يقل بها أحدٌ، ولا تطابقُ قاعدةً من قواعد العلومِ، سيَّما مثل نقل الجوهري: وحاصلُ الوجه الثاني أنه لا يقال للناقل العدْل إن نقلَه باطلٌ أو غلطٌ، حتى ينصبَ البرهانَ الصحيحَ. وهذا هو الحقُّ الحقيقُ بالقبول الذي بنى عليه الفحول، فكيف يصحُّ على هذا الفرضِ المذكورِ أن يقبلَ ما ذكره صاحبُ الصحاح من التغليظِ الصريحٍ، والحكم بالبطلانِ مجرَّدًا عن البرهان! لا يكفي في ذلك كونُه أهلاً للاستقراء التامِّ، والبحث الكامل، فإن الجوهريِّ بهذه المثابةِ، وهو قد بنى أنه إنما ذكر ما هو صحيح عن العرب، ولهذا سمَّى كتابه الصحاحُ، فلا يخلو هذا منافاة لحاصل الوجهينَ المتقدِّمين. نعم قد يكون الغلط من الجوهري مما يعرفُه كلُّ من له أدنى عرفانٍ، فلا يحتاج مع ذلك إلى برهانٍ، كقوله (¬2): عرفاتُ موضعٌ. بمنى سمَّيت به، لأن آدمَ وحوَّاءَ تعارَفَا بها وفي .............................................. ¬

(¬1) انظر: (شرح كافية ابن الحاجب) (4/ 345 ـ 358). (¬2) في (الصحاح) (4/ 1401).

القاموس (¬1) أنه موقف الحاجِّ، ذلك اليومِ على اثني عشرَ ميلاً من مكةَ، وغلطَ الجوهريُّ في قوله ذلك. وكقوله (¬2): الأظفورُ جمعُ ظفرٍ، وهو مفرد قطعًا. وأما قبولُ الناس ذلك منه فليسَ على إطلاقه، بل البعضُ يقبلُه جميعهَ، والبعضُ يردُّه جميعَه، ويتأول ما ظهرَ غلطُه مثلَ ما تقدمَّ. والبعضُ في أحرف دونَ أحرفٍ، والله تعالى أعلم. وقد بلغني أن بعض العلماء المتأخرينَ (وهو المولى العلامةُ عبد القادر بن أحمد) لم يسلِّم من تغليط القاموس للصحاحِِ إلا حرفينِ فقط، ولا أدري ما هما، وقد يكون تغليطُه له في الحرف الأصلي والمزيدِ، ووضعِ الكلمةِ في غير محلِّها من الكتاب كما وقع ذلك في أوله كثيرًا. وهذا أمرٌ مع كونه مرجعِهِ علمَ التصريفِ سهلٌ غيرُ موقِعٍ في خطرٍ غلطِ التفسيرِ على صحَّةِ تسليمهِ. والله تعالى أعلم [16]. ¬

(¬1) (1080). (¬2) (2/ 729). وقال في (القاموس) (ص556) الظُّفُر: بالضم وبضمتين، وبالكسر شاذٌ يكون للإنسان وغيره. كالأظفور. وقول الجوهري: جمعه أظفورٌ غلط وإنّما هو واحد.

هذا جواب المناقشة السابقة [17] بسم الله الرحمن الرحيم والحمدُ لله رب العالمين، والصلاةُ والسلام على سيدنا محمد الأمين وآلِه الطاهرينَ. قال ـ كثر الله فوائده ـ فيه بحثٌ، وهو أنه قد ثبتَ اشتراكُ هذا الاسم ... إلخ. أقول: مجردُ الاشتراكِ لا يمنعُ تعيينُ المراد بالقرائنِ، وقد صرَّح بهذا أهلُ الأصول (¬1) وغيرُهم. وهاهنا قرينتانِ تصلحُ كلُّ واحدة منهما لتعيين المراد: الأولى: أن الماءَ الذي لبني تميم، والنهرَ الذي حفرَه البرامكةُ لا يقول عاقلٌ فضلاً عن عالم أنّه يصحُّ تفسيرُ سيحانَ الذي هو نهرٌ من أنهار الجنة بأحدِهما، إذ المرادُ بقولهم: ماءٌ لبني فلان أنّه نهرٌ يستقونَ منه دونَ غيرهم كما نراه ونشاهده في الأنهارِ الصغيرةِ المختصَّةِ بأهل قريةٍ دون قريةٍ، وقوم دون قومٍ، ويبعد كلَّ البعد عقلاً وعادةً أن يخصَّ اللهُ بهذا النهر الذي من أنهار الجنةِ فخذًا من أفخاذِ العربِ، وقريةٍ من قراهم دون سائرِ عبادِه، بعد إخبار رسوله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ بذلك وندائه في الناس أن هذا النهرَ خارج من الجنةِ ينتفع به العبادُ، وتختص به طوائف منهم. وما لماء بني تميم ولهذا، وأين يقع من سيحان الجنة. وأما النهرُ الذي حفرَه البرامكةُ فكل أحد يعلم أنه لا يصحُّ تفسيرُ ما وقع في لفظ النبوةِ به، وبطلانُ ذلك غيرُ محتاجٍ إلى تطويلٍ، فإن النبيَّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أخبر عن شيء موجودٍ بين ظهراني العبادِ في هذه الأرض، لا عن شيء ستحفره طائفةٌ من مسلمةِ المجوس بعد مائةٍ وسبعينَ سنةً من الهجرةِ، فهذه القرينة الأولى المفيدة لتعيين المشتركِ. القرينة الثانية: أنه قد تقرر أن صاحبَ النهاية وغيرَهُ ممن يتكلَّم في تفسير الحديثِ ¬

(¬1) تقدم توضيحه.

عهدَ لهم بيانَ ما وقعَ في الحديث، والاقتصارَ عليه من دون تعرُّضِ لبقيةِ ما يشتركُ مع ذلك لغةً أو عُرْفًا. (¬1) وهذا معلومٌ من صنيعِهم، فلما اقتصروا على تفسير ما في الحديث لفردٍ من أفراد المشتركِ كان ذلك قرينةً على أنه المرادُ، فما لنا ولكونِ ذلك مشتركًا عند أهل اللغةِ! فليس السؤال إلا عن تعيينِ ما هو المرادُ في لفظ النبوةِ، فلما فسَّره المتكلمونَ على ما وقع في ألفاظِ النبوةِ بشيء معيَّن كان المصيرُ إلى ذلك متعيَّنًا [18]. وقد أوضحت هذا في أصل الجواب فقلتُ: ويتعيَّن أن سيحانَ الذي هو نهرٌ من أنهار الجنةِ هو الكائنُ بالشام كما بينه صاحب النهايةِ، (¬2) وفسَّره بعضُ شراح الحديثِ لا غيرُه مما بيَّنه صاحبُ القاموس، (¬3) وياقوتٌ، (¬4) لأنهما بصدد بيانِ المسميَّاتِ بهذا الاسم من غير نظرٍ إلى تخصيصِ ما وردَ عن صاحبِ الشرع ... إلخ. قال ـ عافاه الله ـ: فإذا كان وضع هذا الاسم لنهر البصرةِ لغةً من لغة العرب اندفع ما ذكره البلاذري (¬5) أنه من أوضاعِ البرامكةِ إلخ. أقول: هذا مبنيٌّ على أن صاحبَ القاموس لا يذكر في كتابه من الأمكنةِ إلا ما كان موجودً في أيام العرب الأولى، وهو باطل، فإنه يذكر ما حدث من الأبنيةِ ونحوها إلى زمنِه، وذلك معلومٌ من صنيعه. قال ـ عافاه الله ـ: أقول لا موافقةَ ... أقول: ما ذكره المجدُ من البينيةِ أما أن تكونَ بحيثُ لا يكون له نسبةٌ إلى الطرفين، أو بحيث يكون له نسبةٌ إليهما، أو يكون من أحدهما فقط، أو يكون بعضُه من هذا الطرف ¬

(¬1) تقدم توضيحه. (¬2) (2/ 433). (¬3) (ص288). (¬4) في (معجم البلدان) (3/ 294). (¬5) ذكره ياقوت الحموي في (معجم البلدان) (3/ 294).

وبعضهُ من الطرف الآخر. لا يصحُّ تفسيره بالأولِ لأن أقلَ الأحوالِ أن يكون مجاورًا للطرف ومتصلاً به، وهذه نسبة مصححةٌ لما ذكره ... والثاني يصحُّ التفسير به بمجرَّد كونِه منسوبًا إلى كلِّ واحد منهما بأي وجهٍ من وجوه النسبة ... والثالثُ يتوقَّف على النقلِ أنه أرادَه ولا نقلَ. والرابعُ ... يصحُّ التفسيرُ به وما كان بعضُه من الشام صحَّ أن يقال أنه من الشامِ ولو مجازًا، ثم قدمنا في ذلك الجوابَ أن ياقوتَ بنَ عبد الله الروميَّ قال بالقربِ منه نهرٌ يقال له جيحانُ، فالاتفاقُ الذي أشرنا إليه هو من هذه الحيثيةِ، فإن لفظ القربِ لا ينافي لفظ البينيةِ التي ذكرها المجدُ. قال ـ عافاه الله ـ: أقول: تبايُنُ الكلامينِ ظاهرِ أقول: إن كان التبايُنُ من جهة اختلافِ خوارزمَ وبلخٍ، وأنهما في مكانين، وإن جمعتهما ولاية، وشملَهما إقليمٌ فقد وجد الجامعُ بين الكلامينِ، وهو أن النَّهر المذكور يمرُّ بكل واحد منهما كما ذكرتُه عن كتاب المسالكِ والممالكِ، فالاتفاقُ بين الكلامينِ من هذه الحيثيةِ لا من حيثُ إنه يجمعُهما بقعةٌ واحدة من الأرضِ، وما ذكرتُه من أن كلَّ واحد منهما من خراسانَ بيانٌ جامعٌ آخر غيرُ الجامعِ الذي هو مجاورةُ النهر لكل واحد منهما، ومرورهُ بهما، فقد اشتركها في أمرين: المرورُ لكل واحد منهما، وإطلاقُ اسمِ واحدٍ عليهما يشملُهما، وإن كان النزاعُ في كون خوارزمَ من خراسانَ فليرجعْ ـ عافاه الله ـ إلى البحث عن تحقيق هذه الدعوى حتى يجد البرهانَ عليها في الكتب الموضوعةِ بهذا الشأن كالمعجمِ ونحوِه. قال ـ كثر الله فوائده ـ: فعلى هذا هو غيرُ منصرفٍ ... إلخ. أقول: هكذا هو [19] عند من جزم بأنه أعجميٌّ، وأما من جعله عربيًّا وتعرُّض لأصلهِ وقال: هو من جَحَنَ، وعلى ذلك يدلُّ صنيعُ صاحبِ القاموس وغيرِه فإنه يجعلُه عربيًّا، ويكون لكتبه بالألفِ فائدةٌ وهي الدلالةُ على أصوله وصرفِه، لعدم العجمةِ والأمرُ أوضحُ من أن يخْفَى.

قال ـ كثر الله فوائده ـ: وظن شيخُنا ... إلخ. أقول: لا أدري من أين استفادَ هذا الظنَّ فالكلامُ منقول عن الغير كما يفيدُه قولي في آخره ... انتهى. قال ـ عافاه الله ـ أقول بل قد عينَه النبيُّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ بصريح قولِه: «سيحانَ وجيحانَ». أقول: فرقٌ بين تسميةِ الشيء وتعيينِ مكانهِ، فالأول وقع من النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ في سيحان وجيحانَ. والثاني: وقع من المفسرين لكلامِه، فقالوا: إنه في مكان كذا فهذا هو المرادُ بالتعيين، فكيف قال قد عيَّنه النبيُّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ! ولا شكَّ أن التعيينَ المرادَ هنا هو أخصُّ من التعيين الحاصلِ بالاسم، وهذا لا يخفى علي مثلِه ـ زاد الله في أهل العلم من أمثاله ـ فإن المشخصاتِ قد تكون بحيثُ تفيدُ تعيينًا ما أعنى بوجهٍ من الوجوه وقد تكون بحيثُ تقيدُ تعيينًا لكل وجه، وقد تكون بحيث يفيد بعضُها ما لا يفيده الآخرُ، ولكل منها مدخلٌ في التشخيص ... قال ـ كثر الله فوائده ـ: أقول لا معارضةَ ... إلخ. أقول: قد أطال ـ عافاه الله ـ والكلام مع من زعم المعارضةَ وقد دفعتُه وأجبتُ عنه وزيَّفتْهُ فلم يبقَ للكلامِ على ذلك مدخلٌ إلا مجرَّدَ الإيضاحِ لما أوردتُه ... قال ـ عافاه الله ـ: هذا ليس في الحديث ... أقول: نعم لم يكن ذلك في الحديث لكنَّه وقع في كلامَ مَنْ زعم التعارُضَ فأوردناه كما أوردَه، وحكيناه عن قائلِه، فليس هاهنا ما يوجب العجبَ، فقد أسندنا القولَ إلى قائلِه، وتعرَّضنا لتأويلِه ودفْعِه. ومع هذا فتوصيفُ نهرينِ من الأربعةِ بالظهور يفيدُ توصيفَ النهرينِ الآخرينِ بما يقابلُه، وهو كونُهما باطنينِ، فما وقع في تلك الحكايةِ من قول المحكيِّ عنه، وأما الباطنانِ فسيحانُ وجيحانُ هو مستفادٌ من كلام النبوةِ، وإن لم يكن منطوقًا به من النبيِّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ فانتفي سببُ العجبِ فضلاً عن

كل العجبِ الذي ذكره ـ عافاه الله ـ بقوله: والعجبُ كلَّ العجبِ وانتفاؤُه من وجهينِ: الأول: إن الكلامَ محكيٌّ عن الغير. الثاني: أنه مستفادٌ من كلام النبوة. قال ـ كثر الله فوائده ـ: ليس لأحد أن يقولَ ذلك ... أقول: هكذا هو، ولكن الكلامَ الباطلَ لا بدَّ من دفْعِهِ بما يقبلُهُ السامعُ، لا بمجرَّد الدَّعوى بأنه باطلٌ، فإن ذلك لا يفيدُ من قصَّر عن تعقُّل الحججِ وترتيبِ المقدماتِ الموصلةِ إلى البرهانِ، فلهذا [20] تعرَّضنا لدفعهِ. قال ـ كثر الله فوائده ـ: وكلامُهُ مبنيٌّ على غير أساسٍ. أقول: إن كان دفعُ الكلام الباطلِ يحتاجُ إلى أن يكون الكلامُ المدفوعُ الباطلُ أساسٌ كان ذلك قادِحًا في دعوى بُطْلانِه. وقد قدمنا أنَّ كلامنا مع من قال هذه المقالة وأوضحنا بطلانها وقدمنا الجمع على الترجيحِ كما يصنعُه أهلُ العلم، فعلى فرض صحةِ ما زعَمَهُ الزاعمُ قد حملنا على وجهٍ لا ينافي ما أردْناه، وعلى فرضِ عدمِ صحَّتهِ فلا يضرُّنا ولا يقدحُ فيما نحن بصددِه، فكيف يقالُ في التعرض للكلامِ على كلام باطل أنه مبنيٌّ على غير أساسٍ: فإن كان المرادُ بالأساس المذكورِ أساسَ الدفع في نفسه فالمجيب عافاه الله لا ينكر أنه مبني على أساس صحيح، وإن المراد أساسَ الكلامِ المدفوعِ فنفي أساسه لا يعترضُ به على منِ اعترضَ، أو حملَه على غير ما يقدحُ في الكلام الصحيحِ، وعلى كل حال فاستفادتُه من كلام النبوة كما قدمنا أساسٌ، وأيُّ أساس! فالقولُ بأنه مبنيٌّ على غير أساس. قال ـ كثر الله فوائده ـ: بل لا ينبغي ذكرُهُ عنه. أقول: إذا كان هذا القائلُ متمسِّكًا بمفهوم الحديث حسبما ذكرناه سابقًا من دلالة ظهور بعض المعدودِ فيه على كمونِ البعض الآخَرَِ، ثم أخذ هذا القائلُ بما يفيدُه المفهومُ،

وبني على ظاهره فكيف يقال إن هذا قول لا ينبغي ذكره! وقد ذكر أهل العلم ما هو ضد للأدلة الشرعية ودفعوه، فكيف مما يزعم قائله أنه مأخوذ من كلام الشارع! ومع هذا فقد وقع التعرض لدفعه في الجواب بما لا يحتاج معه إلى زيادة، فكيف يعترض ـ عافاه الله ـ على حكاية كلام قد تعرض الحاكي له لدفعه، فإنه لو لم يكن من فوائد حكايته لذلك القول الباطل إلا مجرد دفعه ورده وبيان بطلانه فهل جرت عادة أهل العلم بإنكار دفع الأقوال الباطلة والضعيفة على دافعها؟ وأما الوجوه الثلاثة التي ذكرها فلا يخفي أنه يقدح في الأول ما وقع للسائل ـ عافاه الله ـ نفسه من طلب تعيين مكان ما دل عليه الحديث، وصرح به بأنه من أنهار الجنة، والمناقضة لما ذكره المفسرون للسنة من تعيين مكان ما ورد في لفظ الشارع، فكيف يقال مع هذا أنه يكذبه العقل والنقل والحس! فليتدبر السائل. وأما قوله: ثم أي نفع لهما ... إلخ [21]؟ فقد صرح المجيب بمثل هذا، وحرره في الجواب، وأما ما ذكره في الوجه الثاني فقد قدمنا أنه دل عليه كلام الشارع بالمفهوم (¬1) فليس بكذب على رسول الله ـ صلي الله ¬

(¬1) المفهوم: ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق: أي يكون حكمًا لغير المذكور وحالاً من أحواله. وينقسم إلى قسمين: مفهوم الموافقة: حيث يكون المسكوت عنه موافقًا للملفوظ به، فإن كان أولى بالحكم من المنطوق به فيسمى فحوى الخطاب. ومثاله: كدلالة تحريم التأفف على تحريم التأفف على تحريم الضرب لأنه أشد فتحريم الضرب من قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]. من باب التنبيه بالأدنى وهوالتأفيف ـ على الأعلى، وهو الضرب. ? وإن كان مساويًا له فيسمى لحن الخطاب ومثاله: تحريم إحراق مال اليتيم الدال عليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10]، فالإحراق مساو للأكل بواسطة الإتلاف في الصورتين. انظر: (الكوكب المنير) (3/ 482)، (إرشاد الفحول) (ص589).

عليه وآله وسلم ـ من قائله، ومع هذا فنحن نعترفُ بفساد ما جاء به ذلك القائلُ، وقد دفعنا بما لا يحتاجُ إلى زيادة، ولكن الشأنَ في إنكار حكايتِه على الحاكي المتعرِّضِ لدفعِه وإطالة ذيل الكلام في ذلك بما لا طائل تحته. وأما الوجه الثالث فلا أزيد الناظر على إحالته على النظرِ في هذه المناقشةِ وعلى السائلِ ـ عافاه الله ـ أن يقدِّمَ قبل هذه المناقشةِ تقريرَ محلِّ هذه الجملةِ من الإعراب حتى يعرفَ وقوعَها موقعَها على وجهٍ لا يلزم عنه ما ألزم به من الاستدلالِ بالمفهومِ الذي ذكره ثم لو كان لما ذكره وجهُ صحَّةٍ من الأخذ بالمفهومِ لم يكن له وجهٌ فيما نحن بصدده، فإن الشيءَ الواردَ من الجنة إلى الدنيا سواءٌ كانت في محلٍّ مرتفعٍ على الدنيا أو مساوٍ لها في السمتِ يكون ظهُورُهُ على وجه الأرضِ وانكشافُهُ للعَيَانِ أولى مما هو من نفس الأرض، فإنه لا يكون منبعُه إلا من مكان منخفضٍ منها، ولا شك في ذلك، فإن جميعَ أنهار الدنيا منبعُها من بطن الأرض. وقد أرشد إلى ذلك قوله تعالى: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} (¬1) وبعد هذا كلَّه فالكلامُ المعترضُ عليه هو من كلام المحكي عنه المتعقَّبِ بالدفع. قال ـ كثر الله فوائده ـ: فلا يخلو هذا من منافاة لحاصلِ الوجهينِ المتقدمينِ. أقول: حاصل ما ذكرتُه في الجواب المحرَّر في تلك الوجوهِ الأربعةِ هو أنه لا تقبلُ نسبةُ الغلطِ للناقلِ الثقةِ بمجرَّد الدعوى، بل يطلب من الناقل تصحيحُ النقل على الصفةِ التي ذكرتُها في الجواب من قبول ما برهن عليه الناقلُ بالنقل، والتوقُّفِ فيما لم يبرهنْ عليه إلا أن يوجدَ المصحِّحُ لنسبةِ الغلطِ بمثل ما ذكرتُه هنالك، ثم ذكرتُ استثناءَ حروف مما نقله صاحبُ الصحاحِ قد تكلَّم عليها أهلُ العلم فنقلَ ذلك عنهم صاحبُ القاموس مجرَّدًا عن البرهانِ، اكتفاءً بما وقع من البرهان فيما نقل عنه من كتب اللغةِ. وهذا حاصلُ الثلاثة الوجوهِ الأولى، ثم ذكرتُ في الوجهِ الرابعِ محلَّ الإشكال ومنشأَ السؤالِ، وهو ما تعقَّبه صاحب القاموس على صاحب الصحاحِ من دون وجود ما ¬

(¬1) [الزمر: 21].

يقتضي تصحيحَ ما نقلَه الجوهريُّ، ولا وجودِ برهان لما نسبه صاحبُ القاموس إليه [22] من الغلطِ في نفس الكتابينِ، ثم ذكرت أن الناظر في الكتابينِ إن تمكن من البحث في غير الكتابين المفضي إلى وجودِ برهان يقتضي تصحيحَ ما نقلَه الجوهري فقد تعيَّن عليه العملُ بما وجده من تصحيحِ الروايةِ، وعدمِ التعويلِ على من نقل الغلطَ، وإن تمكَّن من الوقوفِ على ما هو برهانٌ للتغليظ كان عليه الجزمُ به وإن لم نقفْ في الكتابينِ، ولا في غيرهما على برهان يصححُ النقل، أو يوضِّحُ الغلطَ، وجبَ عليه التوقُّفُ في ذلك الحرف، لأن إمامةَ ناقلِه التي هي كالقرينةِ على صحةِ ما نقلَه قد عُورِضَتْ بإمامة من خالفه في ذلك الحرفِ، فإنها كالقرينة على صحة ما نسبهُ من الغلط، فكان المقامُ مقامَ توقُّفٍ بين الإمامينِ، والموضعُ موضعُ حيرةٍ عن التخلُّص من البينِ. ولا معارضةَ بين ما ذكرناه في هذا الوجهِ الرابعِ من ذلك الجوابِ، وبين ما ذكره في الوجه الأول منه بوجهين: الأول: إن نفي قبولِ التغليط الذي صرَّحنا به في الوجه الأول هو فيما كان منه مجرَّدًا ليس فيه إلا دعوى بحتةٍ، وما ذكرناه في الوجه الرابع هو حيثُ اقترنَ بذلك من إمامة الناقل وثقتِه ما يكون كالقرينة المقتضية لتصحيح ما قاله. الوجه الثاني: إن ما ذكرناه في الوجهِ الأولِ من الوجوه الأربعةِ هو عدمُ قبول التغليطِ المجرد، وما ذكرناه من التوقُّف في الوجهِ الرابعِ غيرُ منافٍ لعدم القبولِ، لأن قبول تغليطِ صاحب القاموس يستلزمُ الجزمَ بما جزم به من الغلط بخلافِ مجرَّد التوقُّفِ، فإنه لا قبولَ فيه بل حيَّرهُ بين ما وقع في كلامِ الإمامينِ، فلا منافاةَ بين عدم القبولِ جزمًا، وبين مجرَّدِ التوقُّف لا بمطابقةِ، ولا تضمُّنٍ، ولا التزامٍ، فعرفتَ بها عدمَ صحة ما زعمه السائل ـ عافاه الله ـ من المنافاة، بل الوجوهُ متعاضدةٌ والكلامُ متناسقٌ. قال ـ كثر الله فوائده ـ: نعم قد يكون الغلطُ من الجوهري بما يعرفه كل من له أدنى عرفانٍ فلا يحتاج مع ذلك إلى برهان ... إلخ. أقول: هذا الذي يعرفُه من له أدنى عرفانٍ هو من البرهانِ بأعلى مكان [23] فإنّا لم نخصَّ البرهانَ بما يجده الناظرُ في كتب اللغة، أو يسمعه من الرواة بالسند المتصل، بل

أطلقنا البرهانَ فتناولَ ما ذكره تناولاً أوليًا، لأن معرفة كل من له أدنى عرفانٍ لذلك، يدلُّ علي أنه من الظهور بمكانٍ مكينٍ، إما لكون المنقول يخالفُ ما يشهدُ به الحسُّ، أو كونِه مخالفًا لما عند العرب مخالفةً يشتركُ في معرفتها المقصِّر والكاملُ، فكيف قال ـ كثر الله فوائده ـ: إن ما كان كذلك لا يحتاجُ إلى برهان، وأيُّ برهان أقوى من ذلك البرهان! قال ـ كثر الله فوائده ـ: وقد بلغني أن بعضَ العلماء المتأخرينَ لم يسَمْ من تغليط القاموسِ للصحاحِ إلا حرفين فقط. اقول: إن كان هذا البعضُ متأهلاً للكشفِ من أهل الاستعدادِ للحكم بين هذين الإمامينِ، فَنِعْمَ ما فعل، وحبَّذا ما صنع، وعلينا أن ننظر كنظرهِ ونكشف مثل كشْفِه حتى نوافقَه فيما قال، أو نخالفه، وليس لنا أن ندفعَ ما يقوله صاحب القاموس بمجرد ذلك، وعندي في هذا المنقول عن ذلك البعض وِقفةٌ، فإنذَ الصنعاني (¬1) وهو الإمام الذي لم يأت بعده من يماثُله استدرك كثيرًا مما في كتاب الصحاح، وكذلك ياقوتٌ نقل على الصحاح في حواشيه من التغليطاتِ ما يكثُر تعدادُه، فعلى الطالب للوقوف على الصواب في مثل هذا أن ينظر فيما ذكرناه، فإن لم يجد ذلك فليس له منزلٌ ينزله إلا منزل الحيرة التي أرشدنا إليها ... أرشدنا الله إلى ما يرضيه آمين. ¬

(¬1) هو محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الأمير الحسني اليمني الكحلاني المولد الصنعاني النشأة والوفاة مولده سنة 1099هـ. توفي سنة 1182هـ. انظر: (البدر الطالع) (2/ 139). وقد تقدم. وانظر: الرسالة رقم (135) من عون القدير من فتاوى ورسائل ابن الأمير جواب وسؤال للأمير عن قول ابن الوزير: لمجد الدين في القاموس مجد ... وفخر لا يوازيه موازي وانظر: (المزهر في علوم اللغة وأنواعها) للسيوطي (1/ 97 ـ 99، 110).

الحد التام والحد الناقص (بحث في المنطق)

(214) 8/ 5 الحد التام والحد الناقص (بحث في المنطق) تأليف محمد بن علي الشوكاني حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

وصف المخطوط: 1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: الحد التام والحد الناقص (بحث في المنطق). 2 ـ موضوع الرسالة: في المنطق. 3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، وبه ثقتي. ذكر أهل علم المنطق الذاتيات والعرضيات .... فإني لما وقفت على المجموع الذي جمعه ابن سناء الملك 4 ـ آخر الرسالة: فليمعن النظر في ذلك من له فضل رغبةٍ في هذا الفنِّ انتهى من خط مؤلِّفه شيخ الإسلام القاضي العلامة محمد بن علي الشوكاني رحمه الله. 5 ـ نوع الخط: خط نسخي مقبول. 6 ـ عدد الصفحات: صفحتان. 7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 24 سطرًا. 8 ـ عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة. 9 ــ الرسالة من المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي. ذكر أهل علم المنطق الذاتياتِ (¬1) والعرضياتِ، ثم رتَّبوا على ذلك الحد (¬2) ¬

(¬1) الذاتي: كل وصف يدخل في ماهية الشيء وحقيقته دخولاً لا يتصور فهم معناه بدون فهمه. كالجسمية للفرس، واللونية للسواد فإن من فهم الفرس. فقد فهم الفرس: فقد فهم جسمًا مخصوصًا فالجسمية داخلة في ذات الفرسية دخولاً به قوامها في الوجود والعقل. بحيث لو قدر عدمها في العقل، لبطل وجود الفرس ولو خرجت عن الذهن لبطل فهم الفرس. فلا بد من إدراجه في حد الشيء، فمن يجد النبات، يلزمه أن يقول: (جسم نام) لا محالة. ? وأما اللازم: فما لا يفارق الذات ـ البتة ـ ولكن فهم الحقيقة والماهية غير موقوف عليه، كوقوع الظل لشخص الفرس والنبات والشجر عند طلوع الشمس فإن هذا أمر لازم، لا يتصور أن يفارق وجوده عند من يعبر عن مجاري العادات باللزم ويعتقده، ولكنه من توابع الذات ولوازمه وليس بذاتي له. قال الغزالي: أعني به: أن فهم حقيقته غير موقوف على فهم ذلك له إذا الغافل عن وقوع الظل يفهم الفرس والنبات، بل يفهم الجسم الذي هو أعم منه، وإن لم يخطر بباله ذلك. ? العارض: ما ليس من ضرورته أن يلازم بل يتصور مفارقته إما سريعًا، كحمرة الخجل أو بطيئًا، كصفر الذهب وزرقة العين .. انظر: (المستصفى) (1/ 39 ـ 41). انظر: (روضة الناظر) (1/ 29). (¬2) الحد: في اللغة: المنع ومنه سمي البواب حدادًا لأنه يمنع من يدخل الدار، والحدود حدودًا، لأنّها تمنع من العود إلى المعصية. وإحداد المرأة في عدتها لأنّها تمنع الطيب والزينة، وسمي التعريف حدًّا: لمنعه الداخل من الخروج والخارج من الدخول. (المصباح المنير) (ص194)، (المفردات) للراغب الأصبهاني (ص108). ? الحد في الاصطلاح: الوصف المحيط بموصوفه. وقال الغزالي في (المستصفى) (1/ 35) حدُّ الشيء نفسه وذاتُه وقيل هو اللفظ المفسر لمعناه على وجه يجمع ويمنع. انظر: (البحر المحيط) (1/ 91)، (الكوكب المنير) (92 ـ 93). ? قال ابن تيمية في الرد على المنطقيين (ص5): الحد اسم جامع لكل ما يعرف التصور وهو القول الشارح، فيدخل فيه (الحقيقي) والرسمي، اللفظي، أو هو الحقيقي خاصة فيقرن به الرسمي، واللفظي ليس من هذا الباب. أو الحد اسم للحقيقي والرسمي دون اللفظي فإن كل نوع من هذه الثلاثة اصطلاح طائفة منهم. ثم (الحد) إنما يتألف من الصفات (الذاتية) إن كان (حقيقيًا) وإلا فلا بد من (العرضية) وكل منهما إما أن يكون (مشتركًا) بين المحدود وغيره، وإما أن يكون (مميزًا) له عن غيره. فالمشترك الذاتي (الجنس) والمميز الذاتي (الفصل) والمؤلف منهما (النوع. والمشترك العرض هو العرض العام والمميز العرضي هو (الخاصة) وقد يعبر بـ (الخاصة) عما يعرض له (النوع) عن الأنواع الإضافية التي هي بالنسبة إلى ما فوقها (نوع) وبالنسبة لما تحتها (جنس).

التامِّ، (¬1) والحد الناقصَ، (¬2) والرسم ..................................... ¬

(¬1) الحد التام: وهو الأصل وإنما يكون حقيقيًّا تام إن أنبأ عن ذاتيات المحدود الكلية المركبة كقولك ما الإنسان؟ فيقال: حيوانٌ ناطق ولذا أي ولهذا أي ولهذا القسِمِ (حدٌّ واحد) لأنَّ ذات الشيء لا يكون لها حدَّان. (¬2) الحد الناقص: حقيقي ناقص. وله صورتان. أشير إلى الأولى منهما بقوله: إن كان بفصلٍ قريب فقط كقولنا: ما الإنسان؟ فيقال: الناطق وأشير إلى الصورة الثانية بقوله: (أو مع جنس بعيد) أي إن كان الحدُّ بفصلٍ قريبٍ مع جنس بعيد كقولنا ما الإنسان؟ فيقال: جسم ناطق، فالجنس البعيد: هو الجسم والفصل القريب: هو الناطق. ? ويجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن الكلي إن كان داخلاً في الذات بحيث يكون جزءًا من المعنى المدلول للفظ: فيقال له كلي ذاتي، كالحيوان الناطق بالنسبة للإنسان، وإن كان خارجًا عن الذات بأن لم يكن كذلك، فيسمى كليًّا عرضيًّا، كالماشي والضاحك بالنسبة له والكلي الذاتي: إمّا أن يكون مشتركًا بين الماهية وبين غيرها وإما أن يكون مختصًّا بها. فالأول: يسمى (جنسًا) كالحيوان بالنسبة للإنسان، والثاني يسمي (فصلاً) كالناطق بالنسبة له. والكلي العرضي إما أن يكن مشتركًا بين الماهية وبين غيرها وإما أن يكون مختصًّا بها. فإن كان مشتركًا بين الماهية وغيرهما فيسمى (عرضًا عامًّا) كالماشي بالنسبة للإنسان، وإن كان خاصًّا بها فيسمى بين الماهية وغيرهما فيسمى (عرضًا عامًا) كالماشي بالنسبة للإنسان، وإن كان خاصًّا بها فيسمى (خاصة) كالضاحك بالنسبة له، والكي الذي هو عبارة عن نفس الماهية، كالإنسان، فإنه عبارة عن مجموع الحيوان الناطق فيسمى (نوعًا) فهذه هي الكليات الخمس التي هي مبادئ التصورات ثم إن الجنس ثلاثة أقسام قريب، كالحيوان بالنسبة للإنسان، وبعيد: كالجسم بالنسبة له، ومتوسط كالجسم النامي بالنسبة له، أما الفصل فينقسم إلى قسمين. قريب وبعيد فالقريب كالناطق بالنسبة للإنسان، والبعيد كالحسّاس بالنسبة له. (تحرير القواعد المنطقية) (ص46).

التام، (¬1) والرسم الناقص. (¬2) وفي هذا إشكالٌ، لأنهم إمّا أن يريدوا بالذاتي المنسوبَ إلى الذاتِ، وبالعرض المنسوب إلى العَرَضِ كما هو شأن المنسوب في لسان العرب، أو يريدوا بالذاتي ما تركبتْ منه الذات كتركُّبِ الجسم من الجوهرِ، وبالعَرَضي ما هو عارض للذاتِ خارجٌ عنها، أو يريدوا بالذاتي ما هو جزء مفهومُ الذات، وما يقال عليها. وبالعرض ما لا مدخل له في هذه الجزئيّة، فإنْ أرادوا الأول فالأَعراضي ينسبُ إلى الذات بلا خلاف بين أهل المعقول، سواءً قلنا في تفسير القيام أنه الاختصاصُ الناعت كما ذهب إليه البعض، أو التبعيّة في التحيُّز كما ذهب إليه البعض الآخر، لأنَّ الجميعَ متَّفقون على أنَّ العرض كالحركةِ مثلاً قائمٌ بالذات، وما قام بالشيء فقد لابَسَهُ، والملابسة بمجرَّدها مسوِّغةٌ للنسبة، فتقرر بهذا أنه لا يصحُّ أن يكون الذاتي هو المنسوب إلى الذات، وإن أرادوا الثاني كان منقوطًا باتفاقهم على أن النطقَ بمعنى إدراكه المعقولاتِ ذاتيٌّ، فإنَّ الذات متركبةٌ من الأجزاء التي صارت بها ذاتًا، وإدراكُ المعقولات هو شيء غيرُ الذات، فإنَّ هذا الإدراك حصل بالعقل وهو جوهرٌ مجرَّدٌ عن المادة، متعلِّقٌ بالبدن ¬

(¬1) أي ليس بحقيقي، وهو تامٌّ إن كان بخاصة مع جنس قريب كقولنا ما الإنسان؟ فيقال: حيوان ضاحك فالجنس القريب: هو الحيوان. والخاصَّة: هو الضاحك. (الكوكب المنير) (1/ 95). (¬2) وله صورتان: أشير إلى الأولى منهما بقوله: (إنْ كان بها) أي بالخاصّة (فقط) لـ (الإنسان ضاحك) وأشير إلى الصورة الثانية من الرسمي الناقص بقوله: (أو مع جنس بعيدٍ) أي عن كان الحدُّ بالخاصة مع جنسٍ بعيد لـ (الإنسان جسم ضاحك). انظر: (الرد على المنطقيين) (ص74 ـ 75).

تعلُّقَ التصرفِ والتدبيرِ، غيرُ متصلٍ به. وعلى هذا اتفق أهل هذا الفنِّ ومن وافَقَهم من الحكماء، ومن أهل علم اللطيفِ المجعولِ مقدمةً لكثير من العلوم. فتقرَّر بهذا أنه لا يصح أن يكون أصلاً في ما تركبت منه الذات، وإن أرادوا الثالث: فيقال لهم: ما الذات التي كان هذا الذاتي جزءًا مفهومًا؟ فإنا قد علمنا اتفاق أهل المعقولِ على انحصار الموجوداتِ الحادثة في الجواهر والأعراضِ، وعلمنا اتفاقَهم على أن الجواهر هو ماهيةٌ ما إذا وجدت كانت لا في موضوع، وعلى أن العَرَضَ هو ماهية ما إذا وجدت كانت في موضوع فما هي هذه الذات التي جعلتْه الذاتي هو ما كان جزءًا لمفهومِها؟ فإن قالوا: إن علمهم هذا هو إنما هو في الكلام على الكليَّاتِ [1أ]، ولا يتكلمون على الأمور المتشخصة بوجه من الوجوه. قلنا: فَمِنْ أين عرفتم أن بعض المتعلِّقاتِ بذلك الكلي ذاتيِ له، وبعضها عَرَضيٌّ له؟ وما الذي استفدتم منه هذا حتى جعلتم النطق ذاتيًّا لتلك الماهية الكلية دون ما يشارُكُه في كونه في كونه ماهيةً ما إذا وجدت كانت في موضوعٍ؟ مع أن هذا الحدَّ الذي اتفقتم عليه في كونه مفهومَ العرضِ يصدقُ على النطق الذي جعلتموه ذاتيًّا كما يصدق على الخاصَّة والعَرَضِ العامِّ. وبهذا يتقرر لك أنَّ جَعْلَ بعض المتعلقاتِ ذاتيًّا وبعضِها عرضيًّا، وإدخالَ النطقِ في الذاتياتِ مجرَّدُ دعوى لم يقم عليها برهانٌ، (¬1) مع كونهم زاعمينَ أن هذا العلم هو الذي ¬

(¬1) قال ابن تيمية في (الرد على المنطقيين) (ص62 ـ 63): الوجه السادس التفريق بين (الذاتي) و (العرضي) باطل: أن يقال: المفيد لتصور الحقيقة عندهم هو الحد التام وهو (الحقيقي) وهو المؤلف من الجنس والفصل من (الذاتيات) المشتركة والمميزة دون (العرضيات) التي هي (العرض العام) و (الخاصة) والمثال المشهور عندهم أن الذاتي المميز لـ (الإنسان) الذي هو الفصل هو (الناطق) والخاصة هي (الضاحك). فنقول: مبني هذا الكلام على الفرق بين (الذاتي) و (العرضي). وهم يقولون: المحمول الذاتي داخل في حقيقة الموضوع ـ أي: الوصف الذاتي داخل في حقيقة الموصوف بخلاف المحمول العرضي، فإنّه خارج عن حقيقته. ويقولون: (الذاتي) هو الذي تتوقف الحقيقة عليه بخلاف العرضي. ويقسمون العرضي إلى (لازم) و (عارض) واللازم إلى (لازم لوجود الماهية دون حقيقتها، كالظل للفرس، والموت للحيوان وإلى لازم للماهية كالزوجية والفردية للأربعة والثلاثة). والفرق بين لازم الماهية ولازم وجودها أن لازم وجودها يمكن أن تعقل الماهية موجودة دونه بخلاف لازم الماهية، لا يمكن أن يعقل موجودًا دونه. وجعلوا له خاصة ثانية وهو أن الذاتي ما كان معلولاً للماهية بخلاف اللازم، ثم قالوا: من اللوازم ما يكون معلولاً للماهية بغير وسط، وقد يقولون ما كان ثابتًا لها بواسطة، وقالوا أيضًا: الذاتي ما يكون سابقًا للماهية في الذهن والخارج بخلاف اللازم فإنه ما يكون ثابتًا. فذكروا هذه الفروق الثلاثة، وطعن محققوهم في كل واحد من هذه الفروق الثلاثة وبينوا أنّه لا يحصل به الفرق بين (الذاتي) وغيره. ? قال ابن تيمية في كتابه (درء تعارض العقل والنقل) (3/ 321): بل الذي عليه نظَّار الإسلام أن الصفات تنقسم إلى: لازمة للموصوف لا تفارقه إلا بعدم ذاته، وإلى عارضة لم يمكن مفارقتها له مع بقاء ذاته. وهذه اللازمة منها: ما هو لازم للشخص دون نوعه وجنسه، ومنها ما هو لازم لنوعه أو جنسه. وأما تقسيم اللازمة إلى ذاتي وعرضي وتقسيم العرضي إلى لازم للماهية ولازم للوجود، وغير لازم بل عارض فهذا خطأ عند نظار الإسلام وغيرهم. بل طائفة نظار الإسلام قسموا اللازم إلى: ذاتي ومعنوي وعنوا بالصفات الذاتية: ما لا يمكن تصور الذات مع عدمه، وعنوا بالمعنوي: ما يمكن تصور الذات بدون تصوره، وإن كان لازمًا للذات فلا يلزمها إلا إذا تصور معينًا يقوم بالذات. فالأول: عندهم مثل كون الرب قائمًا بنفسه وموجودًا. والثاني: عندهم مثل كونه حيًّا وعليمًا وقديرًا ...

يستفاد منه البرهانُ، ويتحصل بالاشتغال به. ومع هذا الجزم منهم فإنه لا نظر لهم في غير الكليات، قد جزموا أيضًا بأنَّ هذه الكلياتِ لا وجودَ لها في الخارج. أمَّا الكلي العقليُّ، والكليُّ المنطقي فهم متفقونَ على ذلك. وأما الكليُّ الطبيعيُّ فقال الأول منهم أنه موجودٌ بوجود أفراده، ودَفَعه الأكثرون دفعًا لا يبقى عنده ريبٌ. وإذا كان الأمر هكذا فمن ذا الذي يتعقّل ذاتياتِ هذه الكلياتِ التي لا وجود لها، ويميَّز بينها وبين عرضِيَّاتِها. ولقد أصاب جماعةٌ من أكابر أهل هذا الفن حيث قالوا: الوقوف على الذاتياتِ متعسِّرٌ بل متعذِّرٌ، (¬1) وآخر من نقلَ ذلك السيدُ الشريفُ الجرجانيُّ، فظهر بمجموع ما ذكرناه أن هذا الفنَّ لا يستفادُ منه التصوراتُ (¬2) كما ينبغي، فكيف يستفاد منه التصديقات! والحمد لله أولا وآخرًا. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله. قال في الأصل: هكذا خطر ببال فحرَّر هذا البحث ـ عفى الله عنه ـ فليمعن النظر في ذلك من له فضل رغبةٍ في هذا الفنِّ. ¬

(¬1) انظر: (الرد على المنطقيين) (ص30 ـ 31). (¬2) انظر (درء تعارض العقل والنقل)، (الرد على المنطقيين) (ص88 ـ 90) لابن تيمية. قال ابن تيمية في (نقص المنطق) (ص183): لا ريب أن كلامهم كله منحصر في الحدود التي تفيد التصورات، سواء كانت الحدود حقيقية أو رسمية أو لفظية وفي الأقيسة التي تفيد التصديقات سواء كانت أقيسة عموم وشمول أو شبه وتمثيل، أو استقراء وتتبع. وكلامهم غالبه لا يخلو من تكلف إما في العلم وإما في القول، فإما أن يتكلفوا علم ما لا يعلمونه: فيتكلمون بغير علم، أو يكون الشيء معلومًا لهم فيتكلفون من بيانه ما هو زيادة وحشو وعناء وتطويل طريق، وهذا من المنكر المذموم في الشرع والعقل قال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}. وقد ذم الله القول بغير علم في كتابه: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وهؤلاء كلامهم في الحدود غالبه من الكلام الكثير الذي لا فائدة فيه، بل قد يكثر كلامهم في الأقيسة والحجج، كثير منه كذلك وكثير منه باطل وهو قول بغير علم وقول بخلاف الحق. أمّا الأول بأنهم يزعمون أن الحدود التي يذكرونها يقيدون بها تصور الحقائق، وأن ذلك إنما يتم بذكر الصفات الذاتية المشتركة والمميزة حتى يركب الحد من الجنس المشترك والفصل المميز. وقد يقولون: إن التصورات لا تحصل إلا بالحدود، ويقولون: الحدود المركبة لا تكون إلا للأنواع المركبة من الجنس والفصل دون الأنواع البسيطة. انظر: تفصيل ذلك في (نقص المنطق) (ص184) وما بعدها.

انتهى من خط مؤلِّفه شيخ الإسلام القاضي العلامة محمد بن علي الشوكاني رحمه الله.

§1/1